الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(213)
3/ 3
بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك ويليه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق ثم جواب المناقشة السابقة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقته وعلَّقت عليه وخرَّجت أحاديثه
محفوظة بنت على شرف الدين
أم الحسن
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الأنجبين وبعد.
4 ـ آخر الرسالة: فليس له منزلٌ ينزله إلا منزل الحيرة التي أرشدنا إليها
…
أرشدنا الله إلى ما يرضيه آمين.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 ـ عدد الصفحات: 24 صفحة.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 11 ـ 12 كلمة.
9 ــ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الأنجبين وبعد ....
فإنه ورد السؤالُ من بعض الأعلامِ فيما ذكره مجدُ الدين صاحبُ القاموس رحمه الله في سيحانَ وجيحانَ. سبكَ السؤالَ في قالبِ من النظم بديع الأسلوبِ، غزيرُ الشؤبوبِ. (1)
وها أنا أقدم بيان ما ذكره المجد في قاموسه لتعلُّق السؤال به، ثم أذكر ما ذكره غيره.
فأقول: قال في المجد في القاموس (2) ما لفظه: وسيحانُ نهرٌ بالشام وآخَرُ بالبصرةِ، ويقال فيه ساحينَ، وقرية بالبلقاء بها قبرُ موسى عليه السلام (3) ـ وسيحونُ نهرٌ بما وراء
(1) الشؤبوب: الدُّفعة من المطر، وحدُّ كل شيء وشدةُ دفعه وأول ما يظهر من الحسن وشدة حرٍّ الشمس.
(القاموس المحيط)(ص127).
(2)
(ص288).
(3)
جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3407) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُرْسِلَ ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكَّهُ، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. قال: ارجع إليه، فقل له يضع يده على متن ثورٍ، فله بما غطَّت يده بكلِّ شعرةٍ سنة. قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: الموت، قال: فالآن. قال: فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر. قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لو كنت ثمَّ لأريتكم قبره، إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر» قال الحافظ في (الفتح)(6/ 442): الكثيب الأحمر: الرمل المجتمع. زعم ابن حبان أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبين المقدس، وتعقبه الضياء بأن أرض مدين ليست قريبة من المدينة ولا من بيت المقدس، قال: وقد اشتهر عن قبر بأريحاء عنده كثيب أحمر أنَّه قبر موسى، وأريحاء من الأرض المقدسة.
انظر: (مجموع الفتاوى)(4/ 329).
* وقيل: أنّه لا يصحُّ تعيين قبر نبيّ غير نبينا محمد صلي الله عليه وسلم نعم قبر إبراهيم في الخليل لا بخصوص تلك البقعة. نقله الفاري عن الجزري في (أسنى المطالب)(ص380).
النهر، ونهر بالهند. انتهى.
فأفاد هذا أن سيحان نهرانِ: أحدُهما بالشامِ والآخَرُ بالبصرةِ، وأن سيحون نهرانِ: أحدهما بما وراءَ النهرِ والآخَر بالهند، وهذا يقتضي تغايُرَ مسمَّى سيحانَ ومسمى سيحونَ لاختلافِ الأمكنةِ المذكورةِ، فإن الشام والبصرة غيرُ ما وراء النهر، والهند لا شكَّ في ذلك.
وقال ياقوت بن عبد الله الرومي في كتابه (المشترك وضعًا المختلِف صقعًا)(1) ما لفظه: بأن سيحانَ وسيحون، وسيحانُ بسينٍ مفتوحة وياء ساكنةٍ وحاء مهملةٍ وألف ونونٍ.
الأول: نهر كبيرٌ جرارٌ من نواحي (المصيصةِ) بالثغرِ، وهو نهر أذنه بين أنطاكيةَ والرومِ بالقرب منه نهرٌ يقال جيحانُ، (فالبثغر) إذن سيحانُ وجيحانُ، و (بخراسانَ) سيحونُ وجيحونُ.
الثاني: سيحانُ ماءٌ (لبني تميم) بالباديةِ.
الثالث: سيحانُ نهر بالبصرة ذكرتْهُ شعراءُ الأعراب (2). قال البلاذري (3): حَفَرَهُ البرامكةِ وسمُّوه بهذا الاسمِ. انتهى.
فأفاد هذا أن سيحانَ اسمٌ لثلاثةِ أنهارٍ: الأولُ النهر الكبيرُ الذي بالشام، لأن المصيصة بلدٌ بالشام، والثاني ماء لبني تميم، والثالثُ بالبصرة. ً
(1)(ص314) حيث قال: سيحان: نهرٌ كبير جرار، في ثغر المصيصة وهو نهر أذنة بين أنطاكية والروم، يصبُّ في البحر الأعظم، وبالقرب منه نهر يقال له: جَيْحَان، فبالثغر سيحان وجيحان، وبأرض الهياطلة سيحون وجيحون، وسيحان ماء لبني تميم في البادية، وسيحان نهر بالبصرة، ذكرته شعراء الأعراب، قال البلاذري: حفرته البرامكة وسمّوه كذلك.
(2)
انظر: (معجم البلدان) (قال: قدم ابن شدقم البصرة فآذاه قذرها فقال:
إذا ما سقى الله البلاد فلا سقى
…
بلادًا بها سيحانُ برقًا ولا رعدً).
(3)
ذكره ياقوت في (معجم البلدان)(3/ 294).
وأفاد أيضًا أن سيحون نهرٌ بخراسانَ فوافقَ كلامَ القاموس في سيحانَ، وزاد عليه أنه يطلقُ على ماءٍ لبني تميمٍ. ووافقَهُ في مغايرةِ سيحانَ لسيحونَ وإن خالفَه في قصرِه على اسمٌ لمسمَّى واحد لا لاثنين. وأفاد أيضًا أن جيحانَ غيرُ جيحونَ. وسيأتي الكلامُ على جيحانَ وجيحونَ بعد الفراغ من الكلام على سيحانَ وسيحونَ [1].
وقال صاحب النهاية (1) في مادة (س ي ح) ما لفظه: وفيه ذكر سيحان هو نهرٌ بالعواصمِ من أرض المصيصةِ، وقريبًا من طرطوسٍ، ويذكر مع جيحانَ
…
انتهى.
وقال في مادة (ج ي ح) ما لفظه فيه ذكر سيحنَ وجيحانَ، وهما نهرانِ بالعواصم عند أرض المصيصةِ وطرطوسٍ .. انتهى.
فأفاد هذا سيحانَ نهرٌ واحد بالشام، وجيحانَ نهرٌ واحدٌ بالشام أيضًا. وهذا لا يعارض ما تقدم عن القاموسِ، (2) وكتابِ (المشتركِ وضعًا المختلِفِ صقْعًا)، (3) لأن صاحب النهاية إنما تعرَّض لتفسير ما وردَ في الحديث الثابت في الصحيح:«إنَّ سيحانَ وجيحان من أنهارِ الجنة» (4) فتلخَّص من مجموع ما ذكرناه أن سيحانَ اسمٌ لأربعة
(1)(2/ 433).
(2)
(ص288).
(3)
(ص314).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2/ 2839). وأخرجه أحمد (2/ 289، 440) والخطيب في (تاريخ بغداد)(1/ 54 ـ 55) من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة مرفوعًا.
وأخرجه أحمد (2/ 261)، وأبو يعلى في مسنده رقم (81/ 5921)، والخطيب في (تاريخ بغداد) (1/ 44) و (8/ 185) عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه مرفوعًا بلفظ:«أربعة أنهار فجرت من الجنة: الفرات، والنِّيل نيل مصر، وسيحان وجيحان» بإسناد حسن.
وأخرجه الخطيب في (تاريخ بغداد)(1/ 54) من طريق الأودي عن أبيه مرفوعًا مختصرًا بلفظ: «نهران من الجنة: النيل والفرات» .
وإدريس هذا مجهول. كما في (التقريب). وسيأتي شاهد له من حديث أنس.
مسمياتٍ: نهرٌ بالشامِ، وآخر بالبصرة باتفاق صاحب المشترك والمختلف، وصاحب القاموس، وماءٌ لبني تميم كما أفاده ياقوتٌ، ولا يقدح في ذلك إهمالُ صاحب القاموس له، وقريةٌ بالبلقاء ولا يقدحُ في ذلك إهمالُ ياقوتٍ (1) لها. وأن سيحوت اسمٌ النهر بما وراء النهر باتِّفاق ياقوت والمجدِ، ونهرٌ بالهند كما أفاده صاحبُ القاموس، (2) ولا يقدح في ذلك إهمالُ ياقوتٍ له، ويتعين أن سيحانَ الذي هو نهر من أنهار الجنة هو الكائنُ بالشام كما بيَّنه صاحب النهاية، وفسره بعضُ شرَّاح الحديثِ لا غيرهِ، مما بيَّنه صاحب القاموس وياقوتٌ، لأنهما بصدد بيانِ المسميَّاتِ بهذا الاسم من غير نظرٍ إلى تخصيصِ ما ورد عن صاحب الشرع، فلم يبقَ إشكالٌ فيما نقله المجدُ، لا باعتبار تعدُّدِ المسميَّاتِ، ولا باعتبار أن سيحان غيرُ سيحونَ، لأن غاية ما أوردَهُ في قاموس هو أن سيحانَ اسمٌ لنهرينِِ وقريةٍ، وسيحون اسم لنهرينِ، ولم يقل إنَّ النهر الذي وصفَه النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بأنه من أنهار الجنة هو كذا منها. ولا قال بالاشتراك بين سيحانَ وسيحونَ، بل فسَّر كلَّ واحد منهما بتفسير يميزه عن غيره، فقال: سيحانُ نهر بالشام
(1) في (معجم البلدان)(3/ 293): سيْحان: بفتح أوله، وسكون ثانيه ثم حاء مهملة، وآخره نون، فعلان من ساح الماء يسيح إذا سال: وهو نهر كبير بالثغر من نواحي المصيصة، وهو نهر أذنة بين أنطاكية والروم يمرّ بأذنه ثمّ ينفصل عنها نحو ستة أميال فيصب في بحر الروم، وإياه أراد المتنبي في مدح سيف الدولة:
أخو غزوات ما تُغبُّ سيوفه
…
رقابهم إلَاّ وسيخان جامد
يريد أنّه لا يترك الغزو إلَاّ في شدة البرد إذا جمد سيحان، وهو غير سيحوم الذي بما وراء النهر ببلاد الهياطلة، في هذه البلاد سيحان وجيحان، وهناك سيحون وجيحون، وذلك كله ذكر في الأخبار.
وسيحان أيضًا: ماء لبني تميم. وسيحان قرية من عمل مآب بالبلقاء يقال بها قبر موسى بن عمران عليه السلام، وهو علي جبل هناك، ونهر بالبصرة يقال له سيحان.
وقال (3/ 294): سيحون: بفتح أوله، وسكون ثانيه وحاء مهملة، وآخره نون: نهر مشهور كبير بما وراء النهر قرب خَجندة بعد سمرقند يجمد في الشتاء حتى تجوز على جمده القوافل، وهو في حدود بلاد الترك.
(2)
(ص288).
وآخرُ بالبصرةِ.
