الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: اللغة الانفعالية
لم ندخل في اعتبارنا حتى الآن إلا الصورة التي تصاغ فيها الأفكار صياغة منطقية، أعنى أننا لم ندرس اللغة إلا بوصفها اداة عقلية. ولكن الإنسان لا يتكلم ليصوغ أفكارا فحسب، بل يتكلم أيضا ليؤثر في أمثاله وليعبر عن حساسيته. أي أننا إذا اتخذنا قاعدة ما كان يدرس لنا في المدرسة من التفريق المثلث النواحي بين الذكاء والإرادة والحساسية، أمكننا أيضا أن نفرق بين اللغة المنطقية واللغة الفاعلة واللغة الانفعالية.
فاللغة الفاعلة لم تدرس أو لم تكد تدرس حتى الآن. ومع ذلك فلها أهميتها التي تظهر لنا بجلاء حينما نحاول أن نتصور اللغة الإنسانية في مهدها "انظر ما تقدم في ص39". هذا إلى أنها في مجرى التاريخ تسير على قوانين خاصة بها؛ فميدانها من الوجهة النحوية هو ميدان الأمر في الفعل وميدان المنادى في الاسم، وكل منهما له في فصيلته صيغ واستعمالات خاصة. وإذا كنا فيما سبق قد جمعنا في صعيد واحد فعلا مثل: tais-toi "اسكت"! واسما مثل! Silence "سكون! " واسم فعل مثل: chut "صه! " فإن هذا الخلط لم يتأت لنا إلا لأن الأمر فيها جميعا يتعلق باللغة الفاعلة التي عندها تزول الحدود بين الفعل والاسم. واللغة الفاعلة مع كونها تستمد غذائها في أحيان كثيرة من اللغة المنطقية التي تستعير منها بعض العبارات النحوية الجامدة في صورتها، تستحق رغم ذلك أن تميز عنها، لأنها تقوم بدور قد قصر عليها وحدها وتملك آلات خاصة بها. ولكن لم يشرع في دراستها حتى الآن.
أما اللغة الانفعالية فإنها ستشغلنا أكثر من هذا فإنها أصبحت، وخاصة منذ بداية هذا القرن، موضوع بحوث عميقة حددت معالم ميدانها وأوضحت طرائقها1.
ومنذ زمن غير قصير كان ج. فن درجبلنتس G. VON DER GABELENTZ يقول: "الإنسان لا يستخدم اللغة فحسب للتعبير عن شيء، بل للتعبير عن نفسه أيضا". ومن ثم لا ينبغي أن ندخل في اعتبارنا فقط الصورة التي تصاغ عليها الأفكار، بل أيضا العلاقات التي توجد بين هذه الأفكار وبين حساسية المتكلم. وبعبارة أخرى يجب أن نميز في كل لغة بين ما يمدنا به تحليل التصورات وبين ما يضيف إليه المتكلم من عنده: بين العنصر المنطقي والعنصر الانفعالي2.
ولا ينفك كلا العنصرين عن الاختلاط في كل لغة. وإذا استثنينا اللغات الاصطلاحية، واللغة العلمية منها بوجه خاص -تلك التي تعد خارج الحياة بطبعها- أمكننا أن نقول بأن التعبير عن أية فكرة لا يخلو مطلقا من لون عاطفي. والسلم الانفعالي نفسه لا يحوي نغمة واحدة تخلو من العاطفة، إذ ليس هناك إلا عواطف يختلف بعضها عن بعض.
فمن النادر جدا -عندما تتسابق في ذهننا، ونحن في صدد التعبير عن فكرة ما، عدة عبارات مختلفة- أن تكون إحدى هذه العبارات عقلية محضة وأن تعبر عن استدلال منطقي بحت أو أن تصور حقيقة أو حادثا ما في بساطته العارية من كل لباس. أرى حادثا يقع أمامي فأصبح راثيا لحال صاحبه:"آه! المسكين! " وأصادف صديقا لم أكن أتوقع لقاءه فأقول له: "أنت! هنا! ".
1 راجع خاصة مؤلفات الأستاذين بلي BELLY وسيشيه Sechehoy التي أوحت إلينا بهذا الفصل إلى حد كبير. شارل بلي: "الدراسة المنهجية لوسائل التعبير" في مجلة: "اللغات الحديثة""Neaere sprachen" مجلد 19؛ "علم الأسلوب وعلم اللغة العام" رقم 25، مجلد 128 "1912"، ص87-126"، ورقم 45 ورقم 46، وسيشيه رقم 122. وانظر كذلك فسلر vossler: رقم 218. ونجد تطبيقا عمليا لقواعد الأسلوب في مؤلفات الأستاذ لنسون Lanson: " توجيهات في فن الكتابة وفن النثر".
2 سيشيه: رقم 98، ص184 وما يليها.
فهذه الجمل ذات قيمة انفعالية واضحة كل الوضوح. فإذا صيغت في لغة المنطق الجدلية صارت: "أرثى لهذا المسكين" أو "يدهشني أن أراك هناك" تخيل أني استعملت في الواقع هاتين الصورتين من صور الجملة، أفتظن أنهما أيضا يخلوان من كل قيمة انفعالية، قيمة تختلف بلا ريب عما في جملتي التعجب اللتين قيلتا في تلهف وإن كانت لا تقل عنها قرعا للذهن؟ بل قد يحس الإنسان فيهما إما رغبة في استخراج المغزى الأدبي من الحادثة وإما تفريعا للدهشة الناجمة من مقابلة صديق وإما كبتا لحركة من الحساسية شديدة العنف تحاول أن تنطلق من عقالها. ولكن محاولة التخلص من إظهار العاطفة في هذه الحال ليست إلا إظهارا للعاطفة.
لا تكاد توجد جملة، مهما كان حظها من الابتذال، لا تخالطها عناصر انفعالية. فإذا قلت:"بيير يضرب بول" بدا على أني أعبر بكل بساطة عن علاقة بين شخصين يجمع بينهما حدث الضرب، وهذا على الأقل كل ما يزودني به التحليل المنطقي المزعوم، ولكن الواقع أن مثل هذه الجملة لا يمكن مطلقا أن تكون عبارة منطقية عن علاقة ما، إذ إني أضيف إليها دائما ألوانا انفعالية. فضرب بيير لبول لا يمكن أن يكون عديم الأثر بالنسبة إلى، إذ لو لم يكن له مساس بنفسي لما قلته. إذن فالجملة التي أنطق بها ذات قيمة تختلف عن القيمة التي تكون لها لو كنت قد قرأتها في كتاب من كتب التاريخ يدور فيه الكلام عن ملك ما اسمه بيير وملك آخر اسمه بول لا يعنيني من أمرهما شيء. ذلك أن القصص التاريخي موضوعي دائما. وهذا ما يجعله التلميذ الصغير، الذي يحفظ دروسه في التاريخ عن ظهر قلب، يقبل دون تقزز على تعداد الفظائع التي ارتكبها بنو البشر في تناحرهم بعضهم مع بعض، فهي لا تحركه لأنه يراها تقع في ماض سحيق تباعده عنه سنون طوال، وإذن فهو يتسلى بها. وعلى العكس من ذلك لا نستطيع أن نقرأ دون قشعريرة تسري في أجسامنا خبرا لجريمة عادية وقعت أمام منزلنا. فإني في المثال المتقدم أراني لدى نطقي بالجملة أحس في نفسي بعواطف مختلفة من الحنق أو العقاب أو التهديد أو الغضب أو الرضا أو التشجيع أو القبول أو
الدهشة، وذلك تبعا لما إذا كان بيير وبول ابني أو طفلين غربيين عني وتبعا لسنهما وقوتهما وتبعا لميولي واتجاهاتي وتبعا لظروف أخرى كثيرة يمكن تصورها بسهولة. هذا العواطف يمكن بطبيعة الحال التعبير عنها بواسطة التنغيم أو تغير الصوت أو سرعة الحديث أو الشدة التي يركزها المتكلم على هذه الكلمة أو تلك أو بالإشارة التي تصحب الكلام1. فالجملة الواحدة تحتمل عند النطق مئات ومئات من وجوه الاختلاف التي تقابل أشد ألوان العاطفة خفاء. والفنان الدرامي الذي يقوم بدوره في المسرح عليه أن يجد لكل جملة التعبير اللائق بها والنغمة الحقة التي تناسبها. وذلك أوضح ما يلاحظ على مواهبه. فالجملة التي يقرؤها في صحيفة تعد ميتة، خالية من التعبير. ولكنه يتعشها بنطقه وينفث فيها الحياة. وإذن فمعرفة كلمات الجملة وتحليل عناصرها النحوية ليس معناه استخراج كل مكنوناتها. بل يبقى بعد ذلك تقدير قيمتها الانفعالية.
