الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه سمعه منه جبريل، وبلغه عن الله إلى محمد، ومحمد سمعه من جبريل وبلغه إلى أمته، فهو كلام الله حيث سمع، وكتب، وقرئ، كما قال تعالى:{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (1).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضا: "ومن قال إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلا من وجوه: منها أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قد كتب التوراة لموسى بيده فبنو إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه هو سبحانه وتعالى فيه فإن كان محمد أخذه عن جبريل، وجبريل عن الكتاب كان بنو إسرائيل أعلى من محمد بدرجة"(2).
وقد أبان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله مذهب أهل السنة فقال: "فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وأن جبريل عليه السلام، سمع القرآن الكريم من الله تعالى وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم"(3).
وهذا الخلاف - كما ترى - ليس له كبير أثر في واقع تنزيل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل إن هذا التنزيل سببه إظهار كرامة القرآن وعظيم منزلته في العالَم العلو.
قال بدر الدين الزركشي رحمه الله: " فإن قيل: ما السر في إنزاله جملة إلى السماء؟
قيل: فيه تفخيم لأمره وأمر مَن نزل عليه، وذلك بإعلان سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم" (4).
والراجح أن القرآن الكريم له تنزلان: -
الأول: نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا.
الثاني: نزوله من السماء الدنيا إلى الأرض مفرقاً منجماً في نيف وعشرين سنة (5).
الحكمة من تنجيم القرآن:
إن لتنجيم القرآن الكريم حكم، نذكر منها:
الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد النبي
? وذلك من خلال الآتي: -
أ- أن في تجدد الوحي، وتكرار نزوله من جانب الحق إلى رسوله? يملأ قلب الرسول الكريم سروراً، ويشعر بالعناية الإلهية.
ومما لا شك فيه أن كثرة نزول الوحي أقوى بالقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، فيحصل للنبي صلى الله عليه وسلم الأُنْس والارتباط بالله تعالى يقول الإمام أبو شامة (6): كك "فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى بالقلب، وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجدد
(1) المصدر السابق (12/ 566).
(2)
? الفتاوى (12/ 127 - )
(3)
الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم للعلامة الشيخ محمد بن إبراهيم، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، عام 1369 هـ: ص 3.
(4)
البرهان في علوم القرآن: 1/ 230.
(5)
مباحث في علوم القرآن - مناع القطان - ص 104.
(6)
أبو شامة هو العلامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي أبو القاسم شهاب الدين، فقيه شافعي له كتاب (المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز)، وكتب أخرى، توفي سنة 665 هـ، انظر الأعلام 299.
العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل" (1).
ومنها تسليته صلى الله عليه وسلم ببيان ما يثبت قلبه على الحق ويشحذ عزمه للمضي قدمًا في طريق دعوته لا يبالي بظلمات الجهالة التي يواجهها من قومه، فما حصل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم قد حصل للأنبياء السابقين قال تعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)} [الأنعام: 33 - 34]، وكلما اشتد أذى المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم نزلت الآيات لطمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتسليته، وتهديد المشركين والمكذبين بأن الله يعلم أحوالهم وسيجازيهم على ذلك أشد الجزاء، قال تعالى:{فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس: 76]، {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: 65]، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35]، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115]، فكان لاتصال الوحي بالرسول صلى الله عليه وسلم وتتابع نزول الآيات عليه تسليةً له بعد تسلية تشد من أزره وتحمله على الصبر والمصابرة، وكان لذلك أبلغ الأثر في مواساته والتخفيف عنه، ولو أن القرآن نزل جملةً واحدة لكان لانقطاع الوحي بعد ذلك أثر كبير في استشعار الوحشة والغربة.
ب- ومنها تسليته صلى الله عليه وسلم بذكر قصص الأنبياء السابقين، قال تعالى:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35].
ج- أن في التنجيم تيسيراً عليه من الله في حفظه وفهمه ومعرفة أحكامه وحكمه.
فقد نزل القرآن مفرقًا لكي يسهل حفظه وفهمه، فكانت الآيات تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكان النبي يعلمها أصحابه فكلما نزلت الآية أو الآيات حفظها الصحابة، وتدبروا معانيها، ووقفوا عند أحكامها (2) بل صار الصحابة والتابعون يعلمون من بعدهم بنفس الطريقة فصارت سنة متبعة فعن أبي العالية الرِّياحي (3) أنه قال "تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذه خمسًا خمسًا "(4).
(1) انظر البرهان 1 231، الإتقان 1 121.
(2)
المدخل لدراسة القرآن الكريم 71، مباحث في علوم القرآن 95.
(3)
اسمه رُفَيْع بن مهران، من رواة الحديث، ثقة كثير الارسال، التقريب 210.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب فضائل القرآن، في تعليم القرآن كم آية 10 461، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 2 219، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1959).
وقال عبد الله بن مسعود "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"(1).
وفي بعض الروايات أن أبا عبد الرحمن السلمي (2) قال حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا (3).
ثم إن أدوات الكتابة لم تكن ميسورة للكُتَّاب على ندرتهم، فلو أنزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه وكتابته، فاقتضت حكمة الله العليا أن ينزله إليهم مفرقًا ليسهل عليهم حفظه ويتهيأ لهم استظهاره (4).
د- أن هذا التنزيل فيه نوع من الإعجاز، حيث تحدى كفار قريش في كل مرة أن يأتوا بمثل هذا التنزيل - ولا شك أن هذه المعجزة تقوي أزر الرسول الكريم? .
قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)} [الطور: 33 - 34]، وقوله:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13]، وقال:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].
هـ- أن في هذا النزول دحض شبهات كفار قريش ورداً على أسئلتهم، وتسلية للرسول الكريم? وتأييداً له.
فالمشركين تمادَوا في غيهم وأسئلتهم للرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم أسئلة تعجيز وتحد ومبالغة مثل متى الساعة، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187]، فينزل الجواب من الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].
ومثل ما المراد بالروح {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: 85]، فيقول القرآن:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]
فرد الله عليهم بقوله: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33]، وحيث عجبوا من نزول القرآن منجمًا بين الله لهم الحق في ذلك، فإن تحديهم به مفرقًا مع عجزهم عن الإتيان بمثله أدخل في الإعجاز، وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقال لهم: جيئوا بمثله، ولهذا جاءت الآية عقب اعتراضهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]، أي: لا يأتونك بصفة عجيبة
(1) المصنف 3 380.
(2)
هو عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعَة الكوفي المقرئ، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، التقريب 299.
(3)
انظر المصنف للصنعاني 3 380، والمصنف لابن أبي شيبة، كتاب فضائل القرآن، في تعليم القرآن كم آية 10 460، وقال الهيثمي في المجمع، باب السؤال عن الفقه، رواه أحمد وفيه عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره. مجمع الزوائد 1 165 وأخرجه الصنعاني في المصنف بنحوه، كتاب فضائل القرآن، باب تعليم القرآن وفضله 3 380.
(4)
مناهل العرفان 1 56.