ولا شك أن الشامَ يتميَّزُ عن البصرةِ، لأن البصرة من أرض العراق، فكذلك يتميَّز [2] كلُّ واحد من النهرين عن الآخَرِ، ثم قال: وقريةٌ بالبلقاء بها قبرُ موسى، فبيَّن أنها من أرض البلقاء، ثم بينها ببيان آخرَ وهو: أن قبرَ موسى عليه السلام فيها، ثم قال: وسيحونَ نهر بما وراءَ النهرِ، ونهرٌ بالهند، فميَّز كلَّ واحد منهما عن الآخر، وتضمَّن ذلك المغايرةَ بين سيحانَ وسيحونَ، وغايةُ ما يقال عليه أنه لم يبيِّن أنها نهرُ الجنة وعذرُه في ذلك واضحٌ، لأنه بصدد بيان المفهوماتِ اللغوية، وقد بينه من هو بصدد بيانِ ما ورد في كلام الشارع كما عرفتَ.
وأما كون هذه الأسماء حقائقَ لمسميَّاتِها، أو مجازاتٍ، أو مختلطةٍ، فقد عرف من صنع المجدِ وقبلَه صاحبُ الصحاح عدمُ التعرضِ لتمييز ذلك وإن كان مقلِّلاً للفائدة، لكنه لا يختصُّ الكلامُ عليه بهذه المادة، بل جميع ما في الكتابين كذلك.
وأما جيحانُ وجيحونُ فقال في القاموس (1) ما لفظه: وجيحونُ نهرُ خوارزم، وجيحانُ نهر بين الشام والروم معرَّب جهانِ. انتهى.
فأفاد المغايرةَ بين جيحانَ وجيحونَ، وأن كل واحد منهما اسمٌ لمسمى واحد، فجيحون نهرُ خوارزم، وجيحان نهر بين الشام والروم، وقد تقدم في كلام ياقوتٍ في كتاب:(المشتركُ وضعًا المختلفُ صقْعًا)(2) أن جيحانَ بالقرب من سيحانَ الذي هو بالشام بين أنطاكيةَ والرومِ، وهو أن جيحون بخراسانَ، فوافق كلامَ صاحب القاموس فيهما. وفي (شمس العلوم) (3): جيحونَ اسم نهرٍ بلخٍ فطابق ما في القاموس، لأن
(1)(ص1530).
(2)
(ص314).
(3)
(شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم).
تأليف أبي سعيد نشوان بن سعيد بن نشوان الحميري (573هـ) وهو معجم لغوي مهم مرتَّب على الحروف، ومقسَّم إلى الأبواب، لكل حرفٍ باب، وكل بابٍ في شطرين، أحدهما للأسماء والآخر للأفعال. وجعل لكل حرف من الأسماء أو الأفعال بابًا يشرحها فيه .. وهو في ثمانية مجلدات. (مؤلفات الزيدية)(2/ 214 ـ 215).
خوارزم وبلخ من خراسانَ. وقال في كتاب (المسالك والممالك)(1): جيحون نهر بلخٍ وبلخٌ من خراسان، ثم يخرج من بلاد خراسانَ ويجري بين بلاد خوارزم حتى يصب في بحيرتها.
ثم قال: وجيحان بالألف نهر يخرج من حدود الرومِ ويمتدُّ إلى أقرب حدودِ الشام. هكذا قال فوافق صاحب القاموس فيهما. وقال ياقوت في معجم البلدان (2): جيحانُ بالفتح ثم السكونِ، والحاءُ مهملةٌ، وألفٌ ونونٌ نهر بالمصيصةِ بالثغر الشامي، ومخرجُهُ [3] من بلاد الروم، ويمرُّ حتى يضيقَ بمدينة تعرفُ بكفرسا باب المصيصةِ، وعليه عند المصيصة قنطرةٌ من حجارة روميةِ عجيبةٍ قديمةٍ عريضةٍ، فيدخل منهما إلى المصيصةِ، وينفذ منها ليمتد أربعةَ أميال، ثم يصب في بحر الشام. ثم ذكر قولَ المتنبي (3):
سريتُ إلى جيحانَ من أرض آمدٍ
…
ثلاثًا لقد أعياك ركَضٌ وأبعدا
ثم ذكر أبياتًا لعدي بن الرِّقاع العاملي (4) فيها ذكر جيحانَ، ثم قال: جيحون بالفتح وهو اسمٌ أعجميٌّ، وقد تعسَّف بعضهم وقال هو من جاحة إذا استأصلَه، ومنه الخطوب الجوائحُ، سمِّيَ بذلك لاجتياحهِ الأرضين.
(1) المسالك والممالك: تأليف: محمد بن الحسن الكلاعي الحميدي (بعد 404هـ) نقله من كتاب (المسالك والممالك) للعزيزي الحسن بن محمد المهلبي المتوفي سنة 380هـ. وهو في صفة بيت المقدس.
(2)
(2/ 196).
(3)
في قصيدة يمدح سيف الدولة ويهنئه بعيد الأضحى ومطلعها:
لكل امرئ من دهرِهِ ما تعوَّدا
…
وعادات سيف الدولة الطَّعن في العدا
(ديوان أبي الطيب المتنبي)(1/ 283).
(4)
ومنها:
فقلت لها: كيف اهتديت ودوننا
…
دُلُوكٌ وأشراف الجبال القواهرُ
وجيحانُ جيحانُ الملوك وآلسٌ
…
وحَزْنٌ خزازي والشعوب القواسرُ
قال حمزة (1): أصلٌ اسم جيحون بالفارسيةِ هارونُ، وهو وادي خراسانَ، وعلى وسطه مدينةٌ يقال لها جيحانُ، فنسبه الناسُ إليها، وقالوا: جيحونُ على عادتهم في تغيير الألفاظِ.
قال ابن الفقيه (2): يجيء جيحونُ من موضع يقال له أبو سارانَ، وهو جبل يتصلُ بناحية السندِ والهندِ وكابُلٍِ، ومنه عينٌ تخرج من موضعٍ يقال له عندمين.
وقال الأصطخري (3) بعد أن أطال الكلام، وذكر أنها تنصبُّ إليه خمسةُ أنهار، وذكر أسماءها وأمكنتها، ثم ذكر أن أصلَ مخرجهِ من بلاد التركِ، ثم ذكر مواضِعَ يمرُّ بها حتَّى يمرُّ في حدود بلخٍ إلى التَّرمذ (4)، آمُلٍ، (5) ثم ذرعانَ، أو لأرض خوارزمَ، ثم مدينة خوارزمَ. قال: ولا ينتفعُ بهذا النهر من هذه البلادِ التي يمرُّ بها إلا خوارزمُ، ثم ينحدرُ من خوارزمُ حتى ينصبُّ في بحيرة تعرفُ ببحيرة خوارزمَ، وهي بحيرة بينها وبين خوارزمَ ستةُ أيام، وهي في موضع أعرضُ من دِجْلَةَ. قال ياقوت (6): وقد شاهدتُه وركبتُ فيه، ثم ذكر جمودَه إذا اشتدَّ البردُ. ثم قال: وهو سمِّيَ نهر بلخٍ لأنَّه مجازًا لأنَّه يمر بأعمالِهما، فأما مدينةُ بلخٍ فإن أقربَ موضع منه إليها مسيرةٌ اثني عَشَرَ فرسخَا انتهى.
فقد وافق ما رواه صاحبُ المعجمِ عن نفسهِ وعن غيرِه ما ذكره صاحبُ القاموس [4]
(1) عزاه إليه ياقوت الحموي في (معجم البلدان)(2/ 196 ـ 197).
(2)
عزاه إليه ياقوت الحموي في (معجم البلدان)(2/ 196 ـ 197).
(3)
هو: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي ـ المعروف بالكرخي، له مسالك الممالك، وصور الأقاليم.
انظر: (معجم المؤلفين)(1/ 68 رقم 507).
(4)
ترمذ: في خراسان، وهي على الضفة الشرقية من جيحون.
(الروض المعطار)(ص132).
(5)
آمل: مدينة من مدن خراسان، بينها وبين مرو على شط نهر جيحون ست مراحل، وبين آمل وجيحون ثلاثة أميال.
(الروض المعطار)(ص5).
(6)
في (معجم البلدان)(2/ 197).
في جيحانَ وجيحونَ، وإنما خصصَ نهر جيحون بخوارزم لما عرفتَ من أنه لا ينتفعُ به إلا خوارزمُ.
وبالجملة فما ذكره صاحب القاموس هو ما ذكره مَنْ قبلَه من هؤلاء الأئمةِ، فإن حاصل ما يستفادُ من كلامهم المغايرةُ بين جيحانَ وجيحون، وإن كلَّ واحد منهما بالمكان الذي ذكره، وأما تعيين النهر الذي من الجنة منهما فقد عيَّنه المفسِّرون لما وقع في كلام النبوةِ، وأنه جيحانُ كما تقدم عن صاحب النهاية (1) وغيرهِ، وعذرُ صاحبِ القاموس في عدم تعيين النهرِ الذي من الجنة منهما هو ما قدمنا في سيحانَ وجيحانَ، فالنهرانِ اللذانِ من الجنة هما سيحانُ وجيحانُ، لا سيحونُ وجيحونُ كما تقدم بيانُه، وهو ثابت في الصحيح (2) بلفظ:«سيحانُ وجيحانُ» .
(1)(1/ 323 ـ 324).
(2)
عند مسلم في صحيحه رقم (26/ 2839).
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (17/ 176 ـ 177): قوله صلي الله عليه وسلم: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة» اعلم أن سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون، فأمَّا سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة في بلاد الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر إذنة وهما نهران عظيمان جدًّا أكبرهما جيحان فهذا هو الصواب في موضعهما.
وأمّا قوله الجوهري في صحاحه (2/ 433): جيحان نهر بالشام فغلط أو أنَّه أراد المجاز من حيث أنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام، قال الحازمي: سيحان نهر عند المصيصة قال وهو غير سيحون. وقال صاحب (النهاية) ـ (1/ 323 ـ 324) ـ سيحانه وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرطوس، واتفقوا كلهم على أن جيحون بالواو نهر خراسان عند بلخ، واتفقوا على أنَّه غير جيحون وكذلك سيحون غير سيحان وأمّا قول القاضي عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق، وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان ففي كلامه إنكار من أوجه:
أحدها: قوله الفرات بالعراق وليس بل هو فاصل بين الشام والجزيرة.
والثاني: قوله سيحان وجيحان يقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفه وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس.
الثالث: أنَّه ببلاد خراسان وأمَّا سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام والله أعلم. وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلات ذكرهما القاضي عياض ـ في (إكمال المعلم بفوائد مسلم)(8/ 372) ـ:
أحدهما: أن الإيمان عم بلادها وفاض عليها، وأنَّ الأجسام المتغذية بهذه المياه صائرة إلى الجنة.
الثاني: وهو الأصح أنه على ظاهره، وأنَّ لها مادة من الجنة، إذ الجنة موجودة مخلوقة عند أهل السنة وانها التي أنزل منها آدم.
وقد ذكر مسلم أول الكتاب في حديث الإسراء: أنّ النيل والفرات يخرجان من أصلها، وبينه في البخاري (4/ 134) فقال: من أصل سدرة المنتهى.
وأما زَعْمُ من زعم المعارضةَ بين قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «سيحانُ وجيحانُ والنيلُ والفراتُ من أنهار الجنة» وبين قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «وإذا أربعةُ أنهارٍ: نهران ظاهرانِ، ونهران باطنانِ، أما الظاهرانِ فالنيلُ والفراتُ، وأما الباطنانِ فسيحانُ وجيحانُ» (1) ثم صار إلى الجمع بأنه لم يثبتْ في سيحانَ وجيحانَ أنهما من الجنة، فهذا ليس يجمع، بل إهدار لما وقع في الحديثين جميعًا من ذكر سيحانَ وجيحانَ، والأمر أقربُ من ذاك، ومعنى كلام النبوة أوضحُ، فإن غاية ما يستلزمه كونُ سيحانَ وجيحانَ باطنينِ أن لا يظهرُ انصبابُهما من نفسِ الجنةِ بأن يجريا من باطنِها إلى باطن الأرضِ، ثم يظهرانِ من حيثُ ظهرا، ويظهر انصبابُ النيل والفرات من ظاهر الجنةِ إلى ظاهر الأرضِ، ثم يتصلُ ظهورهما وجريُهما بالمواضع المعروفة الآن [5].
