الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحَالَتَيْنِ، فِي حَالَيِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، إِنْ قَلَّ مَالُهُ صَبَرَ، وَإِنْ كَثُرَ بَذَلَ وَشَكَرَ.
اسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالْغِنَى
…
وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ عَطَاءِ اللَّهِ لَهُ مِمَّا فَاقَ كُلَّ عَطَاءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [15 \ 87]، ثُمَّ قَالَ: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [15 \ 88] .
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَمَعَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم كِلَا الْأَمْرَيْنِ ; لِيَرْسُمَ الْقُدْوَةَ الْمُثْلَى فِي الْحَالَتَيْنِ.
تَنْبِيهٌ.
فِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِيوَاءَ وَالْهُدَى وَالْغِنَى مِنَ اللَّهِ ; لِإِسْنَادِهَا هُنَا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَلَكِنْ فِي السِّيَاقِ لَطِيفَةً دَقِيقَةً، وَهِيَ مَعْرَضُ التَّقْرِيرِ، يَأْتِي بِكَافٍ الْخِطَابِ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا، أَلَمْ يَجِدْكَ ضَالًّا، أَلَمْ يَجِدْكَ عَائِلًا، لِتَأْكِيدِ التَّقْرِيرِ، لَمْ يُسْنَدِ الْيُتْمُ وَلَا الْإِضْلَالُ وَلَا الْفَقْرُ لِلَّهِ، مَعَ أَنَّ كُلَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ عَلَيْهِ الْيُتْمُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي مِنْهُ كُلَّمَا وَجَدَهُ عَلَيْهِ، ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيلَامٍ لَهُ، فَمَا يُسْنِدُهُ لِلَّهِ ظَاهِرًا، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ أَبْرَزَ ضَمِيرَ الْخِطَابِ.
وَفِي تَعْدَادِ النِّعَمِ: فَآوَى، فَهَدَى، فَأَغْنَى. أُسْنِدَ كُلُّهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُنْعِمِ، وَلَمْ يُبْرِزْ ضَمِيرَ الْخِطَابِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لِمُرَاعَاةِ رُءُوسِ الْآيِ وَالْفَوَاصِلِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِيهِ امْتِنَانٌ، وَأَنَّهَا نِعَمٌ مَادِّيَّةٌ لَمْ يُبْرِزِ الضَّمِيرَ لِئَلَّا يُثْقِلَ عَلَيْهِ الْمِنَّةَ، بَيْنَمَا أَبْرَزَهُ فِي: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ
[9
4 \ 1 - 2] ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [94 \ 4] ; لِأَنَّهَا نِعَمٌ مَعْنَوِيَّةٌ، انْفَرَدَ بِهَا. صلى الله عليه وسلم. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
مَجِيءُ الْفَاءِ هُنَا مُشْعِرٌ، إِمَّا بِتَفْرِيعٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِمَّا بِإِفْصَاحٍ عَنْ تَعَدُّدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْجُمَلَ بِتَقْدِيرِ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ.ُُ
وَقَدْ سَاقَ تَعَالَى هُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ: الْأُولَى: مُعَامَلَةُ الْأَيْتَامِ، فَقَالَ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، أَيْ: كَمَا آوَاكَ اللَّهُ فَآوِهِ، وَكَمَا أَكْرَمَكَ فَأَكْرِمْهُ.
وَقَالُوا: قَهْرُ الْيَتِيمِ أَخْذُ مَالِهِ وَظُلْمِهِ.
وَقِيلَ: قُرِئَ بِالْكَافِ: «تَكْهَرْ» ، فَقَالُوا: هُوَ بِمَعْنَى الْقَهْرِ إِلَّا أَنَّهُ أَشَدَّ.
وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى عَبُوسَةِ الْوَجْهِ، وَالْمَعْنَى أَعَمُّ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَمِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَمِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَمِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ» فَالْقَهْرُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَبِالنَّظَرِ فِي نُصُوصِ الْقُرْآنِ الْعَدِيدَةِ فِي شَأْنِ الْيَتِيمِ، وَالَّتِي زَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ مَوْضِعًا، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَصْنِيفُهَا إِلَى خَمْسَةِ أَبْوَابٍ كُلُّهَا تَدُورُ حَوْلَ دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُ، وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ لَهُ فِي مَالِهِ وَفِي نَفْسِهِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ، وَفِي الْحَالَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهِيَ الْخَامِسَةُ. أَمَّا دَفْعُ الْمَضَارِّ عَنْهُ فِي مَالِهِ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، جَاءَتْ مَرَّتَيْنِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» وَالْأُخْرَى فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» [17 \ 34] ، وَفِي كُلٍّ مِنَ السُّورَتَيْنِ ضِمْنَ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الْمَعْرُوفَةِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، بَدَأَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [6 \ 151] .
