المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَهَذِهِ الْآيَةُ بِقِسْمَيْهَا جَاءَ نَظِيرُهَا بِقِسْمَيْهَا أَصْرَحَ مِنْ ذَلِكَ فِي - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٨

[محمد الأمين الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌ الْحَشْرِ

- ‌1

- ‌ 4

- ‌[5

- ‌ 7]

- ‌8

- ‌[20

- ‌ 21]

- ‌ الْمُمْتَحَنَةِ

- ‌ 1

- ‌3

- ‌ 4]

- ‌7]

- ‌[8

- ‌ 10]

- ‌ 13]

- ‌ الصَّفِّ

- ‌(2)

- ‌ 5]

- ‌[6

- ‌ 14]

- ‌ الْجُمُعَةِ

- ‌[2

- ‌[4

- ‌[5

- ‌6]

- ‌[7

- ‌9

- ‌ الْمُنَافِقُونَ

- ‌2]

- ‌3

- ‌[9

- ‌ 11]

- ‌2

- ‌[3

- ‌[6

- ‌8

- ‌9

- ‌ 16]

- ‌ الطَّلَاقِ

- ‌6

- ‌8

- ‌ التَّحْرِيمِ

- ‌ 1]

- ‌ 4]

- ‌[5

- ‌[7

- ‌ 2

- ‌[الملك:

- ‌3]

- ‌7

- ‌ 10] :

- ‌ 13]

- ‌ 15]

- ‌ الْقَلَمِ

- ‌ 1

- ‌[2

- ‌ الْحَاقَّةِ

- ‌ 4]

- ‌9

- ‌[18

- ‌ الْمَعَارِجِ

- ‌ 1

- ‌[2

- ‌ 4

- ‌[10

- ‌[22

- ‌ 40

- ‌ نُوحٍ

- ‌5]

- ‌ 14]

- ‌ الْجِنِّ

- ‌[4

- ‌ 10]

- ‌[18

- ‌ الْمُزَّمِّلِ

- ‌[1

- ‌ 5

- ‌6]

- ‌ الْمُدَّثِّرِ

- ‌[8

- ‌ الْقِيَامَةِ

- ‌ 7

- ‌ الْإِنْسَانِ

- ‌ 5

- ‌ 29]

- ‌ الْمُرْسَلَاتِ

- ‌[1

- ‌ 43]

- ‌ النَّبَأِ

- ‌ 40]

- ‌ النَّازِعَاتِ

- ‌ 1

- ‌3]

- ‌6

- ‌25]

- ‌ عَبَسَ

- ‌ 1

- ‌[11

- ‌ 17]

- ‌ التَّكْوِيرِ

- ‌1

- ‌[8

- ‌[26

- ‌ الِانْفِطَارِ

- ‌5

- ‌ 16]

- ‌ الْمُطَفِّفِينَ

- ‌ 4

- ‌ الِانْشِقَاقِ

- ‌[3

- ‌[7

- ‌ الْبُرُوجِ

- ‌[2

- ‌3

- ‌ 4]

- ‌[8

- ‌ 19

- ‌ الطَّارِقِ

- ‌2

- ‌[5

- ‌8

- ‌[10

- ‌ 15]

- ‌ الْأَعْلَى

- ‌ 1

- ‌2

- ‌[6

- ‌ الْغَاشِيَةِ

- ‌[1

- ‌ الْفَجْرِ

- ‌1

- ‌[6

- ‌[21

- ‌ الْبَلَدِ

- ‌ 2]

- ‌ 6]

- ‌[17

- ‌ الشَّمْسِ

- ‌ اللَّيْلِ

- ‌ 3

- ‌ الضُّحَى

- ‌ 5]

- ‌[7

- ‌[9

- ‌ الشَّرْحِ

- ‌ 1

- ‌[7

الفصل: وَهَذِهِ الْآيَةُ بِقِسْمَيْهَا جَاءَ نَظِيرُهَا بِقِسْمَيْهَا أَصْرَحَ مِنْ ذَلِكَ فِي

وَهَذِهِ الْآيَةُ بِقِسْمَيْهَا جَاءَ نَظِيرُهَا بِقِسْمَيْهَا أَصْرَحَ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ‌

‌[8

\ 11]-. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -.

وَقَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ

النَّاقُورُ: هُوَ الصُّورُ، وَأَصْلُ النَّاقُورِ الصَّوْتُ، وَقَوْلُهُ: يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ.

قِيلَ: عَسِيرٌ وَغَيْرُ يَسِيرٍ عَلَى الْكَافِرِينَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ غَيْرَ يَسِيرٍ كَانَ يَكْفِي عَنْهَا يَوْمٌ عَسِيرٌ، إِلَّا أَنَّهُ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ عُسْرَهُ لَا يُرْجَى تَيْسِيرُهُ، كَعُسْرِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ وَعِيدٍ لِلْكَافِرِينَ.

وَنَوْعُ بِشَارَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ لِسُهُولَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَعَلَّ الْمَعْنَيَيْنِ مُسْتَقِلَّانِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمٌ عَسِيرٌ، هَذَا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ وَصْفٌ لِهَذَا الْيَوْمِ، وَبَيَانٌ لِلْجَمِيعِ شِدَّةَ هَوْلِهِ، كَمَا جَاءَ فِي وَصْفِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [22 \ 1 - 2] ، وَمِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [80 \ 34 - 35] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْيَوْمَ الْعَسِيرَ أَنَّهُ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [73 \ 17 - 18] ، بَيْنَمَا يَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَسِيرًا، مَعَ أَنَّهُ عَسِيرٌ فِي ذَاتِهِ لِشِدَّةِ هَوْلِهِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ يُيَسِّرُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى هَذِهِ الصُّورَةَ بِجَانِبِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ «النَّمْلِ» :

وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ إِلَى قَوْلِهِ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [27 \ 87 - 90] . \ 5

ص: 363

فَالْفَزَعُ مِنْ صَعْقَةِ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ مَنْ شَاءَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُسْتَثْنَيْنَ وَمَنْ يَبْقَى فِي الْفَزَعِ، فَبَيَّنَ الْآمِنِينَ وَهُمْ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ، وَالْآخَرُونَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ

فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا حَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي مَعْنَى الْفِتْنَةِ هُنَا مَعْنَيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: التَّحْرِيقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [85 \ 10] .

وَالثَّانِي: الِابْتِلَاءُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ مِرَارًا فِي كِتَابِهِ وَدُرُوسِهِ، أَنَّ أَصْلَ الْفِتْنَةِ الِاخْتِبَارُ. تَقُولُ: اخْتَبَرْتُ الذَّهَبَ إِذَا أَدْخَلْتَهُ النَّارَ ; لِتَعْرِفَ زَيْفَهُ مِنْ خَالِصِهِ.

وَلَكِنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا.

وَقَوْلِهِ: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أَيْ: عَدَدَهُمْ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّحْرِيقَ وَالْوَعِيدَ بِالنَّارِ، لَمَا كَانَ مَجَالٌ لِتَسَاؤُلِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرِينَ عَنْ هَذَا الْمَثَلِ، وَلَمَا كَانَ يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ مَثَلًا، وَلَمَا كَانَ الْحَدِيثُ عَنْ عَدَدِ جُنُودِ رَبِّكَ بِحَالٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عِدَّةُ مَسَائِلَ هَامَّةٍ.

الْأُولَى: جَعْلُ الْمَثَلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: جَعْلُ الْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ فِتْنَةً لِتَوَجُّهِ السُّؤَالِ أَوْ مُقَابَلَتِهِ بِالْإِذْعَانِ، فَقَدْ تَسَاءَلَ الْمُسْتَبْعِدُونَ وَاسْتَسْلَمَ وَأَذْعَنَ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى فِي صَرِيحِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [2 \ 62] .

