المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [80 \ 37] ، - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٨

[محمد الأمين الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌ الْحَشْرِ

- ‌1

- ‌ 4

- ‌[5

- ‌ 7]

- ‌8

- ‌[20

- ‌ 21]

- ‌ الْمُمْتَحَنَةِ

- ‌ 1

- ‌3

- ‌ 4]

- ‌7]

- ‌[8

- ‌ 10]

- ‌ 13]

- ‌ الصَّفِّ

- ‌(2)

- ‌ 5]

- ‌[6

- ‌ 14]

- ‌ الْجُمُعَةِ

- ‌[2

- ‌[4

- ‌[5

- ‌6]

- ‌[7

- ‌9

- ‌ الْمُنَافِقُونَ

- ‌2]

- ‌3

- ‌[9

- ‌ 11]

- ‌2

- ‌[3

- ‌[6

- ‌8

- ‌9

- ‌ 16]

- ‌ الطَّلَاقِ

- ‌6

- ‌8

- ‌ التَّحْرِيمِ

- ‌ 1]

- ‌ 4]

- ‌[5

- ‌[7

- ‌ 2

- ‌[الملك:

- ‌3]

- ‌7

- ‌ 10] :

- ‌ 13]

- ‌ 15]

- ‌ الْقَلَمِ

- ‌ 1

- ‌[2

- ‌ الْحَاقَّةِ

- ‌ 4]

- ‌9

- ‌[18

- ‌ الْمَعَارِجِ

- ‌ 1

- ‌[2

- ‌ 4

- ‌[10

- ‌[22

- ‌ 40

- ‌ نُوحٍ

- ‌5]

- ‌ 14]

- ‌ الْجِنِّ

- ‌[4

- ‌ 10]

- ‌[18

- ‌ الْمُزَّمِّلِ

- ‌[1

- ‌ 5

- ‌6]

- ‌ الْمُدَّثِّرِ

- ‌[8

- ‌ الْقِيَامَةِ

- ‌ 7

- ‌ الْإِنْسَانِ

- ‌ 5

- ‌ 29]

- ‌ الْمُرْسَلَاتِ

- ‌[1

- ‌ 43]

- ‌ النَّبَأِ

- ‌ 40]

- ‌ النَّازِعَاتِ

- ‌ 1

- ‌3]

- ‌6

- ‌25]

- ‌ عَبَسَ

- ‌ 1

- ‌[11

- ‌ 17]

- ‌ التَّكْوِيرِ

- ‌1

- ‌[8

- ‌[26

- ‌ الِانْفِطَارِ

- ‌5

- ‌ 16]

- ‌ الْمُطَفِّفِينَ

- ‌ 4

- ‌ الِانْشِقَاقِ

- ‌[3

- ‌[7

- ‌ الْبُرُوجِ

- ‌[2

- ‌3

- ‌ 4]

- ‌[8

- ‌ 19

- ‌ الطَّارِقِ

- ‌2

- ‌[5

- ‌8

- ‌[10

- ‌ 15]

- ‌ الْأَعْلَى

- ‌ 1

- ‌2

- ‌[6

- ‌ الْغَاشِيَةِ

- ‌[1

- ‌ الْفَجْرِ

- ‌1

- ‌[6

- ‌[21

- ‌ الْبَلَدِ

- ‌ 2]

- ‌ 6]

- ‌[17

- ‌ الشَّمْسِ

- ‌ اللَّيْلِ

- ‌ 3

- ‌ الضُّحَى

- ‌ 5]

- ‌[7

- ‌[9

- ‌ الشَّرْحِ

- ‌ 1

- ‌[7

الفصل: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [80 \ 37] ،

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [80 \ 37]، وَكُلٌّ يَفِرُّ مِنَ الْآخَرِ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [80 \ 34 - 37] .

وَقَدْ جَاءَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ ; كُلُّ نَبِيٍّ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي، وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ‌

‌[22

\ 2] ، وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ فَزَعٍ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [27 \ 89] ، جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ. آمِينَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا

الْهَلُوعُ: فَعُولٌ مِنَ الْهَلَعِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، وَالْهَلَعُ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: شِدَّةُ سُرْعَةِ الْجَزَعِ عِنْدَ مَسِّ الْمَكْرُوهِ، وَسُرْعَةُ الْمَنْعِ عِنْدَ مَسِّ الْخَيْرِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [70 \ 20 - 21] .

وَلَفْظُ: (الْإِنْسَانِ) هُنَا مُفْرَدٌ، وَلَكِنْ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ: جِنْسُ الْإِنْسَانِ فِي الْجُمْلَةِ ; بِدَلِيلِ اسْتِثْنَاءِ الْمُصَلِّينَ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ [70 \ 22]، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [103 \ 1 - 3] وَنَظِيرُهُ كَثِيرٌ.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ بِالْهَلَعِ فِي الْكُفَّارِ، وَيَدُلُّ لِمَا قَالَهُ أَمْرَانِ:

الْأَوَّلُ: تَفْسِيرُهُ فِي الْآيَةِ وَاسْتِثْنَاءُ الْمُصَلِّينَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْهُ ; لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ كُلَّهَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَا عَقَّبَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [70 \ 35] ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! شَأْنُهُ كُلُّهُ خَيْرٌ: إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ» ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ هَلُوعٌ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ

وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنِ اسْتَثْنَاهُمْ مِنَ الْإِنْسَانِ الْهَلُوعِ بِتِسْعِ صِفَاتٍ:

ص: 268

اثْنَتَانِ مِنْهَا تَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ، وَهُمَا الْأُولَى وَالْأَخِيرَةُ ; مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الصَّلَاةِ، وَوُجُوبِ شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَا. وَهَذَا مِنَ الْمُسَلَّمَاتِ فِي الدِّينِ ; لِمَكَانَتِهَا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَفِي وَصْفِهِمْ هُنَا بِأَنَّهُمْ:(عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)، وَفِي الْأَخِيرِ:(عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[70 \ 34] .

قَالَ فِي الْكَشَّافِ: الدَّوَامُ عَلَيْهَا الْمُوَاظَبَةُ عَلَى أَدَائِهَا لَا يُخِلُّونَ بِهَا، وَلَا يَشْتَغِلُونَ عَنْهَا بِشَيْءٍ مِنَ الشَّوَاغِلِ.

وَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَلَوْ قَلَّ» .

وَيَشْهَدُ لِهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا [24 \ 36 - 37]، وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [62 \ 9] .

قَالَ: وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا أَنْ يُرَاعُوا إِسْبَاغَ الْوُضُوءِ لَهَا وَمَوَاقِيتَهَا، وَيُقِيمُوا أَرْكَانَهَا وَيُكْمِلُوهَا بِسُنَنِهَا وَآدَابِهَا، وَهَذَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [23 \ 1 - 2] .

وَحَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتِهِ، حَيْثُ قَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم:«ارْجِعْ فَصَلِّ ; فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ، فَنَفَى عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ إِيقَاعِهِ الصَّلَاةَ أَمَامَهُ ; وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا بِتَوْفِيَتِهَا حَقَّهَا.

وَقَدْ بَدَأَ اللَّهُ أُولَئِكَ الْمُسْتَثْنَيْنَ وَخَتَمَهُمْ بِالصَّلَاةِ، مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَمَبْدَأٌ لِهَذَا الْمَذْكُورِ كُلِّهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [2 \ 45] ، فَهِيَ عَوْنٌ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ.

وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [29 \ 45] ، فَهِيَ سِيَاجٌ مِنْ كُلِّ مُنْكَرٍ، فَجَمَعَتْ طَرَفَيِ الْمَقْصِدِ شَرْعًا، وَهُمَا الْعَوْنُ عَلَى الْخَيْرِ وَالْحِفَاظُ مِنَ الشَّرِّ، أَيْ: جَلْبُ الْمَصَالِحِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ ; وَلِذَا فَقَدْ عُنِيَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كُلَّ عِنَايَتِهَا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، إِلَى الْحَدِّ الَّذِي جَعَلَهَا الْفَارِقَ وَالْفَيْصَلَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا

ص: 269

وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» .

وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ رحمهم الله عَلَى قَتْلِ تَارِكِهَا. وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَثَرِ الصَّلَاةِ عَلَى قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَرُوحِهِ وَشُعُورِهِ، وَمَا تُكْسِبُهُ مِنْ طُمَأْنِينَةٍ وَارْتِيَاحٍ، كَلَامٌ كَثِيرٌ جِدًّا تُوحِي بِهِ كُلِّهِ مَعَانِي سُورَةِ (الْفَاتِحَةِ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ

هَذَا هُوَ الْوَصْفُ الثَّانِي، وَيُسَاوِي إِيتَاءَ الزَّكَاةِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ الْمَعْلُومَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَفْرُوضِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَلَا يَمْنَعُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ ; فَقَدْ يَكُونُ أَصْلُ الْمَشْرُوعِيَّةِ بِمَكَّةَ، وَيَأْتِي التَّفْصِيلُ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُنَا إِجْمَالٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

الْأَوَّلُ: فِي الْأَمْوَالِ.

وَالثَّانِي: فِي الْحَقِّ الْمَعْلُومِ. أَيِ: الْقَدْرِ الْمُخْرَجِ، وَلَمْ تَأْتِ آيَةٌ تُفَصِّلُ هَذَا الْإِجْمَالَ إِلَّا آيَةُ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [59 \ 7] ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ هَذَا الْإِجْمَالَ.

أَمَّا الْأَمْوَالُ، فَهِيَ لِإِضَافَتِهَا تَعُمُّ كُلَّ أَمْوَالِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْأَمْرِ كَذَلِكَ، فَالْأَمْوَالُ الزَّكَوِيَّةُ بَعْضٌ مِنَ الْجَمِيعِ، وَأُصُولُهَا عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ هِيَ:

أَوَّلًا: النَّقْدَانِ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ.

ثَانِيًا: مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ حُبُوبٍ وَثِمَارٍ.

ثَالِثًا: عُرُوضُ التِّجَارَةِ.

رَابِعًا: الْحَيَوَانُ، وَلَهَا شُرُوطٌ وَأَنْصِبَاءُ. وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ تَفْصِيلٌ، وَفِي الثَّلَاثَةِ الْأُولَى بَعْضُ الْخِلَافِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا عِنْدَ آيَتَيْ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [9 \ 34] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [63 \ 141] ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِزَكَاةِ الْحَيَوَانِ

ص: 270

وَلَا زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَعَلَيْهِ نَسُوقُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ لِتَفْصِيلِ النِّصَابِ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَمَا يَجِبُ فِي النِّصَابِ، وَمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ لِذِكْرِهِ مِنْ مَبَاحِثَ فِي ذَلِكَ كَالْخُلْطَةِ مَثَلًا، وَالصِّفَاتِ فِي الْمُزَكَّى، وَالرَّاجِحِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ، ثُمَّ نُتْبِعُ ذَلِكَ بِمُقَارَنَةٍ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْصِبَاءِ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَأَنْصِبَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ; لِبَيَانِ قُوَّةِ التَّرَابُطِ بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَدِقَّةِ الشَّارِعِ فِي التَّقْدِيرِ.

أَوَّلًا: بَيَانُ النَّوْعِ الزَّكَوِيِّ مِنَ الْحَيَوَانِ.

اعْلَمْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ -: أَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْحَيَوَانِ إِلَّا فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الثَّلَاثَةِ: الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، الضَّأْنُ وَالْمَعِزُ سَوَاءٌ. وَأُلْحِقَ بِالْبَقَرِ الْجَوَامِيسُ، وَالْإِبِلُ تَشْمَلُ الْعِرَابَ وَالْبَخَاتِيَّ، وَالْخِلَافُ فِي الْخَيْلِ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله اسْتَدَلَّ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ بِالْقِيَاسِ فِي حَمْلِهَا عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى، إِذَا كَانَتْ لِلنَّسْلِ أَيْ: كَانَتْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا بِجَامِعِ التَّنَاسُلِ فِي كُلٍّ وَاشْتَرَطَ لَهَا السَّوْمَ أَيْضًا.

وَبِحَدِيثِ: " مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَتُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَنْبُهُ وَظَهْرُهُ " الْحَدِيثَ. وَفِيهِ ذِكْرُ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ كُلِّهَا، وَالْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ. فَقَالُوا: وَالْخَيْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ " الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سَتْرٌ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ. أَمَّا الَّتِي لِرَجُلٍ أَجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ " إِلَى آخِرِ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْقِسْمِ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ سَتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ; فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ.

فَقَالَ رحمه الله: إِنَّ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا هُوَ الزَّكَاةُ. وَقَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَوَافَقَهُ زُفَرُ، وَبِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا " فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ".

أَدِلَّةُ الْجُمْهُورِ عَلَى عَدَمِ

ص: 271

وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا وَالرَّدُّ عَلَى أَدِلَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله:

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ ".

وَالْفَرَسُ اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ، وَبِعَدَمِ ذِكْرِهَا مَعَ بَقِيَّةِ الْأَجْنَاسِ الْأُخْرَى حَتَّى سُئِلَ عَنْهَا صلى الله عليه وسلم، فَلَوْ كَانَتْ مِثْلَهَا فِي الْحُكْمِ لَمَا تَرَكَهَا فِي الذِّكْرِ.