وَذَكَرَ قَتْلَ الْوَلَدِ، وَقُرْبَانَ الْفَوَاحِشِ، وَقَتْلَ النَّفْسِ، ثُمَّ مَالَ الْيَتِيمِ:«وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» .
وَيُلَاحَظُ أَنَّ النَّهْيَ مُنْصَبٌّ عَلَى مُجَرَّدِ الِاقْتِرَابِ مِنْ مَالِهِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [4 \ 6] .
وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَلِيَ مَالَ الْيَتِيمِ وَاسْتَحَقَّ أَجْرًا، فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا نَفَقَتُهُ فِي نَفْسِهِ، وَإِمَّا أُجْرَتُهُ عَلَى عَمَلِهِ، أَيْ: إِنْ كَانَ الْعَمَلُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ أَلْفِ رِيَالٍ، وَنَفَقَتُهُ يَكْفِي لَهَا خَمْسُمِائَةٍ أَخَذَ نَفَقَتَهُ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ يَكْفِيهِ أُجْرَةُ مِائَةِ رِيَالٍ، وَنَفَقَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ أَخَذَ أُجْرَتَهُ مِائَةً فَقَطْ ; حِفْظًا لِمَالِهِ.
ثُمَّ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ اقْتِرَابِ مَالِ الْيَتِيمِ ذَلِكَ، فَقَدْ تَتَطَلَّعُ بَعْضُ النُّفُوسِ إِلَى فَوَارِقَ
بَسِيطَةٍ مِنْ بَابِ التَّحَيُّلِ أَوْ نَحْوِهِ، مِنِ اسْتِبْدَالِ شَيْءٍ مَكَانَ شَيْءٍ، فَيَكُونُ طَرِيقًا لِاسْتِبْدَالِ طَيِّبٍ بِخَبِيثٍ، فَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [4 \ 2] .
وَالْحُوبُ: أَعْظَمُ الذَّنْبِ، فَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ اسْتِبْدَالِ طَيِّبِ مَالِهِ بِخَبِيثِ مَالِ الْوَلِيِّ أَوْ غَيْرِهِ حَسَدًا لَهُ عَلَى مَالِهِ، كَمَا نَهَى عَنْ خَلْطِ مَالِهِ مَعَ مَالِ غَيْرِهِ كَوَسِيلَةٍ لِأَكْلِهِ مَعَ مَالِ الْغَيْرِ، وَهَذَا مَنْعٌ لِلتَّحَيُّلِ، وَسَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ ; حِفْظًا لِمَالِهِ.
ثُمَّ يَأْتِي الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِي صُورَةٍ مُفْزِعَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [4 \ 10] .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ: أَنَّ الْآيَةَ شَمِلَتْ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى كُلَّ مَا فِيهِ إِتْلَافٌ أَوْ تَفْوِيتٌ، سَوَاءٌ كَانَ بِأَكْلٍ حَقِيقَةً، أَوْ بِاخْتِلَاسٍ، أَوْ بِإِحْرَاقٍ، أَوْ إِغْرَاقٍ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِالْإِلْحَاقِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي ضَيَاعِ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَيْهِ، بَيْنَ كَوْنِهِ بِأَكْلٍ أَوْ إِحْرَاقٍ بِنَارٍ أَوْ إِغْرَاقٍ فِي مَاءٍ حَتَّى الْإِهْمَالُ فِيهِ، فَهُوَ تَفْوِيتُ عَلَيْهِ وَكُلُّ ذَلِكَ حِفْظًا لِمَالِهِ.
وَأَخِيرًا، فَإِذَا تَمَّ الْحِفَاظُ عَلَى مَالِهِ لَمْ يَقْرَبْهُ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَلَمْ يُبَدِّلْهُ بِغَيْرِهِ أَقَلَّ مِنْهُ، وَلَمْ يَخْلِطْهُ بِمَالِهِ لِيَأْكُلَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْتَدِ عَلَيْهِ بِأَيِّ إِتْلَافٍ كَانَ مَحْفُوظًا لَهُ، إِلَى أَنْ يَذْهَبَ يُتْمُهُ وَيَثْبُتَ رُشْدُهُ، فَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [4 \ 6] .