إنه لواجب يفرض نفسه على العالم النفسي الذي يدرس طبيعة العواطف، وبدرجة مساوية على الفنان الذي يسعى إلى إبرازها على المسرح، وعلى العالم اللغوي ولكن بدرجة أقل. فهذه العواطف لا تعنى هذا الأخير إلا عندما يعبر عنها بوسائل لغوية. ولكنها على العموم تظل خارج اللغة، فهي بمثابة ضباب خفيف يطفو فوق عبارة الفكر دون أن يغير من صيغتها النحوية: نعم من الحق أن يقال إن جملة "بيير يضرب بول" لا ينطق بها في اللغة دون نوع من التنغيم يحدد من لونها. ولكن الجسم الإنساني أيضا يشغل دائما في الواقع وضعا ما؛ فلا يمكن تصوره على خلاف ذلك. والوضع الذي يسمي وضع الراحة ليس إلا وضعا من الأوضاع، فيجب على النحات أن يعرف الصورة التي تتخذها العضلات في جميع الأوضاع، ويترتب على ذلك أنه لا يمكن أن يوصف بالمغالاة مهما أنفق في دراسة تشريح الجسم الإنساني. ولكن الجراح الذي يشرح أجزاء الجسم يستطيع أن يستغنى عن أوضاع الحركة في هذا الجسم فليس في كل الحركات التي يمكن تخيلها إلا جسم واحد يتحرك. كذلك يستطيع العام اللغوي أن يسقط من حسابه.
1 انظر بورون Bourdon: رقم 52.
اختلافات النغمي والإشارات التي تحتملها إحدى الجمل مهما كانت، ما دامت لا تغير من بناء الجملة النحوي.
غير أن هناك تختلط فيها العبارة الانفعالية بالعبارة النحوية إلى حد أن تغيرها، بدلا من أن تبقي ملتصقة بها مجرد التصاق.
والانفعالية في اللغة تعبر عن نفسها على وجه العموم بصورتين: باختيار الكلمات وبالمكان الذي يخصص لها في الجملة يعني أن معيني اللغة الانفعالية الأساسيين هما المفردات والتنظيم. أما المفردات فستدرس على حدتها وسنرى الدور الرئيسي الذي تقوم بلعبه الانفعالية في تغيير معاني الكلمات. ولا يعنينا أن نذكر هنا إلا الحالات التي فيها جزء الكلمة الانفعالي يكون في اللاحقة، يعني في عنصر صرفي. وهذه حالة كثيرة الورود. فإذا وجدت كلمة على درجة عالية من قوة التغيير واشتملت هذه الكلمة على لاحقة ما، فالذي يحصل أن اللاحقة تتشرب هذه التعبيرية إلى حد أن تمتصها كلها، لتصير عنصر الكلمة المعبر. فاللاحقة aille-"آي" في الأصل لا توقظ أية فكرة؛ ولذا ظلت خالية من التعبير في كلمة مثل Bataille "بتي "موقعة". ولكن لما كانت قد وجدت في كلمات التحقير مثل CANAILLE" كنى "طغام"" و MARMAILLE "مر مي "عصابة أطفال"
…
إلخ، فقد أخذت هي نفسها هذه القيمة التحقيرية، وليس منا من لا يحس معنى الاحتقار الذي ينبعث من PRETRAILE "بريتري "قسس" عندما يقصد تحقيرهم" و RADICAILLE "راديكي""أصحاب الحزب الراديكالي""عند إرادة التحقير". وكذلك اللاحقتان ard "آر" و asse "آس" لهما هذه القيمة في عدد من الكلمات غير قليل. ولواحق التصغير لأنها توحي بفكرة الكلمة التي تلصق بها في صورة مختزلة- تضم عادة إلى هذه القيمة عاطفة اللطف أو النفاسة أو عاطفة الحنان أو الانعطاف أو الإشفاق. فكلمة maisonette "دو يرة" وكلمة jardinet "بسيتين" لا يعنيان فقط منزلا صغيرا أو بستانا صغيرا، بل إن اللاحقتين ette، et تقومان فيهما حقيقة بدور دوال
العاطفة فالصرف يساعد هنا على التعبيرية فيفعل ما تفعله المفردات باستعمالها للصفة في مثل: "داري الصغيرة أو بستاني الصغير المسكين".
طريقة ترتيب الكلمات تمس النحو عن قرب أيضا1. وتختلف اللغات اختلافا ملحوظا من جهة حريتها في ترتيب الكلمات. من هذه الوجهة يفرق غالبا بين نوعين من اللغات: اللغات ذات الترتيب الحر واللغات ذات الترتيب الثابت. وهو تفريق لا تبرره الوقائع. فالحقيقة أنه لا توجد لغة واحدة تسير في ترتيب الكلمات على حرية مطلقة كما لا توجد لغة واحدة ترتيب الكلمات فيها جامد لا يتحرك. فالإغريقية القديمة كالهندية الأوربية تعتبر من اللغات ذات الترتيب الحر. ومع ذلك فإذا أخذنا جملة لأفلاطون لم نستطع أن نجيل الكلمات فيها تبعا لهوانا كما نجيل القداح في الجعبة. كذلك مهما كان ثبات ترتيب الكلمات في الفرنسية أو الألمانية، في الصينية أو في التركية، فإن هذه اللغات تسمح بشيء من المرونة، ولا يحتم أن تصير غير مفهومة إذا غيرنا ترتيب الكلمات فيها. فالأمر في كلتا الحالين يتوقف على نوع التغيير الذي نجريه.
والحقيقة أنه توجد لغات يلعب فيها ترتيب الكلمات دورا نحويا، والحرية في ترتيب الكلمات محدودة طبعا بقيمة النظام الصرفية "انظر ص111". وهناك لغات أخرى لا يفرض فيها النحو أي نظام إجباري، ولا تتأثر العلاقة المنطقية التي بين كلمات الجملة في شيء إذا غيرنا وضعها. تقول اللاتينية: Petrus Caedit paulum كما تقول العربية: "يضرب زيد عمرا" أو petrus paulum caedit أو "يضرب عمرا زيد" أو paulum Caedit petrus أو "عمرا يضرب زيد" دون أن يؤدي ذلك إلى تردد في معرفة الفاعل والفعل والمفعول، لأن التحليل المنطقي لا يرى في ذلك أي اختلاف، ولكن هذه الأوضاع الثلاثة ليست على درجة واحدة من الجودة. والمتكلم اللاتيني ما كان ليخطئ في اختيار خيرها. فالواقع أن دراسة الجملة عن المجلين من كتاب اللاتين يرينا أن نظام الكلمات فيها يسير تبعا لقوانين صارمة وإن كان من العسير استخراجها من خضم
1 انظر هـ. فيل H.weil: رقم 128 بالرغم من تفاقم عهده.