وَحَدِيثُ " قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الخَيْلِ ; فَهَاتُوا زَكَاةَ الرِّقَّةِ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَأَجَابُوا عَلَى اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا، وَظُهُورِهَا إِعَارَتُهَا، وَطَرْقُهَا إِذَا طُلِبَ ذَلِكَ مِنْهُ.

كَمَا أَجَابُوا عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ بِمَا نَقَلَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ أَنَّهُ: لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ.

وَرَدَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى دَلِيلِ الْجُمْهُورِ: بِأَنَّ فَرَسَهُ مُجْمَلٌ، وَهُوَ يَقُولُ بِالْحَدِيثِ إِذَا كَانَ الْفَرَسُ لِلْخِدْمَةِ. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْخَيْلُ لِلتَّنَاسُلِ، فَقَدْ خَصَّهَا الْقِيَاسُ، وَعَلَى حَدِيثِ (عَفَوْتُ عَنِ الْخَيْلِ) بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ، وَهَذِهِ دَعْوَى تَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتٍ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ أَنَّهُ حَسَنٌ.

وَلَعَلَّ مِمَّا يَرُدُّ اسْتِدْلَالَ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسُ الْحَدِيثِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قَرِينَةِ التَّقْسِيمِ، إِذَا أَنَاطَ الْأَجْرَ فِيهَا بِالْجِهَادِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّكَاةَ، مَعَ أَنَّ الزَّكَاةَ قَدْ تَكُونُ أَلْزَمَ مِنَ الْأَجْرِ أَوْ أَعَمَّ مِنَ الْجِهَادِ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ لِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ: كَالْمَرْأَةِ مَثَلًا فَتُزَكِّي ; فَلَوْ كَانَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ لَمَا خَرَجَتْ عَنْ قِسْمِ الْأَجْرِ.

ثَانِيًا: لَوْ كَانَ حَقُّ اللَّهِ فِي الْمَذْكُورِ هُوَ الزَّكَاةَ لَمَا تُرِكَ لِمُجَرَّدِ تَذَكُّرِهَا وَخِيفَ تَعَرُّضٌ لِلنِّسْيَانِ ; لِأَنَّ زَكَاةَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُخْرَى لَمْ تُتْرَكْ لِذَلِكَ بَلْ يُطَالَبُ بِهَا صَاحِبُهَا، وَيَأْتِي الْعَامِلُ فَيَأْخُذُهَا، وَإِنِ امْتَنَعَ صَاحِبُهَا أُخِذَتْ جَبْرًا عَلَيْهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ.

وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَوْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِيمَا تُعَامَلُ بِهِ، وَفِيمَا يُخْرَجُ فِي زَكَاتِهَا، فَقِيلَ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَوِّمَهَا وَيَدْفَعَ عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ.

وَقَدْ جَعَلَ الْأَحْنَافُ زَكَاتَهَا لِصَاحِبِهَا، وَلَا دَخْلَ لِلْعَامِلِ فِيهَا، وَلَا يُجْبِرُ الْإِمَامُ عَلَيْهَا،

ص: 272

وَقَدْ أَطَالَ فِي الْهِدَايَةِ الْكَلَامَ عَلَيْهَا، وَلَعَلَّ أَحْسَنَ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أَصَبْنَا أَمْوَالًا وَخَيْلًا وَرَقِيقًا، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ نُزَكِّيَهُ، فَقَالَ: مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ قَبْلِي فَأَفْعَلُهُ أَنَا، ثُمَّ اسْتَشَارَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: حَسَنٌ، وَسَكَتَ عَلِيٌّ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هُوَ حَسَنٌ لَوْ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً رَاتِبَةً يُؤْخَذُونَ بِهَا بَعْدَكَ. فَأَخَذَ مِنَ الْفَرَسِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَفِيهِ: فَوَضَعَ عَلَى الْفَرَسِ دِينَارًا.

وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله أَنَّهُمْ قَالُوا: نُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهَا زَكَاةٌ وَطَهُورٌ، فَهِيَ إِذًا دَائِرَةٌ بَيْنَ الِاسْتِحْبَابِ وَالتَّرْكِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَالْحُمُرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ " مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [99 \ 7] رَوَاهُ السِّتَّةُ إِلَّا التِّرْمِذِيُّ.

وَعَلَيْهِ ; فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي الْوُجُوبِ أَوْ لِلتَّرْكِ لَمْ تَصْلُحْ لِلِاحْتِجَاجِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ الِاحْتِمَالُ فِي مَعْنَى حَقِّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَرِقَابِهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ مُجْمَلٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِي النُّصُوصِ الْمَرْفُوعَةِ مُتَمَسَّكٌ لِلْأَحْنَافِ فِي قَوْلِهِمْ: بِوُجُوبِ زَكَاةِ الْخَيْلِ، وَبَقِيَ مَفْهُومُ الْحَدِيثِ، وَقَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه.

أَمَّا مَفْهُومُ الْحَدِيثِ ; فَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى الْقَرَائِنِ الَّتِي فِيهِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ.

وَأَمَّا فِعْلُ عُمَرَ رضي الله عنه فَفِيهِ قَرَائِنُ أَيْضًا، بَلْ أَدِلَّةٌ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَهِيَ:

أَوَّلًا: لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُزَكِّيَهَا وَيُطَهِّرَهَا بِالزَّكَاةِ، وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى رَغْبَةِ الْمَالِكِ.

ثَانِيًا: تَوَقُّفُ عُمَرَ وَعَدَمُ أَخْذِهَا مِنْهُمْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَلَوْ كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُ مُزَكَّاةً لَمَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ وَلَمَا تَوَقَّفَ.

ثَالِثًا: تَصْرِيحُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاهُ مِنْ قَبْلِهِ، فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ هُوَ؟ ! .

رَابِعًا: قَوْلُ عَلِيٍّ: مَا لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً مِنْ بَعْدِكَ. أَيْ: إِنْ أَخَذَهَا عُمَرُ اسْتِجَابَةً لِرَغْبَةِ أُولَئِكَ فَلَا بَأْسَ لِتَبَرُّعِهِمْ بِهَا، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَعْلِهَا لَازِمَةً عَلَى غَيْرِهِمْ فَتَكُونَ كَالْجِزْيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِلْجُمْهُورِ حَدِيثُ: " قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَأَدُّوا زَكَاةَ

ص: 273

أَمْوَالِكُمْ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ: وَهَذَا مَا يَتَّفِقُ مَعَ حَدِيثِ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَلَا فِي عَبْدِهِ " رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

وَقَدْ أَجَابَ الْأَحْنَافُ عَلَى تَرَدُّدِ عُمَرَ: بِأَنَّ الْخَيْلَ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ سَائِمَةً لِلنَّسْلِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهَا ظَهَرَتْ بَعْدَ الْفُتُوحَاتِ فِي عَهْدِ عُمَرَ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ. وَعَلَيْهِ فَلَا دَلِيلَ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ فَتَبْقَى عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْتِ لِلْخَيْلِ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ أَنْصِبَاءِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَقَرَ لَمْ يَأْتِ ذِكْرُهَا أَيْضًا فِيهِ ; لِأَنَّ زَكَاةَ الْبَقَرِ جَاءَتْ فِيهَا نُصُوصٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِأَصْحَابِ السُّنَنِ.

وَلِلْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بَيَانُ أَنْصِبَاءِ الزَّكَاةِ وَمَا يُؤْخَذُ فِيهَا: مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ يُفَصِّلُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ بَيَانَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [59 \ 7] .

وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ: كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ مُفَصَّلَةً وَمَنَاسِكِ الْحَجِّ.

فَكَذَلِكَ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ مُجْمَلَ هَذَا الْحَقِّ، وَفِي أَيِّ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّ أَجْمَعَ نَصٍّ فِي ذَلِكَ هُوَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَتَبَهُ وَقَرَنَهُ بِسَيْفِهِ، وَقَدْ عَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما وَمَضَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِيمَا بَعْدُ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ كِتَابًا، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ عَلَيْهِ:" مُحَمَّدٌ " سَطْرٌ، وَ " رَسُولُ " سَطْرٌ، وَ " اللَّهِ " سَطْرٌ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ: فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ

ص: 274

فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعٌ مِنَ الْإِبِلِ فَلَيْسَتْ فِيهَا صَدَقَةً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا فَفِيهَا شَاةٌ.

وَصَدَقَةُ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ فِيهَا شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ.

فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً عَنْ أَرْبَعِينَ شَاةً، وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَلَا يُجْتَمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ. الْحَدِيثَ.

فَقَدْ بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنْصِبَاءَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَمَا يَجِبُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَنْصِبَاءِ الْبَقْرِ، وَلَكِنْ بَيَّنَ أَنْصِبَاءَ الْبَقْرِ حَدِيثُ مُعَاذٍ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ.

قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَعَثَنِي إِلَى الْيَمَنِ، أَلَّا آخُذَ مِنَ الْبَقْرِ شَيْئًا حَتَّى تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ: فَفِيهَا عِجْلٌ تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ.

وَلِهَذَيْنَ النَّصَّيْنِ الصَّحِيحَيْنِ يَكْتَمِلُ بَيَانُ أَنْصِبَاءِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ: الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ. وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ.

وَمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: فِي كُلِّ عَشْرٍ مِنَ الْبَقَرِ شَاةٌ إِلَى ثَلَاثِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ، فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَحَدٌ.

تَنْبِيهٌ.

وَلَيْسَ فِي الْوَقْصِ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ زَكَاةٌ، وَالْوَقْصُ هُوَ مَا بَيْنَ كُلِّ نِصَابٍ وَالَّذِي يَلِيهِ، كَمَا بَيْنَ الْخَمْسَةِ وَالتِّسْعَةِ مِنَ الْإِبِلِ، وَمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَالْعِشْرِينَ وَمِائَةَ مِنَ الْغَنَمِ، وَمَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ مِنَ الْبَقَرِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، إِلَّا خِلَافٌ لِلْأَحْنَافِ فِي وَقْصِ الْبَقَرِ فَقَطْ، وَالصَّحِيحُ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِي الْجَمِيعِ ; لِحَدِيثِ مُعَاذٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ» ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فَمَا بَيْنَ

ص: 275

الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ لَا زَكَاةَ فِيهِ.

وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ فِيهِ بِنِسْبَةٍ مِنَ التَّبِيعِ، وَقَدِ اشْتَرَطَ لِزَكَاةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ النَّسْلَ وَالسَّوْمَ، وَأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَلَا الَّتِي لِلْعَمَلِ: كَالْإِبِلِ لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا، وَالْبَقَرِ لِلْحَرْثِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقَالَ مَالِكٌ: فِي الْمَعْلُوفَةِ وَفِي الْعَوَامِلِ الزَّكَاةُ، قَالَ فِي الْمُوَطَّإِ مَا نَصُّهُ: فِي الْإِبِلِ النَّوَاضِحِ وَالْبَقَرِ السَّوَاقِي وَبَقَرِ الْحَرْثِ ; إِنِّي أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا وَجَبَتْ فِيهِ الصَّدَقَةُ. وَاسْتَدَلُّوا لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلِ: مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ.

وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.

أَمَّا النُّصُوصُ ; فَمَا جَاءَ عَامًّا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي أَنْصِبَاءِ الزَّكَاةِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهُ الْغَنَمُ، فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، لِعُمُومِهِ فِي السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ. هَذَا فِي الْإِبِلِ، وَكَذَلِكَ فِي الْغَنَمِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ، أَيْ: بِدُونِ قَيْدِ السَّوْمِ.

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: فَقَالَ الْبَاجِيُّ: إِنَّ كَثْرَةَ النَّفَقَاتِ وَقِلَّتَهَا إِذَا أَثَّرَتْ فِي الزَّكَاةِ ; فَإِنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي تَخْفِيفِهَا وَتَثْقِيلِهَا وَلَا تُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِهَا وَلَا إِثْبَاتِهَا: كَالْخُلْطَةِ، وَالتَّفْرِقَةِ، وَالسَّقْيِ، وَالنَّضْحِ، وَالسَّبْحِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ إِلَّا تَخْفِيفَ النَّفَقَةِ وَتَثْقِيلَهَا.

وَأَمَّا التَّمَكُّنُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا فَعَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ لَا يَمْنَعُ عَلْفُهَا مِنَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَرَدَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَدِلَّةِ مَالِكٍ أَيْضًا بِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلِ: مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ.

وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.

أَمَّا النُّصُوصُ: فَمَا جَاءَ مِنَ الْإِبِلِ فِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، وَفِيهِ:«فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنَ الْإِبِلِ سَائِمَةٌ ابْنَةُ لَبُونٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.

