المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَاللَّهُ قَدِيرٌ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ لَهُمْ، وَقَدْ جَاءَ مَا - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٨

[محمد الأمين الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌ الْحَشْرِ

- ‌1

- ‌ 4

- ‌[5

- ‌ 7]

- ‌8

- ‌[20

- ‌ 21]

- ‌ الْمُمْتَحَنَةِ

- ‌ 1

- ‌3

- ‌ 4]

- ‌7]

- ‌[8

- ‌ 10]

- ‌ 13]

- ‌ الصَّفِّ

- ‌(2)

- ‌ 5]

- ‌[6

- ‌ 14]

- ‌ الْجُمُعَةِ

- ‌[2

- ‌[4

- ‌[5

- ‌6]

- ‌[7

- ‌9

- ‌ الْمُنَافِقُونَ

- ‌2]

- ‌3

- ‌[9

- ‌ 11]

- ‌2

- ‌[3

- ‌[6

- ‌8

- ‌9

- ‌ 16]

- ‌ الطَّلَاقِ

- ‌6

- ‌8

- ‌ التَّحْرِيمِ

- ‌ 1]

- ‌ 4]

- ‌[5

- ‌[7

- ‌ 2

- ‌[الملك:

- ‌3]

- ‌7

- ‌ 10] :

- ‌ 13]

- ‌ 15]

- ‌ الْقَلَمِ

- ‌ 1

- ‌[2

- ‌ الْحَاقَّةِ

- ‌ 4]

- ‌9

- ‌[18

- ‌ الْمَعَارِجِ

- ‌ 1

- ‌[2

- ‌ 4

- ‌[10

- ‌[22

- ‌ 40

- ‌ نُوحٍ

- ‌5]

- ‌ 14]

- ‌ الْجِنِّ

- ‌[4

- ‌ 10]

- ‌[18

- ‌ الْمُزَّمِّلِ

- ‌[1

- ‌ 5

- ‌6]

- ‌ الْمُدَّثِّرِ

- ‌[8

- ‌ الْقِيَامَةِ

- ‌ 7

- ‌ الْإِنْسَانِ

- ‌ 5

- ‌ 29]

- ‌ الْمُرْسَلَاتِ

- ‌[1

- ‌ 43]

- ‌ النَّبَأِ

- ‌ 40]

- ‌ النَّازِعَاتِ

- ‌ 1

- ‌3]

- ‌6

- ‌25]

- ‌ عَبَسَ

- ‌ 1

- ‌[11

- ‌ 17]

- ‌ التَّكْوِيرِ

- ‌1

- ‌[8

- ‌[26

- ‌ الِانْفِطَارِ

- ‌5

- ‌ 16]

- ‌ الْمُطَفِّفِينَ

- ‌ 4

- ‌ الِانْشِقَاقِ

- ‌[3

- ‌[7

- ‌ الْبُرُوجِ

- ‌[2

- ‌3

- ‌ 4]

- ‌[8

- ‌ 19

- ‌ الطَّارِقِ

- ‌2

- ‌[5

- ‌8

- ‌[10

- ‌ 15]

- ‌ الْأَعْلَى

- ‌ 1

- ‌2

- ‌[6

- ‌ الْغَاشِيَةِ

- ‌[1

- ‌ الْفَجْرِ

- ‌1

- ‌[6

- ‌[21

- ‌ الْبَلَدِ

- ‌ 2]

- ‌ 6]

- ‌[17

- ‌ الشَّمْسِ

- ‌ اللَّيْلِ

- ‌ 3

- ‌ الضُّحَى

- ‌ 5]

- ‌[7

- ‌[9

- ‌ الشَّرْحِ

- ‌ 1

- ‌[7

الفصل: وَاللَّهُ قَدِيرٌ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ لَهُمْ، وَقَدْ جَاءَ مَا

وَاللَّهُ قَدِيرٌ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ لَهُمْ، وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ فِعْلًا فِي سُورَةِ «النَّصْرِ» حِينَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَكَّةَ وَكَانُوا طُلَقَاءَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ مَوْقِفُ أَبِي سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ، وَعَامِ الْوُفُودِ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَفِي التَّذْيِيلِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدِيرٌ، يُشْعِرُ بِأَنَّ تَأْلِيفَ الْقُلُوبِ وَمَوَدَّتَهَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، كَمَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا الْآيَةَ ‌

‌[8

\ 63] .

