الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَلَدِهِ مَسْقَطَ رَأْسِهِ فَصَبَرَ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ، وَرَضِيَ الدُّخُولَ فِي جِوَارِ رَجُلٍ مُشْرِكٍ وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ ; لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [90 \ 4] ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِهِ.
فَإِذَا كَانَ كُلُّ إِنْسَانٍ يُكَابِدُ فِي حَيَاتِهِ، أَيًّا كَانَ هُوَ، وَلِأَيِّ غَرَضٍ كَانَ، فَمُكَابَدَتُكَ تِلْكَ جَدِيرَةٌ بِالتَّقْدِيرِ وَالْإِعْظَامِ، حَتَّى يُقْسَمَ بِهَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
قِيلَ: الْوَالِدُ: هُوَ آدَمُ، وَمَا وَلَدَ، قِيلَ:«مَا» نَافِيَةٌ. وَقِيلَ: مَصْدَرِيَّةٌ.
فَعَلَى أَنَّهَا نَافِيَةٌ: أَيْ: وَكُلُّ عَظِيمٍ لَمْ يُولَدْ لَهُ.
وَعَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ: أَيْ: بِمَعْنَى الْوِلَادَةِ مِنْ تَخْلِيصِ نَفْسٍ مِنْ نَفْسٍ، وَمَا يَسْبِقُ ذَلِكَ مِنْ تَلْقِيحٍ وَحَمْلٍ، وَنُمُوِّ الْجَنِينِ، وَتَفْصِيلِهِ وَتَخْلِيقِهِ، وَتَسْهِيلِ وِلَادَتِهِ.
وَقِيلَ: «وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» : كُلُّ وَالِدٍ مَوْلُودٌ مِنْ حَيَوَانٍ وَإِنْسَانٍ.
وَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْوَالِدَ هُوَ آدَمُ، وَمَا وَلَدَ ذُرِّيَّتَهُ، بِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ مَعَ هَذَا الْبَلَدِ ; لِأَنَّهَا أُمُّ الْقُرَى، وَهُوَ أَبُو الْبَشَرِ، فَكَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِأُصُولِ الْمَوْجُودَاتِ وَفُرُوعِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ
تَقَدَّمُ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [84 \
6]
.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ لَمْ يُبَيِّنْ أَيَرَاهُ أَحَدٌ؟ وَمَنِ الَّذِي يَرَاهُ؟
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ سبحانه وتعالى يَرَاهُ، وَلَكِنْ جَاءَ الْجَوَابُ مَقْرُونًا بِالدَّلِيلِ وَالْإِحْصَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [90 \ 8 - 10] ; لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ لِلْإِنْسَانِ عَيْنَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَيَعْلَمُ مِنْهُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَلِسَانًا يَنْطِقُ بِهِ وَيُحْصِي عَلَيْهِ:«مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» [50 \ 18] ، وَهَدَاهُ الطَّرِيقَ، طَرِيقَ الْبَذْلِ وَطَرِيقَ الْإِمْسَاكِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; فَلَنْ يُنْفِقَ دِرْهَمًا إِلَّا وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُهُ وَيَرَاهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ
النَّجْدُ: الطَّرِيقُ، وَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «الْإِنْسَانِ» بَعْدَ تَفْصِيلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [76 \ 2 - 3]، أَيِ: الطَّرِيقَ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِدَلِيلِ: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [76 \ 3] .
وَتَقَدَّمَ الْمَعْنَى هُنَاكَ، وَيَأْتِي فِي السُّورَةِ بَعْدَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [91 \ 8] . زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لَهُ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ
وَقَدْ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِالْعَقَبَةِ فِيمَا بَعْدُ بِقَوْلِهِ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ [90 \ 12] ، ثُمَّ ذَكَرَ تَفْصِيلَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِصِيغَةِ «وَمَا أَدْرَاكَ» ، فَقَدْ جَاءَ تَفْصِيلُهُ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [101 \ 1 - 4] ، وَمَا بَعْدَهَا.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [69 \ 1 - 2] .
وَفِي تَفْسِيرِ الْعَقَبَةِ بِالْمَذْكُورَاتِ، فَكُّ الرَّقَبَةِ، وَإِطْعَامُ الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ، تَوْجِيهٌ إِلَى ضَرُورَةِ الْإِنْفَاقِ حَقًّا لَا مَا يَدَّعِيهِ الْإِنْسَانُ بِدُونِ حَقِيقَةٍ فِي قَوْلِهِ: أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا [90 \ 6] .