وَفِي الْغَنَمِ حَدِيثُ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالُوا: جَاءَ قَيْدُ السَّوْمِ فِي الْحَدِيثَيْنِ، وَأَدِلَّةُ مَالِكٍ مُطْلَقَةٌ ; وَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

ص: 276

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ فِي حَدِيثِ الْغَنَمَ جَاءَ الْمُطْلَقُ فِي بَيَانِ الْعَدَدِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ، فَهُوَ لِبَيَانِ النِّصَابِ أَكْثَرُ مِنْهُ لِبَيَانِ الْوَصْفِ.

وَحَدِيثُ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» : لِبَيَانِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ أَكْثَرُ مِنْهُ لِبَيَانِ الْعَدَدِ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يُعْتَبَرُ الْحَدِيثَانِ مُتَرَابِطَيْنِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ، خَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَحَدِيثُ:«فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» عَامٌّ فِي الْغَنَمِ بِدُونِ عَدَدٍ، خَاصٌّ فِي السَّائِمَةِ.

وَحَدِيثُ: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» . عَامٌّ فِي الشِّيَاهِ، خَاصٌّ بِالْأَرْبَعِينَ. فَيُخَصَّصُ عُمُومُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِخُصُوصِ الْآخَرِ، فَيُقَالُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ، وَيُقَالُ: فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً، وَبِهَذَا تَلْتَئِمُ الْأَدِلَّةُ فِي الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ ; لِاشْتِرَاطِ السَّوْمِ وَتَحْدِيدِ الْعَدَدِ.

أَمَّا الْبَقَرُ: فَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِ السَّوْمِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ السَّوْمَ وَالنَّسْلَ لِلنَّمَاءِ، فَيَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، أَمَّا الْمَعْلُوفَةُ وَالْعَوَامِلُ فَلَيْسَتْ تَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ. وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي اشْتِرَاطِ السَّوْمِ وَالنَّسْلِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

مَا جَاءَ فِي الْخُلْطَةِ، وَهِيَ اخْتِلَاطُ الْمَالَيْنِ مَعًا لِرَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

أَوَّلًا: خُلْطَةُ أَعْيَانٍ.

ثَانِيًا: خُلْطَةُ أَوْصَافٍ.

فَخُلْطَةُ الْأَعْيَانِ: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْخُلَطَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمَشَاعِ، كَمَنْ وَرِثُوا غَنَمًا أَوْ بَقَرًا مَثَلًا وَلَمْ يَقْتَسِمُوهُ، أَوْ أُهْدِيَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَقْتَسِمُوهُ. وَهَذِهِ الْخُلْطَةُ يَكُونُ حُكْمُ الْمَالِ فِيهَا كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، أَوْ خَلْطَةُ الْأَوْصَافِ، فَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُتَمَيِّزًا، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَعْرِفُ حِصَّتَهُ وَمَالَهُ بِعَدَدٍ وَأَوْصَافٍ، سَوَاءٌ بِأَلْوَانِهَا أَوْ بِوَسْمِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَلَكِنَّهُمْ خَلَطُوا الْمَالَ لِيَسْهُلَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ، كَاخْتِلَاطِهِمْ فِي الرَّاعِي وَالْمَرْعَى، وَالْمَسْرَحِ وَالْمَرَاحِ، وَالْفَحْلِ وَالدَّلْوِ وَالْمَحْلَبِ.

وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ; لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ وَالِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ فُرِّقَ لَاحْتَاجَ كُلُّ مَالٍ مِنْهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَهَذِهِ الْخُلْطَةُ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الزَّكَاةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ رحمهم الله، وَلَا تَأْثِيرَ لَهَا عِنْدَ أَبِي

ص: 277

حَنِيفَةَ رحمه الله، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ عِنْدَهُ فِي خُلْطَةِ الْمَشَاعِ.

وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَأْثِيرِهَا فِي الزَّكَاةِ عَلَى مَنْ تُؤَثِّرُ:

فَقَالَ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ: تُؤَثِّرُ عَلَى جَمِيعِ الْخُلَطَاءِ، مَنْ يَمْلِكُونَ نِصَابًا، وَمَنْ لَا يَمْلِكُ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُؤَثِّرُ إِلَّا عَلَى مَنْ مَلَكَ نِصَابًا فَأَكْثَرَ، وَمَنْ لَا يَمْلِكُ نِصَابًا فَلَا تَأْثِيرَ لَهَا عَلَيْهِ. وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَأْثِيرِهَا هُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِ بَيَانِ أَنْصِبَاءِ الصَّدَقَةِ:(وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ ; خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ ; فَإِنَّهُمْ يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ) .

فَقَالَ الْجُمْهُورُ: النَّهْيُ عَنْ تَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِي اجْتِمَاعِ الْأَوْصَافِ ; لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْمَشَاعِ لَا يَتَأَتَّى تَفْرِيقُهُ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَكَذَلِكَ التَّرَاجُعُ بِالسَّوِيَّةِ لَا يُقَالُ إِلَّا فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ ; لِأَنَّ خُلْطَةَ الْمَشَاعِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَجْمُوعِ وَعَلَى الْمَشَاعِ أَيْضًا ; لِأَنَّ كُلَّ شَرِيكٍ عَلَى الْمَشَاعِ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ كُلِّ شَاةٍ عَلَى الْمَشَاعِ.

مِثَالُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَإِلَيْكَ الْمِثَالُ لِلْجَمِيعِ: لَوْ أَنَّ ثَلَاثَةَ أَشْخَاصٍ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ شَاةً، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةٌ، فَإِنِ اخْتَلَطُوا كَانَتْ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا شَاةٌ وَاحِدَةٌ بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ ; لِأَنَّ مَجْمُوعَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، وَهُوَ حَدُّ الشَّاةِ.

وَهَذَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْقَائِلِينَ بِتَأْثِيرِ الْخُلْطَةِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَلَوْ أَنَّ لِلْأَوَّلِ عِشْرِينَ شَاةً وَلِلثَّانِي أَرْبَعِينَ وَلِلثَّالِثِ سِتِّينَ، فَفِيهَا أَيْضًا شَاةٌ.

وَلَكِنْ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ كُلٌّ بِحِصَّتِهِ، فَلَوْ كَانَتِ الشَّاةُ بِسِتِّينَ دِرْهَمًا، لَكَانَ عَلَى الْأَوَّلِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِنِسْبَةِ غَنَمِهِ مِنَ الْمَجْمُوعِ، وَعَلَى الثَّانِي عِشْرُونَ، وَعَلَى الثَّالِثِ ثَلَاثُونَ ; كُلٌّ بِنِسْبَةِ غَنَمِهِ مِنَ الْمَجْمُوعِ.

وَعِنْدَ مَالِكٍ: لَا شَيْءَ عَلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا، وَالشَّاةُ عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَقَطْ، وَبِنِسْبَةِ غَنَمِهِمَا مِنَ الْمَجْمُوعِ، فَعَلَى الثَّانِي خُمْسَا الْقِيمَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ. وَعَلَى الثَّالِثِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَهَكَذَا.

ص: 278

وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ ; خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ» .

فَقَالَ الْجُمْهُورُ: النَّهْيُ عَنْ تَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ وَتَقَاسُمِهِمَا بِالسَّوِيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى تَأْثِيرِ الْخُلْطَةِ فِي الزَّكَاةِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ إِرْفَاقٍ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: كَمَا فِي الْإِرْفَاقِ فِي سَقْيِ الْحَرْثِ مَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ وَمَا سُقِيَ بِغَيْرِ النَّضْحِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ يَعْنِي: الشَّرِيكَيْنِ، وَلَكِنْ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ» ; لِأَنَّ التَّرَاجُعَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي خُلْطَةِ الْجِوَارِ وَالْأَوْصَافِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَأْثِيرَ لِلْخُلْطَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَمْلِكِ النِّصَابَ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ، فَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ أَرْبَعِينَ شَاةً فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْخُلْطَةِ عَلَيْهِ. وَلَعَلَّ مِنَ النُّصُوصِ الْمُقَدَّمَةِ يَكُونُ الرَّاجِحُ مَذْهَبَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَضِيَّةِ الْخُلْطَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

الشُّرُوطُ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الْخُلْطَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا كَالْآتِي: عِنْدَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَمْسَةُ أَوْصَافٍ، وَهِيَ اتِّحَادُ الْمَالَيْنِ فِي الْآتِي: الْمَرْعَى. الْمَسْرَحِ. الْمَبِيتِ. الْمَحْلَبِ. الْفَحْلِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله ذَكَرَ النَّوَوِيُّ عَشَرَةَ أَوْصَافٍ، الْخَمْسَةُ الْأُولَى. وَزَادَ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمُخْتَلِطُ نِصَابًا، أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِمْ حَوْلٌ كَامِلٌ، اتِّحَادُ الْمَشْرَبِ، اتِّحَادُ الرَّاعِي.

وَعِنْدَ مَالِكٍ: الرَّاعِي، وَالْفَحْلُ، وَالْمَرَاحُ، وَالدَّلْوُ، وَالْمُرَادُ بِالدَّلْوِ: الْمَشْرَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ: يَكُونُ الْجَمِيعُ مُتَّفِقِينَ تَقْرِيبًا فِي الْأَوْصَافِ، وَمَا زَادَهُ الشَّافِعِيُّ مَعْلُومٌ شَرْعًا ; لِأَنَّهَا شُرُوطٌ فِي أَصْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ. وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ: هَلْ تُشْتَرَطُ جَمِيعُهَا أَوْ يَكْفِي وُجُودُ بَعْضِهَا؟ .

الْوَاقِعُ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْإِرْفَاقُ، فَمَالِكٌ اكْتَفَى بِبَعْضِهَا: كَالْفَحْلِ، وَالْمَرْعَى، وَالرَّاعِي. وَالشَّافِعِيُّ: اشْتَرَطَ تَوَفُّرَ جَمِيعِ تِلْكَ

ص: 279

الْأَوْصَافِ، وَإِلَّا فَلَا تَكُونُ الْخُلْطَةُ مُؤَثِّرَةً، وَلِكُلٍّ فِي مَذْهَبِهِ خِلَافٌ فِي تِلْكَ الْأَوْصَافِ لَا نُطِيلُ الْكَلَامَ بِتَتَبُّعِهِ، وَإِنَّمَا يُهِمُّنَا بَيَانُ الرَّاجِحِ فِيمَا فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الرَّاجِحَ هُوَ الْآتِي:

أَوَّلًا: صِحَّةُ تَأْثِيرِ الْخُلْطَةِ.

ثَانِيًا: اشْتِرَاطُ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَتَحَقَّقُ بِهَا الْخُلْطَةُ عُرْفًا.

مَلْحُوظَةٌ.

لَقَدْ عَرَفْنَا أَنْصِبَاءَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَبَقِيَ عَلَيْنَا الْإِجَابَةُ عَنْ سُؤَالٍ طَالَ مَا جَالَ تَفَكُّرُ كُلِّ دَارِسٍ فِيهِ، وَهُوَ مَا يَقُولُهُ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْمَقَادِيرَ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَمِنْهَا أَنْصِبَاءُ الزَّكَاةِ. وَمَعْنَى تَوْقِيفِيَّةٍ: أَنَّهُ لَا اجْتِهَادَ فِيهَا، وَلَكِنْ هَلْ هِيَ جَاءَتْ لُغَوِيَّةً، أَوْ أَنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْصِبَاءِ ارْتِبَاطًا وَنِسْبَةً مُطَّرِدَةً.

الْوَاقِعُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ - وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا - هُوَ الِامْتِثَالُ وَالطَّاعَةُ، إِلَّا أَنَّنَا لَمَّا كُنَّا فِي عَصْرٍ مَادِّيٍّ، وَالنِّظَامُ الِاقْتِصَادِيُّ هُوَ الْأَصْلُ فِي سِيَاسَةِ الْعَالَمِ الْيَوْمَ ; فَإِنَّ الْبَعْضَ قَدْ يَتَطَلَّعُ إِلَى الْإِجَابَةِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ.

وَقَدْ حَاوَلْتُ الْإِجَابَةَ عَلَيْهِ بِعَمَلِ مُقَارَنَةٍ عَامَّةٍ تُوجَدُ بِهَا نِسْبَةٌ مُطَّرِدَةٌ كَالْآتِي:

أَوَّلًا: فِي النَّقْدَيْنِ ; مَعْلُومٌ أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، وَالْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا رُبْعُ الْعُشْرِ، وَكَانَ صَرْفُ الدِّينَارِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَيَكُونُ نِصَابُ الذَّهَبِ مِنْ ضَرْبِ عِشْرِينَ فِي عَشَرَةٍ فَيُسَاوِي مِائَتَيْنِ، فَهِيَ نِسْبَةٌ مُطَّرِدَةٌ كَمَا تَرَى.

وَإِذَا جِئْنَا لِلنِّسْبَةِ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ - وَهِيَ أَصْلُ الْأَثْمَانِ - وَبَيْنَ الْغَنَمِ نَجِدُ الْآتِي:

أَوَّلًا: فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا ; لِيَتْشَرِيَ لَهُمْ شَاةً، فَذَهَبَ وَأَتَاهُمْ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم:«مَاذَا فَعَلْتَ؟» فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ شَاتَيْنِ بِالدِّينَارِ، ثُمَّ لَقِيَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: أَتَبِيعُنِي شَاةً فَبِعْتُهُ شَاةً بِدِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ» .