تنوعها المجير؛ فالمسألة في كل حالة من الحالات مسألة حس أكثر منها مسألة مذهب نحوي. إذ إن هناك ترتيبا معتادا مبتذلا يطرق الذهن لأول وهلة1. وهذا الترتيب يمكن مخالفته، ولكن مجرد المخالفة ينبئ عن غرض ما، ذلك الغرض هو إبراز كلمة من الكلمات لتوجيه التفات السامع إليها. وتلك مسألة أسلوبية يمكن تتبعها إلى أقصى وقائعها، ومن ثم كانت دراسة التنظيم كثيرا ما تجوز على دراسة الأسلوب.
هذا النوع من الدراسة في غاية الدقة، ويتطلب حسا لغويا مدربا، ولطفا عاليا في الذوق الأدبي، يضاف إليها معرفة نادرة بالظروف الفيولوجية للغة المدروسة. لذلك لم يمارس حتى الآن إلا في حيز ضيق. ففي ميدان الفيولوجية الكلاسيكية -وهو من أغنى الميادين بالبحوث- لم يقبل الباحثون على عمل تحقيقات منهجية حول موضع الكلمات في الجملة إلا منذ عهد قريب. بل إن المنهج الذي يناسب هذه المباحث لم يزل في بدء تحدده2.
مما استقرت عليه الآراء في أيامنا هذه أنه ينبغي للنحوي الذي يريد دراسة التنظيم في لغة ما ألا يأخذ الجمل في مجموعها ليعرف النظام الذي يسير عليه في ترتيب الكلمات. بل عليه أولا وقبل كل شيء أن يميز أنواع الجمل المختلفة ثم يعين في كل نوع منها بعض المجاميع التي تسير على نظام ثابت. لأن الاستعمال لا ينحصر في الواقع في ترتيب كلمات الجملة كلمة كلمة، بل في تهيئة المكان لمجاميع من الكلمات ففي الجملة الاسمية مثلا يؤول الأمر إلى طرفين: المسند إليه sujet والمسند Predicat. والفعل، إذا كان مصرحا به "انظر ص166"، ينتسب إلى المسند، وموضع الفعل بالنسبة إلى المسند أمر ثانوي مستقل عن الأول. فالترتيب الطبيعي في اللاتينية هو homo avarus est "الإنسان بخيلا يكون" أو avarus est homo "بخيلا يكون الإنسان" تبعا لما إذا كان يراد إبراز فكرة الإنسان أو فكرة البخل،
1 ل. هافيه، Melanges Nicole:L. Havet، ص225-232.
2 انظر خاصة ماروزو: رقم 91 و11 "1906" ص209 وما يليها؛ وكيركس kieckers: "موضع الفعل في الإغريقية وفي اللغات القريبة منها" سترسبورج "1911" ورقم 30، مجلد، ص145 ومجلد 32ص7.
والفرق على كل حال غير محسوس في غالب الأحوال: فالأمر يدور حول التعريف المجرد لبخل الإنسان لا أكثر ولا أقل. هذان الترتيبان يمثلان الطابع المعتاد للجملة الاسمية، ولا يحاد عنه إلا لأسباب قوية. فالتغيير المكاني التالي: HOMO EST AVARUS "الإنسان يكون بخيلا" يغير من قيمة الرابط، إذ تصير الجملة اسمه فعلية من نوع الجملة الفرنسية il se trouve bein "إنه يجده "يعني يجد نفسه" حسنا" il parait grand "إنه يبدو كبيرا" فالرابط هنا يأخذ قيمة أقل تفاهة من قيمته في الجملة الاسمية دون أن يصل إلى حد الاستقلال. ويمكننا أن نترجم الجملة السابقة على هذا النحو: il l'est avare "إنه يكونه بخيلا" أو il lui arrive d'etre avare "يقع له أن يكون بخيلا" أو il se trouve etre avare "وجد نفسه يكون بخيلا"
…
إلخ. فالفصل بين جزأي المسند يبرز البخل على هذا النحو: avarus homo est "بخيلا الإنسان يكون" أو "بخيلا وجد الإنسان" أو إنه الذي يكون عيب الإنسان"، إلخ، وقصارى القول أن ترتيب الكلمات في الجملة الاسمية المشتملة على فعل الكون تبين على الترتيب أهمية المسند إليه أو المسند وقيمتي فعل الكون: كونه مجرد رباط أو فعلا معبرا عن الوجود.
المجموعات الرئيسية في الجملة الفعلية هو المسند إليه والفعل والمفاعيل "مباشرة أو غير مباشرة" وكل مجموعة منها تشتمل على كلمة واحدة أو على عدة كلمات حسبما يكون المسند إليه مثلا مصحوبا بصفات أو بمخصصات أخرى وحسبما يكون الفعل مقيدا بظروف عديدة أو غير عديدة. فأول ما يعنينا أن نعرف ما إذا كان الفاعل يسبق الفعل أو ما إذا كان الفعل يسبق الفاعل ثم بعد ذلك كيف تقحم المفاعيل في الترتيب الذي يتقرر، وعندئذ نرى بعد أن نستثني الحالات التي يكون فيها لترتيب الكلمات قيمة صرفية "انظر صفحة 111". إن مكان المسند إليه ومكان الفعل يتوقف في كل لغة على تغلب بعض أنواع من الجملة تنتهي أن تفرض نفسها على الاستعمال. ويتضح أن ترتيب الكلمات حتى في لغات كالإغريقية أو اللاتينية أكثر ثباتا مما يظن لأول وهلة. وهكذا قد سلم الباحثون بأن بعض العبارات في الإغريقية تتبع ترتيبا
لا يتغير. وكانت العادة في التوقيع على الأعمال الفنية أو في إهداء القرابين أن يوضع الفعل في وسط الجملة محوطا بالمسند إليه وتوابعه. ففي هذه الأحوال لا يوضع الفعل في نهاية الجملة إلا نادرا. وليس من شك في أنه يمكننا بمتابعة البحث أن نصل إلى معرفة الترتيب المعتاد في عدد كبير من أنواع الجمل في الإغريقية القديمة، وذلك لا يمنع من وجود ترتيبات عريضة تترك لتقدير الكاتب.
أما في اللغات التي تسير على نظام ثابت في ترتيب الكلمات، دون أن يكون لذاك النظام قيمة صرفية، فإنه يمكننا بوجه عام أن نكشف عن البواعث التي أدت غلى هذا الثبات بواسطة الامتحان الدقيق لظروف اللغة نفسها، وفي العادة، لا بد أن يكون قد لزم لها وقت طويل حتى استقرت نهائيا على نظام معين، فالنظام الذي تسير عليه اللغة الكلتية تشهد به أقدم النصوص الإرلندية1، وهو الفعل: يوجد في صدر الجملة لا تتقدمه إلا السوابق الفعلية التي تستعملها الكلتية بكثرة، بعد ذلك يجيء المسند إليه ثم المفاعيل، ويظهر أن وضع افعل أمام المسند إليه على هذا النحو يرجع من جهة إلى أن الكلتية تقحم دائما ضمائر النصب التي تكثر كذلك من استعمالها بين سابقة العل والفاعل، ومن جهة أخرى إلى أن العادة في الهندية الأوروبية كانت قد جرت على وضع الضمائر الإلصاقية في المكان الثاني من الجملة "بعد أول كلمة منبورة، وذلك يطبع بطابع ثابت لا يتغير بداية الجمل التي تشتمل على لاصقة فعلية وفعل وضمير نصب وهي أكثر الجمل عددا، فهي إذن مقضى عليها أن تبدأ بالسابقة الفعلية فضمير النصب فالفعل، أما المسند إليه فلا يأتي إلا لاحقا لها. وما خلق هذا النظام المعتاد في ترتيب الكلمات في الجملة إلا الإبقاء على تقليد عتيق. ولكن يجب أن ننبه إلى أن هذا الترتيب تصيبه بعض القيود عند الاستعمال وأنه قد خرج عن صرامته بمضى الزمن.
يختلف الأمر في الجرمانية بعض الاختلاف، فالألمانية تستعمل ترتيبين متساويين في الصرامة كلاهما، وفقا لطبيعة الجملة، فالفعل في الجملة الرئيسية يشغل المحل الثاني دائما، أما المسند غليه والمفعول "أو الخبر" فيمكن
1 فندريس: رقم 6، مجلد 17، ص337.