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5610) تعليقًا وقد وصله البخاري في صحيحه رقم (3207)، ومسلم رقم (264/ 164).
وأبو عوانة (1/ 120 ـ 124).
والنسائي في (السنن)(1/ 76 ـ 77)، وأحمد 04/ 207 ـ 208)، من طرق عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة مرفوعًا بحديث الإسراء بطوله، وفيه: «
…
وحدّث نبي الله صلي الله عليه وسلم أنّه رأى أربعةَ أنهارٍ، يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلتُ: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أمَّا النهران الباطنان فنهران في الجنة، وأمَّا الظاهران فالنيل والفرات».
وهكذا جمُعُ من جمَعَ بعدم ظهورِ سيحانَ وجيحانَ على وجه الأرضِ وإن كانا من أنهار الجنة نظرًا منه إلى ما وقع من توصيفِهما بكونهما باطنينِ، فإنه ليس في هذا الوصف ما يستلزمُ أنهما لا يظهرانِ أبدًا، إذا صدقُه يوجدُ بما ذكرناه، ولو كان الأمر كما قال هذا لم يكن لإخبارِه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ للأمَّةِ بأن الأربعة الأنهارِ من أنهار الجنة كثيرٌ فائدةٍ بعد تسميته لها بأسمائها المعروفةِ عند أهل الدنيا، مع اعتقادهم بوجود مسميَّاتِها في بقاع الأرضِ، وليست ذلك من قبيل الأخبار بما في الجنة كما وقع في الكتاب العزيز من أخبار الله عز وجل بما فيها من أنهار الماء والعسلِ والخمرِ واللبنِ، (1) بل من باب الأخبار بما صار في الدنيا من أنهار الجنةِ كما تفيده ألفاظُ الأحاديث وسياقاتُها.
فتقرَّر بمجموع ما ذكرنا صحةُ ما قاله صاحب القاموس في سيحانَ وجيحانَ، وسيحون وجيحونَ. وتبين ما هو منها من أنهار الجنةِ وما ليس منها، وظهر تعيينُ مواضعِ ما هو من الجنةِ، وتعيينُ مواضعِ ما ليس منها، ولم يبقَ في الكلام على هذا التقرير إشكالٌ.
وأما ما سأل عنه السائل ـ كثر الله فوائده ـ من تغليط صاحب القاموس (2) لصاحبِ الصحاح في مواضعَ كثيرةٍ جدًّا كما هو مصرَّحٌ بذلك في القاموس.
وحاصلُ السؤال أنه هل يقبل من صاحب القاموس مجرَّدُ ما يقعُ منه من دعوى غلطِ صاحب الصحاح من دون أن يقيمَ على ذلك برهانًا مقبولاً، أم لا بدَّ من البرهان على
(1) لقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ} [محمد: 15].
(2)
قال صاحب (القاموس): العلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي في مقدمة القاموس (ص35): ثم إنّي نبَّهت فيه على أشياء ركب فيها الجوهري رحمه الله خلاف الصواب، غير طاعن فيه، ولا قاصدٍ بذلك تنديدًا له، وإزراء عليه، غضًّا منه، بل استيضاحًا للصَّواب، واسترباحًا للثواب، وتحرزًا وحذارًا من أن ينمى إلىَّ التصحيف، أو يعزى إلىَّ الغلط والتحريف
…
".
ذلك؟
وأقول: هذا سؤالٌ قويٌّ، وبحث سويٌّ، والجوابُ عنه من وجوه:
الأول: إنه لا يقولُ [6] قائلٌ من أهل العلم أن نسبةَ عالمٍ للغلط إلى عالم آخرَ مقبولةٌ بمجرَّد الدَّعوى، وكما أن هذا لم يقلْ به أحدق فهو أيضًا لا يطابقُ قاعدةً من قواعد العلومِ على اختلافِ أنواعِها، فإن من قال في مقام النقل عن أهل اللغةِ: إن من لغتَهم كذا فليس لأحدٍ أن يقولَ: هذا باطلٌ أو غلطٌ، ولا سيما إذا كان الناقلُ مثلَ الجوهري في إمامِته وثقتهِ وقبولِ الناس لروايتِه قرنًا بعد قرن، واحتجاجِ أهلِ العلم بما نقلَه في صحاحِه من عصره إلى الآنَ. (1)
الوجه الثاني: غايةُ ما يقال لمن ينقل عن العرب شيئًا من لغتِهم بعد ثبوت كون الناقلِ ثقةً: نحن نطلبُ منك تصحيحَ النقلِ، فإن جاء بما يفيدُ ذلك، وإما برواية صحيحةٍ عن العرب على الحدِّ المعتبرِ في نقل اللغةِ كما هو مدوَّنٌ في الأصول، أو باستخراجِ ذلك من كلماتِهم التي قد اشتغلَ بجمعِها الثقاتُ الأثباتُ، كدواوين أشعارهم ومجاميعِ خُطَبهم
(1) قال أبو بكر زكريا الخطيب التَّبريزي اللُّغوي: كتاب الصحاح هذا كتاب حسن الترتيب، سهل المطلب لما يراد منه، وقد أتى بأشياء حسنة، وتفاسير مشكلات من اللغة، إلا أنَّه مع ذلك فيه تصحيفٌ لا يشك في أنَّه من المصنف لا من الناسخ، لأن الكتاب مبنيٌّ على الحروف، قال: ولا تخلو هذه الكتبُ الكبار من سهوٍ يقع فيها أو غلطٍ، غير أن القليل من الغلط الذي يقع في الكتب إلى جنب الكثير الذين اجتهدوا فيه وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه معفوٌ عنه.
قال الثعالبي اللغوي في كتابه (يتيمة الدهر) في محاسن أهل العصر: كان الجوهريُّ من أعاجيب الزمان وهو إمام في اللغة وله كتاب الصحاح. وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوس النيسابوري:
هذا كتاب الصِّحاح سيدُ ما
…
صُنِّف قبل الصحاح في الأدب
تشمل أبوابه وتجمع ما
…
فُرِّق في غيره من الكتب
وقال ابن بزيّ: الجوهري أنْحى اللغويين.
انظر: (المزهر في علوم اللغة) وأنواعها (1/ 97 ـ 99) للسيوطي.
ومحاوراتهم المشهورةِ عند الناس شهرةً بالغةً إلى الحدِّ المعتبرِ في ذلك فبها ونْمَتْ، وإن لم ينهضْ بذلك فليسَ لأحدٍ أن يقولَ له: هذه الروايةُ باطلةٌ أو غلطٌ، بل غايةُ ما يقال فيها أن راويْها لم ينقلْها على الوجه المعتبرِ، فلم تثبتْ بها الحجةُ، ولا يجوزُ الأخذُ بها حتى يصحِّحَ نقلَها هو أو غيرُه ممن هو أطولُ باعًا منه. وفَرْقٌ بين وصفِ الشيء بكونه لا تقومُ به الحجةُ، أو أنه لا يؤخذُ به، وبين وصِفِهِ بكونه باطلاً أو غلطًا، فإنه يكفي في الأول مجرَّدُ عدمِ تصحيح النقل، ولا يكفي في الثاني إلا وجودُ البرهانِ [7] المسوِّغِ لنسبةِ الغلطِ إلى الناقلِ أو البطلانِ للمنقولِ، وذلك إما باستقراء لغةِ العربِ استقراءً تامًا على وجه لا يبقى بعده شكٌّ في غلط الناقلِ، أو بطلانِ ما نقلَه، أو بأن يحكي الناقلُ عن نفسه أن جميعَ ما نقلهَ في مؤلَّفه هو من كتاب كذا فلا يوجد ذلك في الأصلِ أو يصحِّفه الناقلُ.
الوجه الثالث: أنه قد تكلم جماعةٌ من أهل العلم المتبحرينَ في اللغة على أحرف مما نقلَه الجوهري في الصحاح، وبرهنوا على ذلك في كتبهم، فنقل عنهم صاحبُ القاموس ما ذكروه مجرَّدًا عن البرهانِ، وقبل الناسُ ذلك منه لثقته وإمامتهِ واضْطِلاعِه بفنِّ اللغةِ.
وعلى فرض عدمِ نَقْلِ ما ذكره صاحبُ القاموس عن التغليطِ لصاحب الصحاحِ من غيره فهو أهلٌ للاستقراء العامِّ والبحثِ الكامل.
الوجه الرابع: إن قلت: فما الحكمُ فيما وجدناه منقولاً في الصحاح للجوهري متعقبًا في القاموس بأنه غلطٌ أو باطلٌ، من دون وجود ما يقتضي تصحيحَ ما نقلَه الجوهريُّ، ولا وجودَ برهان مسوِّغٍ لنسبة الغلط والبطلان؟
قلت: إن تمكن الناظر في الكتابين من البحث المفضِي إلى تصحيح ما نقلَه الجوهري بالطريقة التي قدمنا ذكْرَها فلا اعتبارَ بما ينقلُه صاحب القاموس على الوجهِ المتقدم فلا حكمَ لما ينقلُه صاحبُ الصحاح في ذلك الحرفِ، ولا تقوم به الحجةُ. وإن لم يمكن الوقوفُ على تصحيح النقلِ، ولا على برهان الغلطِ فلا يجوزُ العملُ بشيء من تلك الأحرفِ التي نقلها صاحبُ الصحاح، ونسبَهُ صاحبُ القاموس إلى الغلط فيها، لأن جزمَ مثل صاحبِ
القاموس بالغلط يفتُّ في عَضُدِ الظنِّ الحاصلِ بروايةِ صاحب الصحاح، على فرض قبولِ نقل الآحادِ في اللغة، ويقدحُ في المعتبرِ من التواترِ على القول باعتباره في نقلها، وهذا معلومٌ بالوجدان لكل أحد، فإن من أخبره ثقةٌ بخبرٍ، ثم أخبره ثقةٌ آخر مثل الأول بأن المخبرَ غلطٌ مع علمِ السامعِ بأن الآخَرَ لا ينسِبُ الغلطُ إلى الأولِ مجازفةً وعبثًا، فإنه يحدثُ عند السامع ذلك وقفةً وحيْرَةً حتى يتخلَّص بالبحث إن أمكن، وإن تعذَّرا استمرَّ حائرًا .... واللهُ أعلم [8].
هذه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق
[9]
. بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على سيدنا محمد الأمين وآلِه الطاهرينَ، وعلى أصحابه الراشدين آمينَ.
قول شيخنا العلامِةِ البدرِ ـ كثر الله فوائده ـ في جوابه عن السؤال الذي نظمُتُه إليه: ويتعيَّن أن سيحانَ الذي هو من أنهار الجنةِ هو الذي بالشام إلى آخره، فيه بحثٌ، وهو أنه قد ثبت اشتراكُ هذا الاسم بين نهرين مشهورينِ: أحدُهما بالبصرةِ، والآخر بالشام كما اتفق عليه صاحبُ القاموس (1) وصاحب المعجم (2)، وماءٌ لبني تميم على ما ذكره صاحب المعجمِ، وقريةٌ بالبلقاءِ على ما ذكره صاحب القاموسِ (3). وحينئذٍ فلا بدَّ من قرينةٍ تعيِّنُ المرادُ به في الحديث من هذين النهرينِ.
