المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌575 - (15) باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام - الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ١٧

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌ كتاب: البيوع

- ‌561 - (1) باب النهي عن الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة والغرر وبيع حبل الحبلة

- ‌562 - (2) باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه وتحريم تلقي الركبان والنجش والتصرية

- ‌563 - (3) باب النهي عن تلقي الجلب وبيع حاضر لباد وبيان أن التصرية عيب يوجب الخيار

- ‌564 - (4) باب بطلان بيع المبيع قبل القبض وتحريم بيع الصبرة المجهولة القدر بتمر معلوم

- ‌565 - (5) باب الخيار للمتبايعين والصدق في البيع وترك الخديعة والنهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها

- ‌566 - (6) باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا ومن باع نخلًا عليها ثمر أو عبدًا له مال

- ‌567 - (7) باب النهي عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها وعن المعاومة

- ‌568 - (8) باب ما جاء في كراء الأرض

- ‌569 - (9) باب كراء الأرض بالطعام المسمى أو بالذهب والفضة والنهي عن المزارعة والأمر بالمنيحة بها

- ‌570 - (10) باب المساقاة على جزء من الثمر والزرع وفضل الغرس والزرع

- ‌571 - (11) باب وضع الجوائح وقسم مال المفلس والحث على وضع بعض الدين

- ‌572 - (12) باب من أدرك ماله عند مفلس وفضل إنظار المعسر والتجاوز عنه والحوالة

- ‌573 - (13) باب النهي عن بيع فضل الماء وعن ضراب الفحل والنهي عن ثمن الكلب ونحوه

- ‌574 - (14) باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه وتحريم اقتنائها إلَّا لحاجة وإباحة أجرة الحجامة

- ‌575 - (15) باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام

- ‌576 - (16) أبواب الربا والصرف وتحريم التفاضل والنساء في بيع النقود

- ‌فصل في بيان اختلاف الفقهاء في علة ربا الفضل

- ‌577 - (17) باب النهي عن بيع الورق بالذهب دينًا وبيع القلادة فيها خرز وذهب بذهب

- ‌578 - (18) باب بيع الطعام بالطعام مثلًا بمثل وحجة من قال: لا ربا إلا في النسيئة

- ‌579 - (19) باب لعن من أقدم على الربا واتقاء الشبهات وبيع البعير واستثناء حملانه

- ‌579 - (19) باب الاستقراض وحسن القضاء فيه وجواز بيع الحيوان بالحيوان من جنسه وجواز الرهن والسلم

- ‌580 - (20) باب النهي عن الحكرة والحلف في البيع والشفعة وغرز الخشب في جدار الجار

الفصل: ‌575 - (15) باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام

‌575 - (15) باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام

3910 -

(1515)(78) حدَّثنا عُبَيدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى أَبُو هَمَّامٍ. حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِالمَدِينَةِ قَال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِن الله تَعَالى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ. وَلَعَلَّ الله سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا

ــ

575 -

(15) باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام

3910 -

(1515)(78)(حَدَّثَنَا عبيد الله بن عمر) بن ميسرة الجشمي مولاهم (القواريري) أبو شعيب البَصْرِيّ، ثِقَة، من (10)(حَدَّثَنَا عبد الأعلى بن عبد الأعلى) السامي أبو محمَّد البَصْرِيّ، ثِقَة، من (8) وكان إذا قيل له (أبو همام) يغضب (حَدَّثَنَا سعيد) بن إياس (الجريري) أبو مسعود البَصْرِيّ، ثِقَة، من (5)(عن أبي نضرة) المنذر بن مالك بن قطعة بكسر فسكون أو بضم ففتح العبدي البَصْرِيّ، ثِقَة، من (3)(عن أبي سعيد الخُدرِيّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما. وهذا السند من خماسياته، ومن لطائفه أن رجاله كلهم بصريون إلَّا أَبا سعيد الخُدرِيّ (قال) أبو سعيد:(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حاله كونه (يخطب بالمدينة) وقوله: (قال): بدل من يخطب أي يقول في خطبته (يَا أيها النَّاس أن الله) سبحانه و (تعالى يعرض بالخمر) أي يذكر تحريمها بالتعريض وهو ضد التصريح يعني يشير إلى قبحها وكراهيتها من غير تصريح بالحرمة مما يدل على أنها سوف تجعل حرامًا (ولعل الله) تعالى (سيُنزل فيها) قريبًا (أمرًا) محتمًا لازمًا وهو التحريم، قال القرطبي: هذا التعريض وهذا التوقع إنما فهمه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة / 219] فإنَّه يشير من غير تصريح بالحرمة إلى استحباب تركها فإن العقل يقتضي ترك ما كان ضرره أكثر من نفعه، ومن قبيل هذا التعريض قوله تعالى:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} فإنَّه تعالى عطف فيه الرزق الحسن على السكر فإنَّه يعرض بأن الخمر ليس من الرزق الحسن، ومنه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء / 43] فإنَّه لما منع من الصلاة في حال السكر ظهر له أن هذا المنع مناسب

ص: 264

فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ". قَال: فَمَا لَبِثْنَا إلا يَسِيرًا حَتَّى قَال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله تَعَالى حَرَّمَ الْخَمْرَ. فَمَق أَدْرَكَتْهُ هذِهِ الآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيءٌ فَلَا يَشْرَبْ وَلَا يَبعْ". قَال: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا، في طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، فَسَفَكُوهَا

ــ

للمنع منها فتوقع ذلك اهـ (فمن كان عنده منها) أي من الخمر (شيء فليبعه ولينتفع به) أي بثمنه، وفي هذا بذل النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم لأنه صلى الله عليه وسلم نصحهم في تعجيل الانتفاع بالخمر ما دامت حلالًا، وفيه دليل على أن شرب الخمر وبيعها كانا مباحين إباحة متلقاة من الشرع لأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قرر أصحابه عليها وليس ذلك من باب البقاء على البراءة الأصلية لأن إقراره دليل الجواز والإباحة كما قررناه في الأصول، وفيه دليل على اغتنام فرصة المصالح المالية إذا عرضت وعلى صيانة المال وعلى بذل النصيحة والإشارة بأرجح ما يعمله من الوجوه المصلحية.

(قال) أبو سعيد الخُدرِيّ (فما لبثنا) أي ما مكثنا بعد خطبته صلى الله عليه وسلم (إلا) زمنًا (يسيرًا حتَّى قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى حرم الخمر) أي شربها وسائر الانتفاع بها بقوله سبحانه في سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} قيل في هذه الآية دلالة على حرمة الخمر بوجوه: الأول: قصرها على الرجس وهو في اللغة القذر يعني ما الخمر إلَّا نجس في الحكم فيكون محرمًا كحرمته. والثاني: الإخبار بأنها من عمل الشيطان والذات ليس بعمل فيقدر تناولها. والثالث: الأمر بالاجتناب عنها والأمر للوجوب وهذا أبلغ في بيان تحريمها. والرابع: رجاء الفلاح بالاجتناب عنها اهـ من المبارق.