مَعْنَى هَذَا: أَنَّ الدِّينَارَ قِيمَتُهُ الشِّرَائِيَّةُ تُعَادِلُ شَاتَيْنِ، مِنْ ضَرْبِ عِشْرِينَ دِينَارًا فِي اثْنَتَيْنِ فَيُسَاوِي أَرْبَعِينَ شَاةً، وَهَذَا هُوَ نِصَابُ الْغَنَمِ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ، وَقِيمَتُهَا الشِّرَائِيَّةُ نِصْفُ الدِّينَارِ، وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَهِيَ مَا يُؤْخَذُ فِي الْعِشْرِينَ مِثْقَالَا ; فَاطَّرَدَتِ النِّسْبَةُ أَيْضًا

ص: 280

بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَبَيْنَ الْغَنَمِ.

أَمَّا بَيْنَ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ: فَقَدْ وَجَدْنَا أَنَّ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعِ شِيَاهٍ فِي الْهَدْيِ، وَنِصَابُ الْإِبِلِ خَمْسَةٌ وَتَضْرِبُهَا فِي سَبْعٍ فَيُسَاوِي خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، وَلَوْ جُعِلَتْ سِتًّا لَكَانَتْ تُعَادِلُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، فَأَخَذْنَا بِالْأَقَلِّ ; احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْمِسْكِينِ، فَكَانَ بَيْنَ نِصَابِ الْإِبِلِ وَنِصَابِ الْغَنَمِ نِسْبَةٌ مُطَّرِدَةٌ.

وَكَذَلِكَ نِصَابُ الْغَنَمِ وَنِصَابُ النَّقْدَيْنِ نِسْبَةٌ مُطَّرِدَةٌ. فَظَهَرَتِ الدِّقَّةُ وَاطِّرَادُ النِّسْبَةِ فِي الْأَنْصِبَاءِ.

مَا يَجُوزُ أَخْذُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ فِي الزَّكَاةِ.

اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الذُّكُورُ فِي الزَّكَاةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا ابْنُ لَبُونٍ لِمَنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ.

وَاخْتُلِفَ فِيمَا لَوْ كَانَ النِّصَابُ كُلُّهُ ذُكُورًا، وَالْوَاقِعُ أَنَّ هَذَا نَادِرٌ، وَلَكِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ السِّخَالُ مَعَ وُجُوبِ الِاعْتِدَادِ بِهَا عَلَى صَاحِبِهَا.

كَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه: اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَأْتِي بِهَا الرَّاعِي، وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ فَحْلِ الْإِبِلِ وَلَا تَيْسِ الْغَنَمِ، وَلَا الرُّبَى، وَلَا الْحَلُوبَةِ ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَضَرَّةِ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ.

كَمَا لَا تُؤْخَذُ السَّخْلَةُ وَلَا الْعَجْفَاءُ ; لِمَا فِيهِ مِنْ مَضَرَّةِ الْمِسْكِينِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ رحمه الله فِي الْمُوَطَّأِ، قَالَ: اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَحْمِلُهَا الرَّاعِي، وَلَا تَأْخُذْهَا، وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ، وَلَا الرُّبَى، وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَتَأْخُذُ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ، وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْغَنَمِ وَخِيَارِهَا، وَغِذَاءُ الْغَنَمِ صِغَارُهَا، وَخِيَارُهَا كِبَارُهَا وَأَسْمَنُهَا ; فَهِيَ عَدْلٌ، أَيْ: وَسَطٌ.

وَهُنَا تَتَحَتَّمُ كَلِمَةٌ، يُعْتَبَرُ كُلُّ نِظَامٍ مَالِيٍّ فِي الْعَالَمِ نِظَامًا مَادِّيًّا بَحْتًا يَقُومُ عَلَى مَبَانِي الْأَرْقَامِ وَالْإِحْصَاءِ، فَهُوَ جَافٌّ فِي شَكْلِهِ، كَالْجِسْمِ بِدُونِ رُوحٍ، إِلَّا نِظَامَ الزَّكَاةِ ; فَهُوَ نِظَامٌ حَيٌّ لَهُ رُوحُهُ وَعَاطِفَتُهُ.

فَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يُلْزِمُ الْغَنِيَّ بِدَفْعِ قِسْطٍ لِلْفَقِيرِ، يَحْظُرُ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ فَوْقَ

ص: 281

مَا وَجَبَ، أَوْ أَحْسَنَ مَا وَجَدَ.

كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» .

وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَدْفَعُ الْغَنِيُّ فِيهِ جُزْءًا مِنْ مَالِهِ، يَسْتَشْعِرُ أَنَّهُ يَدْفَعُهُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَيَنْتَظِرُ أَجْرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فَأَصْبَحَتِ الزَّكَاةُ بَيْنَ عَامِلٍ مُتَحَفِّظٍ وَبَيْنَ مَالِكٍ مُتَطَوِّعٍ، عَامِلٍ يَخْشَى قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:«وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» ، وَمَالِكٍ يَرْجُو فِي الْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا وَسَبْعَمِائَةٍ، وَزِيَادَةً مُضَاعَفَةً.

وَقَدْ وَقَعَتْ قَضِيَّةٌ مُذْهِلَةٌ لَمْ يَشْهَدْ نِظَامٌ مَالِيٌّ فِي الْعَالَمِ مِثْلَهَا، وَهِيَ أَنَّهُ: ذَهَبَ عَامِلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّدَقَةِ، فَمَرَّ بِرَجُلٍ فِي قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ بِصَاحِبِ إِبِلٍ، فَحَسَبَهَا، فَقَالَ لِصَاحِبِهَا: أَخْرِجْ بِنْتَ لَبُونٍ. فَقَالَ صَاحِبُ الْإِبِلِ: كَيْفَ أُخْرِجُ بِنْتَ لَبُونٍ فِي الزَّكَاةِ ; وَهِيَ لَا ظَهْرَ يُرْكَبُ وَلَا ضَرْعَ يُحْلَبُ، وَلَكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ كَوْمَاءُ، فَخُذْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ الْعَامِلُ: وَكَيْفَ آخُذُ شَيْئًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْكَ؟ فَتَلَاحَيَا مَعًا - الْعَامِلُ وَصَاحِبُ الْمَالِ - وَأَخَذَا، قَالَ لَهُ الْعَامِلُ: إِنْ كُنْتَ وَلَا بُدَّ مُصِرًّا، فَهَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْكَ قَرِيبٌ بِالْمَدِينَةِ. اذْهَبْ بِهَا إِلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَهَا مِنْكَ أَخَذْتُهَا، فَذَهَبَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم:«أَعَنْ طِيبِ نَفْسٍ؟» قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَمَرَ الْعَامِلَ بِأَخْذِهَا، فَدَعَا لَهُ صلى الله عليه وسلم بِالْبَرَكَةِ ; فَعَاشَ حَتَّى عَهْدِ مُعَاوِيَةَ. فَكَانَتْ زَكَاةُ إِبِلِهِ هَذِهِ هِيَ رُوحَ الزَّكَاةِ فِي الْإِسْلَامِ، لَا مَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْأَمْوَالِ فِي النُّظُمِ الْأُخْرَى.

أَمَّا نِظَامُ الضَّرَائِبِ حَيْثُ يَتَهَرَّبُونَ، وَيُقَلِّلُونَ وَيَتَّخِذُونَ دَفَاتِرَ مُتَعَدِّدَةً بَعْضُهَا لِمَصْلَحَةِ الضَّرَائِبِ يُقَلِّلُ فِيهَا دَخْلَهُ وَكَسْبَهُ لِتَخِفَّ الضَّرِيبَةُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَرَاهَا مَغْرَمًا كَالْجِزْيَةِ، وَبَعْضُهَا لِنَفْسِهِ لِيَعْرِفَ حَقِيقَةَ مَالِهِ.

أَمَّا الزَّكَاةُ: فَإِنَّ مَالِكَهَا يُقَدِّمُ زَكَاتَهَا لِوَجْهِ اللَّهِ ; لِيُطَهِّرَ مَالَهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [9 \ 103] .

وَكَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ، وَإِنَّهَا لَتَقَعُ أَوَّلَ مَا تَقَعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ فَيُنَمِّيهَا لَهُ كَمَا يُنَمِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ - أَيْ: وَلَدَ فَرَسِهِ - حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ» .

ص: 282

وَكَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» .

زَكَاةُ الْفِطْرِ.

إِنَّ أَهَمَّ مَبَاحِثِ زَكَاةِ الْفِطْرِ هِيَ الْآتِي:

أَوَّلًا: حُكْمُهَا، صَدْرُ تَشْرِيعِهَا.

ثَانِيًا: عَلَى مَنْ تَكُونُ.

ثَالِثًا: مِمَّ تَكُونُ.

رَابِعًا: كَمْ تَكُونُ.

خَامِسًا: مَتَى تَكُونُ.

سَادِسًا: هَلْ تَجْزِئُ فِيهَا الْقِيمَةُ أَمْ لَا؟

وَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الزَّكَوَاتِ.

أَمَّا حُكْمُهَا: فَهِيَ فَرْضُ عَيْنٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ وَاجِبٌ عَلَى اصْطِلَاحِهِ، أَيْ: مَا وَجَبَ بِالسُّنَّةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَاجِبَةٌ، وَقِيلَ: سُنَّةٌ.

قَالَ فِي مُخْتَصَرِ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ: يَجِبُ بِالسُّنَّةِ الصَّاعُ. إلخ.

وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هَذَا، هَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ: وَآتُوا الزَّكَاةَ [2 \ 43]، أَيْ: شُرِعَتْ بِأَصْلِ مَشْرُوعِيَّةِ الزَّكَاةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمْ أَنَّهَا شُرِعَتْ بِنَصٍّ مُسْتَقِلٍّ عَنْهَا.

فَمَنْ قَالَ بِفَرْضِيَّتِهَا، قَالَ: إِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَمَنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا، فَهَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْأَحْنَافِ. وَلَا يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ فِي نَتِيجَةِ التَّكْلِيفِ إِلَّا أَنَّ عِنْدَهُمْ لَا يَكْفُرُ بِجُحُودِهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ بِالسُّنَّةِ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ إلخ. أَيْ: أَنَّ وُجُوبَهَا بِالسُّنَّةِ لَا بِالْكِتَابِ.

وَعِنْدَهُمْ: لَا يُقَاتَلُ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى مَنْعِهَا، وَيُقْتَلُ مَنْ جَحَدَ مَشْرُوعِيَّتَهَا، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَحْنَافِ.

ص: 283

وَلَكِنْ فِي عِبَارَةِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ إِطْلَاقُ الْوُجُوبِ أَنَّهُ قَالَ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ: أَنَّ الرَّجُلَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْ كُلِّ مَنْ يَضْمَنُ نَفَقَتَهُ. إلخ.

وَمِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ رحمهم الله نُصُوصُ السُّنَّةِ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. الْحَدِيثَ.

فَلَفْظَةُ فَرَضَ: أَخَذَ مِنْهَا مَنْ قَالَ بِالْفَرْضِيَّةِ، وَأَخَذَ مِنْهَا الْآخَرُونَ، بِمَعْنَى قَدَّرَ ; لِأَنَّ الْفَرْضَ: الْقَدْرُ وَالْقَطْعُ.

وَحَدِيثُ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، قَالَ:«أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ» .

فَمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ وَالْفَرْضِ. قَالَ: الْأَمْرُ لِلْأَوَّلِ لِلْوُجُوبِ، وَفَرْضِيَّةُ زَكَاةِ الْمَالِ شَمَلَتْهَا بِعُمُومِهَا. فَلَمْ يُحْتَجْ مَعَهَا لِتَجْدِيدِ أَمْرٍ وَلَمْ تُنْسَخْ فَنَهَى عَنْهَا، وَبَقِيَتْ عَلَى الْوُجُوبِ الْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ:«فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ ; طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» . فَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِفَرْضِيَّتِهَا قَالَ: إِنَّهَا طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ وَطُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِينِ، فَهِيَ لِعِلَّةٍ مَرْبُوطَةٍ بِهَا وَتَفُوتُ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَمَا فَاتَتْ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ. وَأَجَابَ الْآخَرُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَثِّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ لِأَدَائِهَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ فَرْضًا وَأَنْ تَكُونَ طُهْرَةً.

وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [9 \ 103] ، فَهِيَ فَرِيضَةٌ وَهِيَ طُهْرَةٌ. وَالرَّاجِحُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهَا فَرْضٌ ; لِلَفْظِ الْحَدِيثِ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ» ; لِأَنَّ لَفْظَ فَرَضَ إِنْ كَانَ ابْتِدَاءً فَهُوَ لِلْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى قَدَّرَ، فَيَكُونُ الْوُجُوبُ بِعُمُومِ آيَاتِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ أَقْوَى.

