المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب ما يقول إذا استيقظ في الليل وخرج من بيته - الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية - جـ ١

[ابن علان]

الفصل: ‌باب ما يقول إذا استيقظ في الليل وخرج من بيته

عبادِ اللهِ الصالِحِينَ".

‌باب ما يقول إذا استيقظ في الليل وخرج من بيته

يستحبُّ له إذا استيقظ من الليل وخرج من بيته أن ينظر إلى السماء ويقرأ الآيات الخواتم

ــ

المبهم أي الراوي له عن ابن عمر وقال وقد وجدت له شاهدًا من حديث عبد الرحمن بن عوف أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ومسنده جميعًا عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا فرغ من طعامه "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا الحمد لله الذي كفانا وآوانا الحمد لله الذي أنعم علينا فأفضل نسأله أن يجيرنا من النار فرب غير مكفي لا يجد مأوى ولا منقلبا" وفي إسناده مبهم جاء من طريق آخر في محله ابن أبي نجيح قال الحافظ فإن كان هو المبهم في السند فالحديث حسن وإن ضعف ابن أبي ليلى وتكلم في سماع أبي سلمة من أبيه عبد الرحمن فيجبر ذلك بمجيء الحديث الذي قبله وسيأتي له من حديث أنس أصل صحيح في أبواب الأطعمة اهـ. وقوله: (عِبادِ الله الصالحِينَ) سبق إن عباد جمع عبد ومعنى العبد وباقي جموعه والصالح القائم بحقوق الله تعالى وحقوق عباده.

باب ما يقول إذا استيقظ في الليل وخرج من بيته

قوله: (أَنْ يَنْظُرَ إلى السماءِ) أي نظر تفكر في عجائب الملكوت ليستغرق في عالم الجبروت والرحموت حتى يفاض عليه من خزائنهما وما قيل بكراهة النظر إلى السماء مردود بأن الأحادبث جاءت بخلافه وسيأتي في الأدعية المتفرقة باب لذلك إن شاء الله تعالى. قوله: (ويقرأ الآياتِ الخَوَاتيمَ) هو بالياء في نسخة مصححة وبحذفها في أصل مصحح مقروء على ابن العماد الأقفهسي وغيره وهو بالنصب جمع ختام بمعنى الختم لا جمع خاتم كما توهمه بعض وإلَّا لم يكن للياء قبل الآخر وجه

ص: 356

من سورة آل عمران ({إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى آخر السورة.

ــ

ولوجب تركها كما في النسخة الثانية. قوله: (مِنْ سُورَةِ آلِ عِمرانَ) عبر الصحابي بهذا اللفظ كما في الصحيحين ويؤخذ منه جواز سورة البقرة وسورة آل عمران وكرهه بعض المتقدمين وقال إنما يقال السورة التي يذكر فيها البقرة والصواب الأول وبه قال عامة العلماء والسلف والخلف وتظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة وقوله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190] إلى آخر السورة بيان للآيات أو بدل منها، وتقدم بعض فوائد متعلقة بالآية في الفصول. ونذكر هنا بعضًا آخر "منها" ما قيل وجه ذكر أولي الألباب في آية آل عمران بعد آيتين وذكر العقل في آية البقرة بعد ثمان آيات مع إن العقل أعم واللب أخص والمعارف تزداد بزيادة المشاهدة إن كثرة الأدلة إنما يحتاج إليها في الابتداء حتى يقوى اليقين فناسب ختم آيتها بمطلق العقل وأما في الانتهاء فالشهود الأعظم حاصل بنظر أي دليل كان لوجود الجمع الأكبر المنافي لكثرة التعدد فناسب ختمها بأولي الألباب وكأن هذا هو حكمة إيثاره صلى الله عليه وسلم قراءة هذه الآية على تلك مع ما اشتملت عليه من دوام الذكر الذي هو أعظم أسباب الوصول وعجائب الفكر وحقائق الخضوع والاعتراف بالتقصير وجوامع الدعاء والتشفع بالرسل المقرون بالإجابة ومدح المطيعين وذم غيرهم والأمر بالصبر وما صاحبه الذي لا يطيقه إلَّا الكمل "ومنها" ما في الكشاف عن ابن عمر قلت لعائشة رضي الله عنها أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وأطالت ثم قالت كل أمره عجيب أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال يا عائشة أتأذنيني الليلة في عبادة ربي فقلت يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك وما تهواه من العبادة فأذنت له فقام إلى قربة ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى

ص: 357

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذن بصلاة الغداة فراه يبكي فقال يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ثم قال وما لي لا أبكي وقد أنزل الله علي في هذه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] إلى قوله: {فَقِنَا عَذابَ النَّارِ} ثم قال صلى الله عليه وسلم ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، وروي ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها، وحكي أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة فعبد الله فتى من فتيانهم فلم تظله سحابة فقالت له أمه لعل فرطة فرطت منك في مدتك فقال ما ذكرت شيئًا قالت لعلك نظرت

مرة إلى السماء فلم تعتبر قال لعل ذلك قالت فما أوتيت إلا من ذلك، وعن سفيان الثوري أنه صلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء فلما رأى الكواكب غشي عليه وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته.