وَلِأَنَّ الْمَوَدَّةَ الْمُتَوَقَّعَةَ بِسَبَبِ هِدَايَةِ الْكُفَّارِ، وَالْهِدَايَةُ مِنْحَةٌ مِنَ اللَّهِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.

اعْتَبَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةَ الْأُولَى رُخْصَةً مِنَ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَكِنْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ صِنْفَانِ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَقِسْمَانِ مِنَ الْمُعَامَلَةِ:

الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: عَدُوٌّ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَلَمْ يُخْرِجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ.

وَالصِّنْفُ الثَّانِي: قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُ تَعَالَى فِيهِمْ: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ.

إِذًا فَهُمَا قِسْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَحُكْمَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَإِنْ كَانَ الْقِسْمَانِ لَمْ يَخْرُجَا عَنْ عُمُومِ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَةَ الْأَوْلَى رُخْصَةً بَعْدَ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ إِنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي.

وَاعْتَبَرَ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ الْأَوَّلِ، وَنَاقَشَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ دَعْوَى النَّسْخِ فِي الْأُولَى، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ وَمَنَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْآيَتَيْنِ تَقْسِيمٌ لِعُمُومِ الْعَدُوِّ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [60 \ 1] ، مَعَ بَيَانِ كُلِّ قِسْمٍ وَحُكْمِهِ، كَمَا تَدُلُّ لَهُ قَرَائِنُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَقَرَائِنُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

أَمَّا التَّقْسِيمُ فَقِسْمَانِ: قِسْمٌ مُسَالِمٌ لَمْ يُقَاتِلِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ،

ص: 90

فَلَمْ يَنْهَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بِرِّهِمْ وَالْإِقْسَاطِ إِلَيْهِمْ، وَقِسْمٌ غَيْرُ مُسَالِمٍ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَيُظَاهِرُ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْإِذْنِ بِالْبَرِّ وَالْقِسْطِ، وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُوَالَاةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّقْسِيمِ مَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ قَرَائِنَ، وَهِيَ عُمُومُ الْوَصْفِ بِالْكُفْرِ، وَخُصُوصُ الْوَصْفِ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَإِيَّاكُمْ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِخْرَاجَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ كَانَ نَتِيجَةً لِقِتَالِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاتِهِ لِمَوْقِفِهِ الْمُعَادِي؛ لِأَنَّ الْمُعَادَاةَ تُنَافِي الْمُوَالَاةَ.

وَلِذَا عَقَّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَأَيُّ ظُلْمٍ بَعْدَ مُوَالَاةِ الْفَرْدِ لِأَعْدَاءِ أُمَّتِهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

أَمَّا الْقِسْمُ الْعَامُّ وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُعَادُوا الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ لَا بِقِتَالٍ، وَلَا بِإِخْرَاجٍ، وَلَا بِمُعَاوَنَةِ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ وَلَا ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ جَانِبٍ لَيْسُوا مَحَلًّا لِلْمُوَالَاةِ لِكُفْرِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ مَا يَمْنَعُ بِرَّهُمْ وَالْإِقْسَاطَ إِلَيْهِمْ.

وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَ فِيهَا جَدِيدُ بَحْثٍ بَعْدَ الْبَحْثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَبَقِيَ الْبَحْثُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَمِنْ جَانِبَيْنِ: الْأَوَّلُ: بَيَانُ مَنِ الْمَعْنِيُّ بِهَا، وَالثَّانِي: بَيَانُ حُكْمِهَا، وَهَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَمْ نُسِخَتْ.

وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْمَبْحَثِ وَحَاجَةِ الْأُمَّةِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَأَشَدِّ مَا تَكُونُ فِي هَذَا الْعَصْرِ لِقُوَّةِ تَشَابُكِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ وَعُمْقِ تُدَاخُلِهَا، وَتَرَابِطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ فِي جَمِيعِ الْمَجَالَاتِ، وَعَدَمِ انْفِكَاكِ دَوْلَةٍ عَنْ أُخْرَى مِمَّا يَزِيدُ مِنْ وُجُوبِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمَوْضُوعِ.

وَإِنِّي مُسْتَعِينُ اللَّهِ فِي إِيرَادِ مَا قِيلَ فِيهَا، ثُمَّ مُقَدِّمٌ مَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ مَجْمُوعِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَلَامِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّهَاُ مَنْسُوخَةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ: أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ زَمَنَ الْمُوَادَعَةِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَتْ، قِيلَ بِآيَةِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [9 \ 5] قَالَهُ قَتَادَةُ.

