المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

[8 \‌ ‌ 4 3 - 44] ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَنْبَغِي - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٨

[محمد الأمين الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌ الْحَشْرِ

- ‌1

- ‌ 4

- ‌[5

- ‌ 7]

- ‌8

- ‌[20

- ‌ 21]

- ‌ الْمُمْتَحَنَةِ

- ‌ 1

- ‌3

- ‌ 4]

- ‌7]

- ‌[8

- ‌ 10]

- ‌ 13]

- ‌ الصَّفِّ

- ‌(2)

- ‌ 5]

- ‌[6

- ‌ 14]

- ‌ الْجُمُعَةِ

- ‌[2

- ‌[4

- ‌[5

- ‌6]

- ‌[7

- ‌9

- ‌ الْمُنَافِقُونَ

- ‌2]

- ‌3

- ‌[9

- ‌ 11]

- ‌2

- ‌[3

- ‌[6

- ‌8

- ‌9

- ‌ 16]

- ‌ الطَّلَاقِ

- ‌6

- ‌8

- ‌ التَّحْرِيمِ

- ‌ 1]

- ‌ 4]

- ‌[5

- ‌[7

- ‌ 2

- ‌[الملك:

- ‌3]

- ‌7

- ‌ 10] :

- ‌ 13]

- ‌ 15]

- ‌ الْقَلَمِ

- ‌ 1

- ‌[2

- ‌ الْحَاقَّةِ

- ‌ 4]

- ‌9

- ‌[18

- ‌ الْمَعَارِجِ

- ‌ 1

- ‌[2

- ‌ 4

- ‌[10

- ‌[22

- ‌ 40

- ‌ نُوحٍ

- ‌5]

- ‌ 14]

- ‌ الْجِنِّ

- ‌[4

- ‌ 10]

- ‌[18

- ‌ الْمُزَّمِّلِ

- ‌[1

- ‌ 5

- ‌6]

- ‌ الْمُدَّثِّرِ

- ‌[8

- ‌ الْقِيَامَةِ

- ‌ 7

- ‌ الْإِنْسَانِ

- ‌ 5

- ‌ 29]

- ‌ الْمُرْسَلَاتِ

- ‌[1

- ‌ 43]

- ‌ النَّبَأِ

- ‌ 40]

- ‌ النَّازِعَاتِ

- ‌ 1

- ‌3]

- ‌6

- ‌25]

- ‌ عَبَسَ

- ‌ 1

- ‌[11

- ‌ 17]

- ‌ التَّكْوِيرِ

- ‌1

- ‌[8

- ‌[26

- ‌ الِانْفِطَارِ

- ‌5

- ‌ 16]

- ‌ الْمُطَفِّفِينَ

- ‌ 4

- ‌ الِانْشِقَاقِ

- ‌[3

- ‌[7

- ‌ الْبُرُوجِ

- ‌[2

- ‌3

- ‌ 4]

- ‌[8

- ‌ 19

- ‌ الطَّارِقِ

- ‌2

- ‌[5

- ‌8

- ‌[10

- ‌ 15]

- ‌ الْأَعْلَى

- ‌ 1

- ‌2

- ‌[6

- ‌ الْغَاشِيَةِ

- ‌[1

- ‌ الْفَجْرِ

- ‌1

- ‌[6

- ‌[21

- ‌ الْبَلَدِ

- ‌ 2]

- ‌ 6]

- ‌[17

- ‌ الشَّمْسِ

- ‌ اللَّيْلِ

- ‌ 3

- ‌ الضُّحَى

- ‌ 5]

- ‌[7

- ‌[9

- ‌ الشَّرْحِ

- ‌ 1

- ‌[7

الفصل: [8 \‌ ‌ 4 3 - 44] ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَنْبَغِي

[8 \‌

‌ 4

3 - 44] ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَنْبَغِي الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ الْيَوْمَ عَلَى الْعَدُوِّ فِي قَضِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

الْمُشَاقَّةُ: الْعِصْيَانُ، وَمِنْهُ شَقُّ الْعَصَا، وَالْمُخَالَفَةُ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْقَعَ مَا أَوْقَعَهُ بِبَنِي النَّضِيرِ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَتَخْرِيبِ بُيُوتِهِمْ؛ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَنَّ الْمُشَاقَّةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ عِلَّةُ الْعُقُوبَةِ الْحَاصِلَةِ بِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُشَاقَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ.

وَفِي الْآيَةِ مَبْحَثٌ أُصُولِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُشَاقَّةَ قَدْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ، فَلَمْ تَقَعْ بِهِمْ تِلْكَ الْعُقُوبَةُ كَمَا وَقَعَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [8 \ 12] ، وَهَذَا فِي بَدْرٍ قَطْعًا، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [8 \ 13]، وَلَمَّا قَدَرَ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يُوقِعْ بِهِمْ مَا أَوْقَعَ بِالْيَهُودِ مِنْ قَتْلٍ بَلْ قَالَ:«اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» فَوُجِدَ الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ الْمُشَاقَّةُ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ، وَلَمْ يُوجَدِ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ وَتَخْرِيبُ الْبُيُوتِ.

قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتِ الْمُشَاقَّةُ عِلَّةً لِهَذَا التَّخْرِيبِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُشَاقَّةُ حَصَلَ التَّخْرِيبُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ قُلْنَا: هَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا. اهـ.

وَقَدْ بَحَثَ الشَّيْخُ رحمه الله هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي آَدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَفِي مُذَكِّرَةِ الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ النَّقْضِ، وَعَنْوَنَ لَهُ فِي آدَابِ الْبَحْثِ بِقَوْلِهِ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لَيْسَ بِنَقْضٍ سَوَاءً لِوُجُودِ مَانِعٍ أَوْ تَخَلُّفِ شَرْطٍ.

وَمَثَّلَ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ مَانِعٍ بِقَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ عَمْدًا، مَعَ عَدَمِ قَتْلِهِ قِصَاصًا بِهِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْقِصَاصِ مَوْجُودَةٌ، وَهِيَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ، وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْقِصَاصُ مُتَخَلِّفٌ.

وَمَثَّلَ لِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ بِسَرِقَةِ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ.

ص: 22

ثُمَّ قَالَ: النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَخَلُّفُ حُكْمِهَا عَنْهَا لَا لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَمَثَّلَ لَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [59 \ 3]، قَالُوا: فَهَذِهِ الْعِلَّةُ، الَّتِي هِيَ مُشَاقَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَدْ تُوجَدُ فِي قَوْمٍ يُشَاقُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهَا عَنْهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنِ النَّقْضَ فِي فَنِّ الْأُصُولِ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ مُطْلَقًا، لَا نَقْضٌ لَهَا، وَعَزَاهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ لِلْأَكْثَرِينَ فِي قَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْقَوَادِحِ فِي الدَّلِيلِ فِي الْأُصُولِ:

مِنْهَا وُجُودُ الْوَصْفِ دُونَ الْحُكْمِ

سَمَّاهُ بِالنَّقْضِ وُعَاةُ الْعِلْمِ

وَالْأَكْثَرُونَ عِنْدَهُمْ لَا يَقْدَحُ

بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَذَا مُصَحِّحٌ

إِلَى قَوْلِهِ:

وَلَسْتُ فِيمَا اسْتَنْبَطْتُ بِضَائِرٍ

إِنْ جَاءَ لِفَقْدِ شَرْطٍ أَوْ لِمَانِعٍ

وَقَدْ أَطْلَعَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ عَلَى شَرْحٍ لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ رحمه الله عَلَى مَرَاقِي السُّعُودِ فِي أَوَائِلِهِ عَلَى قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ:

ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ وَلَا يُرَاعِ

وَتَكَلَّمَ عَلَى حُكْمِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ، ثُمَّ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ إِلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ.

وَجَاءَ فِي هَذَا الْمَخْطُوطِ مَا نَصُّهُ: وَرَجَّحَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «الْحَشْرِ» أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ كَتَخْصِيصِ النَّصِّ مُطْلَقًا، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ الْآيَةَ [59 \ 3] ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَمْ يَفْعَلْ لَهُمْ مِثْلَ مَا فَعَلَ لَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.

إِلَّا أَنِّي طَلَبْتُ هَذَا التَّرْجِيحَ فِي ابْنِ كَثِيرٍ عِنْدَ الْآيَةِ، فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ فَلْيُتَأَمَّلْ، وَلَعَلَّهُ فِي غَيْرِ التَّفْسِيرِ.

أَمَّا مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنِ الْبَعْضِ فِي آدَابِ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ: قَدْ يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنِ الْعِلَّةِ، لَا لِشَيْءٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ فِي غَيْرِ الْيَهُودِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَخَلُّفِ جُزْءٍ مِنْهَا، وَأَنَّ الْعِلَّةَ

ص: 23

مُرَكَّبَةٌ، أَيْ هِيَ فِي الْيَهُودِ مُشَاقَّةٌ وَزِيَادَةٌ، تِلْكَ الزِّيَادَةُ لَمْ تُوجَدْ فِي غَيْرِ الْيَهُودِ، فَوَقَعَ الْفَرْقُ، وَذَلِكَ أَنَّ مُشَاقَّةَ غَيْرِ الْيَهُودِ كَانَتْ؛ لِجَهْلِهِمْ وَشَكِّهِمْ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى لِذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [36 \ 78 - 79] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «ص» : وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي [38 \ 4 - 8] .

