الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [76 \ 2]، الْأَمْشَاجُ: الْأَخْلَاطُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [86 \ 7] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ هَدَى الْإِنْسَانَ السَّبِيلَ، وَهُوَ بَعْدَ الْهِدَايَةِ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.
وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ هِدَايَةُ بَيَانٍ وَإِرْشَادٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [41 \ 17] ، كَمَا أَنَّ الْهِدَايَةَ الْحَقِيقِيَّةَ بِخَلْقِ التَّوْفِيقِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ عَلَى مَنْ شَاءَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [28 \
5
6] .
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَمَعْنَى الْهِدَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا
بَيَّنَ تَعَالَى نَوْعَ هَذِهِ السَّلَاسِلِ بِذَرْعِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا [69 \ 32] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ
مَادَّةُ يَشْرَبُ تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا، فَيُقَالُ: يَشْرَبُ كَأْسًا بِدُونِ مَجِيءِ «مِنْ» ، وَ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ وَلِلِابْتِدَاءِ، فَقِيلَ: هِيَ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ، وَأَنَّ الْفِعْلَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ، وَهُوَ: يَتَنَعَّمُونَ وَيَرْتَوُونَ كَمَا قَالُوا فِي: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [76 \ 6] . إِذِ الْبَاءُ تَكُونُ لِلْإِرَادَةِ وَلَا إِرَادَةَ هُنَا، فَهُمْ يَتَنَعَّمُونَ بِهَا.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ فِعْلًا، وَأَنَّ شُرْبَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ التَّرَفُّهِ وَالتَّلَذُّذِ، وَهِيَ عَادَةُ الْمُتْرَفِينَ الْمُنَعَّمِينَ، يَشْرَبُونَ بَعْضَ الْكَأْسِ لَا كُلَّهُ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَشْرَبُونَ عَنْ ظَمَأٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِآدَمَ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [20 \ 119] ، وَسَيَأْتِي تَعْدِيَةُ
يُسْقَوْنَ بِنَفْسِهَا إِلَى الْكَأْسِ: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا [76 \ 17]، وَيَأْتِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [76 \ 21] .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا اتِّفَاقُهُمْ عَلَى التَّضْمِينِ فِي: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ، فَهُوَ هُنَا وَاضِحٌ.
وَهُنَاكَ التَّبْعِيضُ ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَبْحَثُ النَّذْرِ وَافِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ الْآيَةَ [22 \ 29] فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا
اخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي عَلَى حُبِّهِ، هَلْ هُوَ رَاجِعٌ عَلَى الطَّعَامِ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ أَيْ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ لِقِلَّتِهِ عِنْدَهُمْ وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، أَمْ عَلَى حُبِّ اللَّهِ رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ؟
وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ كَثِيرٍ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَسَاقَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [2 \ 177] ، وَقَوْلِهِ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [3 \ 92] .
وَالْوَاقِعُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْأَوَّلَ فِيهِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنْ أَقْرَبُ دَلِيلًا وَأَصْرَحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [59 \ 9] .
وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَرِينَةٌ تَشْهَدُ لِرُجُوعِهِ لِلطَّعَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهَا: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [76 \ 9] ; لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى حُبِّ اللَّهِ، مِمَّا يَجْعَلُ الْأُولَى لِلطَّعَامِ وَهَذِهِ لِلَّهِ. وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، فَيَكُونُ السِّيَاقُ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حَاجَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَلِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -.
مَسْأَلَةٌ.
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، جَمْعُ أَصْنَافٍ ثَلَاثَةٍ:
الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ غَالِبًا، أَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الْأَسِيرُ فَلَمْ يَكُنْ لَدَى الْمُسْلِمِينَ أَسْرَى إِلَّا مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِنْ
كَانَتِ السُّورَةُ مَكِّيَّةً إِلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا فِي الْفُرْسِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَسَاقَ قِصَّةَ أَسَارَى بَدْرٍ.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْأَسْرَى هُمُ الْخَدَمُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ الْأَسَارَى هُنَا عَلَى مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ ; لِأَنَّ الْخَدَمَ لَا يَخْرُجُونَ عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالْمِسْكِينِ، وَهَؤُلَاءِ الْأَسَارَى بَعْدَ وُقُوعِهِمْ فِي الْأَسْرِ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَوْلٌ وَلَا طَوْلٌ. فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ.
وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَسُمُوِّ تَعَالِيمِهِ، وَإِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ الْيَوْمَ لَفِي حَاجَةٍ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ التَّعَالِيمِ السَّمَاوِيَّةِ السَّامِيَةِ حَتَّى مَعَ أَعْدَائِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [60 \ 8] ، وَهَؤُلَاءِ بَعْدَ الْأَسْرِ لَيْسُوا مُقَاتِلِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا
تَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [75 \ 22] ، وَهُنَا جَمْعٌ لَهُمْ بَيْنَ النُّضْرَةِ وَالسُّرُورِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ النُّضْرَةَ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ النَّعِيمِ، وَالسُّرُورَ لِمَا يَنَالُونَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [75 \ 22 - 23] فَيَكُونُ السُّرُورُ نَتِيجَةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ. - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا
فِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَوَانِي الْفِضَّةِ فِي الْجَنَّةِ.
وَجَاءَ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي الدُّنْيَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي يَطُوفُ عَلَيْهِمْ هُمْ: وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا [76 \ 19] .
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «الطُّورِ» عِنْدَ قَوْلِهِ: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ [52 \ 24]
وَالْقَوَارِيرُ جَمْعُ قَارُورَةٍ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْقَارُورَةَ عَلَى إِنَاءِ الزُّجَاجِ خَاصَّةً، وَلَكِنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهَا قَوَارِيرُ مِنْ فِضَّةٍ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إِطْلَاقِ الْقَارُورَةِ عَلَى غَيْرِ آنِيَةِ الزُّجَاجِ كَالْفِضَّةِ مَثَلًا.