أَمَّا فَكُّ الرَّقَبَةِ: فَإِنَّهُ الْإِسْهَامُ فِي عِتْقِ الرَّقِيقِ، وَالِاسْتِقْلَالُ فِي عِتْقِهَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِفَكِّ النَّسَمَةِ.
وَهَذَا الْعُنْصُرُ مِنَ الْعَمَلِ بَالِغُ الْأَهَمِّيَّةِ، حَيْثُ قُدِّمَ فِي سُلَّمِ الِاقْتِحَامِ لِتِلْكَ الْعَقَبَةِ.
وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِبَيَانِ فَضْلِ هَذَا الْعَمَلِ حَتَّى أَصْبَحَ عِتْقُ الرَّقِيقِ أَوْ فَكُّ النَّسَمَةِ، يُعَادَلُ بِهِ عِتْقُ الْمُعْتَقِ مِنَ النَّارِ كُلُّ عُضْوٍ بِعُضْوٍ، وَفِيهِ نُصُوصٌ عَدِيدَةٌ سَاقَهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِحَقِيقَةِ مَوْقِفِ الْإِسْلَامِ مِنَ الرِّقِّ، وَمَدَى حِرْصِهِ وَتَطَلُّعِهِ إِلَى تَحْرِيرِ الرِّقَابِ.
فَهَا هُوَ هُنَا يَجْعَلُ عَتَقَ الرَّقَبَةِ، سُلَّمَ اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ، وَجَعَلَهُ عِتْقًا لِلْمُعَتَقِ مِنَ النَّارِ كُلُّ عُضْوٍ بِعُضْوٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يَسْعَى لِذَلِكَ، وَجَعَلَهُ كَفَّارَةً لِكُلِّ يَمِينٍ وَلِلظِّهَارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَكَفَّارَةَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ، كُلُّ ذَلِكَ نَوَافِذُ إِطْلَاقِ الْأُسَارَى، وَفَكُّ الرِّقَابِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يُفْتَحْ لِلِاسْتِرْقَاقِ إِلَّا بَابٌ وَاحِدٌ، هُوَ الْأَسْرُ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لَا غَيْرَ، وَهُمَا مِمَّا سَبَقَ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ رَدًّا عَلَى الْمُسْتَشْرِقِينَ وَمَنْ تَأَثَّرَ بِهِمْ ; فِي ادِّعَائِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ: أَنَّهُ مُتَعَطِّشٌ لِاسْتِرْقَاقِ الْأَحْرَارِ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [90 \ 14] . أَيْ: شِدَّةٍ وَجُوعٍ. وَالسَّاغِبُ: الْجَائِعُ ; قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
فَلَوْ كُنْتَ جَارًا يَا بْنَ قَيْسٍ لِعَاصِمٍ
…
لَمَا بِتَّ شَبْعَانًا وَجَارُكَ سَاغِبًا
أَيْ: لَوْ كُنْتَ جَارًا بِحَقٍّ تَعْنِي بِحَقِّ الْجَارِ، لَمَا حَدَثَ لِجَارِكَ هَذَا.
وَهَذَا الْقَيْدُ لِحَالِ الْإِطْعَامِ ; دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْإِيمَانِ بِالْجَزَاءِ، وَتَقْدِيمِ مَا عِنْدَ اللَّهِ ; عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [76 \ 8] ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حُبِّهِ أَنَّهُ لِلطَّعَامِ، وَهَذَا غَالِبٌ فِي حَالَاتِ الشِّدَّةِ وَالْمَسْغَبَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [59 \ 9] ، فَهِيَ أَعْلَى مَنَازِلِ الْفَضِيلَةِ فِي الْإِطْعَامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، فَالْيَتِيمُ مَنْ حُرِمَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَقَدْ خَصُّوا فِي اللُّغَةِ يَتِيمَ الْحَيَوَانِ، مَنْ فَقَدَ الْأُمَّ، وَفِي الطُّيُورِ مَنْ فَقَدَ الْأَبَوَيْنِ، وَفِي الْإِنْسَانِ مَنْ فَقَدَ الْأَبَ.
وَ «ذَا مَقْرَبَةٍ» : أَيْ: قَرَابَةٍ، وَخُصَّ بِهِ ; لِأَنَّ الْإِطْعَامَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ وَأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ الْحَدِيثُ:«إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، وَعَلَى الْبَعِيدِ صَدَقَةٌ فَقَطْ» .