الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما التأويل فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل، والترجيح يعتمد على الاجتهاد، ويتوصل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب واستنباط المعاني من كل ذلك" (1).
والذي يراه الباحث هو ما رجحه الأكثر (2) أن التفسير مغاير للتأويل، وأن تفسير الدراية "الرأي" هو التأويل؛ وذلك ليحصل التمييز في التفسير بالمأثور، والاجتهاد في التفسير بالرأي، ويكون الاعتماد على التفسير بالمأثور، والنظر في المستنبط، ثم إن التفسير بالمأثور مقدم على التفسير بالرأي عند التعارض، بل يعد التفسير بالرأي في مقابل النص فاسد الاعتبار، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا عرف المعنى، ومن أهم كتب التفسير بالرأي:
أ- أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي (3).
ب- مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي (4).
ج- لباب التأويل في معاني التنزيل للعلامة علاء الدين البغدادي الملقب بالخازن (5).
د- البحر المحيط لأبي حيان محمد بن يوسف الأندلسي.
3 - التفسير الإشاري
هو تفسير القرآن بغير ظاهره لإشارة تظهر لأرباب الصفاء، مع عدم إبطال الظاهر، قال الزرقاني:"التفسير الإشاري: هو تأويل القرآن بغيرظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف ويمكن الجمع بينها وبين الظاهرالمراد أيضا"(6).
وقال الصابوني: "التفسيرالإشاري: هو تأويل القرآن على خلاف ظاهره، لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم، أوتظهر للعارفين بالله من أرباب السلوك والمجاهدة للنفس، ممن نور الله بصائرهمفأدركوا أسرار القرآن العظيم، أو انقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة، بواسطةالإلهام الإلهي أو الفتح الرباني، مع إمكان الجمع بينهما وبين الظاهر المراد من الآيات الكريمة"(7) ..
(1) التفسير والمفسرون 1/ 16.
(2)
منهم: الحسين بن مسعود البغوي في معالم التنزيل 1/ 46، والزركشي 2/ 149، والأصفهاني في مفردات القرآن 2/ 192، ومحمد الذهبي في التفسير والمفسرون 1/ 16.
(3)
- هو قاضي القضاة أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشافعي، من بلاد فارس صاحب المصنفات وعالم أذربجان، ولي قضاء شيراز، وكان إماماً بارعاً مصنفاً، فريد عصره، ووحيد دهر، أثنى على علمه وفضله غير واحد، من مصنفاته: أنوار التنزيل وأسرار التأويل في التفسير، توفى سنة إحدى وتسعين وستمائة، وقيل: خمس وثمانين، انظر: طبقات المفسرين للسبكي 8/ 155، والمنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي 2/ 83.
(4)
- هو أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي الحنفي أحد الزهاد والأئمة المعتبرين، وصاحب التصانيف المعتبرة في الفقه، والأصول، وغيرهما، منها: مدارك التنزيل في تفسير القرآن، وكنز الدقائق، توفى سنة إحدى وسبعمائة، انظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1/ 168.
(5)
- هو العلامة علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الشيحي البغدادي الشافعي عرف بالخازن، ولد في بغداد سنة ثمان وسبعين وستمائة، سمع من علمائها ثم انتقل إلى دمشق واستقر بها متعلماً ثم معلماً ومات بها سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. انظر: الوافي بالوفيات 1/ 34.
(6)
مناهل العرفان للزرقاني 2/ 56
(7)
التبيان في علوم القرآن للصابوني ص 191
وقد عرف التفسير الصوفي بالتفسير الإشاري، ويتمثل على زعمهم في أن يرى المفسر معنى آخر غير المعنى الظاهر، ربما تحتمله الآية الكريمة ولكنه لا يظهر للعامة من الناس، وإنما يظهر لخاصتهم ومن فتح الله قلبه وأنار بصيرته وسلكه ضمن عباده الصالحين، الذين منحهم الله الفهم والإدراك، وهذا النوع من العلم ليس من العلم الكسبى الذي ينال بالبحث والمذاكرة وإنما هو من العلم الوهبى الذي هو أثر التقى والاستقامة والصلاح، كما قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282].