فَهُمْ فِي عَجَبٍ وَدَهْشَةٍ، وَاسْتِبْعَادٍ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهُمْ فِي شَكِّ مِنْ أَمْرِهُمْ، فَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى إِزَالَةِ الشَّكِّ وَالتَّثَبُّتِ مِنَ الْأَمْرِ، وَلِذَا لَمَّا زَالَ عَنْهُمْ شَكُّهُمْ وَتَبَيَّنُوا مِنْ أَمْرِهُمْ، وَرَاحُوا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، بَيْنَمَا كَانَ كُفْرُ الْيَهُودِ جُحُودًا بَعْدَ مَعْرِفَةٍ، فَكَانُوا يَعْرِفُونَهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [2 \ 146]، وَقَدْ سُمِّيَ لَهُمْ فِيمَا أَنْزَلَ كَمَا قَالَ عِيسَى عليه السلام: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [61 \ 6] فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ بَيَانٌ، وَلَكِنَّهُ الْحَسَدُ وَالْجُحُودُ كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى أَمْرَهُمْ بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [2 \ 109]، وَقَوْلِهِ: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [3 \ 69]، وَقَوْلِهِ: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [2 \ 75]، وَقَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [3 \ 71] .

فَقَدْ كَانُوا جَبْهَةَ تَضْلِيلٍ لِلْنَاسِ، وَتَحْرِيفٍ لِلْكِتَابِ، وَتَلْبِيسٍ لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، كُلُّ ذَلِكَ عَنْ قَصْدٍ وَعِلْمٍ، بِدَافِعِ الْحَسَدِ وَمُنَاصَبَةِ الْعَدَاءِ وَخَصْمٌ هَذَا حَالُهُ فَلَا دَوَاءَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَلِّسَ لَا يُؤْمَنُ جَانِبُهُ، وَالْمُضَلِّلَ لَا يُصَدَّقُ، وَالْحَاسِدَ لَا يَشْفِيهِ إِلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ، وَمِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ الطَّمَعَ عَنْ إِيمَانِهِمْ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [2 \ 75]، كَمَا أَيْأَسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَغَلُّفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ وَرُؤْيَةِ النُّورِ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ

ص: 24

[2 \ 88] .

وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي كُلِّ مَنْ شَاقَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا هَذَا الْحُكْمَ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [2 \ 84 - 85] .

فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْمِيثَاقِ، وَالْغَدْرِ فِي الصُّلْحِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَالتَّظَاهُرِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْإِيمَانِ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَالْكُفْرِ بِبَعْضِهِ، كَانَ خَاصًّا بِالْيَهُودِ، فَكَانَتِ الْعِلَّةُ مُرَكَّبَةً مِنَ الْمُشَاقَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا، وَكَانَ الْحُكْمُ صَرِيحًا هُنَا بِقَوْلِهِ عَنْهُمْ: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [2 \ 85] ، وَكَانَ خِزْيُهُمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مَا وَقَعَ بِهِمْ مِنْ إِخْرَاجٍ، وَتَخْرِيبٍ، وَتَقْتِيلٍ.

وَإِنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاسْتِئْصَالُ الْكُلِّيُّ بِإِخْرَاجِهِمْ أَوْ تَقْتِيلِهِمْ، فَلَمْ يَعُدْ يَصْلُحُ فِيهِمُ اسْتِصْلَاحٌ وَلَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُمْ صَلَاحٌ، وَيَكْفِي شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَتَّعِظُوا، وَلَمْ يَسْتَفِيدُوا، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [59 \ 2] .

مَا اتَّعَظَ بَنُو قُرَيْظَةَ بِمَا وَقَعَ بِإِخْوَانِهِمْ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَجَئُوا بَعْدَ عَامٍ وَاحِدٍ إِلَى مَا وَقَعَ فِيهِ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ غَدْرٍ وَخِيَانَةٍ، فَكَانَ اخْتِصَاصُ الْيَهُودِ بِالْحُكْمِ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي الْمُشَاقَّةِ فَلَمْ يُشَارِكْهُمْ غَيْرُهُمْ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِمَّا قَدَّمْنَا مِنْ دَوَافِعِ الْمُشَاقَّةِ.

وَلِلدَّوَافِعِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ، كَمَا فِي قِصَّةِ آدَمَ وَإِبْلِيسَ، فَقَدِ اشْتَرَكَ آدَمُ وَإِبْلِيسُ فِي عُمُومِ عِلَّةِ الْعِصْيَانِ، إِذْ نُهِيَ آدَمُ عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ، وَأُمِرَ إِبْلِيسُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَكَلَ آدَمُ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ، وَامْتَنَعَ إِبْلِيسُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ فَاشْتَرَكَا فِي الْعِصْيَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ آدَمَ: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [20 \ 121]، وَقَالَ عَنْ إِبْلِيسَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [7 \ 12] ، وَلَكِنَّ السَّبَبَ كَانَ مُخْتَلِفًا، فَآدَمُ نَسِيَ وَوَقَعَ تَحْتَ وَسْوَسَةِ

ص: 25

الشَّيْطَانِ فَخُدِعَ بِقَسَمِ إِبْلِيسَ بِاللَّهِ تَعَالَى: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [7 \ 21]، وَكَانَتْ مَعْصِيَةٌ عَنْ إِغْوَاءٍ وَوَسْوَسَةٍ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ [2 \ 36] .