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى الْغَرَضَ مِنْ ذَلِكَ طِبْقَ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ هُنَا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [2 \ 26]

ص: 364

فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» مُبَيِّنَةٌ تَمَامًا لِآيَةِ «الْمُدَّثِّرِ» .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أَنَّ هَذَا مُطَابِقٌ لِمَا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَهَذَا مِمَّا يَشْهَدُ لِقَوْمِهِمْ عَلَى صِدْقِ مَا يَأْتِي بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَمَا ادَّعَاهُ لِإِيمَانِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ حَدِيثًا فِي ذَلِكَ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَلَكِنَّ النَّصَّ يَشْهَدُ لِذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ كُلَّمَا جَاءَهُ أَمْرٌ عَنِ اللَّهِ وَصَدَّقَهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَتَهُ اكْتِفَاءً بِأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، ازْدَادَ بِهَذَا التَّصْدِيقِ إِيمَانًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ ازْدِيَادِ الْإِيمَانِ بِالطَّاعَةِ وَالتَّصْدِيقِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: بَيَانُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُبَادَرَةُ بِالتَّصْدِيقِ وَالِانْقِيَادِ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْحِكْمَةَ أَوِ السِّرَّ أَوِ الْغَرَضَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا رَوَاهُ.

وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَثَارُ نِقَاشِ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَهَذَا أَمْرٌ وَاسِعٌ، وَلَكِنَّ الْمُهِمَّ عِنْدَنَا هُنَا وَنَحْنُ فِي عَصْرِ الْمَادِّيَّاتِ، وَتَقَدُّمِ الْمُخْتَرَعَاتِ، وَظُهُورِ كَثِيرٍ مِنْ عَلَامَاتِ الِاسْتِفْهَامِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّا نَوَدُّ أَنْ نَقُولَ:

إِنَّ كُلَّ مَا صَحَّ عَنِ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَجَبَ التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ إِلَيْهِ، عَلِمْنَا الْحِكْمَةَ أَوْ لَمْ نَعْلَمْ ; لِأَنَّ عِلْمَنَا قَاصِرٌ، وَفَهْمَنَا مَحْدُودٌ، وَالْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ - سُبْحَانَهُ - لَا يُكَلِّفُ عِبَادَهُ إِلَّا بِمَا فِيهِ الْحِكْمَةُ.

وَمُجْمَلُ الْقَوْلِ أَنَّ الْأَحْكَامَ بِالنِّسْبَةِ لِحِكْمَتِهَا قَدْ تَكُونُ مَحْصُورَةً فِي أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: حُكْمٌ تَظْهَرُ حِكْمَتُهُ بِنَصٍّ كَمَا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ، جَاءَ: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [29 \ 45] ، وَهَذِهِ حِكْمَةٌ جَلِيلَةٌ، وَالزَّكَاةُ جَاءَ عَنْهَا أَنَّهَا: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ [9 \ 103] .

وَفِي الصَّوْمِ جَاءَ فِيهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [2 \ 183] .

وَفِي الْحَجِّ جَاءَ فِيهِ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [22 \ 28] . فَمَعَ أَنَّهَا عِبَادَاتٌ لِلَّهِ فَقَدْ ظَهَرَتْ حِكْمَتُهَا جَلِيَّةً.

وَفِي الْمَمْنُوعَاتِ كَمَا قَالُوا فِي الضَّرُورِيَّاتِ السِّتِّ، حِفْظِ الدِّينِ، وَالْعَقْلِ، وَالدَّمِ،

ص: 365

وَالْعِرْضِ، وَالنَّسَبِ، وَالْمَالِ لِقِيَامِ الْحَيَاةِ وَوَفْرَةِ الْأَمْنِ، وَصِيَانَةِ الْمُجْتَمَعِ، وَجُعِلَتْ فِيهَا حُدُودٌ لِحِفْظِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقِسْمٌ لَمْ تَظْهَرْ حِكْمَتُهُ بِهَذَا الظُّهُورِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ حِكْمَةٍ: كَالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْوُضُوءِ، وَالتَّيَمُّمِ، وَالْغُسْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَقِسْمٌ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ أَوَّلًا، وَلِحِكْمَةٍ ثَانِيًا: كَتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [2 \ 143] .

وَفِي التَّحَوُّلِ عَنْهَا حِكْمَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [2 \ 150] .

وَالْمُسْلِمُ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ ظَهَرَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ أَوْ لَمْ تَظْهَرْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِامْتِثَالُ وَالِانْقِيَادُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ عِنْدَ اسْتِلَامِهِ لِلْحَجَرِ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ.

