المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول الثالث: أنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة: - الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية - جـ ١

[عبد الله خضر حمد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌المنهج في التفسير

- ‌الفصل الأولمهاد عام حول علوم القرآن

- ‌توطئة

- ‌القرآن في اللغة:

- ‌فوائد معرفة علوم القرآن:

- ‌ القرآن لغة واصطلاحا:

- ‌1 - تعريف القرآن لغة

- ‌2 - تعريف القرآن في الاصطلاح:

- ‌شرح محترزات وقيود التعريف:

- ‌أولا: - مفهوم الوحي

- ‌الوحي لغة:

- ‌الوحي في الاصطلاح الشرعي:

- ‌‌‌أنواع الوحيالإلهي:

- ‌أنواع الوحي

- ‌الفرق بين الوحي والإلهام

- ‌النبي والرسول والفرق بينهما

- ‌شبه الجاحدين للوحي والرد عليها

- ‌ثانيا: - نزول القرآن

- ‌يطلق الإنزال في اللغة على معنيين:

- ‌ إنزال القرآن فيها توجيهان:

- ‌تنزلات القرآن الكريم:

- ‌الحكمة من تنجيم القرآن:

- ‌الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد النبي

- ‌الحكمة الثانية: التدرج في التشريع

- ‌الحكمة الثالثة: بيان بلاغة القرآن الكريم فقد نزل مفرقًا في ثلاثة وعشرين عامًا

- ‌الحكمة الرابعة: مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها:

- ‌الحكمة الخامسة: : تنبيه المسلمين من وقت لآخر لأخطائهم التي وقعوا فيها وكيفية تصحيحها

- ‌الحكمة السادسة: توثيق وقائع السيرة النبوية المباركة والتاريخ

- ‌الحكمة السابعة: معرفة الناسخ والمنسوخ:

- ‌الحكمة الثامنة: تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية:

- ‌وقت نزول القرآن الكريم:

- ‌1 - الآيات والسور المتفق على نزولها ليلاً:

- ‌أولاً: أواخرُ آلِ عمران:

- ‌ثانياً: آيات الثلاثة الذين خلفوا من سورة التوبة:

- ‌ثالثاً: أول سورة الفتح:

- ‌رابعاً: صدر سورة العلق:

- ‌خامساً وسادساً: المعوذتان:

- ‌2 - الآيات والسور المختلف في نزولها ليلاً:

- ‌أولاً: آيات تحويل القبلة:

- ‌ثانياً: آية {اليوم أكملت لكم دينكم}:

- ‌ثالثاً: {والله يعصمك من الناس} من سورة المائدة:

- ‌رابعاً: سورة الأنعام:

- ‌خامساً: سورة مريم:

- ‌سادساً: أول الحج:

- ‌سابعاً: آية الإذن في خروج النسوة في الأحزاب:

- ‌ثامناً: قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}:

- ‌تاسعاً: سورة المنافقون:

- ‌عاشراً: سورة المرسلات:

- ‌مدة نزول القرآن الكريم:

- ‌يوم إنزال القرآن:

- ‌شهر إنزال القرآن الكريم:

- ‌مقدار التنزيل:

- ‌ثالثا: - مراحل جمع القرآن الكريم وترتيبه

- ‌جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌رابعا: - المكي والمدني

- ‌للعلماء في معنى المكي والمدني ثلاثة اصطلاحات

- ‌الاصطلاح الأول: باعتبار المكان:

- ‌الاصطلاح الثاني: باعتبار المخاطب:

- ‌الاصطلاح الثالث: باعتبار زمن النزول:

- ‌الطريق إلى معرفة المكي والمدني:

- ‌المنهج الأول: السماعي النقلي:

- ‌المنهج الثاني: القياس الاجتهادي:

- ‌أولاً: ضوابط القرآن المكي هي

- ‌ثانياً: مميزات القرآن المكي:

- ‌ثالثاً: ضوابط القرآن المدني:

- ‌رابعا: - مميزان القرآن المدني

- ‌وللسور المدنية مميزات، منها:

- ‌فوائد معرفة المكي والمدني

- ‌خامسا: - أسباب النزول

- ‌طريق معرفة سبب النزول

- ‌أقسام أسباب النزول:

- ‌فوائد معرفة سبب النزول

- ‌1 - الاستعانة على فهم الآية وإزالة الإشكال عنها:

- ‌2 - معرفة الحكمة من تدرج التشريع:

- ‌3 - العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:

- ‌سادسا: - المحكم والمتشابه في القرآن الكريم

- ‌سابعا- الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

- ‌أهمية النسخ في التفسير

- ‌ثامنا: - القراءات

- ‌القراءات لغة واصطلاحا

- ‌نشأة القراءات:

- ‌ والأحاديث المتواترة الواردة حول نزول القرآن على سبعة أحرف تدل على ذلك:

- ‌أقسام القراءات وبيان ما يقبل منها ومالا يقبل

- ‌فوائد اختلاف القراءات

- ‌التعريف بالقراء الأربعة عشر ورواتهم

- ‌أولاً: القراء العشرة ورواتهم:

- ‌1 - ابن عامر

- ‌2 - ابن كثير

- ‌3 - عاصم

- ‌4 - أبو عمرو

- ‌5 - حمزة

- ‌6 - نافع

- ‌7 - الكسائى

- ‌8 - أبو جعفر

- ‌9 - يعقوب

- ‌10 - خلف

- ‌السبب الداعى للاقتصار على القراء المشهورين

- ‌ثانياً: القراء الأربعة تتمة الأربعة عشر

- ‌1 - أبو الحسن البصرى

- ‌2 - ابن محيصن

- ‌3 - يحيى اليزيدى

- ‌4 - الأعمش

- ‌حكم ما وراء القراءات العشر

- ‌تاسعا: - الإسرائيليات

- ‌أسباب دخول الإسرائيليات في المجتمع الإسلامي:

- ‌حكم الإسرائيليات:

- ‌عاشرا: تفسير القرآن وشرفه

- ‌المنهج الأمثل في تفسير القرآن

- ‌1 - تفسير القرآن بالقرآن:

- ‌2 - تفسير القرآن بالسنة:

- ‌3 - الانتفاع بتفسير الصحابة والتابعين:

- ‌4 - الأخذ بمطلق اللغة:

- ‌5 - مراعاة السياق:

- ‌6 - الاهتمام بعلوم القرآن إجمالاً وخاصة سبب النزول:

- ‌7 - اعتبار القرآن أصلاً يرجع إليه:

- ‌حادي عشر: - إعجاز القرآن

- ‌أ- الإعجاز البياني:

- ‌ب- الإعجاز التشريعي:

- ‌ومن نماذج من الإعجاز التشريعي:

- ‌ت- الإعجاز العلمي:

- ‌الثاني عشر: ترجمة القرآن الكريم بغير لغته

- ‌أقسام الترجمة

- ‌أولاً: الترجمة الحرفية:

- ‌ثانياً: الترجمة المعنوية والتفسيرية:

- ‌موقف العلماء من ترجمة القرآن الكريم:

- ‌أولاً: الترجمة الحرفية لا تجوز وذلك:

- ‌ثانياً: الترجمة التفسيرية أو المعنوية:

- ‌شروط الترجمة:

- ‌الثالث عشر: فضائل القرآن

- ‌الفصل الثاني

- ‌أولا: - أنواع التفسير

- ‌1 - التفسير بالمأثور (بالرواية)، وأقسامه:

- ‌ أقسام التفسير بالرواية

- ‌أ- تفسير القرآن بالقرآن:

- ‌ب- تفسير القرآن بالسنة:

- ‌ت- تفسير القرآن بقول الصحابي:

- ‌ث- تفسير القرآن بقول التابعي:

- ‌أشهر تفاسير القرن الثالث والرابع

- ‌ومن هذه التفاسير الموسوعية أيضاً:

- ‌2 - التفسير بالدراية:

- ‌3 - التفسير الإشاري

- ‌ آراء العلماء التي نسترشد بها في تحديد شروط قبول التفسير الإشاري

- ‌1 - رأى ابن الصلاح:

- ‌2 - رأى الشاطبى:

- ‌3 - رأى تاج الدين بن عطاء الله:

- ‌4 - رأى حاجى خليفة:

- ‌5 - رأى سعد الدين التفتازانى:

- ‌6 - رأى محى الدين ابن عربي:

- ‌7 - رأي أبي حامد الغزالي:

- ‌8 - رأي الأستاذ محمد عبد العظيم الرزقانى:

- ‌9 - رأي الأستاذ محمد حسين الذهبي:

- ‌10 - رأي الدكتور محمد كمال جعفر:

- ‌أمثلة على التفسير الإشاري:

- ‌ثانيا: - اتجاهات التفسير

- ‌1 - الاتجاه اللغوي:

- ‌2 - الاتجاه العلمي:

- ‌3 - الاتجاه الموضوعي:

- ‌4 - الاتجاه الفقهي:

- ‌5 - الاتجاه البلاغي:

- ‌أهمية التفسير البلاغي:

- ‌1 - الوقوف على معجزة القرآن الكريم البلاغية التي تحدى بها الله تعالى العرب

- ‌2 - توجيه التفسير للألفاظ والجمل القرآنية بما يرفع الإشكال ويوضح المعنى

- ‌3 - فهم المعاني القرآنية من خلال معرفة القرائن وسياق النص ولهجات العرب

- ‌4 - إثراء المعاني للألفاظ والجمل التي ظاهرها التماثل والتشابه

- ‌خاتمة التمهيد

- ‌ أهم النتائج التي توصلنا إليها من هذا التمهيد

- ‌تفسير سورة الفاتحة

- ‌لهذه السورة أسماءٌ متعددةٌ

- ‌أولا: - فاتحةُ الكتابِ

- ‌ثانيا: - أم الكتاب:

- ‌ثالثا: - أمُّ القرآن:

- ‌الرابع: - السبع المثاني:

- ‌الخامس: القرآنُ العظيم:

- ‌السادس: الصَّلاة:

- ‌السابع: - رقية الحقِّ:

- ‌الثامن: - سورة الحمد:

- ‌التاسع: - الشفاء:

- ‌العاشر: - الوافية:

- ‌الحادي عشر: - الأساس:

- ‌الثاني عشر: - الكنز

- ‌الثالثة عشر: - الشكر

- ‌الرابعة عشر: - الثناء:

- ‌الخامسة عشر: -المناجاة:

- ‌السادسة عشر- التفويض:

- ‌السابعة عشر: - الدعاء:

- ‌الثامنة عشر: - النور

- ‌التاسعة عشر: - تعليم المسألة:

- ‌العشرون: - السؤال:

- ‌ اختلف العلماء في مواضع نزولها

- ‌القول الأول: أنَّها نزلت بمكَّة

- ‌القول الثاني: أنها أُنزلت بالمدينة

- ‌القول الثالث: أنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة:

الفصل: ‌القول الثالث: أنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة:

‌القول الثاني: أنها أُنزلت بالمدينة

.

قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري (1)، روى منصور عن مجاهد قال:"إن إبليس رنَّ أربعَ رنَّاتٍ: حين لُعِنَ، وحين أُهبط من الجنَّة، وحين بُعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وحين أُنزلت فاتحة الكتابِ، وأُنزلت بالمدينة"(2).

قال الحسين بن الفضل: "هذه هفوة من مجاهد، لأنّ العلماء على خلاف قوله"(3).

وروى الطَّبرانيُّ في "الأوسط": "حدثنا عُبيد بن غنَّام ثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ ثنا أبو الأَحْوَصِ عن منصورٍ عن مجاهدٍ عن أبي هريرة: أنَّ إبليسَ رنَّ حين أُنزلت فاتحةُ الكتابِ، وأُنزلت بالمدينة، وقال: لم يروه عن منصور إلا أبو الأحوص، تفرّد به أبو بكر بن أبي شيبة"(4)، ورواه سفيان وغيره عن منصور ووقفُوه على مجاهدٍ.

واستدلوا على هذا بحديث مشهور في صحيح مسلم: "بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة"(5).

فإن قيل: هذا كان في المدينة، فكيف جاء بفاتحة الكتاب وهي نزلت بمكة؟

يقال: هو لم يأتِ بها أصلاً، وإنما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والبشارة يمكن أن تكون أيضاً على أمرٍ قد مضى، فبين له المزية لسورة الفاتحة وآخر آيتين أوتيهما صلى الله عليه وسلم من سورة البقرة، فالبشارة يمكن أن تكون عن شيء كان في الماضي، وهو كذلك، فلا يفهم منه أنه هو الذي نزل بها كما قال بعض المعاصرين: إن بعض القرآن قد ينزل به غير جبريل، فالأمر واضح أن جبريل هو الذي نزل به كما قال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]، فالقول بأن هذا في الجملة ولا يؤثر على ذلك أن ينزل غيره بآيةٍ أو نحو هذا، فهذا قول غير صحيح.

ومعروف قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة، وكان يقرأ الفاتحة، وآية الحجر تدل على نزولها بمكة.

‌القول الثالث: أنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة:

أراد بعض أهل العلم أن يوفق وأن يجمع فقال: نزلت مرتين، مرة بمكة ومرة بالمدينة.

قال الشوكاني: "وقيل: إنّها نزلت مرّتين مرّةً بمكّة ومرّةً بالمدينة جمعًا بين هذه الرّوايات"(6).

(1) انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 101، ومجمع البيان: 1/ 17.

(2)

انظر: الدر المنثور، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ)، ار الفكر - بيروت: 1/ 11.

(3)

الإتقان: 1/ 12.

(4)

المعجم الأوسط: (5/ 100 - رقم: 4788).

(5)

أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة (806)(ج 1 / ص 554).

(6)

فتح القدير: 1/ 73 - 74.

ص: 175

قال الزركشي (ت: 794 هـ): " وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه، وتذكيرا به عند حدوث سببه خوف نسيانه، وهذا كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين، مرة بمكة، وأخرى بالمدينة"(1).

قال أحمدُ بنُ عبد الكريمِ بنِ محمَّدٍ الأَشْمُونِيُّ (ت: ق 11 هـ): "مكية مدنية؛ لأنها نزلت مرتين مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة حين حولت القبلة."(2).

القول الرابع: أن نصفها الأول نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة:

وحكى أبو اللّيث السّمرقنديّ: " أنّ نصفها نزل بمكّة ونصفها الآخر نزل بالمدينة"(3).

قال ابن كثير: "وهو غريبٌ جدًّا، نقله القرطبيّ عنه (4) "(5).

والصحيح أنَّها أُنزلت بمكَّة، وذلك لأمرين (6):

أحدهما: فإنَّ سورة (الحِجْر) مكِّيَّةٌ بالإجماع، وقد أنزل الله فيها:{وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} ] الحجر: 87]، وقد فسَّرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالفاتحة، فعُلم أنَّ نزولهَا متقدمٌ على نزول (الحِجْر).

والثاني: وأيضًا فإنَّ الصَّلاةَ فُرضت بمكَّة، ولم يُنقل أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه صلَّوا صلاةً بغير فاتحة الكتاب أصلاً، فدلَّ على أنَّ نزولهَا كان بمكَّةَ.

قال ابن رجب: "وأمَّا الرِّواية بأنَّها أوَّل سورة أُنزلت من القرآن فالأحاديث الصَّحيحة تردُّه"(7).

وأما عدد آياتها، "فهي سبعُ آياتٍ كما دلَّ عليه قولُه تعالى:{وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} الحجر: 87]، وفسَّرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالفاتحة، ونقل غيرُ واحدٍ الاتفاق على أنَّها سبعٌ، منهم ابنُ جرير (8) وغيرُه" (9).

واختلف أهل العلم في الآي التي صارت بها سبع آيات، وفيه قولان (10):

أحدهما: أنها صارت سبع آيات بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وها قول عظم أهل الكوفة.

قال الطبري: "وقد رُوي ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين"(11).

والثاني: أنها سبع آيات، وليس منهن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولكن السابعة {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . وذلك قول عُظْم قَرَأةِ أهل المدينة ومُتْقنيهم.

وفي عددها قولان شاذّان (12):

(1) البرهان في علوم القرآن: 1/ 27.

(2)

منار الهدى: 27.

(3)

بحر العلوم: 1/ 39، وتفسير ابن كثير: 1/ 101، وتفسير القرطبي: 1/ 115.

(4)

انظر: تفسير القرطبي: 1/ 115.

(5)

تفسير ابن كثير: 1/ 101.

(6)

انظر: أسباب النول للواحدي: 21.

(7)

تفسير سورة الفاتحة لابن رجب: 18.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 109 - 110.تفسير الطبري: 1/ 48.

(9)

تفسير سورة الفاتحة لابن رجب: 19.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 109.

(11)

تفسير الطبري: 1/ 109.

(12)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 61 - 62، والبحر المحيط: 1/ 17، وتفسير سورة الفاتحة لابن رجب: 19 - 20.

ص: 176

أحدُهما: أنَّها ستُّ آياتٍ، حُكي عن حسين الجُعْفِيِّ (1).

والثاني: أنَّها ثمانُ آياتٍ، وأنَّ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} آيةٌ. قاله عمرو بن عبيد (2).

قال ابن رجب: " نُقل عن عمرو بن عبيد أنَّها ثمانُ آياتٍ، ولا يعبأُ به"(3).

قال أبو حيان: " وشذ عمرو بن عبيد، فجعل آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، فهي على عده ثمان آيات"(4).

قال ابن عطية: " وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي} [الحجر: 87] هو الفصل في ذلك"(5).

وأمَّا كلماتُها: فهي خمسٌ وعشرون كلمةً (6).

وأمَّا حروفُها: فمائةٌ وثلاثة عشر حرفًا (7).

وإن هذه السُّورة العظيمة لها فضائلٌ وخصائصٌ عديدةٌ، قال ابن رجب:"ولم يثبت في فضائلِ شيءٍ من السُّور أكثر مما ثبت في فضلِها، وفضلِ سورة (الإخلاص) "(8).

ثم سرد مجموعة من فضائلِها (9).

(أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

شرع الله تعالى لكل قارئ للقرآن العظيم، أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، قال سبحانه:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]؛ ذلك لأن القرآن الكريم هداية للناس وشفاء لما في الصدور، والشيطان سبب الشرور والضلالات، فأمر الله سبحانه كل قارئ للقرآن أن يتحصن به سبحانه من الشيطان الرجيم، ووساوسه، وحزبه.

وأجمع العلماء على أن الاستعاذة ليست من القرآن الكريم، ولهذا لم تكتب في المصاحف (10).

قوله: (أَعُوذُ بِاللهِ)، أي:" أستجيرُ بالله - دون غيره من سائر خلقه"(11).

قال ابن كثير: " أي: أستجير بجناب الله"(12).

قوله: (مِنَ الشَّيْطَانِ)، أي:"من الشيطان أن يضرَّني في ديني، أو يصدَّني عن حق يلزَمُني لرَبي"(13).

قال ابن كثير: أي: "من الشيطان أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه؛ فإن الشيطان لا يكفُّه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا

(1) انظر: المحرر الوجيز: 1/ 61 - 62، والبحر المحيط: 1/ 17، وتفسير سورة الفاتحة لابن رجب: 19 - 20.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 61 - 62، والبحر المحيط: 1/ 17، وتفسير سورة الفاتحة لابن رجب: 19 - 20.

(3)

انظر: تفسير سورة الفاتحة لابن رجب: 19 - 20.

(4)

البحر المحيط: 1/ 17.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 61 - 62.

(6)

انظر: تفسير سورة الفاتحة لابن رجب: 19 - 20.

(7)

انظر: تفسير سورة الفاتحة لابن رجب: 19 - 20.

(8)

تفسير سورة الفاتحة: 35.

(9)

انظر: تفسير سورة الفاتحة لابن رجب: 35 وما بعدها.

(10)

انظر: التفسير الميسر: 15.

(11)

تفسير الطبري: 1/ 111.

(12)

تفسير ابن كثير: 1/ 114.

(13)

تفسير الطبري: 1/ 111.

ص: 177

أمر الله تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عمَّا هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله في الأعراف:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف: 199]، فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر، ثم قال:{وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]، وقال تعالى في سورة " قد أفلح المؤمنون ":{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} [المؤمنون: 96 - 98]، وقال تعالى في سورة " حم السجدة ":{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 34 - 36][فصلت: 34 - 36] " (1).

وفي المراد بـ (الشيطان) قولان:

أحدهما: أن المراد به: الشيطان المخصوص وهو إبليس الذي كانت قصته مع أبينا آدم-عليه السلام.

والثاني: أن المراد به كل شيطان، أي: كل ما يصدق عليه هذا الاسم أو الوصف.

والقول الثاني أصح، لأنه يدخل فيه الأول ويدخل فيه سائر الشياطين، ومن المعلوم أن سائر الشياطين يصدون الإنسان عن طاعة الله.

وقد اختُلف في معنى (الشيطان) من ناحية اللغة، بناء على الاختلاف في اشتقاقه وأصالة النون في بنائه، وفيه وجهان:

أحدهما: أن (الشيطان) نونه أصلية على وزن "فيعال" مشتق من (شطن)، بمعنى: بَعُد عن الحقِّ، ، فسمي الشيطان شيطانا، لتباعده من الخير، فهو من: شطنه يشطنه شطنًا: إذا خالفه عن وجهته ونيَّته، وشَطَّت الدار: بَعُدَت، والشاطن: الخبيث، وتشيطن الرجل: إذا صار كالشيطان وفعل فعله، ومنه الشيطنة: التي هي مرتبة كلية عامَّة لمظاهر الاسم المضل (2)، قال أمية بن أبي الصلت يصف سليمان بن داود عليهما السلام (3):

أيما شاطن عصاه عكاه

ثم يلقى في السجن والأغلال

فقال: أيما شاطن، ولم يقل: أيما شائط.

وقال نابغة بني شيبان (4):

فأضحت بعدما وصلت بدار

شطون لا تعاد ولا تعود

(1) تفسير ابن كثير: 1/ 114.

(2)

انظر: قاموس العين - الفراهيدي ج (6)، ص (236)، وأساس البلاغة، ص (329)، القاموس المحيط ج (1)، ص (870)، والمصباح المنير ج (1)، ص (313)، والمعجم الوسيط ج (1)، ص (483)، وتهذيب اللغة ج (11)، ص (213)، وجمهرة اللغة ج (2)، ص (867)، ومختار الصحاح، ص (142).

(3)

دبوانه ص 445 وانظر: «لسان العرب» مادة «شطن» . ومعنى عكاه: شده، وأوثقه، والأكبال: القيود.

(4)

ديوانه 34.

ص: 178

والثاني: أن (الشيطان) مأخوذ من الفعل (شاط)، وعلى هذا الاشتقاق يكون على وزن فعلان، والنون فيه زائدة، بمعنى: احترق من الغضب، فهو من: شاط يشيط، وتشيط: إذا لفحَته النار فاحترق أو هلك، مثل هيمان وغيمان، مِن هام وغام (1)، فسمي الشيطان سمي شيطانا، لغيه وهلاكه (2)، قال الأعشى (3):

وَنَطْعَنُ الْعَيْرَ فِي مَكْنُونِ فَائِلِهِ

وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ

أراد: وقد يهلك على أرماحنا (4).

وذكر ابن الأثير أن نون (الشيطان) إذا جعلت أصلية كان من الشطن وهو: البعد عن الخير، أو الحبل الطويل، كأنه طال في الشر، وإن جعلت زائدة كان من شاط يشيط: إذا هلك، أو من استشاط غضباً، إذا احتد في غضبه والتهب، قال: والأول أصح (5)، وذكر ابن كثير أن من العلماء من صحح المعنيين مع قولهم بأن الأول أصح (6).

والشطن: البعد، ومنه شطنت داره، أي بعدت، ويقال: نوى شطون أي بعيدة، وبئر شطون: أي بعيدة القعر، ويقال للحبل شطن سمي بذلك لطوله، وجمعه أشطان، وفي الحديث:«كُلُّ هَوىً شَاطِنٌ فِي النَّارِ» (7)(8).

قال ابن قتيبة: "الشاطن البعيد عن الحق"(9).

قال محمد بن إسحاق: " إِنَّمَا سمي شَيْطَانا لِأَنَّهُ شطن عَن أَمر ربه. والشطون: الْبعيد النازح "(10).

وقال أبو عبيد: "الشيطان كل عات متمرد من إنس، أو جن"(11)، أو دابة، قال جرير (12):

أيامَ يدعُونني الشَيْطانَ من غَزَلٍ

وهُنَّ يَهْوَيْنَني إذْ كنتُ شَيْطانا

ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيا عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وكذا قوله:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ} [البقرة: 14]، أي أصحابهم من الجن والإنس، وقوله تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} [الأنعام:

(1) انظر: مقاييس اللغة 3/ 184 - 185)، ولسان العرب 17/ 105)، والمفردات - الراغب الأصفهاني:261.

(2)

انظر: الزاهر في معاني كلمات الناس، أبو بكر الأنباري: 1/ 56.

(3)

ديوانه: 47، وانظر: المنجد في اللغة: 231، والفائل: عرق في الفخذين يكون في خربة الورك ينحدر في الرجلين.

(4)

انظر: الزاهر في معاني كلمات الناس، أبو بكر الأنباري: 1/ 56.

(5)

النهاية في غريب الحديث والأثر: 2/ 1160.

(6)

تفسير ابن كثير: 1/ 15.

(7)

غريب الحديث لابن قتيبة: 3/ 759، والفائق في غريب الحديث: 2/ 246، والنهاية في غريب الحديث: 2/ 475

(8)

لسان العرب: 13/ 237.

(9)

غريب الحديث: 3/ 759.

(10)

غريب الحديث لابن قتيبة: 3/ 759.

(11)

انظر: بحر العلوم، السرمقندي: 1/ 277.

(12)

ديوانه: 165.

ص: 179

121]، وقوله:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]، قيل مردة الجن وقيل مردة الإنس (1)(2).

واشتقاقه من (شطن) هو القول الراجح، وذلك لأنَّها أقرب إلى وصف أعمال الشيطان التي تَهدف إلى إبعاد الناس عن عمَل الخير واتِّباع الحق، "لأنَّ اشتقاق الشيطان من شطن، بمعنى: بَعُد عن الخير ومال عن الحقِّ - أقرب إلى الحقيقة من اشتقاقه من شاط، بمعنى: احترق، ذلك أنَّ عمل الشيطان هو إبعاد الناس عن الحقِّ، والذي يبعد الناس عن الحقِّ والخير يكون هو بعيدًا عنه"(3).

والجن لغة: اسم جنس جمعي، واحده جني، وهو مأخوذ من الاجتنان، وهو التستر والاستخفاء. وقد سموا بذلك لاجتنانهم من الناس فلا يرون (4)، والجمع جنان، وهم الجنة (5).

وكل شيء وقيت به نفسك، واستترت به فهو جنة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في كتاب الصوم:"والصيام جنة" أي وقاية، حيث يقي صاحبه من المعاصي.

وسمي الجنين جنينًا لاستتاره في بطن أمه، ومنه قوله تعالى:{وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32](6).

وسميت الجنة – بفتح الجيم – بذلك لكثرة شجرها، بحيث يستر بعضها بعضًا (7).

وأما الجن اصطلاحًا فهم: نوع من الأرواح العاقلة المريدة المكلفة على نحو ما عليه الإنسان، مجردون عن المادة، مستترون عن الحواس، لا يرون على طبيعتهم وصورتهم الحقيقية، يأكلون ويشربون ويتناكحون، ولهم ذرية، محاسبون على أعمالهم في الآخرة (8).

فإن قال قائل: وما الفرق بين الجن والشياطين؟

فالجواب: أن الشياطين هم مردة الجن، ومنه قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ

} [البقرة: 102] الآية.

وواحد الشياطين: شيطان، مأخوذ من شطن بمعنى بعد ولا يقتصر هذا اللفظ على مردة الجن فقط، بل يطلق كذلك على كل عارم ومؤذ من الجن والإنس، قال الله تعالى: {شَيَاطِينَ

(1) مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني:261.

(2)

عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة، عبدالكريم عبيدات:462.

(3)

التطور الدلالي بين لغة الشعر الجاهلي ولغة القرآن - د. عودة خليل أبو عودة - مكتبة المنار - الأردن، ص (478).

(4)

أي لا يرون على طبيعتهم وصورتهم الحقيقة كما سيأتي في تعريفهم، وبذلك يعلم عدم التعارض بين هذا القول، وما ورد أنهم يتشكلون في صور البشر، والحيات والكلاب وغير ذلك وبذلك يفهم قول الشافعي: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته: أخرجه أبو نعيم في الحلية: (9/ 141) فإنه يريد على طبيعتهم وصورتهم الحقيقية.

(5)

انظر القاموس المحيط: ص 1532، مادة (جنن)، ولسان العرب:(13/ 95).

(6)

انظر المفردات: ص 98.

(7)

انظر تهذيب اللغة: للأزهري (10/ 499).

(8)

انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل: لابن حزم (5/ 12)، وفتح الباري:(6/ 344)، وفيض القدير:(1/ 113)

ص: 180

الإِنْسِ وَالْجِنِّ} (1)، وقال سبحانه عن المنافقين:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} (2) أي إلى أصحابهم من الجن والإنس (3).

وإذا كان الجن ممن يساكن الناس، قالوا: عامر، جمع عمار، وإذا كان مما يعرض للصبيان، قالوا: أرواح، والخبيث من الجن هو الشيطان، والأشد خبثاً مارد. ومن اشتد أمره من المردة: عفريت، وجمعه عفاريت (4)

والجن ثلاثة أصناف كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنف يطير في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون"(5)

وردت آيات قرآنية كثيرة في الجن، وسميت السورة الثانية والسبعون من كتاب الله تعالى باسمهم:(سورة الجن).

وقد دل الكتاب العزيز والسنة المطهرة على وجود الجن ودل عليه كذلك الإجماع، وعليه فإنه لا يجوز لأي أحد من الناس إنكارهم، ولذا قال جمع من أهل العلم: إنه يكفر من أنكرهم، ففي كتاب "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (6) لابن حزم قوله:"وأجمع المسلمون كلهم على ذلك – أي على وجود الجن وأنهم خلق من خلق الله – نعم والنصارى والمجوس والصابئون وأكثر اليهود حاشا السامرة فقط، فمن أنكر الجن أو تأول فيهم تأويلاً يخرجهم به عن هذا الظاهر، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا في أن الله أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك كما يوجد في طوائف المسلمين كالجمهية والمعتزلة من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك، وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترًا معلومًا بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات وأعراضًا قائمة بالإنسان أو غيره كما يزعم بعض الملاحدة، فلما كان أمر الجن متواترًا عن الأنبياء تواترًا ظاهرًا، تعرفه العامة والخاصة لم يمكن طائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم، كما لم يمكن لطائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل إنكار الملائكة، ولا إنكار معاد الأبدان، ولا إنكار عبادة الله وحده لا شريك له، ولا إنكار أن يرسل الله رسولاً من الإنس إلى خلقه، ونحو ذلك مما تواترت به الأخبار عن الأنبياء تواترًا تعرفه العامة والخاصة، كما تواتر عند العامة والخاصة مجيء موسى إلى فرعون، وغرق فرعون، ومجيء المسيح إلى اليهود وعداوتهم له، وظهور محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وهجرته إلى المدينة، ومجيئه بالقرآن والشرائع الظاهرة، وجنس الآيات الخارقة التي ظهرت على يديه، كتكثير الطعام والشراب، والإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة التي لا يعلمها بشر إلا بإعلام الله وغير ذلك (7).

(1) سورة الأنعام: 112.

(2)

سورة البقرة: 14.

(3)

المفردات للراغب الأصفهاني، وانظر فتح الباري:(6/ 344).

(4)

آكام المرجان ص 8.

(5)

أخرجه الطبراني والحاكم والبيهقي ، وإسناده صحيح. صحيح الجامع 3/ 85.

(6)

(5/ 12).

(7)

مجموع الفتاوى: (19/ 10، 11).

ص: 181

كما أجمعوا على الاستعاذة بالله العظيم من شرورهم، ومن يعرف عجائب خلق الله عز وجل وعظمته وقدرته لن يستغرب وجود عالم الجن غير المرئي، ووجود عالم الإنس المرئي، فكلاهما من مخلوقات الله تعالى العقلاء.

وكان لبعض القدامى اعتقادات عجيبة في الجن، حتى إن بعضهم جعل الجن شركاء لله عز وجل، فأبطل القرآن هذا كله، فقال عز من قائل:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} ] الصافات 158].

تعريف إبليس لغة:

اختلف أهل العلم في تعريف كلمة (إبليس)، على أقوال:

أحدها: أن إبليس اسم عربي، على وزن إفعيل، مشتق من الإبلاس، وهو الإبعاد من الخير، أو اليأس من رحمة الله (1)، يقال أَبلَس الرجل: إذا انقطع ولم تكن له حجَّة، وأَبلَس الرجل: قُطِع به، وأبلس أيضًا: سكَتَ، وأبلس مِن رحمة الله: يئس، والإبلاس: الحزن المعترض من شدَّة البأس، وقد استخدم العربُ هذه المعاني فقالوا: ناقة مِبلاس: إذا كانت لا تَرغو من الخوف، وفلان أبلس: إذا سكَت من شدَّة الخوف (2)، والقرآن الكريم استخدم هذه المعاني اللغويَّة لكلمة أبلس، فقال تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم: 12]، وقال تعالى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].

والثاني: وقال الأكثرون: إن إبليس اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية (3)، وقد ذكر ابن الأنباري أن إبليس لو كان اسماً عربياً لم يصرف كإكليل وإحليل (4)، قال أبو إسحاق: أن إبليس أعجمي معرفة، وذكر الزبيدي أن إبليس لا يصح أن يشتق وإن وافق معنى إبليس لفظاً ومعنى، وقد غلط العلماء الذين قالوا باشتقاقه.

وذكر الطبري بأنه: "لم يصرف استثقالاً، إذ كان اسماً لا نظير له من أسماء العرب، فشبهته العرب إذ كان كذلك بأسماء العجم التي لا تجري كما في إسحاق حيث لم يجروه، وهو مشتق من أسحقه الله إسحاقاً، إذ وقع ابتداء اسماً لغير العرب التي تسمت به العرب، فجري مجراه، وهو من أسماء العجم في الإعراب فلم يصرف، وكذلك أيوب إنما هو من آب يئوب"(5).

وقال ابن حجر: "وقد تعقب بأنه لو كان اسماً عربياً مشتقاً من الإبلاس لكان قد سمي به بعد يأسه من رحمة الله بطرده ولعنه"(6).

(1) انظر: لسان العرب: 6/ 29، وتفسير الطبري: 1/ 509، وتفسير روح المعاني: 1/ 229.

(2)

انظر: مقاييس اللغة ج (1)، ص (299، 300)، والمفردات - الراغب الأصفهاني، ص (60)، وانظر: التبيان في تفسير غريب القرآن - شهاب الدين أحمد بن محمد الهائم المصري - دار الصحابة للطباعة ط 1 1992 م، ج (1)، ص (76).

(3)

انظر: القاموس المحيط ج (1)، ص (687)، والمعجم الوسيط ج (1)، ص (3)، والمفردات - الأصفهاني، ص (60).

(4)

انظر: تفسير روح المعاني: 1/ 229، وفتح الباري: 6/ 339.

(5)

تفسير الطبري: 1/ 227.

(6)

فتح الباري: 1/ 339.

ص: 182

وظاهر القرآن أنه كان يسمى بذلك قبل ذلك، وكذا قيل، ولا دلالة فيه، لجواز أن يسمى بذلك باعتبار ما سيقع له، نعم روى الطبري عن ابن عباس قال:"كان اسم إبليس حيث كان مع الملائكة عزازيل ثم إبليس بعد"(1)، وهذا يؤيد القول (2).

والثالث: وذهب بعض الدَّارسين إلى أنَّها كلمة يونانية الأصل هي (ديا بولس)، جرى عليها بعضُ التغيير والتحريف حتى صارت كذلك (3).

والراجح عندي أنها مشتقة من أبلس الرجل: إذا انقطع، والله تعالى أعلم.

الشيطان وإبليس اصطلاحًا:

تردد لفظ (إبليس) و (الشيطان) في مواضع متعددة من القرآن الكريم، فقد ورد لفظ إبليس في أحد عشر موضعاً، ولم يرد هذا اللفظ إلا مفرداً في هذه المواضع جميعاً.

أما لفظ الشيطان فقد جاء مفرداً ومجموعاً، فقد ورد مفرداً في سبعين موضعاً، وأما بلفظ الجمع فقد ورد في ثمانية عشر موضعاً، عدا من المواضيع التي ورد فيها لفظ الجن والجِنَّة، التي يراد في كثير منها الشيطان مفرداً ومجموعاً.

الشيطان: في الإصطلاح هو: كلِّ متمرِّد من الجنِّ والإنس والدواب (4)، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].

وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس، قال: يا نبي الله، وهل للإنس شياطين؟ قال: نعم: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112] "(5).

وقد يطلق لفظ الشيطان كذلك على المتميز بالخبث والأذى من الحيوان، فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "ركب عمر برذوناً، فجعل يتبختر به، فضربه فلم يزدد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال: ما حملتموني إلا على شيطان، لقد أنكرت نفسي (6)، وعلى هذا فإن الشيطان إذا أريد به الجنس فله معنيان: معنى خاص، ومعنى عام.

أولا: - المعنى الخاص:

ويراد به إبليس وذريته المخلوقون من النار، والذين لهم القدرة على التشكل، وهم يتناكحون، ويتناسلون، ويأكلون، ويشربون، وهم محاسبون على أعمالهم في الآخرة، مطبوعون بفطرتهم على الوسوسة والإغواء، وهم بهذا عاملون على التفريق والخراب، جاهدون لفصل ما أمر الله به أن يوصل، ووصل ما أمر الله به أن يفصل، وإبرام ما يجب فصمه، وفصم ما يجب إبرامه، فهم والملائكة على طرفي نقيض (7).

ثانيا: - المعنى العام:

(1) تفسير الطبري: 1/ 224.

(2)

فتح الباري: 6/ 339.

(3)

انظر: إبليس - عباس محمود العقاد - نشر المكتبة العصرية - صيدا - بيروت - ص (47).

(4)

انظر: المفردات، الأصفهاني، ص (261)، وانظر: روح المعاني - الآلوسي ج (1)، ص (157)، وقد نسب الآلوسي هذا التعريف لابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

مسند أحمد حديث (1257)، ومجمع الزوائد 1/ 94.

(6)

تفسير الطبري: 1/ 111، وتفسير ابن كثير: 1/ 31 وقال اسناده صحيح.

(7)

انظر: دائرة معارف القرن العشرين: 2/ 332.

ص: 183

وأما المعنى العام فيراد به كل مخلوق عات متمرد من الإنس، والجن، والدواب، فأما من جانب الجن والإنس فهو التمرد والعصيان لأمر الله، ومحاولة بذر الفساد في الأرض بشتى صوره وأشكاله قال تعالى:{شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]. وأما من جانب الدواب فهو الخبث والأذى الذي تميزت به عن جنسها ..

وأمَّا (إبليس): فهو ذلك المخلوق من النار، والذي كان يجالس الملائكة ويتعبد معهم، وليس من جنسهم كما سيأتي، وقام بعمله ما شاء الله أن يقوم، ثمَّ نازع ربَّه الكبرياء والعظمة، فاستكبر عن طاعته، وعصى ربَّه، فطرده من رحمته ومن وظيفته، فهبط إلى الأرض، وأصبحت الشيطنة صفة له (1).

أخرج الطبري بسنده الصحيح عن الإمام الفاروق عمر-رضي الله عنه: " قال عمر بن الخطاب -رحمة الله عليه-، وركب بِرذَوْنًا فجعل يتبختر به، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترًا، فنزل عنه، وقال: ما حملتموني إلا على شيطانٍ! ما نزلت عنهُ حتى أنكرت نَفسي"(2).

وإبليس له ذريَّة بصريح القرآن الكريم، قال تعالى:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50]، فإبليس من الجنِّ المخلوقين من نار السَّموم، وإنَّه ليرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، وقد فسَق عن أمر ربِّه، وهو رأس الشياطين والمتمرِّدين، وجمعه: أباليس وأبالسة (3).

إذًا، إبليس هو الاسم العَلَم لهذا المخلوق المتمرِّد، والشيطان صِفة له ولغيره.

وكان إبليس يجالس الملائكة ويتعبد معهم، وليس من جنسهم كما سيأتي، فلما أمر الله ملائكته بالسجود لآدم خالف أمر ربه بتكبره على آدم لادعائه أن النار التي خلق منها خير من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام، فكان جزاء هذه المخالفة أن طرده الله عن باب رحمته، ومحل أنسه، وحضرة قدسه، وسماه إبليس إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة، وأنزله من السماء مذموماً مدحوراً إلى الأرض، فسأل الله النظرة إلى يوم البعث، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى (4)، وقال:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83]، وكما قال عز وجل عنه:{لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلَاّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62]، وهؤلاء هم المستثنون في قوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} [الإسراء: 65].

وإبليس واحد من الجن، وهو أبو الشياطين والمحرك لهم لفتنة الناس وإغوائهم، وقد ذكره الله في قصة امتناعه من السجود لآدم وذلك كقوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، وقد أطلق عليه القرآن اسم الشيطان في مواضع، منها قوله تعالى:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَاّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، وقوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء

(1) انظر: تفسير الطبري - الطبري ج (1)، ص (226)، ومختصر تفسير ابن كثير: 3/ 209، والمفردات - الأصفهاني، ص (60)، وانظر: شواهد في الإعجاز القرآني - د. عودة أبو عودة، ص (227).

(2)

تفسير الطبري (136): ص 1/ 111.

(3)

انظر: المعجم الوسيط ج (1)، ص (3).

(4)

مختصر تفسير ابن كثير: 3/ 209.

ص: 184

لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]، فالشيطان في هذه الآيات مراد به إبليس، لأن القرآن يتحدث عن قصة إغوائه لآدم وحواء عليهما السلام.

والذي يتأمل القرآن يرى أن إطلاق لفظ إبليس لم يرد إلا في معرض الحديث عن إباء إبليس من السجود لآدم، ولم يرد هذا الإطلاق خارج الحديث عن إبائه من السجود إلا في موضعين:

الأول: في سورة الشعراء وهو قوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 94 - 95]، وفي هذا الموضع يكون مراداً به جمع إبليس وجنوده من الجن والإنس في نار جهنم، باعتبار الرئيس والأتباع.

الثاني: في سورة سبأ في قوله تعالى {: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]، وهذا هو الموضع الوحيد الذي ورد فيه لفظ إبليس في معرض الحديث عن ممارسة غوايته وإفساده للناس.

