المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَأَنَّ الْهِدَايَةَ أَيْضًا لِلْقَلْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْمِنْ - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٨

[محمد الأمين الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌ الْحَشْرِ

- ‌1

- ‌ 4

- ‌[5

- ‌ 7]

- ‌8

- ‌[20

- ‌ 21]

- ‌ الْمُمْتَحَنَةِ

- ‌ 1

- ‌3

- ‌ 4]

- ‌7]

- ‌[8

- ‌ 10]

- ‌ 13]

- ‌ الصَّفِّ

- ‌(2)

- ‌ 5]

- ‌[6

- ‌ 14]

- ‌ الْجُمُعَةِ

- ‌[2

- ‌[4

- ‌[5

- ‌6]

- ‌[7

- ‌9

- ‌ الْمُنَافِقُونَ

- ‌2]

- ‌3

- ‌[9

- ‌ 11]

- ‌2

- ‌[3

- ‌[6

- ‌8

- ‌9

- ‌ 16]

- ‌ الطَّلَاقِ

- ‌6

- ‌8

- ‌ التَّحْرِيمِ

- ‌ 1]

- ‌ 4]

- ‌[5

- ‌[7

- ‌ 2

- ‌[الملك:

- ‌3]

- ‌7

- ‌ 10] :

- ‌ 13]

- ‌ 15]

- ‌ الْقَلَمِ

- ‌ 1

- ‌[2

- ‌ الْحَاقَّةِ

- ‌ 4]

- ‌9

- ‌[18

- ‌ الْمَعَارِجِ

- ‌ 1

- ‌[2

- ‌ 4

- ‌[10

- ‌[22

- ‌ 40

- ‌ نُوحٍ

- ‌5]

- ‌ 14]

- ‌ الْجِنِّ

- ‌[4

- ‌ 10]

- ‌[18

- ‌ الْمُزَّمِّلِ

- ‌[1

- ‌ 5

- ‌6]

- ‌ الْمُدَّثِّرِ

- ‌[8

- ‌ الْقِيَامَةِ

- ‌ 7

- ‌ الْإِنْسَانِ

- ‌ 5

- ‌ 29]

- ‌ الْمُرْسَلَاتِ

- ‌[1

- ‌ 43]

- ‌ النَّبَأِ

- ‌ 40]

- ‌ النَّازِعَاتِ

- ‌ 1

- ‌3]

- ‌6

- ‌25]

- ‌ عَبَسَ

- ‌ 1

- ‌[11

- ‌ 17]

- ‌ التَّكْوِيرِ

- ‌1

- ‌[8

- ‌[26

- ‌ الِانْفِطَارِ

- ‌5

- ‌ 16]

- ‌ الْمُطَفِّفِينَ

- ‌ 4

- ‌ الِانْشِقَاقِ

- ‌[3

- ‌[7

- ‌ الْبُرُوجِ

- ‌[2

- ‌3

- ‌ 4]

- ‌[8

- ‌ 19

- ‌ الطَّارِقِ

- ‌2

- ‌[5

- ‌8

- ‌[10

- ‌ 15]

- ‌ الْأَعْلَى

- ‌ 1

- ‌2

- ‌[6

- ‌ الْغَاشِيَةِ

- ‌[1

- ‌ الْفَجْرِ

- ‌1

- ‌[6

- ‌[21

- ‌ الْبَلَدِ

- ‌ 2]

- ‌ 6]

- ‌[17

- ‌ الشَّمْسِ

- ‌ اللَّيْلِ

- ‌ 3

- ‌ الضُّحَى

- ‌ 5]

- ‌[7

- ‌[9

- ‌ الشَّرْحِ

- ‌ 1

- ‌[7

الفصل: وَأَنَّ الْهِدَايَةَ أَيْضًا لِلْقَلْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْمِنْ

وَأَنَّ الْهِدَايَةَ أَيْضًا لِلْقَلْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‌

‌[6

4 \ 11] .