وَحَدِيثُ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ» الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَلَا صَارِفَ لَهُ هُنَا.

ص: 284

وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ، وَيَخْرُجُ بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الْعُهْدَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

أَمَّا مِمَّ تَكُونُ: فَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَثَرُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ.

قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ.

وَجَاءَ لَفْظُ السُّلْتِ، وَجَاءَ لَفْظُ الدَّقِيقِ، وَجَاءَ لَفْظُ السَّوِيقِ. فَوَقَفَ قَوْمٌ عِنْدَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَقَطْ وَهُمُ الظَّاهِرِيَّةُ. وَنَظَرَ الْجُمْهُورُ إِلَى عُمُومِ الطَّعَامِ وَالْغَرَضِ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا عَلَى خِلَافٍ فِي التَّفْصِيلِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ رحمهم الله كَالْآتِي:

أَوَّلًا: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا مِنْ كُلِّ قُوتٍ ; لِأَثَرِ أَبِي سَعِيدٍ، وَفِيهِ لَفْظُ الطَّعَامِ.

ثَانِيًا: مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْمُكَلَّفِ بِهَا ; لِأَنَّهَا الْفَاضِلُ عَنْ قُوتِهِ.

ثَالِثًا: مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ ; لِأَنَّهَا حَقٌّ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ تَعَلَّقَ بِالطَّعَامِ كَالْكَفَّارَةِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَجُوزُ مِنْ كُلِّ حَبِّ مُعَشَّرٍ، وَفِي الْأَقِطِ خِلَافٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ الْمَالِكِيَّةِ.

رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمَ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي شَرْحِهِ: تُخْرَجُ مِنَ الْقُوتِ، وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُخْتَصَرِ: يُؤَدِّيهَا مِنْ كُلِّ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ قُوتِهِ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ النَّوَوِيِّ: مِنْ كُلِّ حَبِّ مُعَشَّرٍ. وَنَاقَشَ الْبَاجِيُّ مَسْأَلَةَ إِجْزَائِهَا مِنَ الْأُرْزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ. فَقَالَ: لَا تَجُوزُ مِنْهَا عِنْد أَشْهَبَ وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ. وَنَاقَشَ الْقَطَّانِيُّ: الْحِمَّصَ، وَالتُّرْمُسَ، وَالْجُلُبَّانَ، فَقَالَ: مَالِكٌ يُجَوِّزُهَا إِذَا كَانَتْ قُوتَهُ، وَابْنُ حَبِيبٍ: لَا يُجَوِّزُهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمَنْصُوصِ.

وَاتَّفَقَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْمَطْعُومَ الَّذِي يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ كَالْأَبَازِيرِ: كُزْبَرَةٍ، وَكَمُّونٍ وَنَحْوِهِ، أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ.

الْحَنَابِلَةُ، قَالَ فِي الْمُغْنِي: مِنْ كُلِّ حَبَّةٍ وَثَمَرَةٍ تُقْتَاتُ.

وَقَالَ فِي الشَّرْحِ: أَيْ عِنْدِ عَدَمِ الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَيُجْزِئُ كُلُّ مُقْتَاتٍ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ.

ص: 285

قَالَ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ الْمُقْتَاتُ مِنْ غَيْرِهَا كَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ هَذِهِ أَيْضًا يُعْطِي مَا قَامَ مَقَامَ الْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا.

وَعَنِ ابْنِ حَامِدٍ عِنْدَهُمْ: حَتَّى لَحْمُ الْحِيتَانِ وَالْأَنْعَامِ، وَلَا يَرُدُّونَ إِلَى أَقْرَبِ قُوتِ الْأَمْصَارِ، وَيُجْزِئُ الْأَقِطُ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ إِنْ كَانَ قُوتَهُمْ. وَعِنْدَهُمْ: مَنْ قَدَرَ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَأَخْرَجَ غَيْرَهُ لَمْ يُجْزِهِ.

الْأَحْنَافُ: تَجُوزُ مِنَ الْبُرِّ، وَالتَّمْرِ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالسَّوِيقِ، وَالدَّقِيقِ. وَمِنَ الْخُبْزِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ، وَتَجُوزُ الْقِيمَةُ عِنْدَهُمْ عِوَضًا عَنِ الجَمِيعِ، مَعَ الِاخْتِلَافِ عِنْدَهُمْ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ بَيْنَ الصَّاعِ أَوْ نِصْفِ الصَّاعِ، عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَدْ نَاقَشَهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عِنْدَ قَوْلِهِ:

وَمَنْ أَعْطَى الْقِيمَةَ لَمْ تُجْزِئْهُ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ: أَخَافُ أَلَّا تُجْزِئَهُ خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِهَذَا الْعَرْضِ نَجِدُ الْأَئِمَّةَ رحمهم الله اتَّفَقُوا عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي أَثَرِ أَبِي سَعِيدٍ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ مِنْ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ: إِمَّا بِعُمُومِ لَفْظِ الطَّعَامِ، وَإِنْ كَانَ يُرَادُ بِهِ عُرْفًا الْقَمْحُ، إِلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَهُوَ الْعُرْفُ اللُّغَوِيُّ. وَإِمَّا بِعُمُومِ مَدْلُولِ الْمَعْنَى الْعَامِّ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَقِطِ. وَالنَّصُّ يَقْضِي بِهِ.

وَانْفَرَدَ الْأَحْنَافُ بِالْقَوْلِ بِالْقِيمَةِ وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ لِمَعْنَى الزَّكَاةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«طُعْمَةً لِلْمِسْكِينِ، وَطُهْرَةً لِلصَّائِمِ» . وَقَوْلُهُ: (أَغْنُوهُمْ بِهَا عَنِ السُّؤَالِ) . لَوَجَدْنَا إِشَارَةً إِلَى جَوَازِ إِخْرَاجِهَا مِنْ كُلِّ مَا هُوَ طُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَا نَحُدُّهُ بِحَدٍّ أَوْ نُقَيِّدُهُ بِصِنْفٍ، فَإِلْحَاقُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ بِجَامِعِ الْعِلَّةِ مُتَّجِهٌ، أَمَّا الْقِيمَةُ: فَقَدْ نَاقَشَ مَسْأَلَتَهَا صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ، وَعُمْدَةُ أَدِلَّتِهِمُ الْآتِي:

أَوَّلًا: بَيْنَ الْجَذَعَةِ وَالْمُسِنَّةِ فِي الْإِبِلِ بِشَاتَيْنِ.

ثَانِيًا: قَوْلُ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: «ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ؟ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ص: 286

ثَالِثًا: رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةً حَسَنَةً فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ:«مَا هَذِهِ؟» قَالَ صَاحِبُ الصَّدَقَةِ: إِنِّي ارْتَجَعْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ مِنْ حَوَاشِي الْإِبِلِ؟ . قَالَ: «نَعَمْ» .

رَابِعًا: مِثْلُهَا مِثْلُ الْجِزْيَةِ ; يُؤْخَذُ فِيهَا قَدْرُ الْوَاجِبِ كَمَا تُؤْخَذُ عَيْنُهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ كَالْآتِي: أَمَّا التَّعْوِيضُ بَيْنَ الْجَذَعَةِ وَالْمُسِنَّةِ أَوِ الْحِقَّةِ إِلَى آخِرِهِ فِي الْإِبِلِ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي كِتَابِ الْأَنْصِبَاءِ الْمُتَقَدِّمِ، وَنَصُّهُ: وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهُ تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلَّا ابْنَةُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ابْنَةُ لَبُونٍ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا. إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.

فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ ; لِأَنَّ نَصَّ الْحَدِيثِ فَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ سِنٌّ مُعَيَّنَةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ أَعْلَى أَوْ أَنْزَلُ مِنْهَا ; فَلِلْعَدَالَةِ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمِسْكِينِ جُعِلَ الْفَرْقُ لِعَدَمِ الْحَيْفِ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْأَصْلِ وَلَيْسَ فِيهِ أَخْذُ الْقِيمَةِ مُسْتَقِلَّةً، بَلْ فِيهِ أَخْذُ الْمَوْجُودِ، ثُمَّ جَبْرُ النَّاقِصِ.

فَلَوْ كَانَتِ الْقِيمَةُ بِذَاتِهَا وَحْدَهَا تُجْزِئُ لَصَرَّحَ بِهَا صلى الله عليه وسلم.

وَلَا يَجُوزُ هَذَا الْعَمَلُ إِلَّا عِنْدَ افْتِقَادِ الْمَطْلُوبِ، وَالْأَصْنَافُ الْمَطْلُوبَةُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ إِذَا عُدِمَتْ أَمْكَنَ الِانْتِقَالُ إِلَى الْمَوْجُودِ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ لَا إِلَى الْقِيمَةِ، وَهَذَا وَاضِحٌ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الْفَتْحِ: لَوْ كَانَتِ الْقِيمَةُ مَقْصُودَةً لَاخْتَلَفَتْ حَسَبَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَلَكِنَّهُ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ.

أَمَّا قَوْلُ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: «ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ» . فَقَدْ نَاقَشَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ وَالْمَعْنَى. وَلَكِنَّ السَّنَدَ ثَابِتٌ، أَمَّا الْمَعْنَى، فَقِيلَ: إِنَّهُ فِي الْجِزْيَةِ.

وَرُدَّ هَذَا: بِأَنَّ فِيهِ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْجِزْيَةُ لَيْسَتْ مِنْهَا.

ص: 287

وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَسْتَلِمَ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ مِنْ أَجْنَاسِهَا يَسْتَبْدِلُهَا مِنْ بَابِ الْبَيْعِ وَالْمُعَاوَضَةِ عَمَلًا بِمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لِلطَّرَفَيْنِ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْهُ رضي الله عنه، وَلَكِنَّهُ اجْتِهَادُ أَعْرَفِهِمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَالصَّحِيحُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَصَرُّفٌ بَعْدَ الِاسْتِلَامِ وَبُلُوغِهَا مَحِلَّهَا وَلَا سِيَّمَا مَعَ نَقْلِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، بِخِلَافِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فَلَيْسَتْ تُنْقَلُ ابْتِدَاءً، وَلِأَنَّ مُهِمَّةَ زَكَاةِ الْمَالِ أَعَمُّ مِنْ مُهِمَّةِ زَكَاةِ الْفِطْرِ ; فَفِيهَا النَّقْدَانِ وَالْحَيَوَانِ.

أَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ فَطُعْمَةٌ لِلْمِسْكِينِ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ ; فَلَا تُقَاسُ عَلَيْهَا.

أَمَّا النَّاقَةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي رَآهَا صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ بَعِيرَيْنِ، فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِبْدَالِ بِالْجِنْسِ عَمَلًا لِلْمَصْلَحَةِ، لَمْ تَخْرُجْ عَنْ جِنْسِ الْوَاجِبِ.

وَأَمَّا الْجِزْيَةُ يُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرُ الْوَاجِبِ: فَلَا دَلِيلَ فِيهِ ; إِذْ زَكَاةُ الْفِطْرِ فِيهَا جَانِبُ تَعَبُّدٍ وَارْتِبَاطٍ بِرُكْنٍ فِي الْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا الْجِزْيَةُ: فَهِيَ عُقُوبَةٌ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، فَأَيُّمَا أُخِذَ مِنْهُمْ فَهُوَ وَافٍ بِالْغَرَضِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْقَائِلِينَ بِالْقِيمَةِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ مُسْتَنَدٌ صَالِحٌ، فَضْلًا عَنْ عَدَمِ النَّصِّ عَلَيْهَا.

وَخِتَامًا: إِنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيمَةِ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْأُصُولِ مِنْ جِهَتَيْنِ:

الْجِهَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذَكَرَ تِلْكَ الْأَصْنَافَ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا الْقِيمَةَ وَلَوْ كَانَتْ جَائِزَةً لَذَكَرَهَا مَعَ مَا ذَكَرَ، كَمَا ذَكَرَ الْعِوَضَ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم أَشْفَقُ وَأَرْحَمُ بِالْمِسْكِينِ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ.

الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: - وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ - أَنَّهُ لَا يُنْتَقَلُ إِلَى الْبَدَلِ إِلَّا عِنْدَ فَقْدِ الْمُبْدَلِ عَنْهُ، وَأَنَّ الْفَرْعَ إِذَا كَانَ يَعُودُ عَلَى الْأَصْلِ بِالْبُطْلَانِ فَهُوَ بَاطِلٌ.

كَمَا رَدَّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَلَى الْحَنَابِلَةِ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الْأُشْنَانَ يُجْزِئُ عَنِ التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ. أَيْ: لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ جِنْسِهِ وَيَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ أَخَذُوا بِإِخْرَاجِ الْقِيمَةِ ; لَتَعَطَّلَ الْعَمَلُ بِالْأَجْنَاسِ الْمَنْصُوصَةِ،

ص: 288

فَكَأَنَّ الْفَرْعَ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ سَيَعُودُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الطَّعَامُ بِالْإِبْطَالِ، فَيَبْطُلُ.