قوله: (الرَّجِيمِ)، أي:" الملعون المشتوم"(1).

قال الطبري: " وكل مشتوم بقولٍ رديء أو سبٍّ فهو مَرْجُوم. وأصل الرجم الرَّميُ، بقول كان أو بفعل. ومن الرجم بالقول قول أبي إبراهيم لإبراهيم -صلوات الله عليه-:{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ} [سورة مريم: 46].

وقد يجوز أن يكون قِيل للشيطان «رجيم» ، لأن الله جل ثناؤه طرَده من سَمواته، ورجمه بالشُّهب الثَّواقِب" (2).

و(الرجيم): صفة للشيطان، وهو مفعول في معناه على وزن فعيل، وفي سبب تسميته بذلك أقوال (3):

أحدها: أنه سُمِّي بالرجيم، لأنه أتى إبراهيم عليه السلام وهاجر وإسماعيل في منى، فاستعطف إبراهيمَ حتى لا يذبح ولده، فقال: أعوذ بالله منك فرجمه، ثم استعطف هاجر على ولدها فقالت: أعوذ بالله منك فرجمته، ثم استعطف إسماعيل عليه السلام على نفسه، فقال: أعوذ بالله منك فرجمه"، فصار الرجم من مناسك الحج إلى يوم القيامة.

وعلى هذا القول فإن "الرجيم" بمعنى: المرجوم الملعون والملعون المطرود" (4)، وهو مذهب أهل التفسير، والملعون عند العرب: المطرود، إذا قالت العرب: لعن الله فلانا، فمعناه: طرده الله. وكذلك: على الكافر لعنة الله، فمعناه: عليه طرد الله، قال الشماخ (5):

وماء قد وردت لوصل أروى

عليه الطير كالورق اللجين

ذعرت به القطا ونفيت عنه

مقام الذئب كالرجل اللعين

معناه: كالرجل المطرود (6).

والثاني: وقيل: سُمِّي بالرجيم، لأنه يسترق السمع في السماء فترجُمُه الملائكة، قال سبحانه:{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18].

(1) تفسير الطبري: 1/ 112.

(2)

تفسير الطبري: 1/ 112.

(3)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 116.

(4)

النكت والعيون، الماوردي: 1/ 43.

(5)

ديوانه: 320.

(6)

انظر: الزاهر في معاني كلمات الناس: 1/ 58.

ص: 185

وعلى هذا القول فإن معنى الرجيم: أي: المرجوم بالنجوم؛ فصرف عن المرجوم إلى الرجيم، كما تقول العرب: طبيخ وقدير، والأصل: مطبوخ ومقدور؛ وكذلك: جريح وقتيل، أصلهما: مقتول ومجروح، فصرفا من مفعول إلى فعيل. قال امرؤ القيس (1):

فظل طهاة اللحم من بين منضج

صفيف شواء أو قدير معجل

أراد: مقدور معجل، فصرف عن مفعول إلى فعيل" (2).

والثالث: وقيل: رجيم بمعنى راجم، لأنه يرجم الناس بالوساوس (3).

والرابع: وقيل: أن الرجيم: المرجوم، أي المشئوم المسبوب (4)، فيكون من قول الله عز وجل {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46]، معناه: لأشتمنك ولأسبنك (5).

ومنه الحديث الذي يروى عن عبد الله بن مغفل أنه أوصى بنيه عند موته، فقال:"لا ترجموا قبري"(6)، فمعناه: لا تنوحوا عند قبري. أي: لا تقولوا عنده كلاما سيئا سمجا (7).

وقيل: وُصف الشيطان بذلك لأن أتباعه يرجمونه في النار، والرجم أصله الرمي بالحجارة، والشيطان مرجوم بالقول وبالفعل:

بالقول: بالسب والشتم والذم ويلحق به كل قول قبيح.

وبالفعل: أن رجمه الله أي طرده وأبعده من رحمته، ويرجم بالشهب كما قال تعالى {إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ} [6 ـ 10 الصافات].

قال ابن كثير: "والأول أشهر وأصح"(8).

وفي حكم (الإستعاذة) قولان:

أحدهما: أنها مستحبة: يرى أهل العلم بأن حكم الإستعاذة مستحبة قبل قراءة القرآن، قال الله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].

والثاني: أنها واجبة: وذلك، أخذًا بظاهر الأمر في الآية. عطاء بن أبي رباح، وابن حزم (9).

والصحيح أنها مستحبة، فلا يضر تركها في الصلاة عمداً أو نسيانياً، وهو قول جمهور العلماء (10).

قال الشافعي: " وكان بعضهم يتعوذ حين يفتتح قبل أم القرآن، وبذلك أقول، وأحبّ أن

يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، وإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وأي كلام استعاذ به، أجزأه، ويقوله في أول ركعة.

(1) ديوانه: 22.

(2)

الزاهر في معاني كلمات الناس: 1/ 57.

(3)

انظر: النكت والعيون: 1/ 43.

(4)

انظر: الزاهر في معاني كلمات الناس: 1/ 57، والنكت والعيون: 1/ 43.

(5)

انظر: الزاهر في معاني كلمات الناس: 1/ 57.

(6)

غريب الحديث 4/ 290 وفيه: (والمحدثون يقولون: لا ترجموا قبري، قال أبو عبيد: إنما هو: لا ترجموا). وكذا في الصحاح (رجم). وينظر: النهاية 2/ 205.

(7)

انظر: الزاهر في معاني كلمات الناس: 1/ 57.

(8)

تفسير ابن كثير: 1/ 116.

(9)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 116.

(10)

انظر: المغني: 2/ 145.

ص: 186

وقد قيل: إن قاله حين يفتتح كل ركعة قبل القراءة فحَسَن، ولا آمر به في

شيء من الصلاة، أمرتُ به في أول ركعة.

وإن تركه – [قول: الاستعاذة]- ناسياً أو جاهلاً أو عامداً، لم يكن عليه إعادة، ولا سجود سهو. وأكره له تركه عامداً، وأحب إذا تركه في أول ركعة أن يقوله في غيرها [من الركعات]، وإنَّما منعني أن آمره أن يعيد؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم علم رجلاً ما يكفيه في الصلاة فقال:"كبر ثم اقرأ بأم القرآن" الحديث (1).

قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولم يُروَ عنه أنه صلى الله عليه وسلم أمره بتعوذ ولا افتتاح. فدل على أن افتتاح رسول الله صلى الله عليه وسلم اختيار، وأن التعوذ مما لا يفسد الصلاة إن تركه" (2).

قال ابن كثير: "وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة، يأثم تاركها، وقال النووي: ثم إن التعوذ مستحب وليس بواجب، وهو مستحب لكل قارئ، سواء كان في الصلاة أو في غيرها"(3).

ويدل على عدم الوجوب:

أولا: حديث أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم "أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفاً سُورَةٌ فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عز وجل عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ "(4)، ولم يذكر الاستعاذة.

ثانيا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها الأعرابي حين علمه الصلاة (5).

قال الإمام الجصاص (6): "والاستعاذة ليست بفرض، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها الأعرابي حين علمه الصلاة، ولو كانت فرضًا لم يخله من تعليمها"(7)، وقال الإمام ابن الجزري رحمه الله (8) -:

(1) الحديث تمامه: عن رفاعة بن رافع الزرقي، قال:"وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: جاء رجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم، في المسجد، فصلى قريبا منه، ثم انصرف إليه، فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعد صلاتك، فإنك لم تصل، قال: فرجع فصلى نحوا مما صلى، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعد صلاتك، فإنك لم تصل، فقال: يا رسول الله، كيف أصنع؟ فقال: إذا استقبلت القبلة، فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن، ثم اقرأ بما شئت، فإذا ركعت، فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك، ومكن لركوعك، فإذا رفعت رأسك، فأقم صلبك، حتى ترجع العظام إلى مفاصلها، فإذا سجدت، فمكن لسجودك، فإذا رفعت رأسك، فاجلس على فخذك اليسرى، ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة". [أخرجه أحمد: (19206): ص 4/ 340، وأبو داود (857)، و (859)].

(2)

تفسير الإمام الشافعي: 1/ 186.

(3)

تفسير ابن كثير: 1/ 113.

(4)

أخرجه المسلم في الصلاة: 1/ 300.

(5)

أحكام القرآن للجصاص: 3/ 191. والحديث أخرجه البخاري (10): ص 1/ 207، 216، والمسلم (4): ص 1/ 298.

(6)

انظر: أحكام القرآن: 5/ 13.

(7)

يعني حديث المسيء صلاته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فصلى ثم جاء فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وعليك السلام، ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ)، فرجع فصلى ثم جاء فسلم، فقال:(وعليك السلام، فارجع فصل، فإنك لم تصل)، فقال في الثانية أو في التي بعدها: علمني يا رسول الله فقال: (إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)؛ صحيح رواه البخاري (5897)(5/ 2307)، (760)(1/ 274)، (724)(1/ 263)، (6290)(6/ 2455)، ومسلم (397)(1/ 298).

(8)

النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، 1/ 253.

ص: 187

وَاسْتُحِبَّ تَعَوُّذٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجِبْ

أخرج الطبري بسنده عن عبد الله بن عباس، قال: أول ما نزل جبريلُ على محمد قال: " يا محمد استعذ، قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم "، ثم قال: قل: " بسم الله الرحمن الرحيم "، ثم قال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]. قال عبد الله: وهي أول سورة أنزلها الله على محمد بلسان جبريل" (1).

وللإستعاذة مجموعة صيغ، منها:

الصيغة الأولى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

وعلى هذا اللفظ دل الكتاب والسنة. وسوف نسرد الأدلة في الترجيح.

الصيغة الثانية: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

يدل على هذا اللفظ، ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة في الليل، وفيه: ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم "(2).

كما استدل له بقوله - تعالى -: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]، وبقوله- تعالى-:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [فصلت: 46].

وهي اختيار طائفة من القراء (3) منهم حمزة (4)، وسهل بن أبي حاتم (5)، وهي مروية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (6) - وبها يقول الحسن البصري (7).

(1) تفسير الطبري (137): ص 1/ 113.

(2)

أخرجه أحمد (3): (50)، وأبو داود - في الصلاة - باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك - حديث 775، والترمذي- في أبواب الصلاة- باب ما يقول عند افتتاح الصلاة - حديث (242) - قال الترمذي «وحديث أبي سعيد أشهر حديث في هذا الباب» والنسائي في الصلاة - باب نوع آخر من الذكر بعد افتتاح الصلاة 2: 132، وابن ماجه في الإقامة الحديث (804). وصححه أحمد شاكر في تحقيق سنن الترمذي 11: 2، والألباني في «صحيح سنن أبي داود» حديث (701)، وحسنه الأرناؤوط في تحقيقه لزاد المعاد (1):(205). وقد أخرج هذا الحديث من حديث عائشة أبو داود - الحديث (776)، والترمذي - الحديث 243، وابن ماجه في الإقامة الحديث (806)، والدارقطني (1):(112)، والحاكم 1:(235) ورجاله ثقات فالحديث صحيح.

(3)

انظر: التبيان: 64.

(4)

انظر «الإقناع في القراءات» (1): (150) - (151)، «إغاثة اللهفان» 1:153.

(5)

انظر «غرائب القرآن» (1): (15)، «النشر» (1):(249).

(6)

أخرجها عن عمر ابن أبي شيبة - في الصلاة - التعوذ كيف هو (1): (237).

(7)

أخرجها عن الحسن عبد الرزاق - في الصلاة - متى يستعيذ، الأثر (2591)، ́ وابن حزم

في «المحلى» (3): (249).

ص: 188

ومحمد بن سيرين (1)، والحسن بن صالح (2)، والشافعي (3)، وأحمد بن حنبل، في رواية النيسابوري (4).

الصيغة الثالثة: أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه.

يدل على هذا اللفظ، ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر، ثم يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول:"أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه"(5).

الصيغة الرابعة: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه ونفخه ونفثه.

يدل على ما راوه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه ونفخه ونفثه"(6).

وهي مروية عن بعض أهل العلم، منهم الحسن البصري (7)، وإسحاق بن راهويه (8).

الصيغة الخامس: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم (9).

جمعًا بين أدلة الصيغة الأولى، وأدلة الصيغة الثانية والثالثة.

وبها قرأ نافع وابن عامر والكسائي (10)، وهي مروية عن حمزة وعن أبي عمرو (11) وقد رُويت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومحمد بن سيرين (12).

وهي اختيار سفيان الثوري (13)، والأوزاعي (14)، ومسلم بن يسار (15)، وأحمد في رواية، اختارها القاضي أبو يعلى، وابن عقيل (16).

(1) انظر: إغاثة اللهفان: 1/ 153.

(2)

المجموع: 3/ 325.

(3)

انظر «أحكام القرآن» للشافعي (1): (62)، «المجموع» 3:323.

(4)

انظر «مسائل الإمام أحمد» للنيسابوري ص 50 فقرة (238)، «المغني» (2):(146)، «إغاثة اللهفان» 1:153.

(5)

أخرجه أحمد (3): (50)، وأبو داود - في الصلاة - باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك - حديث 775، والترمذي- في أبواب الصلاة- باب ما يقول عند افتتاح الصلاة - حديث (242) - قال الترمذي «وحديث أبي سعيد أشهر حديث في هذا الباب» والنسائي في الصلاة - باب نوع آخر من الذكر بعد افتتاح الصلاة 2: 132، وابن ماجه في الإقامة الحديث (804). وصححه أحمد شاكر في تحقيق سنن الترمذي 11: 2، والألباني في «صحيح سنن أبي داود» حديث (701)، وحسنه الأرناؤوط في تحقيقه لزاد المعاد (1):(205). وقد أخرج هذا الحديث من حديث عائشة أبو داود - الحديث (776)، والترمذي - الحديث 243، وابن ماجه في الإقامة الحديث (806)، والدارقطني (1):(112)، والحاكم 1:(235) ورجاله ثقات فالحديث صحيح.

(6)

أخرجه ابن ماجه - في إقامة الصلاة- باب الاستعاذة في الصلاة - حديث (808)، وأبن خزيمة- في الصلاة- باب الاستعاذة في الصلاة قبل القراءة حديث (472). وصححه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» حديث (658). وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف - في الصلاة - التعوذ كيف هو (1):(238).

(7)

أخرجها عن الحسن عبد الرزاق في الصلاة- باب الاستعاذة في الصلاة، الأثر 2580.

(8)

انظر: إغاثة اللهفان: 1/ 154. وقد أخرج عبد الرزاق في الموضع السابق، الأثر 2577، وابن حزم في «المحلي» 249: 3 عن ابن عمر أنه كان يقول: «للهم أعوذ بك من الشيطان الرجيم».

(9)

انظر «غرائب القرآن» (1): (15)، «إغاثة اللهفان» (1):(154).

(10)

انظر «الإقناع في القراءات السبع» (1): (150)، «المبسوط» (1):(13).

(11)

انظر: النشر: 1/ 251.

(12)

انظر: النشر: 1/ 10.

(13)

انظر «التفسير الكبير» 1: (61)، «المجموع» 3: 335، «إغاثة اللهفان» (1):(154)، «تفسير ابن كثير» 1: 32، «النشر» 1:(250).

(14)

انظر «التفسير الكبير» 61: 1، «لباب التأويل» 1:(10)، «تفسير ابن كثير» 1:(32).

(15)

أخرجها عنه ابن أبي شيبة في المصنف في الصلاة- في التعوذ كيف هو (1): 237، وانظر «إغاثة اللهفان» (1):(154)، «النشر» (2)50.

(16)

انظر «المغني» (2): (146)، «إغاثة اللهفان» 152:154.

ص: 189

الصيغة السادسة: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم.

لما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" (1).

وهناك ألفاظ أخرى (2)، واللفظ الأول مقدم واختار هذه الصيغة أكثر العلماء، لثلاثة أسباب:

أحدها: لأنها الصيغة التي جاءت بالقرآن (3).

والثاني: وهو الذي ورد في السنة كما في حديث سليمان بن صُرد قال "اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ، مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ،

(1) أخرجه أبو داود في الصلاة - الحديث 441 وصححه الألباني. وانظر «النشر» 251: 1.

(2)

وهناك صيغ أخرى رويت عن بعض القراء، وبعض أهل العلم.

- منها: أعوذ بالله العظيم، من الشيطان الرجيم [ذكرها ابن الباذش في «لإقناع في القراءات السبع» 149: 1، وقال:«هي رواية أهل مصر عن ورش فيما ذكر الأهوازي» . وانظر «النشر» 249: ] ..

- ومنها: أعوذ بالله العظيم، السميع العليم، من الشيطان الرجيم [رواها هبيرة عن حفص فيما ذكر ابن الباذش في «الإقناع» 150: 1، وانظر «المبسوط» 13: 1].

- ومنها: أعوذ بالله العظيم، من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم. [انظر «النشر» 250: 1].

-ومنها: أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم [انظر «المجموع» 325: 3].

-ومنها: أستعيذ بالله، أو نستعيذ بالله، من الشيطان الرجيم [نسبت لحمزة الزيات ومحمد بن سيرين. انظر «المبسوط» 13: 1، «مجمع البيان» 18: 1، «غرائب القرآن» للنيسابوري 15: 1، وقد نفى ابن الجزري صحتها عن حمزة. انظر «النشر» 246: 1].

-ومنها: أعوذ بالله القوي، من الشيطان الغوي. [قال ابن الباذش في «الإقناع» 151: 1 «اختارها بعضهم لجميع القراء» ].

-ومنها: أعوذ بالله المجيد، من الشيطان المريد. [انظر «تفسير ابن عطية» 49: 1].

-ومنها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأستفتح الله وهو خير الفاتحين. [انظر «النشر» 251: 1].

-ومنها أعوذ بالله السميع، الرحمن الرحيم، من الشيطان الرجيم، وأعوذ بك رب أن يحضرون، أو يدخلوا بيتي الذي يؤويني. [أخرجها عبد الرازق عن عطاء- في الصلاة- باب الاستعاذة في الصلاة- حديث 2574].

-ومنها: رب أعوذ بك من همزات الشيطان، وأعوذ بك رب أن يحضرون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم [أخرجها عبد الرزاق - في الصلاة - باب الاستعاذة في الصلاة - حديث 2578 من طاووس].

-ومنها: أعوذ بالله السميع العليم من همزات الشياطين، وأعوذ بالله أن يحضرون. [أخرجها ابن أبي شيبة في الصلاة - في التعوذ كيف هو، 238: 1 عن محمد بن سيرين].

وهذه الصيغ وإن رويت عن بعض السلف، فإن أقل أحوالها الجواز، وما صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الأولى بالأتباع. [انظر: اللباب في تفسير الإستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب: 21].

(3)

الجامع لأحكام القرآن: 1/ 62

ص: 190

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " (1).

والثالث: أن هذه الصيغة هي المختارة عند أكثر القراء (2)، منهم: أبو عمرو البصري، وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وعبد الله ابن كثير المكي (3) وبها كان يتعوذ جمهور السلف من الصحابة والتابعين منهم: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر (4) رضي الله عنهما، وهي اختيار: أبي حنيفة (5)، والشافعي (6)، وأحمد بن حنبل (7) رحمهم الله.

قال ابن عطية: "وأما لفظ الاستعاذة، فالذي عليه جمهور الناس، هو لفظ كتاب الله تعالى (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) "(8).

قال مكي: " الذي عليه العمل وهو الاختيار أن يقول القراء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. للآية"(9).

ويُسَرُّ بالاستعاذة في الحالات الآتية:

1 -

عند القراءة سرًّا، سواء كان القاراء منفردا أم في مجلس.

وعند القراءة خاليًا، سواء أَقَرَأَ القارئ سرًّا أم جهرًا.

2 -

وفي الصلاة سريةً كانت أم جهرية.

3 -

وإن كان القارئ وسط قوم يتدارسون القرآن ولم يكن القارئُ المبتدئَ بالقراءة.

ويستحب الجهر بالاستعاذة إذا كان القارئ يقرأ جهرًا، وكان هناك من يستمع إليه، وفي حالة التعليم والمدارسة عندما يكون القارئ المبتدئَ بالقراءة (10).

وتشرع الاستعاذة في مواضع، منها:

1 -

عند قراءة القرآن:

قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].

2 -

عند حصول نزغ من الشيطان ووسوسة.

قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].

3 -

عند ما يوسوس الشيطان للمسلم في معتقده بربه.

(1) رواه البخاري (6115)، ومسلم (2610).

(2)

انظر: النشر: 1/ 243، واللباب في تفسير الإستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب:14.

(3)

انظر «المبسوط» 1: 13، «غرائب القرآن» للنيسابوري 1: 15، «مجمع البيان» 1: 18

(4)

أخرجها عن عمر- ابن أبي شيبة - في الصلاة - في التعوذ كيف هو قبل القراءة أو بعدها (1): (237)، والبيهقي في الصلاة، باب التعوذ بعد الافتتاح (2):36. وأخرجها عن عبد الله ابن عمر ابن أبي شيبة في الموضع نفسه.

(5)

انظر «فتح القدير» لابن الهمام 1: 291، «النشر» 1:(243).

(6)

انظر «الأم» 1: 107، «أحكام القرآن» للشافعي (1):(62)، «المهذب» للشيرازي ا:(79)، «التبيان» للنووي ص 64، «تفسير ابن كثير» 1:243.

(7)

انظر «المغني» (2): (146)، «إغاثة اللهفان» (1):(153)، «النشر» (1):(243).

(8)

تفسير ابن عطية: 1/ 55.

(9)

الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/ 8، وانظر أيضًا «التبصرة» لمكي ص 246، «الإقناع في القراءات السبع» 151:1.

(10)

انظر: البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة، عبدالفتاح القاضي، دار الكتاب العالمي:12.

ص: 191

لحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق اللهُ الخلقَ، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله"(1).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول: الله، - ثم ذكر بمثله - وزاد: " ورسله ".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له من خلق ربَّك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته ".

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي العبد الشيطان فيقول من خلق كذا وكذا؟ "(2).

4 -

ومنها: عند ما يُلبس الشيطان على الإنسان في صلاته.

لحديث عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا" قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي " (3).

5 -

ومنها: عند الغضب.

لحديث سليمان بن صُرد قال "اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ، مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " (4).

6 -

ومنها: عندما يرى الإنسان رؤيا يكرهها.

لحديث أبي قتادة. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلْمًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ "(5).

7 -

ومنها: عند نزول منزل.

لحديث خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ "(6).

8 -

ومنها: عند دخول الخلاء.

لحديث أنس "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء، قال: اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من الخُبُثِ"(7).

وأما الحكمة من الاستعاذة قبل القراءة، فنقول (8):

أولاً: أن القرآن شفاء لما في الصدور يُذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات.

(1) صحيح مسلم (134): ص 1/ 120.

(2)

الأحاديث رواها جميعا الامام مسلم: 134.

(3)

رواه مسلم: 2203.

(4)

رواه البخاري (6115)، ومسلم (2610).

(5)

رواه مسلم (2261).

(6)

رواه مسلم: (2708).

(7)

رواه البخاري (6322)، اللفظ له ومسلم:375.

(8)

انظر: إغاثة اللهفان: 1/ 107.

ص: 192

ثانياً: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع لقراءته، والشيطان ضد الملك وعدوه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه.

ثالثاً: أن الشيطان يُجلب بخيله ورجله على القارئ حتى يشغله عن المقصود بالقرآن.

رابعاً: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه.

الفوائد:

1 -

مشروعية الاستعاذة دائماً من الشيطان.

2 -

فيه دليل على أن الإنسان ينبغي أن يطلب العون من الله على الطاعة وعلى مجاهدة عدوه

3 -

وفيه دليل على اعتراف العبد بالعجز وقدرة الرب.

4 -

وفيه أنه لا وسيلة إلى القرب من الله إلا بالعجز والانكسار.

5 -

وفيه الإقرار بالفقر التام للعبد، والغنى التام لله سبحانه وتعالى.

القرآن

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} [الفاتحة: 1]

التفسير:

أبتدئ قراءة القرآن باسم الله مستعينا به، اللهِ علم على الرب تبارك وتعالى المعبود بحق دون سواه، وهو أخص أسماء الله تعالى، ولا يسمى به غيره سبحانه. الرَّحْمَنِ ذي الرحمة العامة الذي وسعت رحمته جميع الخلق، الرَّحِيمِ بالمؤمنين، وهما اسمان من أسمائه تعالى، يتضمنان إثبات صفة الرحمة لله تعالى كما يليق بجلاله.

قال الماوردي: " أجمعوا أنها من القرآن في سورة النمل، وإنما اختلفوا في إثباتها في فاتحة الكتاب، وفي أول كل سورة، فأثبتها الشافعي في طائفة (1)، ونفاها أبو حنيفة في آخرين"(2).

قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ} [الفاتحة: 1]، أي:" أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شيء"(3).

قال الثعلبي: " وفي الكلام إضمار واختصار تقديره: قل، أو ابدأ بسم الله"(4).

قال ابن عباس: " أوّل ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل: {بسم الله الرحمن الرحيم} ". قال ابن عباس: " {بسم الله}، يقول له جبريلُ: يا محمد، اقرأ بذكر الله ربِّك، وقم واقعد بذكر الله "(5).

واختُلِفَ في قوله تعالى: {بِسْم} [الفاتحة: 1]، على قولين (6):

القول الأول: أنها صلة زائدة، وأن الاسم هو المسمى، وإنما هو: اللهُ الرحمنُ الرحيمُ، قاله أبو عبيدة (7) وآخرون (8)، واستشهدوا بقول لبيد (9):

(1) قال الشافعي: " قال الشَّافِعِي: ثم بعد قول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) يقراً

مرتلا بأم القرآن ويبتدئها ب (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بأم القرآن وعدَّها - أي: البسملة - آية." [تفسير الإمام الشافعي: 1/ 192].

(2)

النكت والعيون: 47.

(3)

تفسير الطبري: 1/ 115.

(4)

تفسير الثعلبي: 1/ 92.

(5)

أخرجه الطبري (139): ص 1/ 117.

(6)

انظر: النكت والعيون: 47.

(7)

انظر: مجاز القرآن: 1/ 16.

(8)

منهم الثعلبي في تفسيره "الكشف والبيان" 1/ 92، وقرره أبو عبيدة في "مجاز القرآن" 1/ 16، والزجاج في "معاني القرآن" 1/ 2. وقد رد الطبري هذا القول كما سبق، كما رد عليه ابن جني في كتابه "الخصائص" حيث أبان في (باب في إضافة الاسم إلى المسمى، والمسمى إلى الاسم) قال: "فيه دليل نحوي غير مدفوع يدل على فساد قول من ذهب إلى أن الاسم هو المسمى". [الخصائص: 3/ 24].

(9)

ديوانه، القصيدة رقم: 21، والخزانة 2: 217، ثم يأتي في تفسير آية سورة التوبة: 90 (10: 144 بولاق)، وآية سورة الرعد: 35 (13: 109) والشعر يقوله لابنتيه، إذ قال: تَمَنَّى ابنتَايَ أن يعيشَ أبُوهما

وهَلْ أنا إلَاّ من ربيعة أو مُضَرْ!

ثم أمرهما بأمره فقال قبل بيت الشاهد: فقُومَا فقولا بالذي قد علمتُما

ولا تَخْمِشا وجْهًا ولا تَحْلِقا شَعَرْ

وقولا: هو المرءُ الّذي لا خليلَه

أَضاعَ، ولا خانَ الصديقَ، ولا غَدَرْ

فقوله " إلى الحول. . " أي افعلا ذلك إلى أن يحول الحول. والحول: السنة كاملة بأسرها. وقوله " اعتذر " هنا بمعنى أعذر: أي بلغ أقصى الغاية في العذر.

ص: 193

إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُما

وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقَدِ اعْتَذَرْ

فذكر اسم السلام زيادة، وإنما أراد: ثم السلام عليكما.

قال الثعلبي: " والدليل على أن الاسم عين المسمّى قوله تعالى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى} [مريم: 7]، فأخبر أنّ اسمه يحيى، ثمّ نادى الاسم وخاطبه فقال: {يا يَحْيى} [مريم 13]، فيحيى هو الاسم، والإسم هو يحيى، وقوله تعالى: {ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها} [يوسف: 48]، وأراد الأشخاص المعبودة لأنهم كانوا يعبدون المسمّيات، وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، و {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لتضربنّ مضر عباد الله حتّى لا يعبد له اسم" (1). أي حتى لا يعبد هو"(2).

واختلف من قال بهذا في معنى زيادته على قولين (3):

أحدهما: لإجلال ذكره وتعظيمه، ليقع الفرق به بين ذكره وذكر غيره من المخلوقين، وهذا قول قطرب.

والثاني: ليخرج به من حكم القسم إلى قصد التبرُّك، وهذا قول الأخفش.

والقول الثاني: وذهب الجمهور إلى أن (بسم) أصل مقصود، واختلفوا في معنى دخول الباء عليه، فهل دخلت على معنى الأمر أو على معنى الخبر على قولين:

أحدهما: دخلت على معنى الأمر وتقديره: ابدؤوا بسم الله الرحمن الرحيم. وهذا قول الفراء (4).

والثاني: على معنى الإخبار وتقديره: بدأت بسم الله الرحمن الرحيم. وهذا قولُ الزجَّاج (5).

والصحيح من القولين: أنه لا يقال: الاسم هو المسمى ولا غيره، بل قد يكون هو المسمى في موضع وغيره في موضع آخر.

وقد أوضح العلامة ابن أبي العزّ في شرح "العقيدة الطحاوية" المنهج الصحيح في هذا حيث، فقال: "قولهم: الاسم عين المسمى أو غيره؟ وطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه، فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله

(1) مجمع الزوائد: 7/ 313.

(2)

تفسير الثعلبي: 1/ 93.

(3)

انظر: النكت والعيون: 47.

(4)

نسبه إليه الماوردي في: النكت والعيون: 47، ولم أجد رأيه في معاني القرآن.

(5)

انظر: معاني القرآن: 1/ 39.

ص: 194

كذا، أو سمع الله لمن حمده، ونحو ذلك. فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحيم من أسماء الله تعالى ونحو ذلك، فالاسم ها هنا هو المراد لا المسمى، ولا يقال غيره، لما في لفظ الغير من الإجمال .. " (1).

وقد ذكر ابن عطية في "تفسيره" أن مالكا رحمه الله سئل عن الاسم أهو المسمى؟ فقال: "ليس به ولا غيره، قال ابن عطية: يريد دائما في كل موضع"(2).

و(الاسم): "كلمة تدل على المسمى دلالة إشارةٍ، والصفة كلمة تدل على الموصُوف دلالة إفادة، فإن جعلت الصفة اسماً، دلَّت على الأمرين: على الإشارة والإفادة"(3).

قال الماوردي: " وزعم قوم أن الاسم ذاتُ المسمى، واللفظ هو التسمية دون الاسم، وهذا فاسد، لأنه لو كان أسماءُ الذواتِ هي الذواتُ، لكان أسماءُ الأفعال هي الأفعال، وهذا ممتنع في الأفعال فامتنع في الذوات"(4).

واختلفوا في اشتقاق (الاسم) على وجهين (5):

أحدهما: أنه مشتق من السمة، وهي العلامة، لما في الاسم من تمييز المسمى، وهذا قول الفرَّاء (6).

والثاني: أنه مشتق من (السمو)، وهي الرفعة لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه من غيره، وهذا قول الخليل والزجَّاج (7).

وأنشد قول عمرو بن معدي كرب (8):

إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَمْراً فَدَعْهُ

وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ

وَصِلْهُ بِالدُّعَاءِ فَكُلُّ أَمْرٍ

سَمَا لَكَ أَوْ سَمَوْتَ لَهُ وُلُوعُ

ثم ذكروا في سبب اشتقاق (الاسم) من (السمو)، قولين (9):

أحدهما: أنه مشتق من السمو، لأنه يعلو المسمى، فالاسم: ما علا وظهر، فصار علما للدلالة على ما تحته من المعنى. قاله الزجاج (10).

والثاني: وقال بعضهم: العلة في اشتقاقه من السمو أن الكلام ثلاثة: اسم وفعل وحرف، فالاسم يصح أن يكون خبرا ويخبر عنه، والفعل يكون خبرا ولا يخبر عنه، والحرف لا يكون خبرا ولا

(1) شرح الطحاوية" ص 82.

(2)

المحرر الوجيز: 1/ 63.

(3)

النكت والعيون: 1/ 48.

(4)

النكت والعيون: 1/ 48.

(5)

انظر: النكت والعيون: 48 - 49، ومعاني القرآن" للزجاج 1/ 240، "تفسير ابن عطية" 1/ 84، "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص 4، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 32، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 6.

(6)

حكاه عنه الماوردي: 1/ 49، ولم اجده في معاني القرآن.

(7)

انظر: معاني القرآن: 1/ 40.

(8)

انظر: النكت والعيون: 1/ 49، وتاج العروس: 21/ 159، والعين: 1/ 368، البيت الأول فقط، ولم ينسبه.

(9)

انظر: ومعاني القرآن" للزجاج 1/ 240، والمحرر الوجيز: 1/ 84، ، والتفسير البسيط: 1/ 440، والإنصاف في مسائل الخلاف" ص 4، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 32، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 6.

(10)

انظر: معاني القرآن: 1/ 40 ن والإنصاف: 5.

ص: 195

يخبر عنه، فلما كان للاسم مزية على النوعين الآخرين وجب أن يشتق مما ينبئ عن هذِه المزية، فاشتق من السمو ليدل على علوه وارتفاعه (1).

قال الواحدي: "وعند المتكلمين أنه اشتق من (السمو)؛ لأنه سما عن حد العدم إلى الوجود (2)، وقالوا: أصله (سِمْو)، [أو ((سُمو) بالضم] وجمعه (أسماء) مثل قنو وأقناء، وحنو وأحناء فحذفت الواو استثقالًا، ولم تحذف من نظائره؛ لأنها لم تكثر كثرته، ثم سكنوا السين استخفافًا لكثرة ما تجري على لسانهم، واجتلبت ألف الوصل ليمكن الابتداء به، وكان هذا أخف عليهم من ترك الحرف متحركا، لأن الألف تسقط في الإدراج، وكان إثبات الحرف الذي يسقط كثيرا أخف من حركة السين التي تلزم أبدا"(3).

قال الماوردي: " وحُذِفت ألف الوصل، بالإلصاق في اللفظ والخط، لكثرة الاستعمال كما حُذفت من الرحمن، ولم تحذف من الخط في قوله: {إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذَّي خَلَقَ} [العلق: آية 1] لقلَّة استعماله "(4).

وتكلف من رَاعَى معاني الحروف ببسم الله تأويلاً، أجرى عليه أحكام الحروف المعنوية، حتى صار مقصوداً عند ذكر الله في كل تسمية، ولهم فيه ثلاثة أقاويل (5):

أحدها: أن الباء بهاؤه وبركته، وبره وبصيرته، والسين سناؤه وسموُّه وسيادته، والميم مجده ومملكته ومَنُّه، وهذا قول الكلبي (6)، والضحاك (7).

قال ابن كثير: " هذا غريب جدا"(8).

والثاني: أن الباء بريء من الأولاد، والسين سميع الأصوات والميم مجيب الدعوات، وهذا قول سليمان بن يسار.

والثالث: أن الباء بارئ الخلق، والسين ساتر العيوب، والميم المنان، وهذا قول أبي روق.

قال الماوردي: " ولو أن هذا الاستنباط يحكي عمَّن يُقْتدى به في علم التفسير لرغب عن ذكره، لخروجه عما اختص الله تعالى به من أسمائه، لكن قاله متبوع فذكرتُهُ مَعَ بُعْدِهِ حاكياً، لا محققاً ليكون الكتاب جامعاً لما قيل"(9).

ويقال لمن قال: بسم الله: بَسْمَلَ، على لُغَةٍ مُوَلَّدَةٍ (10)، وقد جاءت في الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة (11):

لَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلَى غَدَاةَ لَقِيتُهَا

فَيَا حَبَّذا ذَاكَ الْحَبِيبُ المُبَسْمِلُ

(1) انظر: "الإيضاح في علل النحو" ص 49، "الإنصاف" ص 6.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 92، والتفسير البسيط: 1/ 440.

(3)

التفسير البسيط: 1/ 440، وانظر: انظر: "المقتضب" 1/ 229، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 6، اشتقاق أسماء الله" ص 256، 257، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 117، "الكشاف" 1/ 34، قال الزمخشري:(ومنهم من لم يزدها، أي: الألف، واستغنى عنها بتحريك الساكن فقال: (سم) و (سم).

(4)

النكت والعيون: 1/ 48.

(5)

انظر: النكت والعيون: 49 - 50، وتفسير الثعلبي: 1/ 94 - 95.

(6)

انظر: النكت والعيون: 49 - 50، وتفسير الثعلبي: 1/ 94 - 95.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2): ص 1/ 25.

(8)

تفسير ابن كثير: 1/ 33.

(9)

انظر: النكت والعيون: 1/ 50.

(10)

انظر: الزاهر في معاني كلمات الناس: 1/ 10.

(11)

ديوانه: 498.

ص: 196

وأما قوله: {الله} ، فهو أخص أسمائه به، لأنه لم يتسَمَّ باسمه الذي هو (الله) غيره.

وحُكي عن أبي حنيفة أنه الاسم الأعظم من أسمائه تعالى، لأن غيره لا يشاركه فيه (1).

واختلفوا في هذا الاسم {الله} ، هل هو اسم عَلَمٍ للذات أو اسم مُشْتَقٌّ من صفةٍ، على قولين (2):

أحدهما: أنه اسم علم لذاته، غير مشتق من صفاته، لأن أسماء الصفات تكون تابعة لأسماء الذات، فلم يكن بُدٌّ من أن يختص باسم ذاتٍ، يكون علماً لتكون أسماء الصفات والنعوت تبعاً، تفرد به الباري سبحانه وتعالى، يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام، لا يشركه فيه أحد، قال الله عز وجل:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]. وهذا مذهب الخليل (3)، وابن كيسان (4)، وأبي بكر القفال (5)، والحسين بن الفضل (6)(7).

والقول الثاني: أنه مشتق من (أَلَهَ)، صار باشتقاقه عند حذف همزِهِ، وتفخيم لفظه الله.

أخرج ابن ابي حاتم بسنده عن أبي الشعثاء جابر بن زيد في قوله: {بسم الله} ، قال: اسم الله الأعظم هو «الله» . ألا ترى أنه في جميع القرآن يبدأ به قبل كل اسم" (8).

واختلفوا فيما اشْتُقَ منه إله على قولين (9):

أحدهما: أنه مشتق من الَولَه، وفي سبب اشتقاقه من ذلك، أقوال:

أحدها: لأن العباد يألهون إليه، أي يفزعون إليه في أمورهم، فقيل للمألوه إليه:(إله)، كما قيل للمؤتمِّ به:(إمام).

(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 50.

(2)

انظر: النكت والعيون: 1/ 50 - 51، واشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص 25، "الخزانة" 2/ 266، 267، والكتاب" 3/ 498، والإغفال" ص 26، والمخصص" 17/ 143، والمسائل الحلبيات" للفارسي ص 101، والمسائل البصريات" للفارسي 2/ 909.

(3)

هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، البصري، صاحب العربية والعروض (100 - 175 هـ). انظر ترجمته في:"معجم الأدباء" 3/ 300، "طبقات النحويين واللغويين" للزبيدي ص 47، "إنباه الرواة" 1/ 376، "وفيات الأعيان" 2/ 244، ومقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 32، "إشارة التعيين" ص 114.

(4)

هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن كيسان، النحوي، كان يجمع بين المذهبين البصري والكوفي، وإلى مذهب البصريين أميل، توفي سنة تسع وتسعين ومائتين.

انظر ترجمته في "طبقات النحويين" للزبيدي ص 139، "تاريخ بغداد" 1/ 335، "إنباه الرواة" 3/ 57.

(5)

هو محمد بن علي بن إسماعيل، أبو بكر الشاشي القفال، أحد أعلام المذهب الشافعي، يتكرر ذكره في التفسير والحديث والأصول والكلام، توفي سنة خمس وستين وثلاثمائة على الصحيح.

انظر ترجمته في "الأنساب" 7/ 244، "وفيات الأعيان" 4/ 200، "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة 1/ 148.

(6)

الحسين بن الفضل، هو أبو علي الحسين بن الفضل بن عمير البجَلِي الكوفي ثم النيسابوري، المفسر، توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين.

انظر ترجمته في: "العبر" 1/ 406، "طبقات المفسرين" للداودي 1/ 159.

(7)

انظر: "تفسير أسماء الله" للزجاجي، اشتقاق اسماء الله" للزجاجي: ص 28، وتفسير الثعلبي" 1/ 92، والزينة" 2/ 12.

(8)

تفسير ابن أبي حاتم (3): ص 1/ 25.

(9)

انظر: النكت والعيون: 1/ 51.

ص: 197

قال أبو الهيثم: " وأصل (إلاه) (ولاه) فقلبت الواو همزة، كما قالوا: للوشاح: إشاح، ولِلْوِجَاح: إِجَاح، ومعنى وِلاه: أن الخلق يَوْلَهون إليه في حوائجهم، ويضرعون إليه فيما ينوبهم، ويفزعون إليه في كل ما يصيبهم كما يَوْلَه كل طفل إلى أمه"(1).

والثاني: وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه مشتق من: أَلِهْت في الشيء آلَهُ إلها إذا تحيرت فيه (2)، وتسمى المفازة ميلها، وقال الأعشى (3) (4):

وَبَهْمَاءَ تِيهٍ تَأْلهَ العَيْنُ وَسْطَهَا

وَتَلْقَى بِهَا بَيْضَ النَّعَام تَرَائِكَا

ومعناه: أن العقول تتحير في كنه صفته وعظمته (5).

والثالث: وقال المبرّد: "هو من قول العرب: (ألهت إلى فلان) أي سكنت إليه، قال الشاعر (6):

أَلَهْتُ إِلَيْهَا وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ

وقال الشَّاعِرُ (7):

أَلَهْتُ إِلَيْهَا وَالرَّكَائِبُ وُقَّفٌ

فكأن الخلق يسكنون إليه ويطمئنون بذكره، قال الله تعالى:{أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] " (8).

والرابع: وعند الأشاعرة: "أن (الإله) من (الإلَهية)، و (الإلَهِية): القدرة على اختراع الأعيان (9).