وَلِذَا حَرَصَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [3 \ 8] فَتَضَّمَنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.

ذَكَرَ مُوسَى وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ الْبُشْرَى بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ عِيسَى فَذَكَرَهَا مَعَهُ، مِمَّا يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّهُ لَمْ يُبَشِّرْ بِهِ إِلَّا عِيسَى عليه السلام وَلَكِنْ لَفْظُ عِيسَى مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَقَدْ بَشَّرَتْ بِهِ صلى الله عليه وسلم جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مُوسَى عليه السلام وَمِمَّا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مُوسَى مُبَشِّرًا بِهِ قَوْلُ عِيسَى عليه السلام فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ، وَالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ هِيَ التَّوْرَاةُ أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى.

وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا التَّعْرِيفُ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَبِالَّذِينَ مَعَهُ فِي التَّوْرَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [48 \ 29] .

كَمَا جَاءَ وَصْفُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ فِي نَفْسِ السِّيَاقِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ [48 \ 29] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.

وَجَاءَ النَّصُّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [3 \ 81] .

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حَيٌّ لَيَتْبَعَنَّهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيَتْبَعُنَّهُ وَيَنْصُرُنَّهُ. اهـ.

وَجَاءَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ لَمَّا سَمِعَ مِنْ جَعْفَرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَّهُ الَّذِي نَجِدُ فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَمَا قَالَهُ أَيْضًا:

ص: 110

وَاللَّهِ لَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَحْمِلُ نَعْلَيْهِ وَأُوَضِّئُهُ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ سَاقَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَزَاهُ إِلَى أَحْمَدَ رحمه الله.

وَكَذَلِكَ دَعْوَةُ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [2 \ 129] .

وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ» .

وَقَدْ خُصَّ عِيسَى بِالنَّصِّ عَلَى الْبُشْرَى بِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ آخِرُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهُوَ نَاقِلٌ تِلْكَ الْبُشْرَى لِقَوْمِهِ عَمَّا قَبْلَهُ.

كَمَا قَالَ: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَمَنْ قَبْلَهُ نَاقِلٌ عَمَّنْ قَبْلَهُ، وَهَكَذَا حَتَّى صَرَّحَ بِهَا عِيسَى عليه السلام، وَأَدَّاهَا إِلَى قَوْمِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اسْمُهُ أَحْمَدُ، جَاءَ النَّصُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَهُ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ، وَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«أَنَا لِي أَسْمَاءٌ أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ» .

وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ فَقَدْ ذُكِرَ صلى الله عليه وسلم بِاسْمِهِ أَحْمَدَ هُنَا، وَبِاسْمِهِ مُحَمَّدٍ فِي سُورَةِ «مُحَمَّدٍ» صلى الله عليه وسلم.

كَمَا ذُكِرَ صلى الله عليه وسلم بِصِفَاتٍ عَدِيدَةٍ أَجْمَعِهَا مَا يُعَدُّ تَرْجَمَةً ذَاتِيَّةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [9 \ 128] .

وَسَيَأْتِي الْمَزِيدُ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [68 \ 4] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.

تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [42 \ 16] فِي سُورَةِ «الشُّورَى» وَقَوْلِهِ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [21 \ 18] فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» .

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.

ص: 111

فُسِّرَتِ التِّجَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [61 \ 11] .

التِّجَارَةُ: هِيَ التَّصَرُّفُ فِي رَأْسِ الْمَالِ طَلَبًا لِلرِّبْحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ [2 \ 282] وَقَالَ تَعَالَى: وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا [9 \ 24] .

وَالتِّجَارَةُ هُنَا فُسِّرَتْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبِذْلِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَا هِيَ الْمُعَارَضَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ الْهَامَّةِ، بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [9 \ 111] ، فَهُنَا مُبَايَعَةٌ، وَهُنَا بُشْرَى وَهُنَا فَوْزٌ عَظِيمٌ.

وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [61 \ 12 - 13] .

وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهُ مَنْ فَاتَتْهُ هَذِهِ الصَّفْقَةُ الرَّابِحَةُ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ خَاسِرٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [2 \ 16] .

حَقِيقَةُ هَذِهِ التِّجَارَةِ أَنَّ رَأْسَ مَالِ الْإِنْسَانِ حَيَاتُهُ وَمُنْتَهَاهُ مَمَاتُهُ.

وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» وَالْعَرَبُ تَعْرِفُ هَذَا الْبَيْعَ فِي الْمُبَادَلَةِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

فَإِنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهَلُ فِيكُمُ

فَإِنِّي شَرَيْتُ الْحِلْمَ بَعْدَكِ بِالْجَهْلِ

وَقَوْلِ الْآخَرِ:

بَدَّلْتُ بِالْجُمَّةِ رَأْسًا أَزْعَرَا

وَبِالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَّرْدَرَا كَمَا

اشْبَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا

فَأَطْلَقَ الشِّرَاءَ عَلَى الِاسْتِبْدَالِ.

تَنْبِيهٌ

ص: 112

فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَقْدِيمُ الْجِهَادِ بِالْمَالِ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ.

وَفِي آيَةِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدَّمَ النَّفْسَ عَنِ الْمَالِ فَقَالَ: اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ سِرٌّ لَطِيفٌ.

أَمَّا فِي آيَةِ «الصَّفِّ» فَإِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَفْسِيرٍ وَبَيَانٍ لِمَعْنَى التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وَحَقِيقَةُ الْجِهَادِ بَذْلُ الْجُهْدِ وَالطَّاقَةِ، وَالْمَالُ هُوَ عَصَبُ الْحَرْبِ وَهُوَ مَدَدُ الْجَيْشِ، وَهُوَ أَهَمُّ مِنَ الْجِهَادِ بِالسِّلَاحِ، فَبِالْمَالِ يُشْتَرَى السِّلَاحُ، وَقَدْ تُسْتَأْجُرُ الرِّجَالُ كَمَا فِي الْجُيُوشِ الْحَدِيثَةِ مِنَ الْفِرَقِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَبِالْمَالِ يُجَهَّزُ الْجَيْشُ، وَلِذَا لَمَّا جَاءَ الْإِذْنُ بِالْجِهَادِ أَعْذَرَ اللَّهُ الْمَرْضَى وَالضُّعَفَاءَ، وَأَعْذَرَ مَعَهُمُ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَجْهِيزَ أَنْفُسِهِمْ، وَأَعْذَرَ مَعَهُمُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ مَا يُجَهِّزُهُمْ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى، إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [9 \ 91 - 92] .

وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، قَدْ يُجَاهِدُ بِالْمَالِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ بِالسِّلَاحِ كَالنِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا» .

أَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِبْدَالِ وَالْعَرْضِ وَالطَّلَبِ أَوْ مَا يُسَمَّى بِالْمُسَاوَمَةِ، فَقَدَّمَ النَّفْسَ؛ لِأَنَّهَا أَعَزُّ مَا يَمْلِكُ الْحَيُّ، وَجَعَلَ فِي مُقَابِلِهَا الْجَنَّةَ وَهِيَ أَعَزُّ مَا يُوهَبُ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ:

أُثَامِنُ بِالنَّفْسِ النَّفِيسَةِ رَبَّهَا

وَلَيْسَ لَهَا فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمُ ثَمَنُ

بِهَا تُمْلَكُ الْأُخْرَى فَإِنْ أَنَا بِعْتُهَا

بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا فَذَاكَ هُوَ الْغَبَنُ

لَئِنْ ذَهَبَتْ نَفْسِي بِدُنِيَا أُصِيبُهَا

لَقَدْ ذَهَبَتْ نَفْسِي وَقَدْ ذَهَبَ الثَّمَنُ

فَالتِّجَارَةُ هُنَا مُعَامَلَةٌ مَعَ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَجِهَادًا بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَالْعَمَلِ

ص: 113