وفي النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بينما رجل مستلق في فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لك ربًّا وخالقًا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له فقال صلى الله عليه وسلم لا عبادة كالتفكر، وقيل الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة.

وقد روي أن يونس عليه السلام كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض اهـ، أما في الكشاف باختصار وفي شرح رسالة ابن أبي زيد المالكي لداود قال ابن عباس وأبو الدرداء فكرة ساعة خير من فيام ليلة وقال سري السقطي فكرة ساعة خير من عبادة سنة ما هو إلَّا إن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الجنة وقال صلى الله عليه وسلم تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا

ص: 358

ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله، إلا النظر إلى السماء، فهو في "صحيح البخاري" دون "مسلم".

وثبت في الصحيحين، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل

ــ

تقدرون قدره اهـ.

قوله: (ثبتَ في الصحيحينِ) أي من حديث ابن عباس. قوله: (كان يفعلهُ) قال المصنف في شرح مسلم فيه جواز القراءة للمحدث وهذا إجماع من المسلمين وإنما تحرم القراءة على الجنب والحائض وفيه استحباب قراءة هذه الآيات عند القيام من النوم. قوله: (إلا النظَر إلخ) أحسن المصنف في التنبيه إن ذلك من أفراد البخاري وقد تساهل صاحب المشكاة فعزا تخريج الحديث بجملته إلى الصحيحين وقال متفق عليه وكذا صاحب السلاح فعزا تخريجه إلى الستة ما عدا الترمذي لكن قال الحافظ إن النظر إلى السماء ثبت عند مسلم أيضًا وسبب خفائه على الشيخ إن مسلما جمع طرق الحديث كعادته وساقها في كتاب الصلاة ثلاثة وأفرد طريقًا منها في كتاب الطهارة وهي التي وقع عنده فيها التصريح بالنظر إلى السماء وقع ذلك في طريقين آخرين مما ساقه في كتاب الصلاة لكنه اقتصر في كل منهما على بعض المتن فلم يقع عنده التقييد يكون ذلك عند الخروج من البيت وليس في شيء من طرق الثلاثة التي أشرت إليها -أي فيما تقدم من كلامه- التصريح بالقراءة إلى آخر السورة إنما ورد ذلك في طريق أخرى ليس فيها النظر إلى السماء لكن الحديث في نفس الأمر واحد فذكر بعض الرواة ما لم يذكر بعض كل ثم قال بعد سياق روايات مسلم فتبين بهذه الروايات ما ذكرته أولًا مفصلًا وإن النظر إلى السماء ثابت عند مسلم صريحًا وحوالة والله أعلم اهـ.

قوله: (وثبتَ في الصحيحين) وكذا رواه باقي الستة كما في السلاح وفيه أيضًا زاد

ص: 359

يتهجد قال: "اللهم لكَ الحَمْدُ،

ــ

البخاري في بعض طرقه في أوله اللهم ربنا لك الحمد وبعد قوله وما أعلنت وما أنت أعلم به مني وفي رواية مسلم

وبعض روايات البخاري أنت الهي لا إله إلَّا أنت ورواه أبو عوانة في مسنده الصحيح وزاد بعد وإليك حاكمت أنت ربنا وإليك المصير اهـ. وقال الحافظ بعد تخريجه بنحو ما ذكره الشيخ حديث صحيح أخرجه أحمد والشيخان والنسائي وأخرجه الطبراني في كتاب الدعاء بخلافه في آخره وهو كذلك عند الشيخين من طريق أخرى اهـ، بمعناه. قوله:(يتهجدُ) من التهجد وهي اسم لدفع النوم بالتكلف والهجود هو النوم يقال هجد إذا نام وتهجد إذا أزال النوم كما يقال حرج إذا إثم وتحرج إذا تورع من الإثم وقيل أنه من الأضداد يقال تهجدت إذا سهرت وتهجدت إذا نمت كذا في السلاح وعلى الأول كون تهجد بمعنى أزال الهجود كتحرج وتأثم أي أزال الحرج والإثم ثم يقوي بحثه الكرماني في أول شرح البخاري في قول الخطابي لم يأت تفعل بهذا المعنى إلَّا في تحنث وتحوب وتأثم أي ألقى الحوب والإثم عن نفسه قال وليس في كلامهم تفعل بهذا المعنى غير هذه اهـ، من قوله هذه شهادة نفي وكيف وقد ثبت في الكتب الصرفية إن باب تفعل يجيء للتجنب كثيرًا، نحو تحرج وتخون أي اجتنب الحرج والخيانة وغير ذلك اهـ، وفي التوشيح للسيوطي وقيل التهجد السهر بعد نوم وقيل صلاة الليل خاصة اهـ، والتهجد شرعًا صلاة نفل بليل بعد النوم والأصح إن بينه وبين الوتر عمومًا وخصوصًا وجهان فيجتمعان فيما إذا صلاها بعد نوم والصحيح أيضًا كما صححه المصنف إن نسخ وجوب التهجد عام في حقه صلى الله عليه وسلم وحق غيره. قوله:(لكَ الحمدُ) قدم الظرف لإفادة الحصر والاختصاص

