الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[5
9 \ 2 - 4] ، وَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ الْآيَةَ [33 \ 26 - 27] اهـ مِنْهُ.
فَهَذَا مِنْهُ رحمه الله بَيَانٌ وَدَلِيلٌ إِلَى مُغَايَرَةِ الْمُشَاقَّةِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْيَهُودِ لِلْمُشَاقَّةِ الْوَاقِعَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَمَّنْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ؛ لِتَخَلُّفِ بَعْضِ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ.
الْلِينَةُ هُنَا، قِيلَ: اسْمٌ عَامٌّ لِلنَّخْلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقِيلَ: نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا عَدَا الْبَرْنِيَّ وَالْعَجْوَةَ فَقَطْ.
وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: اللِّينَةُ مِنَ اللَّوْنِ، وَقَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ لِينَةً؛ لِأَنَّهَا فِعْلَةٌ مِنْ فَعَلَ وَهُوَ اللَّوْنُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ، وَلَكِنْ لَمَّا انْكَسَرَ مَا قَبْلَهَا انْقَلَبَتْ إِلَى يَاءٍ إِلَخْ، وَهَذَا الْأَخِيرُ قَرِيبٌ مِمَّا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ، حَيْثُ يُطْلِقُونَ كَلِمَةَ: لُونَةٍ عَلَى مَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ اسْمًا خَاصًّا، وَلَعَلَّ كَلِمَةَ لُونَةٍ مُحَرَّفَةٌ عَنْ كَلِمَةِ لِينَةٍ، وَيُوجَدُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّخِيلِ مَا يَقْرُبُ مِنْ سَبْعِينَ نَوْعًا.
وَقِيلَ: إِنَّ الْلِينَةَ كُلُّ شَجَرَةٍ لِلُيُونَتِهَا بِالْحَيَاةِ.
وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَقْطِيعِ وَتَحْرِيقِ بَعْضِ النَّخِيلِ لِبَنِي النَّضِيرِ عِنْدَ حِصَارِهِمْ وَقَطَعَ مِنَ الْبُسْتَانِ الْمَعْرُوفِ بِالْبُوَيْرَةِ، كَمَا رَوَى ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ صَاحِبَيِ الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ حَسَّانٌ رضي الله عنه:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ
…
حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
وَالْبُوَيْرَةُ مَعْرُوفَةٌ الْيَوْمَ، وَهِيَ بُسْتَانٌ يَقَعُ فِي الْجَنُوبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ مَسْجِدِ قُبَاءٍ.
وَقِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: إِنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ، فَمَا بَالُكَ تَأْمُرُ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ نَهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ قَطْعِ النَّخِيلِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ مَغَانِمُ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ، وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَ مِنَ الْإِثْمِ، وَأَنَّ قَطْعَ مَا قُطِعَ وَتَرْكَ مَا تُرِكَ: فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ.
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَبِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: الْإِذْنُ الْقَدَرِيُّ وَالْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، أَيْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [3 \ 166]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [3 \ 152] .
وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ الْإِذْنَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ إِذْنٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ الْإِذْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [22 \ 39] ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْقِتَالِ إِذْنٌ بِكُلِّ مَا يَتَطَلَّبُهُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِهِ وَبِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ.
وَالْحِصَارُ نَوْعٌ مِنَ الْقِتَالِ، وَلَعَلَّ مِنْ مَصْلَحَةِ الْحِصَارِ قَطْعَ بَعْضِ النَّخِيلِ لِتَمَامِ الرُّؤْيَةِ، أَوْ لِإِحْكَامِ الْحِصَارِ، أَوْ لِإِذْلَالِ وَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ فِي حِصَارِهِ وَإِشْعَارِهِ بِعَجْزِهِ عَنْ حِمَايَةِ أَمْوَالِهِ، وَمُمْتَلَكَاتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ إِثَارَةٌ لَهُ؛ لِيَنْدَفِعَ فِي حَمِيَّةٍ لِلدِّفَاعِ عَنْ مُمْتَلَكَاتِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَيَنْكَشِفَ عَنْ حُصُونِهِ وَيَسْهُلَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْحَرْبِيَّةِ، وَالَّتِي أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ أَيْ: بِعَجْزِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ، وَهُمْ يَرَوْنَ نَخِيلَهُمْ يُقْطَعُ، وَيُحْرَقُ فَلَا يَمْلِكُونَ لَهُ دَفْعًا.