وقولُ صاحب النهاية (4) أنه النهرُ الذي بالشام بمجرَّده لا يكفي، وكذلك تفسير بعض شُرَّاحِ الحديثِ، (5) وليس تفسير صاحب النهايةِ لما وقع في الحديث فيما قدمت أنه مشتركٌ، ويصح صرفُ اللفظ إلى كل من معنييهِ من قبيل نقل العدلِ للغةِ، ونفي سوى ما نقلَه. فقد صحَّ الاشتراك بنقل الثقاتِ الأثبات. (6)
(1)(ص288).
(2)
(معجم البلدان)(3/ 293).
(3)
(ص288).
(4)
(1/ 323 ـ 324).
(5)
انظر ما قال النووي في (شرحه لصحيح مسلم) رقم (17/ 176 ـ 177).
(6)
اللفظ المشترك: هو اللفظةُ الموضوعةُ لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعًا أولاً من حيث هما كذلك. (المحصول)(1/ 261).
وقال ابن الحاجب في (شرح المفصل) كما في (البحر المحيط)(2/ 122) وهو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء عند أهل اللغة سواء كانت الدلالتان متفاوتتين من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال، أو استفيدت إحداهما من الوضع والأخرى من كثرة الاستعمال وهو في اللغة على الأصح.
قال الشوكاني في (إرشاد الفحول)(ص100): اختلف أهل العلم في المشترك فقال قومٌ إنّه واجب الوقوع في لغة العرب، وقال آخرون إنّه ممتنع الوقوف، وقالت طائفةٌ إنّه جائز الوقوع. ثم ذكر الشوكاني رحمه الله أدلة القائلين بالوجوب، وأدلة المجوّزين ثم قال:(ص105): إذا عرف هذا لاح لك عدم جواز الجمع بين معنييَ المشترك أو معانيه، ولم يأت من جوَّزه بحجة مقبولة. وقد قيل إنّه يجوز الجمع مجازًا لا حقيقةً، وبه قال جماعة من المتأخرين وقيل: يجوز إرادةُ الجمع لكن بمجرد القصد لا من حيث اللغة. وقد نسب هذا إلى الغزالي والرازيُّ.
وقيل: يجوز الجمع في النفي لا في الإثبات. فيقال مثلاً: ما رأيتُ عينًا يراد العين الجارحة، وعين الذهب، وعين الشمس، وعين الماء. ولا يصح أن يقال عندي عينٌ وتراد هذه المعاني بهذا اللفظ.
وقيل: بإرادة الجميع في الجمع فيقال مثلاً عندي عيونٌ ويراد تلك المعاني. وكذا المثنى فحكمه حكم الجمع فيقال مثلاً عندي جَوْنانِ ويراد الأبيض والأسود ولا يصحُّ إرادة المعنيين أو المعاني بلفظ المفرد وهذا الخلاف إنّما هو في المعاني التي يصح الجمع بينها وفي المعنيين اللذين يصحُّ الجمع بينهما لا في المعاني المتناقضة.
انظر: (الإبهاج)(1/ 263)، (نهاية السول)(2/ 138 ـ 140).
ومحلُّ السؤال هو تعيينُ النهر المرادِ بسيحانَ في الحديث من هذينِ النهرينِ اللذين وُضِعَ لكل منهما هذا الاسمُ وضعًا على حِدَةٍ، ونُصِبَ الدليلُ من قرينة صريحة صحيحة، أو حديثٍ خاصٍّ، أو روايةٍ مجمعٍ عليها تقومُ به الحجةُ.
ولعله يقال: قد صرح المجيبُ في أثناء الجوابِ بما يفيد التعيينُ فيما نقلَه ـ نفع الله بعلومه ـ عن البلاذري (1) من أنه نهرَ البصرة حفرهُ البرامكة، ومع هذا فلا يصح تفسير ما ورد في الحديث به لعدمِه، وعدمِ وضع هذا الاسم له في أيام النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ولكن يبقي الكلامُ في أن المجيبَ ـ دامت إفادته ـ قد ذكر أن صاحبَ القاموس بصددِ بيان المفهوماتِ اللغويةِ. فإذا كان وضعُ هذا الاسم لنهر البصرةِ لغةً من لغة العرب اندفع ما ذكره البلاذري أنه من أوضاع البرامكةِ، أو ثبت التعارضُ بين كلامه
(1) ذكره ياقوت في (معجم البلدان)(3/ 293).
وكلام المجدِ كما لا يخفي.
وأيضًا فإنَّ ماءَ بني تميم المسمَّى بسيحانَ إما أن يكون نهرًا جرّارًا، أو نهرًا يوردُ أو بئرًا أو بريكةٍ لماء المطر. وعلى التقديرينِ الأوَّلينِ فهما مما يحتملُه اللفظ في الحديث، ويصحُّ تفسير المعنى به لاستقامةِ المعنى. إذن فيبقى الإشكالُ بحاله.
قوله ـ نفع الله بعلومه ـ أن جيحانَ بالقربِ من سيحانَ الذي هو نهر بالشام بين أنطاكيةَ والروم، وأن جيحون بخراسان فوافق كلامَ صاحبِ القاموس فيهما.
أقول [10]: لا موافقةَ في تفسير جيحانَ بين كلاميهما، لأنه قد تقدم في كلام ياقوتٍ (1) الذي نقلَه المجيبَ عنه ما لفظُه: فبالثغر إذن سيحانُ وجيحانُ يعني في ثغر الشام وسيأتي قريبًا نقلاً عنه أيضًا بعد أن ضبطَ حروفَ جيحانَ أنه نهر بالمصيصةِ بالثغرِ الشاميِّ. والمصيصةُ مدينةٌ بالشام كما أفاده المجيبُ، وصرح به الجوهري في صحاحِه. (2).
قال فيه والمصيصةُ بالتخفيف غيرُ مُثَقَّلٍ مدينة بالشام، والمجدُ في قاموسه (3) قال فيه: والمصيصةُ كسفينةٍ بلدٌ بالشام ولا تشدَّدُ. انتهى هذا تفسير ياقوتٍ له.
وقول صاحب القاموس (4): إنه نهر بينَ الشام والرومِ لا في أصلِ الشام ينافيهِ منافاةً ظاهرةً إلا أن يقال: إن البيِّنةَ نسبيةٌ لا استقلال لها كما يقالُ في أمثال العرب (بين جمادى ورجبٍ ترى العجبَ). (5) مع أنه لا وقتَ خارجٌ عن مسمَّى جمادى ورجبٍ هو
(1) في (معجم البلدان)(3/ 293) وقد تقدم بتمامه.
(2)
(2/ 433).
(3)
(ص288).
(4)
(ص288).
(5)
(العجب كلُّ العجب بين جمادى ورجب).
أول من قال ذلك عاصم بن المشعرِّ الضَّبِّيّ كان أخوه أبيدة علق امرأة الخنيفس بن خشرم الشيباني، فعلم الخنيفس بذلك فقتل أبيدة. ولما علم أخوه عاصم بقتله لبس أطمارًا من الثياب، وركب فرسه، وتقلّد سيفه، وذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة، وبادر فقتل قاتل أخيه قبل دخول رجب، لأنّهم لا يقتلون في رجب أحدًا. فقال:(العجب كل العجب بين جمادى ورجب) فأرسلها مثلاً ورجع إلى قومه.
(مجمع الأمثال) للميداني (2/ 354 ـ 355) بتصرف.
بينهما، بل الوقت إما من جمادى أو رجب لا يتحقَّق فاصلٌ بينَهما هو من غيرهما وفيه نظر لا يخفى سيَّما إذا كانت البيَّنةُ في الأمكنةِ كما إذا قلت: كرمانُ إقليمٌ بين فارسَ وسجستانَ فلا بدَّ من تحقيق إقليمٍ لا يطلق عليه أنه من فارسَ، ولا يطلق عليه أنه من سجستانَ، وإنما تتصلُ به بلاد فارسَ من جهةٍ، وبلاد سجستانَ من جهةٍ أخرى. هذه حقيقةُ هذا اللفظ ..
نعم لكن ما ذكره ياقوتٌ في تعيين محلِّ جيحانَ هو الذي ذكره صاحبُ النهاية في قوله: سيحانُ وجيحانُ نهرانِ بالعواصمِ، لأن العواصمَ من المصيصةِ، والمصيصة من القطر الشامي كما تقدم.
وكذلك ذكره الجوهري في الصحاح قال فيه: وجيحونُ نهرُ بلخٍ، وهو فَيْعوْلُ، وجيْحانُ نهر بالشامِ .. انتهى.
وقال فيه أيضًا: وسيحانُ نهرٌ بالشام، وساحينُ نهر بالبصرةِ، وسيحونَ نهر بالهندِ هذا كلامه.
وقد غلَّطه الشيخُ محيي الدين النواوي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم عند الكلام في شرحه لصحيحِ مسلمٍ (1) عند الكلام على هذا الحديثِ المذكورِ في تفسير جيحانَ بأنه نهرٌ بالشام، فقال ما لفظه: اعلم أن سيحانَ وجيحانَ غيرُ سيحونَ وجيحونَ فأما سيحانُ وجيحانُ المذكورانِ في هذا الحديثِ فهمًا في بلاد الأرمنِ، فجيحانُ نهرُ المصيصةِ، وسيحانُ نهر أذنةَ، وهما نهران عظيمانِ جدًّا، أكبرهما جيحانُ. وقل الجوهري: جيحانُ نهرٌ بالشام غلطٌ
…
انتهى.
وهذا هو الذي قصد في النظم في هذه الأبيات.
(1)(17/ 176 ـ 177).
ورُوينا في صحاحِ
…
الجوهري الغَرْطرَّا
إن جيحانَ بقطرِ الشامِ
…
نهرٌ ليس يكرى
ثم في شرح النواوي
…
جعلَه زورًا ونُكرى
وأقول: بل الغلطُ ما ذكره الشيخ محيي الدين، فإنه أثبت ما هو شبهُ الأخصِّ، ونفيَ ما هو شبهُ الأعمِّ، وكلَّما وُجِدَ الأخصُّ وجِدَ الأعمُّ، فإنه إذا صدقَ الإنسانُ صدقَ الحيوانِ بالضرورةِ، فإذا كان جيحانُ [11] بالمصيصة كما ذكره كان بالشام؛ إذ لا خلافَ أن المصيصةَ من بلاد الشام .. وقولُه: الأرمنُ لم يتعرض لها في القاموسِ في مظانها ولم يبيِّنْ معناها، ولكنِ استطردَ ذكرَها في مادة (ط ر س) فقال ما لفظه (1): وطرسوسٌ كجلزونٍ بلدٌ إسلامي مخصِبٌ، كان للأرمن ثم أُعيدَ إلى الإسلام في عصرنا
…
انتهى.
فظهر منه أنهم قومٌ كفَّار، أو ملكٌ كافر. وأذنةُ محرَّكةً بلد قرب طرطوسٍ. وقوله كجلزونٍ، هذا اللفظ كثيرً ما يزينُ به ولم يذكره في موضعه في كتابه، ولا بين معناه ومما زان به العَربُوس. وهذا كما ذكر البقْسَ (2) وقال إنه شجرٌ كالآسِ ورقًا وجَبًا، أو هو [الشمساد](3) ولم يذكر [الشمسارَ](4) في موضعهِ، وهذا تعريف بمجهولٍ، بل يُخِلُّ
(1)(ص713).