وضعهما قبله أو بعده وفقا لرغبة المتكلم، وفي الجملة التابعة يقذف بالفعل دائما إلى آخر الجملة، بعد الفاعل والمفاعيل. فيقال إذن في الجملة الأصلية: der wolf lebt in walde "الذئب يعيش في الغابة" أو im walde lebt der wolf "في الغابة يعيش الذئب" der konig ist blind "الملك يكون أعمى" أو blind ist der Ronig "أعمى يكون الملك". ولكن يقال في الجملة التابعة: "man weiss dass" der wolf im walde lebt، der konig.
blind ist ""يعرف أن" الذئب في الغابة يعيش، الملك أعمى يكون". وقد تم ثبات هذين الترتيبين شيئا فشيئا في غضون التاريخ. إذ نرى التعارض بين النظام المعتاد والنظم العرضية أكثر تعقيدا تبعا للأنواع المختلفة للجملة؛ فقد حصل تبسيط في ظروف لا نحسن معرفتها1. ولكن إذا كانت الألمانية قد عينت للفعل مكانا ما، فإنها قد احتفظت لنفسها بحرية التصرف كاملة بالنسبة للكلمات الأخرى. وكل نظام من النظامين له فيه قيمته الخاصة. وفيها إلى جانب النظام المعتاد الذي يبادر بطبيعة الحال إلى ذهن كل إنسان، إمكانيات لنظم متنوعة يختار المتكلم من بينها وفقا لإلهامه.
ينحصر الفرق الأساسي بين اللغة الانفعالية واللغة المنطقية في تكوين الجملة. وهذا الفرق ينبثق جلبا عندما تقارن اللغة المكتوبة باللغة المتكلمة. فاللغة المكتوبة واللغة المتكلمة تبتعدان في الفرنسية إحداهما عن الأخرى إلى حد أنه لا يتكلم إطلاقا كما يكتب ولا يكتب كما يتكلم إلا نادرا، وفي كل حالة يوجد اختلاف في ترتيب الكلمات إلى جانب الاختلاف في المفردات، وذلك لأن الترتيب المنطقي الذي تسلك فيه الكلمات في الجملة المكتوبة ينفصم دائما في الجملة المتكلمة، إن قليلا وإن كثيرا؛ فمن اللغة المكتوبة مثل هذه الجملة:"يجب المجيء سريعا" و"أما أنا فلا وقت عندي للتفكير في هذه المسألة" و"هذه الأم تكره طفلها"؛
1 دلبروك: رقم 154.
ولكنها في اللغة المتكلمة تتخذ صيغة مختلفة كل الاختلاف تسعة أعشار الوقت، فيقال مثلا:"تعال بالعجل! "
…
و"الوقت، إيه دا يا أخي! هو أنا عندي وقت، أنا علشان أفكر في المسألة دي! " و"ابنها! دهي بتكرهه، الأم دي! "1.
ماذا يمكن أن يقال في جمل اللغة المكتوبة، تلك الجمل المنسقة بما فيها من جمل تابعة وحروف وصل وأسماء موصولة وكل ما تحتوي عليه من أدوات وأقسام! إننا لا نقول إطلاقا في اللغة المتكلمة:"بعد أن نخترق الغابة ونصل إلى بيت الحارس الذي تعرفه، بجداره الذي تكسوه أغصان اللبلاب سندور إلى اليسار ونسير حتى نجد مكانا مناسبا فنتغدى فيه فوق الأعشاب". بل يقال: "حنخترق الغابة، وبعدين نمشي لحد البيت، إنت عارفه، بيت الحارس، إنت واخد بالك منه كويس، البيت ده اللي جداره فارش عليه اللبلاب، وبعدين نحود عشمال، ونشوف مكان لطيف، وبعدين نتغدى هناك علحشيش". فالعناصر التي تسعى اللغة المكتوبة في أن تسلكها في كل متماسك تبدو في اللغة المتكلمة منفصلة منفصمة مقطعة الأوصال؛ بل إن الترتيب نفسه يختلف فيها عنه في الأولى كل الاختلاف. إذ ليس هنا ذلك الترتيب المنطقي الذي يمليه النحو الجاري، بل ترتيب له منطقه أيضا ولكنه منطق انفعالي قبل كل شيء، فيه ترص الأفكار لا وفقا للقواعد الموضوعية التي يفرضها التفكير المتصل بل وفقا للأهمية الذاتية التي يخلعها عليها المتكلم أو التي يريد أن يوحي بها إلى سامعه.
فكرة الجملة بالمعنى النحوي تتلاشي في لغة الكلام. فإني عندما أقول: "الرجل الذي تراه هنالك جالسا على الرمال هو ذلك الذي قابلته بالأمس عند المحطة". أراني أستخدم طرائق اللغة المكتوبة فلا أصوغ غير جملة واحدة، ولكنني لو تكلمت لقلت:"شايف كويس الراجل ده، عندك هناك، قاعد قدامك على الرمل، أهو ده! أنا شفته امبارح، كان عالمحطة". فكم يوجد من الجمل هنا؟ من العسير أن نجيب عن هذا السؤال: فلو أني وقفت قليلا على كل موضع علم بشرطة لكانت
1 الجمل الفرنسية المقابلة لهذه الأمثلة مستعارة من شارل بلي
الكلمات "عندك هناك"وحدها تكون جملة تماما كما لو كنت أجيب على سؤال يقول: "أين هذا الرجل؟ ". "عندك هناك" وجملة "قاعد قدامك ع الرمل" نفسها تصير مجموعة تتكون من جملتين لو أني توقفت قليلا بين الجزأين اللذين تتكون منهما: "قاعد قدامك" و""هو" ع الرمل" أو "إنه" جالس أمامك "وذلك" ع الرمل" فحدود الجمل النحوية هنا غير ثابتة حتى ليحسن أن نريح أنفسنا من تعدادها. ولكن إذا راعينا اعتبارا آخر، لم نجد عندنا إلا جملة واحدة. فالصورة الكلامية واحدة وإن كانت تحتمل المط والتوسع في الحركة إذا جاز لنا هذا التعبير. ولكن بينما تبرزهذه الصورة في اللغة المكتوبة كتلة واحدة، نراها في لغة الكلام تقطع أجزاء متتابعة تتناسب في العدد والشدة مع الانطباعات التي يحملها المتكلم نفسه أو مع الحاجات التي تحمله على التأثير على السامع.
بقدر ما تستخدم اللغة المكتوبة نظام التبعية، تمارس لغة الكلام نظام الإلصاق. فالمتكلم لا يستعمل الروابط النحوية التي تحصر الفكرة وتطبع الجملة بطابع القضية المنطقية الضيق. ولغة الكلام مرنة خفيفة الحركة، تدل على صلة الجمل بعضها ببعض بإشارات مختصرة بسيطة، فالفرنسية تكتفي على وجه العموم لأداء هذه الوظيفة بحروف الوصل التي من قبيل et "و" و mais "لكن"، ذلك أن اللغات تميل في الدلالة على التبعية إلى استعمال عبارة وحيدة تطبق على كل الحالات دون تفريق. وهكذا نرى أن الهندية الأوربية في خلال التاريخ تخلق لها أدوات وصل وأن نظام الوصل يتكون ويستكمل. إذ لا بد أن التنغيم في البداية كان يلعب دوره، وكان يشار إلى الصلة بين جملتين بأن تعارض إحداهما بالأخرى وذلك بواسطة نغمة الفعل أو بواسطة بعض الأدوات التي كانت تتكرر في كل واحدة منهما وقد احتفظت بعض اللغات بمجاميع من الصيغ التي تختلف تبعا لما إذا كانت الجملة أساسية أو تابعة. ولكنه اكتفي بوجه عام بإعطاء الأداة "اسم موصول أو حرف وصل" وظيفة ربط الجملة التابعة وبالتالي جعلت الأداة الطابع المميز لهذه الجملة. ويكفينا للتحقق من ذلك أن ننظر إلى النجاح التام الذي صادفه حرف الوصل الفرنسي que "أن". وإن اللغة المكتوبة، التي
تبحث عن الدقة ولديها من الفراغ ما تنفقه في التحضير والتروي، تعقد مختارة طريقة التعبير عن صلة الجمل بعضها ببعض وفقا لألوان الفكر المختلفة الدقيقة. ولكن لغة الكلام تميل إلى اتخاذ رمز واحد تاركة لذهن السامع أن يعرف بالحدس نوع الصلة التي يقصدها المتكلم. لذلك قد نرى الحرف الواحد يعني في اللغة الواحدة "لأن" و"مع أن" و"لأجل أن" و"عندما". فالشعب الفرنسي يتجنب في لغة الكلام الصيغ whose" dont" "الإنجليزية" و auquel اسم الموصول بمعنى الذي له" و pour leuel "اسم الموصول بمعنى الذي من أجله" لأنه يراها ثقيلة مقلقة. يقنع في الدلالة على الوصل بالموصول que مع الإشارة في جملة الصلة نفسها إلى نوع الصلة التي يريدها. فبدلا من أن يقول "l'homme dont je connais la fille" أو "le patron pour lequel je travaille" أو Le pauvre a que je fais l'aumone" يفضل أن يقول:"l 'homme que je connais sa fille""الرجل الذي أعرف ابنته" و" le patron que je travaille pour lui""المالك الذي اشتغل له أو من أجله" و"le pauvre que je lui fais l'aumone""المسكين الذي أقدم إليه الإحسان". هذه التراكيب وهي راسخة القدم في الفرنسية المتكلمة اليوم كانت مستعملة في اللغات الكلتية في العصور الوسطى1 وهي تبين جيدا استقلال لغة الكلام عن لغة الكتابة.
تتميز لغة الكلام بأنها تقتصر على الاهتمام بإبراز رؤوس الفكرة، فهي وحدها التي تطفو وتسود الجملة، أما الروابط المنطقية التي تربط الكلمات بعضها ببعض وأجزاء الجملة بعضها ببعض فإما ألا يدل عليها إلا دلالة جزئية بالاستعانة بالتنغيم والإشارة إذا اقتضى الحال، وإما ألا يدل عليها مطلقا ويترك للذهن عناء استنتاجها. هذه اللغة المتكلمة تقترب من اللغة التلقائية: ويطلق هذا الاسم على اللغة التي تنفجر تلقائيا من النفس تحت تأثير انفعال شديد. ففي هذه الحالة يضع
1 وتقابلها كذلك في الألمانية في الأقاليم المجاورة لإقليم لافه lave انظر بها حل Behaghel رقم 144، ص30.
المتكلم الألفاظ الهامة في القمة إذ لا يتيسر له الوقت ولا الفراغ اللذان يجعلانه يطابق فكرته على تلك القواعد الصارمة، قواعد اللغة المتروية المنظمة، وعلى هذا النحو تتعارض اللغة الفجائية مع اللغة النحوية.
من المسائل التي تستحق النظر معرفة ما إذا كانت إحداهما سابقة بالضرورة على الأخرى، وإذا ما كانت اللغة التلقائية تختلط باللغة الانفعالية. فإذا صاح إنسان مشدوها من مقابلة غير منتظرة فقال:"أنت هنا! " أمكننا أن نقرر بشيء من التمحل أن هذه العبارة تقوم على أساس عبارة نحوية هي: "أنت "تكون" هنا! " أو "يدهشني أنك هنا". ولم يعدم النحويون على الأقل أن يفسروها على هذا النحو محتجين باستعارة نحوية أو بحذف أو تقدير.
ولكن ينبغي لذلك ان نلجأ إلى لغة الطفل أولا وقبل كل شيء. فالطفل الذي يقول "بابا هنا" ليفهم أن أباه قد حضر أو أنه يوجد هنا، إنما يعبر فقط عن تقرير واقع. بعد ذلك عندما يأتيه التروي مع تلك الموهبة التي يحلل بها إدراكاته ويعبر عنها في اللغة تعبيرا كاملا، يقول:"بابا "يكون" هنا" أو "بابا وصل هنا"؛ أيمكن أن يستنتج من ذلك أنه يمكن الانتقال من لغة فجائية غير نحوية إلى لغة نحوية منظمة دون نقطة ارتكاز انفعالية؟ يخشي أن يكون في ذلك نوع من المغامرة. لأن الطفل لم يبدأ بعد بأن يخلع على جملته الفجة "بابا هنا" طابعا انفعاليا. بل إن الصيحات الأولى التي صدرت عنه كانت للتعبير عن رغبة أو إرادة أو حاجة. وأول ما قال "بابا هنا" كان ذلك للتعبير عن ابتهاجه برؤية أبيه أو عن رغبته في مجيئه. وإذن فقد نشأت العبارة الموضوعية "بابا هنا". في خلال تدرج الطفل بإقصائه للعنصر الذاتي ثم استطاعت بدورها أن تصير جديرة بالعبارة النحوية حين ضم فعل إليها، ولكن الطفل قد بدأ الصيغة انفعالية.
يميل بعض علماء اللغة الذين هم علماء نفس في الوقت عينه إلى الاعتقاد بأن اللغة الانفعالية تسبق اللغة العقلية دائما عند الطفل1. وعندهم أن الذكاء
1 انظر خاصة سيشيه: رقم 122، ص67 وما يليها، وقارن ليفي بريل: رقم 88 ص27 وما يليها.
لا يستطيع تحويل الإحساسات والانفعالات إلى أفكار إلا تدريجا، وأن الفكرة تخرج من العناصر الانفعالية دون أن تقصيها إقصاء تاما، وأنه يتكون في داخل اللغة الفجائية التي هي انفعالية محضة نواة صلبة تنمو شيئا فشيئا كلما ازدادت الأجزاء المحيطة بها صلابة، وهذه هي اللغة المصطلح عليها أو النحوية، وتبقى هذه متداخلة في الأخرى، تستمد منها غذاءها باستمرار دون أن تصل إلى إنضابها بأية حالة. هذه النظرية نشوئية دينامية قبل كل شيء. تزعم أنها تفسر أصل النحو، يعني اللغة المنظمة، باستمرار العناصر البدائية غير الثابتة التي تكون ما قبل اللغة النحوية. وعندها أن هذه اللغة الأخيرة تستمر بقدر يزيد أو ينقص عند كل إنسان طول حياته، وإليها يجب أن ترجع ظواهر اللغة الانفعالية جميعها. ولكنها تستطيع هي الأخرى بطريق مضاد أن تنهل من منابع اللغة النحوية، وذلك مثلا عندما نرى أن جملة مكونة تكوينا منطقيا تصير، بفعل عكسي محض، صيحة صادرة عن غير شعور تحت تأثير ألم حاد أو رعب مفاجئ.
والواقع أن اللغة النحوية المنظمة تنظيما منطقيا لا تستقل عن اللغة الانفعالية، فبين اللغتين تأثير متبادل. وقد رأينا أن ترتيب الكلمات في كل اللغات يتجه نحو الاستقرار، إما بأن يفرض النحو عليها ترتيبا لا يتغير، وإما بأن تكون العادة قد جرت باتخاذ ترتيب بعينه في جميع الجمل التي من نوع واحد. وهذا لا يمنع من أن يكون للانفعالية وسائل عدة للظهور في تكوين الجملة. فتارة نرانا نقذف قبل الجملة بكلمة أو بقسم من جملة، مع استئنافه بعد ذلك بواسطة عنصر صرفي، أداة كانت أو ضميرا، وتارة ندفع به إلى نهاية الجملة منعزلا عن السياق مع الإعلان عنه مقدما في بنية الجملة، وأخيرا قد يكون ذلك بفصم ارتباط الجملة بغتة وجعل نصفها التالي يسير على خطة جديدة لا صلة بينها وبين النصف الأول منها هذه الطرق المختلفة الشائعة في لغة الكلام كثيرا ما استعارتها لغة الكتابة وذلك، كلما اقتضى الأمر إحداث تأثير.
فإذا نظرنا إلى قول لابرويير la Bruyere مثلا: "رجل موهبة وشهرة، إذ كان محزونا أو صارما، أخاف الشبان" أو "أحد النبلاء، إذا عاش عيشته في مقاطعته، عاش حرا، ولكن دون سند". رأينا أن جملته مما يستطاع تسميته بالكتابة الفنية، ولكن واضح فيها أنها تتخذ طريقة بناء شائعة في لغة المحادثة1، وأيضا:"هذا السد المسكين، لقد كان على جانب كبير من الطيبة" أو: "طفل عاقل، يعطيه الإنسان كل ما يريد". وتمارس لغات كثيرة هذا التركيب نفسه. فتراه في الألمانية في مثل: "der kirchhof، er liegt wie am gage""فناء الكنيسة، لقد كان يمتد كأنه في وضح النهار". و"Die Glocke sie donmert ein machtiges eins""الجرس، لقد قصف قصفة قوية". وفي الإنجليزية منه أمثلة كثيرة. ووجوده في الفارسية القديمة أمر معروف2. ويوجد باطراد في اللغات الملايوية البولينيزية، وأخيرا في الصينية؛ فبدلا من أن يقال wo me kien kouo t'a ti fang tseu "وُو ِمَ كَِيِنْ كو ُاوَ تاتي فَنْج تسَِوُ" "لم أر منزله" "حرفيا "أنا لا رؤية له منزل"". يمكن أن يقال: t'a fang tseu wo me yeou kouo "منزله، إنني لا أره".
وواضح أن بين التركيبين في الأصل فرقا دقيقا كما يتبادر من الترجمة العربية نفسها، فالأولى مبتذلة ولا تعبير فيها، والثانية على العكس، تعبر عن لون من العاطفة إن قليلا وإن كثيرا. ولكن قد يحدث أن تفرض الثانية نفسها على الاستعمال إلى حد أن يستعاض بها عن الأولى، فتصير نحوية بعد أن كانت انفعالية. وهكذا يمكن أن يقال في الفرنسية:"Cet homme la، sa maison est belle""هذا الرجل، بيته جميل". بدلا من "la maison de cette homme est belle""بيت هذا الرجل جميل". ومن المعتاد في لغة كاللغة الأيرلندية أن يتعجل فيقال: "بيته "بتاع" هذا الرجل" بدلا من "بيت هذا الرجل". وفي الألمانية يمكن أن يقال بالاختيار: "das hans meines"
1 برينو Brunot رقم 53، مجلد 3، ص485.
2 مييه. قواعد الفارسية القديمة، ص11.
vater ist schon" "البيت "بتاع" والدي جميل" أو meines vater's Haus ist schon "والدي بيته جميل"؛ وبعض اللهجات قد بنت لها تركيبا آخر إذ تقول: meinem vater sein Haus ist schon "لوالدي بيته جميل"، ذلك التركيب الذي يجمع بين عملية التعجل "باستعمال ضمير الملك" وبين استعمال حالة الجر بدلا من حالة الإضافة في الدلالة على الملكية. بل إن بعض اللهجات الألمانية المعاصرة لا تستعمل غير هذا التركيب، ففي كوبورج Cobourg مثلا1 عبارة mein vaters Haus "بيت والدي" غير معروفة، ويقال فقط: maen fader soe haos "حيث maen صيغة الجر والنصب، وصيغة الرفع mae". وهذا التركيب الشعبي اللهجي غير مجهول في اللغة الأدبية، إذ يقدم لنا جوته Goethe بعض أمثلة منه. فتلك سنة من سنن اللغة الانفعالية دخلت في اللغة النحوية، بل إن الفصائل النحوية نفسها يعبر عنها أحيانا بوسائل اللغة الانفعالية، وإن كانت بعض هذه الوسائل تستجيب لذلك بصفة خاصة. فقد رأينا عند دراستنا لفصيلة الزمن أن فيها مكانا هاما للتعبير عن الاستغراق duree. ولكنا نعلم أن ما ندعوه الاستغراق ليس إلا المظهر aspect الذي يأخذه في اعتبارنا حدث من الأحداث أي الزاوية التي يظهر لنا هذا الحدث من خلالها. فالمسألة هنا مسألة وجهة نظر أولا وقبل كل شيء، ولما كان اختيار وجهة النظر مسألة ذاتية، كان فيها نصيب من الانفعالية. ويوجد بين الأزمان التي يعددها نحويونا زمن ذاتي بأجلى معاني الكلمة؛ ونعني به الزمن المستقبل، فإننا عندما نعبر عن فكرة وقوع حدث في لحظة ما من المستقبل، لا نقف بتفكيرنا عادة عند التحقق الموضوعي للحدث، بل نكاد نشير دائما في نفس الوقت إلى الأحوال التي نجد فيها أنفسنا حاليا بالنسبة إلى ذلك الحدث المستقبل.
على هذا النحو يوجد فرق بين المستقبل والماضي. فهذا الأخير زمن موضوعي، لأن الماضي أصبح لا يتعلق بنا وليس لنا أثر عليه، فهو كما يقال زمن تاريخي.
1 إدوارد هرمن Ed. hermann، بحوث إغريقية، جـ1 ليبسك، توبينر "1912" ص208.
والمستقبل على عكس ذلك يحمل معه جميع ألغاز غير المتوقع، ويترك مجالا لمئات ومئات من عواطف الانتظار والرغبة والخوف والأمل. فإذا قلت "سأفعل ذلك غدا" فإني، برغم تأكيدي بأن هذا الحدث سيقع غدا على يدي، أحيط جملتي بجو ذاتي يلونها في عيني أنا بألوان متنوعة إلى حد أن الجملة تئول في غالب الأحيان إلى عبارة "أرغب أن" أو "أرضى أن" أو "أخشى أن" أو فقط إلى عبارة "أعتزم أن "أفعل ذلك"" إلخ.
وتاريخ المستقبل في اللغات المختلفة يثبت صحة هذه الملاحظات1. فالزمن المستقبل كثيرا ما يعبر عنه بالإرادة أو الرغبة، يعني أن بعض عباراته من أصل انفعالي. فالصينية تصوع المستقبل بأن تلصق إلى الفعل العنصر yao "ياَؤُ""فعل الإرادة" مثل wo yao lai "وُ وَياَؤُ لَيْ""سأحضر""حرفيا: "أنا إرادة حضور""، وتقول الإنجليزية I shall do أو I will do "سأفعل""وأصلها أريد أن أفعل"، والإغريقية الحديثة استعاضت عن المستقبل القديم بتركيب تحليلي يرجع إلى الفعل الدال على الإرادة "انظر ص108". والبلغارية تعبر عن المستقبل، منذ القرن الثالث عشر، بواسطة الفعل choteti "الإرادة" حيث تستعمله فعلا مساعدا2. وتقول بعض اللهجات الفرنسية:"Il ne vaut pas pleuvoir""لا تريد أن تمطر" بدلا من "Il ne pleuvra pas""لن تمطر". ومستقبلنا نفسه، من نوع aimera "سأحب" مشتق -كما هو معروف- من المركب amare habeo "حرفيا "حبا أملك"". وفيه يشير الفعل habeo "أملك" إلى النصب الذاتي الذي يعتزم المتكلم الاضطلاع به من الحدث. فكون المستقبل يعبر عنه بصيغ لها هذه الدرجة من التنوع، وهذه الكثرة من التجدد، برهان ساطع على أن هذا الزمن يحتوي على نصيب كبير من الانفعالية "انظر الصفحات الأولى من الفصل الثالث من الجزء الثالث".
التكرار أيضا من تلك الوسائل التي نشأت في اللغة الانفعالية ثم صار.
1 مينان magnien، رقم 90 وريبزو Rebezzo رقم 227.
2 فندراك vondrak، رقم 217، مجلد1 ص178.
بعد استعماله في اللغة المنطقية، مجرد سياسة نحوية، أما أصله فيجب البحث عنه في الانفعال الذي يصحب التعبير عن عاطفة قد دفعت إلى أقصاها. وفي كثير من اللغات ينحصر التفضيل الكلي في تكرار الصيغة. فواضح هنا أن الاستعمال النحوي قد تطور من الاستعمال الانفعالي. والتكرار لم يكن في الأصل إلا وسيلة لإعطاء العبارة زيادة في القوة. "هذا جميل، جميل". ولكن هذا الوسيلة قد أفرغت شيئا فشيئا من قيمتها الانفعالية، وبدا من السائغ استعمالها للدلالة على الوفرة والتجاوز، مستقلين عن التعبير عن أية عاطفة مثل "إنه سمين سمين" بدلا من "إنه سمين جدا" وهذا هو التفضيل الكلي بحذافيره، وهو لما يزل شائع الاستعمال حتى يومنا هذا في الحبشية مثلا، وفي الإغريقية الحديثة1.
ومع ذلك فهذه الوسيلة لم تصرف في اللغات التي مثل اللغة الفرنسية مجرد وسيلة نحوية "إذ إن نحو الفرنسية يحتوي على وسائل أخرى للتعبير عن التفضيل الكلي" بل قد بقيت للتكرار فيها قيمته الانفعالية فعبارة: Il est gros gros "إنه سمين سمين" لا تؤدي بالضبط نفس المعنى الذي تؤديه عبارة il est tres gros "إنه سمين جدا". ويمكننا أن نحس الفرق بصورة أوضح من تلك إذا قارنا عبارتين مثل il n'est pas tres joli "إنه ليس وسيما جدا" و il n'est pas joil joli "إنه ليس وسيما وسيما""كأن يريد أن يقول إنه ليس وسيما تلك الوسامة التي نسميها وسامة"، فلو فرضنا أن هاتين الجملتين قيلتا بقصد التهكم لكان الإحساس بالتهكم في الحالة الثانية أشد منه في الأولى.
التكرار الذي نقابله في النظام الفعلي للغات الهندية الأوربية أو السامية ذو أصل انفعالي لا شك فيه، وهو يستعمل في هذه اللغات استعمالات عديدة، فمن أوضح استعمالاته في الهندية الأوربية الدلالة على تحقق الحدث تحققا تاما وقد نشأ المسمى بالتام المكرر parfait redouble في الإغريقية القديمة حاملا لهذه القيمة2، فكان يدل بتكرار المقطع الأول من الأصل على تأكيد يقابل
1 برنو pernot، رقم 109، ص90، 160.
2 ي. فكرناجل J. wackernagel. رقم 220.
التأكيد الذي تدل عليه صيغة الفعل من الناحية المعنوية. وتضعيف الفعل في السامية ينحصر في إطالة الساكن، أو في الاستعاضة عن الساكن البسيط بساكن مضعف "انظر ص48". والقيمة الانفعالية فيه واضحة جدا أيضا. ويقصد به الدلالة على الشدة1؛ فمن "خبط" في العربية يؤخذ خبّط "خبط بقوة" ومن كسر "كسّر" أحال إلى شظايا" إلخ. كما يوجد في الأسماء آثار لصيغة جمعية مؤغلة في القوم تقوم صياغتها على التضعيف، وأصلها الانفعالي واضح.
هذه حالات سلك فيها التعبير عن العاطفة مسلكا نحويا حيث نرى المنطق يستعير لغة الانفعال. وعكس ذلك شائع أيضا، فيوجد في كل لغة متكلمة عدد من الكلمات الصغيرة التي لم تبق لها إلا القيمة العاطفية، وحظ المنطق فيها من الضآلة بحيث قد تستعمل أحيانا ضد معناها الحقيقي بل كثيرا ما نجد إلى جانب الكلمات عبارة كاملة من هذا القبيل فيها فعل ومسند إليه ومفعول، جمل صغيرة يستطيع المتكلم، بشيء من التحليل الأولى، أن يتعرف على الكلمات التي تكونها، وهي كل يقدم للذهن انطباعا عاطفيا لا أكثر ولا أقل. ومثل ذلك في الفرنسية عبارة "PAR EXEMPLE""مثلا" التي يُدل بها على الدهشة و"VOUS SAVEZ""أنت عارف" التي يشار بها إلى الموافقة، والقيمة التعبيرية لهذه العبارات تزداد قوة بقدر ما تتلاشى فيها القيمة المنطقية، ذلك أن الانتقال من المنطقي إلى الانفعالي يحصل ببلي الأول منهما ففي بادئ الأمر كان الإنسان يرى نفسه أمام فكرة تقال له فتدهشه فيجيب:"AH! PAR EXMPLE""أه! مثلا؟ " مشيرا بذلك أنه ينتظر من محدثه مثلا توضيحيا. ثم جرت العادة بعد ذلك أن يجيب بقوله: "par example""مثلا" كلما سمع خبرا غير منتظر لا يستطاع تفسيره بذاته، ولو لم يكن في الإمكان تقديم مثل لتعضيده؛ وأخيرا حل التعجب محل الاستفهام فصار القائل يقول:"par example" كما لو كان يصدر دهشة أو شكا أو تحديا أو غضبا أو رعبا.
لم تقف اللغة عند هذا الحد. إذ إن من طبيعة صيغ اللغة الانفعالية أن تبلى
1 بركلمان Brockelmann رقم 148. مجلد 1، ص508.
بسرعة عجيبة، فلا تلبث أن يمحى منها الجزء الانفعالي ولا يبقى إلا عبارة عديمة اللون، ولغة الكلام ميالة إلى تزويد جملها بعدد كبير من الكلمات termes الخالية من التعبير والتي كأنها حشو بين الكلمات المعبرة، مثال ذلك في الفرنسية:"allez y tiens، n.htm'est - ce pas، voyez - vous، penses - tu "هيا إليه، خذ، أليس كذلك؟ أترى، أتظن" وكل منا يستطيع أن يفاجئ نفسه في محادثاته اليومية وهو يخلط كلامه بعبارات formules من هذا القبيل. هذه العبارات كانت منطقية فصارت انفعالية، وهي تنتهي عادة بأن تصير من الآليات. وآخر أطوارها هو الطور الذي تتجرد فيه مما كانت تحتوي من العنصر العقلي ومن العنصر العاطفي على السواء.
فاللغة الانفعالية تنفذ في اللغة النحوية وتسطو عليها وتفككها. لذلك يمكن أن يفسر عدم استقرار النحو بفعل الانفعالية إلى حد كبير. فالمثل المنطقي الأعلى للنحو هو أن يوجد لكل وظيفة عبارة، وعبارة واحدة لكل وظيفة. ولتحقيق هذا المثل يجب أن تكون اللغة ثابتة ثبوت الجبر حيث يبقى الرمز، منذ أن يصاغ لأول مرة، ثابتا لا يتغير في جميع العمليات التي يستعمل فيها.
ولكن الجمل ليست رموزا جبرية. فالانفعالية لا تنفك تكسو عبارة الفكر المنطقية وتلونها، إذ لا يكرر المرء مطلقا جملة واحدة بعينها مرتين، ولا يستعمل كلمة بعينها مرتين بنفس القيمة، لأنه لا يوجد مطلقا واقعتان لغويتان تتماثلان تماثلا تاما. ويرجع السبب في ذلك إلى ظروف دائبة على التعديل من أحول انفعاليتنا.