والتفسير الصوفي يعتمد أساسا على أن للقرآن ظاهرا وباطنا، ويقصد بالظاهر الشريعة وبالباطن الحقيقة، وعلم الشريعة علم المجاهدة، وعلم الحقيقة علم الهداية، وعلم الشريعة علم الآداب وعلم الحقيقة علم الأحوال، وعلم الشريعة يعلمه علماء الشريعة وعلم الحقيقة يعلمه العلماء بالله، يقول السلمى في مقدمة تفسيره عن الباعث لإقدامه على كتابة تفسير القرآن: "لما رأيت المتوسمين بعلوم الظاهر قد سبقوا في أنواع فرائد القرآن، من قراءات وتفاسير ومشكلات وأحكام وإعراب ولغة ومجمل ومفصل وناسخ ومنسوخ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان أهل الحقيقة إلا آيات متفرقة، أحببت أن أجمع حروفا أستحسنها من ذلك وأضم أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك وأرتبه على السور حسب وسعى وطاقتى (1).
ويقول سهل بن عبد الله التسترى في تفسيره، وهو أول ما ظهر للصوفية من تفسير للقرآن:"ما من آية في القرآن إلا ولها أربعة معان، ظاهر وباطن وحد ومطلع، فالظاهر التلاوة، والباطن الفهم والحد حلالها وحرامها والمطلع إشراف القلب على المراد بها فقها من الله عز وجل، فالعلم الظاهر علم عام، والفهم لباطنه والمراد به خاص"(2).
وقد ظهر أيضا تفسير ثالث لعبد الكريم القشيرى سلك فيه مسلك الصوفية في إدراك الإشارات التي يراها الصوفي خلف آيات القرآن، وسماه لطائف الإشارات، قال عن الباعث لتأليفه: "وكتابنا هذا يأتى على طرف من إشارات القرآن على لسان أهل المعرفة إما من معاني قولهم أو قضايا أصولهم، سلكنا فيه طريق الإقلال خشية الملال مستمدين من الله تعالى عوائد المنة، متبرئين من الحول والمنة مستعصمين من الخطأ والخلل، مستوثقين لأصوب القول والعمل (3).
ولم يظهر في تاريخ التفسير الإشاري حتى القرن الخامس، أهم من حقائق التفسير للسلمى، ولطائف الإشارات للقشيري وإن كان القشيري قد استفاد من السلمى فائدة كبرى واقتبس منه كثيرا من آرائه (4).
وقد ظهر تفسير القرآن المنسوب لابن عربي، ولكنه في الحقيقة للكاشاني السمرقندي، ويعد هذا التفسير أهم تفسير إشارى بعد اللطائف، قال مؤلفه في مقدمته: "ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حد ومطلع، فالظهر هو التفسير، والبطن هو التأويل، والحد
(1) تفسير القران الكريم على الطريقة الصوفية، دراسة وتحقيق حقائق التفسير لأبي عبدالرحمن بن محمد بن الحسين الأزدي السلمي، رسالة ماجستير، سلمان نصيف جاسم التكريتي، مكتبة كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، 1975:22.
(2)
تفسير القران العظيم، سهل بن عبدالله، مطبعة السعادة، 1908:61.
(3)
لطائف الإشارات، القشيري، تحقيق: د. ابراهيم بسيوني، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 3، القاهرة، 1981: 1/ 41.
(4)
تاريخ أدبيات در ايران، ذبيح الله صفا، ط 3، 1339 هـ: 2/ 257.
هو ما تتناهي إليه الفهوم من معنى الكلام، والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام" (1).
ويمكن القول باستقراء التفسيرات الصوفية السابقة أن السمة الغالبة في التفسير الإشاري لدى الصوفية تتمثل فيما يأتي:
1 -
أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وأن الظاهر للعوام والباطن لا يدركه إلا الخواص وإدراك الخواص مستمد من فيض إلهي ينير بصائرهم، ويكشف لهم على زعمهم عن معارف لدنية مباشرة.
2 -
أن العلم بالقرآن على هذا النحو يفترق عن العلوم القرآنية الأخرى في بدايته وفى طرائقه وفي غاياته، فضلا عن أنه يفترق عن سائر العلوم بضرورة العمل، فالعالم لابد أن يكون عاملا وعمله هو جهاده ورياضاته التي تؤدى إلى صقل إرادته وشحذ همته وتنقية مرآته الباطنية من كل شائبة، فالتفسير عموما ليس تفسيرا مباشرا، بل يسلك تزكية النفوس وتطهير القلوب والحث على التحلى بالأخلاق الفاضلة.
3 -
أن التفسير الإشاري وإن كان يعتمد على ما وراء العبارة الظاهرية إلا أنه لم تخل من بعض ما نقل من الآثار على النحو المذكور في التفسير بالمأثور أو التفسير بالرأي بالطريقة الاستنباطية، أو تفسيرات تعتمد على معاني الألفاظ والتفسيرات البلاغية.