(فمن أدركته هذه الآية) المذكورة آنفًا أي من بلغته هذه الآية وهو حي بصفات المكلفين من العقل والبلوغ (وعنده منها شيء) أي والحال أن شيئًا منها عنده قليلا أو كثيرًا (فلا يشربـ) ـه (ولا يبعـ) ـه (قال) أبو سعيد: (فاستقبل النَّاس) أي فانطلق كل واحد منهم (بما كان) ووُجد (عنده منها) أي من الخمر (في طريق المدينة) أي إلى طريقها وزقاقها (فسفكوها) أي أراقوها في زقاقهم، يقال: سفك يسفك من باب ضرب إذا أراق، وقد فهمت الصَّحَابَة رضوان الله تعالى عليهم من نهيه عن الشرب والبيع أنَّه لا ينتفع بها بوجه من الوجوه ولذلك بادروا إلى إراقتها وإتلافها ولو كان فيها منفعة من

ص: 265

3911 -

(1516)(78) حدثنا سُوَيدُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيسَرَةَ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ وَعْلَةَ (رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ)؛ أَنَّهُ جَاءَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ

ــ

المنافع الجائزة لنبه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عليها كما نبه على ما في جلد الميتة من المنفعة حين قال: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" رواه البُخَارِيّ ومسلم وأبو داود والنَّسائيّ، وعلى هذا لا يجوز تخليلها ولا أن تعالج بالملح والسمك وإلى منع ذلك ذهب الجمهور مالك والشافعي وأَحمد وغيرهم وحُكي جواز تخليلها عن أبي حنيفة والأوزاعي والليث وقد دل على فساد هذا ما ذكرناه آنفًا وما يأتي من نهيه عن اتخاذ الخمر خلًا.

قال القاضي عياض: وفي هذا أَيضًا منع الانتفاع بها للتداوي وغير ذلك من العطش عند عدم الماء ولتجويز لقمة غُصّ بها وهو قول مالك والشافعي وغيرهما وأجاز ذلك أبو حنيفة وأَحمد وقاله بعض أصحابنا ورُوي عن الشَّافعيّ جوازه أَيضًا إذا خاف التلف وقاله أبو ثور.

(قلت): وإذا امتنع الانتفاع مطلقًا فلا يصح تملكها لمسلم ولا تقر في يده بل تُتلف عليه ويجب ذلك عليه ويتلفها الوصي على اليتيم.

وهذا الحديث انفرد به الإِمام مسلم رحمه الله تعالى.

ثم استشهد المؤلف رحمه الله لحديث أبي سعيد بحديث ابن عباس رضي الله عنهم فقال:

3911 -

(1516)(78)(حَدَّثَنَا سويد بن سعيد) بن سهل الهروي أبو محمَّد الحدثاني، صدوق، من (10)(حَدَّثَنَا حفص بن ميسرة) العقيلي مصغرًا أبو عمر الصَّنْعانِيّ ثم العسقلاني، ثِقَة، من (8)(عن زيد بن أسلم) العدوي مولاهم مولى عمر بن الخطاب أبي عبد الله المدنِيُّ، ثِقَة، من (3) (عن عبد الرَّحْمَن بن وعلة) السبائي المصري المعروف بابن أسميقع كما قال المؤلف: هو (رجل من أهل مصر) صدوق، من (4) روى عنه في (2) بابين الوضوء والبيوع (أنَّه) أي أن عبد الرَّحْمَن (جاء عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما، بالنصب على المفعولية أي جاء عبد الرَّحْمَن بن وعلة لابن عباس فسأله عن حكم الخمر. وهذا السند من خماسياته رجاله واحد منهم طائفي وواحد

ص: 266

ح وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ (وَاللَّفْظُ لَهُ). أَخبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنسٍ وَغَيرُهُ، عَنْ زَيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحمنِ بْنِ وَغلةَ السَّبَائِيِّ (من أَهْلِ مِصْرَ)؛ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَمَّا يُعْصَرُ مِنَ الْعِنَبِ؟ فَقَال ابْنُ عَبَّاسِ: إِنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَاويةَ خَمْرٍ. فَقَال لَهُ

ــ

مصري وواحد مدني وواحد صنعاني وواحد هروي، وفيه رواية تابعي عن تابعي ورواية الأكابر عن الأصاغر (ح وحدثنا أبو الطاهر) أَحْمد بن عمرو المصري (واللفظ) الآتي (له) أي لأبي الطاهر لا لسويد بن سعيد (أخبرنا) عبد الله (بن وهب) المصري (أخبرني مالك بن أنس) المدنِيُّ (وغيره) أي وغير مالك بن أنس، والجهالة في المقارنة لا تضر في السند (عن زيد بن أسلم) العدوي (عن عبد الرَّحْمَن بن وعلة السبائي) قبيلة منسوبة إلى سبإ أبو قبيلة في اليمن المصري وطنًا كما قال:(من أهل مصر) المعروف بابن أسميقع -بضم أوله وسكون ثانيه وفتح الميم والقاف بينهما تحتانية ساكنة آخره عين مهملة - (أنه سأل عبد الله بن عباس عما يعصر من العنب) وفي رواية فليح عن زيد بن أسلم عند أَحْمد عن عبد الرَّحْمَن بن وعلة قال: سألت ابن عباس فقلت: إنَّا بأرض لنا بها الكروم وإن أكثر غلاتها الخمر فقال: الخ، أي سأله عن حكم عصير العنب هل هو حلال أم حرام؟ وهذا السند من سداسياته رجاله ثلاثة منهم مصريون واثنان مدنيان وواحد طائفي، غرضه بيان متابعة مالك بن أنس لحفص بن ميسرة (فقال ابن عباس) في جواب سؤال عبد الرَّحْمَن: عصير العنب إذا أسكر فهو حرام فـ (إن رجلًا) من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه أبو عامر الثَّقَفيّ كما هو مصرح في رواية الإِمام أبي حنيفة في جامع المسانيد [2/ 61] وفي رواية القعقاع بن حكيم عند الدَّارميّ [2/ 40] ، وأَحمد [1/ 230] كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس فلقيه بمكة عام الفتح براوية خمر يُهديها إليه، وفي رواية عبد الرَّحْمَن بن إسحاق عن زيد بن أسلم عند أَحْمد [1/ 323] إن رجلًا خرج والخمر حلال فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر فأقبل يقتادها على بعير حتَّى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا فقال:"ما هذا معك؟ " قال راوية خمر: أهديتها لك الخ (أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوبة خمر) أي قربة ممتلئة خمرًا، والراوية هي المزادة أي القربة لأنها تروي صاحبها وقيل البعير كذا في مجمع البحار، وحكى النووي القولين ثم رجح الأول لأن الراوي سماها في أول الحديث راوية، وفي آخره مزادة (فقال له): أي للمهدي