وَمِثْلُ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي الْهَدْيِ بِمِنًى مِثْلًا بِمِثْلٍ، عِلْمًا بِأَنَّ الْأَحْنَافَ لَا يُجِيزُونَ الْقِيمَةَ فِي الْهَدْيِ ; لِأَنَّ الْهَدْيَ فِيهِ جَانِبُ تَعَبُّدٍ، وَهُوَ النُّسُكُ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ أَيْضًا: إِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ فِيهَا جَانِبُ تَعَبُّدٍ ; طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ، وَطُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِينِ، كَمَا أَنَّ عَمَلِيَّةَ شِرَائِهَا وَمُكَيَّلَتِهَا وَتَقْدِيمِهَا فِيهِ إِشْعَارٌ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ. أَمَّا تَقْدِيمُهَا نَقْدًا فَلَا يَكُونُ فِيهَا فَرْقٌ عَنْ أَيِّ صَدَقَةٍ مِنَ الصَّدَقَاتِ، مِنْ حَيْثُ الْإِحْسَاسُ بِالْوَاجِبِ وَالشُّعُورِ بِالْإِطْعَامِ.

وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْقِيمَةِ فِيهَا جَرَّأَ النَّاسَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْقِيمَةِ فِي الْهَدْيِ وَهُوَ مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَتَّى وَلَا الْأَحْنَافُ.

بَيَانُ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ

اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ عَنْ نَفْسِهِ، إِنَّمَا هُوَ صَاعٌ بِصَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا.

وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَمْحِ، فَقَالَ: نِصْفُ الصَّاعِ فَقَطْ مِنْهَا يَكْفِي. وَسَيَأْتِي بَيَانُ الرَّاجِحِ فِي ذَلِكَ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ الصَّاعِ الْوَاجِبِ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ. مَا مِقْدَارُ الصَّاعِ، فَهُوَ فِي الْعُرْفِ الْكَيْلُ، وَهُوَ أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ بِكَفَّيْ رَجُلٍ مُعْتَدِلِ الْكَفَّيْنِ، وَلِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ عَمَدَ الْعُلَمَاءُ إِلَى بَيَانِ مِقْدَارِهِ بِالْوَزْنِ.

وَقَدْ نَبَّهَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْمِقْدَارَ بِالْوَزْنِ تَقْرِيبِيٌّ ; لِأَنَّ الْمُكَيَّلَاتِ تَخْتَلِفُ فِي الْوَزْنِ ثِقَلًا وَخِفَّةً بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا: كَالْعَدَسِ، وَالشَّعِيرِ مَثَلًا، وَمَا كَانَ عُرْفُهُ الْكَيْلُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالْوَزْنِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ.

وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: إِنَّ مَنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ بِالْوَزْنِ عَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ بِالْقَدْرِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ يُسَاوِي الْكَيْلَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَوْزُونُ ثَقِيلًا.

ص: 289

وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ وَزْنَ الثَّقِيلِ مِنَ الْخَفِيفِ يَكُونُ قَدْ أَخْرَجَ الْوَاجِبَ بِالتَّأْكِيدِ.

أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي وَزْنِ الصَّاعِ.

قَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، الرِّطْلُ بِالْعِرَاقِيِّ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: هُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هُوَ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَخَذَ بِقَوْلِ أَنَسٍ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ بِمُدٍّ» وَهُوَ رِطْلَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّاعَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، فَعَلَيْهِ يَكُونُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ.

وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ: هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَيْلِ هُوَ عُرْفُ الْمَدِينَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَزْنِ هُوَ عُرْفُ مَكَّةَ، وَعُرْفُ الْمَدِينَةِ فِي صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ. كَمَا جَاءَ عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله، قَالَ: أَخَذْتُ الصَّاعَ مِنْ أَبِي النَّضْرِ. وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ: أَخَذْتُهُ عَنْ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَقَالَ: هَذَا صَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يُعْرَفُ بِالْمَدِينَةِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَأَخَذْنَا الْعَدَسَ فَعَبَّرْنَا بِهِ، وَهُوَ أَصْلَحُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ يُكَالُ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَجَافَى عَنْ مَوْضِعِهِ، فَكِلْنَا بِهِ، ثُمَّ وَزَنَّاهُ، فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، وَقَالَ: هَذَا أَصْلَحُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ، وَمَا تَبَيَّنَ لَنَا مِنْ صَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَإِذَا كَانَ الصَّاعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلْثًا مِنَ الْبُرِّ وَالْعَدَسِ وَهُمَا أَثْقَلُ الْحُبُوبِ، فَمَا عَدَاهُمَا مِنْ أَجْنَاسِ الْفِطْرَةِ أَخَفُّ مِنْهُمَا، فَإِذَا أُخْرِجَ مِنْهُمَا خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ صَاعٍ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: نَقَلَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَزْمٍ: أَنَّهُ قَالَ: وَجَدْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يَخْتَلِفُ مِنْهُمُ اثْنَانِ فِي أَنَّ مُدَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ الصَّدَقَاتِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ رِطْلٍ وَنِصْفٍ، وَلَا دُونَ رِطْلٍ وَرُبُعٍ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا، وَلَكِنَّهُ عَلَى حَسَبِ رَزْنِهِ بِالرَّاءِ، أَيْ: رَزَانَتِهِ وَثِقَلِهِ مِنَ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ. قَالَ: وَصَاعُ ابْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ

ص: 290

وَثُلُثٌ، وَهُوَ صَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَمِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ، وَسَبَبِ رُجُوعِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، مَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ: أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَسَأَلَهُمْ عَنِ الصَّاعِ، فَقَالُوا: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، فَطَالَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ، فَقَالُوا: غَدًا، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ سَبْعُونَ شَيْخًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَخَذَ صَاعًا تَحْتَ رِدَائِهِ، فَقَالَ: صَاعِي وَرَثْتُهُ عَنْ أَبِي وَوَرِثَهُ أَبِي عَنْ جَدِّي، حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ أَبُو يُوسُفَ يُقَارِنُهَا فَوَجَدَهَا كُلَّهَا سَوَاءً، فَأَخَذُوا وَاحِدًا مِنْهَا وَعَايَرَهُ بِالْمَاشِّ - وَهُوَ الْعَدَسُ غَيْرُ الْمَدْشُوشِ -، فَكَانَ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا، فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

وَفِي تِلْكَ الْقِصَّةِ: أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَتَيْتُكُمْ بِعِلْمٍ جَدِيدٍ ; الصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، فَقَالُوا لَهُ: خَالَفْتَ شَيْخَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: وَجَدْتُ أَمْرًا لَمْ أَجِدْ لَهُ مَدْفَعًا.

أَمَّا وَزْنُ الرِّطْلِ الْعِرَاقِيِّ فَأَسَاسُ الْوَحْدَةِ فِيهِ هِيَ الدِّرْهَمُ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا بِدَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَهِيَ تِسْعُونَ مِثْقَالًا.

وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: وَقَدْ زَادُوهُ مِثْقَالًا فَصَارَ وَاحِدًا وَتِسْعِينَ مِثْقَالًا، وَكَمُلَ بِهِ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَقَصَدُوا بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ إِزَالَةَ كَسْرِ الدِّرْهَمِ.

ثُمَّ قَالَ: وَالْعَمَلُ الْأَوَّلُ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِبَقِيَّةِ الْأَرْطَالِ فِي الْأَمْصَارِ الْأُخْرَى، فَكَالْآتِي نَقْلًا مِنْ كَشَّافِ الْقِنَاعِ:

الرِّطْلُ الْبَعْلِيُّ: تِسْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ.

وَالْقُدْسِيُّ: ثَمَانِمِائَةٍ.

وَالْحَلَبِيُّ: سَبْعُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ.

وَالدِّمَشْقِيُّ: سِتُّمِائَةٍ.

وَالْمِصْرِيُّ: مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ. وَكُلُّ رِطْلٍ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، مَقْسُومٌ

ص: 291

عَلَيْهَا الدَّرَاهِمُ.

وَعَلَيْهِ ; فَالصَّاعُ يُسَاوِي سِتَّمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَثَمَانِينَ وَخَمْسَةَ أَسْبَاعِ الدِّرْهَمِ، وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ مِثْقَالًا.

وَعَلَيْهِ أَيْضًا ; يَكُونُ الصَّاعُ بِالْأَرْطَالِ الْأُخْرَى. هُوَ الْمِصْرِيُّ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ وَتِسْعُ أَوَاقٍ وَسُبْعُ أُوقِيَّةٍ، وَبِالدِّمَشْقِيِّ رِطْلٌ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ. وَبِالْحَلَبِيِّ أَحَدَ عَشَرَ رِطْلًا وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ، وَبِالْقُدْسِيِّ عَشْرُ أَوَاقٍ وَسُبْعَا أُوقِيَّةٍ.

وَإِذَا كَانَتْ مَوَازِينُ الْعَالَمِ الْيَوْمَ قَدْ تَحَوَّلَتْ إِلَى مَوَازِينَ فَرَنْسِيَّةٍ، وَهِيَ بِالْكِيلُوجِرَامِ، وَالْكِيلُو أَلْفُ جِرَامٍ، فَلَزِمَ بَيَانُ النِّسْبَةِ بِالْجِرَامِ، وَهِيَ: أَنَّ الْمُكَيَّلَاتِ تَتَفَاوَتُ ثِقَلًا وَكَثَافَةً، فَأَخَذْتُ الصَّاعَ الَّذِي عِنْدِي، وَعَايَرْتُهُ أَوَّلًا عَلَى صَاعٍ آخَرَ قَدِيمًا، فَوَجَدَتْ أَمْرًا مُلْفِتًا لِلنَّظَرِ عِنْدَ الْمُقَارَنَةِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّاعَ الَّذِي عِنْدِي يَزِيدُ عَنِ الصَّاعِ الْآخَرِ قَدْرَ مَلْءِ الْكَفِّ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا الْقِدْرُ الَّذِي فَوْقَ فَتْحَةِ الصَّاعَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ ; لِأَنَّ أَحَدَ الصَّاعَيْنِ فُتْحَتُهُ أَوْسَعُ. فَكَانَ الْجُزْءُ الْمُعَلَّى فَوْقَ فَتْحَتِهِ يُشَكِّلُ مُثَلَّثًا قَاعِدَتُهُ أَطْوَلُ مِنْ قَاعِدَةِ الْمُثَلَّثِ فَوْقَ الصَّاعِ الْآخَرِ، فَعَايَرْتُهُمَا مَرَّةً أُخْرَى عَلَى حَدِّ الْفُتْحَةِ فَقَطْ بِدُونِ زِيَادَةٍ فَكَانَا سَوَاءً. فَعَايَرْتُهُمَا بِالْمَاءِ حَيْثُ إِنَّ الْمَاءَ لَا يَخْتَلِفُ وَزْنُهُ غَالِبًا مَا دَامَ صَالِحًا لِلشُّرْبِ وَلَيْسَ مَالِحًا، وَأَنَّهُ لَا يَسْمَحُ بِوُجُودِ قَدْرٍ زَائِدٍ فَوْقَ الْحَافَّةِ، فَكَانَ وَزْنُ الصَّاعِ بَعْدَ هَذَا التَّأْكِيدِ هُوَ بِالْعَدَسِ الْمَجْرُوشِ 2، 600 كَيلُوَيْنِ وَسِتَّمِائَةِ جِرَامٍ.

وَبِالْمَاءِ 3، 100 ثَلَاثَةَ كِيلُوَاتٍ وَمِائَةَ جِرَامٍ.

وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَمَلُ كَافِيًا لِبَيَانِ الْوَزْنِ التَّقْرِيبِيِّ لِلصَّاعِ النَّبَوِيِّ فِي الزَّكَاةِ.

زَكَاةُ الْوَرَقِ الْمُتَدَاوِلِ.

مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّعَامُلَ بِالْوَرَقِ بَدَلًا عَنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَمْرٌ قَدْ حَدَثَ بَعْدَ عُصُورِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَعُصُورِ تَدْوِينِ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَمَا انْتَشَرَتْ إِلَّا فِي الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِيلَادِيًّا فَقَطْ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْأَئِمَّةِ رحمهم الله رَأْيٌ فِيهَا، وَمُنْذُ أَنْ وُجِدَتْ وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مُخْتَلِفُونَ فِي تَقْيِيمِهَا وَفِي تَحْقِيقِ مَاهِيَّتِهَا مَا بَيْنَ كَوْنِهَا سَنَدَاتٍ: عَنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ عُرُوضِ تِجَارَةٍ، أَوْ نَقْدٍ بِذَاتِهَا.

وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّهَا وَثَائِقُ ضَمَانٍ

ص: 292

مِنَ السُّلْطَانِ.

وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - إِبْدَاءُ وِجْهَةِ نَظَرِهِ فِيهَا فِي الرِّبَا، وَهَلْ يُبَاعُ بِهَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ نَسِيئَةً أَمْ لَا؟

وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ نَظَرِيَّاتٍ فِي مَاهِيَّتِهَا، فَإِنَّهَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ تُعْتَبَرُ مَالًا، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ [70 \ 24] ; لِأَنَّهَا أَصْبَحَتْ ثَمَنَ الْمَبِيعَاتِ وَعِوَضَ السِّلَعِ.