والخامس: وقال الحسن علي بن عبد الرحيم القناد: " من (الوله)، وهو ذهاب العقل لفقدان من يعزّ عليك، وأصله (أله) - بالهمزة- فأبدل من الألف واو فقيل الوله، مثل (إشاح، ووشاح) و (وكاف، وإكاف) و (أرّخت الكتاب، وورّخته) و (ووقّتت، وأقّتت). قال الكميت (10):

ولهت نفسي الطروب إليهم

ولها حال دون طعم الطعام

فكأنه سمّي بذلك لأن القلوب تولّه لمحبّته وتضطرب وتشتاق عند ذكره" (11).

(1)"التهذيب"(الله والإله) 1/ 189، وانظر:"اللسان"(أله) 1/ 114.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 97.

(3)

هو أبو بَصير، ميمون بن قيس، من فحول شعراء الجاهلية، ويدعى (الأعشى الكبير) تمييزًا له عن غيره ممن سمي (الأعشى)، أدرك الإسلام آخر عمره، وعزم على الدخول فيه، فصدته قريش في قصة مشهورة. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 154، "معاهد التنصيص" 1/ 196، "خزانة الأدب" 1/ 175.

(4)

البيت في وصف صحراء مطموسة المعالم، (ترائكا) متروكة، ورواية الشطر الأول في الديوان: وَيَهْمَاءَ قَفْرٍ تَخْرُجْ العَيْنَ وَسْطَهَا. وعليه فلا شاهد في البيت هنا. (الديوان) ص 130، والثعلبي بعد أن ذكر قول أبي عمرو ابن العلاء استشهد بقول زهير:

وَبَيْدَاء تِيهٍ تَألْهُ العَيْنُ وَسْطَهَا

مُخَفَّقةٍ غَبْرَاءَ صَرْمَاءَ سَمْلَقِ

انظر: تفسير الثعلبي 1/ 97، وكذا في "الزينة" 2/ 19.

(5)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 97، والتفسير البسيط: 1/ 453.

(6)

ذكره ابن منظور في اللسان (أله): ص 13/ 469، والثعلبي في تفسير: 1/ 97، والبغوي: 1/ 71. ولم ينسبه احدهم.

(7)

اللسان (أله): ص 13/ 469، وتفسير البغوي: 1/ 71.

(8)

تفسير الثعلبي: 1/ 97.

(9)

هذا التفسير لمعنى الإلَهية هو منهج المتكلمين، وعند أهل السنة هو المستحق للعبادة. قال ابن تيمية:(وليس المراد بـ) بالإله (هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين .. بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبده فهو إله بمعنى مألوه لا إله بمعنى آله .. )، "الرسالة التدمرية" ص 186.

(10)

البيت في اللسان: 13/ 561، وتفسير الثعلبي: 1/ 98.

(11)

تفسير الثعلبي: 1/ 97 - 98.

ص: 198

والسادس: وقيل: معناه: محتجب لأن العرب إذا عرفت شيئا، ثم حجب عن أبصارها سمّته إلها، قال: لاهت العروس تلوه لوها، إذ حجبت. قال الشاعر (1):

لاهت فما عرفت يوما بخارجة

يا ليتها خرجت حتّى رأيناها

والله تعالى هو الظاهر بالربوبيّة [بالدلائل والأعلام] وهو المحتجب من جهة الكيفيّة عن الأوهام (2).

والسابع: وقيل: معناه المتعالي، يقال:(لاه) أي: ارتفع (3).

والثامن: وقد قيل: من [إلا هتك]، فهو كما قال الشاعر (4):

تروّحنا من اللعباء قصرا (5)

وأعجلنا الألاهة أن تؤوبا (6)

والتاسع: وقيل: هو مأخوذ من قول العرب: ألهت بالمكان، إذا أقمت فيه، قال الشاعر:

ألهنا بدار ما تبين رسومها

كأن بقاياها وشام على اليد

فكأن معناه: الدائم الثابت الباقي (7).

والقول الثاني: أن لفظ الجلالة (الله) مشتق من (الألوهية)، وهي العبادة، من قولهم: فلان يتألَّه، أي يتعبد.

قال أبو زيد (8): "تَأله الرجل، إذا نسك"(9)، وأنشد (10):

لِلَّهِ دَرُّ الْغَانِيَاتِ المُدَّهِ

لَمَّا رَأَيْنَ خَلِقَ الْمُمَوَّهِ

سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألهِي

أي من تعبد (11).

وقد رُوي عن ابن عباس أنه قرأ: {وَيَذَرَكَ وءالِهَتَكَ} ، قال:"معناه: عبادتك"(12). وروي عن مجاهد مثل ذلك (13).

(1) تفسير الثعلبي: 1/ 98، وتفسير القرطبي: 17/ 101.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 98.

(3)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 98.

(4)

تفسير الطبري: 9/ 35، وتفسير الثعلبي: 1/ 98، ولسان العرب: 1/ 219.

(5)

في اللسان: عصرا.

(6)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 98.

(7)

انظر: تاج العروس: 9/ 375، وتفسير الثعلبي: 1/ 98.

(8)

هو سعيد بن أوس بن ثابت، أبو زيد الأنصاري، صاحب النحو واللغة، مات سنة خمس عشرة ومائتين.

انظر ترجمته في مقدمة "تهذيب اللغة" 1/ 34 - 35، "تاريخ بغداد" 9/ 77، "طبقات النحويين واللغويين" ص 165، "إنباه الرواة" 2/ 30.

(9)

الإغفال: 6، والمخصص: 17/ 136.

(10)

البيت لرؤبة، انظر: ديوانه: 165، (المُدَّه) جمع مَادِه، بمعنى المادح، يقول: إن هؤلاء سبحن: وقلن إنا لله وإنا إليه راجعون، يقلنها حسرة كيف تنسك وهجر الدنيا.

ورد البيت في "الطبري" 1/ 54، "الإغفال" ص 6، "المخصص" 17/ 136، "المحتسب" 1/ 256، "تفسير أسماء الله" للزجاج ص 26، "اشتقاق أسماء الله" ص 24، "التهذيب"(الله) 1/ 189، "شرح المفصل" 1/ 3، "زاد المسير" 1/ 9، وابن عطية 1/ 57.

(11)

انظر: المخصص: 17/ 136، واللسان (أله): ص 13/ 469.

(12)

أخرجه الطبري عن ابن عباس ومجاهد، من طرق، 1/ 84، 9/ 25 - 26، وذكره ابن خالويه في "الشواذ" ص 50، وابن جني في "المحتسب" وعزاه كذلك إلى علي وابن مسعود وأنس بن مالك وعلقمة الجحدري والتيمي وأبي طالوت وأبي رجاء، 1/ 256، والفارسي في "الإغفال" ص 5، وانظر:"المخصص" 17/ 136، "تفسير الماوردي" 2/ 248، "تهذيب اللغة"(الله) 1/ 190، "البحر" 4/ 367.

(13)

انظر: تفسير الطبري (144): ص 1/ 124.

ص: 199

وروي عن ابن عباس أيضا، قال:" الله: ذو الألوهية والمَعْبودية على خلقه أجمعين"(1).

وعن ابن عباس كذلك: " {وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَك}، قال: إنما كان فرعونُ يُعبَد ولا يَعبُد"(2).

قال الطبري: "وكذلك كان عبدُ الله يقرؤها ومجاهد"(3).

وقد سَمَّت العرب الشمس لما عبدت (إِلاهَةَ)، و (الإلاهة) قال عتيبة بن الحارث اليربوعي (4):

تَرَوَّحْنَا مِنَ اللعْبَاءِ أَرْضًا

وأَعْجَلْنَا الإلاهَةَ أَنْ تَؤُوبَا

وإنما سموها (الإلاهَة)، على نحو تعظيمهم لها وعبادتهم إياها كفرا، وعلى ذلك نهاهم الله وأمرهم بالتوجه في العبادة إليه في قوله جل وعلا:{لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ} [فصلت: 37][فصلت: 37] الآية، وكذلك أيضًا كانوا يدعون معبوداتهم من الأصنام والأوثان (آلهة)، وهي جمع (إلاه) كإزار وآزرة، وإناء وآنية، قال الله تعالى:{وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، وهي أصنام كان يعبدها قوم فرعون معه، وعلى هذا قال قائلهم (5):

كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبِي رِيَاحٍ

يَسْمَعُهَا لاهُهُ الكُبارُ

يريد: الصنم، وهذا البيت حجة لمن يقول يأن أصل (الله) من (لاه).

ثم اختلفوا، هل اشتق اسم (الإله) من فعل العبادة، أو من استحقاقها، على قولين (6):

أحدهما: أنه مشتق من فعل العبادة، فعلى هذا، لا يكون ذلك صفة لازمة قديمة لذاته، لحدوث عبادته بعد خلق خلقه، ومن قال بهذا، منع من أن يكون الله تعالى إلهاً لم يزل، لأنه قد كان قبل خلقه غير معبود.

والقول الثاني: أنه مشتق من استحقاق العبادة، فعلى هذا يكون ذلك صفة لازمة لذاته، لأنه لم يزل مستحقّاً للعبادة، فلم يزل إلهاً (7).

(1) تفسير الطبري (141): ص 1/ 123.

(2)

تفسير الطبري (143): ص 1/ 124.

(3)

تفسير الطبري: 1/ 124.

(4)

نسبه الطبري لبنت عتيبة 9/ 26، ونسبه بعضهم لـ (مية) وهو اسمها وكذا (أم البنين) وقيل: لنائحة عتيبة، والأقرب أنه لبنت عتيبة ترثي أباها حين قتله (بنو أسد) يوم (خَوّ) مع أبيات أخرى ذكرها في "معجم البلدان" 5/ 18.

(5)

من قصيدة للأعشى، قالها فيما كان بينه وبين بني جحدر، و (أبو رياح) رجل من بني ضبيعة، قتل جارا لبني سعد بن ثعلبة، فسألوه الدية، فحلف لا يفعل، ثم قُتِل بعد حلفته، و (لاهه): الهه، (الكبار): العظيم، ويروى (بحلفة) ويروى (كدعوة).

انظر: "ديوان الأعشى" ص 72، "الجمهرة" 1/ 327، "اشتقاق أسماء الله" ص 27، "تفسير الثعلبي" 1/ 17 ب، "الزينة" 2/ 18، "معاني القرآن" للفراء 1/ 207، والقرطبي 4/ 53، "اللسان:(لوه) 13/ 539، و (أله): 13/ 469، وشرح المفصل" 1/ 3، "الخزانة" 7/ 176.

(6)

انظر: النكت والعيون: 1/ 51، والإغفال" ص 5، "المخصص" 17/ 136، وتفسير الثعلبي: 1/ 92 - 93، وتفسير أسماء الله" ص 26، "اشتقاق أسماء الله" ص 3023، "تهذيب اللغة"(الله) 1/ 189.

(7)

انظر: "الإغفال" ص 5، "المخصص" 17/ 136، وتفسير الثعلبي: 1/ 92 - 93، "تفسير أسماء الله" ص 26، "اشتقاق أسماء الله" ص 3023، "تهذيب اللغة"(الله) 1/ 189.

ص: 200

قال الماوردي: " وهذا أصح القولين، لأنه لو كان مشتقّاً من فعل العبادة لا من استحقاقها، للزم تسمية عيسى عليه السلام إلهاً، لعبادة النصارى له، وتسمية الأصنام آلهة، لعبادة أهلها لها، وفي بطلان هذا دليل، على اشتقاقه من استحقاق العبادة، لا من فعلها، فصار قولنا (إله) على هذا القول صفة من صفات الذات، وعلى القول الأول من صفات الفعل"(1).

قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ} [الفاتحة: 1]، أي:" ذي الرحمة العامة الذي وسعت رحمته جميع الخلق"(2).

قال ابن عباس: " الرحمن: الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب

«الرحمن» : الرقيق الرفيق لمن أحب أن يرحمه" (3).

وعن ابن عباس أيضا، "أن عثمان بن عفان سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن «بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال: هو اسم من أسماء الله، وما بينه وبين اسم «الله» إلا كما بين سواد العينين وبياضهما من القرب"(4).

وروي عن الحسن قال: " الرحمن: اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، تسمى به تبارك وتعالى"(5).

وعن أبي سعيد الخدريّ، قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رَحمنُ الآخرة والدنيا» "(6).

وقال العَرْزَمي: "الرحمن: بجميع الخلق "(7).

قوله تعالى: {الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]، أي:"الرحيم بالمؤمنين"(8).

قال ابن عباس: " الرحيم: البعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه العذاب"(9).

وقال العَرْزَمي: " الرّحيم: بالمؤمنين "(10).

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرحيم: رحيمُ الآخرة» " (11).

وأخرج البهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"الرحمن: وهو الرقيق ، الرحيم: وهو العاطف على خلقه بالرزق ، وهما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر"(12).

قال الطبري: " أنّ المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن، دون الذي في تسميته بالرحيم: هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميعَ خلقه، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعضَ خلقه، إما في كل الأحوال، وإما في بعض الأحوال. فلا شك - إذا كان

(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 51.

(2)

التفسير الميسر: 1.

(3)

تفسير ابن أبي حاتم (4): ص 1/ 25.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (5): ص 1/ 25.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (7): ص 1/ 26.

(6)

أخرجه الطبري (147): ص 1/ 127.

(7)

أخرجه الطبري (146): ص 1/ 127.

(8)

التفسير الميسر: 1.

(9)

أخرجه ابن أبي حاتم (6): ص 1/ 26.

(10)

أخرجه الطبري (146): ص 1/ 127.

(11)

أخرجه الطبري (147): ص 1/ 127.

(12)

الأسماء والصفات للبيهقي (82): ص 1/ 139.

ص: 201

ذلك كذلك - أنّ ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه، في الدنيا كان ذلك أو في الآخرة، أو فيهما جميعًا" (1).

وقال عطاء الخراساني: ": كان الرحمن، فلما اختزلَ الرحمن من اسمه كان الرحمنَ الرحيمَ"(2).

أراد عطاء أنه لما تسمَّى به الكذابُ مسيلمة - وهو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه - أخبر الله جلّ ثناؤه أن اسمه " الرحمنُ الرحيمُ " ليفصِل بذلك لعباده اسمَهُ من اسم من قد تسمَّى بأسمائه، إذ كان لا يسمَّى أحد " الرحمن الرحيم "، فيجمع له هذان الاسمان، غيره جلّ ذكره. وإنما يتسمَّى بعضُ خَلْقه إما رحيما، أو يتسمَّى رَحمن. فأما " رحمن رحيم "، فلم يجتمعا قطّ لأحد سواهُ، ولا يجمعان لأحد غيره، فكأنّ معنى قول عطاء هذا: أن الله جل ثناؤه إنما فَصَل بتكرير الرحيم على الرحمن، بين اسمه واسم غيره من خلقِه، اختلف معناهما أو اتفقا.

والذي قال عطاءٌ من ذلك غيرُ فاسد المعنى، بل جائز أن يكون جلّ ثناؤه خصّ نفسه بالتسمية بهما معًا مجتمعين، إبانةً لها من خلقه، ليعرف عبادُه بذكرهما مجموعينِ أنه المقصود بذكرهما دون مَنْ سواه من خلقه، مع مَا في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما (3).

الفوائد:

1 -

إثبات اسم من أسماء الله وهو الرحمن المتضمن للرحمة الواسعة: كما قال تعالى {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147].

وقال تعالى {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف: 58]، وقال تعالى:{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].

2 -

رحمته سبقت غضبه: كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي"(4).

3 -

والله أرحم بعباده من الأم بولدها. كما في حديث عمر أنه قال: "قُدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى، إذْ وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟ ، قلنا: لا والله، فقال: (الله أرحم بعباده من هذه بولدها"(5).

4 -

وقد ذهب أكثر العلماء إلى استحبابها قبل الأقوال والأفعال، فبِها بدأ الله كلامه، وكان يبدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أكله وشربه وجِماعه ودخوله إلى الخلاء ودخوله إلى البيت وخروجه منه، وغير ذلك.

(1) تفسير الطبري: 1/ 128.

(2)

أخرجه الطبري (149): ص 1/ 130.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 130.

(4)

رواه البخاري: كتاب التوحيد: (6872).

(5)

أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، رقم:(5999)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، رقم:(2754).

ص: 202

قال الطبري: "إن الله تعالى ذكره وتقدَّست أسماؤه أدّب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديمَ ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدَّم إليه في وَصفه بها قبل جميع مُهمَّاته، وجعل ما أدّبه به من ذلك وعلَّمه إياه، منه لجميع خلقه سُنَّةً يستَنُّون بها، وسبيلا يتَّبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل: " بسم الله "، على من بطن من مراده الذي هو محذوف"(1).

5 -

واتفق العلماء أنها جزء آية من سورة النمل: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 29 - 30]، وأنها ليست في أول سورة التوبة التي فُضح فيها المنافقون ووُعدوا فيها بأشد العذاب، فلا يليق أن تُبدأ برحمة الله.

6 -

ومنها أن لفظ الجلالة {الله} : اسم الله رب العالمين لا يسمى به غيره؛ وهو أصل الأسماء؛ ولهذا تأتي الأسماء تابعة له، قد ورد في اسم الله الأعظم من الأحاديث والآثار والأقوال، نذطر منها (2):

1 -

لاوجود لاسم الله الأعظم لأن اسماءه تعالى كلها عظيمة:

يرى البعض أنه لا وجود لاسم الله الأعظم، بمعنى أن أسماء الله تعالى كلها عظيمة لا يجوز تفضيل بعضها على بعض، ذهب إلى ذلك قوم منهم أبو جعفر الطبري (3) وأبو الحسن الأشعري وأبو حاتم [بن حبان (4) والقاضي أبو بكر الباقلاني، ونحوه قول مالك وغيره، لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض وحمل هؤلاء ما ورد من ذكر الاسم الأعظم على أن المراد به العظيم (5)، وعبارة الطبري اختلفت الآثار في تعيين الاسم الأعظم.

ويرى الامام السيوطي أن الأقوال كلها صحيحة إذ لم يرد في خبر منها أنه الاسم الأعظم ولا شيء أعظم منه فكأنه تعالى يقول [كل اسم من أسمائي يجوز وصفه بكونه أعظم فيرجع إلى معنى عظيم (6).

وقال ابن حبان: الأعظمية الواردة في الأخبار المراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك كما أطلق ذلك في القرآن والمراد به مزيد ثواب الداعي والقارئ (7).

(1) تفسير الطبري: 1/ 114.

(2)

انظر: للفتاوى للسيوطي 394/ 1.

(3)

أبو جعفر الطبري هومحمد بن جرير الطبري ولد سنة 225 هـ وتوفي 310 هـ (انظر طبقات المفسرين ص 30).

(4)

وابن حبان: محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي الحافظ العلامة صاحب المسند الصحيح توفي 354 (الوافي بالوفيات 1/ 278)، وهي إحدي الروايات.

(5)

قال المناوي: قيل الاسم الأعظم بمعني العظيم، وليس أفعل التفضيل؛ لان كل اسم من أسمائه عظيم، وليس بعضها أعظم من بعض وقيل هو للتفضيل، لأن كل اسم فيه أكثر تعظيماً لله فهو أعظم من الرب فإنه لا شريك له في تسميته به لا بالإضافة ولابدونها وأما الرب فيضاف للمخلوق) فيض القدير 1/ 510 رقم 1031، تفسير بن كثير 1/ 11 وانظر علوم القران للزركشي 1/ 438 وايثار الحق: 329 ٍ.

(6)

أنظر: فيض القدير 1/ 510 والسر القدسي في تفسير آية الكرسي (خطوط) وانظر المقصد الاسني للغزالي ص 169 والثابت عند استقراء الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلي مجموعة من الأسماء الحسني أنها متعينة لتكون اسم الله الأعظم ومن قرأ هذه المخطوطة تأكد له ذلك وأكثر هذه الأحاديث صحيحة فكيف يقول السيوطي بعد ذلك، (غذ لم يرد في خبر منها أنه الاسم الأعظم) ويؤكد علي أنها التساوي في العظمة.

(7)

انظر فيض القدير 1/ 510، البرهان في علوم القران 1/ 438، وشرح صحيح مسلم 6/ 93 ونقل عن ابن حبان قوله: أعظم سورة أراد به في الأجر لا أن بعض القرآن أفضل من بعض) البرهان في علوم القران 1/ 438 وأجود من هذا ما قاله الزركشي من أن التفاضل واقع بين الآيات والسور والأسماء لنا تضمنته من المعاني

(فالتفضيل إنما هو بالمعاني وكثرتها؛ لا من حيث الصفة وهذا هو الحق) البرهان في علوم القرآن 1/ 439 ونقل بن العربي التفضيل•إنما صارت آية الكرسي عظم لعظم مقتضاها فإن الشيء إنما بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته البرهان 1/ 442 وانظر مجموع الفتاوى 17/ 1067 وشفاء العليل ص 584

ص: 203

2 -

لم يطلع عليه أحد:

ويرى آخرون أنه مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه كما قبل بذلك في ليلة القدر وفي ساعة الإجابة وفي الصلاة الوسطى (1).

3 -

(هو):

وقيل أن (هو) هو اسم الله الأعظم، نقله الإمام فخر الدين عن بعض أهل الكشف واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام عظيم بحضرته لم يقل أنت قلت كذا وإنما يقول هو تأدبا معه (2).

4 -

(الله)

وقيل أن (الله) هو اسم الله الأعظم، لأنه اسم لم يطلق على غيره ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى ومن ثم أضيفت إليه (3) قال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا إسماعيل بن علية عن أبي رجاء حدثني رجل عن جابر بن عبد الله بن زيد أنه قال: اسم الله الأعظم هو الله ألم تسمع أنه يقول: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22]، وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الدعاء حدثنا إسحاق بن إسماعيل عن سفيان بن عيينة عن مسعر قال قال الشعبي اسم الله الأعظم يا الله (4).

5 -

(الله الرحمن الرحيم):

قال الحافظ ابن حجر (5) في شرح البخاري (6) ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه (7) عن عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم، فلم يفعل فصلت ودعت اللهم إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك الرحيم، وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم- الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها إنه لفيٍ الأسماء التي دعوت بها.

قال وسنده ضعيف وفي الاستدلال به نظر انتهى، قلت أقوى منه في الاستدلال ما أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ابن عباس أن عثمان بن عفان سأل رسول الله صلى الله

(1) ويبدو أن هذا القول جانب الصواب لعدم توفر أدلته عليه وأيضاً: يتوفر الأدلة علي معرفته كما هو ظاهر.

(2)

انظر لوامع البينات ص، والمقصد الاسني ص 169 وتفسير أسماء الله الحسني ص 24، 26

(3)

قال الزجاج: الاسم الأعظم هو قولنا الله ويعد الأسماء الاخري مضافة غليه تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 24.

(4)

مصنف بن أبي شيبة 7/ 234 رقم 35612 ورقم 35613 عن جابر بن زيد والدر المنثور 8/ 122 ومعني لا إله إلا الله للزركشي ص 123 ونقض الدارمي 1/ 168، 169 وقال الزركشي وقد تكلم كل ذي فن من العلوم علي هذا الاسم بما لو جمع لبلغ مالا تحصره دواوين. وما بلغت نفس امرئ قال مبلغاً

من القول غلا والذي فيه أعظم) معني لا إله إلا الله ص 123

(5)

رواه ابن ماجه في سننه 2/ 329 رقم 3110، والألوسي في تفسيره 3/ 75 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 746.

(6)

انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/ 224، وشرح النووي 17/ 18.

(7)

سنن ابن ماجه 2/ 1267 رقم 3859 وضعفه ابن حجر في فتحه 11/ 224.

ص: 204

عليه وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال هو اسم من أسماء الله تعالى وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب (1)، وفي الفردوس للديلمي من حديث ابن عباس مرفوعا اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر (2).

6 -

[الرحمن الرحيم](3)

وقيل أن (الحي القيوم) هو اسم الله الأعظم، ولك لحديث الترمذي وغيره عن أسماء بنت يزيد أنه عليه السلام قال اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22]، وفاتحه سورة آل عمران {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] (4).

7 -

(الحي القيوم)، وذلك لحديث ابن ماجه والحاكم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه رفعه الاسم الأعظم في ثلاث سور: البقرة وآل عمران وطه، قال القاسم الراوي عن أبي أمامه التمسته فيها فعرفت أنه الحي القيوم، وقواه الفخر الرازي واحتج بأنهما يدلان على صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما (5).

8 -

(الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام)

وذلك لحديث أحمد وأبي داود وابن حبان والحاكم عن أنس "أنه كان مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -جالسا ورجل يصلي ثم دعا اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، فقال- صلى الله عليه وسلم لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى"(6).

9 -

(بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام)

أخرج أبو يعلى من طريق السرى بن يحيى عن رجل من طيء وأثنى عليه خيرا قال كنت أسال الله تعالى أن يريني الاسم الأعظم فرأيت مكتوبا في الكواكب في السماء يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام" (7).

10 -

(ذو الجلال والإكرام)

(1) المستدرك 1/ 738 رقم 2027 قال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وشعب الإيمان 2/ 437.

(2)

روح المعاني 28/ 64، الدر المنثور 8/ 123، 5/ 478 عن ابن عباس.

(3)

الرحمن الرحيم وفاتحة سورة آل عمران " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " في (ب)

(4)

رواه الترمذي في سننه 5/ 517 حديث رقم 3478 وأبو داود في سننه 1/ 470 قال الألباني حسن

(5)

ومنهم من قال الاسم الأعظم الحي القيوم ويدل عليه وجهان: أحدهما أن أبي بن كعب طلب من المصطفي صلى الله عليه وسلم انه يعلمه الاسم الأعظم فقال هو في قوله تعالي (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وفي ألم الله لا غله إلا هو الحي القيوم) قالوا وليس ذلك في قولنا الله لا إله إلا هو لأن هذه الكلمة موجودة في آيات كثيرة فلما خص الاسم الأعظم بهاتين الآيتين علمنا أنه الحي القيوم الثاني أن الحي يدل علي كونه سبحانه عالماً متكلماً قادراً سميعاً بصيراً والقيوم يدل علي أنه قائم بذاته مقوم لغيره ومن هذين الأصلين تتشعب جميع المسائل المعتبرة في علم التوحيد .. ) لوامع البينات ص، فيض القدير 1/ 510 وتفسير الثعالبي 1/ 241، 202 -

(6)

رواه أبو داود في سننه 1/ 470 حديث رقم 1495 والنسائي 3/ 520 حديث رقم 1300 وابن ماجه 2/ 1268 حديث رقم 3858 واحمد في مسنده 2/ 120 رقم 2226، الترغيب والترهيب 2/ 318، وجلاء الإفهام لابن القيم ص 187 وفي كتاب الدعاء للطبراني 1/ 52 قال الحاكم: صحيح علي شرط مسلم وقال الألباني حسن صحيح.

(7)

رواه أبو يعلي في مسنده ورواته ثقات وذكره صاحب الترغيب والترهيب 2/ 318 رقم 2540 وهو عن بعض الصحابة انظر جلاء الإفهام لابن القيم ص 187 وأخرجه الطبراني في الدعاء 1/ 52

ص: 205

وذلك لحديث الترمذي عن معاذ سمع النبي- صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: يا ذا الجلال والإكرام فقال قد استجيب لك فسل (1)، وأخرج ابن جرير في تفسير سورة النمل عن مجاهد قال: الاسم الذي إذا دعى به أجاب يا ذا الجلال والإكرام (2) واحتج له الفخر الرازي بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الإلهية، لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب وفي الإكرام إشارة إلى جميع الإضافات (3).

11 -

(الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد)

وذلك بدليل حديث أبي داود والترمذي وابن حبانوالحاكم عن بريدة: "أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب"(4)، وفي لفظ عند أبي داود:"لقد سألت الله باسمه الأعظم"، قال الحافظ ابن حجر: وهو أرجح من حديث السند [عن] جميع ما ورد في ذلك (5).

12 -

(ربّ ربّ)

أخرج الحاكم عن أبي الدر داء وابن عباس قالا: اسم الله الأكبر رب رب (6)، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة مرفوعا وموقوفا إذا قال العبد:"يا رب يا رب" قال الله: "تعالى لبيك عبدي سل تعط"(7).

13 -

وقد قيل (مالك الملك)

أخرج الطبراني في الكبير بسند ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم" اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء) إلى قوله: (وترزق من تشاء بغير حساب"(8).

14 -

(لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)

(1) أخرجه الترمذي في سننه وقال حسن حديث رقم 2537 وفي الترغيب والترهيب والمعجم الكبير 2/ 56 رقم 98 ومسند بن حميد 1/ 66 رقم 107

(2)

الدر المنثور 3/ 34

(3)

كرامات الأولياء للالكائي ص 72، 80 انظر الرازي الآيات البينات ص

(4)

رواه أبو داود في سننه 1/ 469 رقم 1493 والترمذي 5/ 515 رقم 3475 الحاكم في مستدركه 1/ 638 رقم 858 وقال هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه

(5)

قال في الترغيب 2/ 317 رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم قال صحيح علي شرطيهما .. وقال ابو الحسن المقدسي وغسناده لا مطعن فيه ولم يرد في هذا الباب حديث أجود اسناداً وصححه الالباني: في صحيح الترغيب والترهيب 2/ 129 رقم 1640 منه.

(6)

أخرجه الطبراني في الدعاء 1/ 54 رقم 119 عن أبي الدر داء وابن عباس رضي الله عنهما والحاكم في مستدركه 1/ 684 رقم 1860 ومصنف ابن أبي شيبة 6/ 47، 233 رقم 29365، 35610.

(7)

ضعيف انظر فيض القدير 1/ 411 رقم 777 وقال احتج بهذا الحديث من ذهب غلي ان اسم الله الاعظم هو الرب قال ابن تيمية •اسمه الرب، ولهذا يقال في الدعاء يارب كما قال آدم ربنا ظلمنا أنفسنا (مجموع الفتاوى 1/ 207

(8)

قال المناوي: قال الهيثمي: فيه جسر بن فرقد وهو ضعيف وأقول فيه أيضاً محمد بن زكريا الغلابي أورده الذهبي في الضعفاء ايضاًوقال وثقه ابن معين وقال أحمد ليس بقوي والنسائي والطبراني والدارقطني: ضعيف) فيض القدير 1/ 511 اخرجه الطبراني في المعجم الكبير 12/ 171 رقم 12792 عن ابن عباس

ص: 206

قال المناوي: اسم الله الاعظم الذي إذا دعي به أجاب

دعوة يونس بن متي (1)، وذلك لحديث النسائي والحاكم عن فضالة بن عبيد رفعه "دعوة ذي النون في بطن الحوت (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) لم يدع بها رجل مسلم قط إلا استجاب الله له"(2)، أخرج ابن جرير من حديث معبد مرفوعا "اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى"(3)، أخرج الحاكم عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا" ألا أدلكم على اسم الله الأعظم دعاء يونس فقال: رجل هل كانت ليونس خاصة؟ فقال ألا تسمع قوله: (ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) " (4) وأخرج ابن أبي حاتم عن كثير ابن سعيد معبد قال سألت الحسن عن اسم الله الأعظم قال: أما تقرأ القرآن؟ قول ذي النون (5): [لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين](6).

15 -

(كلمة التوحيد: لا إلاه إلا الله)

قال به القاضي عياض (7)(8).

16 -

(الله. الله .. الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم)

ما نقله الفخر الرازي عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه الاسم الأعظم فرأى في النوم هو الله. الله .. الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم (9).

17 -

وقيل هو مخفي في الأسماء الحسنى

ويؤيده حديث عائشة المتقدم لما دعت ببعض الأسماء وبالأسماء الحسنى فقال لها" إنه لفي الأسماء التي دعوت بها"(10).

18 -

أنه كل اسم من أسمائه تعالى دعا به العبد مستغرقا

(1) فيض القدير 1/ 512.

(2)

أخرجه الحاكم في مستدركه 1/ 685 رقم 1862 وقال هذا حديث صحيح الإسناد

(3)

أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره 9/ 78، والسيوطي في الدر المنثور 5/ 699

(4)

اخرجه الحاكم في مستدركه 1/ 685 رقم 1865

(5)

قال ابن القيم) اما دعوة ذى النون: فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للرب، واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما هو أبلغ أدوية الكرب والهم زاد المعاد 4/ 185

(6)

الدر النثور 5/ 669

(7)

القاضي عياض بن موسي بن عياض العلامة صاحب التصانيف المالكي المذهب ولد سنة 476 العبر 1/ 261

(8)

انظر فتح الباري 11/ 207

(9)

البرهان في علوم القرآن 1/ 44، معارج القبول 2/ 394، لوامع البينات ص

(10)

سنن ابن ماجة: 11/ 318. (صحيح وضعيف سنن ابن ماجة: 3859). عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الطَّاهِرِ الطَّيِّبِ الْمُبَارَكِ الْأَحَبِّ إِلَيْكَ، الَّذِي إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ، وَإِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ، وَإِذَا اسْتُرْحِمْتَ بِهِ رَحِمْتَ، وَإِذَا اسْتُفْرِجَتَ بِهِ فَرَّجْتَ» قَالَتْ: وَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: «يَا عَائِشَةُ هَلْ عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ دَلَّنِي عَلَى الِاسْمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ؟ » قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَعَلِّمْنِيهِ، قَالَ:«إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَكِ يَا عَائِشَةُ» ، قَالَتْ: فَتَنَحَّيْتُ وَجَلَسْتُ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِيهِ، قَالَ:«إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَكِ يَا عَائِشَةُ أَنْ أُعَلِّمَكِ، إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَكِ أَنْ تَسْأَلِي بِهِ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا» ، قَالَتْ: فَقُمْتُ فَتَوَضَّأْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْعُوكَ اللَّهَ، وَأَدْعُوكَ الرَّحْمَنَ، وَأَدْعُوكَ الْبَرَّ الرَّحِيمَ، وَأَدْعُوكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى كُلِّهَا، مَا عَلِمْتُ مِنْهَا، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، أَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، قَالَتْ: فَاسْتَضْحَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّهُ لَفِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي دَعَوْتِ بِهَا". ضعيف التعليق على ابن ماجة، التعليق الرغيب (2/ 275).

ص: 207

وقيل أنه كل اسم من أسمائه تعالى دعا العبد به ربه مستغرقا بحيث لا يكون في فكره حالة إذ غير الله فإن من دعا الله تعالى بهذه الحالة كان قريب الإجابة وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي يزيد البسطامي (1) أنه سأله رجل عن الاسم الأعظم فقال: ليس له حد محدود إنما هو فراغ قلبك بوحدانيته [فإذا كنت كذلك فافرغ إلى أي اسم شئت فإنك تسير به إلى المشرق والمغرب (2).

وأخرج أبو نعيم أيضا عن أبي سليمان الداراني (3) قال: سألت بعض المشايخ عن اسم الله الأعظم قال: تعرف قلبك قلت نعم قال فإذا رأيته قد أقبل ورق فسل الله حاجتك فذاك اسم الله الأعظم (4).

وأخرج أبو نعيم أيضا عن ابن الربيع السائح أن رجلا قال: له علمني الاسم الأعظم فقال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم أطع الله [يطعك كل شيء.

19 -

(اللهمّ)

حكاه الزركشي في شرح جمع الجوامع (5) واستدل لذلك بأن الله دال على الذات والميم دالة على الصفات التسعة والتسعين ذكره أبو المظفر وهذا قال الحسن البصري اللهم مجمع الدعاء (6) وقال النصر بن شميلمن قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه.

20 -

(ألم)

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال (آلم) اسم من أسماء الله الأعظم (7)، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال (آلم) قسم أقسم الله به وهو من أسمائه تعالى (8).

مسألة:

اختلف العلماء هل البسملة آية قرآنية؟ وهل تقرأ في الصلاة؟ ، وفي ذلك أقوال:

أحدها: ذهب مالك والأوزاعي إلى أنها ليست من القرآن، ومنعا من قراءتها في الفرائض مطلقاً، وأجازا قراءتها في النافلة" (9).

(1) أبو يزيد البسطامي: اسمه: هو أبو يزيد طيفور بن عيسى مروشان البسطامي، أحد الزهاد، أخو الزاهدين: آدم وعلي، وكان جدهم شروسان مجوسياً، فأسلم يقال: إنه روى عن إسماعيل السدي، وجعفر الصادق، وقد ولد العارف أبو يزيد سنة 188 هـ ببسطام في بلاد خرسان في مجلة يقال لها محلة موبدان، وتوفي سنة 261 هـ عن ثلاث وسبعين سنة. (انظر سير أعلام النبلاء، 13/ 86، وانظر وفيات الأعيان 2/ 531، وانظر طبقات الصوفية للسلمي ص 18 – 19. وانظر الطبقات الكبرى 1/ 76.)

(2)

حلية الأولياء 10/ 39

(3)

أبو سليمان الداني: أبو سليمان عبد الرحمن بن عطية الداراني، أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف السني في القرن الثالث الهجري، من أهل داريّا، قرية من قرى دمشق في سوريا. وصفه الذهبي بـ "الإمام الكبير، زاهد العصر"، ولد سنة 140 هـ، وتوفي سنة 215 هـ. (انظر: بقات الصوفية، تأليف: أبو عبد الرحمن السلمي، ص 74 - 79، دار الكتب العلمية، ط 2003، وسير أعلام النبلاء: 10/ 183 وما بعدها) ،

(4)

حلية الأولياء 10/ 163

(5)

ذكره البغوي في تفسيره 1/ 146: (انطلقوا علي اسم الله "اللهم "أعنهم ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم

).

(6)

انظر تفسير البغوي 1/ 304، والدر المنثور 2/ 172 والإتقان للسيوطي 2/ 24.

(7)

تفسير الطبري 1/ 118، تفسير بن كثير 1/ 61.

(8)

تفسير الطبري 1/ 118، وزاد الميسر 6/ 153، وتفسير الثعالبي 1/ 30.

(9)

انظر: "بداية المجتهد" لابن رشد - ج 1 - ص 96، و"التفسير الكبير" للفخر الرازي - ج 1 - ص 100

ص: 208

والثاني: أما أبو حنيفة والثوري وأتباعهم فقرأوها في افتتاح "الحمد" ولكن أوجبوا إخفاتها.

والثالث: في حين أن الإمام الشافعي قرأها في الجهريات جهراً وفي الإخفاتيات إخفاتاً، وعدها آية من "الفاتحة"، وهذا هو قول أحمد بن حنبل أيضاً، واختلف المنقول عن الشافعي في أنها آية من كل سورة أم أنها ليست باية في غير "الفاتحة"(1).

ويترتب على القول بأن البسملة آية من الفاتحة أو ليست آية منها من حيث قراءة البسملة في الصلاة: أن من يقول أن البسملة آية من الفاتحة يقول بوجوب ويترتب على القول قرائتها في الصلاة (2)، ولا تصح الصلاة إلا بقرائتها؛ لأنها من الفاتحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "(3)؛ ومن يقول: إنها ليست من الفاتحة؛ ولكنها آية مستقلة من كتاب الله يقول قرائتها جائزة (4)، ومن يقول ليست البسملة من الفاتحة ولا من غيرها يقول تكره قراءة البسملة في الصلاة فلا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولا في غيرها سرا ولا جهرا (5)، ويترتب على كون البسملة آية أو بعض آية حرمة مس المحدث حدثا أكبر أو أصغر ورقة مكتوب فيها البسملة عند القائلين بحرمة مس المحدث المصحف، وهم جهور العلماء؛ لأن البسملة ما دامت آية أو بعض آية فهي من المصحف فتأخذ حكمه.

والنصوص في ذلك متواترة، أما عن طريق العامة فهنالك روايات كثيرة تدل على ذلك:

1.

عن ابن جريح عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي)، قال:" فاتحة الكتاب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) " - وقرأ السورة، قال ابن جريح:"فقلت لأبي: لقد أخبرك سعيد عن ابن عباس أنه قال: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) آية؟ " قال: "نعم"(6).

2.

ما صحَّ عن ابن عباس أيضاً قال: "إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جاءه جبرائيل فقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)، علم أنها سورة"(7).

3.

ما صح عن ابن عباس أيضاً قال: "كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم ختم السورة حتى تنزل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) "(8).

4.

ما صح عنه أيضاً قال: "كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)، فإذا نزلت (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) علموا أن السورة قد انقضت."(9).

5.

ما صح عن أم سلمة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ للهِ رَبِّ .. ) إلى آخرها - يقطعها حرفاً حرفاً"(10).

(1) انظر: "التفسير الكبير" في تفسير البسملة.

(2)

انظر تحفة الأحوذي 2/ 47 محمد عبد الرحمن المباركفوري أبو العلا دار الكتب العلمية - بيروت

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم 756، ورواه مسلم في صحيحه رقم 394

(4)

انظر تحفة الأحوذي 2/ 47

(5)

- تفسير القرطبي 1/ 111 دار الحديث الطبعة الثانية 1416 هـ 1996 م، والاستذكار لابن عبد البر 1/ 455 الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة الأولى، 1421 – 2000 تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي

(6)

انظر: تفسير سورة الفاتحة من كتاب التفسير من المستدرك للحاكم ومن تلخيصه للذهبي - ص 257 - ج 2، وقد صرح الحاكم والذهبي بصحة إسناد الحديث.

(7)

أخرجه الحاكم في كتاب الصلاة من مستدركه - ص 231 - ج 1

(8)

مستدرك الحاكم في كتاب الصلاة من مستدركه - ص 231 - ج 1

(9)

مستدرك الحاكم - ج 1 - ص 232، قال:"هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين، " وصححه الذهبي أيضاً في التلخيص

(10)

مستدرك الحاكم - ج 1 - ص 232، والذهبي في تلخيصه، وقد صرحا بصحة الحديث

ص: 209

وعن أم سلمة من طريق آخر إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في الصلاة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وعدها آية، (الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) آيتين، (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ثلاث آيات

" الحديث (1).

6.

ما صح عن نعيم المجمر قال: "كنت وراء أبي هريرة فقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ثم قرأ بأم الكتاب حتى بلغ (وَلا الضَّالِّينَ)، قال: 'آمين'، فقال الناس: 'آمين'، فلما سلم قال: 'والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"(2).

وعن أبي هريرة أيضاً، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم"(3).

7.

ما صح عن أنس بن مالك قال: "صلى معاوية بالمدينة فجهر فيها بالقراءة، فقرأ فيها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لأم القرآن، ولم يقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القراءة، فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين والأنصار من كل مكان: 'يا معاوية، أسرقت الصلاة أم نسيت؟ ' فلما صلى بعد ذلك قرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) للسورة التي بعد أم القرآن." أخرج هذا الحديث الحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم (4)، وأخرجه غير واحد من أصحاب المسانيد كالشافعي في مسنده (5)، وعلق على ذلك بقوله:"إن معاوية كان سلطاناً عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالبسملة كان كالأمر المقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية"(6).

8.

ما صح - أيضاً - عن أنس بن، قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم"(7).

9.

ما صح عن محمد بن السري العسقلاني، قال:"صليت خلف المعتمر بن سليمان ما لا أحصي صلاة الصبح والمغرب، فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها للسورة. وسمعت المعتمر يقول: 'ما آلوا أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلوا أن أقتدي بصلاة أنس بن مالك.' وقال أنس بن مالك: 'ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "(8).

(1) المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

(2)

مستدرك الحاكم - ج 1 - ص 232، والذهبي في تلخيصه وقد صرحا بصحة الحديث.

(3)

مستدرك الحاكم - ج 1 - ص 232، والذهبي في تلخيصه وقد صرحا بصحة الحديث، وأخرجه البيهقي في السنن الكبيرة، كما ذكره الرازي في تفسيره - ج 1 - ص 105

(4)

ورواها الحاكم في المستدرك الجزء 1 ص 233 وقال: حديث صحيح على شرط مسلم.

(5)

انظر: ترتيب مسند الإمام الشافعي: (1) / (80)، وسنن البيهقي:(2) / (42) - (44)، ومسائل فقهية: ص (16) - (29)، وبحار الأنوار:(19) / (59)، ومستدرك الحاكم:(231)، (232)، وكنز العمال:(4) / (30)، وتفسير الزمخشري: تفسير سورة الحمد.

(6)

كما نقله الرازي في التفسير الكبير - ج 1 - 105

(7)

أخرجه الحاكم وأورده الذهبي في باب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من كتابيهما وقالا: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات وجعلاه علة ونقيضا لحديث قتادة عن أنس.

(8)

أخرجه الحاكم في المستدرك وأورده الذهبي في التلخيص ونصا على أن رواته عن آخرهم ثقات وجعلاه علة ونقيضاً لحديث قتادة عن أنس، الباطل.

ص: 210

وعن قتادة قال: "سئل أنس بن مالك كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: 'كانت مداً ثم قرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يمد الرحمن ويمد الرحيم، "(1).

وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: "صليت خلف النبي وخلف أبي بكر وخلف عمر وخلف عثمان وخلف علي، فكلهم كانوا يجهرون بقراءة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) "(2).

10.

وقد ذكر الرازي أن البيهقي روى الجهر بالبسملة في سننه عن عمر بن الخطاب وابن عمر وابن الزبير ثم قال الرازي: "وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يجهر بالبسملة فقد ثبت بالتواتر ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: 'اللهم أدر الحق مع علي حيث دار"(3).

وهنالك حجة أخرى على أن البسملة آية في كل سورة وهي أن الصحابة كافة ومن بعدهم إلى يومنا هذا أجمعوا إجماعاً عملياً على كتابة البسملة في بداية كل سورة عدا سورة براءة، كما كتبوا سائر الآيات بلا ميزة مع أنهم مطبقون على أن لا يكتبوا شيئاً من غير القرآن إلا بميزة عنه حرصاً منهم على أن لا يختلط فيه شيء من غيره، وقلَّ أن تجتمع الأمة على أمر كاجتماعها على ذلك، وهذا دليل على أن البسملة أية مستقلة في بداية كل سورة.

دليل آخر: من المشهور المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع (4) أو أبتر أو أجذم"(5) فهل يمكن أن يكون

(1) سنن البيهقي - باب افتتاح القراءة في الصلاة ببسم الله - الجزء 2 ص 46، والمستدرك، حديث الجهر ببسم الله الجزء 1 ص 233 ".

(2)

مستدرك الحاكم: 1/ 232، والذهبي في تلخيصه وقد صرحا بصحة الحديث.

(3)

الجامع الصغير للسيوطي - حرف الكاف: 2/ 91، كنز العمال: 1/ 193.

(4)

الجامع الصغير للسيوطي - حرف الكاف: 2/ 91، كنز العمال: 1/ 193. وانظر: التفسير الكبير للرازي - ج 1 في تفسير البسملة. قال الإمام النووى فى " الأذكار " 1/ 94: وقد روى موصولا كما ذكرنا وروى مرسلا ورواية الموصول جيدة الإسناد، وقال عبد القادر الأرناؤوط 1/ 94: أخرجه ابن السنى فى عمل " اليوم والليلة " عن أبى هريرة وإسناده ضعيف. ورواه بنحوه الحاكم والترمذى والبيهقى فى " شعب الإيمان " عن ابن عباس رضى الله عنهما وفى سنده يمان بن المقبرة وهو ضعيف.

أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ كَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ - أَوْ قَالَ: أَقْطَعُ -) وقد روي الحديث بألفاظ أخرى نحو هذا.

رواه الإمام أحمد في " المسند "(14/ 329) طبعة مؤسسة الرسالة، وآخرون كثيرون من أصحاب السنن والمسانيد.

وفيه علتان:

العلة الأولى: ضعف قرة بن عبد الرحمن، قال أحمد بن حنبل: منكر الحديث جدا. وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث. وقال أبو زرعة: الأحاديث التى يرويها مناكير. انظر: "تهذيب التهذيب"(8/ 373)

العلة الثانية: أنه قد رجح بعض أهل العلم أن الصواب فيه: عن الزهري مرسلا، ـ والمرسل من أقسام الحديث الضعيف ـ.

فقد أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة"(495، 497) عن الزهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره.

قال الدارقطني رحمه الله: "والصحيح عن الزهري المرسل " انتهى." العلل "(8/ 30).

وضعفه الزيلعي في " تخريج الكشاف "(1/ 24)، وضعفه الشيخ الألباني في " إرواء الغليل "(1/ 29 - 32)، كما ضعفه المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة. وقد حَسَّن الحديث أو صححه جماعة من العلماء، فقد حسنه النووي وابن حجر، وصححه ابن دقيق العبد وابن الملقن.

وسئل عنه الشيخ ابن باز رحمه الله فقال:

"جاء هذا الحديث من طريقين أو أكثر عند ابن حبان وغيره، وقد ضعفه بعض أهل العلم، والأقرب أنه من باب الحسن لغيره" انتهى."مجموع فتاوى ابن باز"(25/ 135).

والحديث معناه مقبول ومعمول به، فقد افتتح الله تعالى كتابه بالبسملة، وافتتح سليمان عليه السلام كتابه إلى ملكة سبأ بالبسملة، قال تعالى:(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) النمل/30، وافتتح النبي صلى الله عليه وسلم كتابه إلى هرقل بالبسملة، وكان صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه بحمد الله والثناء عليه.

وقد ذهب أكثر الفقهاء إلى مشروعية البسملة واستحبابها عند الأمور المهمة.

وجاء في الموسوعة الفقهية (8/ 92): "اتفق أكثر الفقهاء على أن التسمية مشروعة لكل أمر ذي بال، عبادة أو غيرها" انتهى. والله أعلم.

(5)

انظر: التفسير الكبير للرازي - ج 1 في تفسير البسملة.

ص: 211

القرآن وهو أفضل ما أوحاه الله إلى أنبيائه أقطع؟ وهل يمكن أن تكون الصلاة وهي خير العمل بتراء جذماء؟

نستنتج مما سبق بأنه قد اختلف في العلماء في البسملة فذهب البعض إلى أنها ليست من فاتحة الكتاب، ولا من غيرها من السور والافتتاح بها للتيمن والتبرك. وذهب البعض إلى أنها من الفاتحة وليست من سائر السور، وذهب آخرون إلى أنها آية مستقلة، وهذا هو الراجح لجمعه بين النصوص التي تثبتأن البسملة من كتاب الله وبين الأدلة التي تثبت أن البسملة ليست من السور إلا أنها بعض آية من سورة النمل. والله أعلم.

القرآن

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]

التفسير:

الثناء على الله بصفاته التي كلُّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، وفي ضمنه أَمْرٌ لعباده أن يحمدوه، فهو المستحق له وحده، وهو سبحانه المنشئ للخلق، القائم بأمورهم، المربي لجميع خلقه بنعمه، ولأوليائه بالإيمان والعمل الصالح.

قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2]، أي:" الشكر خالصًا لله"(1).

قال الصابوني: " أي: قولوا يا عبادي إذا أردتم شكري وثنائي الحمدلله"(2).

قال القاسمي: " أي: الثناء بالجميل، والمدح بالكمال ثابت لله دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه"(3).

قال مقاتل بن سليمان: " يعني الشكر للَّه"(4).

قال الواحدي: أي: " الثَّناء لله والشُّكرُ له بإنعامه"(5).

قال النسفي: أي: " الوصف بالجميل على جهة التفضيل واجب لله"(6).

قال السعدي: أي: " الثناء على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، فله الحمد الكامل، بجميع الوجوه"(7).

(1) تفسير الطبري: 1/ 134.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 19.

(3)

محاسن التأويل: 1/ 226.

(4)

تفسير مقاتل: 1/ 36.

(5)

الوجيز: 88.

(6)

تفسير النسفي: 1/ 31. [بتصرف بسيط].

(7)

تفسير السعدي: 1/ 39.

ص: 212

قال ابن عباس: " {الحمد لله}: كلمة الشكر، وإذا قال العبد: الحمد لله، قال: شكرني عبدي"(1).

وعن ابن عباس أيضا: " {الحمد لله}: هو الشكر لله، والاستخذاء لله، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه، وغير ذلك"(2).

قال كعب: " {الحمد لله}: ثناء على الله"(3).

قال علي: " كلمة رضيها الله لنفسه"(4).

قال الأخفش: أي: "الشكر لله، والحمد أيضًا: الثناء"(5).

قال ابن عثيمين: " {الحمد} وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ الكمال الذاتي، والوصفي، والفعلي؛ فهو كامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله"(6).

وفي نوع الالف واللام في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2]، ثلاثة أقوال (7):

أحدهما: للعَهدِ، أي: الحمدُ المعهودُ.

والثاني: لتعريف الجنس، أي: مُطلقُ الحمد، قال ابن رجب:"وهو ضعيفٌ"(8).

والثالث: للاستغراق، قاله أبو جَعفر الباقِرُ (9) وغيره.

والقول الأخير هو الأصحُّ، أي: استغراق جميع أجناس الحمد وثبوتها لله تعالى تعظيما وتمجيدا" (10)، وفي الأثر: "اللهمّ لك الحمدُ كلُّه" (11)، وفي دُعاءِ القنوت: "ونثني عليك الخيرَ كلَّه" (12)، وقوله: "لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك" (13).

و(الحمد) في اللغة: حمِدَ يَحمَد، حَمْدًا، فهو حامد، والمفعول مَحْمود وحَميد، حمِد الشَّيءَ: رضي عنه وارتاح إليه، وحمِد اللهَ: أثنى عليه وشكرَ نعمتَه قال الله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الفاتحة: 2) قال الله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ)(التوبة: 112)، أي: الرَّاضون بقضاء الله، الشَّاكرون لأنعمه، ويقال حمِد فلانًا على أمر أي: أثنى عليه، وعكسه ذمَّه (14).

(1) تفسير ابن أبي حاتم (8): ص 1/ 26.

(2)

أخرجه الطبري (151): ص 1/ 135. اساده ضعيف، والحديث نقله ابن كثير في التفسير 1: 43، والسيوطي في الدر المنثور 1: 11، والشوكاني في تفسيره الذي سماه فتح القدير 1: 10، ونسبوه أيضًا لابن أبي حاتم في تفسيره.

(3)

تفسير ابن أبي حاتم (10): ص 1/ 26، وتفسير الطبري (153): ص 1/ 137.

(4)

تفسير ابن أبي حاتم (12): ص 1/ 27.

(5)

تهذيب اللغة: (حمد): ص 1/ 913، واللسان (حمد): ص 2/ 987. ولم أجد القول في معاني القرآن.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 9.

(7)

انظر: تفسير الفاتحة لابن رجب: 64.

(8)

تفسير الفاتحة: 64.

(9)

انظر: تفسير الفاتحة لابن رجب: 64.

(10)

محاسن التأويل: 1/ 226.

(11)

حديث حسن، رواه البيهقي:(4087).

(12)

البيهقي: 2/ 211.

(13)

عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فى آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك". رواه أبو داود (1427) والنسائي (1747) والترمذي (3882) وابن ماجة (1179).

(14)

د أحمد مختار عبد الحميد عمر (2008)، معجم اللغة العربية المعاصرة (الطبعة الأولى)، بيروت: عالم الكتب، صفحة 556، جزء 11. بتصرّف.

ص: 213

قال أحمد بن فارس في معجم مقاييس اللغة: (حمد) الحاء والميم والدال كلمة واحدة وأصل واحد يدلّ على خلاف الذم، يقال حمدت فلاناً أحمده، ورجل محمود ومحمد، إذا كثرت خصاله المحمودة غير المذمومة (1).

ويُعرّف (الحمد) في الاصطلاح بأنه: الثناء بالفضيلة (2)، فيُقال: حمدتُ الرّجل، أي بمعنى: أثنيتُ عليه بفعلٍ جميلٍ قام به اختياره (3)، وقيل إنّ الحمد هو: ثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، والحمد المطلق لا يكون إلاّ لله (4).

و(الحَمْدُ لِله)، فيه إخبارٌ من الله – تعالى - لعباده بأسمائه الحُسنى وصفاته العلا، وإرشادٌ لهم بأن يُثنوا عليه بها ثناءً يليق بجلاله – جلّ في علاه – كما أثنى - سبحانه - على نفسه، فهو حميد يحب الحمد، ويحبّ من يحمده، ويثني عليه، عن الأسوَد بن سريع رضي الله عنه قال:"كنت شاعِرًا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إني مدحت ربي بمحامِد"، قال:"أما إن ربك يحب الحمد"(5).

وقيل يُعرّف الحمد بأنه: الوصف بالجميل الاختياري على المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد أو غيره (6)، مثاله القول: بأنّ فلان كريم أو شجاع، (على المنعم): الذي أعطى النعمة، وهو الله عز وجل. يعّرف الحمد عند الأصوليين وغيرهم بأنه: ليس قول القائل: الحمد لله، إنما هو فعلٌ يُشعر بتعظيم المنعم، بسبب كونه منعماً، وذلك الفعل إما فعل اعتقاد بصفات الجلال والكمال، أو فعل لسان ذَكَر ما يذكره القلب، أو فعل جوارح بالإتيان بأفعال دالة عليه (7).

و(الشكر) لغةً: الاعتراف بالإحسان، ونشره، وحمد موليه، وهو الشكور أيضاً (8) وقيل: الشين والكاف والراء أصول أربعة متباينة بعيدة القياس. فالأول: الشكر: الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه. ويقال: إن حقيقة الشكر الرضا باليسير، والأصل الثاني: الامتلاء والغزر في الشيء، الأصل الثالث: الشكير من النبات، وهو الذي ينبت من ساق الشجرة، الأصل الرابع: الشكر، وهو النكاح (9)

والشكر يكون على ثلاث منازل (10):

الأول: شكر القلب.

قال الواحدي: " وهو الاعتقاد بأن الله ولي النعم، قال الله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] "(11).

(1) أحمد بن فارس (1979)، معجم مقايس اللغة، بيروت: دار الفكر، صفحة 100، جزء 2. بتصرّف.

(2)

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، فقه الأدعية والأذكار (الطبعة الثانية)، صفحة 264 - 268. بتصرّف.

(3)

عماد بن زهير حافظ (1424 هـ/2004 م)، حمد الله ذاته الكريمه في آيات كتابه الحكيمة (الطبعة الأولى)، المدينة المنورة: الجامعة الإسلامية، صفحة 16، جزء 11. بتصرّف.

(4)

عطية بن محمد سالم، شرح بلوغ المرام، صفحة 2 - 6، جزء 59. بتصرّف.

(5)

رواه البخاري في الأدب المفرد (859). وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (660).

(6)

محمد بن محمد الشنقيطي، شرح زاد المستقنع، صفحة 3، جزء 2. بتصرّف.

(7)

لمرداوي (2000)، التحبير شرح التحرير في أصول الفقه (الطبعة الأولى)، السعودية: مكتبة الرشيد، صفحة 47 - 49، جزء 11. بتصرّف.

(8)

كتاب العين، للفراهيدي: السعودية: دار ومكتبة الهلال، صفحة 292، جزء 5. بتصرّف.

(9)

معجم مقاييس اللغة: 2/ 100.

(10)

انظر: التفسير البسيط: 1/ 470.

(11)

التفسير البسيط: 1/ 470.

ص: 214

الثاني: شكر اللسان، ويكون بإظهار النّعمة بالذكر لها والحديث عنها، والثناء على من أسداها، قال سبحانه وتعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11].

الثالث: شكر العمل، وهو إخضاع النّفس بالطّاعة (1) قال الله سبحانه وتعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [السبأ: 13]، وفي الحديث:"قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى تورَّمَتْ قدَماه، فقيل له: غفَر اللهُ لك ما تقدَّم من ذَنْبِك وما تأخَّر، قال: أفلا أكونُ عبدًا شَكورًا"(2).

وقد جمع الشاعر أنواعه الثلاثة فقال (3):

أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ منِّى ثلاثةً

يَدِي ولِسَانِى والضَّمِيرَ المُحَجَّبَا

وأما (الحمد): فيكون باللسان وحده، فهو إحدى شعب الشكر (4).

واختلف العلماء في الفرق بين الحمد والشكر، على أقوال:

أحدها: أنّ لفظ الحمد يُطلقُ للثناء على المحمود بجميل ما فيه من صفات وأفعال ونعم، أمّا الشكر فهو ثناء العبد على المحمود بنعمه فقط. وعلى هذا القول فالحمد أعمّ من الشكر، فكلّ شكر هو حمد، وليس كلّ حمد يُعتَبر شكراً، ولذلك ورد حمد الله سبحانه نفسه ولم يرد شكره، وهو كما الحال في حالة التفرقة بين الحمد والمدح، فالمدحُ أعم من الحمد ذلك أنّ المدح يكون للعاقل ولغير العاقل، ولا يلزم في المدح كون الممدوح مُختاراً، ومن هنا كان وصف اللؤلؤة بصفائها ونقائها مدحاً لا حمداً، أما الحمد فإنّه لا يُطلَق إلا للفاعل المُختار على اعتبار كون الصفات المُتّصف فيها والمحمودة له صفات كمال، ويكون الحمد صادراً عن عِلم وليس عن ظنّ، فيمكن القول بأن: المدح يكون أعمّ من الحمد، والحمد يكون أعمّ من الشكر (5).

والثاني: أن الحمد يكون أعمّ فيما يقع عليه، فالحمد يقع على الصّفات اللازمة والصّفات المُتعدّية، فيُقال: حمد فلانٌ فلاناً لفروسيته وشجاعته ولكرمه. فالحمد وصف المحمود بصفات الكمال اللازمة والمُتعدّية مع المحبة وتعظيم المحمود في القلب، ولا يخفى أنّ مدار الأعمال صلاحاً أو فساداً ينبني على القلب. قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:"إنّما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى دنيا يصيُبها، أو إلى امرأةٍ ينكحها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه"(6) قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ الحَلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحَرامَ بيِّنٌ وبينَهمَا مشْتَبَهَاتٌ لا يعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من الناسِ، فمنْ اتَّقَى الشبهَاتِ استَبرَأَ لدينِهِ وعِرضِهِ، ومن وقعَ في الشبهَاتِ وقعَ في الحرامِ، كالراعِي يرعَى حولَ الحِمَى يوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فيهِ، ألا وإنَّ لكلِ ملِكٍ حِمً، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ محَارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَتْ، فسدَ الجَسدُ كُلُّهُ، ألا وهِيَ القَلبُ"(7).

(1) التَّفْسِيرُ البَسِيْط، للواحدي: 1/ 470.

(2)

رواه البخاري عن المغيرة بن شعبة (4836).

(3)

يقول: إن نعمتكم علي أفادتكم مني يدي ولساني وجناني فهي وأعمالها لكم. ورد البيت بدون عزو في "غريب الحديث" للخطابي 1/ 346، " الكشاف" 1/ 47، "الفائق" 1/ 314، "الدر المصون" 1/ 36، وانظر:"مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف" ص 7.

(4)

انظر: الكشاف: 1/ 9.

(5)

عماد بن زهير حافظ (1424 هـ/2004 م)، حمد الله ذاته الكريمه في آيات كتابه الحكيمة (الطبعة الأولى)، المدينة المنورة: الجامعة الإسلامية، صفحة 16، جزء 11. بتصرّف.

(6)

رواه البخاري عن عمر بن الخطاب (1).

(7)

رواه مسلم عن النعمان بن بشير (1599).

ص: 215

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الحمد يكون بالقلب واللسان، وأما الشكر فهو أخص من حيث الوقوع، فالشكر لا يكون إلا مع الصفات المُتعدّية. يُقال: شكر فلاناً لكرمه، ولا يُقال: شكره لفروسيته وشجاعته، . فالشّكر يكون جزاءً على نعمة انتفع بها، بينما يأتي الحمد جزاءً كالشكر، ويأتي ابتداءً"(1).

والثالث: أن الحمد ثناء العبد على الممدوح بصفاته من أن يسبق إحسان الممدوح، وأمّا الشكر فهو ثناء على المشكور بما قدّم وأجزل من الإحسان، وعلى هذا القول قال علماء الإسلام: الحمد أعم من الشكر.

قال أحمد بن محمد الخطابي البستي: "الحمد نوع والشكر جنس، وكل حمد شكر، وليس كل شكر حمدا"(2).

والرابع: وهناك من يقول بأنّ الحمد والشكر مُتَقاربان، والحمد أعَمُّ، لأنَّ العبد حمَد الممدوح على صِفاته الذاتيَّة وعلى كثرة عطائه، ولا تَشْكُره بالتالي على صِفاته (3).

ويقال: " شكرته وشكرت له وباللام أفصح"(4) المشهور باللام وهو الأكثر استعمالاً، قال تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وقال تعالى:{وَاشْكُرُوا لِلّهِ} [البقرة: 172]، ويأتي متعدياً بنفسه كما في قوله تعالى:{وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ} [النحل: 114].

وفي قول الشاعر (5):

شَكرْتكَ إنَّ الشُّكْرَ حبلٌ من التقي

وما كُلُّ من أوليته نعمةً يقضي

فقال شكرتك، مع أن الغالب في الاستعمال أن يقول: شكرت لك.

أما المدح: "فهو أعم من الحمد، لأنه يكون للحي وللميت وللجماد أيضاً، كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان وبعده، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضاً فهو أعم"(6).

وللحمد صيغ، منها:

1 -

الحمد لله: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي (7) مما طلعت عليه الشمس"(8).

(1) سليمان بن إبراهيم بن عبد الله اللاحم (1420 هـ - 1999 م)، اللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب (الطبعة الأولى)، الرياض - المملكة العربية السعودية: دار المسلم للنشر والتوزيع، صفحة 218، جزء 11.

(2)

غريب الحديث: 1/ 346.

(3)

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (1416 هـ - 1996 م)، (الطبعة الثالثة)، بيروت: دار الكتاب العربي، صفحة 237، جزء 22.

(4)

تفسير ابن كثير: 1/ 44.

(5)

البيت لأبي نُخَيلة، انظر: مروج الذهب: (3/ 287)، والأغاني:(20/ 392). وطبقات الشعراء: لابن المعتز ص (64).

(6)

تفسير ابن كثير: 1/ 44.

(7)

وقد استشكل الكثيرون - كابن جرير الطبري، وابن العربي المالكي وغيرهما - كيف تتم المقارنة أصلاً بين الدنيا وما ذكر في الحديث؟ وكيف أطلق المفاضلة بين المنزلة التي أعطيها، وبين ما تطلع عليه الشمس، مع أن من شرط المفاضلة استواء الشيئين في أصل المعنى؟ ! ثم كيف يزيد أحدهما على الآخر، ولا استواء بين تلك المنزلة والدنيا بأسرها؟ !

وجوابًا على ذلك - من وجوه - وباختصار نقول:

أولاً: إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أحب إليَّ من الدنيا))؛ أولًا: يفضي إلى درجات الآخرة، وكل ما كان مفضيًا إلى درجات الآخرة، يكون أفضل وأحب من الدنيا؛ لأن الدنيا مفضية إلى الهلاك.

وثانيًا: كانت هي أحب إليه من كل شيء؛ لأنه لا شيء إلا الدنيا والآخرة، فأخرج الخبر عن ذكر الشيء بذكر الدنيا؛ إذ كان لا شيء سواها إلا الآخرة.

وثالثًا: أن يكون خاطب أصحابه بذلك، على ما قد جرى من استعمال الناس بينهم في مخاطبتهم، من قولهم - إذا أراد أحدهم الخبر عن نهاية محبته للشيء -: هو أحب إليَّ من الدنيا، وما أعدل به من الدنيا شيئًا؛ كما قال عز وجل:{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 155]، ومعنى ذلك: لنهينَنَّه ولنُذلنَّه؛ لأن الذين خوطبوا بهذا الخطاب كان في إذلالِهم مَن أرادوا إذلالَه السَّفعُ بالناصية، فخاطبهم بالذي كانوا يتعارفون بينهم.

ورابعًا: أن أفعل قد لا يراد بها المفاضلة؛ كقوله عز وجل: {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 244]، ولا مفاضلة بين الجنة والنار.

وخامسًا: أن يراد المفاضلة بين ما دلت عليه وبين ما دل عليه غيرُها من الآيات المتعلقة به، فرجحها، وجميع الآيات وإن لم تكن من أمور الدنيا فإنها أنزلت لأهل الدنيا، فدخلت كلها فيما طلعت عليه الشمس، والله أعلم.

[انظر: شرح صحيح البخاري (10/ 249)، لابن بطال، وفتح الباري (8/ 583)، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 126)، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (10/ 40)].

(8)

رواه مسلم (2695).

ص: 216

قال العلماء رحمهم الله تعالى -: افتتحَ اللهُ كتابهُ العزيز بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فاختار لفظ الجلالة (الله) ولم يقل: (الْحَمْدُ للكريم) ولا (للعظيم) وهو وإن كان حمداً للعظيم والكريم، إلا أن تخصيص الاسم الدالّ على الذات أبلغ فيالحمد والثناء من ذكر الوصف، لأنك لو قلت: الحمدُ للكريم، لأشْعَرَ أنكَ حَمَدْتَهُ مِن أجْلِ كَرَمِه، فإن قلت: الحُمْدُ لله، أثبَتَّ لَهُ الحَمْدَ لذاته سبحانه وتعالى – كان ذلك أبلغ.

2 -

الحمد لله رب العالمين: قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وقوله - تعالى {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات 182].

وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله - تعالى - اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال سبحان الله كتبت له عشرون حسنة وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال الله أكبر مثل ذلك، ومن قال لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قالالحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنة وحط عنه ثلاثون خطيئة"(1).

3 -

لربي الحمد: عن حذيفة رضي الله عنه أنه: "صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فسمعه حين كبر، قال: الله أكبرُ ذا الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وكان يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم، وإذا رفع رأسه من الركوع قال: لربي الحمد، لربي الحمد، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى، وبين السجدتين رب اغفر، لي رب اغفر لي، وكان قيامه وركوعه، وإذا رفع رأسه من الركوع وسجوده، وما بين السجدتين قريبا من السواء"(2).

(1) رواه: (أحمد والحاكم والضياء) انظر: (صحيح الجامع 1718)

(2)

سنن النسائي 2/ 199 رقم 1069.

ص: 217

4 -

له الحمد: اقتران الحمد بالكلمة الطيبة: شهادة التوحيد: عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشرا، كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل"(1).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل عملا أكثر من ذلك)(2).

5 -

لك الحمد: عن أنس بن مالك قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا يعني ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد وتشهد دعا فقال في دعائه اللهم اني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم إني أسألك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه تدرون بما دعا قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى"(3).

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الحمد عن الرسول عليه الصلاة والسلام، منها:

- روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كلمتانِ خفيفتانِ على اللسانِ، ثقيلتانِ في الميزانِ، حبيبتانِ إلى الرحمنِ: سبحانَ اللهِ وبحمدِه، سبحانَ اللهِ العظيمِ"(4).

- عن أبي مالك الأشعري قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الطَّهورُ شطرُ الإيمانِ، والحمدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسبحان اللهِ والحمدُ للهِ تملآنِ [أو تملأُ] ما بين السماواتِ والأرضِ، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصبرُ ضياءٌ، والقرآنُ حُجَّةٌ لكَ أو عليكَ، كل الناسِ يغدُو فبايِعٌ نفسَه فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها"(5).

- قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إنَّ اللهَ اصطفى مِنَ الكلامِ أربعًا: سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبَرُ، فمَن قال سبحانَ اللهِ كُتِبَ له عشرون حسنةً وحُطَّتْ عنه عشرون سيِّئةً، ومَن قال اللهُ أكبَرُ فمِثْلُ ذلك، ومَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ فمِثْلُ ذلك، ومَن قال الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ مِن قِبَلِ نفسِه كُتِبَتْ له ثلاثون حسنةً وحُطَّتْ عنه ثلاثون سيِّئةً، وفي روايةٍ: مَن قال سبحانَ اللهِ كُتِبَ له عشرون حسنةً وحُطَّتْ عنه عشرون سيِّئةً مِن غيرِ شكٍّ. وفي روايةٍ: فمَن قال سبحانَ اللهِ كُتِبَتْ له عشرون حسنةً وحُطَّتْ عنه عشرون سيِّئةً، ومَن قال الحمدُ للهِ فمِثْلُ ذلك، ومَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ فمِثْلُ ذلك، ومَن قال اللهُ أكبَرُ مِن قِبَلِ نفسِه كُتِبَ له ثلاثون حسنةً وحُطَّتْ عنه ثلاثون سيِّئةً"(6).

(1) متفق عليه، ولفظ (الترمذي):(كانت له عدل أربع رقاب من ولد إسماعيل). (صحيح). (صحيح الجامع 6435).

(2)

متفق عليه، (صحيح الجامع 6437)

(3)

سنن النسائي: 3/ 52 رقم 1300.

(4)

رواه البخاري عن ابي هريرة (6682).

(5)

رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري (223).

(6)

رواه الهيثمي، في مجمع الزوائد، عن أبي سعيد الخدري وأبو هريرة، الصفحة أو الرقم: 10/ 90، خلاصة حكم المحدث: رجالهم رجال الصحيح.

ص: 218

وفي رواية: ن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أحب الكلام (1) إلى الله أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لا يضرك بأيِّهن بدأت (2)، ولا تسمين غلامك يسارًا ولا رباحًا ولا نجيحًا ولا أفلح، فإنك تقول: أثَمَّ هو؟ فلا يكون فيقول: لا، إنما هن أربع فلا تزيدن عليَّ"(3).

وقد ثبت فضل الشكر في الشريعة من أوجهٍ كثيرةٍ، منها:(4)

1 -

إنَّ الله سبحانه وتعالى أثنى في كتابه العزيزعلى أهل الشكر، ووصف أفضل خلقه بذلك، فقال عن نوح عليه السلام:{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3].

2 -

إنَّ الله عز وجل جعل الهدف من الشكّر تفضله بالنعم، قال سبحانه وتعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

3 -

إنَّ الله وعد الشاكرين من عباده بأحسن الجزاء، فقال:{وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].

4 -

إنَّ الله سبحانه وتعالى قد سمّى نفسه شاكراً شكوراً، وذلك بأن يقبل العمل القليل من العبد ويثني على فاعله، قال سبحانه وتعالى:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158].

5 -

قول الله سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 142]، أي أنّ الله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين بذكره وشكره، ونهاهم عن نسيانه وكفره، فذِكْر الله تعالى بأسمائه وصفاته من موجبات محبة الله للعبد، وفي شكره بإقامة الصلاة وأداء العبادات من مقتضيات رحمته وفضله (5).

6 -

قول الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ابراهيم: 7] فقد وعد الله تعالى لمن يشكر نعمه بزيادة تلك النعم (6)

7 -

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا مات ولدُ العبدِ المؤمنِ قال اللهُ للملائكةِ: قبَضْتُم ولَد عبدي؟ قالوا: نَعم قال: قبَضْتُم ثمرةَ فؤادِه؟ قالوا: نَعم قال: فما قال؟ قالوا: استرجَع وحمِدك قال: ابنوا له بيتًا في الجنَّةِ وسمُّوه بيتَ الحمدِ"(7).

(1) قال النووي: "هذا محمول على كلام الآدمي، وإلا فالقرآن أفضل، وكذا قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق، فأما المأثور في وقت أو حال ونحو ذلك فالاشتغال به أفضل، والله أعلم"؛ شرح مسلم (9/ 95).

(2)

قال الصنعاني: "قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يضرك بأيِّهن بدأت)): دل على أنه لا ترتيب بينها، ولكن تقديم التنزيه أولى؛ لأنه تقدم التخلية - بالخاء المعجمة - على التحلية - بالحاء المهملة - والتنزيه: تخلية عن كل قبيح، وإثبات الحمد والوحدانية والأكبرية: تحلية بكل صفات الكمال، لكنه لما كان تعالى منزَّهةً ذاتُه عن كل قبيح، لم تضرَّ البداءة بالتحلية وتقديمها على التخلية"؛ سبل السلام (4/ 26).

(3)

أخرجه مسلم رقم: (2137).

(4)

وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت (1404 - 1427 هـ)، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الأولى)، مصر: مطابع دار الصفوة، صفحة 175، جزء 266.

(5)

جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري (2003)، أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير (الطبعة الخامسة)، السعودية: مكتبة العلوم والحكم، صفحة 132، جزء 11. بتصرّف.

(6)

المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

(7)

رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن أبي موسى الأشعري، الصفحة أو الرقم: 2948، أخرجه في صحيحه.

ص: 219

8 -

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ ليرضى عن العبدِ أن يأكلَ الأكلةَ فيحمدَه عليها. أو يشربَ الشربةَ فيحمدَه عليها"(1).

9 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ أمر ذي بالٍ لا يُبدَأُ بالحمد للَّهِ فَهوَ أقطعُ، وفي روايةٍ: بالحمدِ فَهوَ أقطعُ، وفي روايةٍ: كل كلامٍ لا يُبدَأُ فيهِ بالحمد للَّهِ فَهوَ أجذَمُ، وفي رواية: كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأُ فيهِ ببسمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ فَهوَ أقطعُ"(2).

قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، أي:" مالك العالمين"(3).

قال الواحدي: أي: " مالك المخلوقات كلها"(4).

قال التستري: أي: " سيد الخلق المربي لهم، والقائم بأمرهم، المصلح المدبر لهم قبل كونهم، وكون فعلهم المتصرف بهم لسابق علمه فيهم، كيف شاء لما شاء، وأراد وحكم وقدر من أمر ونهي، لا رب لهم غيره"(5).

و(الرب): " هو من اجتمع فيه ثلاثة أوصاف: الخلق، والملك، والتدبير؛ فهو الخالق المالك لكل شيء المدبر لجميع الأمور"(6).

قال السعدي: " (الرب): هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدوها، لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة، فمنه تعالى، وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة.

فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا.

والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكمله لهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه، وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر. ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة" (7).

و{العالمين} : "كل ما سوى الله فهو من العالَم؛ وُصفوا بذلك؛ لأنهم عَلَم على خالقهم سبحانه وتعالى؛ ففي كل شيء من المخلوقات آية تدل على الخالق: على قدرته، وحكمته، ورحمته، وعزته، وغير ذلك من معاني ربوبيته"(8).

قال مقاتل: " {الْعَالَمِينَ}: " عني: الجن والإنس مثل قوله: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] " (9).

واختُلف في اشتقاق (الرب) على أقوال (10):

(1) رواه مسلم عن أنس بن مالك (2734).

(2)

رواه النووي في الأذكار، عن أبي هريرة: ص 149. حديث حسن، روي موصولا ومرسلا ورواية.

(3)

تفسير النسفي: 1/ 31. [بتصرف بسيط].

(4)

الوجيز: 88.

(5)

تفسير التستري: 23.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 10.

(7)

تفسير السعدي: 39.

(8)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 10.

(9)

تفسير مقاتل: 1/ 36.

(10)

انظر: النكت والعيون: 1/ 54.

ص: 220

أحدها: أنه مشتق من المالك، كما يقال رب الدار أي مالكها، ومنه قول صفوان بن أمية (1):" لأن يَرُبَّنِي رجل من قريش أحب إِلي من أن يَرُبَّنِي رجل من هوازن، يعني: أن يكون ربًا فوقي، وسيدًا يملكني"(2).

ومن ملك شيئا فهو ربّه، يقال: هو ربّ الدار وربّ الضيعة (3)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل:"أَرَبُّ إِبلٍ أنت أم رَبُّ غنم؟ "(4)، وقال النابغة (5):

فَإِنْ تَكُ رَبَّ أَذْوَادٍ بِحُزْوى

أَصَابُوا مِنْ لِقَاحِكَ مَا أَصَابُوا

فـ (الرب)(6): بمعنى المالك للشيء، والأمثلة عليه كثيرة، نذكر منها قوله عز وجل:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، فهو سبحانه مالك كل شيء، ونحو هذا قوله عز وجل:{قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86]، أي: إنه سبحانه هو مالك السماوات السبع والعرش العظيم وسيدهما، فلا مالك لهما سواه، ولا سيد لهما غيره. ونحوه قوله تعالى:{وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164]، قال القرطبي: أي: "مالكه"(7).

والثاني: أنه مشتق من السيد، لأن السيد يسمى ربّاً، قال تعالى:{أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} [يوسف: 41] يعني سيده، وقوله:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]. ومنه لَبِيد بن ربيعة (8):

وأَهْلكْنَ يومًا ربَّ كِنْدَة وابنَه

ورَبَّ مَعدٍّ، بين خَبْتٍ وعَرْعَرِ

يعني بربِّ كندة: سيِّد كندة. ومنه قول نابغة بني ذُبيان (9):

تَخُبُّ إلى النُّعْمَانِ حَتَّى تَنالَهُ

فِدًى لكَ من رَبٍّ طَرِيفِي وَتَالِدِي

(1) صفوان بن أمية بن خلف الجمحي القرشي، أسلم بعد الفتح، وروى أحاديث وشهد اليرموك، توفي سنة إحدى وأربعين. انظر ترجمته في "الإصابة" 2/ 187، "تجريد أسماء الصحابة" 1/ 266، "سير أعلام النبلاء" 2/ 562، "طبقات ابن سعد" 5/ 449.

(2)

التفسير البسيط: 1/ 487، وذكره الأزهري في "التهذيب"، وفيه: أن صفوان كان يرد بذلك على أبي سفيان". التهذيب"(رب) 2/ 1336، وذكره ابن هشام في "السيرة"، وذكر عن ابن إسحاق أنه كان يرد به على (جبلة بن الحنبل) وقال ابن هشام (كلدة بن الحنبل)"السيرة" لابن هشام 4/ 72 - 73.

(3)

انظر: "تهذيب اللغة"(رب) 2/ 1336، " الزينة" 2/ 27، "اشتقاق أسماء الله" ص 32، والتفسير البسيط: 1/ 487.

(4)

أخرجه أحمد في (مسنده) عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فصعد في النظر وصوَّب وقال: "أَرَبُّ إبل .... " الحديث 4/ 136، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 25/ ب، والرازي في "الزينة" 2/ 29.

(5)

البيت في رواية الواحدي في تفسيره: 1/ 487، وأما رواية البيت في "الديوان":

فَإِنْ تَكُنِ الفَوَارِسُ يَوْمَ حِسْي

أَصَابُوا مِنْ لِقَائِكَ مَا أَصَابُوا

"الديوان" ص 84، ونحو رواية الديوان في "مجاز القرآن" 1/ 311، "الزاهر" 1/ 575، "الزينة" 2/ 27، وبمثل رواية الواحدي ورد في "تفسير الثعلبي" 1/ 25/ ب، ولعله أخذه عنه، و (حُزْوى) بضم الحاء موضع بنجد، انظر:"معجم البلدان" 2/ 255.

(6)

وورد ذكر (الرب) في القرآن في أكثر من (978) موضع.

(7)

انظر: تفسير القرطبي: 1/ 137، ولسان العرب: 1/ 399.

(8)

ديوانه القصيدة: 15/ 32. وسيد كندة هو حجر أبو امرئ القيس. ورب معد: حذيفة بن بدر، كما يقول شارح ديوانه، وأنا في شك منه، فإن حذيفة بن بدر قتل بالهباءة. ولبيد يذكر خبتًا وعرعرًا، وهما موضعان غيره.

(9)

ديوانه: 89، والمخصص 7:154. الطريف والطارف: المال المستحدث، خلاف التليد والتالد: وهو العتيق الذي ولد عندك.

ص: 221

فـ (الرب): بمعنى السيد المطاع، والرئيس وصاحب السلطة النافذ الحكم، والمعترف له بالرفعة والسيادة، والمالك لصلاحيات التصرف، ومنهقوله سبحانه:{وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]، وقوله تعالى:[اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ][يوسف: 42](1)، وقوله تعالى:{قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50]، و (الربّ) بمعنى الملك والسيد، قال تعالى:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش: 3]، وقوله سبحانه:{قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86](2).

وذهب ابن عاشور إلى أن "الأكثر في كلام العرب ورود (الرب) بمعنى المالك والسيد (3).

والثالث: أنه مشتق من (الصلح)، لأن الرجل المصلح للشيء يُدعى ربًّا، ومنه قول الفرزدق بن غالب (4):

كانُوا كَسَالِئَةٍ حَمْقَاءَ إذْ حَقَنتْ

سِلاءَها فِي أدِيم غَيْرِ مَرْبُوبِ

يعني بذلك: في أديم غير مُصلَحٍ. ومن ذلك قيل: إن فلانًا يَرُبُّ صنيعته عند فلان؛ إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها، ومن ذلك قول علقمة بن عَبَدة (5):

فكُنْتَ امرَأً أَفْضَتْ إليك رِبَابَتي

وَقَبْلَكَ رَبَّتْني، فَضِعْتُ رُبُوبُ

يعنى بقوله: أفضتْ إليك، أي وصلتْ إليك رِبَابتي، فصرتَ أنت الذي ترُبُّ أمري فتصلحه (6).

(1) ومنه قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [لأنعام: 164]، أي: أغير الله أتخذ إلهاً أعبده. ومنها قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 54]، أي: إن المعبود الحق الذي ينبغي أن يُفرد بالعبادة هو الله دون سواه. ومنها قول الباري سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [يونس: 3]، أي: إن الله سبحانه هو المعبود الحق الذي ينبغي أن تخلص له العبادة.

(2)

هذا، وقد ذكر بعض المفسرين أن لفظ (الرب) في القرآن جاء بمعنى كبير القوم، وتأول عليه قوله تعالى على لسان قوم موسى:{فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، وذلك أن هارون عليه السلام كان أسن من موسى عليه السلام، وكان معظَّماً في بني إسرائيل محبَّباً، لسعة خُلُقه، ورحب صدره، فكأنهم قالوا: اذهب أنت وكبيرك. وقد ذكر هذا القول الدامغاني كأحد معنيين للفظ (الرب). قال ابن عطية معقباً على هذا القول: "وهذا تأويل بعيد، وهارون إنما كان وزيراً لموسى، وتابعاً له في معنى الرسالة". [المحرر الوجيز: 2/ 175].

(3)

انظر: التحرير والتنوير: 1/ 166 ومابعدها.

(4)

ديوانه: 25. سلأ السمن يسلؤه: طبخه وعالجه فأذاب زبده. والسلاء، بكسر السين: السمن. وحقن اللبن في الوطب، والماء في السقاء: حبسه فيه وعبأه. رب نحى السمن يربه: دهنه بالرب، وهو دبس كل ثمرة، وكانوا يدهنون أديم النحى بالرب حتى يمتنوه ويصلحوه، فتطيب رائحته، ويمنع السمن أن يرشح، من غير أن يفسد طعمه أو ريحه. وإذا لم يفعلوا ذلك بالنحى فسد السمن. وأديم مربوب: جدا قد أصلح بالرب. يقول: فعلوا فعل هذه الحمقاء، ففسد ما جهدوا في تدبيره وعمله.

(5)

ديوانه: 29، والمخصص 17: 154، والشعر يقوله للحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان، وهو الحارث الأعرج المشهور. قال ابن سيده:" ربوب: جمع رب، أي الملوك الذين كانوا قبلك ضيعوا أمري، وقد صارت الآن ربابتي إليك - أي تدبير أمري وإصلاحه - فهذا رب بمعنى مالك، كأنه قال: الذين كانوا يملكون أمري قبلك ضيعوه ". وقال الطبري فيما سيأتي: " يعني بقوله: ربتني: ولي أمري والقيام به قبلك من يربه ويصلحه فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني فضعت ". والربابة: المملكة، وهي أيضًا الميثاق والعهد. وبها فسر هذا البيت، وأيدوه برواية من روى بدل " ربابتي "، " أمانتي ". والأول أجود.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 141 - 142.

ص: 222

ومنه قول الشاعر (1):

يَرُبُّ الذِّي يَأْتِي مِنَ الخَيْرِ أَنَّهُ

إذَا فَعَلَ المَعْرُوفَ زَادَ وَتَمَّمَا

فالمعنى: على هذا أنه يربي الخلق ويغذوهم بما ينعم عليهم (2).

فالرب هو الكفيل والرقيب، والمتكفل بالتعهد وإصلاح الحال، ومنه قوله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام:{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77]، وقوله عز وجل:{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9](3)، قال ابن كثير:" أي: هو الذي جعل المشرق مشرقاً، تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربا تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها، مع هذا النظام الذي سخرها فيه وقدرها"(4). ونظيره قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9]، أي: هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب لا إله إلا هو.

والرابع: أن الرب: المدَبِّر، ومنه قول الله عز وجل:{وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ} وهم العلماء، سموا ربَّانيِّين، لقيامهم بتدبير الناس بعلمهم، وقيل: ربَّهُ البيت، لأنها تدبره.

والخامس: الرب مشتق من التربية، ومنه قوله تعالى:{وَرَبَآئِبُكُمُ اللَاّتِي في حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] فسمي ولد الزوجة ربيبة، لتربية الزوج لها، ومنه قوله تعالى:{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23](5)، ومنه قول الشاعر (6):

فَإِنْ كُنْتِ مِنِّي أَوْ تُرِيدِين صُحْبَتِي

فَكُونِي لَهُ كَالسَّمْنِ رُبَّتْ لَهُ الأَدَم

قال الطبري: " فربّنا جلّ ثناؤه: السيد الذي لا شِبْه لهُ، ولا مثل في سُؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر"(7).

(1) ورد البيت بدون عزو في "الزاهر" 1/ 576، "تهذيب اللغة"(رب) 2/ 1336، "تفسير الثعلبي" 1/ 25/ ب، "الوسيط" للواحدي 1/ 17، "اللسان"(ربب) 3/ 1547، ورواية البيت في غير الثعلبي (من العرف) بدل (من الخير)، (سئل) بدل (فعل).

(2)

التفسير البسيط: 1/ 486.

(3)

انظر: المصطلحات الأربعة في القرآن، أبو الأعلى المودودي، هذه رساله ألفها الاستاذ السيد أبو الأعلى المودودي في سنة 1360 هـ - 1941 م، ونشر فصولها تباعا في مجلته الشهرية " ترجمان القرآن " ثم جمعها ونشرها في رسالة سماها " المصطلحات الأربعة في القرآن ": ص: 28 ومابعدها.

(4)

تفسير ابن كثير: 6/ 140.

(5)

لا يذهبن بأحد الظن أن يوسف عليه الصلاة والسلام أراد بكلمة (ربي) في الآية عزيز مصر، كما ذهب إليه بعض المفسرين، وإنما يرجع الضمير في (انه) إلى الله الذي قد استعاذ به يوسف عليه السلام بقوله:(معاذ الله).

ولما كان المشار إليه قريبا من ضمير الاشارة فأي حاجة بنا إلى أن نلتمس له مشارا إليه آخر لم يذكر قريبا منه.

ونقول: ما نفاه الاستاذ المودودي من أن الضمير في (إنه) يعود على عزيز مصر رواه الطبري في التفسير 12/ 108 من وجوه عن مجاهد وابن اسحاق، ولم ينقل غيره. وقد روى الوجه الذي ذهب إاليه الاستاذ المودودي الطبرسي في (مجمع البيان) 5/ 223 مقال:" .. وقيل: أن الهاء عائد إلى الله سبحانه، والمعنى أن الله ربي رفع من محلي وأحسن إلى وجعلني نبياً فلا أعصيه أبدا "

(6)

البيت لعمرو بن شأس، كان له ابن يقال له (عرار) من أمة سوداء، وكانت امرأته تؤذيه وتستخف به، فقال قصيدة يخاطبها، ومنها هذا البيت، يقول: إن كنت تريدين مودتي، فأحسني إليه كما تستصلحين وعاء السمن حتى لا يفسد عليك، و (الأَدَم) جمع أَدِيم: الجلد المدبوغ، و (الرُّبُّ): خلاصة التمر بعد طبخه وعصره. ورد البيت في "شعر عمرو" ص 71، "الشعر والشعراء" ص 274، "طبقات الشعراء" للجمحي ص 80، "أمالي القالي" 2/ 189، "اشتقاق أسماء الله" ص 33، "الصحاح"(ربب) 1/ 131، "اللسان".

(7)

تفسير الطبري: 1/ 142.

ص: 223

قال الماوردي: "فعلى هذا، أن صفة الله تعالى بأنه رب، لأنه مالك أو سيد، فذلك صفة من صفات ذاته، وإن قيل لأنه مدبِّر لخلقه، ومُربِّيهم، فذلك صفة من صفات فعله، ومتى أدْخَلت عليه الألف واللام. اختص الله تعالى به، دون عباده، وإن حذفتا منه، صار مشتركاً بين الله وبين عباده "(1).

قال ابن القيم: " ربوبيته للعالم تتضمن تصرفه فيه، وتدبيره له، ونفاذ أمره كل وقت فيه، وكونه معه كل ساعة في شأن، يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويصرف الأمور بمشيئته وإرادته، وإنكار ذلك إنكار لربوبيته وإلهيته وملكه"(2).

وقد ذهب الزمخشري ومن تابعه إلى أن لفظ (الرب) لم يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً (3)، وقد رد ابن عاشور قول الزمخشري بقوله:"وجمعه على (أرباب) أدل دليل على إطلاقه على متعدد، فكيف تصح دعوى تخصيص إطلاقه عندهم بالله تعالى؟ "(4)، واستدل ابن عاشور على إطلاقه غير مضاف على غيره سبحانه، بقوله تعالى:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، فهذا إطلاق لـ (الرب) غير مضاف على غير الله تعالى.

وأما (العالَمون): فـ"جمع (عالَم)، والعالَم: جمعٌ لا واحدَ له من لفظه، كالأنام والرهط والجيش، ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جِمَاعٍ لا واحد له من لفظه، والعالم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منها عالَمٌ، وأهل كل قَرْن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان. فالإنس عالَم، وكل أهل زمان منهم عالمُ ذلك الزمان. والجنُّ عالم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كلّ جنس منها عالمُ زمانه. ولذلك جُمع فقيل: عالمون، وواحده جمعٌ، لكون عالم كلّ زمان من ذلك عالم ذلك الزمان"(5)، قال العجاج (6):

يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي

فَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا الْعَالَمِ

واختُلِف في (العالم)، على أقوال (7):

أحدها: أن العالم كل ما خلقه الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهذا قول أبي إسحاق الزجَّاج (8)، وقتادة (9)، ومجاهد (10)، وابن عباس (11) في رواية الضحاك عنه.

قال الثعلبي: "واحتجوا بقوله: {قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا} [الشعراء: 23 - 24] "(12).

(1) النكت والعيون: 1/ 54.

(2)

الصواعق المرسلة: 4/ 1223.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 10.

(4)

التحرير والتنوير: 1/ 167.

(5)

تفسير الطبري: 1/ 143، وانظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 46، والنكت والعيون: 1/ 54.

(6)

ديوانه: 60، وطبقات فحول الشعراء: 64، وخندف: أم بني إلياس بن مضر، مدركة وطابخة، وتشعبت منهم قواعد العرب الكبرى.

(7)

انظر: النكت والعيون: 1/ 54 - 55.

(8)

انظر: معاني القرآن: 1/ 46.

(9)

حكاه عنه الثعلبي في تفسيره: 1/ 112.

(10)

حكاه عنه الثعلبي في تفسيره: 1/ 112.

(11)

انظر: تفسير الطبري (156): ص 1/ 144.

(12)

تفسير الثعلبي: 1/ 112.

ص: 224

والثاني: أنّه الإنس، والجنِّ، وهذا قول ابن عباس (1)، وسعيد بن جبير (2)، ومجاهد (3)، وابن جريج (4)، ومقاتل بن سليمان (5).

ودليلهم قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1]، ولم يكن نذيرا للبهائم (6).

كما ويقوي هذا القول، جمع الكلمة على (عالمون)، وهو جمع لايكون إلا مع العاقل! فيكون هذا دليلا على أن الحديث عن عوالم عاقلة.

والثالث: أن العالم: الدنيا وما فيها (7).

والرابع: أهل كل زمان عالم، قاله الحسين بن الفضل، لقوله تعالى:{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165]، أي من الناس (8)، وقال العجّاج (9):

فَخِنْدِفٌ هامَةُ هَذَا العَالَمِ

مبارك للأنبياء خاتم

وقال جرير بن الخطفى (10):

تنصفه (11) البرية وهو سام

ويضحي العالمون له عيالا

والخامس: أن العالم عبارة عمن يعقل، وهم أربعة أمم: الإنس والجن والملائكة والشياطين، ولا يقال للبهائم: عالم، لأن هذا الجمع إنما هو جمع من يعقل خاصة. وهذا قول الفراء وأبي عبيدة (12).

والسادس: أن العالمين، أي: المخلوقين. قاله أبو عبيدة، وأنشد قول لبيد بن ربيعة (13):

ما إن رأيت ولا سمعـ

تُ بمثلهم فى العالمينا

والسابع: أنهم المرتزقون، قاله زيد بن أسلم (14)، ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء (15): هم الروحانيّون، وابن قتيبة (16)، وهو معنى قول ابن عباس كذلك:"كل ذي روح دبّ على وجه الأرض"(17).

(1) انظر: تفسير الطبري (157)، و (158): ص 1/ 144.

(2)

انظر: تفسير الطبري (159)، و (160): ص 1/ 144 - 145.

(3)

انظر: تفسير الطبري (161)، و (162): ص 1/ 145.

(4)

انظر: تفسير الطبري (165): ص 1/ 146.

(5)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 36.

(6)

انظر: تهذيب اللغة للأزهري: 2/ 416.

(7)

انظر: النكت والعيون: 1/ 55.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 144.

(9)

هو عبدالله بن رؤبة أبو الشعثاء، اشتهر بالعجاج الراجز، لقي أبا هريرة، وسمع منه أحاديث، والبيت في ديوانه:60.

(10)

ديوانه: 2/ 750.

(11)

تنصفه: أي تطلب فضله.

(12)

انظر: حكاه عنهما القرطبي في تفسيره: 1/ 213. وقول أبي عبيدة: أن العالمين: المخلوقين.

(13)

ديوانه: 1/ 12، والأغاني: 15/ 379، ونسبه القرطبي للأعشى، ولم نقف عليه للأعشى.

(14)

حكاه عنه القرطبي في تفسيره: 1/ 213.

(15)

حكاه عنه الثعلبي في تفسيره: 1/ 112.

(16)

انظر: غريب القرآن: 38، قال:" (العالَمُونَ): أصناف الخلق الرُّوحانِيِّين، وهم الإنس والجن والملائكة، كلُّ صِنْفٍ منهم عالَم".

(17)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 112، وزاد المسير: 1/ 12، وتفسير القرطبي: 1/ 213.

ص: 225

والثامن: العالمون: أهل الجنة وأهل النار. حكاه الثعلبي عن جعفر الصادق (1).

قال الشنقيطي: " لم يبين هنا ما (العالمون)، وبين ذلك في موضع آخر بقوله: {قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا} [الشعراء: 23 - 24] "(2).

والظاهر أن {العالَمين} : جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله جل وعلا، و (العالَم) جمع لا واحدَ له من لفظه، و (العوالم) أصناف المخلوقات في السموات والأرض في البر والبحر، فالإنس عالَم، والجن عالَم، والملائكة عالَم (3). والله أعلم.

واختلفوا في اشتقاقه على وجهين (4):

أحدهما: أنه مشتق من العلم، وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لما يعقل.

والثاني: أنه مشتق من العلامة، لأنه دلالة على خالقه، وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لكُلِّ مخلوقٍ.

قال الخليل: "العلم والعلامة والمعلم: ما دل على الشيء، فالعالم دال على أن له خالقا ومدبرا"(5)، وقد ذكر أن رجلا قال بين يدي الجنيد (6): الحمد لله فقال له: أتمها كما قال الله قل رب العالمين فقال الرجل: ومن العالمين حتى تذكر مع الحق؟ قال: قل يا أخي؟ فإن المحدث إذا قرن مع القديم لا يبقى له أثر (7).

واختلفوا في مبلغ (العالمين) وكيفيتهم، فقال: أبو العالية: "الجن عالم والإنس عالم، وسوى ذلك للأرض أربع زوابا في كل زاوية ألف وخمس مئة عالم، خلقهم لعبادته"(8).

وهذه الأخبار ليست دقيقة، قال ابن كثير بعد أن أورد قول أبي العالية:" وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح"(9). وهذا حق.

وقال كعب الأحبار: "لا يحصي عدد العالمين إلّا الله، قال الله: {وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المثر: 31] "(10).

قال أبو حيان: "ونقل عن المتقدمين أعداد مختلفة في العالمين وفي مقارها، الله أعلم بالصحيح"(11).

وفي قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2]، ثلاثة قراءات (12):

(1) تفسير الثعلبي: 1/ 112.

(2)

أضواء البيان: 1/ 5.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 143، معاني القرآن للزجاج: 1/ 46.

(4)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 112، والنكت والعيون: 1/ 55.

(5)

العين: 2/ 153 (علم).

(6)

أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري، أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف السني في القرن الثالث الهجري، أصله نهاوند في همدان (مدينة اذرية)، ومولده ومنشؤه ببغداد. انظر: تاريخ بغداد" (8/ 168)، وسير أعلام النبلاء"(11/ 43).

(7)

تفسير القرطبي: 1/ 215.

(8)

تفسير الطبري (164): ص 1/ 146، وابن ابي حاتم (15): ص 1/ 27

(9)

تفسير ابن كثير: 1/ 132.

(10)

تفسير الثعلبي: 1/ 112.

(11)

البحر المحيط: 1/ 13.

(12)

انظر: المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، ابن جني: 1/ 37.

ص: 226

إحداهما: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، قرأ بها نافع، ابن كثير، أبو عمرو، ابن عامر، عاصم، حمزة، الكسائي.

قال الهمذاني: " (الحمد) رفع بالابتداء، وخبره الظرف هو (الله)، متعلق بمحذوف، أي: الحمد ثابت أو مستقر لله"(1)، وهو اجود القراءات، لما فيه من التعميم والدلالة على ثبات المعنى واستقراره.

والثانية: {الْحَمْدِ لِلَّهِ} ، قرأ بها الحسن البصري وابن عبلة، وزيد بن علي، وهي قراءة شاذة.

والثالثة: {الْحَمْدُ لُله} . مضمومة الدال واللام، قرأ بها بعض أهل البادية.

قال ابن جني: " وكلاهما شاذ [أي: القراءة الثانية والثالثة] في القياس والاستعمال؛ إلا أن من وراء ذلك ما أذكره لك؛ وهو أن هذا اللفظ كثر في كلامهم، وشاع استعماله، وهم لِمَا كثر من استعمالهم أشد تغييرًا، كما جاء عنهم لذلك: لم يَكُ، ولا أَدْرِ، ولم أُبَلْ، وأَيْشٍ تقول، وجا يجي، وسا يسو، بحذف همزتيهما، فلما اطرد هذا ونحوه لكثرة استعماله أَتبعوا أحد الصوتين الآخر، وشبهوهما بالجزء الواحد وإن كانا جملة من مبتدأ وخبر؛ فصارت "الْحَمْدُ لُله" كعُنُق وطُنُب، و"الْحَمْدِ لِله" كإِبِل وإِطِل"(2).

وفي {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، ثلاثة قراءات متواترة (3):

إحداها: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، : قرأ بها نافع، ابن كثير، أبو عمرو، ابن عامر، عاصم، حمزة، الكسائي.

فـ (رب العالمين) أي مالكهم، وكل من ملك شيئا فهو ربه، فالرب: المالك (4)، وجرّ على النعت لله سبحانه وتعالى أو على البدل (5).

والثانية: {رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، وهي قراءة الكسائي.

ومن نصب (رب العالمين) فإنما ينصبه لى المدح والثناء، كأنه لما قال:(الحمد لله) استدل بهذا اللفظ على أنه ذاكر لله فكأنما قال: (أذكر رب العالمين)، فعلى هذا لو قراء في غير القرآن (رب العالمين) مرفوعا على المدح أيضا لكان جائزا على معنى (هور رب العالمين)(6)، وقيل النصب -هنا- على النداء، ذكره الكسائي: أي الحمد لله رباً وإلهاً (7).

والثالثة: {رَبُّ الْعَالَمِينَ} : قرأ بها أبو جعفر.

والرفع على: (هو ربّ العالمين)(8).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: إثبات الحمد الكامل لله عز وجل، وذلك من "أل" في قوله تعالى:{الحمد} ؛ لأنها دالة على الاستغراق.

(1) الكتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد، المنتجب الهمذاني، دار الزمان، المدينة المنورة: 1/ 69.

(2)

المحتسب: 1/ 37.

(3)

انظر: الكتاب الفريد في اعراب القران المجيد: 1/ 73، ومجمع البيان، الطبرسي: 1/ 29.

(4)

انظر: تفسير القرطبي: 1/ 136.

(5)

انظر: الكتاب الفريد في اعراب القران المجيد: 1/ 73

(6)

مجمع البيان، الطبرسي: 1/ 29.

(7)

انظر: انظر: الكتاب الفريد في اعراب القران المجيد: 1/ 73.

(8)

انظر: الكتاب الفريد في اعراب القران المجيد: 1/ 73، ومجمع البيان، الطبرسي: 1/ 29.

ص: 227

2 -

ومنها: أن الله تعالى مستحق مختص بالحمد الكامل من جميع الوجوه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه ما يسره قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات"؛ وإذا أصابه خلاف ذلك قال: "الحمد لله على كل حال"(1).

3 -

ومنها: تقديم وصف الله بالألوهية على وصفه بالربوبية؛ وهذا إما لأن "الله" هو الاسم العَلَم الخاص به، والذي تتبعه جميع الأسماء؛ وإما لأن الذين جاءتهم الرسل ينكرون الألوهية فقط ..

4 -

ومنها: عموم ربوبية الله تعالى لجميع العالم؛ لقوله تعالى: {العالمين} .

القرآن

{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة: 3]

التفسير:

الرَّحْمَنِ الذي وسعت رحمته جميع الخلق، الرَّحِيمِ، بالمؤمنين، وهما اسمان من أسماء الله تعالى.

قوله تعالى: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]، " أي: ذو الرحمة الواسعة، والموصل للرحمة من يشاء من عباده" (2).

قال مقاتل: " اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر الرحمن يعني المترحم، الرحيم يعني المتعطف بالرحمة"(3).

قال المراغي: أي: " المفيض للنعم المحسن على عباده بلا حصر ولا نهاية"(4).

قال العز بن عبدالسلام: أي: " الراحم، أو الرحمن أبلغ"(5).

قال الشنقيطي (6): "هما وصفان لله - تعالى - واسمان من أسمائه الحسنى، مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، والرحمن أشدُّ مبالغة من الرحيم، لأن الرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة، وعلى هذا أكثر العلماء"(7).

قال أبو السعود: " صفتان لله فإن أريد بما فيهما من الرحمة ما يختص بالعقلاء من العالمين أو ما يفيض على الكل بعد الخروج إلى طور الوجود من النعم فوجه تأخيرهما عن وصف الربوبية ظاهر وإن أريد ما يعم الكل في الأطوار كلها حسبما في قوله تعالى ورحمتى وسعت كل شاء فوجه الترتيب أن التربية لا تقتضي المقارنة للرحمة فإيرادهما في عقبها للإيذان بأنه تعالى متفضل فيها فاعل بقضية رحمته السابقة من غير وجوب عليه وبأنها واقعة

(1) سنن ابن ماجة (3803): ص 2/ 1250.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 5.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 36.

(4)

تفسير المراغي: 1/ 31.

(5)

تفسير العز بن عبدالسلام: 1/ 89.

(6)

هو محمد الأمين بن محمد المختار بن عبدالقادر الجكني الشنقيطي المدني، ولد بموريتانيا عام 1325 هـ، حوالي 17 فبراير 1905، بمدينة تنبه في موريتانيا، اجتهد في طلب العلم فأصبح من علماء موريتانيا، وتولى القضاء في بلده، فكان موضع ثقة حكَّامها ومحكوميها، وكان من أوائل المدرِّسين في الجامعة الإسلامية سنة 1381 هـ، ثم عيِّن عضوًا في مجلس الجامعة، كما عيِّن عضوًا في مجلس التأسيس لرابطة العالم الإسلامي، وعضوًا في هيئة كبار العلماء 8/ 7 /1391 هـ، توفي بمكة بعد أدائه لفريضة الحج في السابع عشر من ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وصُلِّي عليه بالمسجد الحرام، ودفن بمقبرة المعلاة بمكة.

(7)

انظر "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لعبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله نشر مؤسسة الرسالة (ص/39).

ص: 228

على أحسن ما يكون والاقتصار على نعته تعالى بهما في التسمية لما أنه الأنسب بحال المتبرك المستعين باسمه الجليل والأوفق لمقاصده" (1).

قال السعدي: "اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن عداهم فلهم نصيب منها، واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها، الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأحكام الصفات، فيؤمنون مثلاً بأنه رحمن رحيم، ذو الرحمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم. فالنعم كلها، أثر من آثار رحمته، وهكذا في سائر الأسماء. يقال في العليم: إنه عليم ذو علم، يعلم [به] كل شيء، قدير، ذو قدرة يقدر على كل شيء"(2).

قال الصابوني: " صفتان مشتقتان من الرحمة، أي الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمَّ فضله جميع الأنام، بما أنعم على عباده من الخلق والرزق والهداية إلى سعادة الدارين، فهو الرب الجليل عظيم الرحمة دائم الإِحسان"(3).

قال ابن العثيمين: " {الرَّحْمَنِ}: صفة للفظ الجلالة، و {الرحيم}: صفة أخرى، والرحمن هو ذو الرحمة الواسعة، والرحيم هو ذو الرحمة الواصلة، فالرحمن وصفه، والرحيم فعلُه، ولو أنه جيء بـ"الرحمن" وحدَه، أو بـ"الرحيم" وحده، لشمل الوصف والفعل، لكن إذا اقترنا فسِّر (الرَّحْمَنِ) بالوصف، و (الرَّحِيم) بالفعل"(4).

قال ابن القيم (5): {"الرحمن} فإن رحمته تمنعُ إهمالَ عباده، وعدم تعريفهم ما ينالون به غايةَ كمالِهم، فمن أعطى اسم "الرحمن" حقه عَرَف أنه متضمِّن لإرسال الرسل، وإنزال الكتب، أعظمَ من تضمنه إنزال الغيث، وإنبات الكلأ، وإخراج الحَب، فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح، لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظَّ البهائم والدواب، وأدرك منه أولو الألباب أمرًا وراء ذلك" (6).

قال الماتريدي: " اسمان مأخوذان من الرحمة، لكنه روى فيهما:«رقيقان أحدهما أرق من الآخر» (7)، وكأن الذي روي عنه هذا أراد به: لطيفان أحدهما ألطف من الآخر، دليل ذلك وجهان:

(1) تفسير أبي السعود: 1/ 15 ..

(2)

انظر "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لعبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله نشر مؤسسة الرسالة (ص/39).

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 19.

(4)

تفسير العلامة محمد العثيمين (2/ 6).

(5)

هو الفقيه، المفتي، الإمام الرباني شيخ الإسلام الثاني أبو عبدالله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي، ثم الدِّمشقي، الشهير بـ"ابن قيم الجوزية"، عاش في دمشق ودرس على يد ابن تيمية الدمشقي، ولازمه قرابة 16 عامًا، وتأثر به، وسجن في قلعة دمشق في أيام سجن ابن تيمية، وخرج بعد أن توفِّي شيخه عام 728 هـ، ومن تلاميذه: ابن رجب الحنبلي، وابن كثير، والذهبي، وابن عبدالهادي، والفيروزآبادي صاحب "القاموس المحيط" - رحمهم الله تعالى - وغيرهم، وتوفي رحمه الله ليلة الخميس، ثالث عشرين من رجب الفرد سنة (7511 هـ)، ودفن بدمشق بمقبرة الباب الصغير.

(6)

انظر: تفسير القرآن الكريم؛ لابن القيم - نشر دار ومكتبة الهلال - بيروت ص/12، وينتبه أن هذا التفسير ليس مَن جمع ابن القيم- رحمه الله؛ وإنما مِن صُنع بعض المعاصِرين في أوساط هذا القرنِ العشرين الذي جمعه من مؤلفات ابن القيم وقد أثنى عليه أهل العلم والله أعلم.

(7)

القول لخالد بن صفوان التميمي كما سيأتي، انظر: تفسير ابن أبي حاتم (21): ص 1/ 28.

ص: 229

أحدهما: مجيء الأثر في ذلك -اللطيف- في أسماء الله تعالى مع ما نطق به الكتاب، ولم يذكر في شيء من ذلك رقيق، ومعنى اللطيف: استخراج الأمور الخفية وظهورها له؛ كقوله: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} ، إلى قوله:{لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].

والثاني: أن اللطيف حرف يدل على البر والعطف، والرقة على رقة الشيء التي هي نقيض الغلظ والكثافة، كما يقال: فلان رقيق القلب.

وقوله: أحدهما أرق من الآخر، بمعنى اللطف - يحتمل وجهين:

أحدهما: التحقيق بأن اللطف بأحد الحرفين أخص وأليق، وأوفر وأكمل، فذلك رحمته بالمؤمنين أنه يقال: رحيم بالمؤمنين على تخصيصهم بالهداية لدينه؛ ولذا ذكر أمته وإن أشركهم في الرزق فيما يراهم غيرهم؛ ألا ترى أنه لا يقال: رحمن بالمؤمنين، وجائز القول: رحيم بهم، وكذلك لا يقال: رحيم بالكافرين، مطلقا؟ ! .

ووجه آخر: أن أحدهما ألطف من الآخر؛ كأنه وصف الغاية في اللطف حتى يتعذر وجه إدراك ما في كل واحد منهما من اللطف، أو يوصف بقطع الغاية عما يتضمنه كل حرف" (1).

قال القرطبي: "إنما وصف نفسه بـ {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] بعد قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ليكون من باب قرن الترغيب بعد الترهيب، كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [الحجر: 49 - 50] "(2).

وقال ابن عرفة: "قدم أولا الوصف بـ {رَبّ العَالمِينَ}، تنبيها على أصل النشأة، وأنه هو الخالق المبدئ، ثم ثنى بحال الإنسان في الدّنيا من النعم والإحسان، فلولا رحمة الله تعالى لما كان ذلك"(3).

وفي اشتقاق {الرحمن} ، قولان (4):

أحدهما: أنه اسم عبراني معرب، وليس بعربي، كالفسطاط رومي معرب، والإستبرق فارسي معرب، لأن قريشاً وهم فَطَنَةُ العرب وفُصَحَاؤهم، لم يعرفوهُ حتى ذكر لهم، وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم:{. . . وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان: 60]، وهذا قول ثعلب (5)، واستشهد بقول جرير (6) (7):

أو تتركون إلى القسّين هجرتكم

ومسحكم صلبهم رحمن قربانا

(1) تفسير الماتريدي: 1/ 360 - 361.

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 211.

(3)

تفسير ابن عرفة: 1/ 35.

(4)

انظر: النكت والعيون: 1/ 52.

(5)

انظر: "الزينة" 2/ 25، "الزاهر" 1/ 153، "اشتقاق أسماء الله" ص 43، "تهذيب اللغة"(رحم) 2/ 1383، "تفسير الماوردي" 1/ 52 "تفسير القرطبي" 1/ 91، "اللسان"(رحم) 3/ 1612.

(6)

هو أبو حَرْزَة، جرير بن عطية بن حذيفة من بني كليب بن يربوع، أحد فحول الشعراء في صدر الإسلام، توفي سنة عشر ومائة. انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 304، "طبقات فحول الشعراء" 2/ 297، "الخزانة" 1/ 75.

(7)

البيت من قصيدة له يهجو فيها الأخطل وهو نصراني، فحكى في البيت قول النصارى، ولهذا نصب (رحمن):(قربانا) أي قائلين ذلك، ويروى البيت (هل تتركن)، (مسحكم) وفي "الزينة" (رخمن) بالمعجمة وهو بمعنى: الحاء. انظر: "الزينة" 2/ 25، "الزاهر" 1/ 153، "اشتقاق أسماء الله" ص 43، "تهذيب اللغة"(رحم) 2/ 1383، "تفسير الماوردي" 1/ 52 "تفسير القرطبي" 1/ 91، "اللسان"(رحم) 3/ 1612.

ص: 230

قال: ولذلك جمع بين الرحمن والرحيم، ليزول الالتباس، فعلى هذا يكون الأصل فيه تقديم الرحيم على الرحمن لعربيته، لكن قدَّم الرحمن لمبالغته.

وحكي عن ثعلب أنه قال: "إن جمهور العرب كانوا لا يعرفون "الرحمن" في الجاهلية، الدليل على هذا أنهم لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكره قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رجلًا باليمامة (1)، وذلك قوله تعالى: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] وإنما يذكر بعض الشعراء الرحمن في الجاهلية، إذ لقنه من أهل الكتاب، أو أخذه عن بعض من قرأ الكتب كأمية بن أبي الصلت (2)، وزيد بن عمرو (3)، وورقة بن نوفل (4)، ولا تجعل هذا حجة على ما عليه أكثرهم"(5).

وأنكر ذلك الطبري فقال: "وقد زعم بعض أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف (الرحمن) ولم يكن ذلك في لغتها "(6). ثم أنشد لبعض الجاهلية (7):

أَلا ضربَتْ تلكَ الفتاةُ هَجِينَهَا

أَلا قَضَبَ الرحْمَنُ رَبِّي يَمِينَهَا

وقال سلامة بن جَندلٍ السَّعْدي (8):

(1) انظر: تفسير الطبري: 19/ 29، وتفسير القرطبي: 13/ 64.

(2)

واسمه عبد الله بن ربيعة بن عوف الثقفي، سمع النبي صلى الله عليه وسلم شعره فقال:"آمن شعره وكفر قلبه" وكان يخبر أن نبيا يخرج قد أظل زمانه، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم كفر به حسدا، ومات كافرا سنة ثمان أو تسع.

انظر: "الشعر والشعراء" ص 300، "طبقات فحول الشعراء" ص 101، "الاشتقاق" ص 143، "الخزانة" 1/ 247.

(3)

زيد بن عمرو بن نفيل، والد سعيد بن زيد أحد العشرة، مات قبل المبعث. انظر:"الإصابة" 1/ 569، "تجريد أسماء الصحابة" 1/ 200.

(4)

هو ورقة بن نوفل بن أسد، ابن عم خديجة رضي الله عنها، قال ابن منده: اختلف في إسلامه، والأظهر أنه مات قبل الرسالة، وبعد النبوة وكذا قال الذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" 2/ 128، وانظر:"الإصابة" 3/ 633، "الخزانة" 3/ 391.

(5)

حكاه عنه الواحدي في التفسير البسيط: 1/ 456 - 457، ولم أجده، ولعله في كتب ابن الأنباري المفقودة، وأورد نحوه الطبري في تفسيره" 1/ 131، وانظر: "الاشتقاق" ص 58، والماوردي في "تفسيره" 1/ 52، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 104.

(6)

تفسير الطبري: 1/ 131، كما انكر ذلك الزجاجي في "اشتقاق أسماء الله" ص 42، وابن سيده في "المخصص" 17/ 151 وغيرهم.

(7)

لم أتعرف على قائله، واستشهد به ابن سيده في المخصص 17: 152، وعلق على البيت محمد محمود التركزي الشنقيطي، وادعى أن البيت مصنوع، وأن " بعض الرجال الذين يحبون إيجاد الشواهد المعدومة لدعاويهم المجردة، صنعه ولفقه، وأن الوضع والصنعة ظاهران فيه ظهور شمس الضحى، وركاكته تنادي جهارًا بصحة وضعه وصنعته، والصواب وهو الحق المجمع عليه، أن الشاعر الجاهلي المشار إليه، هو الشنفرى الأزدي، وهذا البيت ليس في شعره "، وأنه ملفق من قول الشنفرى: أَلا لَيْتَ شِعْرِي، والتَلهُّفُ ضَلَّةٌ

بما ضَرَبَتْ كَفُّ الفَتَاةِ هَجِينَهَا

والشنقيطي رحمه الله كان كثير الاستطالة، سريعًا إلى المباهاة بعلمه وروايته. والذي قاله من ادعاء الصنعة لا يقوم. وكفى بالبيت الذي يليه دليلا على فساد زعمه أن الدافع لصنعته: إيجاد الشواهد المعدومة، لدعاوى مجردة. وليس في البيت ركاكة ولا صنعة. [حاضية الطبري: 1/ 131].

(8)

ديوانه: 19، وقد جاء في طبقات فحول الشعراء: 131 في نسب الشاعر: سلامة بن جندل بن عبد الرحمن "، وهذه رواية ابن سلام، وغيره يقول: " ابن عبد "، فإن صحت رواية ابن سلام، فهي دليل آخر قوي على فساد دعوى الشنقيطي.

ص: 231

عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا عَجْلَتَيْنَا عَلَيْكُمُ

وَمَا يَشَإ الرحْمَنُ يَعْقِدْ وَيُطْلِقِ

وقال الواحدي: " ومراد أبي العباس (1) أن الرحمن يتكلم به بالعبرانية، وتتكلم به العرب، فلما لم يخلص في كلامهم، ولم ينفردوا به دون غيرهم، أتى بعده بالرحيم الذي لا يكون إلى عربيا، ولا يلتبس بلغة غيرهم"(2)

القول الثاني: أن (الرحمن) اسم عربي كالرحيم لامتزاج حروفهما، وقد ظهر ذلك في كلام العرب، وجاءت به أشعارهم، قال الشنفري (3):

أَلا ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا

أَلا ضَرَبَ الرًّحْمنُ رَبِّي يَمِينَهَا

والراجح-والله أعلم-: "أنه مشتق من الرحمة، وأنه اسم عربي لوجود هذا البناء في كلامهم، كاللهفان والندمان والغضبان"(4).

قال الليث: " {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان، اشتقاقهما من (الرحمة) "(5).

وقال أبو عبيدة: "هما صفتان لله تعالى، معناهما ذو الرحمة"(6).

قال الواحدي: " وأما ما احتج به أبو العباس من قوله: {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] فهو سؤال عن الصفة، ولذلك قالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ}، ولم يقولوا: ومن، والقوم جهلوا صفته، والاسم كان معلوما لهم في الجملة، وقيل: هذا على جهة ترك التعظيم منهم"(7).

وقال ابن عطية: "وإنما وقفت العرب على تعيين الإله الذي أمروا بالسجود له، لا على نفس اللفظة"(8).

قال الماوردي: " فإذا كانا اسمين عربيين فهما مشتقان من (الرحمة)، والرحمة هي النعمة على المحتاج، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، يعني نعمةً عليهم، وإنما سميت النعمةُ رحمةً لحدوثها عن الرحمة، والرحمن أشدُّ مبالغةً من الرحيم، لأن الرحمن يتعدى لفظه ومعناه، والرحيم لا يتعدى لفظه، وإنما يتعدى معناه، ولذلك سمي قوم بالرحيم، ولم يتَسَمَّ أحدٌ بالرحمن، وكانت الجاهليةُ تُسمِّي اللهَ تعالى به وعليه بيت الشنفرى، ثم إن مسيلمة الكذاب تسمَّى بالرحمن، واقتطعه من أسماء الله تعالى، قال عطاء: فلذلك قرنه الله تعالى بالرحيم، لأن أحداً لم يتسمَّ بالرحمن الرحيم ليفصل اسمه عن اسم غيره،

(1) هو أبو العباس ثعلب.

(2)

التفسير البسيط: 1/ 458 - 459.

(3)

لم أتعرف على قائله، واستشهد به ابن سيده في المخصص 17/ 152، والواحدي في التفسير البسيط: 1/ 456، والطبري: 1/ 131.

(4)

التفسير البسيط: 1/ 458، وانظر: انظر: "تفسير الطبري" 1/ 55، "اشتقاق أسماء الله" ص 38، "المخصص" 1/ 131.

(5)

تهذيب اللغة" (رحم) 2/ 1383.

(6)

"مجاز القرآن" 1/ 21، "تهذيب اللغة"(رحم) 2/ 1383، والنص من "التهذيب"، وقد رد الطبري على أبي عبيدة قوله وأغلظ له حيث قال:(وقد زعم بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير أن (الرحمن) مجازه: ذو الرحمة .. ) الطبري في "تفسيره" 1/ 130 - 131.

(7)

التفسير البسيط: 1/ 458 - 459. وجعله الطبري من إنكار العناد والمكابرة، وإن كانوا عالمين بصحته، وليس ذلك منهم إنكارا لهذا الاسم، الطبري في "تفسيره" 1/ 130 - 131.

(8)

المحرر الوجيز: 1/ 64، وانظر ابن كثير في "تفسيره" 1/ 23، والقرطبي في "تفسيره" 13/ 67.

ص: 232

فيكون الفرق في المبالغة، وفرَّق أبو عبيدة بينهما، فقال بأن الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم" (1).

واختلفوا في اشتقاق (الرحمن والرحيم)، على قولين (2):

أحدهما: أنهما مشتقان من رحمة واحدةٍ، جُعِل لفظ الرحمن أشدَّ مبالغة من الرحيم.

قال وكيع: " (الرحيم) أشد مبالغة؛ لأنه ينبئ عن رحمته في الدنيا والآخرة ورحمة الرحمانية في الدنيا دون الآخرة"(3).

وقالوا: إنهما بمعنى واحد كندمان ونديم، ولهفان ولهيف، وجيء بهما للتأكيد والإشباع، كقولهم: جادٌّ ومُجِدُّ، وقول طَرْفَه (4) (5):

مَالِي أَرَانِي وابْنَ عَمِّي مَالِكًا

مَتَى أَدْنُ مِنْه يَنْأَ مِنِّي وَيَبْعُدِ

وقول عدي (6)(7):

وَقدَّدَت الأَدِيَم لِرَاهِشيْه

وأَلْفى قَولَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا

في أمثال لهذا، وروي عن ابن عباس أنه قال:" الرحمن الرحيم، اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر"(8).

(1) النكت والعيون: 1/ 52 - 53.

(2)

انظر: النكت والعيون: 1/ 53.

(3)

حكاه عنه الواحدي في التفسير البسيط: 1/ 460، ولم أجده عن وكيع فيما اطلعت عليه. والله أعلم.

(4)

هو الشاعر الجاهلي المشهور، عُدَّ بعد امرئ القيس في الشعر، واسمه (عمرو) ولقب بـ (طَرْفَه) وأحد الطرفاء لبيت قاله، قتل وهو ابن ست وعشرين سنة، وقيل: ابن عشرين. ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 103، "الخزانة" 2/ 419.

(5)

البيت من معلقة طرفة المشهورة، يتحدث عما كان بينه وبين ابن عمه (مالك) من جفوة وخصام، (ينأ عني) و (يبعد) معناهما واحد، وإنما جاء بهما لأن اللفظين مختلفان، والمعنى يبعد ثم يبعد بعد ذلك، وقيل: ينأ: بالفعل، ويبعد: بالنفس لشدة بغضه لي. أورد البيت الثعلبي في "تفسيره" 1/ 19 أ، وانظر:"ديوان طرفة" ص 34 تحقيق وتحليل د. علي الجندي.

(6)

عدي بن زيد بن حماد، من بني امرئ القيس بن زيد بن مناة بن تميم شاعر فصيح، من شعراء الجاهلية، وكان نصرانيا، قتله النعمان بن المنذر ملك الحيرة. ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 130، "معاهد التنصيص" 1/ 325، "الخزانة" 1/ 381.

(7)

من قصيدة قالها عدي بن زيد، في قصة طويلة مشهورة بين الزَّباء وجذيمة وردت في كتب التاريخ والأدب. ويروي (قدمت) و (الراهش) عرق في باطن الذراع و (المين) بمعنى: الكذب، ورد البيت في "معاني القرآن" للفراء 1/ 37، "الشعر والشعراء" ص 132، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 175، "تفسير الثعلبي" 1/ 19 أ، 73 أ، "أمالي المرتضى" 2/ 258، "المستقصى" 1/ 243، "مغني اللبيب" 2/ 357، "الهمع" 5/ 226، "معاهد التنصيص" 1/ 310، "اللسان"(مين) 7/ 4311، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 399، "الدر المصون" 1/ 358.

والشاهد (كذبا ومَيْنا) فأكد الكذب بالمين وهو بمعناه.

(8)

ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 99، وابن الأنباري في "الزاهر" 1/ 152، والأزهري في "تهذيب اللغة"(رحم) 2/ 1383، والواحدي في التفسير البسيط: 1/ 461، والقرطبي في "تفسيره" 1/ 92، وابن كثير عن القرطبي في "تفسيره" 1/ 22، وقد أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما عن ابن عباس، قال:(الرحمن الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب قال: الرحمن الرحيم: الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه) في سنده ضعف. انظر الطبري 1/ 57، "تفسير ابن أبي حاتم"(رسالة دكتوراه) 1/ 148، وابن كثير في "تفسيره" 1/ 23، "المفسر عبد الله بن عباس والمروي عنه"(رسالة ماجستير) 1/ 130.

ص: 233

قال الحسين بن الفضل: "غلط الراوي؛ لأن الرقة في صفة الباري لا تصح. وإنما هما أسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر"(1).

قال الواحدي: "يدل على هذا ما روي في الخبر: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف" (2)، وسمعت من يقول: معنى قول ابن عباس (اسمان رقيقان) أي يدلان فينا على الرقة"(3).

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن خالد بن صفوان التميمي في قوله: " {الرحمن الرحيم}، قال: هما رقيقان أحدهما أرق من الآخر"(4).

والقول الثاني: أنهما مشتقان من رحمتين، والرحمة التي اشتق منها الرحمن، غير الرحمة التي اشتق منها الرحيم، ليصح امتياز الاسمين، وتغاير الصفتين، ومن قال بهذا القول اختلفوا في الرحمتين على ثلاثة أقوال:

أحدها: أن الرحمن مشتق من رحمة الله لجميع خلقه، والرحيم مشتق من رحمة الله لأهل طاعته.

قال الضحاك: " الرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة"(5).

والقول الثاني: أن الرحمن مشتق من رحمة الله تعالى لأهل الدنيا والآخرة، والرحيم مشتق من رحمتِهِ لأهل الدنيا دُون الآخرة.

والقول الثالث: أن الرحمن مشتق من الرحمة التي يختص الله تعالى بها دون عباده، والرحيم مشتق من الرحمة التي يوجد في العباد مثلُها.

وقد اخرج ابن أبي حاتم عن الحسن: " الرحمن: اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه"(6).

قال الشيخ ابن عثيمين: وذكر هذين الاسمين الكريمين في البسملة التي تتقدم فعل العبد وقوله، إشارة إلى أن الله إذا لم يرحمك فلن تستفيد لا من هذا الفعل ولا من هذا القول، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته"(7).

وفي قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، ثلاثة أوجه للقراءة (8):

أحدها: {الرَّحْمَن ِ الرَّحِيمِ} ، قرأ بها نافع، ابن كثير، أبو عمر، ابن عامر، عاصم، حمزة، الكسائي.

(1) ذكره الواحدي في التفسير البسيط: 1/ 462،

(2)

أخرجه مسلم (2593) كتاب البر، باب: فضل الرفق، وأبو داود (4807) كتاب الأدب، باب: في الرفق، وأحمد في "مسنده" عن علي 1/ 112، وعن عبد الله بن مغفل 4/ 87، وأخرج البخاري عن عائشة وفيه:(إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله (6927) كتاب استتابة المرتدين، باب: إذا عرض الذمي وغيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

التفسير البسيط: 1/ 462، والقرطبي، وذكر نحوه عن الخطابي 1/ 92، وذكره ابن كثير في "تفسيره" في القرطبي 1/ 22.

(4)

تفسير ابن أبي حاتم (21): ص 1/ 28.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (20): ص 1/ 28.

(6)

تفسير ابن أبي حاتم (22): ص 1/ 28.

(7)

رواه البخاري في صحيحه 8/ 98، حديث رقم 6467، باب القصد والمداومة على العمل.

(8)

انظر: البحر المحيط في التفسير، أبو حيان الأندلسي الغرناطي، دار الفكر، بيروت، 2005 م: 1/ 35.

ص: 234

وبالخفض صفات مدح، فالخفض على النعت، وقيل في الخفض إنه بدل أو عطف بيان (1).

والثاني: رالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قرأ بها عيسى وابن عمرو.

والثالث: {الرَّحِيمِ مَّالك} ، قرأ بها السوسي، وأبو عمرو، ويعقوب، المطوعي، وابن محيصن، الحسن، اليزيدي.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: إثبات هذين الاسمين الكريمين. {الرحمن الرحيم} لله عز وجل؛ وإثبات ما تضمناه من الرحمة التي هي الوصف، ومن الرحمة التي هي الفعل ..

2 -

ومنها: أن ربوبية الله عز وجل مبنية على الرحمة الواسعة للخلق الواصلة؛ لأنه تعالى لما قال: {رب العالمين} كأن سائلاً يسأل: "ما نوع هذه الربوبية؟ هل هي ربوبية أخذ، وانتقام؛ أو ربوبية رحمة، وإنعام؟ " قال تعالى: {الرحمن الرحيم} .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد"(2) ".

القرآن

{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4]

التفسير:

وهو سبحانه وحده مالك يوم القيامة، وهو يوم الجزاء على الأعمال. وفي قراءة المسلم لهذه الآية في كل ركعة من صلواته تذكير له باليوم الآخر، وحثٌّ له على الاستعداد بالعمل الصالح، والكف عن المعاصي والسيئات.

قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، "أي: هو سبحانه المالك للجزاء والحساب، المتصرف في يوم الدين تصرّف المالك في ملكه" (3).

قال التستري: " أي: يوم الحساب"(4).

قال ابن عباس: " يقول: لا يملك أحدٌ في ذلك اليوم معهُ حكمًا كمِلْكِهم في الدنيا"(5).

قال مقاتل: "يعنى: مالك يوم الحساب كقوله- سبحانه- {إِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53]، يعني لمحاسبون وذلك أن ملوك الدُّنْيَا يملكون فِي الدُّنْيَا فأخبر- سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ لا يَمْلك يوم الْقِيَامَة أحد غيره فذلك قوله- تعالى-: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار: 19] "(6).

و(المالك) في اللغة: " (الفاعل) من الملك، يقال: ملك فلان الشيء يملِكُه مُلكا ومِلكا ومَلْكا ومَلَكة، ومَمْلَكة ومَمْلَكة، ويقال: إنه لحسن الملْكَة والمِلْك، وأصل المُلك والمِلك راجع إلى معنى

(1) انظر: البحر المحيط: 1/ 35.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2755)(ج 4 / ص 2109).

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 19.

(4)

تفسير التستري: 23.

(5)

أخرجه الطبري في تفسيره (166): ص 1/ 149، وابن أبي حاتم (24): ص 1/ 29.

(6)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 36.

ص: 235

واحد، وهو الربط والشد، فمالك الشيء من ربطه لنفسه وملكه ما يختص به، وشد بعقد يخرج به عن أن يكون مباحا لغيره، وملك القوم من غلبهم وربط أمرهم" (1).

ومن هذا يقال: ملكت العجين أي شددت عجنه، قال أوس بن حجر (2) (3):

فملك بالليط الذي تحت قشرها

كغِرْقيء بَيضٍ كنه القَيضُ من عَلِ

قوله: ملك: أي: شدد.

ومنه قول قيس بن الخطيم (4)(5):

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

يرى قائم من خلفها ما وراءها

أي: شددت بالطعنة كفي.

ويقال: ما تمالك فلان أن فعل كذا، أي لم يستطع أن يضبط نفسه. قال الشاعر (6):

فلا تمالك (7) عن أرض لها عمدوا

وملاك الأمر: ما يضبط به الأمر، يقال: القلب ملاك الجسد (8).

وأبو مالك: كنية الكبر والسن، كني به لأنه يغلب الإنسان ويشده عما يريد، فلا ينبسط انبساط الشاب (9)، قال الشاعر (10):

أبا مالك إن الغواني هجرنني

أبا مالك إني أظنك دائبا

(1) انظر: تهذيب اللغة: (ملك) 4/ 3449، والمحكم:(ملك) 7/ 45، والحجة" لأبي علي الفارسي 1/ 13، 17، والمخصص" لابن سيده 17/ 157، وتفسير أسماء الله للزجاج ص 30، واشتقاق أسماء لله للزجاجي ص 43، 44، والتفسير البسيط: 1/ 497.

(2)

أوس بن حجر من شعراء الجاهلية وفحولها، وأحد شعراء تميم، انظر ترجمته في "الشعر والشعراء" ص 114، "الخزانة" 4/ 379، "معاهد التنصيص" 1/ 132.

(3)

ديوان أوس: 97، وانظر: الحجة للفارسي 1/ 17، وتهذيب اللغة" (ملك) 4/ 3450، والخصائص" 2/ 363، 3/ 172، واشتقاق أسماء الله" ص 46، والصحاح"(ملك) 4/ 1610، والمحكم" (ملك) 7/ 46، واللسان"(ملك) 7/ 4268، والخزانة" 2/ 396.

وقوله (ملك): شدد، و (الليط): القشر، و (القيض): القشر الغليظ فوق البيضة، و (الغرقاء): القشر الرقيق للبيضة، وهو يصف قوسا يقول: إنه قواه وذلك حين قشره فترك القشر الرقيق ليقويه به.

(4)

هو قيس بن الخطيم بن عدي بن الخزرج، شاعر فارس، لقي النبي صلى الله عليه وسلم ومات كافرا، ترجمته في "طبقات فحول الشعراء" 91/ 92، "الإصابة" 3/ 281، "الخزانة" 7/ 34.

(5)

انظر: "ديوان قيس" ص 8، "تهذيب اللغة"(ملك) 4/ 3450، "الصحاح" 4/ 1609، "المحكم" 7/ 46، "تاج العروس" 13/ 653، "اللسان" 7/ 4268، (المعاني الكبير) 2/ 978، 983، "الحجة" للفارسي 1/ 13، 17، "الخزانة" 7/ 35.

والبيت من قصيدة لقيس قالها حين أصاب بثأره من قاتلي أبيه وجده، يقول: شددت بهذِه الطعنة كفى ووسعت خرقها، حتى يرى القائم من دونها الشيء وراءها ..

(6)

ورد في "التهذيب"(ملك) 10/ 271، غير منسوب، وكذا في "اللسان"(ملك) 10/ 494.

(7)

تمالُك) بضم اللام في "تهذيب اللغة" وفي الحاشية: (جـ)، (ل) بفتح اللام، "تهذيب اللغة" 10/ 271، وبالفتح في "اللسان" 10/ 494.

(8)

انظر: التفسير البسيط: 1/ 497 - 498، ولتهذيب" (ملك) 4/ 2450، وانظر: "المحكم" 7/ 46، "اللسان" (ملك) 7/ 4268.

(9)

انظر: التفسير البسيط: 1/ 499، وذكر الأزهري نحوه في التهذيب عن ابن الأعرابي: 4/ 3451، وانظر:"اللسان"(ملك) 7/ 4269.

(10)

أورده الأزهري بدون نسبه في "التهذيب"(ملك) 4/ 3451 و (أبا) 1/ 104، "اللسان"(ملك) 7/ 4269، وكذا الزمخشري في "أساس البلاغة"(ملك) 2/ 401.

ص: 236

ويقال للرجل إذا تزوج: ملك فلان، يملك ملكا؛ لأنه شد عقد النكاح. وأملك إملاكا إذا زوج (1).

و{يَوْمِ الدِّينِ} : أي يوم الحساب، قال ابن عباس:" الدين يوم حساب الخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرا فخير، وإن شر شرا إلا من عفا عنه"(2).

وفي قوله تعالى: {يَوْمِ الدِّينِ} [البقرة: 4]، تأويلان:

أحدهما: أنه يوم الجزاء. يعني: يوم يدين الله العباد بأعمالهم. وهذا قول الضحاك (3)، وقتادة (4)، وحمبد الأعرج (5).

دليله قوله: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53]، أي "مجرّبون"(6).

والثاني: أنه الحساب. ومعنى الآية: قاضي يوم الحساب، وهذا قول ابن عباس (7)، والسدي (8)، ومقاتل (9)، وابن جريج (10)، واختاره أبو عبيد (11).

ودليهم: قوله تعالى: {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36]، أي:"الحساب المستقيم"(12).

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه "(13). أي حاسبها (14).

قال أبو عبيدة: " {الدِّينِ} الحساب والجزاء، يقال فى المثل: «كما تدين تدان» (15) "(16).

قال الطبري: ": والدين في هذا الموضع، بتأويل الحساب والمجازاة بالأعمال، كما قال كعب بن جُعَيْل (17):

إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُم

ودِنَّاهُمُ مِثْلَ ما يُقْرِضُونَا

وكما قال الآخر (18):

(1) انظر: "التهذيب"(ملك) 4/ 3449، وانظر:"اللسان"(ملك) 7/ 4268.، والتفسير البسيط: 1/ 499.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (25): ص 1/ 29.

(3)

ذكره الثعلبي في تفسيره: 1/ 115.

(4)

أخرجه الطبري (169): ص 1/ 155 - 156.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (26): ص 1/ 29.

(6)

تفسير الثعلبي: 1/ 115.

(7)

انظر: تفسير الطبري (167): ص 1/ 156.

(8)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 115.

(9)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 115.

(10)

أخرجه الطبري (170): ص 1/ 157.

(11)

انظر: مجاز القرآن: 1/ 439.

(12)

تفسير الثعلبي: 1/ 115.

(13)

الحديث أخرجه الترمذي عن شداد بن أوس، وقال: حديث حسن. الترمذي (2459)، أبواب صفة القيامة، وابن ماجه (4260) كتاب: الزهد، باب: ذكر الموت، والإمام أحمد في "مسنده" 4/ 122، وهو بنصه في "تهذيب اللغة"(دان) 2/ 1136.

(14)

التفسير البسيط: 1/ 505.

(15)

هذا المثل فى الكامل 185، الجمهرة 2/ 306، جمهرة الأمثال 2/ 154، الميداني 2/ 273، اللسان، التاج (دين)، الفرائد 2/ 122 ..

(16)

مجاز القرآن: 1/ 23.

(17)

الكامل للمبرد 1: 191، ووقعة صفين لنصر بن مزاحم 1: 52، المخصص 17:155.

(18)

الكامل للمبرد 1: 192 منسوبًا إلى يزيد بن أبي الصعق الكلابي، وكذلك في جمهرة الأمثال للعسكري: 196، والمخصص 17: 155، وفي اللسان (زنأ) و (دان) منسوبين إلى خويلد بن نوفل الكلابي، وفي الخزانة 4: 230 إلى بعض الكلابيين. يقولون: إن الحارث بن أبي شمر الغساني كان إذا أعجبته امرأة من قيس عيلان بعث إليها واغتصبها، فأخذ بنت يزيد بن الصعق الكلابي، وكان أبوها غائبًا، فلما قدم أخبر. فوفد إليه فوقف بين يديه وقال: يَا أَيُّهَا المَلِكُ المُقِيتُ! أمَا تَرى

لَيْلاً وصُبْحًا كَيْف يَخْتَلِفَانِ?

هَلْ تَسْتَطِيعُ الشَّمْسَ أن تَأتِي بها

لَيْلاً? وهل لَكَ بِالْمَلِيك يَدَانِ?

يَا حَارِ، أيْقِنْ أنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 237

وَاعْلَمْ وأَيْقِنْ أنَّ مُلْككَ زائلٌ

واعلمْ بأَنَّكَ مَا تدِينُ تُدَانُ

يعني: ما تَجْزِي تُجازى.

ومن ذلك قول الله جل ثناؤه {كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} - يعني: بالجزاء - {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [سورة الانفطار: 9، 10] يُحصون ما تعملون من الأعمال، وقوله تعالى {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [سورة الواقعة: 86]، يعني غير مجزيِّين بأعمالكم ولا مُحاسَبين" (1).

وفي أصل (الدين) في اللغة، قولان (2):

أحدهما: العادة، ومنه قول المثقَّب العَبْدِي (3):

تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي

أَهذَا دِينُهُ أَبَداً وَدينِي

أي عادته وعادتي.

والثاني: أنَّ أصل الدين الطاعة، ومنه قول زهير بن أبي سُلمى (4):

لَئِن حَلَلْتَ بِجَوٍّ في بَنِي أَسَدٍ

في دِينِ عَمْرٍو وَمَالتْ بَيْنَنَا فَدَكُ

أي في طاعة عمرو.

وفي هذا اليوم قولان (5):

أحدهما: أنه يوم، ابتداؤه طلوع الفجر، وانتهاؤه غروب الشمس.

والثاني: أنه ضياء، يستديم إلى أن يحاسب الله تعالى جميع خلقه، فيستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.

وفي اختصاصه بملك يوم الدين تأويلان (6):

أحدهما: أنه يوم ليس فيه ملك سواه، فكان أعظم من مُلك الدنيا التي تملكها الملوك، وهذا قوله الأصم (7).

(1) تفسير الطبري: 1/ 155.

(2)

انظر: النكت والعيون: 1/ 56 - 57.

(3)

ديوانه: 195، وانظر: الكامل 1/ 329، الصناعتين ص 86 "اللسان"(درأ) 1349، الطبري 1/ 511، "تأويل مختلف الحديث" 82، "تهذيب اللغة" 2/ 1166، "تاج العروس"(درأ) 1/ 150.

(4)

البيت في "شرح ديوانه" ص 183، و"تفسير ابن جرير" 10/ 109.

و"جو": موضع في ديار بني أسد، و"عمرو": هو عمرو بن هند بن المنذر بن ماء السماء، و"فدك": قرية معروفة شمال الحجاز.

والشاعر يخاطب الحارث بن ورقاء الأسدي، الذي أغار على إبل زهير، وأسر راعيه وكانت بنو أسد تحت نفوذ عمرو بن هند ملك العراق، فهدد زهير الحارث بهجاء لاذع إن لم يرد الإبل والراعي، يقول بعد البيت المذكور:

ليأتينك مني منطق قذع

باق، كما دنس القبطية الودك

انظر: "شرح الديوان" ص 164، 183.

(5)

انظر: النكت والعيون: 1/ 57.

(6)

انظر: النكت والعيون: 1/ 57.

(7)

انظر: النكت والعيون: 1/ 57.

ص: 238

والثاني: أنه لما قال {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، يريد به ملك الدنيا، قال بعده:{مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يريد به ملك الآخرة، ليجمع بين ملك الدنيا والآخرة.

قال الواحدي: " وخص هذا اليوم بأنه مالكه، تعظيما لشأنه وتهويلا لأمره، كقوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 11] وهو خبير سائر الأيام. وللدين معان كثيرة في اللغة، وكل موضع انتهينا إليه من القرآن ذكرنا ما فيه"(1).

أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن أبي هريرة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم قال:"قال الله تعالى: كتبت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد: مالك يوم الدين قال: فوض عبدي وأثنى علي"(2).

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، على ثلاثة قراءات متواترة (3):

القراءة الأولى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، بألف، قرأ بها عاصم والكسائي، ويعقوب.

وحجتهم (4):

أولا: أن الملك داخل تحت المالك. والدّليل له: قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26]، ولم يقل: ملك الملك.

والثاني: ويعضده قوله تعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19](5).

والثالث: أن {مالك} أمدح من {ملك} ، لأنه يجمع الاسم والفعل.

والرابع: ومما يقوي هذِه القراءة من التنزيل قوله {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] فقولك: الأمر له، وهو مالك الأمر بمعنى، ألا ترى أن لام الجر معناها الملك (6).

وأكثر أهل اللغة اختاروا (مالك)، منهم:"أبو عبيدة، وأبو حاتم (7)، والأصمعي، والأخفش، وأبو العباس (8) "(9).

وقالوا: إنه أجمع وأوسع، لأنه يقال: مالك الطير والدواب والوحوش وكل شيء، ولا يقال: ملك كل شيء، إنما يقال: ملك الناس، قالوا: ولا يكون مالك الشيء إلا وهو يملكه، وقد

(1) التفسير البسيط: 1/ 505.

(2)

تفسير ابن أبي حاتم (23): ص 1/ 29.

(3)

انظر: السبعة في القراءات: 104، والحجة للقراء السبعة: 62، وتفسير البيضاوي: 1/ 28.

(4)

انظر: السبعة في القراءات: 104، والحجة للقراء السبعة:62.

(5)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 28.

(6)

انظر: الحجة: 1/ 19.

(7)

أبو حاتم هو: سهل بن محمد الجشمي السجستاني. نزيل البصرة وعالمها، من أئمة اللغة والشعر، والنحو إلى أنه لم يكن فيه حاذقًا، تلقى على أبي زيد، وأبي عبيدة والأصمعي، توفي سنة (255 هـ).

(8)

احتج أبو العباس لهذِه القراءة فقال: " (مالك يوم الدين) معناه يملك إقامة يوم الدين، على معنى يملك أن يأتي به، وإذا كان المعنى على هذا فالوجه (مالك) لا (ملك) ". [التفسير البسيط: 1/ 501، وذكر الأزهري نحوه عن المنذري عن أبي العباس. "التهذيب" (ملك) 4/ 3449، وانظر: "الحجة" 1/ 15].

(9)

انظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 28/ أ، "الزينة" 1/ 100، 101، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 160، "التهذيب"(ملك) 4/ 3449، والتفسير البسيط: 1/ 501.

ص: 239

يكون ملك الشيء وهو لا يملكه كقولهم: (ملك العرب والعجم)، ولأنه يجمع الفعل والاسم (1)، ولأن معنى الآية أنه يملك الحكم يوم الدين بين خلقه دون غيره، فالوصف يكون مالكا (2).

القراءة الثانية: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، بغير ألف. قرأ بها الباقون.

وحجتهم (3):

أولا: قوله تعالى: {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 2]، وقوله:{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23، والجمعة: 1]، وقوله:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ} [طه: 114، والمؤمنون: 116].

والثاني: أن (الملك) أخص من (المالك) وأمدح؛ لأنه قد يكون المالك غير ملك، ولا يكون الملك إلا مالكا.

قال أبوبكر البغدادي: "قال أبو حمدون عن اليزيدي عن أبي عمرو: "{ملك} يجمع مالكا، و {مالك} لا يجمع ملكا" (4).

والثالث: أن قوله {مالك يوم الدين} ، إنما هو ذلك اليوم بعينه، في حين أن {ملك يوم الدين} ، ملك ذلك اليوم بما فيه.

وتفسير الآية على هذا الوجه من القراءة: أن "لله المُلْك يوم الدين خالصًا دون جميع خلقه، الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكًا جبابرة ينازعونه الملك، ويدافعونه الانفرادَ بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية، فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصَّغَرة الأذِلّة، وأنّ له - من دُونهم، ودون غيرهم - المُلك والكبرياء، والعزة والبهاء، كما قال جلّ ذكره وتقدست أسماؤه في تنزيله: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر: 16]. فأخبر تعالى ذكره أنه المنفرد يومئذ بالمُلك دون ملوك الدنيا، الذين صارُوا يوم الدّين منْ مُلكهم إلى ذِلّة وصَغار، ومن دُنياهم في المعاد إلى خسار"(5).

واختار البيضاوي القراءة الثانية، حيث قال:" وهو المختار، لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]، ولما فيه من التعظيم، والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من الملك، والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من الملك"(6).

قال الواحدي: " (الملك) أشمل وأتم؛ لأنه قد يكون مالك ولا ملك له، ولا يكون مَلِك إلى وله مُلك، ولأنه لا يقال: مالك على الإطلاق، حتى يضاف إلى شيء، ويقال: ملك على الإطلاق"(7).

كما وقد اختار الإمام الطبري القراءة الثانية، إذ يقول: وأولى التأويلين بالآية قراءةُ من قرأ {مَلِكِ} بمعنى (المُلك)، لأن في الإقرار له بالانفراد بالمُلك، إيجابًا لانفراده بالمِلْك، وفضيلة

(1) ذلك أن (مالكا) يجمع لفظ الاسم ومعنى الفعل فلذلك يعمل (فاعل) فينصب كما ينصب الفعل. انظر: "الكشف" لمكي 1/ 26.

(2)

انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي 1/ 12، 15، 16، "الكشف" 1/ 25، 26.

(3)

انظر: السبعة في القراءات: 104، والحجة للقراء السبعة:62.

(4)

السبعة في القراءات: 104.

(5)

تفسير الطبري: 1/ 149.

(6)

تفسير البيضاوي: 1/ 28.

(7)

التفسير البسيط: 1/ 499، وانظر: حجة القراءات لابن زنجلة ص 77 - 79، والكشف" 1/ 26.

ص: 240

زيادة المِلك على المالك، إذْ كان معلومًا أن لا مَلِك إلا وهو مالكٌ، وقد يكون المالكُ لا ملكًا " (1).

ثم ذكر الطبري بأن الله نبه على أنه مالكهم بقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فحمل قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} على وصف زائد أحسن (2).

ومن نصر القراءة الأولى، أجاب ابن جرير الطبري بأن قال: ما ذكرت لا يرجح قراءة ملك؛ لأن في التنزيل أشياء على هذِه الصورة قد تقدمها العام وذكر بعده الخاص، كقوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق: 1 - 2]، وقوله:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، ثم قال:{وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]. في أمثال كثيرة لهذا (3).

قال ابن كثير: قرأ بعض القراء (ملك يوم الدين) وقرأ آخرون (مالك) وكلاهما صحيح متواتر في السبع، ويقال (ملك) بكسر اللام وبإسكانها، ويقال:(مليك) أيضا، وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ (ملكي يوم الدين)، وقد رجح كلا من القراءتين مرجحون من حيث المعنى وكلتاهما صحيحة وحسنة (4).

قال ابن عثيمين: " وفي الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة؛ وهي أن ملكه جلّ وعلا ملك حقيقي؛ لأن مِن الخلق مَن يكون ملكاً، ولكن ليس بمالك: يسمى ملكاً اسماً وليس له من التدبير شيء؛ ومِن الناس مَن يكون مالكاً، ولا يكون ملكاً: كعامة الناس؛ ولكن الرب عز وجل مالكٌ ملِك"(5).

قلت: ولا وجه لتفضيل قراءة على أخرى -كما فعل بعض المفسرين-؛ إذ لا يظهر وجه للتفضيل هنا، وكل قراءة تدل على معنى جميل في ذاته. والله أعلم.

القراءة الثالثة: {مَلِكَ} ، على وزن {فَعِلَ} ، قرأ بها ابن كثير، أبو عمرو.

وفي الآية قراءات شاذة، وهي (6):

1 -

(مَلْكِ) على وزن (فَعْلِ)، قرأ بها عاصم الجحدي، وأبو عمرو.

2 -

(مَلِكِي) بإشباع (الكاف)، وهي قراءة أحمد بن صالح عن ورش عن نافع.

3 -

(مَلَكَ يومَ) بصيغة فعل الماض، قرأ بها عاصم بن ميمون الجحدي، والحسن، وعلي بن أبي طالب.

4 -

(مالكَ): قرأ بها المطوعي، والأعمش.

5 -

(مَلُكَ) على وزن (فَعُلَ): قرأ بها عاصم الجحدي، ورواها الجعفي وعبدالوارث عن أبي عمرو.

6 -

(ملكاً): روى ابن أبي عاصم عن اليمان.

7 -

(مالكٌ يومَ): قرأ بها خلف ابن هشام.

8 -

(مليكِ) على وزن (فعيلِ): وهي قراءة أبي بن كعب

(1) تفسير الطبري: 1/ 150.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 150.

(3)

انظر: التفسيرالبسيط: 1/ 502، والحجة: 1/ 18 - 19.

(4)

تفسير ابن كثير: 1/ 34.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 12.

(6)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 28، وتفسير القرطبي: 1/ 36 - 37، والكتاب الفريد في اعراب القران المجيد: 1/ 76 - 77، ومجمع البيان، الطبرسي: 1/ 32، والبحر المحيط في التفسير: 1/ 38 - 39.

ص: 241

9 -

(مالك) بالإمالة بين بين، وهي قراءة قتيبة بن مهران عن الكسائي.

10 -

وقرئ: {مالكا} ، بالنصب على المدح أو الحال.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: إثبات ملك الله عز وجل، وملكوته يوم الدين؛ لأن في ذلك اليوم تتلاشى جميع الملكيات، والملوك.

فإن قال قائل: أليس مالك يوم الدين، والدنيا؟

فالجواب: بلى؛ لكن ظهور ملكوته، وملكه، وسلطانه، إنما يكون في ذلك اليوم؛ لأن الله تعالى ينادي:{لمن الملك اليوم} [غافر: 16] فلا يجيب أحد؛ فيقول تعالى: {لله الواحد القهار} [غافر: 16]؛ في الدنيا يظهر ملوك؛ بل يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا مالك إلا هم؛ فالشيوعيون مثلاً لا يرون أن هناك رباً للسموات، والأرض؛ يرون أن الحياة: أرحام تدفع، وأرض تبلع؛ وأن ربهم هو رئيسهم ..

2 -

ومن فوائد الآية: إثبات البعث، والجزاء؛ لقوله تعالى:{مالك يوم الدين} .

3 -

ومنها: حث الإنسان على أن يعمل لذلك اليوم الذي يُدان فيه العاملون.

القرآن

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]

التفسير:

إنا نخصك وحدك بالعبادة، ونستعين بك وحدك في جميع أمورنا، فالأمر كله بيدك، لا يملك منه أحد مثقال ذرة. وفي هذه الآية دليل على أن العبد لا يجوز له أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة كالدعاء والاستغاثة والذبح والطواف إلا لله وحده، وفيها شفاء القلوب من داء التعلق بغير الله، ومن أمراض الرياء والعجب، والكبرياء.

قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، "أي: نخصَّك يا ألله بالعبادة" (1).

قال ابن عباس: " إياكَ نُوحِّد ونخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك "(2).

قال قتادة: يأمركم أن تخلصوا له العبادة، وأن تستعينوه على أمركم" (3).

قال مقاتل: " يعني: نوحّد، كقوله- سُبْحَانَهُ- فِي المفصل: {عابِداتٍ} [التحريم: 3]، يعني: موحدات"(4).

قال الطبري: أي: " لك اللهم نَخشعُ ونَذِلُّ ونستكينُ، إقرارًا لك يا رَبنا بالرُّبوبية لا لغيرك"(5).

قال ابن عطية: " معناه نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة"(6).

قال الصابوني: أي: " فلا نعبد أحداً سواك، لك وحدك نذلُّ ونخضع ونستكين ونخشع"(7).

(1) صفوة التفاسير: 1/ 19.

(2)

أخرجه الطبري (171): ص 1/ 157، وابن أبي حاتم (27): ص 1/ 29.

(3)

اخرجه ابن ابي حاتم (29): ص 1/ 29.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 36،

(5)

تفسير الطبري: 1/ 157.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 72.

(7)

صفوة التفاسير: 1/ 19.

ص: 242

قال البيضاوي (1) والزمخشري (2): أي: " نخصك بالعبادة".

قال ابن كثير: " أي: لا نعبد إلا إياك، وقدم المفعول وهو {إياك}، وكرر؛ للاهتمام والحصر، وإنما قدم: {إياك نعبد} على {وإياك نستعين} لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والاهتمام والحزم هو أن يقدم ما هو الأهم فالأهم"(3).

قال الثعلبي: " أي: نوحد ونخلص ونطيع ونخضع، والعبادة رياضة النفس على حمل المشاق في الطاعة"(4).

قال التستري: " أي نخضع ونذل ونعترف بربوبيتك ونوحدك ونخدمك، ومنه اشتق اسم العبد"(5).

قال الخطيب المكي: أي: " نفردك وحدك بالدعاء الذي هو مخ العبادة فلا ندعو غيرك ولا نؤمل في سواك لاعتقادنا الجازم بأنه ليس غيرك من يسمع النداء ويجيب الدعاء، أو يحقق الرغبات ويستحق العبادة. فأنت أنت الفعال لما تريد، المؤثر في كل شيء، المقصود قبل كل أحد، المعطي المانع لا شرك لك"(6).

وفي: {إِيَّاكَ} [الفاتحة: 5]، قولان (7):

أحدهما: أنها اسم الله تعالى مضاف إلى الكاف، وهذا قول الخليل (8)، وأبي عثمان المازني (9)(10).

قال سيبويه: "حدثني من لا أتهم عن الخليل: أنه سمع أعرابيا يقول: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب"(11).

وحكى سيبويه أيضا عن الخليل أنه قال: "لو أن قائلا قال: إياك نفسك لم أُعَنَّفْه (12)، لأنَّ هذه الكاف مجرورة"(13).

واعترض ابن جني قائلا: " أما قول الخليل إن إيا اسم مضمر مضاف، فظاهر الفساد، وذلك أنه إذا ثبت أنه مضمر، فلا سبيل إلى إضافته على وجه من الوجوه، لأن الغرض في

(1) تفسير البيضاوي: 1/ 29.

(2)

الكشاف: 1/ 13.

(3)

تفسير ابن كثير: 1/ 134 - 135. [بتصرف بسيط]. وللرازي في هذا التقديم تعليلات يطول ذكرها. انظر (تفسيره) 1/ 254.

(4)

تفسير الثعلبي: 1/ 117.

(5)

تفسير التستري: 12.

(6)

تفسير الخطيب المكي: 1/ 13.

(7)

انظر: سر صناعة الإعراب لابن جني: 1/ 320 - 321، والإغفال (رسالة ماجستير): 52، والنكت والعيون: 1/ 57، والتفسير البسيط: 1/ 505 - 506.

(8)

انظر: سر صناعة الإعراب لابن جني: 1/ 320، والنكت والعيون: 1/ 57، والتفسير البسيط: 1/ 506.

(9)

هو أبو عثمان بكر بن محمد المازني الشيباني، النحوي المشهور، أستاذ أبى العباس المبرد، اختلف في سنة وفاته فقيل:(236 هـ)، وقيل:(248 هـ)، وقيل: غير ذلك. انظر ترجمته في "طبقات النحويين واللغويين" ص 87، "تاريخ بغداد" 7/ 93، "إنباه الرواة" 1/ 246، "معجم الأدباء" 2/ 345، "نزهة الألباء" ص 140.

(10)

انظر: التفسير البسيط: 1/ 506.

(11)

الكتاب: 1/ 279، وانظر: سر صناعة الإعراب: 1/ 320.

(12)

أعنفه: أعنف به وعليه أي أخذه بشدة وقسوة. مادة "ع ن ف" اللسان "4/ 3132".

(13)

الكتاب: 1/ 279، وانظر: سر صناعة الإعراب: 1/ 320.

ص: 243

الإضافة إنما هو التعريف والتخصيص، والمضمر على نهاية الاختصاص، فلا حاجة به إلى الإضافة" (1).

والثاني: أنها كلمة واحدة كُنِّيَ بها عن اسم الله تعالى، وليس فيها إضافة لأن المضمر لا يضاف، وهذا قول الأخفش (2)، وحكاه ابن كيسان عن بعض النحويين (3)، واختاره ابن جني (4).

قال الزمخشري: " وهو مذهب الأخفش وعليه المحققون، وأما ما حكاه الخليل عن بعض العرب: «إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب» فشيء شاذ لا يعوّل عليه"(5).

قال الراغب الأصفهاني: " والقولان لا تنافي بينهما في الحقيقة، لأن ذلك بنظرين مختلفين، وذاك أن الضمير المتصل إذا قدم أو فصل بينه وبين المتصل به لا يحسن النطق به مفرداً، فضم إليه: " إيا " ليصير بذلك كلاماً مستقلاً، فمن قال: الضمير هو الكاف، فإنما اعتبر بذلك بعد انضمام " إيا " إلى الضمير، والعرب كما أنهم يتحرون بالحروف المركبة إفادة المعنى، فقد يأتون ببعضها تهذيباً للفظ وتحسيناً له، بدلالة إدخالهم الحروف بين الحرفين المتنافرين في التركيب، لئلا يقبح التفوه بهما"(6).

وفي قوله تعالى: {نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، ثلاثة تأويلات (7):

أحدها: أن العبادة الخضوع، ولا يستحقها إلا الله تعالى، لأنها أعلى مراتب الخضوع، فلا

يستحقها إلا المنعم بأعظم النعم، كالحياة والعقل والسمع والبصر.

والثاني: أن العبادة الطاعة.

والثالث: أنها التقرب بالطاعة.

قال الماوردي: " والأول أظهرها، لأن النصارى عبدت عيسى عليه السلام، ولم تطعه بالعبادة، والنبي- صلى الله عليه وسلم مطاع، وليس بمعبودٍ بالطاعة"(8).

قال الراغب: " إن قيل: كيف قال: " إياك " نعبد ولو قال: " نعبدك " كان أوجز منه لفظاً؟ قيل: إن عادتهم أن يقدموا من الفاعل والمفعول ما القصد الأول إليه، والاهتمام متوجه نحوه، وإن كان في ذكر الجملة القصدان جميعاً.

تقول: بالأمير استخف الجند - إذا كان القصد الأول ذكر من وقع به استخفاف الجند - و " الأمير أستخف بالجند - إذا كان القصد الأول إلى من أقدم على الاستخفاف بهم.

ولما كان القصد الأول - في هذا الموضع - ذكر المعبود دون الإخبار عن إتخاذ عبادتهم، كان تقديم ذكره أولى.

(1) سر صناعة الإعراب: 1/ 321.

(2)

انظر: سر صناعة الإعراب: 1/ 320.

(3)

انظر: سر صناعة الإعراب: 1/ 320.

(4)

انظر: سر صناعة الإعراب: 1/ 320، حيث قال:" وتأملنا هذِه الأقوال على اختلافها والاعتدال لكل قول منها، فلم نجد فيها ما يصح مع الفحص والتنقيب غير قول أبي الحسن الأخفش".

(5)

الكشاف: 1/ 13.

(6)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 57 - 58.

(7)

انظر: النكت والعيون: 1/ 57 - 58.

(8)

النكت والعيون: 1/ 58.

ص: 244

وعلى هذا قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} وأيضاً، ففي ذكر المفعول إشارة إلى إثبات الحكم المذكور ونفيه عن غيره تقول: إليك أفزع تنبيهاً أني لا أفزع إلا إليك.

وإذا قال: أفزع إليك، فليس فيه المعنى وعلى هذا فسر ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما فقال: معناه: لا نوجد غيرك وقال بعضهم: إنما نبه تعالى بتقديم ذكر أن تكون نظر العباد من المعبود إلى عبادتهم له لا من العبادة إلى المعبود، وعلى ذلك فضل ما حكي الله عن نبينا عليه السلام إذ قال:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فنظر من الله تعالى إلى نفسه على ما حكى عن موسى عليه السلام حين قال: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} فقدم ذكر نفسه، ونظر منها إلى ربه" (1).

والعبادة لغة: "التذلل .. وبعير معبد: مذلل. وطريق معبد: مسلوك مذلل (2).

قال الزجاج: " معنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، يقال هذا طريق معبد إذا كان مذللا بكثرة الوطء، وبعير معبد، إذا كان مطليا بالقطران"(3).

قال ابن فارس: العين والباء والدال أصلان صحيحان. كأنهما متضادان، والأول من ذينك الأصلين يدل على لين وذل. والآخر على شدة وغلظ. فالأول: العبد المملوك .. والمعبد: الذلول .. والطريق المعبد المسلوك المذلل، والأصل الآخر: العبدة وهي القوة والصلاة يقال: هذا ثواب له عبدة، إذا كان صفيقاً قوياً (4).

قال الطبري: " وأنها تسمي الطريقَ المذلَّلَ الذي قد وَطِئته الأقدام، وذلّلته السابلة: معبَّدًا. ومن ذلك قولَ طَرَفَة بن العَبْد (5):

تُبَارِي عِتَاقًا نَاجياتٍ وأَتْبَعت

وَظِيفًا وظيفًا فوق مَوْرٍ مُعَبَّدِ

يعني بالموْر: الطريق. وبالمعبَّد: المذلَّل الموطوء" (6).

والعبادة اصطلاحاً هو: " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"(7)(8).

(1) تفسير الرابغ الأصفهاني: 1/ 59.

(2)

لسان العرب، مادة عبد 3/ 274.

(3)

معاني القرآن: 1/ 48.

(4)

معجم مقاييس اللغة 4/ 205، 206 باختصار.

(5)

ديوان الستة الجاهليين: 31. يصف ناقته. تباري: تجاريها وتسابقها. والعتاق جمع عتيق: وهو الكريم المعرق في كرم الأصل. وناجيات: مسرعات في السير، من النجاء، وهو سرعة السير. والوظيف: من رسغي البعير إلى ركبتيه في يديه، وأما في رجليه فمن رسغيه إلى عرقوبيه. وعنى بالوظيف هنا: الخف.

(6)

تفسير الطبري: 1/ 161.

(7)

العبودية، ص 31.

(8)

فالمراد بـ"ما يحبه الله ويرضاه": كل أمر يجري وفق شرع الله سبحانه وتعالى من الواجبات والمندوبات والمباحات. وكذلك ترك المنهيات، فإن الله يحب أن نترك ما نهانا عنه، من الأقوال والأفعال:(إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال) فمن ترك ذلك فقد أرضى ربه. وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31]، وقال:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32]، وقال:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال:{وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [الإسراء: 377]، ترك كل ذلك يرضي الله سبحانه وتعالى ويحب الله تاركيه ما داموا قد تركوها من أجله.

والمراد بقوله: "الباطنة والظاهرة" فهناك أعمال للقلوب وهي باطنة لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى، وقد نحس بآثارها على المتصف بها: فمما ورد في ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب: 355).

إن الاستسلام لأمر الله، والتصديق الجازم بما أنزله على رسوله، والإخبات لأمر الله والاستمرار عليه والخشوع بتدبر أوامر الله ونواهيه والتذلل لها، وصدق الحال والإخلاص في الأعمال .... كل هذه أعمال باطنة وصفات قلبية لا نحس إلا بآثارها على المتصف بها.

أما الأقوال والأعمال الظاهرة فكل ما نقوله ضمن حدود الشرع وأحكامه وما نعمله من أعمال وفق أحكام الشرع وليست متناقضة معها فهو داخل في العبادة. فالأب عندما يؤدب أولاده قال قولاً ظاهراً فهو في عبادة، والمدرس إذا ألقى درساً في أي موضوع تجريبي تطبيقي- مسألة في الرياضيات، أو معادلة كيماوية، أو قانوناً طبيعياً- أو في علم نظري: في التربية أو مهارة أدبية في التعبير فكأنما قال حكماً شرعياً في الفقه أو الحديث النبوي أو التفسير، فهو مأجور على كل ذلك لأنه أوصل منفعة لطلابه يستفيدون منها في حياتهم العلمية والعملية.