ص: 360

أنتَ قيِّمُ السمواتِ والأرضِ

ــ

وفي الحمد للاستغراق أو للجنس أو للعهد واختار الزمخشري الثاني ومنع الأول ولم يبين وجهه قيل ولعله إن القصد بالجملة إنشاء الحمد لا الإخبار به وهذا مانع من كونها للاستغراق إذ لا يمكن العبد إنشاء جميع المحامد منه ومن غيره وفي أول المطول للسند التفتازاني تحقيق ذلك فراجعه، وقال العارف بالله أبو العباس المرسي قلت لابن النحاس النحوي ما تقول في ال في الحمد أجنسية أم عهدية فقال يا سيدي قالوا إنها جنسية فقلت الذي أقول أنها عهدية وذلك إن الله تعالى لما علم عجز خلقه عن كنه حمده حمد نفسه بنفسه في أزله نيابة عن خلقه قبل أن يحمدوه فقال يا سيدي أشهدك أنها عهدية كذا في إيضاح السالك على المشهور من مذهب مالك للشيخ داود واللام في لك للاستحقاق لاستحقاقه تعالى الحمد من الخلق لذاته وإن انتقم والحمد أي الثناء بكل جميل يليق بك أي لك الحمد أولًا على ما أنعمت به علي من التوفيق لطاعتك والشهود لمعارفك لا سيما أوقات تجليك وسعة تفضلك. قوله:(أَنت قيم السمواتِ والأَرْضِ إلخ) وفي نسخة قيوم وأتى بالجملة كالتعليل للحصر في الجملة قبله ووجه المناسبة مما أشير إليه من قولًا: (على ما أنعمت إلخ) وما ذكر هنا جار فيما يأتي أيضًا وقيم مبالغة قائم قال المصنف في شرح مسلم بعد أن أورد القيام من جملة روايات مسلم قال العلماء من صفته القيام والقيم كما صرح به الحديث والقيوم بنص القرآن ومنه قوله: ({أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} [الرعد: 33] قال الهروي ويقال قوام قال ابن عباس القيوم الذي لا يزول وقال غيره هو القائم على كل شيء ومعناه مدبر أمر خلقه وهما سائغان في تفسير الآية والحديث اهـ. وفي تفسير الواحدي قال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وتأويله أنه قائم بتدير أمر الخلق في إنشائهم وإرزاقهم وقال الضحاك القيوم الدائم الوجود وقال أبو عبيدة هو

الذي لا يزول لاستقامة وصفه بالوجود

ص: 361

ومَنْ فيهِنَّ، ولكَ الحَمْدُ، لكَ مُلْكُ السماواتِ وَالأرضِ ومَنْ فِيهِنَّ، ولكَ الحَمْدُ

ــ

حيث لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه اهـ، وهي قريبة مما نقله المصنف وفي زاد المسير في القيوم ثلاث لغات القيوم وهي قراءة الجمهور والقيام وبه قرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن أبي عيلة والأعمش والقيم وبه قرأ رزين وعلقمة كذلك في مصحف ابن مسعود وأصل القيوم قيووم فلما اجتمعت الواو والياء والسابق ساكن جعلتا ياء مشددة وأصل القيام قيوام.

تنبيه

وقع في نسخة السيد صديق الأهدل قيوم السموات والأرض وكتب على الهامش إن الحديث كذا ساقه مسلم في صحيحه إلا قيوم فإن فيه قيام وقيم فحسب والذي في الكتاب لفظ البخاري وهو الواقع في أكثر النسخ اهـ، وكونه أكثر النسخ كذلك ممنوع فيما وقفت عليه من الأصول المصححة والذي فيها قيم وهو المروي فيها. قوله:(ومَنْ فيهِنَّ) غلب فيه العقلاء على غيرهم لشرفهم وقد يعكس لغلبة أولئك. قوله: (ولَكَ الحمدُ) أي لك الحمد ثانيًا على ما مننت به من دوام الإنعام والإمداد خصوصًا بما خصصت به أرباب الاختصاص والإسعاف والإسعاد من نور الهداية والعرفان المذكور أثره في البيان وكرر الحمد ثالثا. بقوله: (ولَكَ الحمدُ أنتَ مُلْكُ السمواتِ إلخ) نظرًا إلى ما مَنَّ به مشهود معالم القهر وخوارق الملك والملكوت أي لك الحمد على ما مننت به من إشهادنا معالم قهرك وملكك وخوارق ملكوتك ثم في الأصول المصححة من الأذكار "لك ملك السموات والأرض" وفي المشكاة وفي بعض نسخ الأذكار أنت ملك السموات والأرض والظاهر إن الجملة على الروايتين كالتعليل لما تضمنت الجملة قبله من الحصر، ورابعًا نظرًا إلى ما مَنَّ به من إشهاد فناء ما سواه