ص: 91

وَقِيلَ: كَانَتْ فِي أَهْلِ الصُّلْحِ فَلَمَّا زَالَ زَالَ حُكْمُهَا وَانْتَهَى الْعَمَلُ بِهَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.

وَقِيلَ: هِيَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَهْدِ حَتَّى يَنْتَهِيَ عَهْدُهُمْ أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ وَمُرْتَبِطَةً بِقَوْمٍ.

وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي الْعَاجِزِينَ عَنِ الْقِتَالِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

وَقِيلَ: إِنَّهَا فِي ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ حِينَمَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، وَعَلَى كُلِّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ قَدْ نُسِخَتْ، بِفَوَاتِ وَقْتِهَا وَذَهَابِ مَنْ عُنِيَ بِهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ قَالَهُ أَيْضًا الْقُرْطُبِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَنَقَلَ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُمِّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما جَاءَتْ إِلَيْهَا وَهِيَ لَمْ تُسْلِمْ بَعْدُ وَكَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَجَاءَتْ لِابْنَتِهَا بِهَدَايَا فَأَبَتْ أَنْ تَقْبَلَهَا مِنْهَا وَأَنْ تَسْتَقْبِلَهَا حَتَّى تَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَذِنَ لَهَا وَأَمَرَهَا بِصِلَتِهَا وَعَزَاهُ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَذَكَرَ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ قُدُومَهَا كَانَ فِي وَقْتِ الْهُدْنَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَقْتَ الْهُدْنَةِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي قِيلَ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ أَيْ بِانْتِهَائِهَا، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ دَائِرَةٌ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ بَيْنَ الْإِحْكَامِ وَالنَّسْخِ.

وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى سَبَبِ نُزُولِ السُّورَةِ وَتَقَيَّدْنَا بِصُورَةِ السَّبَبِ، نَجِدُ أَوَّلَهَا نَزَلَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَهْدِ بِنَقْضِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُ، وَعِنْدَ تَهَيُّئِ الْمُسْلِمِينَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَمَجِيءِ أُمِّ أَسْمَاءَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْهُدْنَةِ فَهَلْ كَانَ النِّسَاءُ دَاخِلَاتٍ فِي الْعَهْدِ أَمْ لَا؟ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِهِنَّ.

وَعَلَيْهِ فَلَا دَلَالَةَ فِي قِصَّةِ أُمِّ أَسْمَاءَ عَلَى عَدَمِ النَّسْخِ وَلَا عَلَى إِثْبَاتِهِ.

وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى عُمُومِ اللَّفْظِ نَجِدِ الْآيَةَ صَرِيحَةً شَامِلَةً لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُنَاصِبِ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَاءَ، وَلَمْ يُظْهِرْ سُوءًا إِلَيْهِمْ، وَهِيَ فِي الْكُفَّارِ أَقْرَبُ مِنْهَا فِي الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ دَعْوَى النَّسْخِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ قَوِيٍّ يُقَاوِمُ صَرَاحَةَ هَذَا النَّصِّ الشَّامِلِ، وَتَوَفُّرَ شُرُوطِ النَّسْخِ الْمَعْلُومَةِ فِي أُصُولِ التَّفْسِيرِ.

وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ النَّسْخِ مَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [3 \ 28] بِأَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةٌ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ وَالضَّعْفِ مَعَ اشْتِرَاطِ سَلَامَةِ الدَّاخِلِ فِي الْقَلْبِ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ

ص: 92

أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَبَاقٍ الْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ اللُّزُومِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانُوا فِي حَالَةِ قُوَّةٍ وَعَدَمِ خَوْفٍ وَفِي مَأْمَنٍ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ قِتَالٌ، وَهُمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْمُسَالَمَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ بِرِّهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِقْسَاطِ مَعَهُمْ، وَهَذَا مِمَّا يَرْفَعُ مِنْ شَأْنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، بَلْ وَفِيهِ دَعْوَةٌ إِلَى الْإِسْلَامِ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَعَدَمِ مُعَادَاةِ مَنْ لَمْ يُعَادِهِمْ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ مِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي نَوَّهْنَا عَنْهَا سَابِقًا مَا جَاءَ فِي التَّذْيِيلِ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ فَهَذَا تَرْشِيحٌ لِمَا قَدَّمْنَا كَمَا قَابَلَ هَذَا بِالتَّذْيِيلِ عَلَى الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَفِيهِ مُقَابَلَةٌ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ فَالْعَدْلُ فِي الْإِحْسَانِ، وَالْقِسْطُ لِمَنْ يُسَالِمُكَ، وَالظُّلْمُ مِمَّنْ يُوَالِي مَنْ يُعَادِي قَوْمَهُ.