فِعْلَيْهِ تَكُونُ الزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةً. وَالنِّصَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا يُعْتَبَرُ بِمَا يُشْتَرَى بِهَا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فِي أَيِّ عُمْلَةٍ كَانَتْ هِيَ.

فَفِي السُّعُودِيَّةِ مَثَلًا يُنْظَرُ كَمْ يُشْتَرَى بِهَا عِشْرُونَ مِثْقَالًا ذَهَبًا، أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ فِضَّةً، فَيُعْتَبَرُ هَذَا الْقَدْرُ هُوَ النِّصَابُ، وَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.

وَهَكَذَا مِثْلُ الْإِسْتِرْلِينِيِّ، وَالرُّوبِيَّةِ وَالدُّولَارِ ; لِأَنَّ كُلَّ عُمْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَثِيقَةُ ضَمَانٍ مِنَ السُّلْطَانِ الَّذِي أَصْدَرَهَا، أَيْ: الدَّوْلَةِ الَّتِي أَصْدَرَتْهَا. سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ فِيمَا ضَمِنَتْهُ تِلْكَ الْوَثِيقَةُ، أَوْ فِيهَا بِعَيْنِهَا، أَوْ فِي قِيمَتِهَا كَعَرَضٍ، فَهِيَ لَنْ تَخْرُجَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ عَنْ دَائِرَةِ التَّمَوُّلِ وَالِاسْتِبْدَالِ، وَإِنَّ تَحْصِيلَ الْفَقِيرِ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَيًّا كَانَتْ ; فَإِنَّهُ بِهَا سَيَحْصُلُ عَلَى مَطْلُوبِهِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَلْبَسٍ وَمَا يَشَاءُ مِنْ مَصَالِحَ وَفْقَ مَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ بِعَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَا زَكَاةَ فِيهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَقْدِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِسْقَاطَ الزَّكَاةِ عَنْهَا إِسْقَاطٌ لِلزَّكَاةِ مِنْ أَغْلَبِيَّةِ الْعَالَمِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جَمِيعِهِ.

تَنْبِيهٌ.

سَبَقَ أَنْ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مَوْضُوعِ زَكَاةِ الْعُرُوضِ فِي قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ:

يُشْتَرَطُ أَنْ يَنُصَّ فِي يَدِ التَّاجِرِ الْمُدِيرِ وَلَوْ دِرْهَمًا أَثْنَاءَ الْحَوْلِ، وَإِلَّا لَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فِي عُرُوضِ تِجَارَتِهِ.

فَقَالَ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: لَوْ كَانَ مَالِكٌ رحمه الله مَوْجُودًا الْيَوْمَ لَمْ يَقِلْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْعَالَمَ الْيَوْمَ كُلَّهُ لَا يَكَادُ يَعْرِفُ إِلَّا هَذِهِ الْأَوْرَاقَ، وَقَدْ لَا يَنُصُّ فِي يَدِهِ دِرْهَمٌ

ص: 293

وَاحِدٌ فِضَّةً. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَهِيَ غَالِبُ أَمْوَالِ النَّاسِ الْيَوْمَ.

فَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ لَا يَرَى الزَّكَاةَ فِي الْأَوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ: أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ خَطِيرٌ ; وَهُوَ تَعْطِيلُ رَكْنِ الزَّكَاةِ، وَحِرْمَانُ الْمِسْكِينِ مِنْ حَقِّهِ الْمَعْلُومِ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ بَاطِلٌ ; فَهُوَ بَاطِلٌ.

وَلَعَلَّنَا بِهَذَا الْعَرْضِ الْمُوجَزِ، نَكُونُ قَدْ أَوْرَدْنَا عُجَالَةَ مَا بَقِيَ مِنْ مَبْحَثِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ الْمَعْهُودِ مِنَ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -، فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَنْ يُجَارَى فِي تَفْصِيلِهِ، وَأَنَّ تَتَبُّعَ الْجُزْئِيَّاتِ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ سَيُطِيلُ الْكِتَابَةَ، وَهُوَ - بِحَمْدِ اللَّهِ - مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا قَصَدْنَا بَيَانَ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ، وَبَيَانَ مَا هُوَ الرَّاجِحُ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ

يَوْمُ الدِّينِ: هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ. كَمَا تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ (الْفَاتِحَةِ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ

أَيْ: خَائِفُونَ ; كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [55 \ 46] .

وَقَوْلُهُ: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [52 \ 26 - 27] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ.

تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَا بَعْدَهَا، وَفِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» ، وَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مُبْتَغٍ وَرَاءَ الزَّوْجَةِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَخَاصَّةً مَنْ قَالَ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَمْتَعَ بِهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً وَلَيْسَتْ أَمَةً مَمْلُوكَةً.

ص: 294

تَنْبِيهٌ.

وَالْجَدِيرُ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَقُولُ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَذْهَبٍ لِطَائِفَةٍ مَا، إِلَّا الشِّيعَةُ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَمَّنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنَّ الشِّيعَةَ أَنْفُسَهُمْ شِبْهُ مُتَنَاقِضِينَ فِي كُتُبِهِمْ، إِذْ يَنُصُّ الْحُلَلِيُّ - وَهُوَ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ - فِي بَابِ النِّكَاحِ: أَنَّ لِلْحُرِّ وَلِلْعَبْدِ عَلَى السَّوَاءِ أَنْ يَنْكِحَ نِكَاحًا مُؤَقَّتًا، وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ، بِأَيِّ عَدَدٍ شَاءَ مِنَ النِّسَاءِ وَبِدُونِ حَدٍّ، فَجَعَلَ هَذَا الْعَقْدَ كَمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا حُرَّةٌ، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ.

وَفِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، قَالَ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ إِلَّا أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فِي نِكَاحٍ دَائِمٍ وَلَيْسَ مُؤَقَّتًا.

وَهُنَا يُقَالُ لَهُمْ: إِمَّا أَنْ تَعْتَدُّوا بِنِكَاحِهَا الثَّانِي الْمُؤَقَّتِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [2 \ 230] ، فَإِنِ اعْتَبَرْتُمُوهُ نِكَاحًا لَزِمَ إِحْلَالُهَا بِهِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ لَمْ تَعْتَبِرُوهُ نِكَاحًا لَزِمَكُمُ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ مُبْتَغِي وَرَاءَ ذَلِكَ، أَيْ: أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ هُمُ الْعَادُونَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ

تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مَسَائِلِ مَبْحَثِ: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [21 \ 78] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ

قُرِئَ " بِشَهَادَاتِهِمْ " بِالْجَمْعِ، وَقُرِئَ " بِشَهَادَتِهِمْ " بِالْإِفْرَادِ، فَقِيلَ: إِنَّ الْإِفْرَادَ يُؤَدِّي مَعْنَى الْجَمْعِ لِلْمَصْدَرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [31 \ 19] . فَأَفْرَدَ فِي الصَّوْتِ مُرَادًا بِهِ الْأَصْوَاتُ.

وَقِيلَ: الْإِفْرَادُ لِشَهَادَةِ التَّوْحِيدِ مُقِيمُونَ عَلَيْهَا. وَالْجَمْعُ لِتَنَوُّعِ الشَّهَادَاتِ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهَا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ; فَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [41 \ 30] .

ص: 295

قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَيْ دَامُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا عَلَيْهِ.

وَيَدُلُّ لِلثَّانِي عُمُومَاتُ آيَةِ الشَّهَادَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ فِي الْبَيْعِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْكِتَابَةِ فِي الدَّيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ عِدَّةُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَطْلَقَ الْقِيَامَ بِالشَّهَادَةِ هُنَا وَبَيَّنَ أَنَّ قِيَامَهُمْ بِهَا إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [65 \ 2]، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [4 \ 135] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ وَصْفِ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [70 \ 19] يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّ غَيْرَ الْقَائِمِينَ بِشَهَادَاتِهِمْ غَيْرُ خَارِجِينَ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ الذَّمِيمِ.

وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ عَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [2 \ 283]، وَقَوْلُهُ: وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ [5 \ 106] .

وَكَذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ فِي وَصْفِ عِبَادِ الرَّحِمَنِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [25 \ 72] .

وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ عِظَمِ جُرْمِ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ " أَلَا وَشَهَادَةَ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةَ الزُّورِ "، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ ".

تَنْبِيهٌ.

قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، يُفِيدُ الْقِيَامَ بِالشَّهَادَةِ مُطْلَقًا، وَجَاءَ قَوْلُهُ: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [2 \ 282] ، فَقَيَّدَ الْقِيَامَ بِالشَّهَادَةِ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: " خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا ".

ص: 296

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي ذَمِّ الْمُبَادَرَةِ بِهَا، وَيَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا. وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ ; بِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي حَالَةِ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ شَهَادَةٍ، أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى شَهَادَاتِهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ: كَرِضَاعٍ، وَطَلَاقٍ وَنَحْوِهِ، وَالثَّانِي بِعَكْسِ ذَلِكَ.

وَقَدْ نَصَّ ابْنُ فَرْحُونَ: أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي حَقِّ اللَّهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ تَسْتَدِيمُ فِيهِ الْحُرْمَةُ: كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، فَلَا يَتْرُكُهَا، وَتَرْكُهَا جَرْحَةٌ فِي عَدَالَتِهِ. وَقِسْمٌ لَا تَسْتَدِيمُ فِيهِ الْحُرْمَةُ: كَالزِّنَى، وَالشُّرْبِ، فَإِنَّ تَرْكَهَا أَفْضَلُ مَا لَمْ يُدْعَ لِأَدَائِهَا ; لِحَدِيثِ هَزَّالٍ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم:" هَلَّا سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ ".

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَوَاطِنُ الشَّهَادَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَالَّتِي يَجِبُ الْقِيَامُ فِيهَا، نَسُوقُهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ.

الْأَوَّلُ: الْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [2 \ 282] .

الثَّانِي: الطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65 \ 2] .

الثَّالِثُ: كِتَابَةُ الدَّيْنِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [2 \ 282] .

الرَّابِعُ: الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْمَوْتِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [5 \ 106] .

الْخَامِسُ: دَفْعُ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ إِذَا رَشَدَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ [4 \ 6] .

السَّادِسُ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [24 \ 2] .

السَّابِعُ: فِي السُّنَّةِ عَقْدُ النِّكَاحِ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بَوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ "، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَوَاطِنُ هَامَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ، وَحَقِّ الْعِبَادِ مِنْ: حِفْظٍ لِلْمَالِ، وَالْعِرْضِ، وَالنَّسَبِ، وَفِي حَقِّ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، وَالْيَتِيمِ وَالْكَبِيرِ، فَهِيَ فِي شَتَّى مَصَالِحِ الْأُمَّةِ اسْتَوْجَبَتِ الْحَثَّ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، وَالتَّحْذِيرَ مِنْ كِتْمَانِهَا: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ

ص: 297

يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [2 \ 283] .

وَقَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [2 \ 140] .

وَقَوْلُهُ: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [2 \ 282] .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، كُلُّهَا صِيَغُ الْجَمْعِ، وَالشَّهَادَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ فَرْدٍ، وَقَدْ تَكُونُ مِنَ اثْنَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جَمَاعَةٍ.

وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ حَثِّ الشَّاهِدِ تَكُونُ عَلَى النَّحْوِ الْآتِي إِجْمَالًا: رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَرَجُلٌ وَيَمِينٌ، وَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَرَجُلَانِ، وَثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَأَرْبَعَةٌ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَامْرَأَةٌ، وَامْرَأَتَانِ، وَجَمَاعَةُ الصِّبْيَانِ.

وَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ بِذَلِكَ صَرِيحَةً. أَمَّا الْوَاحِدُ، فَقَالَ تَعَالَى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [12 \ 26] .

فَهُوَ، وَإِنْ كَانَ مُلْفِتَ النَّظَرِ إِلَى الْقَرِينَةِ فِي شَقِّ الْقَمِيصِ، إِلَّا أَنَّهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ.

وَجَاءَ فِي السُّنَّةِ: شَهَادَةُ خُزَيْمَةَ رضي الله عنه، لَمَّا شَهِدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِرَاءِ الْفَرَسِ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ، وَجَعَلَهَا صلى الله عليه وسلم بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ.

وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِثُبُوتِ شَهَادَةِ الطَّبِيبِ، وَالْقَائِفِ، وَالْخَارِصِ، وَنَحْوِهِمْ.

وَجَاءَ فِي ثُبُوتِ رَمَضَانَ، فَقَدْ قَبِلَ صلى الله عليه وسلم شَهَادَةَ أَعْرَابِيٍّ، وَقَبِلَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، سَوَاءٌ كَانَ قَبُولُهَا اكْتِفَاءً بِهَا أَوِ احْتِيَاطًا لِرَمَضَانَ.

وَأَمَّا شَهَادَةُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَيَمِينُ الْمُدَّعِي، فَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ " وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَطَالَ فِي تَصْحِيحِهِ وَتَوْجِيهِهِ.