ثُمَّ أَحَاطَ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِ بِمُوجِبَاتِ الْحِفْظِ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [4 \ 6] أَيْ: حَتَّى لَا تَكُونَ مُنَاكَرَةً فِيمَا بَعْدُ.
وَفِي الْخِتَامِ يُنَبِّهُ اللَّهُ فِيهِمْ وَازِعَ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [4 \ 6] وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَمْوَالَهُ تُدْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَ مُحَاسِبَةٍ دَقِيقَةٍ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ.
وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ دِقَّةِ الْحِسَابِ، فَاللَّهُ سَيُحَاسِبُ عَنْهُ، وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حِفْظِ مَالِهِ.
أَمَّا جَلْبُ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّنَا نَجِدُ فِيهَا أَوَّلًا جَعْلَهُ مَعَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فِي عِدَّةِ
مُوَاطِنَ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى [2 \ 215] .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ إِيرَادُهُ فِي أَنْوَاعِ الْبِرِّ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ [2 \ 177] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَمِنْهَا: مَا هُوَ أُدْخِلَ فِي الْمَوْضُوعِ حَيْثُ جُعِلَ لَهُ نَصِيبًا فِي التَّرِكَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [4 \ 8] ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَبَاحِثِ الْآيَةِ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى، وَمَرَّةً أُخْرَى يَجْعَلُ لَهُمْ نَصِيبًا فِيمَا هُوَ أَعْلَى مَنْزِلَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ [8 \ 41] .
وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ [59 \ 7] .
فَجَعَلَهُمُ اللَّهُ مَعَ ذِي الْقُرْبَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي عُمُومِ وَصْفِ الْأَبْرَارِ، وَسَبَبًا لِلْوُصُولِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ النَّعِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [76 \ 5] .
وَذَكَرَ أَفْعَالَهُمُ الَّتِي مِنْهَا: " أَنَّهُمْ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ "[76 \ 7] ثُمَّ بَعْدَهَا أَنَّهُمْ: " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا "[76 \ 8] .
وَجَعَلَ هَذَا الْإِطْعَامَ اجْتِيَازُ الْعَقَبَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ الْآيَةَ [90 \ 11 - 15] .
وَلَقَدْ وَجَدْنَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَسُوقَ اللَّهُ الْخَضِرَ وَمُوسَى عليهما السلام لِيُقِيمَا جِدَارًا لِيَتِيمَيْنِ عَلَى كَنْزٍ لَهُمَا حَتَّى يَبْلُغَا أَشَدَّهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [18 \ 82] .
هَذَا هُوَ الْجَانِبُ الْمَالِيُّ مِنْ دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُ فِي حِفْظِ مَالِهِ، وَمِنْ جَانِبِ جَلْبِ النَّفْعِ إِلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ الْمَالِ.
أَمَّا الْجَانِبُ النَّفْسِيُّ فَكَالْآتِي:
أَوَّلًا: عَدَمُ مَسَاءَتِهِ فِي نَفْسِهِ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [107 \ 1 - 3] .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [89 \ 17 - 18] ، فَقَدَّمَ إِكْرَامَهُ إِشَارَةً لَهُ.
ثَانِيًا: فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى [2 \ 83] فَيُحْسِنُ إِلَيْهِ كَمَا يُحْسِنُ لِوَالِدَيْهِ وَلِذِي الْقُرْبَى.
وَمِنْهَا سُؤَالُ وَجَوَابُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [2 \ 220]، أَيْ: تُعَامِلُونَهُمْ كَمَا تُعَامِلُونَ الْإِخْوَانَ، وَهَذَا أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.
وَفِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الْمُفْسِدِ عَلَى الْمُصْلِحِ: إِشْعَارٌ لِشِدَّةِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي مُعَامَلَتِهِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ التَّحْذِيرِ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ جَعَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلَادِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [4 \ 9] .
أَيْ: حَتَّى فِي مُخَاطَبَتِهِمْ إِيَّاهُمْ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَوْلَادِهِمْ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ فِيمَا بَعْدُ أَيْتَامًا مِنْ بَعْدِهِمْ، فَكَمَا يَخْشَوْنَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ إِذَا صَارُوا أَيْتَامًا مِنْ بَعْدِهُمْ، فَلْيُحْسِنُوا مُعَامَلَةَ الْأَيْتَامِ فِي أَيْدِيهِمْ، وَهَذِهِ غَايَةُ دَرَجَاتِ الْعِنَايَةِ وَالرِّعَايَةِ.