وَمِمَّا يَنْفِي النَّسْخَ عَدَمُ التَّعَارُضِ بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى، وَبَيْنَ آيَةِ السَّيْفِ، لِأَنَّ شَرْطَ النَّسْخِ التَّعَارُضُ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَمَعْرِفَةُ التَّارِيخِ، وَالْجَمْعُ هُنَا مُمْكِنٌ وَالتَّعَارُضُ مَنْفِيٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ لَا يَمْنَعُ الْإِحْسَانَ قَبْلَهُ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا لِيُفَاجِئُوا قَوْمًا بِقِتَالٍ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ قَطْعًا، وَلِأَنَّهُمْ قَبِلُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْجِزْيَةَ، وَعَامَلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ بِكُلِّ إِحْسَانٍ وَعَدَالَةٍ.

وَقِصَّةُ الظَّعِينَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ صَاحِبَةِ الْمَزَادَتَيْنِ لَمْ يُقَاتِلُوهَا أَوْ يَأْسِرُوهَا أَوْ يَسْتَبِيحُوا مَاءَهَا بَلِ اسْتَاقُوهَا بِمَائِهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ مِنْ مَزَادَتَيْهَا قَلِيلًا، وَدَعَا فِيهِ وَرَدَّهُ، ثُمَّ اسْتَقَوْا وَقَالَ لَهَا: اعْلَمِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي سَقَانَا وَلَمْ تَنْقُصْ مِنْ مَزَادَتَيْكِ شَيْئًا، وَأَكْرَمُوهَا وَأَحْسَنُوا إِلَيْهَا، وَجَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، وَأَرْسَلُوهَا فِي سَبِيلِهَا فَكَانَتْ تَذْكُرُ ذَلِكَ، وَتَدْعُو قَوْمَهَا لِلْإِسْلَامِ.

وَقِصَّةُ ثُمَامَةَ لَمَّا جِيءَ بِهِ أَسِيرًا وَرُبِطَ فِي سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ، وَبَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ عَاجِزًا عَنِ الْقِتَالِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَكَانَ يُرَاحُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ بِحَلِيبِ سَبْعِ نِيَاقٍ حَتَّى فُكَّ أَسْرُهُ فَأَسْلَمَ طَوَاعِيَةً، وَهَكَذَا نَصَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ الْآيَةَ [76 \ 8 - 9] .

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَسِيرٍ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مِنَ الْكُفَّارِ.

وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ وَهِيَ سَنَةُ الْوُفُودِ، فَكَانَ يَقْدِمُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَلَقَّوْنَ الْجَمِيعَ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ كَوَفْدِ نَجْرَانَ وَغَيْرِهِمْ وَهَاهُو ذَا وَفْدُ تَمِيمٍ جَاءَ يُفَاخِرُ

ص: 93

وَيُفَاوِضُ فِي أُسَارَى لَهُ، فَيَأْذَنُ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم وَيَسْتَمِعُ مُفَاخَرَتِهِمْ وَيَأْمُرُ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي النِّهَايَةِ يُسْلِمُونَ وَيُجِيزُهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِالْجَوَائِزِ، وَهَذَا أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ النَّسْخِ، لِأَنَّ وَفْدًا يَأْتِي مُتَحَدِّيًا مُفَاخِرًا لَكِنَّهُ لَمْ يُقَاتِلْ وَلَمْ يُظَاهِرْ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَجَاءَ فِي أَمْرٍ جَارٍ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ فَجَارَاهُمْ فِيهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ أَعْلَنَ لَهُمْ أَنَّهُ مَا بِالْمُفَاخَرَةِ بُعِثَ، وَلَكِنْ تَرَفُّقًا بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَتَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ، وَقَدْ كَانَ فَأَسْلَمُوا، وَهَذَا مَا تُعْطِيهِ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا.