ص: 362

أنتَ نورُ السمواتِ والأرْضِ

ــ

وأنه لا باقي إلا وجهه. بقوله: (أَنتَ الحق إلخ) ومنتهاه وهذا هو المقصود للسالك وبه ينال أشرف الخصال ويقبل على مولاه ذي الجلال ويكتسب بذلك أشرف الخلال. قوله: (أَنتَ نور السمواتِ والأَرض) قال المصنف في شرح مسلم قال العلماء معناه منورهما أي خالق نورهما "قلت" وفي شرح المشكاة لابن حجر أي منورهما بما أوجدت فيهما من الآيات الدالة على باهر قدرتك وظاهر عظمتك ليستدل بها الحائرون ويسترشد بها المرشدون أي سواء كانت تلك الآيات حسية كالأجرام النيرة أو معنوية كاللطائف المذكورة من العقل والحواس الظاهرة والباطنة وفسر ابن عباس النور في قوله تعالى: ({اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] بالهادي وفيه استعارة الهداية للسموات والأرض أي جاعلهما محل الهداية لكونهما نصبتا دلائل على وحدانيته واتصافه بأوصاف الكمال وتنزهه من سمات النقص ونظيره قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لَا الهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] أي أقام الأدلة على وحدانيته ناطقة بالشهادة له بها وبهذا مع ما هو مقرر من أن العطف كثيرًا ما يكون للتفسير رد قول من قال تفسير النور بالهادي أي في خبر مسلم هذا فيه نظر لإضافتة للسموات والأرض المانع لصحته إلا بتأويل بعيد لا حاجة إليه بل بدفعه عطف ومن فيهن على ما قبله لإشعار العطف بالمغايرة اهـ، هذا كله إن فسرت الهداية بما يقابل الضلال فإن فسرت بالدلالة والإرشاد فلا توقف في صحته لأن كلا من المخلوقين يهتدون بما فطرهم الله عليه إلى منافعهم

قال تعالى: ({قَال رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] أي أعطى كل حيوان نظيره ليسكن إليه حتى يحصل التوالد ثم هدى أي أرشد كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل إليه فرجع المعنى إلى الله هادي ذوي العلم وغيرهم كلا بما يليق بحاله ويناسبه من عبادة أو غيرها ({وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ

ص: 363

وَمَنْ فيهِنَّ، ولكَ الحَمْدُ

ــ

تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] اهـ، كلام شرح المشكاة قال المصنف وقال أبو عبيدة معناه بنورك يهتدي أهل السموات والأرض وقال الخطابي في تفسير اسمه سبحانه وتعالى النور معناه الذي بنوره يبصر ذو العماية وبهدايته يرشد ذو الغواية قال ومنه ({اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] أي منه نورهما قال ويحتمل إن يكون معناه ذو النور ولا يصح أن يكون النور صفة ذات الله وإنما هو صفة فعل أي هو خالقه وقال غيره معنى النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] مدبر شمسها وقمرها ونجومها اهـ. وفي التوشيح للسيوطي وقيل المعنى أنت المنزه عن كل عيب وقيل هو اسم مدح يقال فلان نور البلد أي مزينه اهـ. "فإن قيل" يشكل على صرف النور عن ظاهره فيما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل هل رأيت ربك قال نور أنى أراه "قلنا" صرفه عن ظاهره لكونه من صفات الأجرام المحالة على الباري لاستلزامها الحدوث واجب بالإجماع وبضرورة العقل ومعنى نور أنى أراه أي نور باهر للعقل حجبني عن رؤيته فكيف أراه مع ذلك والخبر صريح فيه إذ النور من شأنه أنه يرى فكيف يستبعد رؤيته فتعين إن المراد إن النور حجبه عن رؤيته تعالى لا إن الحق نور تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا قيل ولعل هذا الخبر كان أولًا أو أخبر به من لم يتأهل لفهم الأخبار بالرؤية وإلا فالذي صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين بصره بأن أعطاه في الدنيا القوة التي كان يعطيها للمؤمنين المناسبة لخلقهم للبقاء حتى يروه بأبصارهم من غير تكييف ولا إحاطة وبما تقرر علم إن من جملة أسمائه تعالى النور وإن حكمة تسميته به ما اختص به تعالى من إشراق نور الجلال وسبحات العظمة التي تضمحل الأنوار الحسية دونها وهو بهذا المعنى لا يشاركه فيه أحد من خلقه. قوله: (ومن فيهنَّ) أي ونور من فيهن أي موجدهم أو نور من فيهن لاستضاءتهم بنورك المكنى به عما يفاض منك عليهم من العلوم والمعارف فيبصر ذو العماية ويرشد