وكذلك الأعمال التي يقوم بها الأفراد هي عبادة: عيادة المريض عبادة، صلة الرحم عبادة، وكما تقدم إماطة الأذى عن الطريق عبادة، إصلاح ذات البين عبادة، إكرام الضيف عبادة، إعانة الأخرق عبادة، .... وهكذا.

يقول محمد قطب "وهكذا يقضون الحياة كلها في عبادة

عبادة تشمل نشاط الروح كله، ونشاط العقل كله، ونشاط الجسد كله، ما دام هذا كله متوجهاً به إلى الله، وملتزماً فيه بما أنزل الله، وهذا هو المفهوم الصحيح للعبادة كما أنزله الله .. المفهوم الشامل الواسع العميق {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162 - 163]. [مفاهيم ينبغي أن تصحح، ص 205، طبعة دار الشروق].

ولقد ضمر معنى العبادة في نفوس بعض المسلمين وعقولهم بحيث حصروها في الشعائر التعبدية: الصلاة، الزكاة الصوم، الحج، وربما أضاف بعضهم إليها الذكر، والجهاد ولكن دلالة العبادة أوسع بكثير من ذلك، فإنها تشمل الحياة كلها. وهذا ما تدل عليه نصوص الكتاب والسنة وفهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أطلق القرآن الكريم مصطلح (العمل الصالح) على كل ما يقوم به الإنسان من جهد بشري يبتغي به وجه الله تعالى، أو يقوم به نتيجة تكليف من الله تعالى، أو ما فيه منفعة لنفسه، ولمن حوله أو للمخلوقات عامة، ولو تتبعنا هذا المصطلح لوجدناه يشمل مجالات الحياة كلها:

1 -

في قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، أي أقام حياته على الطاعة وعمل الخير.

2 -

وفي قوله تعالى: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 87 - 88]، حيث أطلق العمل الصالح على ما يقتضيه الإيمان من الواجبات، ومنها طاعة أولي الأمر والالتزام بأنظمة الدولة ومصالح المجتمع.

3 -

في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 70].

ص: 245

قال المراغي: "العبادة: خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود اعتقادا بأن له سلطانا لا يدرك العقل حقيقته لأنه أعلى من أن يحيط به فكره، أو يرقى إليه إدراكه"(1).

قال ابن كثير: "والعبادة في الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف"(2).

قال الواحدي: " معنى العبادة: الطاعة مع الخضوع والتذلل، وهو جنس من الخضوع، لا يستحقه إلى الله عز وجل، وهو خضوع ليس فوقه خضوع، وسمي العبد عبدا لذلته وانقياده لمولاه"(3).

قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، "أي ونخصّك بطلب شيئاً الإعانة"(4).

(1) تفسير المراغي: 1/ 33.

(2)

تفسير ابن كثير: 1/ 214. وهذه تسمى أركان العبادة.

(3)

التفسير البسيط: 1/ 516.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 19.

ص: 246

قال مقاتل: " عَلَى عبادتك"(1).

قال ابن عباس: " على طاعتك وعلى أمورنا كلها"(2).

قال الثعلبي: أي: " نستوفي ونطلب المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلّها"(3)

قال الصابوني: أي: " وإيَّاك ربنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإِنك المستحق لكل إِجلال وتعظيم، ولا يملك القدرة على عون أحدٌ سواك"(4).

قال ابن كثير: أي: " ولا نتوكل إلا عليك"(5).

قال الزمخشري: أي: " نخصك بطلب المعونة"(6).

قال ابن عطية: " معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تبرؤ من الأصنام"(7).

قال الخطيب المكي: أي: " نفردك وحدك بالاستعانة فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا بما منحتنا من قوة الروح، وما أودعته إيانا من سائر القوى الخفية الكامنة في أجسامنا، ولولاك ما استطعنا تحمل المشاق ومكافحة الخطوب والأحداث، بل لم نذق لذة الحياة. ولذلك فإنا نفوض إليك كل أمورنا ونرجو عونك على بلوغ آمالنا ودفع الشر عنا بما لك من كامل العلم بما ينفعنا وما يرضيك عنا يا أكرم الأكرمين"(8).

وقيل: (الواو) في قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، للحال والمعنى نعبدك مستعينين بك (9).

والأصل في {نستعين} : "نستعون، لأنه إنما معناه من المعونة والعون، ولكن الواو قلبت ياء لثقل الكسرة فيها، ونقلت كسرتها إلى العين، وبقيت الياء ساكنة، لأن هذا من الإعلال الذي يتبع بعضه بعضا نحو أعان يعين وأقام يقيم"(10).

وفي تكرار {إياك} ، قولان:

أحدهما: أن التكرار لغرض التوكيد، والإهتمام، والإختصاص.

قال أبو بكر: "وإنما كرر {إياك} للتوكيد، كما تقول: بين زيد وبين عمرو خصومة، فتعيد (بين) "(11).

قال الثعلبي: " وإنّما كرّر {إِيَّاكَ} ، ليكون أدلّ على الإخلاص والاختصاص والتأكيد لقول الله تعالى خبرا عن موسى:{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} [طه: 33 - 34]، ولم يقل: كي نسبحك ونذكرك كثيرا، وقال الشاعر (12):

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 36،

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (30): ص 1/ 29.

(3)

تفسير الثعلبي: 1/ 118.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 19 - 20.

(5)

تفسير ابن كثير: 1/ 134.

(6)

الكشاف: 1/ 13.

(7)

المحرر الوجيز: 1/ 72.

(8)

تفسير الخطيب المكي: 1/ 13.

(9)

انظر: تفسير البيضاوي: 1/ 30.

(10)

معاني القرآن للزجاج: 1/ 49.

(11)

حكاه عنه الواحدي في التفسير البسيط: 1/ 517.

(12)

في اللسان (مصر) منسوبًا إلى أمية بن أبي الصلت. واستدركه ابن بري ونسبه لعدي بن زيد، والبيت منسوب لعدي في تفسير الطبري: 1/ 165، والمصر: الحاجز والحد بين الشيئين. يقول: جعل الشمس حدا وعلامة بين الليل والنهار.

ص: 247

وجَاعِل الشَّمس مِصْرًا لا خَفَاءَ بِه

بَيْن النَّهارِ وَبيْنَ اللَّيل قد فَصَلا

ولم يقل بين النهار والليل. وقال الآخر (1):

بَيْنَ الأشَجِّ وبَيْنَ قَيْسٍ باذخٌ

بَخْ بَخْ لوَالِدِهِ وللمَولُودِ " (2).

قال ابن عطية: : " وتكررت {إِيَّاكَ}، بحسب اختلاف الفعلين، فاحتاج كل واحد منهما إلى تأكيد واهتمام"(3).

قال أبو حيان: " كرر {إياك} ليكون كل من العبادة والاستعانة سيقا في جملتين، وكل منهما مقصودة، وللتنصيص على طلب العون منه"(4).

قال أبو السعود: "تكرير الضمير المنصوب للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة"(5).

قال الراغب: " وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، لكان يصح أن يعتقد أن الاستعانة بغيره، وكان إعادته أبلغ"(6).

والثاني: أن الأفصح إعادة الضمير مع كل فعل اتصل به، فيقال: اللهم إنا نعبدك ونستعينك ونحمدك ونشكرك، وإن كان ترك الإعادة جائزا. وهذا قول الطبري (7).

والراجح أن الغرض من التكرار للتوكيد والتنصيص، والإهتمام، " لأن العرب إذا جمعت فعلين واقعين اكتفت بوقوع أحدهما من وقوع الآخر، فيقولون: قد أكرمتك وألطفت، قال الله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3]، أراد (وما قلاك) (8) فاكتفى بوقوع الأول من وقوع الثاني"(9). والله أعلم.

(1) البيت لأعشى هَمْدان، انظر: ديوان الأعشين: 323، والأغاني 6/ 46، 61، وتفسير الطبري: 1/ 165، وأعشى همدان هو عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني أبو مصبح، كان أحد الفقهاء القراء، ثم ترك ذلك وقال الشعر. يمدح عبد الحمن بن الأشعث بن قيس الكندي، وكان خرج على الحجاج، فخرج معه الفقهاء والقراء، فلما أسر الحجاج الأعشى، قال له: ألست القائل: وأنشده البيت - والله لا تبخبخ بعدها أبدًا! وقتله. الأشج: هو الأشعث والد عبد الحمن، وقيس جده. وبخ بخ: كلمة للتعظيم والتفخيم.

(2)

تفسير الثعلبي: 1/ 118.

(3)

المحرر الوجيز: 1/ 72.

(4)

البحر المحيط" 1/ 25.

(5)

تفسير أبي السعود: 1/ 17.

(6)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 59.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 164 - 165.

(8)

قال أبو حيان: "حذف المفعول اختصارا في (قلى) إذ يعلم أنه ضمير المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. "البحر المحيط" 8/ 485.

وقال الرازي في حذف الكاف وجوه:

1 -

اكتفاء بالكاف في (ودعك)، ولأن رؤوس الآيات بالياء، فأوجب اتفاق الفواصل حذف الكاف.

2 -

الإطلاق، أنه ما قلاك، ولا أحدا من أصحابك، ولا أحدا ممن أحبك". [انظر: مفاتيح الغيب: 31/ 209، وانظر تفسير القرطبي 20/ 94].

(9)

التفسير البسيط: 1/ 517.

ص: 248

وفي تقديم العبادة على الاستعانة، في الآية أقوال (1):

أحدها: أنه على التقديم والتأخير.

والثاني: أن (الواو) لا تقتضي الترتيب.

قال الراغب: والوجه - في ذلك - أن الله تعالى علم خلقه بذلك أن يقدموا حقه ثم يسألوه ليمونوا مستحقين للإجابة" (2).

والثالث: أن قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : في موضع الحال، أجازه الراغب (3)، واستشهد بقول الشاعر (4):

بَأَيْدِيّ رِجَالٍ لَمْ يشُيِمُوا سُيُوفَهُمْ

ولم يكْثُر الْقَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ

فقوله: ولم يكثر القتلى بها، في موضع الحال.

والاستعانة لغة: مصدر استعان وهو من العون بمعنى المعاونة والمظاهرة على الشيء، يقال: فلان عوني أي معيني وقد أعنته، والاستعانة طلب العون، قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، والعون: الظهير على الأمر، الواحد والاثنان والجمع والمؤنث فيه سواء. وقد حكي في تكسيره أعوان، والعرب تقول: إذا جاءت السنة جاء معها أعوانها، يعنون بالسنة: الجدب. وبالأعوان: الجراد والذئاب والأمراض، وتقول: أعنته إعانة واستعنته واستعنت به فأعانني وتعاونوا على واعتونوا: أعان بعضهم بعضا، وتعاونا: أعان بعضنا بعضا، والمعونة: الإعانة، ورجل معوان حسن المعونة، وكثير المعونة للناس وكل شيء أعانك فهو عون لك كالصوم عون على العبادة (5).

والاستعانة اصطلاحا: " طلب العون من الله والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه ". (6).

قال السعدي إن الاستعانة هي: " الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار مع الثقة به في تحصيل ذلك "(7).

(1) انظرك تفسير الرابغ الأصفهاني: 1/ 59 - 60.

(2)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 59.

(3)

انظر: تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 60.

(4)

شرح ديوان الحماسة" اللمرزوقي ص 122، "لسان العرب" (شيم) 4/ 2380، "المعاني الكبير" 3/ 1265.

والبيت أنشده المبرد، ونسبه للفرزدق، وقال عنه المبرد: هذا البيت طريف عند أصحاب المعاني، وتأويله: لم يشيموا: أي: لم يُغمدوا، ولم تكثر القتلى، أي: لم يغمدوا سيوفهم إلا وقد كثرت القتلى حين سلت. الكامل 1/ 401، وقال المحقق: لم أجده في ديوان الفرزدق، ط: دار صادر. وبحثت عنه في ط: دار بيروت، فلم أجده أيضًا. وأنشده الزجاج، "معاني القرآن" 4/ 77، ولم ينسبه. وفيه: ولم يكثروا. وأنشده ابن الأنباري، الإنصاف 2/ 667، ولم ينسبه، وفي الحاشية: وقد وجدته في ديوان الفرزدق بيتاً مفرداً.

(5)

لسان العرب لابن منظور (13\ 298 - 299)، وانظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، القاهرة 1982 م (6\ 2168 - 2169)، والمفردات في غريب القرآن، الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، تحقيق وضبط: محمد خليل عيتاني، دار المعرفة، بيروت، ط 4، 1426 هـ، ص (356).

(6)

مجموع الفتاوى: 1/ 103.

(7)

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الصفا بالزقازيق (1\ 15).

ص: 249

والاستعانة تجمع بين أصلين (1):

أحدهما: الثقة بالله.

والثاني: الإعتماد عليه.

والتوكل أيضا يلتئم من هذين الأصلين، لذلك قد سوى ابن القيم بين التوكل والاستعانة وقال في تعريفهما:" التوكل والاستعانة، حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله تعالى، والإيمان بتفرده بالخلق، والتدبير والضرر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس فيوجب له هذا اعتمادا عليه (واستعانة به) وتفويضا إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقينا بكتابته لما توكل عليه فيه واستعان به عليه، وأنه ملي به، ولا يكون إلا بمشيئته شاء الناس ذلك أم أبوه"(2).

وبعض أهل العلم مثل ابن القيم رحمه الله يذكر أكثر من عشرة أوجه في وجه تقديم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ويمكن أن تراجع في كتابه مدارج السالكين.

كما وأن "تحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى"(3)، وهذا التفات، والالتفات لا شك أنه تفننٌ في الخطاب، وله من الدلالات البلاغية في كل مقامٍ ما يناسبه، وهو في الجملة لا شك أنه أدعى إلى تنشيط السامع، وهو أدلُّ على الفصاحة والبلاغة والقدرة على التفنن بالكلام، فهذا الالتفات تارةً يكون من الغائب إلى المخاطب مثل هنا، فهو يتحدث عن الله عز وجل على سبيل الغيبة، الحمد لله هو رب العالمين، هو الرحمن الرحيم، ثم قال: إياك، فتوجه إلى المخاطب، وعلل ذلك هنا فقال: كأنه لما أثنى عليه اقترب منه فناسب أن يوجه الخطاب إليه، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [(5) الفاتحة]، وهذا مثل قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ} [(22) يونس]، فالكلام للمخاطب، ثم قال:{وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [(22) يونس] حيث تحول عكس ما عليه الحال هنا، أي تحول الكلام من الخطاب إلى الغيبة، وعلى كل حال فالالتفات أنواع، والكلام عن هذا الموضوع يوجد في كتب البلاغة مفصلاً، ولهذا قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]"وفي هذا دليلٌ على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجمال صفاته الحسنى، وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك، ولهذا لا تصح صلاة من لم يقل ذلك وهو قادر عليه، كما جاء في الصحيحين عن عبادة بن الصامت -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (4)(5).

(1) مدارج السالكين: 1/ 75.

(2)

مدارج السالكين: 1/ 82.

(3)

تفسير ابن كثير: 1/ 215

(4)

أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت (723)(ج 1 / ص 263) ومسلم في كتاب الصلاة - باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (394)(ج 1 / ص 295).

(5)

تفسير ابن كثير: 1/ 215.

ص: 250

قال ابن كثير في تفسير: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]: "والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين، وهذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عز وجل. وهذا المعنى في غير آية من القرآن، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29] {رَبَّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} [المزمل: 9]، وكذلك هذه الآية الكريمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} "(1).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال: الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، قال الله: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"(2) ".

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، على أوجه (3):

أحدها: (إِيَّاكَ)، بتشديد (الياء)، قرأ بها نافع، ابن كثير، أبو عمرو، ابن عامر، عاصم، حمزة، الكسائي.

قال القرطبيّ: "الجمهورُ من القُرّاءِ والعلماءِ على شدِّ الياء من (إياك) في الموضعين"(4).

فإن {إيّاك} منصوب بوقوع الفعل عليه، وهو (نعبد)، وتقديم المفعول لقصد الاختصاص والاهتمام به، والمعنى: نخصك بالعبادة، ونخصك بطلب المعونة (5).

والثاني: (إِيَاكَ): في الموضعين، بتخفيف (الياء)، قراءة شاذة، لعمرو بن فائد (6) عن أبيّ.

قال ابنُ كثير: "قرأَ السّبعةُ والجمهورُ بتشديد الياء من (إيّاك)، وقرأَ عَمرو بن فايد بتَخفيفها مع الكسر وهي قراءةٌ شاذّةٌ مردودةٌ؛ لأنّ (إيا) ضوءُ الشّمس"(7).

(1) تفسير ابن كثير: 1/ 134 - 135.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (395)(ج 1 / ص 296).

(3)

انظر: إعراب القراءات السبع وعللها: 1/ 201 ـ 202، والبحر المحيط: 1/ 23 - 24.

(4)

تفسير القرطبي: 1/ 146.

(5)

انظر: الكتاب الفريد في اعراب القران المجيد: 1/ 80.

(6)

وهذا الوجه من القراءة ليس بشيء؛ لأنّها قطعًا ليستْ ثابتة ولا هي قراءةٌ صحيحةٌ متواترةٌ، بل هي مثال لما لا ينبغي أن يُذكَرَ إلاّ لبيانه على سبيل الخطأ والشّذوذ في مثل تلك القراءة. فلا هي في القراءات العشر الصُّغرى ولا الكبرى ولا في الأربع الزّائدة، وقد انفردتْ المصادرُ بنسبتها في الشّواذّ لعَمرو بن فائد الإسواريّ المعتزليّ. ذكر ذلك الإمام ابنُ الجزريّ في غاية النّهاية ج 1 ص 602 في ترجمته وكذا في كتاب الشّواذّ للكرمانيّ ص 42، وبعضُ كتبِ التّفسير كما في معجم القراءات القرآنيّة للدكتور عبد العال ص 154 ج 1، ومعجم الدكتور الخطيب ص 14، وفي بعض المصادر أنّ عَمرًا هذا نسبَها لأُبَيّ، وحاشاهُ فهاهي القراءات المتواترة الّتي تنتهي إليه ليس فيها هذا الخطأ البَيِّن؛ فهي قراءةٌ مُنكَرَةٌ.

(7)

تفسير ابن كثير: 1/ 134.

ص: 251

قال القرطبيّ: " وقرأ عَمرو بنُ فائد: (إِيَاكَ) بكسر الهمزة وتَخفيف الياء، وذلك أنّه كَرِهَ تضعيفَ الياء لِثقَلِها وكونِ الكسرة قبلَها. وهذه قراءةٌ مَرغوبٌ عنه، فإن المعنى يصير: شمسك نعبد أو ضوءك، إياةُ الشمس -بكسر الهمزة-: ضوءها "(1).

والثالث: (أَيَّاك) بفتح الهمزة وتشديد الياء، قرا بها الفضلُ الرّقاشيّ، وهي لغةٌ مشهورةٌ.

والرابع: (هَيَّاكَ)، في الموضعين [بالهاء بدل الهمزة]، قرأ بها أبو السّوار الغنويّ، وهي لغة، قال الشّاعر (2):

فَهَيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذِي إِنْ تَرَاحَبَتْ

مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلَيْكَ مَصَادِرُهُ

نستنتج مما سبق بأن (إِيَاكَ)، بالتّخفيف تُفسِدُ المعنى. وعلى قولِ الشّافعيّ وجماعة إنْ قرأَها بدون تشديد بَطُلَتْ صلاتُهُ، وقالَ بعضُهم إن تعمّدَ فيُخشَى عليه الشِّركُ؛ لأنّ الإيا هو ضوءُ الشَّمس فيصيرُ معناها: نعبدُ ضوءَ شمسِكَ بدل نعبدُكَ. والعِياذُ باللَهِ.

والخامس: (نَعْبُدُ)، قرأ بها نافع، ابن كثير، أبو عمرو، ابن عامر، عاصم، حمزة، الكسائي.

والسادس: (يُعْبُدُ)، بالياء، مبنيا للمفعول، قرأ بها الحسن وأبو مجلز، وعلي بن داود (3).

قال أبو حيان: " وقراءة من قرأ إياك (يُعبد) بالياء مبنياً للمفعول مشكلة، لأن {إياك} ضمير نصب ولا ناصب له وتوجيهها إن فيها استعارة والتفاتاً، فالاستعارة إحلال الضمير المنصوب موضع الضمير المرفوع، فكأنه قال أنت، ثم التفت فأخبر عنه أخبار الغائب لما كان إياك هو الغائب من حيث المعنى فقال: يعبد، وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة، وهو ينظر إلى قول الشاعر (4):

أَأَنْتَ الهِلالِيُّ الَّذي كُنْتَ مَرَّةً

سَمِعْنَا بِهِ وَالأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ

وإلى قول أبي كثير الهذلي (5):

يا لَهْفَ نَفْسِي كانَ جِدّةُ خالِدٍ

وبَياضُ وَجْهِكَ للتّرَابِ الأعْفَرِ" (6).

ومنه قول كثير (7)(8):

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية إن تقلت

(1) تفسير القرطبي: 1/ 146.

(2)

البيت لطفيل الغنويّ كما في أساس البلاغة (ص 157 رحب)، وشرح شافية ابن الحاجب: 4/ 474.

(3)

انظر: البحر المحيط: 1/ 23.

(4)

البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى الدرر 1/ 283، ورصف المبانى ص 26، والمغرب 1/ 63، وهمع الهوامع 1/ 87.

(5)

انظر: أمالي ابن الشجري: 1/ 117 ن وديوان الهذليين: 2/ 101، ومجاز القرآن: 1/ 24، وتفسير الطبري: 1/ 67، والمحرر الوجيز: 1/ 104.

وفي البيت يرثي الشاعر صديقا له اسمه خالد (جدة) يعني: شبابه، (الأعفر) يقول: دفن في أرض ترابها أعفر: أي: أبيض.

(6)

البحر المحيط: 1/ 24 - 25.

(7)

هو كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة من خزاعة، كان أحد العشاق المشهورين، وصاحبته (عزة) وهي من ضمرة، وإليها ينسب، كان كثير رافضيا توفي في اليوم الذي توفي فيه عكرمة مولى ابن عباس. انظر ترجمته في:"الشعر والشعراء" ص 334، "طبقات فحول الشعراء" 2/ 534، "الخزانة" 5/ 221.

(8)

من قصيدة لكثير في ذكر (عزة) قوله (مقلية) من القلي وهو البغض، (تقلت) تبغضت، ورد البيت في "الشعر والشعراء" ص 343، "ديوان كثير" ص 101، نشر دار الثقافة بيروت، "أمالي ابن الشجري" 1/ 49، 118، "المحكم" 3/ 144، "الخزانة" 5/ 219.

ص: 252

والسابع: (نعبدْ)، حكاه أبو حيان عن بعض أهل مكة (1).

والثامن: (نِعْبُدُ)، بكسر النون، قرأ بها زيد بن علي، ويحيى بن وثاب، وعبيد بن عمير الليثي (2).

والتاسع: (نعبُدو)، بإشباع الضمة، قراءة نافع برواية وَرْش.

والعاشر: (نَسْتَعِينُ)، قرأ بها نافع، ابن كثير، أبو عمرو، ابن عامر، عاصم، حمزة، الكسائي.

والحادي عشر: (نِسْتَعِينُ)، بكسر (النون)، قراءة، عبيد بن عمير الليثي، وزر بن حبيش، ويحيى بن وثاب، والنخعي، والأعمش، وهي لغة قيس، وتميم، وأسد، وربيعة (3).

قال القرطبي: " (وإياك نِستعين) عطف ملة على جملة، أي نطلب العون والتأييد والتوفيق، هي لغة تميم وقيس وأسد وربيعة، ليدل على أنه من استعان، فكُسرت النون كما تُكسر ألف الوصل (4).

قال أبو حيان: "إن فتح نون (نستعين) هي لغة الحجاز، وهي الفصحى، وقرأ بكسرها وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وكذلك حكم حرف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه (5).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: إخلاص العبادة لله؛ لقوله تعالى: {إياك نعبد} ؛ وجه الإخلاص: تقديم المعمول.

2 -

ومنها: أن العبادة تطلق في المعنى الشرعي على أمرين، الأمر الأول: بالنظر إلى فعل العبد، والثاني: بالنظر إلى المفعولات والأعمال التي تعبَّد الله عز وجل الناس بها

3 -

ومن الفوائد: أن العبادة اسمٌ جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فهذا بالاعتبار الثاني أي باعتبار المفعولات والأعمال التي شرعها الله عز وجل لعباده ليتقربوا بها إليه.

وإذا نظرنا إلى العبادة بالاعتبار الأول، أي باعتبار أنها نفس فعل العبد الذي هو صفة من صفاته، نقول: إن العبادة هي الانقياد لله عز وجل، بمعنى الإسلام، أي إسلام الوجه لله تبارك وتعالى والخضوع له بالطاعة، يعني فعل العبد لا نفس العبادات التي شرعها الله عز وجل، لأن العبادة مصدر، تارةً يراد بها المفعول، وتارةً تطلق على نفس الفعل، كما تقول القرآن يطلق على نفس المقروء الذي هو الكتاب الذي بين أيدينا، ويطلق على القراءة، وكذلك الوحي يطلق على هذا القرآن أنه وحي، يعني ما نتج عن الإيحاء وهو هذا الكتاب، وتارةً يطلق على نفس العملية التي هي الإيحاء، فتارةً يطلق على هذا المعنى، وتارةً يطلق على المعنى الآخر، فهما إطلاقان معروفان، "وقدم المفعول وهو إياك، وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك"(6).

قال ابن عاشور: "

وهو شرائع الإسلام" (7).

(1) انظر: البحر المحيط: 1/ 23.

(2)

انظر: البحر المحيط: 1/ 23.

(3)

انظر: البحر المحيط: 1/ 23.

(4)

تفسير القرطبي: 1/ 145 - 146.

(5)

البحر المحيط في التفسير: 1/ 43.

(6)

تفسير ابن كثير: 1/ 214.

(7)

انظر: التحرير والتنوير: 19/ 76.

ص: 253

وبنحو ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة فأفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"(1).

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "تبسمك في وجه أخيك صدقة"(2).

وقد مر شاب على النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلدة ونشاطة فقالوا: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان"(3).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجراً فقال: في كل كبد رطبة أجر"(4).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"(5).

وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نزع رجل لم يعمل خير قط غصن شوك عن الطريق إما كان في شجرة فقطعه فألقاه وإما كان موضوعاً فأماطه، فشكر الله له بها فأدخله الجنة"(6).

هذا وغيره من الأعمال التي تنبع من نفس تحب الخير وترغب في العطاء، ويبتغي بذلك وجه الله، أي تقدم نفعاً للمجتمع فهو عبادة، لذلك قال العلماء النية تقلب العادة عبادة.

4 -

ومنها أن المفهوم العام للعبادة له آثار إيجابية على سلوك الناس، ومن أبرز هذه الآثار: أن الإنسان العاقل عندما يقدم على عمل ويعتبره عبادة فإنه سيؤديه على أحسن وجه لأنه يرجو ثوابه عند الله على مقدار إخلاصه وصدقه في أدائه، سواء كان يؤدي حرفة أو تعليماً أو أداء وظيفة إدارية، أو يقدم بحثاً علمياً فإنه في عبادة وبالتالي سيبذل أقصى ما يستطيع من جهد، لأن في حسه أنه يؤدي عبادة والله مطلع عليه "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"(7).

5 -

ومنها ان الإحسان في العبادة "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(8).

(1) صحيح مسلم رقم 35 باب عدد شعب الإيمان 1/ 63.

(2)

رواه الترمذي في جامعه عن أبي ذر رقم 1956 باب ما جاء في صنائع المعروف 4/ 339.

(3)

مجمع الزوائد 4/ 325، ورجال المعجم الكبير رجال الصحيح.

(4)

متفق عليه: صحيح البخاري رقم 2334 باب الآبار 2/ 870، ورواه مسلم رقم 2244 باب فضل ساقي البهائم 4/ 1761.

(5)

متفق عليه واللفظ للبخاري رقم 2195 باب فضل الزرع 2/ 817، ومسلم رقم 1552، 3/ 1188.

(6)

رواه ابن حبان في صحيحه رقم 540 2/ 297.

(7)

مجمع الزوائد 4/ 98، وقال: رواه أبو يعلى، ورواه الطبراني في الأوسط رقم 897.

(8)

متفق عليه: رواه البخاري رقم 50 باب سؤال جبريل 1/ 27، ومسلم رقم 9 كتاب الإيمان 1/ 39.

ص: 254

6 -

ومن الفوائد في مفهوم العبادة الشامل، هو أن الإنسان سيتجنب الكثير من الأعمال التي لا تدخل دائرة العبادة. أي الأعمال غير المشروعة أو المحرمة، لأن الأعمال كلها إما أن تكون في دائرة المشروع الجائز، أو في دائرة المنهي عنه فتركه للمنهي عنه أيضاً عبادة يؤجر عليها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" .. وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"(1).

7 -

ومنها: إخلاص الاستعانة بالله عز وجل؛ لقوله تعالى: {وإياك نستعين} ، حيث قدم المفعول.

فإن قال قائل: كيف يقال: إخلاص الاستعانة لله وقد جاء في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] إثبات المعونة من غير الله عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"تعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة"(2)؟

فالجواب: أن الاستعانة نوعان: استعانة تفويض؛ بمعنى أنك تعتمد على الله عز وجل، وتتبرأ من حولك، وقوتك؛ وهذا خاص بالله عز وجل؛ واستعانة بمعنى المشاركة فيما تريد أن تقوم به: فهذه جائزة إذا كان المستعان به حياً قادراً على الإعانة؛ لأنه ليس عبادة؛ ولهذا قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2].

فيمكن القول بأن والاستعانة نوعان:

احدهما: نوع خاص بالله تعالى: لا يُطلب إلا منه سبحانه وتعالى، ولا يُقصد غيره فيه، ويكون ذلك في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه، كالاستعاذة، والمدد، وجلب الخير، ودفع الضر، وإجابة الدعاء، والاستغاثة، وطلب النجاح والشفاء، وطلب الولد والرزق.

والثاني: ونوع هو في مقدور الناس: كالاستعانة بشخص في حمل شيء لا يستطيع حمله، أو الاستعانة به في إنهاء معاملة أو مصلحة مشروعة، أو الاستعانة به في أن يشفع له شفاعة حسنة لدى مسئول للتوصل إلى حقه، أو لدفع الضرر عنه، كذلك كل ما يعجز عنه الإنسان في أمور الدنيا ويحتاج إلى مساعدة غيره فيه، ويكون ذلك في الأمور التي تدخل في قدرة الإنسان وتصرفه، فهي استعانة جائزة مشروعة.

فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال؟

فالجواب: لا؛ الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان به قادراً عليها؛ وأما إذا لم يكن قادراً فإنه لا يجوز أن تستعين به: كما لو استعان بصاحب قبر فهذا حرام؛ بل شرك أكبر؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئاً؛ فكيف يعينه! ! ! وكما لو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الوليّ الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده: فهذا أيضاً شرك أكبر؛ لأنه لا يقدر أن يعينه وهو هناك.

فإن قال قائل: هل يجوز أن يستعين المخلوقَ فيما تجوز استعانته به؟

فالجواب: الأولى أن لا يستعين بأحد إلا عند الحاجة، أو إذا علم أن صاحبه يُسَر بذلك، فيستعين به من أجل إدخال السرور عليه؛ وينبغي لمن طلبت منه الإعانة على غير الإثم والعدوان أن يستجيب لذلك.

(1) رواه مسلم رقم 1006 باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف 2/ 697.

(2)

أخرجه البخاري ص 232، كتاب الجهاد، باب 72: فضل من حمل متاع صاحبه في السفر حديث رقم 2891؛ وأخرجه مسلم ص 837، كتاب الزكاة، باب 16: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، حديث رقم 2335 [56] 1009، واللفظ لمسلم.

ص: 255

8 -

ومن الفوائد أن كلمة الاستعانة تُشعر بوجوب العمل، والأخذ بالأسباب، لأن الاستعانة طلب العون من الله تعالى على أداء عمل أو إتمامه، وذلك في كل ما للإنسان فيه كسب، كطلب الشفاء من الله تعالى مع بذل سبب العلاج وأخذ الدواء، وطلب الرزق مع بذل السبب، وطلب النصر على العدو مع مجاهدته وإعداد العدة، وطلب النجاح في الامتحان من الله تعالى مع الجد والاجتهاد في تحصيل الدروس، وهكذا.

وكل من ترك الأخذ بالأسباب يكون قد جانب الصواب، وكل من اعتمد على الله تعالى دون أن يبذل الأسباب فقد أخطأ الاعتقاد، فإن العبد لا يستغني عن العون الإلهي مهما أوتي من قوة وحصافة، ولابد له من العمل والتوكل، ولا ينفع التوكل بدون عمل، ولا ينفع عمل بدون توكل واستعانة.

9 -

ومن الفوائد اشتمال هذه الآية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، على توحيد الربوبية والاستعانة به سبحانه وتعالى، وهي أفضل الوسائل للإعانة على العبادة، والتعبد يكون باسم الله، واسم الرحمن، واسم الرب، والمسلم يعبد الله تعالى بألوهيته، ويستعين بربوبيته.

عن الحسن: أن الله تعالى أنزل مئة وأربعة كتب جمع معانيها في أربعة هن: التوراة، والإنجيل، والقرآن، والزبور، وجمع معانيها في القرآن، وجمع معاني القرآن في الفاتحة، وجمع معاني الفاتحة في:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1).

وإذا قرأ العبد "الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" وعند التلفظ بـ "وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" تغمره السكينة والطمأنينة، لأنه قد توكل على الله، وألقى إليه مقاليد أموره في الدنيا والآخرة، لعينه سبحانه على الوصول إليها.

القرآن

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]

التفسير:

دُلَّنا، وأرشدنا، ووفقنا إلى الطريق المستقيم، وثبتنا عليه حتى نلقاك، وهو الإسلام، الذي هو الطريق الواضح الموصل إلى رضوان الله وإلى جنته، الذي دلّ عليه خاتم رسله وأنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، فلا سبيل إلى سعادة العبد إلا بالاستقامة عليه.

قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، " أي: دلنا وأرشدنا يا رب إِلى طريقك الحق ودينك المستقيم" (2).

قال ابن أبي زمنين: "اي أرشدنا الطريق"(3).

قال النسفي: " أي ثبتنا على المنهاج الواضح"(4).

قال الزجاج: اي: ثبتنا على المنهاج الواضح" (5).

قال مقاتل: " يعني دين الإسلام، لأن غير دين الإسلام لَيْسَ بمستقيم"(6).

(1) كتاب الصلاة ابن القيم وأخرجه البيهقي عن الحسن في "شعب الإيمان"، وذكره كل من ابن تيمية في مجموع الفتاوى: 22/ 607، وابن قيم في مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 95).

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 20.

(3)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 119.

(4)

تفسير النسفي: 1/ 32.

(5)

معاني القرآن: 1/ 49. [بتصرف بسيط].

(6)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 36.

ص: 256

قال القاسمي: " أي ألهمنا الطريق الهادي، وأرشدنا إليه، ووفقنا له"(1).

قال الخطيب المكي: أي: " نور قلوبنا بهدايتك الربانية لنعرف السبل الموصلة إليك، فأنت وحدك الذي تنعم بالهداية وتوفق من أردت إلى اتباع أوامرك الإلهية"(2).

قال البيضاوي: " بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال: كيف أعينكم فقالوا اهْدِنَا. أو إفراد لما هو المقصود الأعظم"(3).

قال الطبري: " وإنما وصفه الله بالاستقامة، لأنه صواب لا خطأ فيه"(4).

قال ابن عثيمين: " والمراد بـ "الهداية" هداية الإرشاد، وهداية التوفيق؛ فأنت بقولك: {اهدنا الصراط المستقيم} تسأل الله تعالى علماً نافعاً، وعملاً صالحاً"(5).

قال الراغب: "الهداية: دلالة بلطف"(6).

وفي الصحاح: الهداية بمعنى الارشاد والدلالة (7)، ويقال: هديتُهُ الطريقَ والبيتَ هداية، أي عَرَّفتُه به (8).

و{الصراط} : هو الطريق السهل (9)، والسبيل الواضح (10).

فـ"الطريق: هو كل ما يطرقه طارقٌ، معتادًا كان أو غير معتادٍ، والسبيل من الطُّرق: ما هو مُعتادُ السلوكِ، والصراط من السبيل: ما لا التِواء فِيه ولا اعوِجاج، بل يكون على سبيلِ القَصْدِ، فهو أخصُّ منها"(11).

وفي قوله تعالى: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، تأويلان (12):

أحدهما: معناه أرْشُدْنا ودُلَّنَا. قاله علي بن أبي طالب (13)، وأبيّ بن كعب (14)، والسدي (15)، ومقاتل (16).

والثاني: معناه ألهمنا (وفقنا)، وهذا قول ابن عباس (17).

(1) محاسن التأويل: 1/ 230.

(2)

تفسير الخطيب المكي: 1/ 13.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 30.

(4)

تفسير الطبري: 1/ 177.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 16.

(6)

المفردات في غريب القرآن: مادة هدى: ، ص 538.

(7)

الصحاح: مادة: الهُدى: ، ج 6، ص 2533.

(8)

المصباح المنير مادة (شَاءَ) و (هَدَى) 1/ 334.

(9)

والطريق عمومًا لا يقتضي السهولة؛ انظر الفروق اللغوية للعسكري (298/ 1)، وقال في القاموس المحيط (ص 675):"الصِّراطُ - بالكسر -: الطريقُ، وجِسْرٌ مَمْدُودٌ على متْنِ جَهَنَّمَ".

(10)

لسان العرب (7/ 313).

(11)

لكليات؛ لأبي البقاء الكفوي (ص 513).

(12)

انظر: النكت والعيون: 1/ 58.

(13)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 118.

(14)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 118.

(15)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 119.

(16)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 36، وتفسير الثعلبي: 1/ 119.

(17)

انظر: تفسير الطبري (173): ص 1/ 166، وتفسير ابن أبي حاتم (31)، و (36): ص 1/ 30.

ص: 257

والهداية قد يأتي في كلام العرب: بمعنى التوفيق (1)، فمن ذلك قول الشاعر (2):

لا تَحْرِمَنِّي هَدَاكَ الله مَسْألتِي

وَلا أكُونَنْ كمن أوْدَى به السَّفَرُ

يعنى به: وفَّقك الله لقضاء حاجتي. ومنه قول الآخر (3):

ولا تُعْجِلَنِّي هدَاك المليكُ

فإنّ لكلِّ مَقامٍ مَقَالا

فمعلوم أنه إنما أراد: وفقك الله لإصابة الحق في أمري.

ومنه قول الله جل ثناؤه: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، أي:" لا يُوفِّقهم، ولا يشرَحُ للحق والإيمان صدورَهم"(4).

وذكر السمين الحلبي وجوها في معنى (الهداية)(5):

أحدها: الإرشاد.

والثاني: الدلالة.

والثالث: التقدم، ومنه هوادي الخيل لتقدمها قال امرؤ القيس (6):

فألحقه بالهاديات ودونه

جواحرها في صرة لم تزيل

فقوله: الهاديات، أي: أوائل بقر الوحش.

والرابع: التبيين نحو: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17]. أي بينا لهم.

والخامس: الإلهام، نحو:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] أي ألهمه لمصالحه.

والسادس: الدعاء كقوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، أي: داع.

والسابع: وقيل هو الميل، ومنه {إنا هدنآ إليك} [الأعراف: 56]، والمعنى: مل بقلوبنا إليك، قال السمين الحلبي:"وهذا غلط، فإن تيك مادة أخرى من هاد يهود"(7).

قال الحسن بن الفضل: " (الهدى) في القرآن على وجهين:

الوجه الأول: هدى دعاء وبيان كقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقوله:{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} [الرعد: 7]، و {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ} [فصّلت: 17].

الوجه الثاني: هدى توفيق وتسديد كقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [النحل: 93]، وقوله:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] " (8).

وأما {الصراط} ، ففيه ثلاثة أقوال (9):

أحدها: أنه السبيل المستقيم، ومنه قول جرير (10):

(1) انظر: تفسير الطبري: 1/ 167.

(2)

لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الطبري: 1/ 167، وفي أمالي المرتضى: 1/ 160، من ابيات لودقة الأسدي يقولها لمعن بن زائدة.

(3)

نسبه المفضل بن سلمة في الفاخر: 253، وقال:" أول من قال ذلك طرفة بن العبد، في شعر يعتذر فيه إلى عمرو بن هند "، وليس في ديوانه، وانظر أمثال الميداني 2/ 125.

(4)

تفسير الطبري: 1/ 167.

(5)

انظر: الدر المصون: 1/ 63.

(6)

ديوانه: 22، وانظر: شرح المعلقات السبع للزوزني: 31، إذ الرواية فيه (فالحقنا). وجواحرها، أي: متخلفاتها. لم تزيل: لم تتفرق.

(7)

الدر المصون: 1/ 63.

(8)

تفسير الثعلبي: 1/ 119.

(9)

انظر: النكت والعيون: 1/ 58.

(10)

ديوانه: 507، يمدح هشام بن عبد الملك. والموارد جمع موردة: وهي الطرق إلى الماء. يريد الطرق التي يسلكها الناس إلى أغراضهم وحاجاتهم، كما يسلكون الموارد إلى الماء.

ص: 258

أَميرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِراطٍ

إذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيم

يريد على طريق الحق (1).

ومنه قول الهُذلي أبي ذُؤَيْب (2):

صَبَحْنَا أَرْضَهُمْ بالخَيْلِ حَتّى

تركْنَاها أَدَقَّ مِنَ الصِّرَاطِ

وقال عامر بن الطفيل (3):

خشونا أرضهم بالخيل حتّى

تركناهم أذل من الصراط

والثاني: أنه الطريق الواضح، ومنه قوله تعالى:{وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُون} [الأعراف: 86]، وقال الشاعر (4):

فَصَدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّرَاطِ الْقَاصِدِ

والثالث: أن الصراط: الطريق، بلغة الروم. قاله النقاش (5).

قال ابن عطية: " وهذا ضعيف جدا"(6).

قال الماوردي: و {الصراط} : " مشتق من مُسْتَرَطِ الطعام، وهو ممره في الحلق"(7).

قال الطبري: "أجمعَت الأمَّةُ من أهل التأويل جميعًا على أنَّ {الصراطَ المستقيمَ}، هو: الطريقُ الواضحُ الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك ذلك في لغة جميع العرب"(8).