قَالَ صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَالْقَارُورَةُ: مَا قَرَّ فِيهِ الشَّرَابُ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الزُّجَاجِ خَاصَّةً.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَوَارِيرَ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَاهُ أَوَانِي زُجَاجٍ فِي بَيَاضِ الْفِضَّةِ وَصَفَاءِ الْقَوَارِيرِ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا أَحْسَنُ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ شِدْيَاقٍ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ فِي مَادَّةٍ قَرَّ: الْقَافُ وَالرَّاءُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى بَرْدٍ، وَالْآخَرُ عَلَى تَمَكُّنٍ، وَذَكَرَ مِنَ التَّمَكُّنِ: اسْتَقَرَّ وَمُسْتَقَرٌّ، كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ اللِّسَانِ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْبَابِ الْقَرُّ - بِضَمِّ الرَّاءِ -: صَبُّ الْمَاءِ فِي الشَّيْءِ. يُقَالُ: قَرَّرْتُ الْمَاءَ، وَالْقَرُّ: صَبُّ الْكَلَامِ فِي الْأُذُنِ، وَذَكَرَ مِنْهُ الْإِقْرَارَ: ضِدَّ الْجُحُودِ ; لِاسْتِقْرَارِ الْحَقِّ بِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ إِثْبَاتِ اللُّغَةِ بِالسَّمَاعِ أَوْ بِالْقِيَاسِ، فَقَالَ: وَهَذِهِ مَقَايِيسُ صَحِيحَةٌ، فَإِمَّا أَنْ نَتَعَدَّى وَنَتَحَمَّلَ الْكَلَامَ، كَمَا بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: سُمِّيَتِ الْقَارُورَةُ لِاسْتِقْرَارِ الْمَاءِ فِيهَا وَغَيْرِهِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِنَا. وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ ضَرْبَانِ: مِنْهُ مَا هُوَ قِيَاسٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْهُ مَا وُضِعَ وَضْعًا.
وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ فِي الْأَلْفَاظِ، هَلْ هِيَ بِوَضْعٍ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَتَبْقَى كَمَا وَضَعَتْهَا الْعَرَبُ، أَوْ أَنَّهَا تُوضَعُ بِالْقِيَاسِ؟ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ هَلِ الْمُسْكِرَاتُ كُلُّهَا مَثَلًا يَتَنَاوَلُهَا مُسَمَّى الْخَمْرِ بِالْوَضْعِ فَتَكُونُ مُحَرَّمَةً بِنَصِّ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الْآيَةَ [5 \ 90] ، أَوْ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ بِجَامِعِ عِلَّةِ الْإِسْكَارِ؟ وَعَلَيْهِ فَإِذَا كَانَتِ اللُّغَةُ تُسَاعِدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ قِيَاسًا، فَهُوَ أَقْوَى فِي الْحُكْمِ ; بِأَنْ يَأْتِيَ الْحُكْمُ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ بِجَامِعِ الْعِلَّةِ. وَلَعَلَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْوَضْعِ: مِنْ أَنَّ اللُّغَاتِ مِنْهَا تَوْقِيفِيٌّ وَمِنْهَا قِيَاسِيٌّ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [76 \ 16] تَوْجِيهٌ إِلَى حُسْنِ الصُّنْعِ فِي التَّسْوِيَةِ فِي التَّقْدِيرِ، وَالْمَقَاسَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا
وَقَبْلَهَا قَالَ تَعَالَى: كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا [76 \ 5]، فَقَدْ قِيلَ: هُمَا مَعًا، فَهِيَ فِي بَرْدِ الْكَافُورِ وَطِيبِ الزَّنْجَبِيلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا
وَهَذَا وَصْفُ شَرَابِ الْجَنَّةِ، وَالشَّرَابُ هُنَا هُوَ الْخَمْرُ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ هَذَا الْمَفْهُومِ مِنْ أَنَّ شَرَابَ خَمْرِ الدُّنْيَا لَيْسَ طَهُورًا ; لِأَنَّ أَحْوَالَ الْجَنَّةِ لَهَا أَحْكَامُهَا الْخَاصَّةُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ [76 \ 15]، مَعَ أَنَّ أَوَانِيَ الْفِضَّةِ مُحَرَّمَةٌ فِي الدُّنْيَا ; لِحَدِيثِ:«الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُنَعَّمُونَ بِهَا.
وَكَذَلِكَ يُنَعَّمُونَ بِخَمْرِ الْجَنَّةِ، وَكُلُّ أَوْصَافِهَا فِي الْجَنَّةِ عَكْسُ أَوْصَافِهَا فِي الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ، لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ، كَمَا أَوْضَحَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [56 \ 19] فِي سُورَةِ «الْوَاقِعَةِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا
«نَزَّلْنَا» «تَنْزِيلًا» : يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ بِخِلَافِ «أَنْزَلْنَا» ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي سُورَةِ «الْقَدْرِ» : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [97 \ 1] ، وَهُنَا إِثْبَاتُ التَّنْزِيلِ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ التَّنْزِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [17 \ 106] .
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي هَذَا التَّفْرِيقِ عَلَى مُكْثٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [25 \ 32] ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، وَالْإِحَالَةُ فِيهَا عَلَى بَيَانٍ سَابِقٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا
تَقَدَّمَ بَيَانُ مِقْدَارِ الْمَطْلُوبِ قِيَامُهُ مِنَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْمُزَّمِّلِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: