الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهي نموذج القرآن الذي يرسم أسسه وحقائقه في كل نفس، ويصور معانيه في كل قلب: العلماء والدهماء على اختلاف منازلهم، وتباين درجاتهم، إذا ما لفتوا أفهامهم بعض اللفت، ووجهوا قلوبهم نوع توجيه، آتتهم هذه الفاتحة المباركة ذلك النموذج القرآني، وتلك الصورة الحقة لمقاصد الكتاب الحكيم.
و
لهذه السورة أسماءٌ متعددةٌ
، نذكر منها:
أولا: - فاتحةُ الكتابِ
(1):
ورد في "الصَّحيحين" عن عُبادة بنِ الصَّامِت أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ "(2)، وإنَّما سُمِّيت "فاتحة الكتاب" لافتتاح سُور القرآن بها كتابةً، وقراءةً في
(1) لقد اشتملت السورة على كل معاني القرآن وهذا هو سر الفاتحة. فمعاني القرآن ثلاثة: (1 - العقيدة: " الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم" 2 - العبادة: " إياك نعبد وإياك نستعين" 3 - مناهج الحياة: " اهدنا الصراط المستقيم، صراط اللذين أنعمت عليهم"، وكل ما بعد الفاتحة من قرآن يشرح هذه المحاور الثلاثة، والفانحة تذكرنا بكل أساسيات الدين:
1 -
نعم الله: " الحمد لله رب العالمين" 2 - الإخلاص: " إياك نعبد وإياك نستعين"3 - الصحبة الصالحة" صراط اللذين أنعمت عليهم"4 - التحذير من صحبه السوء: " غير المغضوب عليهم" 5 - أسماء الله الحسنى: " الرحمن الرحيم" 6 - أصل صلة الله بك: " الرحمن الرحيم" 7 - الاستقامة: " اهدنا الصراط المستقيم" 8 - الآخرة: " الصراط" 9 - أهمية الدعاء.10 - وحدة الأمة: " نعبد ...... نستعين" فجاءت الصيغة هنا جماعة وليست مفردا للتأكيد على وحدة الأمة.
والفانحة تعلمنا كيف نتعامل مع الله: فجاءت نصفها ثناء والنصف الآخر دعاء، فحتى لو قسمت حروفها لوجدت أن نصف الحروف ثناء والنصف الثاني دعاء. فعند دعائنا لله تعالى يجب أن نبدأه بالثناء على الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته ثم نتوجه بما نريد من الدعاء.
ومن جماليات الأسلوب القرآني: علاقة أول الفاتحة بنهاية المصحف، إذ ترى في سورة الفاتحة " الحمد الله رب العالمين" وفي سورة الناس " قل أعوذ برب الناس" فقد بدأ المصحف برب العالمين واختتم المصحف برب الناس.
(2)
صحيح البخاري: (756)، وصحيح مسلم:(394). وقد احتج العلماء بهذا الحديث على أن الفاتحة ركن في الصلاة لابد منها في حق الإمام والمنفرد، وحاصل المسألة أن المنفرد والإمام يجب عليهما قراءة الفاتحة مطلقا في الصلاة السرية والجهرية، أما المأموم فيجب عليه أن يقرأ حال الركعات السرية كالظهر والعصر والأخيرتين من العشاء وثالثة المغرب، أما في الركعات التي يجهر فيها الإمام فلا يجب عليه القراءة ولا يجب عليه السكوت، ولكن المستحب المتأكد في حقه الإنصات والاستماع إلى قراءة الإمام، فإن لم يسمع قراءة الإمام لبُعْد المكان أو لتَعَطُّل مُكَبِّر الصوت أو لصَمَمٍ فيجب عليه قراءة الفاتحة عملا بالأصل.
وتجدر الإشارة بأن قراءة الفاتحة خلف الإمام حال الجهر للعلماء فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: ليس للمأموم أن يقرأ في الصلاة الجهرية إذا كان يسمع الإمام لا بالفاتحة ولا بغيرها وهذا قول جمهور العلماء من السلف والخلف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وأحد قولي الشافعي، وممن قال بهذا القول من المعاصرين العلامة الألباني والشيخ أبو بكر الجزائري والشيخ سيد سابق والشيخ محمود المصري.
القول الثاني: يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلاة الجهرية كالسرية وهو المذهب عند الشافعية وقول البخاري وابن حزم من الظاهرية، وقال بصحته القرطبي، وممن قال بهذا القول من المعاصرين: العلامة ابن باز وابن عثيمين، والشيخ عبد الله بن قعود، والشيخ عبد الله بن غديان والشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ محمد بن عبد المقصود.
القول الثالث: يستحب للمأموم قراءتها وهو قول جماعة من أهل العلم منهم الأوزاعي.
والذي يبدو لي أن أعدل الأقوال وأقربها للصواب هو القول الأول قول الجمهور وأن المأموم لا يقرأ في حال الجهر لا بالفاتحة ولا بغيرها إذا كان يسمع قراءة الإمام هذا ما يدل عليه عمل أكثر الصحابة رضي الله عنهم وتتفق عليه أكثر الأحاديث ولأن الله تعالى أمر بالإنصات لقراءة الإمام في الصلاة فقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] ويؤيد دلالة الآية على وجوب الإنصات لقراءة الإمام ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال: أقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا .. وذكر الحديث الطويل" وزاد بعض رواته: "وإذا قرأ فأنصتوا" وقد ذكرها في صحيحه. وقد رواها أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا" وقد سئل مسلم بن الحجاج عن حديث أبي هريرة هذا فقال: هو عندي صحيح. ومما يدل على منع المأموم من القراءة حال جهر الإمام ما رواه أصحاب السنن وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟ فقال رجل: نعم يارسول الله. فقال: إني أقول: مالي أنازع القرآن قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقد تكلم في هذا الحديث بعض أهل العلم من جهة ابن أكيمة الراوي عن أبي هريرة وليس ذلك بشيء فقد قال عنه يحيى بن سعيد عمرو بن أكيمة ثقة ووثقه غير واحد من أهل العلم. كما أنه طعن في الحديث من جهة أن قوله في الحديث: "فانتهى الناس
…
"مدرج من كلام الزهري كما قاله البخاري والذهلي وأبو داود وغيرهم والجواب عن هذا أن ذلك لا يسقط الاحتجاج بالحديث سواء كان ذلك من قول أبي هريرة أو من قول الزهري، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (23/ 274): "وهذا إذا كان من كلام الزهري فهو من أدل الدلائل على أن الصحابة لم يكونوا يقرؤون في الجهر مع النبي صلى الله عليه وسلم فإن الزهري من أعلم أهل زمانه أو أعلم أهل زمانه بالسنة وقراءة الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مشروعة واجبة أو مستحبة تكون من الأحكام العامة التي يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان فيكون الزهري من أعلم الناس بها فلو لم يبينها لاستدل بذلك على انتفائها فكيف إذا قطع الزهري بأن الصحابة لم يكونوا يقرؤون خلف النبي في الجهر" انتهى كلامه رحمه الله.
ومما يستأنس به في عدم وجوب القراءة على المأموم في الجهرية الحديث المشهور "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" وهذا الحديث أخرجه جمع من الأئمة بطرق متعددة مسنداً ومرسلاً عن جماعة من الصحابة أمثلها حديث جابر على ضعف فيه وكثرة كلام النقاد فيه ومع ذلك فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله في مجموع الفتاوى (18/ 271 - 272): "وهذا الحديث روي مرسلاً ومسنداً لكن أكثر الأئمة الثقات رووه مرسلاً عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأسنده بعضهم ورواه ابن ماجه سندا وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن والسنة وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم". وممن استوعب الكلام في الحديث وطرقه الدارقطني رحمه الله في علله ومما تقدم يتبين أن ما رواه البخاري ومسلم وغيرها من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" ليس على عمومه بل هو مخصوص بما تقدم من النصوص ومثله ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القران فهي خداج ثلاثاً غير تمام" فكل هذا وأمثاله محمول على غير المأموم جمعاً بين الأحاديث ومما يؤيد عدم العموم فيها ما حكاه الإمام أحمد رحمه الله من إجماع. قال رحمه الله: "ما سمعنا أحداً من أهل الإسلام يقول: إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه إذا لم يقرأ".
أما حديث عبادة بن الصامت "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم قلنا: يا رسول الله إي والله. قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" وقد أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه وفيه محمد بن إسحاق وقال عنه أحمد: لم يرفعه إلا ابن إسحاق. وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (23/ 286): "هذا الحديث معلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة ضعفه أحمد وغيره من الأئمة". وقال بعد ذكر من صحّح الحديث وحسنه (23/ 315): " ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم هل يقرؤون وراءه بشيء أم لا؟ ومعلوم أنه لو كانت القراءة واجبة على المأموم لكان قد أمرهم بذلك وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولو بيّن ذلك لهم لفعله عامتهم ولم يكن يفعله الواحد أو الاثنان منهم. ولم يكن يحتاج إلى استفهامه فهذا دليل على أنه لم يوجب عليهم القراءة خلفه حال الجهر ثم إنه لما علم أنهم يقرؤون نهاهم عن القراءة بغير أم الكتاب وما ذكر من التباس القراءة عليه تكون بالقراءة معه حال الجهر سواء كان بالفاتحة أو غيرها فالعلة متناولة للأمرين فإن ما يوجب ثقل القراءة والتباسها على الإمام منهي عنه".
ولذلك فالذي يظهر لي أن المأموم لا يجوز له القراءة حال جهر الإمام بالقراءة لما تقدم من الأدلة ولما في حديث عبادة من معنى النهي لكن إن تمكن المأموم من القراءة في سكتات الإمام فهذا المطلوب وإلا فلا شيء عليه لتركه القراءة أخذ بما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" وهذا الحديث أخرجه أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
(انظر في هذه المسألة: مجموع الفتاوى لابن تيمية مجلد 2 ص 141 - 150 مسألة القراءة خلف الإمام دار الفكر 1403 هـ 1983 م، ومجموع فتاوى ورسائل العثيمين: 13/ 131، انظر مبحث ألفاظ العموم ودلالة العام في علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف 210 - 212 دار الحديث 1423 هـ 2003 م، وفي الوجيز في أصول الفقه د. عبد الكريم زيدان 305 - 310 مؤسسة الرسالة الطبعة السابعة 1421 هـ 2000، وفي علم أصول الفقه د. محمد الزحيلي 256 - 261 دارالقلم الطبعة الأولى 1425 هـ 2004 م وفي شرح الأصول من علم الأصول لابن عثيمين 190 - 205 المكتبة التوفيقية وفي مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي 195 - 198 مكتبة العلوم والحكم الطبعة الرابعة 1425 هـ 2004 م).
وينبغي أن يتنبه أن هذه المسألة هي من مسائل الاجتهاد، فمن كان عنده القدرة على النظر في الأدلة والترجيح بينها: فإنه يعمل بما ترجح لديه، ومن لم يكن عنده القدرة على ذلك فإنه يقلد عالما يثق في دينه وعلمه، ولا يجوز أن تُتخذ هذه المسألة الاجتهادية مثارا للطعن في العلماء، أو الجدال المؤدي إلى التعصب والتفرق واختلاف القلوب. والله تعالى أعلم.
الصلاة، وهذا ممَّا استدلَّ به من قال: إن ترتيب سُور القرآن منصوصٌ عليه كترتيب الآيات إجماعًا.
وفي سبب تسميتها بـ (فاتحة الكتاب) أقوال (1):
أحدها: أنها سمّيت بذلك، لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم والقراءة في الصلاة، وهي مفتتحة بالآية التي تفتتح بها الأمور تيمّنا وتبرّكا وهي التسمية.
قال الطبري: "، فهي فَواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة"(2).
والثاني: أنها سمّيت بذلك، لأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن.
والثالث: أنها سميت بذلك، لأنها أول سورة نزلت من السماء. قاله الحسين بن الفضل (3).
وتجدر الإشارة بأن الأمة الإسلامية أجمعت على أن ترتيب الآيات في سورها على ما هو عليه المصحف اليوم توقيفي بأمر من النبي-صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الآيات تنزل عليه، وجبريل يدله على مواضعها، ويبلغها رسول الله صحابته، ويأمر كتاب الوحي بنسخها في مواضعها، وكان جبريل يعارضه بالقرآن في رمضان كل عام مرة، حتى عارضه في السنة التي توفي فيها رسول الله مرتين مرتبا الآيات كما هي عليه الآن، وقد حفظه الصحابة بعده وأجمعوا على هذا الترتيب (4).
(1) انظر: الكشف والبيان عن تفسير القرآن، أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق (المتوفى: 427 هـ)، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق: الأستاذ نظير الساعدي/ دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى 1422، هـ - 2002 م: 1/ 126، وتفسير الطبري: 1/ 107.
(2)
تفسير الطبري: 1/ 107.
(3)
انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 126.
(4)
الإعجاز البياني في ترتيب آيات القرآن وسوره، محمد أحمد القاسمي، ط 1، 1979 م، مصر، ص:244.
ولقد نقل غير واحد من العلماء الإجماع في ذلك، فلقد جاء في البرهان للزركشي قوله:"فأما الآيات في كل سورة، ووضع البسملة في أوائلها، فترتيبها توقيفي بلا شك، ولا خلاف فيه، ولهذا لا يجوز تعكيسها"(1)، وممن نقل الإجماع أيضا حول هذه المسألة أبو جعفر ابن الزبير الغرناطي، حيث قال:"ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم، وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين"(2).
فالإجماع والنصوص المترادفة كلها على أن ترتيب الآيات توقيفي، لا شبهة في ذلك، قال مكي (3) وغيره: ترتيب الآيات في السور بأمر النبي-صلى الله عليه وسلم، ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بدون بسملة، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني:"ترتيب الآيات أمر واجب، وحكم لازم، فقد كان الرسول بأمر من جبريل-عليه السلام يقول ضعوا آية كذا في موضع كذا"(4).
ويقول السيوطي: "والذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثبات رسمه، ولم ينسخه، ولا رفع تلاوته بعد نزوله، هو الذي بين الدفتين، الذي حواه مصحف عثمان، وأنه لم ينقص منه شيئا، ولا زيد فيه، وأن ترتيبه، ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى، ورتبه عليه رسوله من آي السور، لم يقدم من ذلك مؤخر ولم يؤخر مقدم، وأن الأمة ضبطت على النبي r ترتيب آي كل سورة وموضعها وعرفت موقعها، كما ضبطت عنه نفس القراءات، وذات التلاوة، وأنه يمكن أن يكون الرسول-صلى الله عليه وسلم قد رتب سوره، وأن يكون قد وكل ذلك إلى الأمة بعده، ولم يتول ذلك بنفسه"(5).
كما أن ترتيب السور في القرآن فيه خلاف بين أهل العلم على خلاف ترتيب الآيات، فيقول: "
…
وإنما اختلف في ترتيب السور على ما هي عليه، وكما ثبت في مصحف عثمان بن عفان الذي بعث بنسخه (6) إلى الآفاق، وأطبقت الصحابة على موافقة عثمان في ترتيب سوره وعمله
(1) البرهان في علوم القرآن، الزركشي، دار النشر بيروت، (د، ط)، ج 1، ص:256.
(2)
البرهان في ترتيب سور القرآن، ابن الزبير الغرناطي، تحقيق: محمد شعباني، طبعة وزارة الأوقاف المغربية، سنة:(1410 هـ/1990 م)، ص:182.
(3)
هو مكي بن أبي طالب حمش بن محمد بن مختار، أبو سمر القيسي، كان من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية، حسن الفهم، كثير التأليف في علوم القرآن، محسنا لذلك، توفي سنة: 473 هـ، أنظر ابن بشكوال، الصلة: ق 2، ص:631.
(4)
الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، تحقيق: فؤاد أحمد زمولي، دار الكتاب العربي، 2004 م، بيروت، ص:163.
(5)
الإتقان في علوم القرآن: 163
(6)
والراجح أنها أربع نسخ، وقال أبو عمر الداني في: "المقنع في رسم القرآن، ص: 10: «قيل أربع وقيل خمس، والأول أصح، وعليه الأمة» .أنظر: السيوطي الإتقان، ص: 159، و-الزركشي: البرهان، ج 1، ص:240. والداني هو: الحافظ الإمام شيخ الإسلام، أبو عمر عثمان بن سعيد الأموي، مولاهم القرطبي المقرئ، صاحب التصانيف، عُرف بالداني لمسكنه بدانية، قال: «ولدت سنة: 371 هـ، وبدأت طلب العلم سنة: 386 هـ، ورحلت إلى المشرق سنة: 397 هـ، وسكنت القيروان أربعة أشهر، ودخلت مصر في شوال فمكثت بها سنة، ثم حججت، ورجعت إلى الأندلس في ذي القعدة سنة: 399 هـ»، قرأ على عبد العزيز بن جعفر الفارسي، وابن غلبون، وسمع من أبي مسلم، والبزار، وابن النحاس، كان أحد الأئمة في القرآءات، ورواية الحديث والتفسير، كان مالكي المذهب، له 120 مصنف، كانت وفاته بدانية في النصف من شوال، سنة 444 هـ. مقدمة كتاب التيسير.