وَعِنْدَ مَالِكٍ، وَمَذْهَبٌ لِأَحْمَدَ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ، وَيَمِينُ الْمُدَّعِي، وَخَالَفَهُمَا الْجُمْهُورُ.

وَأَمَّا شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [2 \ 282] .

وَبَيَّنَ تَعَالَى تَوْجِيهَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [2 \ 282] .

ص: 298

وَبِهَذَا النَّصِّ رَدَّ الْجُمْهُورُ مَذْهَبَ مَالِكٍ، وَالْمَذْهَبَ الْمَحْكِيَّ عَنْ أَحْمَدَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ إِلَّا أَرْبَعَ نِسْوَةٍ وَلَمْ تَسْتَقِلَّ التَّسْوِيَةُ بِالشَّهَادَةِ.

وَأَمَّا شَهَادَةُ الرَّجُلَيْنِ ; فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [2 \ 282] .

وَأَمَّا ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، فَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِثْبَاتِ الْفَاقَةِ وَالْإِعْسَارِ:" حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ، فَيَقُولُونَ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانَةَ فَاقَةٌ " الْحَدِيثَ. وَهُوَ حَدِيثُ قَبِيصَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ.

وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ فَفِي إِثْبَاتِ الزِّنَا خَاصَّةً، وَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " النُّورِ ".

وَأَمَّا الطَّائِفَةُ فَفِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [24 \ 2] .

وَأَمَّا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ فَفِي أَحْوَالِ النِّسَاءِ خَاصَّةً، كَمَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ:" جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنِّي أَرْضَعْتُهُمَا، فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم " فَارِقْهَا "، فَقَالَ: كَيْفَ أُفَارِقُهَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ: " كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ " وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهَا وَحْدَهَا، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مَا قَدَّمْنَا.

وَأَمَّا الْمَرْأَتَانِ فَعِنْدَ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ، وَقِيلَ عِنْدَ اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ حُضُورُ أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدَةٍ.

وَأَمَّا جَمَاعَةُ الصِّبْيَانِ فَفِي جِنَايَاتِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ كَبِيرٌ. وَفِيهِ خِلَافٌ.

وَرَجَّحَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْعَمَلَ بِهَا فِي مُذَكِّرَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فِي مَبْحَثِ رِوَايَةِ الصِّغَارِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا دَخْلَ لِلنِّسَاءِ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي الْمَالِ أَوْ مَا يَئُولُ إِلَى الْمَالِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا تَحْتَ الثِّيَابِ مِنَ النِّسَاءِ.

وَفِي الشَّهَادَةِ مَبَاحِثُ عَدِيدَةٌ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَكُتُبِ الْقَضَاءِ، كَتَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ

ص: 299

لِابْنِ فَرْحُونَ وَغَيْرِهِ.

وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي الطُّرُقِ الْحِكَمِيَّةِ، وَابْن فَرْحُونَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ، لِمَنْ أَحَبَّ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ هُوَ شُرُوطُ الشَّاهِدِ الْمُعْتَبَرَةُ، وَكُلُّهَا تَدُورُ عَلَى مَا تَحْصُلُ بِهِ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى الْحَقِّ الْمَشْهُودِ بِهِ ; لِأَمْرَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ هُمَا: الضَّبْطُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ النِّسْوَةِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [2 \ 282] .

وَالثَّانِي: الْعَدَالَةُ، وَالصِّدْقُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [49 \ 6] .

وَهُنَا مَبْحَثٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ: هَلِ الْأَصْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ حَتَّى يَظْهَرَ جَرْحُهُ أَمِ الْعَكْسُ؟

وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

وَقَدْ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْعِرَاقِ لِعُمَرَ رضي الله عنه، فَقَالَ لَهُ: أَدْرِكِ النَّاسَ ; لَقَدْ تَفَشَّتْ شَهَادَةُ الزُّورِ. فَقَالَ عُمَرُ: بِتَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَإِثْبَاتِ عَدَالَتِهِمْ.

وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ فَرْحُونَ فِي مَرَاتِبِ الشُّهُودِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرْتَبَةً، وَهِيَ:

الْأُولَى: الشَّاهِدُ الْمُبَرَّزُ فِي الْعَدَالَةِ الْعَالِمُ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَتَجْرِيحُهُ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا أَبْهَمَهُ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ التَّجْرِيحُ إِلَّا بِالْعَدَاوَةِ.

الثَّانِيَةُ: الْمُبَرَّزُ فِي الْعَدَالَةِ غَيْرُ الْعَالِمِ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَحُكْمُهُ كَالْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ إِذَا أَبْهَمَ ذَلِكَ.

الثَّالِثَةُ: الشَّاهِدُ الْمَعْرُوفُ بِالْعَدَالَةِ الْعَالِمُ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ إِلَّا فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي بَعْضِهَا، وَهِيَ: التَّزْكِيَةُ، شَهَادَتُهُ لِأَخِيهِ وَلِمَوْلَاهُ وَلِصَدِيقِهِ الْمُلَاطِفِ وَلِشَرِيكِهِ فِي غَيْرِ التِّجَارَةِ، وَإِذَا زَادَ فِي شَهَادَتِهِ أَوْ نَقَصَ فِيهَا، وَيُقْبَلُ فِيهِ التَّجْرِيحُ بِالْعَدَاوَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ إِذَا أَبْهَمَ ذَلِكَ.

الرَّابِعَةُ: الْمَعْرُوفُ بِالْعَدَالَةِ غَيْرُ الْعَالِمِ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، حُكْمُهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ إِذَا أَبْهَمَ ذَلِكَ.

ص: 300

الْخَامِسَةُ: الشَّاهِدُ الْمَعْرُوفُ بِالْعَدَالَةِ ; إِذَا قَذَفَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ، فَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَأَجَازَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ.

السَّادِسَةُ: الَّذِي يُتَوَسَّمُ فِيهِ الْعَدَالَةُ ; تَجُوزُ دُونَ تَزْكِيَةٍ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمُسَافِرِينَ فِي السَّفَرِ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ تَزْكِيَتِهِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِمَجْهُولِ الْحَالِ.

وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِثْلَهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّحَرِّي عَنْهُ حَتَّى يَنْكَشِفَ أَمْرُهُ.

السَّابِعَةُ: الَّذِي لَا يُتَوَسَّمُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَلَا الْجَرْحَةُ ; فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ دُونَ تَزْكِيَةٍ، إِلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُ تَكُونُ شَبِيهَةً فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَتُوجِبُ الْيَمِينَ، وَتُوجِبُ الْحَمِيلَ، وَتَوْقِيفَ الشَّيْءِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

الثَّامِنَةُ: الَّذِي يُتَوَسَّمُ فِيهِ الْجَرْحَةُ ; فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ دُونَ تَزْكِيَةٍ، وَلَا تَكُونُ شَهَادَتُهُ شُبْهَةً تُوجِبُ حُكْمًا.

التَّاسِعَةُ: الشَّاهِدُ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ جَرْحَةٌ قَدِيمَةٌ أَوْ يَعْلَمُهَا الْحَاكِمُ فِيهِ ; فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ دُونَ تَزْكِيَةٍ، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ التَّزْكِيَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِمَّنْ عَلِمَ بِجَرْحَتِهِ إِذَا شَهِدَ عَلَى تَوْبَتِهِ مِنْهَا، وَنُزُوعِهِ مِنْهَا، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بِمَنْزِلَتِهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ ; لِأَنَّ تَزْكِيَتَهُ لَا تَجُوزُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ بِمَعْرِفَةٍ تُزِيدُهُ فِي الْخَبَرِ.

الْعَاشِرَةُ: الْمُقِيمُ عَلَى الْجَرْحَةِ الْمَشْهُودُ بِهَا ; فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَلَا تُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ فِيهِ وَإِنْ زُكِّيَ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ تَزْكِيَتُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إِذَا تَابَ.

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: شَاهِدُ الزُّورِ ; فَلَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ حَالُهُ، وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ شَهَادَتَهُ تَجُوزُ إِذَا تَابَ وَعُرِفَتْ تَوْبَتُهُ بِتَزَيُّدِ حَالِهِ فِي الصَّلَاحِ.

قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فِي قَوْلِ مَالِكٍ، فَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ مِنَ الْقَوْلِ.

وَقِيلَ: مَعْنَى رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ إِذَا جَاءَ تَائِبًا مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. اهـ.

وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْمَرَاتِبَ ; لِأَنَّهَا شَمِلَتْ أَنْوَاعَ الشُّهُودِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَفِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَاتُهُمْ.

ص: 301

تَنْبِيهٌ.

وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْرِيقِ الشُّهُودِ: إِنَّ هَذَا فِي الزِّنَا خَاصَّةً، وَقِيلَ: لِلْقَاضِي أَنْ يُفَرِّقَهُمْ مَتَى مَا رَأَى ذَلِكَ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ فَرَّقَهُمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - تَفْرِيقَ الشُّهُودِ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ كَلَامٌ فِي قَضِيَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي رُمِيَتْ بِالزِّنَا، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْلِيفِ الشَّاهِدِ.

فَالْجُمْهُورُ: لَا يُحَلَّفُ، وَرَجَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ جَوَازَهُ فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلضَّرُورَةِ كَالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْكَافِرِ فِي السَّفَرِ، وَمَدَارُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ لِصِدْقِ الشَّاهِدِ، وَذَلِكَ يَدُورُ عَلَى أَصْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: هُوَ الضَّابِطُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [2 \ 282] .

وَالثَّانِي: الْعَدَالَةُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [49 \ 6] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَلِلشَّهَادَةِ مَبَاحِثُ عَدِيدَةٌ اكْتَفَيْنَا بِمَا أَوْرَدْنَا.

وَقَدْ بَحَثَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله مَبَاحِثَ الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَالْمَوْضُوعُ فِي كِتَابِ الطُّرُقِ الْحِكَمِيَّةِ.

تَنْبِيهٌ.

لِلشَّهَادَةِ عَلَاقَةٌ بِالْيَمِينِ فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«شَاهِدَانِ أَوْ يَمِينُهُ» .

فَمَا هِيَ تِلْكَ الْعَلَاقَةُ؟ وَبَيَّنَ هَذِهِ الْعَلَاقَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [6 \ 19]، وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [41 \ 53]، وَقَوْلُهُ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [21 \ 78]، وَقَوْلُهُ: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [46 \ 8] . وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى: شَاهِدٌ وَمُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِ الْعِبَادِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، يَعْلَمُ

ص: 302

خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَإِذَا أَعْوَزَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا حَلَفَ مَعَ الشَّاهِدِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَسْتَشْهِدُ بِاللَّهِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنِّي صِدْقَ دَعْوَايَ.

وَكَذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِذَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنِ الْبَيِّنَةِ وَكَانَتِ الدَّعْوَى مُتَوَجِّهَةً، وَمِمَّا يُشْبِهُ، كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقُولُ: لَدَيَّ الْبَيِّنَةُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِ مَا ادَّعَى بِهِ عَلَيَّ، أَلَا وَهُوَ خَيْرُ الشَّاهِدِينَ.

مَنْ هُوَ أَكْبَرُ شَهَادَةً مِمَّا عَجَزَ عَنْهَا الْمُدَّعِي أَلَا وَهُوَ الِاسْتِشْهَادُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَيَحْلِفُ عَلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِمَّا ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ.

تَنْبِيهٌ.

وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» أَيْ ; لِأَنَّ الْحَالِفَ يُقِيمُ الْمَحْلُوفَ بِهِ مَقَامَ الشُّهُودِ الَّذِينَ رَأَوْا أَوْ سَمِعُوا، وَالْمَخْلُوقُ إِذَا كَانَ غَائِبًا لَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ، فَإِذَا حَلَفَ بِهِ كَانَ قَدْ أَعْطَاهُ صِفَاتِ مَنْ يَرَى وَيَسْمَعُ، وَالْحَالُ أَنَّهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى الْحَالِفُ وَالْمُسْتَحْلِفُ بِاللَّهِ يَعْلَمَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَغَيْرُ اللَّهِ إِذَا مَا حُلِفَ بِهِ لَا يَقْوَى وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ

«مُهْطِعِينَ» : أَيْ مُسْرِعِينَ نَافِرِينَ، «وَعِزِينَ» جَمْعُ عِزَةٍ، وَهُمُ الْجَمَاعَةُ، أَيْ: مَا بَالُ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الْمُنْصَرِفِينَ عَنْكَ مُتَفَرِّقِينَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ الْكُمَيْتِ:

وَنَحْنُ وَجَنْدَلٌ بَاغٍ تَرَكْنَا

كَتَائِبَ جَنْدَلٍ شَتَّى عِزِينَ

وَكَذَلِكَ هُنَا فَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَاتٍ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ. تَفَرَّقَتْ بِهِمُ الْأَهْوَاءُ، وَأَخَذَتْهُمُ الْحَيْرَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [74 \ 49 - 51] .

وَنَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ، مُخْتَلِفُونَ، مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ

ص: 303