وَعَلَى كُلٍّ فَالَّذِي أَذِنَ بِالْقِتَالِ وَهُوَ سَفْكُ الدِّمَاءِ، وَإِزْهَاقُ الْأَنْفُسِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ سَبْيٍ وَغَنَائِمَ لَا يَمْنَعُ فِي مِثْلِ قَطْعِ النَّخِيلِ إِنْ لَزِمَ الْأَمْرُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا أَذِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبِإِذْنِ اللَّهِ أَذِنَ.
وَبِهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَدُوًّا، وَرَأَوْا أَنَّ مِنْ مَصْلَحَتِهِمْ أَوْ مِنْ مَذَلَّةِ الْعَدُوِّ إِتْلَافَ مُنْشَآتِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَغَايَةُ مَا فِيهِ، أَنَّهُ إِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِلتَّغَلُّبِ عَلَى الْعَدُوِّ وَأَخْذِ جَمِيعِ مَالِهِ، وَهَذَا لَهُ
نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ، كَعَمَلِ الْخِضْرِ فِي سَفِينَةِ الْمَسَاكِينَ لَمَّا خَرَقَهَا، أَيْ أَعَابَهَا بِإِتْلَافِ بَعْضِهَا؛ لِيَسْتَخْلِصَهَا مِنِ اغْتِصَابِ الْمَلِكِ إِيَّاهَا، وَقَالَ: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [18 \ 82] .
وَقَدْ جَاءَ اعْتِرَاضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِهِمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، كَمَا اعْتَرَضَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قَطْعِ النَّخِيلِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [2 \ 217] .
فَقَدْ تَعَاظَمَ الْمُشْرِكُونَ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي وَقْعَةِ نَخْلَةٍ، وَلَمْ يَتَحَقَّقُوا دُخُولَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَاتَّهَمُوهُمْ بِاعْتِدَاءٍ عَلَى حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمُوجِبِ مَا قَالُوا بِأَنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ، وَلَكِنْ مَا ارْتَكَبَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ صَدٍّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٍ بِاللَّهِ، وَصَدٍّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِهِ مِنْهُ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ عَنِ الدِّينِ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، أَيْ: الَّذِي اسْتَنْكَرُوهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَكَذَا هُنَا لَئِنْ تَعَاظَمَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَطْعَ بَعْضِ النَّخِيلِ، وَعَابُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِيقَاعَ الْفَسَادِ بِإِتْلَافِ بَعْضِ الْمَالِ فَكَيْفَ بِهِمْ بِغَدْرِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ نَقْضِهِمِ الْعُهُودَ، وَتَمَالُئِهِمْ عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَقَدْ سَجَّلَ هَذَا الْمَعْنَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُ إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَتْلَ ابْنِ الْأَشْرَفِ:
لَقَدْ خَزِيَتْ بِغَدْرَتِهَا الْحُبُورُ
…
كَذَاكَ الدَّهْرُ ذُو صَرْفٍ يَدُورُ
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَبٍّ
…
عَظِيمٍ أَمْرُهُ أَمْرٌ كَبِيرٌ
وَقَدْ أُوتُوا مَعًا فَهْمًا وَعِلْمًا
…
وَجَاءَهُمُ مِنَ اللَّهِ النَّذِيرُ
إِلَى أَنْ قَالَ:
فَلَمَّا أُشْرِبُوا غَدْرًا وَكُفْرًا
…
وَحَادَ بِهِمْ عَنِ الْحَقِّ النُّفُورُ
أَرَى اللَّهُ النَّبِيَّ بِرَأْيِ صِدْقٍ
…
وَكَانَ اللَّهُ يَحْكُمُ لَا يَجُورُ
فَأَيَّدَهُ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِمُ
…
وَكَانَ نَصِيرَهُ نِعْمَ النَّصِيرُ
فَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ خِزْيَ بَنِي النَّضِيرِ بِسَبَبِ غَدْرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، فَكَانَ الْإِذْنُ فِي قَطْعِ النَّخِيلِ هُوَ إِذْنٌ شَرْعِيٌّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ هُوَ عَمَلٌ تَشْرِيعِيٌّ إِذَا مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ، لِمِثْلِ مَا دَعَتِ الْحَاجَّةُ هَنَا إِلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.