قال ابن القيم رحمه الله: "و {الصراط} : ما جَمَع خمسةَ أوصاف: أنْ يكون طريقًا مستقيمًا، سهلاً، مسلوكًا، واسعًا، موصلاً إلى المقصود، فلا تُسمِّي العربُ الطريقَ المُعْوَجَّ: صراطًا، ولا الصعبَ المشق، ولا المسدود غير الموصل، ومَن تأمَّلَ مواردَ الصراط في لسانهم واستعمالهم، تبيَّن له ذلك

ولا تكون الطريقُ صراطًا حتى تتضمَّن خمسةَ أمور: الاستقامةَ، والإيصالَ إلى المقصود، والقُرْبَ، وسعتَه للمارِّين عليه، وتعيُّنَه طريقًا للمقصود" (9).

وفي الدعاء بهذه الهداية، ثلاثة تأويلات (10):

أحدها: أنهم دعوا باستدامة الهداية، وإن كانوا قد هُدُوا.

والثاني: معناه زدنا هدايةً. وضعفه الطبري (11).

(1) انظر: تفسير الطبري: 1/ 170.

(2)

نسبه إليه الطبري: 1/ 170، والبيت ليس في ديوانه، ونسبه القرطبي في تفسيره 1: 128 لعامر بن الطفيل، وليس في ديوانه، فإن يكن هذليا، فلعله من شعر المتنخل، وله قصيدة في ديوان الهذليين 2/ 18 - 28، على هذه القافية. ولعمرو بن معد يكرب أبيات مثلها رواها القالي في النوادر 3/ 191.

(3)

انظر: الفروق اللغوية: 313، وتفسير الثعلبي: 1/ 119.

(4)

انظر: النكت والعيون: 1، 58، وتفسير الطبري: 1/ 170، ومجاز القرآن: 1/ 24، والمحرر الوجيز: 1/ 74، وتفسير القرطبي: 1/ 128، وفيه:"الصراط الواضح". وهو بلا نسبة.

(5)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 74.

(6)

المحرر الوجيز: 1/ 74.

(7)

النكت والعيون: 1/ 58.

(8)

تفسير الطبري (1/ 170).

(9)

دائع الفوائد (2/ 16).

(10)

انظر: النكت والعيون: 1/ 58 - 59.

(11)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 167 - 168.

ص: 259

قال الزمخشري: " ومعنى طلب الهداية- وهم مهتدون- طلب زيادة الهدى بمنح الإلطاف، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً}، {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا} "(1).

والثالث: أنهم دعوا بها إخلاصاً للرغبة، ورجاءً لثواب الدعاء.

واختلفوا في المراد بالصراط المستقيم، على أقوال (2):

أحدها: أنه كتاب الله تعالى، وهو قول علي (3)، وعبد الله (4)، ويُرْوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم (5).

والثاني: أنه دين الله الإسلام، وهو قول جابر بن عبد الله (6)، ومحمد بن الحنفية (7)، وزيد بن أسلم (8)، وابن عباس (9) في رواية ميمون بن مهران عنه، ورواه نواس بن سمعان الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم (10).

والثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين الله تعالى، الذي لا عوج فيه، وهو قول ابن عباس (11)، ومجاهد (12).

والرابع: هو رسول الله-صلى الله عليه وسلم وأخيار أهل بيته وأصحابه، وهو قول الحسن البصري (13)، وأبي العالية الرياحي (14)، وأبي بريدة (15).

والخامس: أنه طريق السواد الأعظم. قاله عبدالعزيز بن يحيى (16).

والسادس: أنه يعني صراطا لا تزيغ به الأهواء يمينا وشمالا. قاله أبو بكر الورّاق (17).

والسابع: أنه يعني طريق الخوف والرجاء. قاله محمد بن علي النهدي (18).

(1) الكشاف: 1/ 15.

(2)

انظر: النكت والعيون: 1/ 59، وتفسير الثعلبي: 1/ 119 - 120.

(3)

انظر: تفسير الطبري (176): ص 1/ 173، وتفسير الثعلبي: 1/ 120.

(4)

انظر: تفسير الطبري (177): ص 1/ 173، وتفسير الثعلبي: 1/ 120.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (32): ص 1/ 30. قال ابن كثير: «وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين على رضى الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح، على أنه قد روى له شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم» 1/ 21.

(6)

انظر: تفسير الطبري (178): ص 1/ 173، وتفسير الثعلبي: 1/ 120.

(7)

انظر: تفسير الطبري (181): ص 1/ 175، والنكت والعيون: 1/ 59، وتفسير الثعلبي: 1/ 120.

(8)

انظر: تفسير الطبري (185): ص 1/ 176.

(9)

انظر: تفسير الطبري (180): ص 1/ 175.

(10)

انظر: تفسير الطبري: (186)، و (187): ص 1/ 176، وتفسير ابن أبي حاتم (33): ص 1/ 30. قال ابن كثير: وهو إسناد حسن صحيح".1/ 21.

(11)

انظر: تفسير الطبري (173): ص 1/ 166، و (179): ص 1/ 174 - 175، وتفسير ابن أبي حاتم (36): ص 1/ 30.

(12)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (35): ص 1/ 30.

(13)

انظر: النكت والعيون: 1/ 59، وتفسير الثعلبي: 1/ 120.

(14)

انظر: تفسير الطبري (184): ص 1/ 175، والنكت والعيون: 1/ 59، وتفسير الثعلبي: 1/ 120، والكامل لابن عدي: 3/ 163.

(15)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 120، وتفسير أبي حمزة الثمالي: 167، وشواهد التنزيل: 1/ 74 ح 86، ونهج الايمان لابن جبر عن كتاب ابن شاهين:54.

(16)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 121.

(17)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 121.

(18)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 121.

ص: 260

والثامن: أنه طريق العبودية. قاله أبو عثمان الداراني (1).

والتاسع: أنه طريق السنّة والجماعة لأن البدعة لا تكون مستقيمة. قاله عبدالله التستري (2).

والعاشر: أنه سؤال الجنة، لقوله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد: 4 - 5]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس: 9] الآية (3).

الحادي عشر: أن المعنى: علمنا العلم الحقيقيّ فذلك سبب الخلاص، وهو المعبّر عنه بالنور في قوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [النور: 35](4).

الثاني عشر: أن المراد: زدنا هدى استنجاحا لما وعدت بقولك: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11]. وقولك: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17](5).

الثالث عشر: أن المراد: احرسنا عن استغواء الغواة واستهواء الشهوات، واعصمنا من الشبهات (6).

الرابع عشر: أنه عنى الهداية العامة، وأمر أن ندعو بذلك- وإن كان هو قد فعله لا محالة- ليزيدنا ثوابا بالدعاء، كما أمرنا أن نقول: اللهم صلّ على محمد (7).

قال ابن كثير: "وكل هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم واقتدى بالذين من بعده أبي بكر وعمر فقد اتبع الحق، ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن"(8).

وقال القاسمي: " فهذه الأقاويل اختلفت باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجزئياتها، والجميع يصح أن يكون مرادا بالآية- إذ لا تنافي بينها- وبالله التوفيق» كلام الراغب. وبه يعلم تحقيق معنى الهداية في سائر مواقعها في التنزيل الكريم، وأن الوجوه المأثورة في آية ما- إذا لم تتناف- صح إرادتها كلها، ومثل هذا يسمى: اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ"(9).

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، على وجوه (10):

أحدها: (أرْشدنا)، قرأ بها عبدالله ابن مسعود (11).

والثاني: (الصِّرَاطَ)، قرأ بها نافع، أبو عمرو، ابن عامر، عاصم، الكسائي، قالون، ورش، خلف، خلاد، قنبل.

والثالث: (الصّراط): بين الصاد والزاي، قرأ بها حمزة، وأبو عمرو، خلف، خلاد، الدوري، ابن سعدان.

(1) انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 121.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 121.

(3)

انظر: محاسن التأويل: 1/ 232.

(4)

انظر: محاسن التأويل: 1/ 232.

(5)

انظر: محاسن التأويل: 1/ 232.

(6)

انظر: محاسن التأويل: 1/ 232.

(7)

انظر: محاسن التأويل: 1/ 232.

(8)

تفسير ابن كثير: 1/ 21.

(9)

محاسن التأويل: 1/ 132 - 233.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 119، وتفسير القرطبي: 1/ 147 - 148، والبحر المحيط: 1/ 45.

(11)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 36.

ص: 261

والرابع: (الزراط)، قراءة حمزة برواية الأصمعي عن أبي عمرو.

والخامس: (السراط)، بالسين، قرأ بها ابن كثير برواية القواس، الكسائي، ابو عمرو، قنبل، ابن مجاهد، ويعقوب، رويس اللؤلوي، وابن محيصن.

و(السراط): "من الاتراط بمعنى الابتلاع، كأن الطريق يسترط من يسلكه (1).

والسادس: (صراطاً مستقيماً)، بالتنوين من غير لام التعريف، قرأ بها نصر بن علي عن الحسن.

قال الثعلبي: " وكلّها لغات فصيحة صحيحة، إلّا إن الاختيار: (الصاد)، لموافقة المصحف لأنها كتبت في جميع المصاحف بالصاد. ولأن آخرتها بالطاء لأنهما موافقتان في الاطباق والاستعلاء"(2).

قال الفراء: "اللغة الجيدة بالصاد، وهي لغة قريش الأول، وعامة العرب يجعلونها سينا، وبعض قيس يشمون الصاد، فيقول: (الصراط) بين الصاد والسين، وكان حمزة يقرأ (الزراط) بالزاي، وهي لغة لعذرة وكلب وبني القيْن"(3).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: لجوء الإنسان إلى الله عز وجل بعد استعانته به على العبادة أن يهديه الصراط المستقيم؛ لأنه لا بد في العبادة من إخلاص؛ يدل عليه قوله تعالى: {إياك نعبد} ؛ ومن استعانة يتقوى بها على العبادة؛ يدل عليه قوله تعالى: {وإياك نستعين} ؛ ومن اتباع للشريعة؛ يدل عليه قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} ؛ لأن {الصراط المستقيم} هو الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

2 -

ومن فوائد الآية: بلاغة القرآن، حيث حذف حرف الجر من {اهدنا}؛ والفائدة من ذلك: لأجل أن تتضمن طلب الهداية: التي هي هداية العلم، وهداية التوفيق؛ لأن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية علم، وإرشاد؛ وهداية توفيق، وعمل؛ فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة؛ والله عز وجل قد هدى بهذا المعنى جميع الناس، كما في قوله تعالى:{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس} [البقرة: 185]؛ والثانية فيها التوفيق للهدى، واتباع الشريعة، كما في قوله تعالى:{ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتقين} [البقرة: 2] وهذه قد يحرمها بعض الناس، كما قال تعالى:{وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]: {فهديناهم} أي بيّنّا لهم الحق، ودَلَلْناهم عليه؛ ولكنهم لم يوفقوا ..

3 -

ومن فوائد الآية: أن الصراط ينقسم إلى قسمين: مستقيم، ومعوج؛ فما كان موافقاً للحق فهو مستقيم، كما قال الله تعالى:{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} [الأنعام: 153]؛ وما كان مخالفاً له فهو معوج.

القرآن

{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7]

التفسير:

(1) تفسير القرطبي: 1/ 147 - 148.

(2)

تفسير الثعلبي: 1/ 119.

(3)

حكاه عنه ابن الجوزي: 1/ 20، وقال بمعناه في (كتاب فيه لغات القرآن):" و «الصراط» فيه لغات أربع: فاللغة الجيدة لغة قريش الأولى التي جاء بها الكتاب؛ بالصاد، وعامة العرب يجعلونها سينا، فيقولون: السراط، بالسين". [كتاب فيه لغات القرآن، للفراء: 10]. نسخة مكتبة الشاملة، والكتاب غير مطبوع.

ونسبه أبو حيان: 1/ 45، لأبي جعفر الطوسي، وكذا الهرري في الحدائق: 1/ 75.

ص: 262

طريق الذين أنعمت عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، فهم أهل الهداية والاستقامة، ولا تجعلنا ممن سلك طريق المغضوب عليهم، الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به، وهم اليهود، ومن كان على شاكلتهم، والضالين، وهم الذين لم يهتدوا، فضلوا الطريق، وهم النصارى، ومن اتبع سنتهم.

قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، " أي طريق من تفضّلت عليهم بالجود والإنعام"(1).

قال ابن عباس: " يقول: طريق من أنعمت عليهم"(2).

قال الصابوني: أي" من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وَحَسُنَ أولئك رفيقاً"(3).

قال الثعلبي: " يعني: طريق الذين أنعمت عليهم بالتوفيق والرعاية، والتوحيد والهداية، وهم الأنبياء والمؤمنون الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] "(4).

قال الطبري: " وفي هذه الآية دليلٌ واضح على أنّ طاعة الله جَلّ ثناؤه لا ينالها المُطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم، وتوفيقه إياهم لها. أوَ لا يسمعونه يقول: {صراط الذين أنعمت عليهم}، فأضاف كلّ ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم"(5).

واختلف في المراد بالذين أنعم الله عليهم في الآية، على أقوال (6):

أحدها: أنهم المؤمنون، قاله ابن عباس (7)، ومجاهد (8)، واختاره ابن كثير (9).

والثاني: أنهم الأنبياء. قاله ربيع (10)، وقتادة (11).

والثالث: أنهم الملائكة.

والرابع: أنهم المؤمنون بالكتب السالفة، قبل التحريف والنسخ، قاله ابن عباس (12)، وحكاه مكي (13).

يدل عليه قوله تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40، 47، 122].

والخامس: أن "المنعم عليهم محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر". حكاه مكي عن ابي العالية (14).

والسادس: أنهم المسلمون. وهو قول وكيع (15).

والسابع: أنهم النبي-صلى الله عليه وسلم، ومَنْ معه مِنْ أصحابه، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد (16).

والثامن. أنهم أصحاب الرسول صلّى الله عليه ورضي عنهم وأهل بيته. قاله شهر بن حوشب (17).

والتاسع: أنه صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين". قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه (18)، وهو قول جمهور المفسرين (19).

قال ابن عطية: " وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً، وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 66 - 69]، فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد"(20).

والقول الأول أشبه بالصواب، لكونه أعم وأشمل. والله أعلم.

قال البيضاوي: " الإنعام: إيصال النعمة، وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين، ونعم الله وإن كانت لا تحصى كما قال:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها} ، تنحصر في جنسين: دنيوي وأخروي.

والأول قسمان: موهبي وكسبي، والموهبي قسمان: روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق، وجسماني: كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات الفاضلة، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة وحصول الجاه والمال.

والثاني: أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين.

(1) صفوة التفاسير: 1/ 20.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (37): ص 1/ 31.

(3)

صفوة التفاسير: 1/ 20.

(4)

تفسير الثعلبي: 1/ 121.

(5)

تفسير الطبري: 1/ 179.

(6)

اتظر: النكت والعيون: 59 - 60، وتفسير ابن كثير:223.

(7)

انظر: تفسير الطبري (190): ص 1/ 178، والحديث منقطع، لأن ابن جريج لم يسمع من ابن عباس.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (39): ص 1/ 31، وانظر تفسير ابن كثير:223.

(9)

تفسير ابن كثير: 223.

(10)

انظر: تفسير الطبري (189): ص 1/ 178.

(11)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 75.

(12)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 122، والمحرر الوجيز: 1/ 75. ولفظه: " «المنعم عليهم أصحاب موسى قبل أن يبدلوا».

(13)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 75، وتفسير البيضاوي: 1/ 30، والنكت والعيون: 59 - 60، وتفسير ابن كثير:223.

(14)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 75.

(15)

انظر: تفسير الطبري (191): ص 1/ 178.

(16)

انظر: تفسير الطبري (192): ص 1/ 179.

(17)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 122.

(18)

انظر: تفسير الطبري (188): ص 1/ 178، وابن أبي حاتم (38): ص 1/ 31، والضحاك لم يسمع من ابن عباس فهو ضعيف.

(19)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 75.

(20)

المحرر الوجيز: 1/ 75.

ص: 263

والمراد هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر" (1).

وفي تفسير (الإنعام) في قوله {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتح: 7]، وجوه:

أحدها: بالثبات على الإيمان والاستقامة. قاله عكرمة (2).

والثاني: أن المراد: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، بالشكر على السرّاء والصبر على الضرّاء. قاله علي بن الحسين بن داود (3).

والثالث: أنه يعني: أتممت عليهم النعمة. قاله الحسين بن الفضل (4).

والرابع: بخلقهم للسعادة.

والخامس: بأن نجاهم من الهلكة.

والسادس: بالهداية واتباع الرسول.

قال أبو حيان: " ولم يقيد الأنعام ليعم جميع الأنعام"(5).

قال الثعلبي: " وأصل (النعمة): المبالغة والزيادة، يقال: دققت الدواء فأنعمت دقّه أي بالغت في دقه، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وآله: " إن أهل الجنة يتراءون الغرفة منها كما يتراءون الكوكب الدرّي الشرقي أو الغربي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما" (6)، أي زادا عليه. وقال أبو عمرو: بالغا في الخير"(7).

قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 7]، أي:" غير صراط الذين غضبت عليهم، ولا الضالين عن الهدى"(8).

قال صديق خان: " أي غير صراط الذين غضبت عليهم وهم اليهود، لقوله تعالى فيهم: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المادة: 60]، ولا الضالين عن الهدى، وهم النصارى لقوله عز وجل: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [المادة: 77] "(9).

قال مقاتل: " يعني دلنا عَلَى دين غير اليهود الَّذِين غضب اللَّه عليهم، فجعل منهم القردة والخنازير، {وَلَا الضَّالِّينَ}، يقول: ولا دين المشركين يعني النصارى"(10).

قال السعدي: أي: غير صراط " الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم، وغير صراط الذين تركوا الحق على جهل وضلال، كالنصارى ونحوهم"(11).

قال الصابوني: " أي لا تجعلنا يا ألله من زمرة أعدائك الحائدين عن الصراط المستقيم، السالكين غير المنهج القويم، من اليهود المغضوب عليهم أو النصارى الضالين، الذين ضلوا عن شريعتك القدسية، فاستحقوا الغضب واللعنة الأبدية"(12).

(1) تفسير البيضاوي: 1/ 30 - 31.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 122.

(3)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 122.

(4)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 122.

(5)

البحر المحيط: 1/ 28.

(6)

الجامع الصغير: 2/ 203.

(7)

تفسير الثعلبي: 1/ 122.

(8)

تفسير البغوي: 1/ 76.

(9)

فتح البيان في مقاصد القرآن: 1/ 52.

(10)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 36.

(11)

تفسير السعدي: 39.

(12)

صفوة التفاسير: 1/ 20.

ص: 264

قال الراغب: " أصل (الغضب): غليان دم القلب إرادة الانتقام، ومبدأ الغضب: انفعال مكروه، بدلالة قوله عليه السلام: " إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار " وقال عليه السلام:" اتقوا الغضب، فإنها جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه فمن وجد من ذلك شيئاً، فليلزم الأرض "(1) " (2).

قال ابن أبي زمنين: " هذا دعاء أمر الله رسوله أن يدعو به، وجعله سنة له وللمؤمنين"(3).

أخرج الطبري عن عدي بن حاتم، قال:"قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ {المغضوبَ عليهم} اليهود"(4)، [و] "إن {الضَّالين}: النَّصارى" (5). وروي عن ابن عباس (6)، ومجاهد (7)، والربيع (8)، وابن زيد (9).

وفي غضب الله عليهم، أربعة أقاويل (10):

أحدها: أنه الغضب المعروف من العباد.

قال الطبري: " غير أنه - وإن كان كذلك من جهة الإثبات (11) - فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم، لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات، ولكنه له صفة، كما العلم له صفة، والقدرة له صفة، على ما يعقل من جهة الإثبات، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد، التي هي معارف القلوب، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها"(12).

والثاني: أنه إرادة الانتقام، لأن أصل الغضب في اللغة هو الغلظة، وهذه الصفة لا تجوز على الله تعالى.

قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الزخرف: 55].

وكما قال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [سورة المائدة: 60].

(1) هذا طرف من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم من بعد صلاة العصر إلى مغيربان الشمس، أنظر: المصنف لابن أبي شيبة (25893): ص 13/ 64 - 65، كتاب الأدب، ورواه عبدالرزاق (20720)، من طريقة أحمد: 3، 61، وحماد بن سلمة، والطيالسي (2156)، وعبد بن حميد (864)، وأحمد: 3/ 19، وأبي يعلى (1096، 1101*ـ والحاكم: 4/ 505، وقال: لم يحتج الشيخان بابن جدعان، وعلّق عليه الذهبي بانه: صالح الحديث.

(2)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 66.

(3)

تفسير ابن أبي زمنين: 1/ 119.

(4)

تفسير الطبري (193) - (195): ص 1/ 185 - 186.

(5)

تفسير الطبري (207) - (209): ص 1/ 192 - 193.

(6)

انظر: تفسير الطبري (200): ص 1/ 187، و (215)، و (217): ص 1/ 193 - 194.

(7)

انظر: تفسير الطبري (202): ص 1/ 188، و (214): ص 1/ 193.

(8)

انظر: تفسير الطبري (203): ص 1/ 188، و (218): ص 1/ 195.

(9)

انظر: تفسير الطبري (205)، و (206): ص 1/ 188، و (219)، و (220): ص 1/ 195.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 188 - 189، والنكت والعيون: 1/ 61.

(11)

الإثبات: مذهب أهل السنة في إثبات الصفات لله تعالى كما وصف نفسه، وإثبات القدر بلا تأويل، خلافا لأهل القدر، وهم نفاته، وللجهمية والمعطلة للصفات.

(12)

تفسير الطبري: 1/ 189.

ص: 266

والثالث: أن غضبه عليهم هو ذَمُّهُ لهم لأفعالهم.

والرابع: أنه نوع من العقوبة سُمِّيَ غضباً، كما سُمِّيَتْ نِعَمُهُ رَحْمَةً.

قال الطبري: " فكلّ حائدٍ عن قَصْد السبيل، وسالكٍ غيرَ المنهج القويم، فضَالٌّ عند العرب، لإضلاله وَجهَ الطريق. فلذلك سمى الله جل ذكره النصارَى ضُلالا لخطئهم في الحقِّ مَنهجَ السبيل، وأخذهم من الدِّين في غير الطريق المستقيم.

فإن قال قائل: أوَ ليس ذلك أيضًا من صفة اليهود؟

قيل: بلى!

فإن قال: كيف خَصّ النصارَى بهذه الصفة، وَخصّ اليهودَ بما وصفَهم به من أنهم مغضوب عليهم؟

قيل: كلا الفريقين ضُلال مغضوبٌ عليهم، غيرَ أن الله جلّ ثناؤه وَسم كل فريق منهم من صِفَته لعباده بما يعرفونه به، إذا ذكرهُ لهم أو أخبرهم عنه. ولم يسمِّ واحدًا من الفريقين إلا بما هو له صفةٌ على حقيقته، وإن كان له من صفاتِ الذمّ زياداتٌ عليه" (1).

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7]، على وجوه (2):

أحدها: (سراط)، قراءة ابن كثير، وقنبل، وابن محيصن، والشنبوذي.

والثاني: (صراط): إشمام الصاد الزاي، قراءة حمزة، والمطوعي، وخلف.

والثالث: (صراطَ مَنْ)، قراءة شاذة لابن مسعود، وعمر، وابنالزبير، وزيد بن علي.

والرابع: (عليهِمْ)، بكسر الهاء وجزم الميم، قرأ بها نافع، ابن كثير، أبو عمرو، ابن عامر، عاصم، حمزة، الكسائي، ورش، خلاد، قنبل، خلف.

والخامس: (عليْهُمْ)، بضم الهاء وجزم الميم، قرأ بها حمزة، ويعقوب، والطوعي، والشنبوذي، والأعمش.

والسادي: (عليْهُمُ)، بضم الهاء والميم من غير إلحاق واو، قرأ بها ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر.

والسابع: (عليْهُمُو)، بكسر الهاء وضم الميم وإلحاق الواو، قراءة ابن كثير، وقالون، والخفاف عن أبي عمرو، وأبو جعفر، وابن أبي إسحاق، الأعرج، وابن محيصن.

والثامن: (عليْهِمُو)، قرأ بها الأعرج، وعبدالله بن عطاء الخفاف عن أبي عمرو، والحسن البصري.

والتاسع: (عليْهِمِي)، قراءة شاذة للحسن البصري.

والعاشر: (غيرِ)، بالجر، قرأ بها نافع، ابن كثير، أبو عمرو، ابن عامر، عاصم، حمزة، الكسائي.

الحادي عشر: (غيرَ)، بالنصب على الحال، قرأ بها أبي بن كعب، وابن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وروى الخليل عن ابن كثير. وهي قراءة شاذة.

الثاني عشر: (وغيْرِ)، قرأ بها أبي بن كعب، وعلي بن أبي طالب، وهي قراءة شاذة.

(1) تفسير الطبري: 1/ 195.

(2)

انظر: السبعة في القراءات: 108، والحجة للقراء السبعة: 1/ 58 وما بعدها، والدر المنثور: 1/ 41، والبحر المحيط: 1/ 14، وتفسير الثعلبي: 1/ 122 - 123.

ص: 267

ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها (آمين)، ويقال (أمين) بالقصر أيضاً، ومعناه اللهم استجب (1).

والدليل على استحباب التأمين:

أولا: عن وائل بن حجر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ} فقال: " آمين " ومد بها صوته (2). وقال الترمذي هذا حديث حسن، وروي عن علي وابن مسعود وغيرهم (3).

ثانيا: عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ} قال " آمين " حتى يسمع من يليه من الصف الأول"(4).

ثالثا: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه"(5).

رابعا: ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال أحدكم في الصلاة آمين، والملائكة في السماء آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه"(6).

قال ابن كثير: " قيل بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان، وقيل في الإجابة، وقيل في صفة الإخلاص"(7).

خامسا: وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعاً: "إذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين، فقولوا آمين، يجبكم الله"(8).

قال ابن كثير: " قال أصحابنا وغيرهم ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة، ويتأكد في حق المصلي، وسواء كان منفرداً أو إماماً أو مأموماً، وفي جميع الأحوال"(9).

(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 128، وتفسير ابن كثير:232.

(2)

المسند: (18895، 18896): 4/ 315 - 316. سنن الترمذي: الرقم (248). (حديث حسن)، ولأبي داود رفع بها صوته (سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب التأمين وراء الإمام: 248، 249"2/ 27") زقال أبو عيسى: حديث وائل بن حجر حديث حسن ورواه النسائي (2/ 145)، وله في الكبرى (914)، وابن ماجة في سننه (855): 1/ 278 و (3802): 2/ 1249، ورواه الدارمي:(1250)، والدارقطني (1/ 334 - 335)، وقال أبو عيسى: سمعت محمدا يقول: وحديث سفيان أصح من حديث شعبة في هذا، وأخطأ شعبة في مواضع من هذا الحديث، فقال عن حجر أبي العنبس، وإنما هو خحر بن عنبس ويكنى أبا السكن، وزاد فيه عن علقمة بن وائل، وليس فيه عن علقمة، وإنما هو: عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر، وقال: وخفض بها صوته، وإنما هي ومد بها صوته.، وقال الترمذي هذا حديث حسن، وروي عن علي وابن مسعود وغيرهم.

(3)

حديث علي رواه ابن ماجة (854)، وابن أبي حاتم في العلل (1/ 251)، وقال البوصيري: هذا إسناد ضعيف، وفيه مقال، وابن أبي ليلى وهو محمد بن عبدالرحمن ضعفه الجمهور، وله شاهد من حديث وائل بن حجر. وقال ابو حاتم: هذا عندي خطأ إنما هو سلمة، عن حجر أبي العنبس، عن وائل بن حجر، عن النبي-صلى الله عليه وسلم، ثم قال أبو حاتم: كان ابن أبي ليلى سيء الحفظ.

(4)

رواه أبو داود (934)، وابن ماجة (853)، وابن عبد البر في التمهيد: 7/ 13)، وأبو يعلى: 11/ 6220، وقال البوصيري (1/ 296): هذا إسناد ضعيف، أبو عبدالله لا يعرف حاله، وبشر ضعفه أحمد، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات.

(5)

رواه البخاري: (780)(781)(782)(4475)(6402)، ومسلم:(410).

(6)

رواه مسلم: برقم (74): 410.

(7)

تفسير ابن كثير: 1/ 145.

(8)

رواه مسلم: (62) -404، وأبو داود:(972)، وأحمد:(19649) - 4/ 401).

(9)

تفسير ابن كثير: 1/ 145.

ص: 268

واختلف في تشديد (الميم) في (آمين)، على قولين:

أحدهما: روي عن الحسن وجعفر الصادق: أنهما شددا (الميم) من (آمين)، من (أمّ)، إذا قصد، أي نحن قاصدون نحوك (1)، ومنه قوله تعالى:{آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} . حكاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري (2).

ونسبه الإمام النووي للواحدي، واستغرب التشديد، وقال:"عدّها كثير من أهل اللغة من لحن العوام، وقال جماعة من أصحابنا: من قالها في الصلاة، بطلت صلاته"(3).

والثاني: أن تشديد (الميم) خطأ. قاله الجوهري (4).

واختلف في معنى (آمين)، على أقوال (5):

أحدها: أن معناه: "رب افعل". رواه ابن عباس عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم (6).

والثاني: أن المعنى: كذلك فليكن. قاله الجوهري (7)، وحكاه الثعلبي عن ابن عباس وقتادة (8).

والثالث: أن معناه: لا تخيب رجاءنا. قاله الترمذي (9).

والرابع: أن معناه: اللهم استجب لنا. قاله الحسن (10)، وأحمد بن يحيى ثعلب (11)، وهو قول الأكثرين (12).

والخامس: أن (آمين)، اسم من أسماء الله تعالى. قاله مجاهد (13)، وهلال بن يساف (14)، وجعفر الصادق (15).

قال: ابن العربي" ولم يصح"(16).

والسادس: أن" (آمين)، خاتم رب العالمين، يختم بها دعاء عبده المؤمن". قاله علي بن أبي طالب (17).

والسابع: أن (آمين)، اسم خاتم يطبع به كتب أهل الجنة التي تؤخذ بالإيمان (18).

(1) ذكره النووي في التبيان: 126، وانظر: تفسير القرطبي: 1/ 129، وتفسير ابن كثير: 1/ 145.

(2)

هو ابن أبي قاسم القشيري، النيسابوري، مات (514 هـ)، انظر: سير أعلام النبلاء: 19/ 426.

(3)

التبيان: 126.

(4)

انظر: الصحاح (أمن)، وتفسير القرطبي: 1/ 128.

(5)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 125، وتفسير ابن كثير: 232، والدرّ المنثور: 1/ 17، وفتح القدير: 1/ 26.

(6)

تفسير أبي الليث: 1/ 84، حديث ضعيف جدا من أجل الكلبي وأبي صالح، وذكره السيوطي في الدر المنثور: 1/ 45، ونسبه للثعلبي. فيدخل في باب تفسير القرآن في الرأي.

(7)

انظر: الصحاح (أمن)، وتفسير القرطبي: 1/ 128، وتفسير ابن كثير: 1/ 145.

(8)

انظر: تفسير الثعلبي: 1/ 125، ولفظه (كذلك ليكن).

(9)

انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 145، وتفسير القرطبي: 1/ 128.

(10)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 79، والأضداد للأنباري:382.

(11)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 79.

(12)

انظر: تفسير القرطبي: 1/ 128، وتفسير ابن كثير:145.

(13)

حكاه عنه الثعلبي في تفسيره: 1/ 125، والقرطبي: في تفسيره: 1/ 128، وانظر: فيض القدير: 1/ 80، ح 20.

(14)

حكاه عنه الثعلبي في تفسيره: 1/ 125، والقرطبي: في تفسيره: 1/ 128.

(15)

حكاه عنه القرطبي في تفسيره: 1/ 128.

(16)

أحكام القرآن: 1/ 6، وانظر: مصنف ابن ابي شيبة: 2/ 426، والمحرر الوجيز: 1/ 79، وتفسير ابن كثير:232.

(17)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 79.

(18)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 79.

ص: 269

قال ابن عطية: " ومعنى (آمين) عند أكثر أهل العلم: اللهم استجب، أو أجب يا رب، ونحو هذا"(1).

وفي (آمين)، لغتان (2):

إحداهما: (أمين) بقصر الألف، ومنه قول الشاعر (3):

تباعد منّي فطحل إذ سألته

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

والثانية: (آمين)، بمد (الألف)، قال الشاعر (4):

يا ربّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَها أبدًا

ويَرْحَمُ اللهُ مَنْ قال: آمينَا

قال الثعلبي: "وهو مبني على الفتح مثل (أين) (5) ".

وقد اتفق العلماء على أنه يسن للمنفرد والمأموم أن يقول: (آمين)، فالمنفرد يؤمِّن بعد قراءته للفاتحة، والمأموم يؤمن بعد قراءة الإمام (6).

واختلف أهل العلم في جهر الإمام: بـ (آمين)، على وجوه:

أحدها: أن الإمام يجهر في ذلك. وهذا مذهب الشافعي (7)، وأحمد (8)، ومالك في رواية المدنيين (9)، واختاره القرطبي (10).

قال الربيع: "سألت الشَّافِعِي عن الإمام إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} الآية، هل يرفع صوته بآمين؛ قال: نعم، ويرفع بها من خلفه أصواتهم"(11).

والثاني: أن الإمام لا يجهر بها. وهذا مذهب الحنفية وبعض المدنيين من أصحاب مالك، وهو قول الطبري (12)، وبه قال ابن حبيب (13)، وابن أبي قاسم (14)، والمصريين من أصحاب مالك (15).

ودليلهم ما رواه مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " وإذا قال - يعني الإمام - {ولا الضالين}، فقولوا آمين"(16).

(1) المحرر الوجيز: 1/ 79.

(2)

وفي تفسير الثعلبي: 1/ 125، (فطحل):(فعطل).

(3)

انظر: اللسان والصحاح، وتاج العروس، وإصلاح الكنطق، في مادتي:(فحطل وفطحل)، تفسير الثعلبي: 1/ 125، وفي الصحاح: إذ دعوته، وبخطه في الهامش: إذ رأيته.

(4)

البيت للمجنون في ديوانه ص 219؛ ولعمر بن أبي ربيعة في لسان العرب 13/ 27 "أمن"، وليس في ديوانه؛ وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص 179؛ وإنباه الرواة 3/ 282؛ وشرح المفصل 4/ 34.

(5)

تفسير الثعلبي: 1/ 125.

(6)

انظر: الموسوعة الفقهية: 11/ 1 - 12.

(7)

تفسير الشافعي: 1/ 196.

(8)

انظر: التمهيد: 15/ 7.

(9)

انظر: الإستذكار: 4/ 253.

(10)

انظر: تفسير الشافعي: 1/ 129.

(11)

تفسير الشافعي: 1/ 196.

(12)

انظر: الإستذكار: 4/ 254، والتمهيد: 7/ 13، وتفسير القرطبي: 1/ 128، ولم أقف على قوله تفسيره.

(13)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 79، وتفسير القرطبي: 1/ 129.

(14)

انظر: الإستذكار: 4/ 253.

(15)

انظر: الإستذكار: 4/ 253.

(16)

صحيح البخاري (749): ص 1/ 271، ومسلم (415): ص 1/ 310.

ص: 270

واستأنسوا أيضاً بحديث أبي موسى عند مسلم " وإذا قرأ {وَلا الضَّآلِّينَ}، فقالوا: آمين"(1).

والثالث: أنه مخير. قاله ابن بكير (2).

قال ابن عطية: " وقد روي عن مالك رضي الله عنه: أن الإمام يقولها أسرّ أم جهر"(3).

والصحيح هو القول الأول، وعليه تدل الأحاديث الصحيحة، والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم (4)، كما ويجب التنبه إلى أن هذه السنة من سنن الصلاة لا يجوز أن تكون سببا للشقاق والنزاع بين المسلمين والله أعلم.

الفوائد:

(1) الموطأ: 1/ 87، رواه البخاري:(798)، ومسلم:(409) من طريق مالك، به.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 79.

(3)

المحرر الوجيز: 1/ 79.

(4)

روى أبو داود (799) عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: " تَرَكَ النَّاسُ التَّأْمِينَ! ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. رفع صوته فقال: آمِينَ " قال الدارقطني: إسناده حسن، وقال البيهقي: حسن صحيح، وصححه الألباني فقال:" معناه صحيح، فإن له شاهدا من حديث وائل بن حجر بسند صحيح". انتهى من " سلسلة الأحاديث الضعيفة "(2/ 368). زاد ابن ماجة (843) في روايته للحديث: (حَتَّى يَسْمَعَهَا أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَيَرْتَجُّ بِهَا الْمَسْجِدُ". وهذه الزيادة ضعيفة لا تصح، انظر: "تلخيص الحبير" (1/ 238)، "الأحاديث الضعيفة "(951)، (952). وروى الترمذي من حديث سفيان الثوري بسنده عن وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ:" سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَقَالَ: (آمِينَ) وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ".قال النووي في المجموع (3/ 328): إسناده حسن، وصححه الألباني.

وقال البيهقي (2/ 59) وروينا عن ابن عمر رضى الله عنه " أنه كان يرفع بها صوته، إماما كان أو مأموما ". وهذا الأثر رواه البخاري عن ابن عمر معلقا، بصيغة الجزم، ولفظه: وَقَالَ نَافِعٌ: " كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَدَعُهُ، وَيَحُضُّهُمْ، وَسَمِعْتُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ خَيْرًا ".قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (2/ 307). (وَيَحُضُّهُمْ)، أي: على قولها (آمين). (خَيْرًا)، أَي: فَضْلًا وَثَوَابًا. ووجه الاستدلال بأَثَرِ اِبْنِ عُمَرَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ يُؤَمِّنُ إِذَا خَتَمَ الْفَاتِحَةَ ، وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا" انتهى.

وروى البيهقي (2/ 59)، وابن جبان في "الثقات" عن عَطَاء قَالَ:" أَدْرَكْتُ مِائَتَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا الضَّالِّينَ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِآمِينَ ".

وقال الإمام البخاري رحمه الله: بَاب جَهْرِ الْمَأْمُومِ بِالتَّأْمِينِ، وروى فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إِذَا قَالَ الإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ {فَقُولُوا: آمِينَ". قال الحافظ ابن حجر: "قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرَ بِقَوْلِ آمِينَ، وَالْقَوْلُ إِذَا وَقَعَ بِهِ الْخِطَابُ مُطْلَقًا، حُمِلَ عَلَى الْجَهْرِ، وَمَتَى أُرِيدَ بِهِ الْإِسْرَارُ أَوْ حَدِيثُ النَّفْسِ: قُيِّدَ بِذَلِكَ. وَقَالَ اِبْنُ رُشيد: تُؤْخَذُ الْمُنَاسَبَةُ مِنْهُ مِنْ جِهَاتٍ: مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ " إِذَا قَالَ الْإِمَامُ، فَقُولُوا " فَقَابَلَ الْقَوْلَ بِالْقَوْلِ، وَالْإِمَامُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ جَهْرًا، فَكَانَ الظَّاهِرُ الِاتِّفَاقَ فِي الصِّفَةِ

".انتهى من " فتح الباري " (2/ 311).

وقال النووي في " الأذكار"(ص 51): " ويجهر به (التأمين) الإمام والمنفرد في الصلاة الجهرية، والصحيح أن المأموم أيضا يجهر به، سواء كان الجمع قليلا أو كثيرا " انتهى.

وقال ابن القيم رحمه الله: "السنةُ المحكمةُ الصحيحةُ: الجهرُ بآمين في الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "إذا أمن الأمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه"؛ ولولا جهره بالتأمين لما أمكن المأموم أن يؤمن معه ويوافقه في التأمين، وأصرح من هذا حديث وائل بن حجر وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما

وذكر الحديثين المتقدمين، ثم قال: وسئل الشافعي عن الإمام هل يرفع صوته بآمين؟ قال: نعم، ويرفع بها من خلفه أصواتهم. فقيل له: وما الحجة؟ فقال: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام)؛ فيه دلالة على أنه أمر الإمام أن يجهر بآمين، لأن من خلفه لا يعرفون وقت تأمينه إلا بأن يسمع تأمينه". انتهى من " إعلام الموقعين " (2/ 396 - 398).

ص: 271

1 -

من الفوائد: إسناد النعمة إلى الله تعالى وحده في هداية الذين أنعم عليهم؛ لأنها فضل محض من الله.

2 -

ومنها: ذكر التفصيل بعد الإجمال؛ لقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} : وهذا مجمل؛ {صراط الذين أنعمت عليهم} : وهذا مفصل؛ لأن الإجمال، ثم التفصيل فيه فائدة: فإن النفس إذا جاء المجمل تترقب، وتتشوف للتفصيل، والبيان؛ فإذا جاء التفصيل ورد على نفس مستعدة لقبوله متشوفة إليه؛ ثم فيه فائدة ثانية هنا: وهو بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم.

3 -

ومنها: انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم؛ وقسم مغضوب عليهم؛ وقسم ضالون؛ وقد سبق بيان هذه الأقسام ..

وأسباب الخروج عن الصراط المستقيم: إما الجهل؛ أو العناد؛ والذين سببُ خروجهم العناد هم المغضوب عليهم. وعلى رأسهم اليهود؛ والآخرون الذين سبب خروجهم الجهل كل من لا يعلم الحق. وعلى رأسهم النصارى؛ وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة. أعني النصارى؛ أما بعد البعثة فقد علموا الحق، وخالفوه؛ فصاروا هم، واليهود سواءً. كلهم مغضوب عليهم.

4 -

ومن فوائد الآيتين: بلاغة القرآن، حيث جاء التعبير عن المغضوب عليهم باسم المفعول الدال على أن الغضب عليهم حاصل من الله تعالى، ومن أوليائه.

5 -

ومنها: أنه يقدم الأشد، فالأشد؛ لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأنهم أشد مخالفة للحق من الضالين؛ فإن المخالف عن علم يصعب رجوعه. بخلاف المخالف عن جهل.

وهذا الذي سردناه في تفسير السورة، قطرة من بحر؛ ومن أراد التوسع في ذلك فأنصحه بكتاب "مدارج السالكين" لابن القيم رحمه الله. والله الموفق.

ص: 272

انتهى الجزء الأول من التفسير، ويليه الجزء الثاني بإذن الله،

وبدايته تفسير الآية (1) من سورة البقرة.

ص: 273