وذكرها (ص684) في مادة (أ ي س) وتأيَّسَ: لانَ وكسحابٍ بلد للأرمن فُرْضَةَ تلك البلاد صارت للإسلام. ?
الأرمن: سكان أرمينية، وهي بلد معروف يضمُّ كورًا كثيرة وهي أمةٌ كالروم. فتحت في زمن عثمان، فتحها سلمان بن ربيعة الباهلي سنة 24هـ. انظر:(الروض المعطار)(ص25).
(2)
قال في (القاموس)(ص687): البقسُ يقال: بَقْسيسٌ: شجر كالآسي ورَقًا وحبًا، أو هو الشّمْشاذُ قابض، مُجفَّفٌ.
(3)
كذا في المخطوط والذي في القاموس الشّمْشاذُ. قال في (المعجم الوسيط)(1/ 493) والشَّمذة شجرة تُعد لتمتد عليها شجرة متسلِّقة جمعها شُمُذ وشِماذ ولعل ذلك معروف، فلم يُبيِّن معناه واكتفى بذكره.
(4)
كذا في المخطوط والذي في القاموس الشّمْشاذُ. قال في (المعجم الوسيط)(1/ 493) والشَّمذة شجرة تُعد لتمتد عليها شجرة متسلِّقة جمعها شُمُذ وشِماذ ولعل ذلك معروف، فلم يُبيِّن معناه واكتفى بذكره.
بما ادَّعاه من الإحاطة .... والله أعلم
قوله ـ طاب ذكره ـ: وفي شموس العلوم (1) جيحونُ اسمُ نهرِ بلخٍ فطابقَ ما في القاموس لأن خوارزمَ من خراسانَ.
أقول: تبايُنُ الكلامينِ ظاهرٌ لأن الذي في القاموسِ أنه نهرٌ بخوارزمَ، والذي في شمس العلوم أنه نهر بلخٍ، خوارزم غيرُ بلخٍ قطعًا. وكونُ القطرينِ يشملُهما اسمُ خراسانَ لا يفيدُ في ذلك شيئًا، كما لو قال قائل: قصرُ غمدانَ بصنعاءَ، وقال آخر: قصرُ غمدان بذمارٍ، وصرْنا إلى أن القولينِ متَّفِقانِ، لأن المحلَّين من اليمنِ لما كان شيئًا يعتدُّ به، وإنما كان يحصلُ التطابُقُ لوقوع في كلام صاحبِ شمس العلوم أنه نهرٌ بخراسانَ، وخراسانُ يشملُ بلخَ وخوارزمَ كما أفاده المجيبُ.
على أن ما نقل عن صاحب كتاب المسالكِ والممالكِ ينافي القولَ بأنَّ خوارزمَ من خراسانَ، حيثُ قال: ثم يخرجُ من بلادِ خراسان ويجري بين بلاد خوارزمَ، فجعلَه خارجًا من بلاد خراسانَ جاريًا بين بلاد خوارزمَ، فلو كانتْ خوارزمُ من خراسانَ لما صحَّ أنه خارجٌ عن بلاد خراسانَ حال كونِه جاريًا في بلاد خوارزمَ، التي هي منها، وهو ظاهرٌ، ويؤيِّده قولُ الشيخُ مُحيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم (2) عند الكلام على الحديثِ (3) المذكورِ. وأما جيحونُ بالواو فنهرٌ وراءَ خراسانَ عند بَلْخٍ، وظاهر هذا أنه ليس في خراسانَ.
بقي هاهنا سؤالٌ، وهو أنه ورد في الحديث (4): «نهرانِ مؤمنان، ونهرانِ كافرانِ،
(1) تقدم ذكره.
(2)
(17/ 176 ـ 177).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
أما المؤمنان فالنيلُ والفراتُ، وأما الكافرانِ فدجلةُ ونهر بِلْخٍ». فهل المرادُ بنهر بلخٍ جيحونُ على ما في شمس العلوم، أو غيرُه من أنهارهِ؟
قوله ـ زاده الله علمًا ـ ثم قال: جيحونُ بالفتح وهو اسمٌ أعجميٌّ.
فعلى هذا هو غير منصرفٍ للعلميةِ والعجمية مع تكاملِ شروطِها، وهو أنه لم يُسْتَعْمَلْ في لغة العرب إلا عَلَمًا كما قرَّره الرَّضي، (1) فتنوينُه في حالةِ الرفع والجرِّ وكسر بالألفِ المنقلبةِ عن النونِ في حالةِ النصبِ كما وقع بخط شيخِنا ـ أبقاه الله ـ.
في أثناء الجواب ليس في محلِّه وكذلك سيحونُ.
قوله: كثر الله فوائده: وقد تعسَّف بعضُهم فقال [12] هو من جاحَهُ إذا استأصلَهُ
…
إلى آخره.
يؤيد أنّه قول معسَّف قولُ حمزةَ الآتي أنه بالفارسيةِ هارونُ، وظنَّ شيخُنا ـ أبقاه الله ـ أنه على عادتهم في تغيير الألفاظِ، وأنا أظن أنه في تعريب الألفاظ، ولأن تغييرَ الألفاظ ليس بعادةٍ بخلاف التعريبِ، فإن تغيير بعض الحروف لا بد منه، فلا بد من تغيير بين المعرّب والمقرّب إليه بحروف مخصوصةٍ، ولو بقي على حاله لما صدق معرَّبٌ ومعرَّبٌ إليه، لأنه واحد بالشخص مع عدم التغيير بأي شيء. وقد نص عليه الخفاجي في الريحانةِ حيث قال: الشرموزةُ هو النعلُ المعروف، ويقولون شرموجةُ على قاعدتهم في التعريب فإنها تقلب فيه الزاي جيمًا) .. انتهى.
ونظير ذلك الخَوَرْنَقُ. قال في القاموس (2): إنّه معرّبُ خورنكاه، (3) والجنابذُ قال ابن حجر (4) جمع جنبذة معرَّبُ كنبذةٍ، والدرهمُ قال في ................................
(1) في (شرح كافية ابن الحاجب)(1/ 123 ـ 124).
(2)
(ص1135).
(3)
انظر: (المزهر)(1/ 280).
(4)
في (فتح الباري)(1/ 463) أن الجنابذ شبه القباب واحدها جنبذة بالضم، وهو ما ارتفع من البناء فهو فارسي معرب وأصله بلسانهم كنبذة يوزنه لكن الموحدة مفتوحة والكاف ليست خالصة.
الصحاح (1): إنه معرّب. وزاد في الريحانة أنه معرّبُ دَرِم، وعزا في ذلك قصةٌ إلى ما ذكره السُّكريُّ في شرح ديوان الأعشي، ويمكن توجيهُ العبارة بأنه على عادتِهم في تغيير الألفاظِ للتعريب.
وظاهر صنعِ صاحب النهايةِ (2) يقضي بأنه من جاحه، ألا تراه ذكَرَهُ في مادة (ج ي ح) فجعل أصولَه الجيمَ والألفَ المنقلبةَ عن الياء والحاء المهملة فهو من الاجتياحِ على هذا إن كان لا يعتبرُ الزائدُ الأول لأن هذا ليس منه كما لا يخفى.
وأما صاحب القاموس (3) فذكره في باب النونِ فجعل أصولَه (ج ح ن) وجعلَ أيضًا جيحونَ من هذه المادةِ كما نقله شيخُنا عنه، وذكر في القاموس (4) أن جيحانُ معرَّبُ جِهَانَ.
قلت: ولعلَّ التعريبَ هو الوجهُ في جعْلِه النونَ أصليةً، إذ لا اشتقاقَ الجهانَ الذي جيحانُ معرَّبُهُ بخلافِ سيحانَ فليس بمعرَّب شيء بل هو مشتقٌّ من السَّيْحِ، فذكره في (س ي ح). (5)
قوله ـ نفع الله بعلومه ـ: وأما تعيينُ النهر الذي من الجنة منهما فقد عيَّنه المفسِّرون لما في كلام النبوةِ، وأنه جيحانُ لا جيحونُ كما تقدم عن صاحب النهاية (6) وغيرِه.
أقول: قد عيَّنه النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بصريح قولِه: «سيحانُ وجيحانُ، والنيلُ والفراتُ كلِّ من أنهار الجنةِ» وإنما عيَّن المفسرونَ (7) في أي موضع هو
(1)(5/ 1918): الدرهم فارسي معرب.
(2)
(1/ 323 ـ 324).
(3)
(ص1530).
(4)
(ص1530)
(5)
(ص288).
(6)
(1/ 323 ـ 324).
(7)
انظر: (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي (13/ 104)، (16/ 237).
وغلَّطوا من وَهِمَ اسمٌ لنهر واحد كما تقدم عن النووي. (1)
قوله ـ أبقاه الله ـ: وأما زَعْمُ من زعم المعارضَةَ: أقول: لا معارضةَ بين الحديثينِ، ولا أدرى من زعمَهما وإنما وقع في كلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2) ما يُفْهِم الترادُفَ فقال فيه في شرح قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ:«وإذا أربعةٌ أنهارٍ: نهرانِ ظاهرانِ، ونهرانِ باطنانِ، فقلتُ ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهرانِ في الجنة، وأما الظاهران فالنيلُ والفراتُ» ما لفظه: وأما الحديثُ الذي أخرجه مسلم (3) بلفظ: «سيحانُ وجيحانُ، والنيلُ والفراتُ من أنهار الجنة» فلا يعارضُ هذا لأن المرادَ به أن في الأرض أربعةَ أنهارٍ أصلُها من الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحونَ وجيحونَ أنهما يُنبعانِ من أصلِ سِدْرَةِ المنتهى، فيمتاز النيلُ والفراتُ عليهما وجيحون بذلك [13]. وأما الباطنانَ المذكورانِ في حديث الباب فهما غير سيحونَ وجيحونَ، والله أعلم
…
انتهى.
فانظر كيف بيَّن عدمَ التعارُضِ بين حديث: «سيحانُ وجيحانُ .. » إلى آخره
…
وبين حديث: «وإذا أربعةُ أنهارٍ
…
» المذكورِ. بأنه لم يثبتْ لسيحونَ وجيحونَ أنهما ينبعان من أصل سدرةِ المنتهى، يعني كما ثبت ذلك للنيلِ والفراتِ في حديث المعراجِ، مع أنه لا ذكر لسيحونَ وجيحونَ في الحديث أصلاً، ما ذاك إلا بناءً على ترادُفِ سيحانَ وجيحانَ، وسيحون وجيحونَ، وهو غلط لا يخْفَى، وسائر كلامه صحيحٌ.
فقد ثبت في صحيح مسلم (4) من حديث أنس رضي الله عنه ما لفظه: وحدّثَ نبيكم أنه رأى
(1) في شرحه لصحيح مسلم (17/ 167 ـ 177).
(2)
(7/ 213 ـ 214)، ورقم الحديث (3887) من حديث أنس بن مالك بن صعصعة رضي الله عنه الحديث.
(3)
في صحيحه رقم (26/ 2839).
(4)
في صحيحه رقم (264/ 164)، وأخرجه البخاري رقم (3207) وقد تقدم.
«أربعةَ أنهار يخرجُ من أصلها: نهرانِ ظاهرانِ، ونهران باطنانِ، فقلت: يا جبريلُ، ما هذه الأنهارُ؟ قال: أما النهرانِ الباطنانِ فنهرانِ في الجنةِ، وأما النهرانِ الظاهرانِ فالنيلُ والفراتُ» فهذا ما بني عليه قولَه: وحينئذ لم يثبتْ لسيحونَ وجيحونَ أنهما ينبعانِ من أصل سدرةِ المنتهى، فيمتازُ النيلُ والفراتُ عليهما بذلك، أي لأنه قد ثبتَ لهما ذلك في الحديث الصحيح المذكور.