تِلْكَ هِيَ نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي حُسْنِ مُعَامَلَةِ الْيَتِيمِ وَعَدَمِ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ، مِمَّا يُفَصِّلُ مُجْمَلَ قَوْلِهِ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [93 \ 9] .
لَا بِكَلِمَةٍ غَيْرِ سَدِيدَةٍ، وَلَا بِحِرْمَانِهِ مِنْ شَيْءٍ يَحْتَاجُهُ، وَلَا بِإِتْلَافِ مَالِهِ، وَلَا بِالتَّحَيُّلِ عَلَى أَكْلِهِ وَإِضَاعَتِهِ، وَلَا بِشَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ، لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي مَالِهِ.
وَالْأَحَادِيثُ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى ذَلِكَ عَدِيدَةٌ بَالِغَةٌ مَبْلَغَهَا فِي حَقِّهِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم أَرْحَمَ النَّاسِ بِهِ وَأَشْفَقَهُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ:" أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ "، يُشِيرُ إِلَى السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَمَالِكٍ: " كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ " أَيْ: قَرِيبٌ لَهُ، أَوْ بَعِيدٌ عَنْهُ.
وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ مَرْفُوعًا: " مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا مِنْ بَيْنِ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةَ " قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رُوَاةُ أَحْمَدَ مُحْتَجٌّ بِهِمْ إِلَّا عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ.
وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ، يُحْسَنُ إِلَيْهِ. وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ ".
وَجَاءَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ هَذَا وَذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الْأُمَّ لَتُعَطِّلُ مَصَالِحَهَا مِنْ أَجْلِ أَيْتَامِهَا، فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ - بِفَتْحِ الزَّايِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ - بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ " امْرَأَةٌ آمَتْ زَوْجَهَا " - بِأَلِفٍ مَمْدُودَةٍ وَمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَاءٍ - أَصْبَحَتْ أَيِّمًا بِوَفَاةِ زَوْجِهَا، ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا ".
وَجَعَلَهُ اللَّهُ دَوَاءً لِقَسَاوَةِ الْقَلْبِ، كَمَا رَوَى أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ:" امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ، وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ ".
وَهُنَا يَتَجَلَّى سِرٌّ لَطِيفٌ فِي مِثَالِيَّةِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ، حَيْثُ يُخَاطِبُ اللَّهُ تَعَالَى أَفْضَلَ الْخَلْقِ وَأَرْحَمَهُمْ، وَأَرْأَفَهُمْ بِعِبَادِ اللَّهِ، الْمَوْصُوفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [9 \ 128] وَبِقَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [68 \ 4] ، لِيَكُونَ مِثَالًا مِثَالِيًّا فِي أُمَّةٍ قَسَتْ قُلُوبُهَا وَغَلُظَتْ طِبَاعُهَا، فَلَا يَرْحَمُونَ ضَعِيفًا، وَلَا يُؤَدُّونَ حَقًّا إِلَّا مِنْ قُوَّةٍ يَدِينُونَ لِمَبْدَأِ: مَنْ عَزَّ بَزَّ، وَمَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ، يُفَاخِرُونَ بِالظُّلْمِ وَيَتَهَاجَوْنَ بِالْأَمَانَةِ، كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ:
قَبِيلَةٌ لَا يَخْفِرُونَ بِذِمَّةٍ
…
وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلٍ
وَيَقُولُ حَكِيمُهُمْ:ُُ
وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلَاحِهِ
…
يُهْدَمْ وَمَنْ لَمْ يَظْلِمِ النَّاسَ يُظْلَمِ
قَوْمٌ يَئِدُونَ بَنَاتَهُمْ، وَيَحْرِمُونَ مِنَ الْمِيرَاثِ نِسَاءَهُمْ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا، فَقَلَبَ مَقَايِيسَهُمْ، وَعَدَلَ مَفَاهِيمَهُمْ، فَأَلَانَ قُلُوبَهُمْ وَرَقَّقَ طِبَاعَهُمْ، فَلَانُوا مَعَ هَذَا الضَّعِيفِ وَحَفِظُوا حَقَّهُ.