فَقَبَّلَهُ امْتِثَالًا وَاقْتِدَاءً بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَا جَاءَ مِنْ: أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَالَ لَهُ: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، فَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ لِسَانٌ وَعَيْنَانِ يَشْهَدُ لِمَنْ قَبَّلَهُ ; لِأَنَّ عُمَرَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ لِيُقَبِّلَهُ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه.

وَقَدْ تَنْكَشِفُ الْأُمُورُ عَنْ حِكْمَةٍ لَا نَعْلَمُهَا كَمَا فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى عليهما السلام، إِذْ خَرَقَ السَّفِينَةَ، وَقَتَلَ الْغُلَامَ، وَأَقَامَ الْجِدَارَ، وَكُلُّهَا أَعْمَالٌ لَمْ يَعْلَمْ لَهَا مُوسَى عليه السلام حِكْمَةً، فَلَمَّا أَبْدَاهَا لَهُ الْخَضِرُ عَلِمَ مَدَى حِكْمَتِهَا.

وَهَكَذَا نَحْنُ الْيَوْمَ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَوْقِفَ بِقَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [3 \ 7] .

وَقَدْ جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يُلْزِمُ الْبَشَرَ بِالْعَجْزِ وَيَدْفَعُهُمْ إِلَى التَّسْلِيمِ، فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ.

فَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأُمُورِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَعْلَمُ بِهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى:

ص: 366

مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ

فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ، وَسَبَبِ دُخُولِهِمُ النَّارَ، وَكَانَ الْجَوَابُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ يَكُونُوا يُطْعِمُوا الْمِسْكِينَ، وَكَانُوا يَخُوضُونَ مَعَ الْخَائِضِينَ. وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ بِتَكْذِيبِهِمْ بِيَوْمِ الدِّينِ وَبَيْنَ الْفُرُوعِ، وَهِيَ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ إِلَى آخِرِهِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ مُطَالَبٌ بِفُرُوعِ الشَّرْعِ مَعَ أُصُولِهِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مُنَاقَشَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [41 \ 7] فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» .

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ

فِيهِ: أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، كَمَا أَنَّ فِيهَا إِثْبَاتَ الشَّفَاعَةِ لِلشَّافِعِينَ، وَمَفْهُومُ كَوْنِهَا لَا تَنْفَعُ الْكُفَّارَ أَنَّهَا تَنْفَعُ غَيْرَهُمْ.

وَقَدْ جَاءَتْ نُصُوصٌ فِي الشَّفَاعَةِ لِمَنِ ارْتَضَاهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّتْ نُصُوصٌ عَلَى كِلَا الْأَمْرَيْنِ، فَمِنْ عَدَمِ الشَّفَاعَةِ لِلْكُفَّارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [40 \ 18] .

وَقَوْلُهُ: وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ [26 \ 99 - 100] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [21 \ 28] .

وَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ لَا يَشْفَعُ إِلَّا مَنْ أُذِنَ لَهُ، وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا فِيمَنْ أُذِنُوا فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [2 \ 255]، وَقَوْلُهُ: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ [20 \ 109] .

وَمَبْحَثُ الشَّفَاعَةِ وَاسِعٌ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ.

وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِيهَا: أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ لِلْمَأْذُونِ لَهُ فِيهَا، وَقَدْ ثَبَتَ

ص: 367

لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَعِدَّةُ شَفَاعَاتٍ بَعْدَهَا مِنْهَا مَا اخْتُصَّ بِهِ صلى الله عليه وسلم كَالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالشَّفَاعَةِ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ وَهُوَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُ، وَمِنْهَا مَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ

فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَشْبِيهُ الْمَدْعُوِّينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّعْوَةِ وَالتَّذْكِرَةِ، بِالْحُمُرِ الْفَارَّةِ مِنَ الصَّيَّادِينَ أَوِ الْأَسَدِ، وَقَدْ شُبِّهَ أَيْضًا الْعَالِمُ غَيْرُ الْمُنْتَفِعِ بِعِلْمِهِ بِالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، فَهُمَا تَشْبِيهَانِ بِالدَّاعِي وَالْمَدْعُوِّ إِذَا لَمْ تَنْفَعْهُ الدَّعْوَةُ، وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ فِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

ص: 368