قوله ـ زاده الله علمًا ـ: أعني حديثَ المعراجِ، بل لم يردْ عنه في رواية ضعيفةَ فضلاً عن صحيحة. قال القرطبي (1): لعل تركَ ذكرِهما في حديث الإسراء لكونهما ليسا أصلاً برأسيهما، وإنما يحتمل أن يتفرَّعا عن النيل والفرات. وقد ثبت فيهما أنهما ظاهرانِ، والعجبُ كلَّ ا لعجب من شيخنا العلامةِ ـ أدام الله علاه ـ مع طول باعه، وسَعَةِ اطلاعهِ وشدة فهمهِ، وكثرة علمه. كيف وقع هذا في كلامه، وبنى عليه، ولم ينكره! بل وجَّهَهُ وقرَّره، وبيَّن معناه، وفرع عليه دفعَ المعارضةِ، وصرَّح بأنه من كلام النبوةِ، بل لم يقل أحد من أئمة الحديث فيما أعلم مع شدة البحثِ في ذلك أن النهرينِ الباطنينِ المذكورين في حديث المعراج هما سيحانُ وجيحانُ، وكيف يقولُ ذلك وقد صرَّح في الحديث المذكور مع صحتِه أن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ سأل جبريلَ عليه السلام عنهما فقال:«أما الباطنان ففي الجنة» ، أو في لفظ للبخاري (2) ومسلم (3):«فنهران في الجنةِ، وأما الظاهرانِ فالنيلُ والفراتُ» فمعنى قوله ففي الجنة أن منبعَهما ومستقرَّهما والانتفاعَ بهما كائنٌ في الجنة، لا في الدنيا، وإلا لما كان لتخصيصهما بقوله ففي الجنَّة معنى يُعْتَدُّ به، لأن الجميعَ من أنهار الجنة قد شاهدها تنبعُ من أصل سدرةِ
(1) ذكره الحافظ في (الفتح)(7/ 214).
(2)
في صحيحه رقم (3207، 3887).
(3)
في صحيحه رقم (3207، 3887).
المنتهى كما في صحيح البخاري. وإنما التقسيم للكينونةِ التي يتفرَّع عنها الانتفاعُ.
وقد وقع في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عنه ـ صلي الله عليه وآله سلم ـ في حديث المعراج:«فإذا فيها عينٌ تجري يقال لها السلسبيلُ، فينشقُّ منها نهران: أحدُهما الكوثرُ، والآخر يقال نهرُ الرحمةِ» (1) قال الحافظ في فتح الباري، (2) قلت: فيمكن أن يفسَّر بهما النهرانِ الباطنانِ المذكورانِ في حديث الباب، وكذا روى عن مقاتل قال: الباطنانِ السلسبيلُ والكوثرُ انتهى.
قلتُ: فيما روي [14] عن مقاتل نظرٌ، فإنه ثبت أن الكوثرَ من السلسبيلِ فيكون قد قسم الشيءَ إلى نفسهِ، فالأصح ما ذكره الحافظ رحمه الله.
قوله ـ كثر الله فوائده ـ: ثم صار إلى الجمعِ بأنه لم يثبتْ في سيحانَ وجيحانَ أنهما من الجنةِ ليس لأحدٍ أن يقول ذلك، وكيف يقولُه وقد ورد عن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في حديث صحيح صريحٍ! ولهذا ردَّه شيخان ـ أبقاه الله تعالى ـ وقد صار بعضهم إلى حملها على المجازِ والمرادُ أنها لشدةِ عذوبتِها وكثرةِ منافعِها وبركتِها كأنهار الجنة، أو أن في الجنة أنهارًا تسمَّى بهذه الأسامي، أو أن الإسلام قد طبقَ الأراضي التي هي فيها فالأجسامُ المتعديةُ بها صائرةٌ إلى الجنة، وحملُها على ظاهرِها أولى.
وأما قوله ـ أبقاه الله ـ: والأمر أقربُ من ذاك، ومعنى كلام النبوة أوضحُ. فإن غاية ما يستلزمُهُ كونُ سيحانَ وجيحانَ باطنينِ أن لا يظهر انصبابُهما من نفسِ الجنةِ، بأن يجريا من باطنِها إلى باطن الأرضِ، ثم يظهران حيث ظهرا، فكلامٌ مبنيٌّ على غير أساسٍ لما عرفت من عدم وقوعِه في الحديث أصلاً.
قوله ـ حرس الله ذريته ـ: وكذا جمع من جمع لعدم ظهورِ سيحانَ وجيحانَ على
(1) وهو حديث ضعيف جدًّا.
أخرجه البيهقي في (دلائل النبوة)(2/ 136 ـ 142).
(2)
(7/ 214).
وجه الأرض، وإن كانا من أنهارِ الجنةِ نظرًا منه إلى ما وقع من توصيفهما بكونهما باطنينِ إلى آخره.
هذا إن كان قائلُه من العلماء فهو من أعظم زلَاّتِه، بل لا ينبغي ذِكْرُهُ عنه لوجوه ثلاثة:
الأول: إن قوله بعد ظهور سيحانَ وجيحانِ على وجه الأرض يكذِّبه العقلُ، والنقلُ، والحٍسُّ، ثم أيُّ نفعٍ لهما إذا لم يظهرا على وجه الأرض، وكيف يصيرُ إليه ذو فهم؟
الثاني: إن نظَرَهُ إلى توصيفهما بكونهما باطنينِ قد عرفتَ أن وصفَهما بذلك ليس في الحديثِ، فإما أن يكون غلطًا فاحِشًا أو تساهلاً في أمر الرواية. وإما أن يكون كذبًا على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ، ومَنْ كذب عليه متعمدًا فليتبوأ مقعدَه من النار. (1)
الثالث: إن قوله: وإن كانا من أنهار الجنة عكس ما كان ينبغي أن يقال، لأن حاصله أنهما لا يظهران، وإن كانا من أنهار الجنة مفهومه، وأما لو كانا من أنهار الدنيا فعدم ظهورهما أولى وأحرى، لأن (إن) هاهنا هي التي بمعنى (لو) كما ذكره
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (108)، ومسلم رقم (2/ 2) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من تعمد على كذبًا فليتبوأ مقعده من النار» . ?
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (106)، ومسلم رقم (1/ 1) من حديث على قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا تكذبوا على، فإنه من يكذب على يلج في النار» . ?
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (3/ 3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» . ?
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (1291)، ومسلم رقم (4/ 4) من حديث المغيرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إن كذبًا على ليس ككذب على أحد فمن كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» .
الرَّضيُّ (1) وغيرُه، ومثَّلوا ذلك بقولهم:(زيدٌ وإن كان غنيًّا بخيلٌ)، و (لا تقُم من مقامك وإن أُهِنْتَ) وهذا باطلٌ لأن مقتضى ما في الجنةِ أن لا يظهر على وجهِ الأرض، إلا إذا جاء بدليله، وكان ينبغي أن يقال: لا يظهرانِ وإن كانا من أنهارِ الدنيا التي من شأن ما فيها أن يظهر نظرًا إلى وصفِهما بكونهما باطنينِ
…
إلى آخره.
ويصير مفهومُهُ: وأما لو كانا من أنهار الجنةِ فعدمُ ظهورهما أولى وأحرى، وكل ذلك عرفت ما فيه.
قوله ـ أدام الله علاه ـ وعلى فرض عدم نقلِ ما ذكره صاحبُ القاموس لصاحب الصحاحِ عن غيرِه فهو أهل للاستقراءِ التامِّ، والبحثِ الكامل.
أقول [15]: حاصلُ الوجه الأولِ أن نسبةَ عالمٍ للغلطِ إلى عالم آخر غيرُ مقبولة، ولم يقل بها أحدٌ، ولا تطابقُ قاعدةً من قواعد العلومِ، سيَّما مثل نقل الجوهري: وحاصلُ الوجه الثاني أنه لا يقال للناقل العدْل إن نقلَه باطلٌ أو غلطٌ، حتى ينصبَ البرهانَ الصحيحَ. وهذا هو الحقُّ الحقيقُ بالقبول الذي بنى عليه الفحول، فكيف يصحُّ على هذا الفرضِ المذكورِ أن يقبلَ ما ذكره صاحبُ الصحاح من التغليظِ الصريحٍ، والحكم بالبطلانِ مجرَّدًا عن البرهان! لا يكفي في ذلك كونُه أهلاً للاستقراء التامِّ، والبحث الكامل، فإن الجوهريِّ بهذه المثابةِ، وهو قد بنى أنه إنما ذكر ما هو صحيح عن العرب، ولهذا سمَّى كتابه الصحاحُ، فلا يخلو هذا منافاة لحاصل الوجهينَ المتقدِّمين.
نعم قد يكون الغلط من الجوهري مما يعرفُه كلُّ من له أدنى عرفانٍ، فلا يحتاج مع ذلك إلى برهانٍ، كقوله (2): عرفاتُ موضعٌ. بمنى سمَّيت به، لأن آدمَ وحوَّاءَ تعارَفَا بها وفي ..............................................
(1) انظر: (شرح كافية ابن الحاجب)(4/ 345 ـ 358).
(2)
في (الصحاح)(4/ 1401).
القاموس (1) أنه موقف الحاجِّ، ذلك اليومِ على اثني عشرَ ميلاً من مكةَ، وغلطَ الجوهريُّ في قوله ذلك. وكقوله (2): الأظفورُ جمعُ ظفرٍ، وهو مفرد قطعًا. وأما قبولُ الناس ذلك منه فليسَ على إطلاقه، بل البعضُ يقبلُه جميعهَ، والبعضُ يردُّه جميعَه، ويتأول ما ظهرَ غلطُه مثلَ ما تقدمَّ. والبعضُ في أحرف دونَ أحرفٍ، والله تعالى أعلم.
وقد بلغني أن بعض العلماء المتأخرينَ (وهو المولى العلامةُ عبد القادر بن أحمد) لم يسلِّم من تغليط القاموس للصحاحِِ إلا حرفينِ فقط، ولا أدري ما هما، وقد يكون تغليطُه له في الحرف الأصلي والمزيدِ، ووضعِ الكلمةِ في غير محلِّها من الكتاب كما وقع ذلك في أوله كثيرًا. وهذا أمرٌ مع كونه مرجعِهِ علمَ التصريفِ سهلٌ غيرُ موقِعٍ في خطرٍ غلطِ التفسيرِ على صحَّةِ تسليمهِ. والله تعالى أعلم [16].
(1)(1080).
(2)
(2/ 729).
وقال في (القاموس)(ص556) الظُّفُر: بالضم وبضمتين، وبالكسر شاذٌ يكون للإنسان وغيره. كالأظفور. وقول الجوهري: جمعه أظفورٌ غلط وإنّما هو واحد.
هذا جواب المناقشة السابقة
[17]
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على سيدنا محمد الأمين وآلِه الطاهرينَ.
قال ـ كثر الله فوائده ـ فيه بحثٌ، وهو أنه قد ثبتَ اشتراكُ هذا الاسم
…
إلخ.