فيه" (1)، ثم قال: "فكيفما دار الأمر فمنه صلى الله عليه وسلم عُرفَ ترتيب السور، وعلى ما سمعوه منه بنوا جليل ذلك النظر" (2)، وإنما الخلاف وقع في فعلهم في ترتيب السور هل كان بتوقيف قولي، أو بمجرد استناد فعلي حيث بقي لهم فيه مجال نظر؟ وحتى لو كان هذا الأمر اجتهادا من الصحابة، فإن الأمر مسلم فيه أيضا، لأنه لا يوجد من هو أفصح، وأعلم بكتاب الله، وبآياته، وسوره، ونزوله من الصحابة رضي الله عنهم، كما أنهم أعملوا في ذلك اجتهادهم الأقصى، وهم الأعلياء بعلمه، والمسلم لهم في وعيه، وفهمه، وهم العارفون بأسباب النزول، ومواقع الكلمات، وإنما ألفوه على ما كانوا يسمعون منه، وهو رسول الله-صلى الله عليه وسلم، وقد كان نظرهم هذا في ما استقر عليه النبي-صلى الله عليه وسلم من كان فعله الأكثر، والسند في ذلك بان الترتيب في السور قد روعي فيه التناسب، وإن كان لم يُراعى فيه أسباب النزول، وزمانه ومكانه، بأدلة، وأحاديث رويت منها في صحيح مسلم (3)، وما روى في مصنف ابن أبي شيبة (4)، وما نُقل عن الخطابي (5) والقاضي ابن العربي (6)، والتأمل بالعقل في ذلك التناسب
(1) البرهان في ترتيب سور القرآن، ابن الزبير الغرناطي:182.
(2)
المصدر نفسه: 183.
(3)
إشارة إلى حديث حذيفة في صلاة القيام: عن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قال: (صَلَّيْتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فقلت يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فقلت يُصَلِّي بها في رَكْعَةٍ فَمَضَى فقلت يَرْكَعُ بها ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إذا مَرَّ بِآيَةٍ فيها تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وإذا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وإذا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يقول سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا من قِيَامِهِ ثُمَّ قال سمع الله لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ قام طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فقال سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعلى فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا من قِيَامِهِ
…
) رواه مسلم (772).
(4)
عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أَنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يَقْرَأُ فِى صَلاةِ الجُمُعَةِ سُورَةَ الجُمُعَةِ وَالمُنَافِقِينَ"(أخرجه مسلم: 897).
وقد روى محمد بن أحمد بن حبان البستي، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، ط 2، 5 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1414 هـ)، ح 1841، كتاب الصلاة باب صفة الصلاة، ذكر ما يستحب أن يقرأ به من السور ليلة الجمعة في صلاة المغرب والعشاء، 149، من حديث جابر بن سمرة قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة بقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، ويقرأ في العشاء الآخرة ليلة الجمعة ، الجمعة، والمنافقين). والحديث ضعفه الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة ، ح 559 ، والأرنؤوط في تعليقه على ابن حبان.
(5)
هو الإمام أحمد بن إبراهيم ابن الخطاب السبتي، أبو سليمان الفقيه، المحدث اللغوي، وله عدة مصنفات، من آثاره:"معالم السنن"، و"إصلاح غلط المحدثين"، و"غريب الحديث" وله شرح على البخاري، توفي سنة: 388 هـ. أنظر: الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج 3، ص: 1018، حيث نُقل عنه قوله: «أن الصحابة لما اجتمعوا على القرآن وضعوا سورة القدر عقب العلق، واستدلوا بذلك على أن المراد بها الكتابة في قوله:{إنا أنزلناه في ليلة القدر} القدر آية 1، إشارة إلى قوله: إقرأ".
(6)
ابن العربي هو محمد بن عبد الله بن محمد بن العربي الإشبيلي، المالكي، ولد بالأندلس، ورحل إلى المشرق، وعاد إلى وطنه سنة 491 هـ، وتولى القضاء، وذكر ابن بشكوال في الصلة أن له مصنفات عديدة منها:"عارضة الأحوذي" و"أحكام القرآن" و" العواصم، وشرح موطأ مالك، و"قانون التأويل"، توفي سنة: 543 هـ بفاس، ونُقل عنه قوله: « .. وهذا بديع جدا، قلت ومن ظن ممن اعتمد القول بأن ترتيب السور إجتهاد من الصحابة، أنهم لم يراعوا في ذلك التناسب، والإشتباه، فقد سقطت مخاطبته، وإلا فما المراعى في ترتيب النزول؟ وهو غير واضح في ذلك بالقطع، بل هذا معلوم في ترتيب آي القرآن الواقع ترتيبه بأمره عليه الصلاة والسلام، وتوقيفه بغير خلاف
…
». (أنظر ابن الزبير، البرهان، ص: 184.وتاربخ قضاة الأندلس، ص: 105. ونفح الطيب، ج 2، ص: 199. والأعلام، ج 6، ص: 230).