وَقَدْ بَحَثَ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ نَوَاحِي النَّقْلِ وَأَخِيرًا خَتَمَ بَحْثَهُ بِقَوْلِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ عَنَى بِذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتَصِلُوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ عز وجل عَمَّ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، جَمِيعَ مَنْ كَانَ ذَلِكَ صِفَتُهُ فَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةُ نَسَبٍ أَوْ مِمَّنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَلَا نَسَبَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَلَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ لَهُ أَوْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَقْوِيَةٌ لَهُمْ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ.

وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الزُّبَيْرِ فِي قِصَّةِ أَسْمَاءَ وَأُمِّهَا.

وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، يَقُولُ إِنِ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُنْصِفِينَ الَّذِينَ يُنْصِفُونَ النَّاسَ وَيُعْطُونَهُمُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَيَبِرُّونَ مَنْ بَرَّهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، انْتَهَى مِنْهُ.

وَفِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْأَحْكَامِ لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله مَبْحَثٌ هَامٌّ نَسُوقُهُ أَيْضًا بِنَصِّهِ لِأَهَمِّيَّتِهِ:

قَالَ اللَّهُ عز وجل: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، قَالَ: يُقَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ تَأَثَّرَ مِنْ صِلَةِ الْمُشْرِكِينَ أَحْسَبُ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ فَرْضُ جِهَادِهِمْ وَقَطْعُ الْوَلَايَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ وَنَزَلَ: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [58 \ 22]، فَلَمَّا خَافُوا أَنْ تَكُونَ الْمَوَدَّةُ الصِّلَةَ بِالْمَالِ أَنْزَلَ: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

ص: 94

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَكَانَتِ الصِّلَةُ بِالْمَالِ، وَالْبِرِّ، وَالْإِقْسَاطِ، وَلِينِ الْكَلَامِ، وَالْمُرَاسَلَةِ بِحُكْمِ اللَّهِ غَيْرَ مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْوَلَايَةِ لِمَنْ نُهُوا عَنْ وَلَايَتِهِ مَعَ الْمُظَاهَرَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبَاحَ بِرَّ مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْإِقْسَاطَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ إِلَى مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ عَلَيْهِمْ بَلْ ذَكَرَ الَّذِينَ ظَاهَرُوا عَلَيْهِمْ فَنَاهُمْ عَنْ وَلَايَتِهِمْ إِذْ كَانَ الْوَلَايَةُ غَيْرَ الْبِرِّ وَالْإِقْسَاطِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَادَى بَعْضَ أُسَارَى بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ مِمَّنْ مَنَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا بِعَدَاوَتِهِ وَالتَّأْلِيبِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَلِسَانِهِ، وَمِنْ بَعْدِ بَدْرٍ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَكَانَ مَعْرُوفًا بِعَدَاوَتِهِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَسْرِهِ وَأَسْلَمَ ثُمَامَةُ وَحَبَسَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يُمِيرَهُمْ فَأَذِنَ لَهُ فَمَارَهُمْ.

وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [76 \ 8] ، وَالْأَسْرَى يَكُونُونَ مِمَّنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. اهـ مِنْهُ.

وَهَذَا الَّذِي صَوَّبَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَصَحَّحَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله الَّذِي تَقْتَضِيهِ رُوحُ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ، أَمَّا وِجْهَةُ النَّظَرِ الَّتِي وَعَدْنَا بِتَقْدِيمِهَا فَهِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مُشْتَرِكَةٌ مَصَالِحُهُمْ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَمُرْتَبِطَةٌ بِمَجْمُوعِ دُوَلِ الْعَالَمِ مِنْ مُشْرِكِينَ وَأَهْلِ كِتَابٍ، وَلَا يُمْكِنُ لِأُمَّةٍ الْيَوْمَ أَنْ تَعِيشَ مُنْعَزِلَةً عَنِ الْمَجْمُوعَةِ الدَّوْلِيَّةِ؛ لِتَدَاخُلِ الْمَصَالِحِ وَتَشَابُكِهَا، وَلَاسِيَّمَا فِي الْمَجَالِ الِاقْتِصَادِيِّ عَصَبِ الْحَيَاةِ الْيَوْمَ مِنْ إِنْتَاجٍ أَوْ تَصْنِيعٍ أَوْ تَسْوِيقٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ مُسَاعَدَةً عَلَى جَوَازِ التَّعَامُلِ مَعَ أُولَئِكَ الْمُسَالِمِينَ وَمُبَادَلَتِهِمْ مَصْلَحَةً بِمَصْلَحَةٍ عَلَى أَسَاسِ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَبَيَّنَهُ الشَّافِعِيُّ، وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - فِي حَقِيقَةِ مَوْقِفِ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مِنَ الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ فِي عِدَّةِ مُنَاسَبَاتٍ مِنْ مُحَاضَرَاتِهِ وَمِنَ الْأَضْوَاءِ نَفْسِهِ، وَبِشَرْطِ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مِنْ سَلَامَةِ الدَّاخِلِ أَيْ: عَدَمُ الْمَيْلِ بِالْقَلْبِ، وَلَوْ قِيلَ بِشَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ أَنَّ الْعَالَمَ الْإِسْلَامِيَّ يَتَعَاوَنُ أَوَّلًا مَعَ بَعْضِهِ، فَإِذَا أَعْوَزَهُ أَوْ بَعْضَ دُوَلِهِ حَاجَةٌ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَدُوًّا عَلَى قِتَالِهِمْ فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّعَاوُنِ مَعَ تِلْكَ الدَّوْلَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ عَمَلِيًّا مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ لِلْيَهُودِ فِي خَيْبَرَ.

فَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ

ص: 95

[60 \ 1]، وَمَنْصُوصٌ عَلَى عَدَمِ مُوَالَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [5 \ 51] .

وَمَعَ ذَلِكَ لَمَّا أَخْرَجَهُمْ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ وَحَاصَرَهُمْ بَعْدَهَا فِي خَيْبَرَ، وَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَصْبَحُوا فِي قَبْضَةِ يَدِهِ فَلَمْ يَكُونُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَوْقِفِ الْمُقَاتِلِينَ، وَلَا مُظَاهِرِينَ عَلَى إِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ عَامَلَهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِالْقِسْطِ فَعَامَلَهُمْ عَلَى أَرْضِ خَيْبَرَ وَنَخِيلِهَا وَأَبْقَاهُمْ فِيهَا عَلَى جُزْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ كَأُجَرَاءَ يَعْمَلُونَ لِحِسَابِهِ وَحِسَابِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَتَّخِذْهُمْ عَبِيدًا يُسَخِّرُهُمْ فِيهَا، وَبَقِيَتْ مُعَامَلَتُهُمْ بِالْقِسْطِ كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ ابْنِ رَوَاحَةَ رضي الله عنه لَمَّا ذَهَبَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ مَا عَرَضُوا مِنَ الرِّشْوَةِ؛ لِيُخَفِّفَ عَنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ كَلِمَتَهُ الْمَشْهُورَةَ: وَاللَّهِ لِأَنْتَمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ وَجِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَلَنْ يَحْمِلَنِي بُغْضِي لَكُمْ، وَلَا حُبِّي لَهُ أَنْ أَحْيَفَ عَلَيْكُمْ، فَإِمَّا أَنْ تَأْخُذُوا بِنِصْفِ مَا قُدِّرَتْ، وَإِمَّا أَنْ تَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا قُدِّرَتْ، فَقَالُوا لَهُ: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَيْ: بِالْعَدَالَةِ وَالْقِسْطِ، وَقَدْ بَقُوا عَلَى ذَلِكَ نِهَايَةَ زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَخِلَافَةَ الصِّدِّيقِ، وَصَدَرَا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عَنْهَا.

وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ أَعْطَاهُمْ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْفَتْحِ وَأَعْطَاهُمُ الصِّدِّيقُ حَتَّى مَنَعَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه.

وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَهَمِّيَّتِهَا وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا الْيَوْمَ.

وَفِي الْخِتَامِ إِنَّ أَشَدَّ مَا يَظْهَرُ وُضُوحًا فِي هَذَا الْمَقَامِ وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ فِيهِ نَسْخًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [31 \ 15] .

فَهَذِهِ حُسْنُ مُعَامَلَةٍ، وَبِرٍّ، وَإِحْسَانٍ لِمَنْ جَاهَدَ الْمُسْلِمَ عَلَى أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ وَلَمْ يُقَاتِلِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ حَقُّ الْأُبُوَّةِ مُقَدَّمًا، وَلَوْ مَعَ الْكُفْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ عَلَى الشِّرْكِ.

وَكَذَلِكَ أَيْضًا فِي نِهَايَةِ هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [60 \ 10] .

ص: 96