ص: 267

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ الله قَدْ حَرَّمَهَا؟ " قَال: لا. فَسَارَّ إِنْسَانًا. فَقَال لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بِمَ سَارَرْتَهُ؟ "فَقَال: أَمَرْتُهُ بِبَيعِهَا. فَقَال: "إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيعَهَا" قَال: فَفَتَحَ الْمَزَادَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا

ــ

(رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل علمت) يَا صاحب الهدية (أن الله قد حرمها) أي قد حرم الخمر، قال النووي: لعل السؤال كان ليعرف حاله فإن كان عالمًا بتحريمها أنكر عليه هديتها وإمساكها وحملها وعزره على ذلك فلما أخبره أنَّه كان جاهلًا بذلك عذره، والظاهر أن هذه القضية كانت على قرب تحريم الخمر قبل اشتهار ذلك وفي هذا أن من ارتكب معصية جاهلًا تحريمها لا إثم عليه ولا تعزير اهـ من التكملة. وفي رواية أن هذا المهدي كان قد خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تحريم الخمر ولذلك سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ووقع في رواية فليح عند أَحْمد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل علمت أن الله حرمها بعدك؟ "(قال) الرَّجل المهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا) أي ما علمت أن الله حرمها، قال القرطبي: وقول المهدي (لا) يدل على قرب عهد التحريم بزمن الإهداء ثم إن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بيّن له الحكم ولم يوبخه ولم يذمه لأن الرَّجل كان متمسكًا بالإباحة المتقدمة ولم يبلغه الناسخ فكان ذلك دليلًا على أن الحكم لا يرتفع بوجود الناسخ بل ببلوغه كما قررناه في الأصول اهـ من المفهم (فسارَّ) الرَّجل المهدي (إنسانًا) كان معه وكان هذا الإنسان غلامًا له كما هو مصرح في رواية القعقاع عند أَحْمد وكان يقول بعيره كما هو مصرح في رواية عبد الرَّحْمَن بن إسحاق عند أَحْمد (فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم ساررته) إليه أي إلى جليسك (فقال) الرَّجل المهدي: (أمرته) أي أمرت جليسي (ببيعها) أي بيع هذه الخمر (فقال) له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن) الإله (الذي حرم شربها حرم بيعها، قال) ابن عباس: (ففتح) الرَّجل المهدي (المزاد) أي فم القربة (حتَّى ذهب) وخرج (ما فيها) وسال على الأرض (وقوله: بم ساررته) قال القرطبي: فيه دليل على أن العالم إذا خاف على أحد الوقوع فيما لا يجوز وجب عليه أن يستكشف عن ذلك الشيء حتَّى يتبين له وجهه ولا يكون هذا من باب التجسس بل من باب النصيحة والإرشاد اهـ من المفهم.

ص: 268

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وقال الأبي: قوله: (بم ساررته) فيه أن على العالم أن يكشف عما يظن أن باطنه خلاف ظاهره إذا خاف أن يجري فيه ما لا يجوز لأنه قام بباله أن مسارته في شأنها وقد سبق من جهله بالحكم ما سبق فاستكشف فإذا الأمر كما ظن وليس هذا من التجسس وكشف الأسرار وكثرة السؤال لأن المذموم من ذلك إنما هو فيما لا يختص بالإنسان ولا يلزمه القيام به.

وأما ما يختص بالإنسان أو يلزمه القيام به والنظر فيه فعليه البحث والكشف لئلا يجري من ذلك ما يضره أو يضاف إليه ما لا يرضاه اهـ منه، وقوله:(إن الذي حرم شربها حرم بيعها) الذي هنا كناية عن اسم الله تعالى فكأنه قال إن الله حرم شربها وحرم بيعها، ويحتمل أن يكون معناه إن الذي اقتضى تحريم شربها اقتضى تحريم بيعها إذ لا تراد إلا للشرب فإذا حرم الشرب لم يجز البيع لأنه يكون من أكل المال الباطل، وقد دل على صحة هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله إذا حرم على قوم شيئًا حرم عليهم ثمنه" يعني شيئًا يؤكل أو يُشرب لأن ذلك هو السبب الذي خُرّج عليه الحديث ويلحق به كل محرم نجس لا منفعة فيه واختلف في جواز بيع ما فيه منفعة منها كالأزبال والعذرة فحرّم ذلك الشَّافعيّ ومالك وجل أصحابنا وأجاز ذلك الكوفيون والطبري وذهب آخرون إلى إجازة ذلك للمشتري دون البائع ورأوا أن المشتري أعذر من البائع لأنه مضطر إلى ذلك، رُوي ذلك عن بعض أصحابنا وهي قولة عن الشَّافعيّ اهـ من المفهم. وقوله:(ففتح المزادة) أي القربة التي فيها الخمر سماها مرة براوية ومرة بمزادة وهما بمعنى قال الفيومي: وربما قيل مزاد بلا هاء اهـ، قال القرطبي: قوله: (ففتح المزادة حتَّى ذهب ما فيها) فيه دليل على أن أواني الخمر إذا لم تكن مضراة بالخمر (الضاري من الآنية الذي ضري بالخمر أي اشتد فإذا جعل فيه النبيذ صار مسكرًا) أنَّه يجوز استعمالها في غير الخمر إذا غسلت ألا ترى أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه إبقاءها عنده ولا أمره بشقها ولو كانت نجسة لا يطهرها الغسل لأمره بشقها وتقطيعها كما فعل أبو طلحة لما قال لأنس: قم إلى هذه الجرار فكسِّرها، قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتَّى تكسَّرت اهـ من المفهم. وذكر النووي عن القاضي أن المسارر الذي خاطبه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هو الرَّجل الذي أهدى الراوية كذا جاء مبينًا في غير هذه الرواية وأنه رجل من دوس وغلط من ظن أنَّه رجل آخر اهـ وفي رواية قتيبة عن

ص: 269

3912 -

(00)(00) حَدَّثني أَبُو الطَّاهِرِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي سُلَيمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ وَعْلَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. مِثْلَهُ.

3913 -

(1516)(80) حدَّثنا زُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ وَإسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (قَال زُهَيرٌ: حَدَّثَنَا. وَقَال إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ) عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ

ــ

مالك عند النَّسائيّ (ففتح المزادتين) ويمكن الجمع بينهما بأن اللام في حديث الباب للجنس، وفي رواية القعقاع عند الدَّارميّ وأَحمد فأمر بها فأُفرغت في البطحاء، وفي رواية عبد الرَّحْمَن بن إسحاق عند أَحْمد فأمر بعزال المزادة ففُتحت فخرجت في التُّراب فنظرت إليها في البطحاء ما فيها شيء.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث أَحْمد [1/ 323] ، والنَّسائيّ [7/ 307].

