الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
سُورَةُ
الْمُدَّثِّرِ
.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ
الْإِنْذَارُ إِعْلَامٌ بِتَخْوِيفٍ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْإِعْلَامِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ لِمَفْعُولَيْنِ الْمُنْذِرِ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ وَالْمُنْذَرِ بِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
أَمَّا الْمُنْذِرُ فَقَدْ بَيَّنَتْ آيَاتٌ أُخَرُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْكَافِرِينَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] ; تَخْوِيفًا لَهُمْ.
وَقَدْ يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [36 \ 11] .
وَقَدْ يَكُونُ لِلْجَمِيعِ، أَيْ: لِعَامَّةِ النَّاسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [10 \ 2] .
وَأَمَّا الْمُنْذَرُ بِهِ فَهُوَ مَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ قَدَّرَ الْأَمْرَيْنِ هُنَا ابْنُ جَرِيرٍ بِقَوْلِهِ: فَأَنْذِرْ عَذَابَ اللَّهِ قَوْمَكَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَعَبَدُوا غَيْرَهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [7 \ 2] فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
قَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ كُلٍّ مِنْ لَفْظَتَيِ: الثِّيَابِ، وَفَطَهِّرْ، هَلْ هُمَا دَلَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ طَهَارَةَ الثَّوْبِ مِنَ النَّجَاسَاتِ؟ أَمْ هُمَا عَلَى الْكِنَايَةِ؟ وَالْمُرَادُ بِالثَّوْبِ: الْبَدَنُ، وَالطَّهَارَةُ عَنِ الْمَعْنَوِيَّاتِ مِنْ مَعَاصِيَ وَآثَامٍ وَنَحْوِهَا، أَمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْكِنَايَةِ؟ ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا تَلْبَسْ ثِيَابَكَ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا عَلَى غَدْرَةٍ، وَاسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ غَيْلَانَ:
وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ
…
لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَدْنَسْ مِنَ اللُّؤْمِ
…
عِرْضُهُ فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ
فَاسْتَعْمَلَ اللَّفْظَيْنِ فِي الْكِنَايَةِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ [94 \ 2] .
وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَلْبَسْ ثِيَابَكَ مِنْ كَسْبٍ غَيْرِ طَيِّبٍ، فَاسْتَعْمَلَ الثِّيَابَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالتَّطْهِيرَ فِي الْكِنَايَةِ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَصْلِحْ عَمَلَكَ، وَعَمَلَكَ فَأَصْلِحْ، فَاسْتَعْمَلَهُمَا مَعًا فِي الْكِنَايَةِ عَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَابْنِ زَيْدٍ: عَلَى حَقِيقَتِهِمَا، فَطَهِّرْ ثِيَابَكَ مِنَ النَّجَاسَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ زَيْدٍ أَظْهَرُ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ قَوْلٌ عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: ثِيَابُكَ هِيَ نِسَاؤُكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ [2 \ 187] ، فَأْمُرْهُنَّ بِالتَّطَهُّرِ، وَتَخَيَّرْهُنَّ طَاهِرَاتٍ خَيِّرَاتٍ.
هَذِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ مِنْهَا، وَالْوَاقِعُ فِي السِّيَاقِ مَا يَشْهَدُ لِاخْتِيَارِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ حَمْلُ اللَّفْظَيْنِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا.
وَتَرْجِيحُ قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَالْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: طَهَارَةُ الثَّوْبِ، وَالثَّانِي: هَجْرُ الرِّجْزِ.
وَمِنْ مَعَانِي الرِّجْزِ: الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ حَمْلُ طِهَارَةِ الثَّوْبِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ الرِّجْزُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِمَعْنًى جَدِيدٍ أَوْلَى.