الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّانِي: خَلْقُ الْإِنْسَانِ أَوَّلًا مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [36 \ 79] .
الثَّالِثُ: مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ، أَيْ: إِنْزَالُ الْمَطَرِ، وَإِنْبَاتُ النَّبَاتِ وَهُوَ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا. فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْسَامُ عَلَى تَحَقُّقِ الْبَعْثِ.
وَأَكَّدَ هَذَا مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْوَعِيدِ بِالْإِمْهَالِ رُوَيْدًا، وَقَدْ سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِيَوْمِ الْفَصْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [77 \ 12 -
15]
.
وَذِكْرُ الْوَيْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُكَذِّبِينَ، يُعَادِلُ الْإِمْهَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِلْكَافِرِينَ، وَإِذَا رَبَطْنَا بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ، لَكَانَ أَظْهَرَ وَأَوْضَحَ ; لِأَنَّ رَجْعَ الْمَاءِ بَعْدَ فَنَائِهِ بِتَلْقِيحِ السَّحَابِ مِنْ جَدِيدٍ، يُعَادِلُ رَجْعَ الْإِنْسَانِ بَعْدَ فَنَائِهِ فِي الْأَرْضِ، وَتَشَقُّقُ الْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ يُنَاسِبُ تَشَقُّقَهَا يَوْمَ الْبَعْثِ عَنِ الْخَلَائِقِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا نِسْبَةُ هَذَا الْفِعْلِ لَهُ تَعَالَى، قَالُوا إِنَّهُ: مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ كَقَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [3 \ 54]، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [2 \ 14 - 15]، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَيِّ الطَّعَامِ يُرِيدُ، وَهُوَ عَارٍ يُرِيدُ كُسْوَةً:
قَالُوا اخْتَرْ طَعَامًا نَجِدْ لَكَ طَبْخَةً
…
قُلْتُ اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا
وَقَدِ اتَّفَقَ السَّلَفُ، أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ فِي مُقَابِلِ فِعْلِ الْعِبَادِ ; لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ الْمُقَابَلَةِ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَفِي مَعْرِضِ الْمُقَابَلَةِ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَالْكَيْدُ أَصْلُهُ الْمُعَاجَلَةُ لِلشَّيْءِ بِقُوَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ: وَالْعَرَبُ قَدْ تُطْلِقُ الْكَيْدَ عَلَى الْمَكْرِ، وَالْعَرَبُ قَدْ يُسَمُّونَ الْمَكْرَ كَيْدًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا [52 \ 42] ، وَعَلَيْهِ فَالْكَيْدُ هُنَا لَمْ يُبَيَّنْ، فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَكْرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -
بَيَانُ شَيْءٍ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [3 \ 54] ; بِأَنَّ مَكْرَهُمْ مُحَاوَلَتُهُمْ قَتْلَ عِيسَى، وَمَكْرُ اللَّهِ إِلْقَاءُ الشَّبَهِ، أَيْ: شَبَّهَ عِيسَى عَلَى غَيْرِ عِيسَى.
وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [16 \ 26] ، وَهَذَا فِي قِصَّةِ النُّمْرُودِ، فَكَانَ مَكْرُهُمْ بُنْيَانَ الصَّرْحِ لِيَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ، فَكَانَ مَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ أَنْ تَرَكَهُمْ حَتَّى تَصَاعَدُوا بِالْبِنَاءِ، فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فَهَدَمَهُ عَلَيْهِمْ.
وَهَكَذَا الْكَيْدُ هُنَا، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَاللَّهِ يَكِيدُ لَهُمْ بِالِاسْتِدْرَاجِ حَتَّى يَأْتِيَ مَوْعِدُ إِهْلَاكِهِمْ، وَقَدْ وَقَعَ تَحْقِيقُهُ فِي بَدْرٍ ; إِذْ خَرَجُوا مُحَادَّةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَفِي خُيَلَائِهِمْ وَمُفَاخَرَتِهِمْ، وَكَيْدُ اللَّهِ لَهُمْ: أَنْ قَلَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ، حَتَّى طَمِعُوا فِي الْقِتَالِ، وَأَمْطَرَ أَرْضَ الْمَعْرَكَةِ، وَهُمْ فِي أَرْضٍ سَبْخَةٍ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي أَرْضٍ رَمْلِيَّةٍ فَكَانَ زَلَقًا عَلَيْهِمْ وَثَبَاتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ مَلَائِكَتَهُ لِقِتَالِهِمْ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ مَا نَصُّهُ: هَذَا الْإِمْهَالُ الْمَذْكُورُ هُنَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الْآيَةَ [9 \ 5] .
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِمْهَالَ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ. اهـ.
وَهَذَا مَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الطَّبَرِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ وَهُوَ مَنْصُوصُ الْقُرْطُبِيِّ. وَلَعَلَّ فِي نَفْسِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ; لِأَنَّ «رُوَيْدًا» : بِمَعْنَى قَلِيلًا، فَقَدْ قَيَّدَ الْإِمْهَالَ بِالْقِلَّةِ، مِمَّا يُشْعِرُ بِمَجِيءِ النَّسْخِ وَأَنَّهُ لَيْسَ نِهَائِيًّا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.