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة فيه فقال:

3912 -

(00)(00)(حدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب أخبرنا سليمان بن بلال) التَّيميّ المدنِيُّ (عن يحيى بن سعيد) الأَنْصَارِيّ (عن عبد الرَّحْمَن بن وعلة عن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق يحيى بن سعيد (مثله) أي مثل ما روى زيد بن أسلم عن عبد الرَّحْمَن بن وعلة، غرضه بيان متابعة يحيى بن سعيد لزيد بن أسلم.

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثانيًا لحديث أبي سعيد الخُدرِيّ بحديث عائشة رضي الله تعالى عنهما فقال:

3913 -

(1516)(80)(حَدَّثَنَا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم قال زهير: حَدَّثَنَا وقال إسحاق: أخبرنا جرير) بن عبد الحميد بن قرط الضَّبِّيّ الكُوفيّ، ثِقَة، من (8)(عن منصور) بن المعتمر بن عبد الله السلمي أبي عتاب الكُوفيّ، ثِقَة، من (5) روى عنه في (19) بابا (عن أبي الضحى) مسلم بن صبيح مصغرًا الهمداني الكُوفيّ، ثِقَة، من (4)(عن مسروق) بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي أبي عائشة الكُوفيّ، ثِقَة، من (2)(عن عائشة) رضي الله تعالى عنها. وهذا السند من سداسياته رجاله أربعة منهم كوفيون

ص: 270

قَالت: لَمَّا نَزَلَتِ الآيَاتُ من آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاقْتَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ. ثُمَّ نَهَى عَنِ التِّجَارَةِ في الْخَمْرِ.

3914 -

(00)(00) حَدَّثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أبي شَيبَةَ وَأَبُو كُرَيبٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (وَاللَّفْظُ لأبِي كُرَيبٍ)(قَال إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَال الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاويةَ) عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالتْ:

ــ

وواحد مدني وواحد إما نسائي أو مروزي (قالت) عائشة: (لما نزلت) في تحريم الربا كما سيصرح به في الرواية الآتية (الآيات) الكائنة (من آخر سورة البقرة) تعني قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الآيات (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجرته إلى المسجد كما هو مصرح به في الرواية الآتية (فاقترأهن) أي قرأ تلك الآيات (على النَّاس) فافتعل هنا لمبالغة معنى الثلاثي كما مر في كتاب الإيمان (ثم) بعد نزول تلك الآيات (نهى) رسول الله صلى الله عليه وسأنهي تحريم (عن التجارة في الخمر) لأنها نجسة العين فلا يصح بيعها لعدم ماليتها لكن تحريم الخمر كما في النووي نقلًا عن القاضي هو في سورة المائدة بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ} الآية إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وهي نزلت قبل آية الربا بمدة طويلة فإن آية الربا آخر ما نزل أو من آخر ما نزل فيحتمل أن يكون هذا النهي عن التجارة فيها متأخرًا عن تحريمها، ويحتمل أنَّه أخبر بتحريم التجارة حين حُرمت الخمر ثم أخبر به مرة أخرى بعد نزول آية الربا توكيدًا ومبالغة في إشاعته ولعله حضر المجلس من لم يكن بلغه تحريم التجارة فيها قبل ذلك والله أعلم اهـ نووي.

وهذا الحديث انفرد به الإِمام مسلم رحمه الله تعالى عن سائر أصحاب الأمهات.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة فيه فقال:

3914 -

(00)(00)(حَدَّثَنَا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُريب وإسحاق بن إبراهيم واللفظ لأبي كُريب قال إسحاق: أخبرنا وقال الآخران: حَدَّثَنَا أبو معاوية عن الأَعمش عن مسلم) بن صبيح أبي الضحى (عن مسروق عن عائشة) رضي الله تعالى عنها. وهذا السند من سداسياته، ومن لطائفه أن رجاله كلهم كوفيون إلَّا إسحاق بن إبراهيم وعائشة رضي الله تعالى عنها، غرضه بيان متابعة الأَعمش لمنصور بن المعتمر (قالت) عائشة

ص: 271

لَمَّا أُنْزِلَتِ الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، في الرِّبَا، قَالت: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ، فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ في الْخَمْرِ.

3915 -

(1517)(71) حدَّثنا قُتَيبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدَّثنَا لَيثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ،

ــ

(لما أنزلت) بالبناء للمجهول (الآيات) التي (من آخر سورة البقرة في الربا قالت): توكيد لفظي لقال الأول (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجرته (إلى المسجد فحرم التجارة في الخمر) ونهى عنها.

(تتمة): وقد فهم الجمهور من تحريم الخمر وبيعها والمنع من الانتفاع بها واستخباث الشرع لها وإطلاق الرجس عليها والأمر باجتنابها الحكم بنجاستها، وخالفهم في ذلك ربيعة -وحده من السلف- فرأى أنها طاهرة وأن المحرّم إنما هو شربها وهو قول يرده ما تقدم وما كان يليق بأصول ربيعة فإنَّه قد علم أن الشرع قد بالغ في ذم الخمر حتَّى لعنها وعشرة بسببها رواه التِّرْمِذِيّ، وأمرنا باجتنابها وبالغ في الوعيد عليها فمن المناسب بتصرفات الشرع الحكم بتنجيسها مبالغة في المباعدة عنها وحماية لقربانها فإن قيل: التنجيس حكم شرعي ولا نص فيه فلا يلزم من كون الشيء محرمًا أن يكون نجسًا فكم من محرم في الشرع ليس بنجس؟ فالجواب أنها وإن لم يكن فيها نص بالوضع المتحد لكن فيها ما يدل دلالة النصوصية بمجموع قرائن الآية ومساقها ويعرف ذلك من تصفح الآية وتفهمها ثم ينضاف إلى الآية جملة ما ذكرناه فيحصل اليقين بالحكم بتنجيسها وقوله: لا يلزم من الحكم بالتحريم الحكم بالتنجيس، قلنا: لم نستدل بمجرد التحريم بل بتحريم مستخبث شرعي يحرم شربه فيكون نجسًا كالبول والدم وهذا هو الأولى بربيعة فإنَّه الملقب بـ (ربيعة الرأي) والله تعالى أعلم اهـ من المفهم.

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثالثًا لحديث أبي سعيد الخُدرِيّ في تحريم بيع الخمر واستدل على تحريم بيع الميتة والخنزير والأصنام بحديث جابر رضي الله عنه فقال:

3915 -

(1517)(71)(حَدَّثَنَا قتيبة بن سعيد حَدَّثَنَا ليث) بن سعد الفهمي المصري (عن يزيد بن أبي حبيب) اسمه سويد مولى شريك بن الطفيل الأَزدِيّ المصري

ص: 272

عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَن جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكةَ: "إِن اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيعَ الْخَمْرِ وَالمَيتَةِ

ــ

عالمها، ثقة، من (5)(عن عطاء بن أبي رباح) اسمه أسلم القرشي مولاهم المكي، ثقة، من (3) (عن جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما. وهذا السند من خماسياته (أنه) أي أن جابرًا (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح: وهو) صلى الله عليه وسلم (بمكة) المكرمة زادها الله تعالى شرفًا، قال العيني: وهذه الجملة حالية فيها بيان تاريخ ذلك وكان ذلك في رمضان سنة ثمان من الهجرة، ويحتمل أن يكون التحريم وقع قبل ذلك ثم أعاده صلى الله عليه وسلم ليسمعه من لم يكن سمعه اهـ (أن الله ورسوله حرم) قال القرطبي: كذا صحت الرواية مسندًا إلى ضمير الواحد وكان أصله حرما بضمير التثنية لأنه تقدمه اثنان لكن تأدب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى بضمير الاثنين لأن هذا من نوع ما رده على الخطيب الذي قال: ومن يعصهما فقد غوى فقال له: "بئس الخطيب أنت، قل ومن يعص الله ورسوله" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، وقد قدمنا الكلام عليه في كتاب الصلاة (بيع الخمر) وهذا الحديث يدل على أن تحريم الخمر كان متقدمًا على فتح مكة كما مر آنفًا، والخمر كل شراب يسكر من أي شيء كان من عنب أو غيره فيحرم بيع قليله وكثيره وقد قدّمنا أن تحريم نَفْعه معلل بنجاسته وأنه ليس فيها منفعة مسوغة شرعًا.

(و) بيع (الميتة) بفتح الميم وهي كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية سواء كانت مذكاة أو ماتت حتف أنفها فيحرم بيع جميع أجزائها حتى عظمها وقرنها ولا يستثنى عندنا منها شيء إلا ما لا تحله الحياة كالشعر والصوف والوبر فإنه طاهر من الميتة وينتزع من الحيوان في حال حياته وهو قول مالك وأبي حنيفة، وزاد أبو حنيفة وابن وهب من أصحابنا على ذلك أن العظم من الفيل وغيره والسن والقرن والظلف كلها لا تحلها الحياة فلا تنجس بالموت، والجمهور على خلافهما في العظم وما ذكر معه فإنها تحله الحياة وهو الصحيح فإن العظم والسن يألم وتحس به الحرارة والبرودة بخلاف الشعر وهذا معلوم بالضرورة فأما أطراف القرون والأظلاف وأنياب الفيل فاختلف فيها فهل حكمها حكم أصولها فتنجس أو حكمها حكم الشعر على قولين، وأما الريش فالشعري

ص: 273

وَالخِنزِيرِ

ــ

منه شعر وأسفله عظم ومتوسطه هل يلحق بأطرافه أو بأصله فيه قولان لأصحابنا، وقد قال بنجاسة الشعر الحسن البصري والليث بن سعد والأوزاعي لكنها تطهر بالغسل عندهم فكأنها عندهم نجسة بما يتعلق بها من رطوبات الميتة وإلى نحو من هذا ذهب ابن القاسم في أنياب الفيل فقال: تطْهُر إن سُلقت بالماء، وعن الشافعي في الشعر ثلاث روايات إحداها أن الشعر ينجس بالموت، والثانية: أنها طاهرة كقولنا، والثالثة: أن شعر ابن آدم وحده طاهر وأن ما عداه نجس اهـ من المفهم.

وأما جلود الميتة فلا تُباع قبل الدباغ ولا ينتفع بها لأنها كلحم الميتة ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وأما بعد الدباغ فمشهور مذهب مالك أنها لا تطهر بالدباغ وإنما يُنتفع بها وهو مذهب جماعة من أهل العلم وعلى هذا فلا يجوز بيعها ولا الصلاة عليها ولا بها ولا ينتفع بها إلا في اليابسات دون المائعات إلا في الماء وحده، وذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنها تطهُر طهارة مطلقة وأنه يجوز بيعها والصلاة عليها وبها وإليه ذهب الشافعي ومالك في رواية ابن وهب وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم:"أيما إهاب دُبغ فقد طهر" رواه أصحاب السنن، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"دباغ الإهاب طهوره" رواه أحمد وابن حبان وغير ذلك وكلها صحيح اهـ من المفهم.

واستدل بهذا الحديث أيضًا على أنه لا يجوز بيع ميتة الآدمي مطلقًا سواء فيه المسلم والكافر، أما المسلم فلشرفه وفضله حتى إنه لا يجوز الانتفاع بشيء من شعره وجلده وجميع أجزائه، وأما الكافر فلأن نوفل بن عبد الله بن المغيرة لما اقتحم الخندق وقُتل غلب المسلمون على جسده فأراد المشركون أن يشتروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه" فخلى بينهم وبينه. ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير رواه ابن أبي شيبة، قال ابن هشام: أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده عشرة آلاف درهم فيما بلغني عن الزهري، وروى الترمذي من حديث ابن عباس أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم كذا في عمدة القاري [5/ 606].

(و) حرم بيع (الخنزير) وهو الحيوان المعروف البري ولا تعرف العرب في البحر

ص: 274

وَالأَصْنَامِ "

ــ

خنزيرًا، وقد سُئل مالك عن خنزير الماء فقال: أنتم تسمونه خنزيرًا أي لا تسميه العرب بذلك، وقد اتقاه مرة أخرى على جهة الورع والله تعالى أعلم. فأما البري فلا خلاف في تحريمه وتحريم بيعه وأنه لا تعمل فيه الذكاة ومن هنا قال كافة العلماء: إن جلده لا يُطهره الدباغ وإنما يطهر الدباغ جلد ما تعمل الذكاة في حيه، وألحق الشافعي بالخنزير الكلب فلا يُطهِّر جلده الدباغ عنده، وقال الأوزاعي وأبو ثور: إنما يُطفر الدباغ جلد ما يؤكل لحمه، وقد أجاز مالك تذكية السباع والفيل لأخذ جلودها وهذا إنما يتمشى على قوله بكراهة لحمها، وأما على ما قاله في الموطأ من أن السباع حرام فلا تعمل الذكاة فيها فلا تطهّر جلودها بالدباغ كالخنزير وقد شذ داود وأبو يوسف فقالا: إنه يطهر بالدباغ كل حيوان حتى الخنزير ومتمسكهما قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دُبغ فقد طهر" ويعتضد أبو يوسف بقياس جلد الخنزير على جلد الميتة وينفصل الجمهور عنهما بأن هذا العموم محمول على نوع السبب الذي أخرجه وهو ميتة ما تعمل فيه الذكاة وبأن جلد الخنزير نادر لا يخطر بالبال حالة الإطلاق فلا يُقصد بالعموم كما قررناه في أصول الفقه وبأنه لا يقال: إهاب إلا على جلد ما يؤكل لحمه كما قاله النضر بن شميل، وأما القياس فليس بصحيح لوجود الفرق وذلك أن الأصل ميتة ما تعمل فيه الذكاة والفرع ميتة ما لا تعمل الذكاة فيه فكانت أغلظ وأفحش اهـ من المفهم.

(و) حرم بيع (الأصنام) فهي الصورة المتخذة للعبادة ولا خلاف في تحريم اتخاذها وبيعها وأنه يجب كسرها وتغييرها وكذلك كل صورة مجسدة كانت صورة ما يعقل أو ما لا يعقل، وأما ما كان رقمًا في ثوب أو حائط ففيه تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى، والأصنام جمع صنم وهو الوثن وفرّق بعضهم بينهما بأن الوثن ما له جثة والصنم ما كان مصورًا فبينهما عموم وخصوص وجهي فإن كانت الجثة مصورة فهي وثن وصنم جميعًا كما في فتح الباري [4/ 341] وظهر من ذلك أن الصورة إذا لم يكن لها جثة كالصور المرسومة على القرطاس وغيره داخلة في الأصنام وإن لم تكن داخلة في الأوثان فلا يجوز بيعها واتخاذها بهذا الحديث ولكن هذا المنع إنما هو في بيع الصورة بقصد الصورة وإذا كسر الصنم وأمكن الانتفاع برضاضه فبيعه جائز عند بعض الحنفية والشافعية وكذا الحكم في الصلبان كما في عمدة القاري [5/ 606] والصلبان جمع صليب وهو كل ما نُحت على صورة آدمي وعبد كصورة عيسى ومريم، والوثن كل صورة مجسدة سواء

ص: 275

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيتَ شُحُومَ الْمَيتَةِ فَإِنهُ يُطلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُود ويسْتَصْبحُ بِهَا الناسُ؟ فَقَال: "لَا. هُوَ حَرَامٌ"

ــ

كانت على صورة حيوان كالعجل أم لا كالشجر والحجر، والصنم كل ما عُبد من دون الله تعالى سواء كان له جثة أم لا كذا فرّق بينهما بعضهم.

(فقيل): أي قال بعض الحاضرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ولم أر من ذكر اسم هذا القائل (يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة) أي أخبرنا عن حكمها هل يجوز بيعها أم لا؟ (فإنه) أي فإن الشأن والحال (يُطلى) ويُلطخ (بها) أي بشحوم الميتة (السفن) أي الفلك الجارية في البحر لئلا ينخرق ويتأكل ألواحها في الماء (وبُدهن بها الجلود) الصلبة لتلين (ويستصبح) أي يستضيء (بها الناس) في مصابيحهم أي فهل يجوز بيعها لما ذُكر من المنافع فإنها مقتضية لصحة البيع اهـ من الفتح (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب السائل: (لا) تبيعوها (هو) أي بيعها لهذه الأغراض وغيرها (حرام) أي ممنوع إذ كانت نجسة نظيرها الدم والخمر مما يحرم بيعه وأكل ثمنه، وقال القرطبي: وهذا نص في أنه يحرم بيعها وإن كانت فيها منافع وذلك لأنها جزء من الميتة كاللحم أو هي كالشحم مع اللحم فإنه عنه يكون ولا يلزم من تحريم بيعها والحكم بنجاستها أن لا يجوز الانتفاع بها على ما قدمناه وهذا هو الذي يتمشى على مذهب مالك فإنه قد أجاز الانتفاع بما ماتت فيه ميتة من المائعات كالزيت والسمن والعسل وغير ذلك مع الحكم بنجاسته فقال: يُعمل من الزيت النجس الصابون ويستصبح به في غير المساجد ويُعلف العسل النحل ويُطعم النجس الماشية وإلى نحو ذلك ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة ورُوي عن علي وابن عمر، وفرّق بعض أهل العلم بين شحوم الميتة وبين ما تنجس بما وقع فيه من النجاسة فقال: لا ينتفع بالشحوم لأنها نجسة لعينها بخلاف ما تنجس بما وقع فيه فإنه ينتفع به لأن نجاسته ليست لعينه بل عارضة اهـ من المفهم.

وقوله: (يُطلى بها السفن) الخ ذُكرت ها هنا للانتفاع بشحم الميتة ثلاث طرق: الأولى: تطلية السفن ولعلهم كانوا يفعلون ذلك لصيانة السفن عن مضار هواء البحر، والثانية: إدهان الجلود بها وكانوا يضمدون شحم الميتة على الجلود لإحكامها وفي قوله: يُدهن بها الجلود نسختان تشديد الدال على كونه من باب الافتعال وتشديد الهاء على كونه من باب التفعيل ذكرهما علي القاري في المرقاة [6/ 39] والطريقة الثالثة: هي

ص: 276

ثُم قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عِنْدَ ذلِكَ:"قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ. إِنَّ اللهَ عز وجل لَمَّا حَرَّمَ عَلَيهِمْ شُحُومَهَا. أَجْمَلُوهُ ثُم بَاعُوهُ. فَكُلُوا ثَمَنَهُ".

3916 -

(00)(00) حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيبَةَ وَابْنُ نُمَيرٍ. قَالا: حَدَّثنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ،

ــ

الاستصباح يعني تنوير المصابيح بها وإيقاد السرج منها، والمقصود أن شحم الميتة يُنتفع به بهذه الطرق فهل يجوز بيعها؟ (فقال: لا هو حرام) قال أكثر الشافعية إن هذا الضمير المرفوع راجع إلى بيع الشحم دون الانتفاع به فيجوز عندهم الانتفاع بشحم الميتة بالطرق المذكورة أو بغيرها ولكن لا يجوز بيعه كما صرح به النووي والحافظ وغيرهما، وأما الجمهور ومنهم الحنفية فعلى أن شحم الميتة لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به أصلًا فكأنهم جعلوا الضمير راجعًا إلى الانتفاع بالطريق المذكورة ويؤيد الجمهور لفظ ابن ماجه (لا هن حرام).

(ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك) أي عند سؤالهم عن شحوم الميتة أي ثم قال بعد جوابهم عن سؤالهم (قاتل الله اليهود) أي لعنهم الله تعالى، وقد جاء مصرحًا به في الرواية. الأخرى وكذا قاله ابن عباس، وقال غيره عاداهم (أن الله عز وجل لما حزم عليهم شحومها أجملوه) أي أذابوا الشحم، وفي رواية اجتملوها والإجمال والتجميل والجمل من باب نصر إذابة الشحم والجميل الشحم يذاب ويقطر على الخبز (ثم باعوه فكلوا ثمنه) وإنما فعلوا ذلك ليزول عنه اسم الشحم ويصير ودكًا فإن العرب إنما تسميه شحمًا قبل الإذابة وأما بعد الإذابة فهو ودك اهـ من المرقاة [6/ 40] ودل الحديث على أن مجرد تغير الاسم لا يؤثر في حال الشيء وحرمته ما لم تتغير حقيقته.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث أحمد [3/ 326]، والبخاري [2236]، وأبو داود [3486]، والترمذي [1297]، والنسائي [7/ 309]، وابن ماجه [2167].

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث جابر رضي الله عنه فقال:

3916 -

(00)(00)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة و) محمد (بن نمير قالا: حدثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة الكوفي (عن عبد الحميد بن جعفر) بن عبد الله بن الحكم بن

ص: 277

عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيب، عَن عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ. قَال: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الفَتْحِ. ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنى. حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ (يَعْنِي آَبَا عَاصِمِ) عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ. حَدَّثَنِي يَزِيدُ بن أَبِي حَبِيبِ. قَال: كَتَبَ إِليَّ عَطَاءٌ؛ أنهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَامَ الْفَتْحِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيثِ.

3917 -

(1518)(82) حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيبَةَ وَزُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ وإسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (وَاللَّفْظ لأبِي بَكْرٍ). قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَينَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،

ــ

رافع الأنصاري أبي الفضل المدني، صدوق، من (6)(عن يزيد بن أبي حبيب) سويد الأزدي المصري، من (5)(عن عطاء) بن أبي رباح (عن جابر) بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما. وهذا السند من سداسياته غرضه بيان متابعة عبد الله بن جعفر لليث بن سعد (قال) جابر (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح) سنة ثمان من الهجرة (ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا الضحاك) بن مخلد الشيباني (يعني أبا عاصم) النبيل البصري، ثقة ثبت، من (9)(عن عبد الحميد) بن جعفر الأنصاري المدني، من (6) (حدثني يزيد بن أبي حبيب قال) يزيد:(كتب إليّ عطاء) فيه تصريح بأن يزيد بن أبي حبيب لم يسمعه من عطاء وإنما كتب به إليه فالعنعنة في الرواية السابقة محمولة على الكتابة والله أعلم (أنه) أي أن عطاء (سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عام الفتح) وساق عبد الحميد بن جعفر (بمثل حديث الليث) بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب.

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى لحديث جابر بحديث ابن عباس رضي الله عنهم فقال:

3917 -

(1518)(82)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم واللفظ لأبي بكر قالوا): أي قال كل من الثلاثة (حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو) بن دينار الجمحي المكي (عن طاوس) بن كيسان اليماني (عن ابن عباس) رضي الله عنهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهذا السند من سداسياته لأنه من رواية عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه رواية صحابي عن صحابي وتابعي عن

ص: 278

قَال: بَلَغَ عُمَرَ أَن سَمُرَةَ بَاعَ خَمْرًا. فَقَال: قَاتَلَ اللهُ سَمُرَةَ. ألَمْ يَعْلَمْ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ. حُرِّمَت عَلَيهِمُ الشحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا"

ــ

ـ

تابعي (قال) ابن عباس: (بلغ عمر) بن الخطاب في زمن خلافته (أن سمرة) بن جندب رضي الله عنه كما وقع مصرحًا في رواية الزعفراني عند البيهقي (باع خمرًا) واختلف العلماء في كيفية بيع سمرة بن جندب الخمر على أربعة أقوال: الأول: أنه أخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية فباعها منهم معتقدًا جواز ذلك حكاه ابن الجوزي عن ابن ناصر ورجحه، والثاني: أنه باع العصير ممن يتخذه خمرًا والعصير يسمى خمرًا كما قد يسمى العنب به لأنه يؤول إليه، والثالث: أنه خلل الخمر ثم باع الخل معتقدًا جوازه كما هو مذهب أبي حنيفة، وأما إنكار عمر ذلك على سمرة فيمكن أنه لا يجوز التخليل عنده كما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، والرابع: أن سمرة علم بتحريم الخمر ولم يعلم تحريم بيعها ولذلك اقتصر عمر رضي الله عنه على ذَمّه دون عقوبته.

وقد رجح القرطبي وابن الجوزي الوجه الأول، ثم ذكر ابن الجوزي أن سمرة كان واليًا لعمر على البصرة ولكن رد عليه الحافظ في الفتح [4/ 344] بأن سمرة إنما ولي على البصرة لزياد وابنه عبيد الله بعد عمر بدهر وولاة البصرة لعمر قد ضبطوا وليس منهم سمرة، ويحتمل أن يكون بعض أمرائها استعمل سمرة على قبض الجزية والله أعلم هذا ملخص ما في فتح الباري.

(فقال) عمر: (قاتل الله سمرة) قال ابن الأثير في جامع الأصول: [1/ 451] أي قتله الله وهو في الأصل فاعَل من القتل ويستعمل في الدعاء على الإنسان وقيل معناه عاداه الله والأصل الأول. (قلت): وربما تطلق هذه الكلمة ولا يراد بها معناها الأصلي ولا الدعاء على الإنسان وإنما تطلق على طريق البساطة في الكلام كقولهم: تربت يمينك، وتربت يداك، وويحك، وويلك، فالظاهر أن عمر رضي الله عنه إنما أطلقها بهذا الطريق ولم يرد بها الدعاء حقيقة وهو الظن بالصحابة رضوان الله عليهم (ألم يعلم) سمرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله اليهود حُرّمت عليهم الشحوم) أي شحوم الميتة (فجملوها) أي أذابوها (فباعوها) يعني بالحيلة المذكورة من إذابة الشحم ليزول عنه اسم الشحم لأنه يسمى حينئذٍ ودكًا كما مر فأكلوا أثمانها، قال ابن الأثير:

ص: 279

3918 -

(00)(00) حدثنا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ. حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيع. حَدَّثَنَا رَوْحٌ (يَعْنِي ابْنَ الْقَاسِمِ) عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، بِهذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.

3919 -

(1519)(83) حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ. أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ. حَدَّثنَا ابْنُ جُرَيجٍ. أخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ،

ــ

ـ

وجمل في هذا المعنى أفصح من أجمل وذكره العيني قال الشاعر:

قد كنت قدمًا مثريًا متموِّلًا

متجملًا متعففًا متدينا

فالآن صرت وقد عدمت تمولي

متجملًا متعففًا متدينا

أي كنت ذا ثروة وزينة وعفة وديانة فصرت آكل شحم مذاب وشارب عفافة وهي بالضم بقية ما في الضرع من اللبن وذا دين اهـ من بعض الهوامش. قال أبو عبيد: يقال: جملت من باب نصر وأجملت من باب أفعل واجتملت من باب افتعل كلها بمعنى الإذابة.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث أحمد [1/ 242]، والبخاري [2223]، وأبو داود [3488].

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة فيه فقال:

3918 -

(00)(00)(حدثنا أمية بن بسطام) بالصرف وعدمه العيشي أبو بكر البصري، صدوق، من (10)(حدثنا يزيد بن زريع) مصغرًا التميمي العيشي أبو معاوية البصري، ثقة، من (8)(حدثنا روح يعني ابن القاسم) التميمي العنبري أبو غياث البصري، ثقة، من (6)(عن عمرو بن دينار) الجمحي المكي، ثقة، من (4)(بهذا الإسناد) يعني عن طاوس عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم وساق روح بن القاسم (مثله) أي مثل ما روى سفيان بن عيينة، غرضه بيان متابعة روح بن القاسم لسفيان بن عيينة.

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى ثانيًا لحديث جابر بحديث أبي هريرة رضي الله عنهما فقال:

3919 -

(1519)(83)(حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أخبرنا روح بن عبادة) بن العلاء القيسي البصري، ثقة، من (9) (حدثنا ابن جريج أخبرني ابن شهاب

ص: 280

عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ؛ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَال:"قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ. حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِمُ الشُحُومَ فَبَاعُوهَا وَأكلُوا أَثْمَانَهَا"

ــ

ـ

عن سعيد بن المسيب) المخزومي المدني (أنه) أي أن سعيدًا (حدّثه) أي حدّث لابن شهاب (عن أبي هريرة) رضي الله عنه. وهذا السند من سداسياته رجاله ثلاثة منهم مدنيون وواحد مكي وواحد بصري وواحد مروزي (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله) أي لعن الله سبحانه وتعالى (اليهود حرم الله) سبحانه (عليهم الشحوم) أي شحوم الميتة فأذابوها (فباعوها وأكلوا أثمانها) بالحيلة المذكورة من إذابة الشحم، واستدل به من حرّم استعمال الحيل مطلقًا، والحق كما قال الألوسي في روح البيان [23/ 209] تحت قوله تعالى:{فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} أن الحيلة كما أوجبت إبطال حكمة شرعية لا تقبل كحيلة سقوط الزكاة وسقوط الاستبراء وأما إذا توصل بها الرجل إلى ما يجوز فعله ودفع المكروه بها عن نفسه وعن غيره فلا باس بها، وقال السرخسي رحمه الله في كتاب الحيل من المبسوط [30/ 210] فالحاصل أن ما يتخلص به الرجل من الحرام أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل فهو حسن وإنما يكره ذلك أن يحتال في حق الرجل حتى يبطله أو في باطل حتى يموهه أو في حق حتى يدخل فيه شبهة فما كان على هذا السبيل فهو مكروه وما كان على السبيل الذي قلنا أولًا فلا بأس به، واستدل على جواز الحيلة المشروعة بقوله تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} فإن ذلك تعليم حيلة، وبقوله تعالى:{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} فإنه حيلة وجاء السرخسي رحمه الله تعالى بعدة أحاديث وآثار تدل على جوازها.

وقال صاحب التكملة: ومن أقوى ما يدل على جواز الحيلة المشروعة ما أخرجه الشيخان والنسائي عن أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملى رجلًا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب فقال: أكل تمر خيبر هكذا، قال: إنا لنأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، قال: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا، وسيأتي الحديث عند المصنف في باب بيع الطعام مثلًا بمثل وإنما هو تعليم حيلة للتوصل إلى طريق حلال فما كان من هذا القبيل فهو جائز قطعًا وأما حيلة اليهود في تحليل السبت وبيع الشحوم وأكل ثمنها فكانت من قبيل إبطال الحكمة الشرعية فإن الشريعة قصدت منعهم عن الصيد يوم السبت وعن أكل الشحوم وبيعها ففعلوا ما حصل منه ذلك بعينه وإنما غيّروا الطريق أو التعبير وقدمنا أن مجرد تغيير الاسم لا يؤثر في حل

ص: 281

3920 -

(00)(00) حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. عَنْ أبِي هُرَيرَةَ، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ. حُرِّمَ عَلَيهِمُ الشحمُ فَبَاعُوهُ وَأكلُوا ثَمَنَهُ"

ــ

الشيء وحرمته حتى تتغير حقيقته فمن أجل ذلك عابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث البخاري أخرجه في البيوع باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال:

3920 -

(00)(00)(حدثني حرملة بن يحيى) التجيبي المصري (أخبرنا ابن وهب) المصري (أخبرني يونس) بن يزيد الأيلي (محن ابن شهاب) المدني (عن سعيد بن المسيب) المدني (عن أبي هريرة) رضي الله عنه. وهذا السند من سداسياته، غرضه بيان متابعة يونس بن يزيد لابن جريج (قال) أبو هريرة:(قال رسول الله صلى-الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود) ولعنهم (حُرِّم) بالبناء للمجهول (عليهم الشحم فـ) أذابوه و (باعوه وأكلوا ثمنه) وزاد أبو داود وأحمد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما (وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه) فاستدل به من حرم بيع كل محرم الأكل وأجاب عنه المارديني في الجوهر النقي إن قوله: (إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه) خُرِّج على شحوم الميتة التي حُرِّم أكلها والانتفاع بشيء منها وكذا الخمر أي إذا حرم أكل شيء ولم يبح الانتفاع به حرم ثمنه ولم يعن ما أبيح الانتفاع به بدليل إجماعهم على بيع الهر والفهد والسباع المتخذة للصيد والحمر الأهلية، وقال ابن حزم: وممن أجاز بيع المائع تقع فيه النجاسة والانتفاع به علي وابن مسعود وابن عمر وأبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري والقاسم وسالم وعطاء والليث وأبو حنيفة وسفيان وإسحاق وغيرهم، وراجع أيضًا إعلاء السنن [14/ 81] إلى [83] باب حرمة بيع الخمر والميتة والخنزير والله سبحانه وتعالى أعلم.

وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب ستة أحاديث: الأول: حديث أبي سعيد الخدري ذكره للاستدلال به على الجزء الأول من الترجمة، والثاني: حديث ابن عباس

ص: 282

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ذكره للاستشهاد به لحديث أبي سعيد وذكر فيه متابعة واحدة، والثالث: حديث عائشة ذكره للاستشهاد أيضًا وذكر فيه متابعة واحدة، والرابع: حديث جابر ذكره للاستدلال به على الجزء الثاني من الترجمة وذكر فيه متابعة واحدة، والخامس: حديث عمر ذكره للاستشهاد به لحديث جابر وذكر فيه متابعة واحدة، والسادس: حديث أبي هريرة ذكره للاستشهاد وذكر فيه متابعة واحدة والله سبحانه وتعالى أعلم.

* * *

ص: 283