أقول: مجردُ الاشتراكِ لا يمنعُ تعيينُ المراد بالقرائنِ، وقد صرَّح بهذا أهلُ الأصول (1) وغيرُهم. وهاهنا قرينتانِ تصلحُ كلُّ واحدة منهما لتعيين المراد:
الأولى: أن الماءَ الذي لبني تميم، والنهرَ الذي حفرَه البرامكةُ لا يقول عاقلٌ فضلاً عن عالم أنّه يصحُّ تفسيرُ سيحانَ الذي هو نهرٌ من أنهار الجنة بأحدِهما، إذ المرادُ بقولهم: ماءٌ لبني فلان أنّه نهرٌ يستقونَ منه دونَ غيرهم كما نراه ونشاهده في الأنهارِ الصغيرةِ المختصَّةِ بأهل قريةٍ دون قريةٍ، وقوم دون قومٍ، ويبعد كلَّ البعد عقلاً وعادةً أن يخصَّ اللهُ بهذا النهر الذي من أنهار الجنةِ فخذًا من أفخاذِ العربِ، وقريةٍ من قراهم دون سائرِ عبادِه، بعد إخبار رسوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بذلك وندائه في الناس أن هذا النهرَ خارج من الجنةِ ينتفع به العبادُ، وتختص به طوائف منهم. وما لماء بني تميم ولهذا، وأين يقع من سيحان الجنة.
وأما النهرُ الذي حفرَه البرامكةُ فكل أحد يعلم أنه لا يصحُّ تفسيرُ ما وقع في لفظ النبوةِ به، وبطلانُ ذلك غيرُ محتاجٍ إلى تطويلٍ، فإن النبيَّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أخبر عن شيء موجودٍ بين ظهراني العبادِ في هذه الأرض، لا عن شيء ستحفره طائفةٌ من مسلمةِ المجوس بعد مائةٍ وسبعينَ سنةً من الهجرةِ، فهذه القرينة الأولى المفيدة لتعيين المشتركِ.
القرينة الثانية: أنه قد تقرر أن صاحبَ النهاية وغيرَهُ ممن يتكلَّم في تفسير الحديثِ
(1) تقدم توضيحه.
عهدَ لهم بيانَ ما وقعَ في الحديث، والاقتصارَ عليه من دون تعرُّضِ لبقيةِ ما يشتركُ مع ذلك لغةً أو عُرْفًا. (1) وهذا معلومٌ من صنيعِهم، فلما اقتصروا على تفسير ما في الحديث لفردٍ من أفراد المشتركِ كان ذلك قرينةً على أنه المرادُ، فما لنا ولكونِ ذلك مشتركًا عند أهل اللغةِ! فليس السؤال إلا عن تعيينِ ما هو المرادُ في لفظ النبوةِ، فلما فسَّره المتكلمونَ على ما وقع في ألفاظِ النبوةِ بشيء معيَّن كان المصيرُ إلى ذلك متعيَّنًا
[18]
. وقد أوضحت هذا في أصل الجواب فقلتُ: ويتعيَّن أن سيحانَ الذي هو نهرٌ من أنهار الجنةِ هو الكائنُ بالشام كما بينه صاحب النهايةِ، (2) وفسَّره بعضُ شراح الحديثِ لا غيرُه مما بيَّنه صاحبُ القاموس، (3) وياقوتٌ، (4) لأنهما بصدد بيانِ المسميَّاتِ بهذا الاسم من غير نظرٍ إلى تخصيصِ ما وردَ عن صاحبِ الشرع
…
إلخ.
قال ـ عافاه الله ـ: فإذا كان وضع هذا الاسم لنهر البصرةِ لغةً من لغة العرب اندفع ما ذكره البلاذري (5) أنه من أوضاعِ البرامكةِ
إلخ.
أقول: هذا مبنيٌّ على أن صاحبَ القاموس لا يذكر في كتابه من الأمكنةِ إلا ما كان موجودً في أيام العرب الأولى، وهو باطل، فإنه يذكر ما حدث من الأبنيةِ ونحوها إلى زمنِه، وذلك معلومٌ من صنيعه.
قال ـ عافاه الله ـ: أقول لا موافقةَ
…
أقول: ما ذكره المجدُ من البينيةِ أما أن تكونَ بحيثُ لا يكون له نسبةٌ إلى الطرفين، أو بحيث يكون له نسبةٌ إليهما، أو يكون من أحدهما فقط، أو يكون بعضُه من هذا الطرف
(1) تقدم توضيحه.
(2)
(2/ 433).
(3)
(ص288).
(4)
في (معجم البلدان)(3/ 294).
(5)
ذكره ياقوت الحموي في (معجم البلدان)(3/ 294).
وبعضهُ من الطرف الآخر.
لا يصحُّ تفسيره بالأولِ لأن أقلَ الأحوالِ أن يكون مجاورًا للطرف ومتصلاً به، وهذه نسبة مصححةٌ لما ذكره
…
والثاني يصحُّ التفسير به بمجرَّد كونِه منسوبًا إلى كلِّ واحد منهما بأي وجهٍ من وجوه النسبة
…
والثالثُ يتوقَّف على النقلِ أنه أرادَه ولا نقلَ. والرابعُ
…
يصحُّ التفسيرُ به وما كان بعضُه من الشام صحَّ أن يقال أنه من الشامِ ولو مجازًا، ثم قدمنا في ذلك الجوابَ أن ياقوتَ بنَ عبد الله الروميَّ قال بالقربِ منه نهرٌ يقال له جيحانُ، فالاتفاقُ الذي أشرنا إليه هو من هذه الحيثيةِ، فإن لفظ القربِ لا ينافي لفظ البينيةِ التي ذكرها المجدُ.
قال ـ عافاه الله ـ: أقول: تبايُنُ الكلامينِ ظاهرِ
أقول: إن كان التبايُنُ من جهة اختلافِ خوارزمَ وبلخٍ، وأنهما في مكانين، وإن جمعتهما ولاية، وشملَهما إقليمٌ فقد وجد الجامعُ بين الكلامينِ، وهو أن النَّهر المذكور يمرُّ بكل واحد منهما كما ذكرتُه عن كتاب المسالكِ والممالكِ، فالاتفاقُ بين الكلامينِ من هذه الحيثيةِ لا من حيثُ إنه يجمعُهما بقعةٌ واحدة من الأرضِ، وما ذكرتُه من أن كلَّ واحد منهما من خراسانَ بيانٌ جامعٌ آخر غيرُ الجامعِ الذي هو مجاورةُ النهر لكل واحد منهما، ومرورهُ بهما، فقد اشتركها في أمرين: المرورُ لكل واحد منهما، وإطلاقُ اسمِ واحدٍ عليهما يشملُهما، وإن كان النزاعُ في كون خوارزمَ من خراسانَ فليرجعْ ـ عافاه الله ـ إلى البحث عن تحقيق هذه الدعوى حتى يجد البرهانَ عليها في الكتب الموضوعةِ بهذا الشأن كالمعجمِ ونحوِه.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: فعلى هذا هو غيرُ منصرفٍ
…
إلخ.
أقول: هكذا هو [19] عند من جزم بأنه أعجميٌّ، وأما من جعله عربيًّا وتعرُّض لأصلهِ وقال: هو من جَحَنَ، وعلى ذلك يدلُّ صنيعُ صاحبِ القاموس وغيرِه فإنه يجعلُه عربيًّا، ويكون لكتبه بالألفِ فائدةٌ وهي الدلالةُ على أصوله وصرفِه، لعدم العجمةِ والأمرُ أوضحُ من أن يخْفَى.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: وظن شيخُنا
…
إلخ.
أقول: لا أدري من أين استفادَ هذا الظنَّ فالكلامُ منقول عن الغير كما يفيدُه قولي في آخره
…
انتهى.
قال ـ عافاه الله ـ أقول بل قد عينَه النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بصريح قولِه: «سيحانَ وجيحانَ» .
أقول: فرقٌ بين تسميةِ الشيء وتعيينِ مكانهِ، فالأول وقع من النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في سيحان وجيحانَ. والثاني: وقع من المفسرين لكلامِه، فقالوا: إنه في مكان كذا فهذا هو المرادُ بالتعيين، فكيف قال قد عيَّنه النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ! ولا شكَّ أن التعيينَ المرادَ هنا هو أخصُّ من التعيين الحاصلِ بالاسم، وهذا لا يخفى علي مثلِه ـ زاد الله في أهل العلم من أمثاله ـ فإن المشخصاتِ قد تكون بحيثُ تفيدُ تعيينًا ما أعنى بوجهٍ من الوجوه وقد تكون بحيثُ تقيدُ تعيينًا لكل وجه، وقد تكون بحيث يفيد بعضُها ما لا يفيده الآخرُ، ولكل منها مدخلٌ في التشخيص
…
قال ـ كثر الله فوائده ـ: أقول لا معارضةَ
…
إلخ.
أقول: قد أطال ـ عافاه الله ـ والكلام مع من زعم المعارضةَ وقد دفعتُه وأجبتُ عنه وزيَّفتْهُ فلم يبقَ للكلامِ على ذلك مدخلٌ إلا مجرَّدَ الإيضاحِ لما أوردتُه
…
قال ـ عافاه الله ـ: هذا ليس في الحديث
…
أقول: نعم لم يكن ذلك في الحديث لكنَّه وقع في كلامَ مَنْ زعم التعارُضَ فأوردناه كما أوردَه، وحكيناه عن قائلِه، فليس هاهنا ما يوجب العجبَ، فقد أسندنا القولَ إلى قائلِه، وتعرَّضنا لتأويلِه ودفْعِه. ومع هذا فتوصيفُ نهرينِ من الأربعةِ بالظهور يفيدُ توصيفَ النهرينِ الآخرينِ بما يقابلُه، وهو كونُهما باطنينِ، فما وقع في تلك الحكايةِ من قول المحكيِّ عنه، وأما الباطنانِ فسيحانُ وجيحانُ هو مستفادٌ من كلام النبوةِ، وإن لم يكن منطوقًا به من النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فانتفي سببُ العجبِ فضلاً عن
كل العجبِ الذي ذكره ـ عافاه الله ـ بقوله: والعجبُ كلَّ العجبِ وانتفاؤُه من وجهينِ:
الأول: إن الكلامَ محكيٌّ عن الغير.
الثاني: أنه مستفادٌ من كلام النبوة.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: ليس لأحد أن يقولَ ذلك
…
أقول: هكذا هو، ولكن الكلامَ الباطلَ لا بدَّ من دفْعِهِ بما يقبلُهُ السامعُ، لا بمجرَّد الدَّعوى بأنه باطلٌ، فإن ذلك لا يفيدُ من قصَّر عن تعقُّل الحججِ وترتيبِ المقدماتِ الموصلةِ إلى البرهانِ، فلهذا [20] تعرَّضنا لدفعهِ.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: وكلامُهُ مبنيٌّ على غير أساسٍ.
أقول: إن كان دفعُ الكلام الباطلِ يحتاجُ إلى أن يكون الكلامُ المدفوعُ الباطلُ أساسٌ كان ذلك قادِحًا في دعوى بُطْلانِه. وقد قدمنا أنَّ كلامنا مع من قال هذه المقالة وأوضحنا بطلانها وقدمنا الجمع على الترجيحِ كما يصنعُه أهلُ العلم، فعلى فرض صحةِ ما زعَمَهُ الزاعمُ قد حملنا على وجهٍ لا ينافي ما أردْناه، وعلى فرضِ عدمِ صحَّتهِ فلا يضرُّنا ولا يقدحُ فيما نحن بصددِه، فكيف يقالُ في التعرض للكلامِ على كلام باطل أنه مبنيٌّ على غير أساسٍ: فإن كان المرادُ بالأساس المذكورِ أساسَ الدفع في نفسه فالمجيب عافاه الله لا ينكر أنه مبني على أساس صحيح، وإن المراد أساسَ الكلامِ المدفوعِ فنفي أساسه لا يعترضُ به على منِ اعترضَ، أو حملَه على غير ما يقدحُ في الكلام الصحيحِ، وعلى كل حال فاستفادتُه من كلام النبوة كما قدمنا أساسٌ، وأيُّ أساس! فالقولُ بأنه مبنيٌّ على غير أساس.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: بل لا ينبغي ذكرُهُ عنه.
