الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخليل-عليه السلام ذلك حيث قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78]، إلى أن قال:{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83]، ففي هذه السورة أيضا وقعت البداءة بالثناء عليه سبحانه وتعالى، وهو قوله:{الحمد لله} إلى قوله: {مالك يوم الدين} ، ثم ذكر العبودية وهو قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، ثم وقع الختم على طلب الهداية وهو قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]، وهذا يدل على أن أكمل المطالب هو الهداية في الدين .. " (1).
قلت وهذه التسمية أيضا من اجتهاد العلماء-رحمهم الله وهو مشابه للاسم الذي قبله.
هذه كانت أسماء سورة الفاتحة التي ذكرها المفسرون التوفيقية والاجتهادية وأشهرها وأكثرها تداولا هي: (فاتحة الكتاب، والسبع المثاني، وأم الكتاب، وأم القرآن، وأشهر هذه الأسماء هي "الفاتحة")، أما باقي التسميات فهي من باب الإجتهاد لطون السورة تضمنت لمعانيها. والله تعالى أعلم.
وقد
اختلف العلماء في مواضع نزولها
، وفيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنَّها نزلت بمكَّة
.
نُقل عن عليٍّ وابن عبَّاسٍ وأبي هريرة والأكثرين، حتى قال أبو ميسرة:"هي أوَّل سورة نزلت من القرآن بمكَّة، وأنَّها ابتدئت بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} ". أخرجه البيهقي (2)، وهذا قول جمهور العلماء، ودليلهم (3):
أولا: ما أخرجه أبو بكر بن الأنباري في المصاحف عن عبادة قال: "فاتحة الكتاب نزلت بمكة"(4).
ثانيا: أخرج الواحدي في أسباب النزول عن عليّ، قال:"نزلت فاتحة الكتاب بمكة عن كنز تحت العرش"(5)، وعنه رضي الله عنه أنه سئل عن فاتحة الكتاب، فقال:"حدثنا نبي الله-صلى الله عليه وسلم أنها أنزلت من كنز تحت العرش"(6).
الثالث: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن رجل من بني سلمة قال: "لما أسلمت فتيان بني سلمة
…
فسأله فقرأ عليه: الحمد لله رب العالمين، وكان ذلك قبل الهجرة (7) ".
(1) انظر: تفسيرخ: 1/ 147.
(2)
انظر: دلائل النبوة: (2/ 158).
(3)
انظر: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني: 1/ 15.
(4)
فتح القدير: 1/ 15.
(5)
أخرجه الثعلبي في تفسيره، مخطوطة-الكشف والبيان-: 1/ 35، والواحدي في أسباب النزول: 19، وانظر: الإتقان: 1/ 12.
(6)
أورده السيوطي في الدر: 1/ 16، وعزاه إلى إسحاق بن راهويه في مسنده.
(7)
فتح القدير: 1/ 15.
الرابع: وقالوا: لم تكن صلاة في الإسلام بدون فاتحة الكتاب، ومن المعلوم أن الصلاة شرعت في الأيام الأولى من البعثة، وفرضت الصلوات الخمس في ليلة الإسراء والمعراج، وكانت قبل الهجرة بثلاث سنوات.
قال جلال الدين: "ولم يحفظ صلاة بغير فاتحة الكتاب"(1).
قال ابن كثير: "وهي مكية قاله ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، وقتادة، وأبو العالية، لقوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87](2).
ووجه الاستدلال بهذه الآية على أن سورة الفاتحة مكية، هو أن هذه الآية من سورة الحجر، وسورة الحجر سورة مكية، فهي تتحدث عن الفاتحة، فهذا دليلٌ من القرآن على أن سورة الفاتحة نازلة بمكة، وهذا هو المعروف عند أهل العلم، ولا يلتفت إلى غيره.
واختلف في أول ما نزل من القرآن على أقوال:
أحدها: أن أول ما نزل: {بسم الله الرحمن الرحيم} منفردة.
قال الفخر الخطيب (3): "وهو قول الأكثرين من الذين قالوا: لم تنزل (المدثر) و (اقرأ) أولا"(4). ونقله في موضع آخر عن ابن عبَّاسٍ (5).