أَمَّا إِبْلِيسُ، فَكَانَ عِصْيَانُهُ عَنْ سَبْقِ إِصْرَارٍ، وَعَنْ حَسَدٍ وَاسْتِكْبَارٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [2 \ 34]، وَلَمَّا خَاطَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [38 \ 75]، قَالَ فِي إِصْرَارِهِ وَحَسَدِهِ وَتَكَبُّرِهِ: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [38 \ 76] .

فَاخْتَلَفَتِ الدَّوَافِعُ وَكَانَ لَدَى إِبْلِيسَ مَا لَيْسَ لَدَى آدَمَ فِي سَبَبِ الْعِصْيَانِ وَبِالتَّالِي اخْتَلَفَتِ النَّتَائِجُ، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ مُخْتَلِفَةً تَمَامًا. أَمَّا آدَمُ فَحِينَ عَاتَبَهُ عَلَى أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [7 \ 22] رَجَعَا حَالًا، وَاعْتَرَفَا بِذَنْبِهِمَا قَائِلِينَ: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [7 \ 23]، وَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ لَهُمَا قَوْلَهُ تَعَالَى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [7 \ 24] .

فَكَانَ هُبُوطُ آدَمَ مُؤَقَّتًا، وَلَحِقَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [2 \ 38] ، فَأَدْرَكَتْهُ هِدَايَةُ اللَّهِ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [2 \ 37] .

أَمَّا نَتِيجَةُ إِبْلِيسَ فَلَمَّا عَاتَبَهُ تَعَالَى فِي مَعْصِيَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [38 \ 75] ، كَانَ جَوَابُهُ اسْتِعْلَاءً، وَتَعَاظُمًا، عَلَى النَّقِيضِ مِمَّا كَانَ فِي جَوَابِ آدَمَ إِذْ قَالَ: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [38 \ 76]، فَكَانَ جَوَابُهُ كَذَلِكَ عَكْسَ مَا كَانَ جَوَابًا عَلَى آدَمَ: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [38 \ 77 - 78] .

وَلَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الَّذِي جَرَّ عَلَى إِبْلِيسَ هَذَا كُلَّهُ هُوَ الْحَسَدُ، حَسَدَ آدَمَ عَلَى مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ فَاحْتَقَرَهُ، وَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ، فَوَقَعَ فِي الْعِصْيَانِ، وَكَانَتْ نَتِيجَتُهُ الطَّرْدَ.

ص: 26

وَهَكَذَا الْيَهُودُ: إِنَّ دَاءَهُمُ الدَّفِينَ هُوَ الْحَسَدُ، وَالْعُجْبُ بِالنَّفْسِ، فَجَرَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَوَقَعُوا فِي الْخِيَانَةِ، وَكَانَتِ النَّتِيجَةُ الْقَتْلَ، وَالطَّرْدَ.

وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ رحمه الله أَنَّ مُشَاقَّةَ الْيَهُودِ هَذِهِ هِيَ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، وَتَهَدَّدَهُمْ إِنْ هُمْ عَادُوا لِلثَّالِثَةِ عَادَ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَهَاهُمْ قَدْ عَادُوا، وَشَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ.

قَالَ رحمه الله فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [17 \ 8]، لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قُضِيَ إِلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ - وَبَيَّنَ نَتَائِجَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ - بَيَّنَ تَعَالَى أَيْضًا: أَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَإِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَعُودُ لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِتَسْلِيطِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ أَمْ لَا؟ .

وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ إِلَى أَنَّهُمْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَكَتْمِ صِفَاتِهِ، وَنَقَضِ عُهُودِهِ، وَمُظَاهَرَةِ عَدُّوهِ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِمِ الْقَبِيحَةِ، فَعَادَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِلِانْتِقَامِ مِنْهُمْ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ، وَجَرَى عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَبَنِي النَّضِيرِ، وَبَنِي قَيْنُقَاعَ وَخَيْبَرَ، مَا جَرَى مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّلْبِ وَالْإِجْلَاءِ، وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ عَادُوا لِلْإِفْسَادِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [2 \ 89 - 90]، وَقَوْلُهُ: الْفَاسِقُونَ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [2 \ 100]، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ [5 \ 13] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ

ص: 27