ص: 364

أنتَ الحق، ووَعْدُكَ الحق،

ــ

ذو الغواية. قوله: (أَنتَ الحقُّ) قال العلماء الحق في أسمائه تعالى معناه المتحقق وجوده وكل شيء صح وجوده وتحقق فهو حق ومنه الحاقة أي الكائنة حقًّا بلا شك وقيل الحق الذي لا يعتريه نقص ولا تغير بخلاف غيره قال صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها الشاعر:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

قال المصنف وقيل أنت صاحب الحق وقيل محق الحق وقيل الإله الحق دون ما يقوله الملحدون كما قال تعالى ذلك بأن الله هو الحق وإن ما يدعون من دونه الباطل اهـ. قال القرطبي وهذا الوصف أي المتحقق بالوجود الثابت بلا شك فيه خاص به تعالى بالحقيقة ولا ينبغي لغيره أي وجوده لذاته فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم بخلاف غيره اهـ. قوله: (وَوَعْدُكَ الحق) أي وعدك المطيع بالجنة الحق الذي لا يمكن تخلفه أما وعيد العاصي بالنار فإيعاد على المختار قال كعب:

أنبئت أن رسول الله أوعدني

والوعد عند رسول الله مأمول

قال آخر:

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وبه يعلم ما في إدراجه تحت الوعد الواقع في كلام ابن حجر في شرح المشكاة حيث قال ووعدك لمن أطاعك بالجنة ولمن عصاك بالنار ما لم تعف عنه مع أنه قال في قوله صلى الله عليه وسلم اللهم لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك بإثابة الطائع بخلاف تعذيب العاصي فإن خلف الوعيد كرم وخلف الوعد بخل قال الكرماني في شرح البخاري وهو أي الوعد يطلق ويراد به الخير والشر كلاهما أو الخير أو الشر فقط قال تعالى: {الشَّيطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ} [البقرة: 268] وظاهر عدم الفرق في الإطلاق بين الخلائق والخلاق فزعم صاحب المرقاة إن هذا الفرق في حق العباد ممنوع بأنه حيث

ص: 365

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كان خلف الوعيد من الكرم فلا مانع من قيامه بالباري تعالى وفي شرح العقائد والله تعالى لا يغفر إن يشرك به بإجماع المسلمين لكنهم اختلفوا هل يجوز عقلًا أو لا فذهب بعضهم إلى أنه يجوز عقلًا وإنما علم عدمه بدليل السمع وبعضهم إلى أنه يمتنع عقلًا لأن قضية الحكمة المتفرقة بين المحسن والمسيء وللكفر نهاية في الجفاية لا يحتمل الإباحة ورفع الحرمة أصلًا فلا يحتمل العفو ورفع الغرامة اهـ. وقال صاحب العمدة من الحنفية تخليد المؤمن في النار والكافر في الجنة يجوز عقلًا عندهم أي الأشاعرة إلّا إن السمع ورد بخلافه وعندنا لا يجوز أي عقلًا أيضًا اهـ، وظاهر إن المراد من الوعيد الذي يجوز خلفه وقوعًا ما يتعلق بعصاة المؤمنين لا ما يتعلق بالكافرين فقد قام القطع على إن الجنة محرمة عليه وإن مثواه النار تحمي وتجيء عليه وبه يعلم ما في حمل صاحب المرقاة كلام ابن حجر المذكور آخرًا على الكافر من البعد عن المقام وإن أطال في تأييد حمله على ذلك الكلام قال ابن حجر في شرح المشكاة وكان حكمة تعريف الحق هنا وتنكيره في جميع ما يأتي بعده أنها جزئيات من الوعد الشامل له وللوعيد نص عليها اعتناء بها وقال آخر حكمة التنكير التفخيم والتعظيم ورد بأن ما قبله أحق بذلك اهـ. وقال الكرماني في الجواب عن ذلك المعرف بلام الجنس والنكرة المسافة بينهما قريبة بل صرحوا بأن مؤداهما واحد لا فرق إلا بأن في المعرفة إشارة إلى أن الماهية التي دخل عليها اللام معلومة للسامع وفي النكرة لا إشارة إليه وإن لم تكن إلّا معلومة له وتنكير حق خبر قول للبخاري وهو في مسلم معرف والجميع منكر في رواية النسائي وعلى ما في الكتاب من تعريف الأولين فقال الطيبي عرفهما للحصر لأن الله هو الحق الثابت الباقي وما عداه في معرض الزوال وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره وتنكير البواقي للتعظيم اهـ. وبقوله عرفهما للحصر يندفع قول ابن حجر السابق ما قبلهما أحق بذلك أي أنه كان ينبغي تنكيره لكن عارضه ما العناية به أولى من الدلالة على حصر جعل الحق مختصا به محصورا فيه وبالتنكير يفوت وأما تعريف خبر القول

ص: 366

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

في صحيح مسلم فلعل وجهه ما ذكر في تعريف خبر الوعد إذ الوعد من أقسام الكلام المعبر عنه هنا بالقول والله أعلم وسيأتي توجيه آخر في كلام ابن النحوي ورواية النسائي تؤيد ما أشار إليه الكرماني من تساوي معنى المنكر فالمعرف بأل الجنسية وإن كان في المعرف بها تلك الإشارة إلى الماهية وهي لا تخالف ما ذكر من الحكمة في تعريف ما عرف إذ هي نكات لزيادة أل فيها دون غيرها والله أعلم قال ابن

النحوي في التوضيح في شرح الجامع الصحيح "أن قيل" كيف يجمع ما في هذا الحديث من قوله حق في كل من الجنة والنار مع قوله صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها الشاعر:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

"فعنه جوابان" ذكرهما السهيلي: أحدهما إن مراده ما عدا الله وما عدا رحمته التي وعد بها وعقابه الذي توعد به إذ وعده حق لباطل ما سوى ذلك والجنة ما وعد به من رحمته والنار ما توعد به من عقابه وما سوى ذلك فباطل مضمحل.

والثاني إن الجنة والنار وإن كانتا حقًّا فإن الزوال جائز عليهما لذاتهما وإنما يبقيان بإبقاء الله لهما وإن يخلق الدوام لأهلهما على قول من يجعل البغاء والدوام معنى زائدًا على الذات وهو قول الأشعري وإنما الحق في الحقيقة من لا يجوز عليه الزوال وهو القديم الذي انعدامه محال، ولذا قال صلى الله عليه وسلم أنت الحق معرفًا أي أنت المستحق لهذا الاسم بالحقيقة وقولك الحق لأنه قديم وليس بمخلوق فيبيد ووعدك الحق كذلك إذ وعده كلامه هذا يقتضي أل ثم قال والجنة حق والنار حق بغير أل لأن هذه محدثات والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته وإنما علمنا بقاءهما من جهة خبر الصادق الذي لا يجوز عليه الخلف لا من جهة استحالة الفناء عليهما كما يستحيل على القديم سبحانه الذي هو الحق سبحانه وما خلاه باطل إذ هو إما عرض أو جوهر وكل منهما يفنى ويزول اهـ. قال المصنف في هذا الحديث قوله ووعدك الحق إلخ، أي كله متحقق لا شك فيه وقيل معناه خبرك حق وصدق وفي التوشيح للسيوطي إطلاق الحق على ما ذكر من الأمور بمعنى أنه مما يجب أن يصدق

ص: 367

ولِقاؤُكَ حَق، وقولُكَ حَق، والجنةُ حَق، والنَّارُ حَق، ومحَمَّد حق، والساعَةُ حَق، اللهُم

ــ

به وكرر لفظه للتأكيد اهـ. قوله: (ولقَاؤكَ) أي البعث وقيل الموت قال المصنف وهذا باطل في هذا الموطن إنما نبهت عليه لئلا يغتر به والصواب الذي يقتضيه سياق الكلام وما بعده البعث وهو الذي يرد به على الملحد لا بالموت اهـ. وفي شرح المشكاة لابن حجر ويصح تفسيره بالموت لكونه مقدمة لذلك اللقاء اهـ. وقيل المراد من اللقاء النظر إليه تعالى حكاه في الحرز. قوله: (وَقَوْلُكَ) أي الذي جاء به رسلك في كتبك المنزلة عليهم أي فالمصدر بمعنى اسم المفعول والظاهر أنه غير متعين فيصح بقاؤه على أصله فتأمل. قوله: (ومحمد حق) وقع في رواية المشكاة والنبيون حق ومحمد حق وهي من روايات البخاري قال ابن حجر في شرح المشكاة خص نفسه بعد شمول النبيين له لأنه لا يجب عليه الإيمان بنفسه ولذا كان يقول وأشهد أن محمدًا رسول الله وليعلم أمته أنه رئيسهم المقدم عليهم كيف وكلهم تحت لوائه يوم القيامة.

قلت وإذا تقدم عليهم في الذكر مع تأخره في الزمن وفي الصلاة ليلة الإسراء وأما على رواية الكتاب فالحكمة في الاقتصار على ذكره إن اعتقاد ذلك فيه اعتقاد فيهم فاكتفى بهذه الجملة عن تلك إذ جملة ما جاء به نبوة الأنبياء وإن ذلك حق من عند الله تعالى والله أعلم. قوله: (والساعة) أي القيامة وخصت بهذا الاسم مع أنها لمطلق القطعة من الزمان إشارة إلى أنها قطعة يسيرة يحدث فيها أمور جليلة وخطوب مدلهمة وقيل لكونها مع طولها قدر خمسين ألف سنة ساعة من أيام الآخرة أو تفسير ساعة على أهل الطاعة أو سميت لطولها ساعة تسمية بالأضداد كإطلاق الزنجي على الكافر