الثاني: ان أول ما نزل: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1]، كما جاء في حديث جابر الصحيح (6).
والثالث: وقيل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ، وهذا هو الصحيح، فإنه لما أنزل عليه:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} رجع فتدثر، فنزل:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (7).
واتفق العلماء أن أول ما نزل القرآن على وجه الإطلاق قطعا ً الآيات الخمس الأولي من سورة العلق، وهي قوله تعالي:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5]، ثم فتر الوحي مدة، ثم نزلت الآيات الخمس الأولى من سورة المدثر، وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 1 - 5]، ففي الصحيحين: عن عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي قالت: "أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي هو الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِب إليه الخلوة، وكان يخلو في غار حراء، يتحنث [يتعبد] فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملَك فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني فقال اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطنى الثالثة ثم أرسلني فقال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق 1 - 3]، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على زوجته خديجة بنت خويلد ـ رضي الله
(1) الإتقان: 1/ 12.
(2)
انظر: المصدر نفسه والصحيفة نفسها.
(3)
هو الرازي، والمعروف أنه يلقب:(بابن الخطيب) أو (ابن خطيب الري).
(4)
مفاتيح الغيب: 1/ 147.
(5)
انظر: مفاتيح الغيب: 1/ 147.
(6)
صحيح البخاري: (8/ 676 - 677 - رقم: 4922).
(7)
انظر: تفسير الخطيب الشربيني: 4/ 425.
عنها ـ، فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَل، وتكَسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عمها، وكان امرًأً تنصر بالجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله له أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس (جبريل عليه السلام الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا (شابا)، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال: أَوَ مُخرجي هم؟ ، قال نعم، لم يأت رجل قَط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب (يلبث) ورقة أن توفي، وفتر الوحي (1).
وفيهما عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلي الله عليه وسلم قال وهو يحدث عن فترة الوحي:"بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي " فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] إِلَى
⦗ص: 8⦘
قَوْلِهِ {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]. فَحَمِيَ الوَحْيُ وَتَتَابَعَ تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَتَابَعَهُ هِلالُ بْنُ رَدَّادٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ بَوَادِرُهُ" (2)، وفيه، فأنزل الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) إلى (وَالرُّجْزَ فَاهْجُر (5 ْ)(المدثر: 1 - 5).
وثمت آيات يقال فيها: أول ما نزل، والمراد أول ما نزل باعتبار شيء معين، فتكون أولية مقيدة مثل: حديث جابر رضي الله عنه في الصحيحين، إن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله: أي القرآن أنزل أول؟ قال جابر: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)(المدثر: 1) قال أبو سلمة: أنبئت أنه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)(العلق: 1) فقال جابر: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت
…
" فذكر الحديث وفيه: "فأتيت خديجة فقلت: دثروني، وصبوا علي ماء بارداً، وأنزل علي:(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)(المدثر: 1) إلى قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(المدثر: 1 - 5) " (3).
فهذه الأولية التي ذكرها جابر رضي الله عنه باعتبار أول ما نزل بعد فترة الوحي، أو أول ما نزل في شأن الرسالة؛ لأن ما نزل من سورة اقرأ ثبتت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وما نزل من سورة المدثر ثبتت به الرسالة في قوله {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2].
ولهذا قال أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم نبئ بـ (اقْرَأْ)[العلق: 1]، وأرسل بـ (الْمُدَّثِّرُ) [المدثر: 1].
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب 1: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم
…
، أصول في التفسير، حديث رقم 3؛ ومسلم كتاب الإيمان باب 73: بدء الوحي إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم، حديث رقم 403 (252)160.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب 1: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم، حديث رقم 4؛ ومسلم كتاب الإيمان باب 73: بدء الوحي إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم، حديث رقم 406 {255} 161.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب 3 قوله:(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) حديث رقم 4924؛ ومسلم كتاب الإيمان باب 73: بدء الوحي إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم، حديث رقم 409 {257} 161