وَحَقِيقَةُ هَذَا التَّشْرِيعِ الْإِلَهِيِّ الْحَكِيمِ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، تَأْتِي فَوْقَ كُلِّ مَا تَتَطَلَّعُ إِلَيْهِ آمَالُ الْحَضَارَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا، مِمَّا يُحَقِّقُ كَمَالَ التَّكَامُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ بِأَبْهَى مَعَانِيهِ، الْمُنَوِّهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [4 \ 9] ، فَجَعَلَ كَافِلَ الْيَتِيمِ الْيَوْمَ، إِنَّمَا يَعْمَلُ حَتَّى فِيمَا بَعْدُ لَوْ تَرَكَ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا، وَعَبَّرَ هُنَا عَنِ الْأَيْتَامِ بِلَازِمِهِمْ، وَهُوَ الضَّعْفُ إِبْرَازًا لِحَاجَةِ الْيَتِيمِ إِلَى الْإِحْسَانِ، بِسَبَبِ ضَعْفِهِ فَيَكُونُونَ مَوْضِعَ خَوْفِهِمْ عَلَيْهِمْ لِضَعْفِهِمْ، فَلْيُعَامِلُوا الْأَيْتَامَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُعَامِلَ غَيْرُهُمْ أَيْتَامَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ.
وَهَكَذَا تَضَعُ الْآيَةُ أَمَامَنَا تَكَافُلًا اجْتِمَاعِيًّا فِي كَفَالَةِ الْيَتِيمِ، بَلْ إِنَّ الْيَتِيمَ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ يَتِيمُ الْيَوْمِ وَرَجُلُ الْغَدِ، فَكَمَا تُحْسِنُ إِلَيْهِ يُحْسِنُ هُوَ إِلَى أَيْتَامِكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا كَانَ الْخَيْرُ بِالْخَيْرِ وَالْبَادِئُ أَكْرَمُ، وَإِنْ شَرًّا كَانَ بِمِثْلِهِ وَالْبَادِئُ أَظْلَمُ.
وَمَعَ هَذَا الْحَقِّ الْمُتَبَادَلِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَحُثُّ عَلَيْهِ وَيَعْنِي بِهِ، وَرَغَّبَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَأَجْزَلَ الْمَثُوبَةَ عَلَيْهِ، وَحَذَّرَ مِنَ الْإِسَاءَةِ عَلَيْهِ، وَشَدَّدَ الْعُقُوبَةَ فِيهِ.
وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ إِطَالَةٌ، وَلَكِنَّهُ وَفَاءٌ بِحَقِّ الْيَتِيمِ أَوَّلًا، وَتَأَثُّرٌ بِكَثْرَةِ مَا يُلَاقِيهِ الْيَتِيمُ ثَانِيًا.
تَنْبِيهٌ.
لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِسَاءَةِ إِلَى الْيَتِيمِ تَأْدِيبُهُ وَالْحَزْمُ مَعَهُ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ كَمَا قِيلَ:
قَسَا لِيَزْدَجِرُوا وَمَنْ يَكُ حَازِمًا
…
فَلْيَقْسُ أَحْيَانًا عَلَى مَنْ يَرْحَمُ
وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، قَالُوا: السَّائِلُ: الْفَقِيرُ وَالْمُحْتَاجُ، يَسْأَلُ مَا يَسُدُّ حَاجَتَهُ وَهُوَ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى أَيْ: فَكَمَا أَغْنَاكَ اللَّهُ وَبِدُونِ سُؤَالٍُُ
فَإِذَا أَتَاكَ سَائِلٌ فَلَا تَنْهَرْهُ، وَلَوْ فِي رَدِّ الْجَوَابِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وَمَعْلُومٌ: أَنَّ الْجَوَابَ بِلُطْفٍ، قَدْ يَقُومُ مَقَامَ الْعَطَاءِ فِي إِجَابَةِ السَّائِلِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُعْطِيهِ لِلسَّائِلِ يَعِدُهُ وَعْدًا حَسَنًا لِحِينِ مَيْسَرَةٍ ; أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [17 \ 28] .
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيْتَيْنِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، هُمَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنْ لَمْ تَكُنْ وَرِقٌ يَوْمًا أَجُودُ بِهَا
…
لِلسَّائِلِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ
لَا يَعْدَمُ السَّائِلُونَ الْخَيْرَ مِنْ خُلُقِي
…
إِمَّا نَوَالِي وَإِمَّا حُسْنُ مَرْدُودِ
فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ يُسْعِدِ الْمَالُ.
وَقِيلَ: السَّائِلُ الْمُسْتَفْسِرُ عَنْ مَسَائِلِ الدِّينِ وَالْمُسْتَرْشِدُ، وَقَالُوا هَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى أَيْ: لَا تَنْهَرْ مُسْتَغْنِيًا وَلَا مُسْتَرْشِدًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [80 \ 1 - 2] .
وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا شَفِيقًا عَلَى الْجَاهِلِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ صَاحَ بِهِ الصَّحَابَةُ، فَقَالَ لَهُمْ:" لَا تُزْرِمُوهُ " إِلَى أَنْ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا أَبَدًا " وَكَالْآخَرِ الَّذِي جَاءَ يَضْرِبُ صَدْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ، وَيَقُولُ: " هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ، وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَعْطَاهُ فَرَقًا مِنْ طَعَامِهِ يُكَفِّرُ بِهِ عَنْ ذَنْبِهِ، فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: قُمْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ ".
وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقِفُ لِلْمَرْأَةِ فِي الطَّرِيقِ يُصْغِي إِلَيْهَا حَتَّى يَضِيقَ مَنْ مَعَهُ، وَهُوَ يَصْبِرُ لَهَا وَلَمْ يَنْهَرْهَا، بَلْ يُجِيبُهَا عَلَى أَسْئِلَتِهَا.
وَقَدْ حَثَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِكْرَامِ طَالِبِ الْعِلْمِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَأَنَّ الْحِيتَانَ فِي الْبَحْرِ لَتَسْتَغْفِرُ لَهُ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ.
وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ: النِّعْمَةُ كُلُّ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَهِيَ كُلُّ مَا يَنْعَمُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ: مَالٍ، وَعَافِيَةٍ، وَهِدَايَةٍ، وَنُصْرَةٍ مِنَ النُّعُومَةِ وَاللِّينِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَاُُ
الْمَذْكُورَاتُ وَالتَّحَدُّثُ بِهَا شُكْرُهَا عَمَلِيًّا مِنْ إِيوَاءِ الْيَتِيمِ كَمَا آوَاهُ اللَّهُ، وَإِعْطَاءِ السَّائِلِ كَمَا أَغْنَاهُ اللَّهُ، وَتَعْلِيمِ الْمُسْتَرْشِدِ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ، أَيْ: كَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَتَنَعَّمْ أَنْتَ عَلَى غَيْرِكَ ; تَأَسِّيًا بِفِعْلِ اللَّهِ مَعَكَ.
وَقِيلَ: التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ هُوَ التَّبْلِيغُ عَنِ اللَّهِ مِنْ آيَةٍ وَحَدِيثٍ، وَالنِّعْمَةُ هُنَا عَامَّةٌ ; لِتَنْكِيرِهَا وَإِضَافَتِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [16 \ 53]، أَيْ: كُلُّ نِعْمَةٍ، وَلَكِنِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا فِي الْوَحْيِ أَظْهَرُ أَوْ هُوَ أَوْلَى بِهَا، أَوْ هُوَ أَعْظَمُهَا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [5 \ 3] فَقَالَ: «نِعْمَتِي» ، وَهُنَا «نِعْمَةُ رَبِّكَ» . وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا نَحَرَ مِائَةَ نَاقَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ، فَفَعَلَ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى إِتْمَامِ النِّعْمَةِ بِإِكْمَالِ الدِّينِ.
وَقَدْ قَالُوا فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا: إِنَّ الَّتِي قَبْلَهَا فِي الصِّدِّيقِ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [92 \ 17 - 21]، وَهُنَا فِي الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [93 \ 3 - 5] مَعَ الْفَارِقِ الْكَبِيرِ فِي الْعَطَاءِ وَالْخِطَابِ.
وَالْوَاقِعُ أَنَّ مُنَاسَبَاتِ السُّوَرِ الْقِصَارِ أَظْهَرُ مِنْ مُنَاسَبَاتِ الْآيِ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، كَمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ:«وَاللَّيْلِ» مَعَ «وَالضُّحَى» ، ثُمَّ مَا بَيْنَ:«وَالضُّحَى» وَ «أَلَمْ نَشْرَحْ» إِنَّهَا تَتِمَّةُ النِّعَمِ الَّتِي يُعَدِّدُهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ. وَهَكَذَا عَلَى مَا سَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي مَحَلِّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَعْلَمُ عِلْمًا ; بِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَعْتَبِرْ تِلْكَ الْمُنَاسَبَاتِ. وَلَكِنْ مَا كَانَتِ الْمُنَاسَبَةُ فِيهِ وَاضِحَةٌ، فَلَا يَنْبَغِي إِغْفَالُهُ، وَمَا كَانَتْ خَفِيَّةً لَا يَنْبَغِي التَّكَلُّفُ لَهُ.