وربما يومئ تقديم ذكر الجنة والنار على الساعة إلى الإشارة إلى أنهما موجودان الآن خلافًا

ص: 368

لكَ أَسلَمْتُ، وبِكَ آمَنْتُ، وعلَيكَ تَوَكَّلْتُ، وإليكَ أنبْتُ،

ــ

لأرباب الاعتزال وتقديم ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم عليها لأنها لا تعلم إلَّا من جانب السمع الذي جاء هو صلى الله عليه وسلم به إلينا ثم هذه كلها وسائل وقدمها صلى الله عليه وسلم أمام السؤال تعليمًا لأمته أنه ينبغي المبالغة في الثناء قبل السؤال ليكون ذلك وسيلة لسرعة الإجابة بالنوال. قوله: (لكَ أسلمتُ) أي لا لغيرك كما يفيده تقديم الظرف أسلمت نفسي وسائر متعلقاتها أي شهدت ذلك لأرضي بقاءك وأتنعم ببلائك كذا قال ابن حجر في شرح المشكاة وقال غيره أي استسلمت وانقدت لأمرك ونهيك والأقرب أن يكون المراد من أسلمت مدلوله الشرعي من الإتيان بالشهادتين مع القوام بباقي أركان الإسلام أي دخلت في الإسلام "ولا ينافيه" إن الإيمان والإسلام متحدان في الماصدق شرعًا فيكون تأكيدًا والتأسيس خير منه "لأنا نقول" المقام للإطناب والقصد للمبالغة في أداء مقام العبودية والتذلل لحق الربوبية على أن لفظ الشارع إذا تردد بين المعنى اللغوي والشرعي فحمله على الأخير أولى لأنه بعث لبيان الشرعيات لا لبيان اللغويات كما نقله في حديث إنما الأعمال بالنيات وفي التمهيد أما قوله هنا لك أسلمت فمعناه استسلمت لحكمك وأمرك وسلمت ورضيت وآمنت وصدقت وأيقنت وقد مضى معنى الإيمان والإسلام والله أعلم. قوله: (وبكَ آمنتُ) أي بذاتك وما يليق بها من صفات الكمال آمنت أي صدقت. قوله: (وعَليْكَ توكلْتُ) أَي فوضت إلى جنابك دون غيرك أمري. قوله: (أَنَبتُ) من الإنابة أي رجعت إلى عبادتك والإقبال على ما يقرب إليك وقيل رجعت بالتوبة واللجأ والذلة والمسكنة وفي التمهيد والإنابة الرجوع إلى الخير ولا يكون الرجوع إلى الشر إنابة قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلى رَبكم} [الزمر: 54]

ص: 369

وبِكَ خاصَمْتُ، وإليكَ حاكمتُ، فاغْفِرْ لي

ــ

أي عودوا إلى ما يرضى به عنكم اهـ. وقيل المراد من قوله إليك أنبت رجعت إليك في أمري كله فيكون بمعنى قوله وعليك توكلت. قوله: (وبكَ خاصمتُ) أي بما أعطيتني من البرهان والحجج القولية أو بالنص ونحوه من الحجج الفعلية خاصمت أعداءك أعداء الدين فقصمت ظهورهم بالبراهين القوية أو قطعت دابرهم بالألسنة السنية. قوله: (وَإليْكَ حاكَمْت) أي جعلتك دون غيرك مما يتحاكم إليه في الجاهلية من كاهن وصنم وشيطان الحكم بيني وبين الأخصام في الدين الذين أبوا قبول ما جئت به كبرا وعنادا فلا أرضى إلا بحكمك ولا أتوكل إلَّا عليك لتحقق الحق وتبطل الباطل {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46]. قوله: (فاغْفرْ لِي) أي فبسبب ما مننت به علي من مقام الجمع الأكبر الذي شهدته في قولي أسلمت وما بعده ومقام الفرق الذي تضمنه قولي وبك خاصمت وما بعده اغفر لي وترتيب الغفران لما تقدم وتأخر على هذين المقامين كترتيبه على الفتح الأكبر الذي هذان المقامان من مقدماته وأسبابه في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح: 1 - 2] الآية المشتمل على إتمام النعمة والنصر على الأعداء المسبب عن المخاصمة والمحاكمة المذكورين هنا قال ابن حجر في شرح المشكاة ثم سؤاله صلى الله عليه وسلم مغفرة ما ذكر على سبيل التواضع وأداء مقام العبودية والتعليم لأمته كذا في التوشيح وفي شرح الأنوار السنية ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا من المغفرة من الإشفاق والاعتراف والاستسلام وخوف المكر فإنه لا يأمن من مكر الله إلَّا القوم الخاسرون ولتقتدي به أمته

ويشتد إشفاقهم بحسب حالهم من حاله ومقامهم من مقامه وسيأتي في أذكار الصلاة إن شاء الله تعالى زيادة في هذا المقام وفي التمهيد في هذا الحديث ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من المداومة على قيام الليل والإخبات عند قيامه والدعاء والتضرع والإخلاص والثناء

ص: 370

ما قَدَّمْتُ وما أَخَّرْتُ وما أَسْرَرْتُ وما أَعلَنْت، أنت المُقدمُ وأنت المؤَخرُ، لا إِلهَ إلا أنْتَ" زاد بعض الرواة:"ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بالله".