4 -
تتعرض هذه التفسيرات لكثير من المعاني والمصطلحات الصوفية التي تكشف عن طريقتهم وتجربتهم، لا سيما أنهم يوجهون الآيات كشواهد لهذه الرموز والمصطلحات.
5 -
ومع ما فيها من معاني تقبل بصعوبة، أو يلتمس لها وجها تحمل عليه بمشقة.
6 -
لم تسلم هذه التفسيرات من الإسرائيليات، والاستشهاد بغير القرآن والسنة، ولم تتبع الدقة في تحري ثبوت الحديث، أو مراعاة التعليق على الأسانيد، وكذلك لم تخل من فكر باطني (2).
وقد استدل الصوفية بكثير من الآيات القرآنية العامة، التي تدعو إلى التدبر وفهم كتاب الله بالتأمل وحسن الاستماع، كقوله تعالى:{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 1 - 3]، وكقوله:{فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، والمعنى لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام وكقوله تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، حيث دل على أن ظاهر المعنى شيء وهم عارفون به لأنهم عرب، والمراد هو شيء آخر وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله، والتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن، فلم يحصل منهم تدبر، وكقوله تعالى:[إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، وقال أبو سعيد الخراز:"أول الفهم لكتاب الله عز وجل العمل به، لأن فيه العلم والفهم والاستنباط، وأول الفهم إلقاء السمع والمشاهدة لقوله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] "(3).
(1) تفسير ابن عربي: 4/ 1، وانظر تحقيق نسبته في: تفسير المنار: 1/ 18، ومحي الدين بن عربي مفسرا، حامد محمود الزفري، رسالة دكتوراه بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر، القاهرة، سنة 1972: ص 174.
(2)
انظر: الموافقات: 3/ 403.
(3)
اللمع في التصوغ، سراج الطوسي:113.
ويواصل السراج الطوسي استدلاله على التفسير الإشاري فيقول: "وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، فالقرآن كله حسن ومعنى اتباع الأحسن، ما يكشف للقلوب من العجائب عند الاستماع وإلقاء السمع من طريق الفهم والاستنباط"(1).
ومن السنة يستدلون بقوله: " لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ومطلع"(2)، فلفظ الظاهر والباطن على زعمهم قرآنيان، ولا يمكن الاعتراض على الفكرة القائلة بأن في القرآن ناحية واضحة تدرك في ضوء الاشتقاق، وأن به ناحية أخرى ربما كانت أخفق وأعمق بالنسبة للأولى، لأن هذه الفكرة يمكن أن تطبق في الواقع على أي نص فكل نص له ناحية قريبة مباشرة تدرك بلا عناء، وناحية أخرى تحتاج إلى عمل وجهد في استيعابها وفهمها، كما لا يمكننا أن ننكر أن الحقيقة الإنسانية الثابتة تشير إلى عدم تساوي الناس في الفهم والإدراك، وقد ظهرت تلك الحقيقة في حياة الرسول وصحابته رضي الله عنهم الذين تفاوتت أقدارهم في سرعة ومدى فهمهم للقرآن، وهذا يفسر ما أثر عنهم من تفسيرات مختلفة (3).
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما أريته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2 - 1]، حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئا، فقال لي: يا ابن عباس أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله أعلمه الله له: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، فتح مكة، فذاك علامة أجلك: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 4 - 3]، قال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تعلم "(4).
والشاهد هنا أن ابن عباس رضي الله عنه فهم من خطاب الله معنى خفيا وراء ظاهر الألفاظ لم يدركه عامة الصحابة في مجلسهم، وهذا يشبه عمل الصوفية في التفسير الإشاري.
ومثله أيضا ما روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله جلس على المنبر فقال: " إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر إلا خلة الإسلام، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر"(5).
(1) اللمع في التصوف، سراج الطوسي:113.
(2)
لا أصل له ولم أجده في كتب السنة مرفوعا إلى النبي، ولكنه أثر موقوف على عبدالله بن مسعود، ولفظه:"إن القرآن ليس منه حرف إلا له حد، ولكل حد مطلع". انظر: معجم الطبراني الكبير: رقم (8667) (9/ 136.
(3)
انظر: التصوف طريقا وتجربة ومذهبا، محمد كمال جعفر:157.
(4)
رواه البخاري (4294).
(5)
رواه البخاري (3904)، ومسلم (2382).