أقول: إذا كان هذا القائلُ متمسِّكًا بمفهوم الحديث حسبما ذكرناه سابقًا من دلالة ظهور بعض المعدودِ فيه على كمونِ البعض الآخَرَِ، ثم أخذ هذا القائلُ بما يفيدُه المفهومُ،
وبني على ظاهره فكيف يقال إن هذا قول لا ينبغي ذكره! وقد ذكر أهل العلم ما هو ضد للأدلة الشرعية ودفعوه، فكيف مما يزعم قائله أنه مأخوذ من كلام الشارع! ومع هذا فقد وقع التعرض لدفعه في الجواب بما لا يحتاج معه إلى زيادة، فكيف يعترض ـ عافاه الله ـ على حكاية كلام قد تعرض الحاكي له لدفعه، فإنه لو لم يكن من فوائد حكايته لذلك القول الباطل إلا مجرد دفعه ورده وبيان بطلانه فهل جرت عادة أهل العلم بإنكار دفع الأقوال الباطلة والضعيفة على دافعها؟
وأما الوجوه الثلاثة التي ذكرها فلا يخفي أنه يقدح في الأول ما وقع للسائل ـ عافاه الله ـ نفسه من طلب تعيين مكان ما دل عليه الحديث، وصرح به بأنه من أنهار الجنة، والمناقضة لما ذكره المفسرون للسنة من تعيين مكان ما ورد في لفظ الشارع، فكيف يقال مع هذا أنه يكذبه العقل والنقل والحس! فليتدبر السائل.
وأما قوله: ثم أي نفع لهما
…
إلخ
[21]
؟ فقد صرح المجيب بمثل هذا، وحرره في الجواب، وأما ما ذكره في الوجه الثاني فقد قدمنا أنه دل عليه كلام الشارع بالمفهوم (1) فليس بكذب على رسول الله ـ صلي الله
(1) المفهوم: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق: أي يكون حكمًا لغير المذكور وحالاً من أحواله. وينقسم إلى قسمين:
مفهوم الموافقة: حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب. ومثاله: كدلالة تحريم التأفف على تحريم التأفف على تحريم الضرب لأنه أشد فتحريم الضرب من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]. من باب التنبيه بالأدنى وهوالتأفيف ـ على الأعلى، وهو الضرب. ?
وإن كان مساويًا له فيسمى لحن الخطاب ومثاله: تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، فالإحراق مساو للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين.
انظر: (الكوكب المنير)(3/ 482)، (إرشاد الفحول)(ص589).
عليه وآله وسلم ـ من قائله، ومع هذا فنحن نعترفُ بفساد ما جاء به ذلك القائلُ، وقد دفعنا بما لا يحتاجُ إلى زيادة، ولكن الشأنَ في إنكار حكايتِه على الحاكي المتعرِّضِ لدفعِه وإطالة ذيل الكلام في ذلك بما لا طائل تحته.
وأما الوجه الثالث فلا أزيد الناظر على إحالته على النظرِ في هذه المناقشةِ وعلى السائلِ ـ عافاه الله ـ أن يقدِّمَ قبل هذه المناقشةِ تقريرَ محلِّ هذه الجملةِ من الإعراب حتى يعرفَ وقوعَها موقعَها على وجهٍ لا يلزم عنه ما ألزم به من الاستدلالِ بالمفهومِ الذي ذكره ثم لو كان لما ذكره وجهُ صحَّةٍ من الأخذ بالمفهومِ لم يكن له وجهٌ فيما نحن بصدده، فإن الشيءَ الواردَ من الجنة إلى الدنيا سواءٌ كانت في محلٍّ مرتفعٍ على الدنيا أو مساوٍ لها في السمتِ يكون ظهُورُهُ على وجه الأرضِ وانكشافُهُ للعَيَانِ أولى مما هو من نفس الأرض، فإنه لا يكون منبعُه إلا من مكان منخفضٍ منها، ولا شك في ذلك، فإن جميعَ أنهار الدنيا منبعُها من بطن الأرض. وقد أرشد إلى ذلك قوله تعالى:{فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} (1) وبعد هذا كلَّه فالكلامُ المعترضُ عليه هو من كلام المحكي عنه المتعقَّبِ بالدفع.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: فلا يخلو هذا من منافاة لحاصلِ الوجهينِ المتقدمينِ.
أقول: حاصل ما ذكرتُه في الجواب المحرَّر في تلك الوجوهِ الأربعةِ هو أنه لا تقبلُ نسبةُ الغلطِ للناقلِ الثقةِ بمجرَّد الدعوى، بل يطلب من الناقل تصحيحُ النقل على الصفةِ التي ذكرتُها في الجواب من قبول ما برهن عليه الناقلُ بالنقل، والتوقُّفِ فيما لم يبرهنْ عليه إلا أن يوجدَ المصحِّحُ لنسبةِ الغلطِ بمثل ما ذكرتُه هنالك، ثم ذكرتُ استثناءَ حروف مما نقله صاحبُ الصحاحِ قد تكلَّم عليها أهلُ العلم فنقلَ ذلك عنهم صاحبُ القاموس مجرَّدًا عن البرهانِ، اكتفاءً بما وقع من البرهان فيما نقل عنه من كتب اللغةِ.
وهذا حاصلُ الثلاثة الوجوهِ الأولى، ثم ذكرتُ في الوجهِ الرابعِ محلَّ الإشكال ومنشأَ السؤالِ، وهو ما تعقَّبه صاحب القاموس على صاحب الصحاحِ من دون وجود ما
(1)[الزمر: 21].
يقتضي تصحيحَ ما نقلَه الجوهريُّ، ولا وجودِ برهان لما نسبه صاحبُ القاموس إليه [22] من الغلطِ في نفس الكتابينِ، ثم ذكرت أن الناظر في الكتابينِ إن تمكن من البحث في غير الكتابين المفضي إلى وجودِ برهان يقتضي تصحيحَ ما نقلَه الجوهري فقد تعيَّن عليه العملُ بما وجده من تصحيحِ الروايةِ، وعدمِ التعويلِ على من نقل الغلطَ، وإن تمكَّن من الوقوفِ على ما هو برهانٌ للتغليظ كان عليه الجزمُ به وإن لم نقفْ في الكتابينِ، ولا في غيرهما على برهان يصححُ النقل، أو يوضِّحُ الغلطَ، وجبَ عليه التوقُّفُ في ذلك الحرف، لأن إمامةَ ناقلِه التي هي كالقرينةِ على صحةِ ما نقلَه قد عُورِضَتْ بإمامة من خالفه في ذلك الحرفِ، فإنها كالقرينة على صحة ما نسبهُ من الغلط، فكان المقامُ مقامَ توقُّفٍ بين الإمامينِ، والموضعُ موضعُ حيرةٍ عن التخلُّص من البينِ. ولا معارضةَ بين ما ذكرناه في هذا الوجهِ الرابعِ من ذلك الجوابِ، وبين ما ذكره في الوجه الأول منه بوجهين:
الأول: إن نفي قبولِ التغليط الذي صرَّحنا به في الوجه الأول هو فيما كان منه مجرَّدًا ليس فيه إلا دعوى بحتةٍ، وما ذكرناه في الوجه الرابع هو حيثُ اقترنَ بذلك من إمامة الناقل وثقتِه ما يكون كالقرينة المقتضية لتصحيح ما قاله.
الوجه الثاني: إن ما ذكرناه في الوجهِ الأولِ من الوجوه الأربعةِ هو عدمُ قبول التغليطِ المجرد، وما ذكرناه من التوقُّف في الوجهِ الرابعِ غيرُ منافٍ لعدم القبولِ، لأن قبول تغليطِ صاحب القاموس يستلزمُ الجزمَ بما جزم به من الغلط بخلافِ مجرَّد التوقُّفِ، فإنه لا قبولَ فيه بل حيَّرهُ بين ما وقع في كلامِ الإمامينِ، فلا منافاةَ بين عدم القبولِ جزمًا، وبين مجرَّدِ التوقُّف لا بمطابقةِ، ولا تضمُّنٍ، ولا التزامٍ، فعرفتَ بها عدمَ صحة ما زعمه السائل ـ عافاه الله ـ من المنافاة، بل الوجوهُ متعاضدةٌ والكلامُ متناسقٌ.
قال ـ كثر الله فوائده ـ: نعم قد يكون الغلطُ من الجوهري بما يعرفه كل من له أدنى عرفانٍ فلا يحتاج مع ذلك إلى برهان
…
إلخ.
أقول: هذا الذي يعرفُه من له أدنى عرفانٍ هو من البرهانِ بأعلى مكان [23] فإنّا لم نخصَّ البرهانَ بما يجده الناظرُ في كتب اللغة، أو يسمعه من الرواة بالسند المتصل، بل
أطلقنا البرهانَ فتناولَ ما ذكره تناولاً أوليًا، لأن معرفة كل من له أدنى عرفانٍ لذلك، يدلُّ علي أنه من الظهور بمكانٍ مكينٍ، إما لكون المنقول يخالفُ ما يشهدُ به الحسُّ، أو كونِه مخالفًا لما عند العرب مخالفةً يشتركُ في معرفتها المقصِّر والكاملُ، فكيف قال ـ كثر الله فوائده ـ: إن ما كان كذلك لا يحتاجُ إلى برهان، وأيُّ برهان أقوى من ذلك البرهان!
قال ـ كثر الله فوائده ـ: وقد بلغني أن بعضَ العلماء المتأخرينَ لم يسَمْ من تغليط القاموسِ للصحاحِ إلا حرفين فقط.
اقول: إن كان هذا البعضُ متأهلاً للكشفِ من أهل الاستعدادِ للحكم بين هذين الإمامينِ، فَنِعْمَ ما فعل، وحبَّذا ما صنع، وعلينا أن ننظر كنظرهِ ونكشف مثل كشْفِه حتى نوافقَه فيما قال، أو نخالفه، وليس لنا أن ندفعَ ما يقوله صاحب القاموس بمجرد ذلك، وعندي في هذا المنقول عن ذلك البعض وِقفةٌ، فإنذَ الصنعاني (1) وهو الإمام الذي لم يأت بعده من يماثُله استدرك كثيرًا مما في كتاب الصحاح، وكذلك ياقوتٌ نقل على الصحاح في حواشيه من التغليطاتِ ما يكثُر تعدادُه، فعلى الطالب للوقوف على الصواب في مثل هذا أن ينظر فيما ذكرناه، فإن لم يجد ذلك فليس له منزلٌ ينزله إلا منزل الحيرة التي أرشدنا إليها
…
أرشدنا الله إلى ما يرضيه آمين.
(1) هو محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الأمير الحسني اليمني الكحلاني المولد الصنعاني النشأة والوفاة مولده سنة 1099هـ. توفي سنة 1182هـ.
انظر: (البدر الطالع)(2/ 139). وقد تقدم.
وانظر: الرسالة رقم (135) من عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير جواب وسؤال للأمير عن قول ابن الوزير:
لمجد الدين في القاموس مجد
…
وفخر لا يوازيه موازي
وانظر: (المزهر في علوم اللغة وأنواعها) للسيوطي (1/ 97 ـ 99، 110).