ــ

على الله بما هو أهله والإقرار بوعده ووعيده والابتهال وفيه الأسوة الحسنة فطوبى لمن وفق وأعين على ذلك اهـ. قوله: (ما قَدّمتُ وما أَخرتُ) محتمل فيما مضى وفيما يأتي وسيأتي الكلام على معنى غفران ما تأخر من الذنب في آخر أذكار الصلاة إن شاء الله تعالى. قوله: (أنت المقدِّمُ إلخ) أي ليس لغيرك دخل في شيء من ذلك أنه لا يعز من عاديت ولا يذل من واليت من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له قال ابن العز الحجازي قال المهلب أشار بذلك إلى نفسه لأنه المقدم في البعث في الآخرة والمؤخر في البعث في الدنيا اهـ، وعليه فالمعنى أنت المقدم لي في البعث وأنت المؤخر أي لي فيه وقال القاضي عياض قيل معناه المنزل للأشياء منازلها تقدم ما تشاء وتؤخر ما تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء وجعل عباده بعضهم فوق بعض وقيل هو بمعنى الأول والآخر إذ هو مقدم كل متقدم فهو قبله ومؤخر كل مؤخر فهو بعده ويكون المقدم والمؤخر بمعنى الهادي والمضل قدم من شاء بطاعته لكرامته وأخر من شاء بقضائه لشقاوته اهـ. قوله:(زاد بعض الرواة إلخ) قال في السلاح وزاد عبد الكريم أبو أمية ولا حول ولا قوة إلَّا بالله قال سفيان قال سليمان بن أبي مسلم سمعته من طاوس عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم رواه الجماعة يعني الستة اهـ. وقال الحافظ بعد تخريجه الحديث بسنده إلى طاوس عن ابن عباس قال كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فذكر الحديث بطوله لكن قال في روايته أنت قيام السموات والأرض وقال في آخره لا إله إلَّا أنت أو لا إله غيرك شك سفيان أي ابن عيينة وزاد عبد الكريم

ص: 371

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ولا حول ولا قوة إلّا بالله قال الحافظ أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان عن سليمان الأحول عن طاوس وليس فيه ما في آخره ووقع عند البخاري من طريق علي بن عبد الله عن سفيان في آخر الحديث قال سفيان وزاد عبد الكريم ولا حول ولا قوة إلَّا بالله ووقع في مستخرج أبي نعيم على البخاري من طريق إسماعيل بن إسحاق عن علي بن عبد الله بعد سياقه إلخ. قال سفيان فكنت إذا قلت آخر حديث سليمان لا إله غيرك قال عبد الكريم ولا حول ولا قوة إلَّا بالله ولم يذكر أكثر الرواة عن سفيان هذه الزيادة وأدرجها بعضهم في السياق للحديث الأول منهم قتيبة عند النسائي فقال في آخره لا إله إلّا أنت ولا حول ولا قوة إلَّا بالله وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية محمد بن عبد الله عن سفيان واقتصر أكثر الرواة عن سفيان على قوله لا إله إلّا أنت وشك بعضهم عنه فقال لا إله إلّا الله ولا إله غيرك وجمع هشام بن عمار عن سفيان بين الألفاظ الثلاثة فقال لا إله إلّا الله ولا إله غيرك ولا حول ولا قوة إلا بالله والصواب التفصيل وإن الحوقلة مدرجة على رواية سفيان عن سليمان قلت وهي التي صدر بها الشيخ هنا بقوله وثبت في الصحيحين إلخ وإنما هي عند سفيان عن عبد الكريم وهو أبو أمية بن أبي المخارق البصري نزيل مكة وهو ضعيف عندهم وليس له ذكر في البخاري إلَّا في هذا الموضع والله أعلم وبه يعلم أن قول صاحب السلاح قال سفيان قال سليمان ابن أبي مسلم سمعته

إلخ، راجع إلى أصل الحديث من غير زيادة عبد الكريم لا معها كما قد يوهمه عبارته هذا وقال الكرماني ولا يخفى إن هذا الخبر من جوامع الكلم إذ لفظ القيم إشارة إلى إن وجود الجوهر وقيامه منه والنور إلى إن الإعراض منه والملك إلى أنه حاكم فيها إيجادًا وإعدامًا يفعل ما يشاء وكل هذه نعم من الله على عباده ولذا قرن كل منها وخصص الحمد به، ثم قوله أنت الحق إلى آخره إشارة إلى المبدأ والقول ونحوه إلى المعاش والساعة إلى المعاد وفيه إشارة إلى النبوة والجزاء ثوابًا وعقابًا وفيه وجوب الإيمان والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله تعالى

ص: 372