الفصل الخامس: التغيرات الصرفي ة 1
النظام الصرفي في كل لغة حية لا يثبت على حال، ويمكننا أن نكون فكرة عن ذلك من الحقائق المذكورة في الفصول السابقة. بل إننا حتى إذا كنا ندرس لغة ميتة وحاولنا أن نقيم نظامها النحوي بعض الشيء رأينا فيها عددا من الشواذ ومن المتناقضات وذلك رغم استقرارها على يد النحاة. لسنا نتكلم عن "الأخطاء" الفردية التي تند أحيانا عن أقلام الكتاب مهما بلغ حرصهم، ولكن كل نظام صرفي فيه مواضع نقص لا تخلو منها أية لغة ولو كانت من أشد اللغات تثقيفا. ففي كل قاعدة من قواعدها شواذ لا يبررها منطق. وقصاري القول إن النظام الصرفي لدى كل متكلم يحمل في نفسه من أسباب التغيير بقدر ما يحمله النظام الصوتي.
ولكن الطريقة التي يتم بها التغير في أحد النظامين تختلف عنها في الآخر. فالتغيرات الصرفية إنما تصيب الكلمات لا العناصر الصرفية، وذلك على عكس التغيرات الصوتية التي قد تصيب الأصوات مستقلة عن الكلمات "انظر ص64". ولا يرجع ذلك فحسب إلى أن العناصر الصرفية تكون في أغلب الأحيان جزءا لا يتجزأ من الكلمة، بل يرجع ذلك على وجه الخصوص إلى أن السبب في التغيرات الصرفية ليس في الكليات العقلية، بل في استعمال اللغة لهذه الكليات.
تنبعث التغيرات الصرفية دائما عن استعمال قد وقع، ومن ثم كانت محدودة الامتداد، فليس النظام إذن هو الذي يتغير، كما هي الحال في بعض التغيرات
1 انظر مييه: تطور الصيغ النحوية "رقم 42 "سنة 1912"، ص384".
الصوتية، وإنما الذي يتغير هو عنصر من عناصر النظام فحسب، وفي استعمال واحد من الاستعمالات.
الفرق بين المسلكين يظهر في نتائجهما، فالتطور الصوتي عام شامل لا يترك وراءه بقايا، إذ أنه يستبدل حالا جديدة مكان حال قديمة "انظر ص66". أما التطور الصرفي فيندر أن يشمل جميع الحالات التي يؤثر فيها؛ فهو يدع إلى جانب الصيغ الجديدة التي يستحدثها عددا كبيرا من الصيغ القديمة التي تستمر في الاستعمال. وهكذا تترك كل حلقة من حلقات التطور الصرفي بقايا لها. فبالرغم من أننا قد استعضنا في الفرنسية بالمصدر courir "الجري" عن الصيغة القديمة courre، لازلنا نقول chasse a courre "صيد بالجري" كما لا تزال نستعمل مصادر من أمثال rompre "يكسر" أو moudre "يطحن". وجمع chacal "ابن آوى" على chacals لم يمنع من جمع cheval "حصان" على chevaux. وقد بقينا نقول في مضارع dire "القول" المسند إلى جمع المخاطب vous dites "أنتم تقولون" ولكنا نقول vous predisez "أنتم تنبؤون" و vous contredisez "أنتم تتناقضون"، في حين أن vous cotrefaites "أنتم تزيفون" قد بقيت متفقة مع vous faites "أنتم تعملون". ونقول أيضا I' Hotel Dieu "المأوى، الله""بمعنى مأوى الله" و le monument Victor Hugo "المؤسسة فكتور هيجو "أي مؤسسة فكتور هيجو"" و la rue Gambetta "الشارع غمبتا "أي شارع غمبتا"" على حين نستعمل حرف الإضافة في غير ذلك فنقول la maison de Dieu "البيت "بتاع" الله" و les poesies de Victor Hugo "الأشعار "بتاعة" فكتور هيجو" و la politique de Gambetta "السياسة "بتاعة" غمبتا"، إلخ. فاللغة لا تكاد تشعر بنفسها، وهي على كل حال لا تشكو من هذه المتناقضات.
يسود التغيرات الصرفية اتجاهان عامان: الأول مبعثه الحاجة إلى التوحيد
ويميل إلى إقصاء العناصر الصرفية التي أصبحت شاذة، والآخر مبعثه الحاجة إلى التعبير ويميل إلى خلق عناصر صرفية جديدة.
إقصاء العناصر الصرفية الشاذة يكون بردها إلى القاعدة، أي أن الحاجة إلى التوحيد تقنع بطريقة القياس1. ويطلق القياس على العملية التي بها يخلق الذهن صيغة أو كلمة أو تركيبا تبعا لأنموذج معروف. فالطفل الذي يقول j' ai li "قرأت" على مثال j' ai ri "ضحكت" بدلا من j' ai lu أو يطلب إقصاءه من المائدة بقوله: deproche - moi "أقصوني" بناء من approcher "يقرب" يخلق صيغتين قياسيتين2. والقياس هو الذي يقود الجاهل الذي يريد أن يظهر بمظهر من يحسن الكلام إلى أن يقول: فلان يبني من فلانة قياسا على: فلان يتزوج من فلانة.
الحقيقة أن القياس أساس لكل صرف، فالإنسان يتبع القياس دائما في كلامه، وما جداول التصريف والإعراب التي تذكر في كتب النحو إلا نماذج يطلب إلى التلميذ محاكاتها. فأنا أعرف أن المستقبل من finir "إنهاء" je finirai "سأنتهي"، وإذن فاليوم الذي يقابلني فيه مصدر ينتهي بـir مثل crepir "التجميد" و polir "الصقل" وأحتاج إلى استعمال المستقبل منه لا أتردد في أن أقول: je crepirai "سأجعد" و je polirai "سأصقل" ولكني لو واصلت السير في هذا الطريق وبنيت المستقبل من venir "المجيء" على je venirai، لكنت قد خلقت خلقا قياسيا يأباه الاستعمال. ومع ذلك فالتاريخ يخبرنا أن بعض المبتكرات التي من هذا القبيل انتهت بالانتصار، فقد ظل الناس زمنا طويلا يقولون: je tressaudrai "سأرتعد" و je defaudrai "سأخور" من المصدرين tressaillir "الارتعاد" و Defaillir "الخور"، واليوم يبنى
1 انظر هنري Henry، رقم 82، وجيل Giles رقم 132، ص58؛ وهـ. أورتل H. Oertel رقم 127، ص150 وهـ. بول H. Paul، رقم 188، ص96؛ وقارن مييه رقم 9، مجلد 2، ص860.
2 وهذه الأمثلة تقابل ما نسمعه من بعض الأطفال في القاهرة حيث يقولون كرة أحمرة أو أصفرة بدلا من حمراء وصفراء طردا للقاعدة القياسية. المعربان.
المستقبل منهما على الصيغة المطردة: je defaillirai، je tressaillirai. فقد قضى أثر التصريف المطرد بوجودهما.
غير مفيد، والصيغ التي يقصيها القياس صيغ عليلة، بمعنى أنها غير مضمونة من الذاكرة لندرة استعمالها. والقياس لا يستطيع التغلب إلا عند ضعف الذاكرة. فالصيغة الشاذة النادرة الاستعمال تنسى وتصاغ من جديد تبعا للقاعدة المطردة.
يخلق الأطفال في مرحلة تعلمهم للغة عددا كبيرا من الصيغ الجديدة، وذلك باستجابتهم لداعي القياس. ولكن الجزء الأكبر من هذه المبتكرات يصلح فيما بعد، لأنها في غالب الأحيان ليست إلا عوارض فردية، ناتجة عن حس غير صائب، أو عن معرفة ناقصة باللغة. ولكن بعضها ينطبق مع الحس اللغوي العام انطباقا يجعلها تنتهي بالاستقرار. وقد يحصل أن يتجه فجأة جميع الأفراد من جيل واحد إلى الوقوع في غلطة بعينها تفرض نفسها عليها كأنها قانون وتصير قاعدة. وعندئذ يصبح كل مجهود يقوم به المدرس في المدرسة عبثا. وهناك تراكيب بادية الخطأ شائعة الاستعمال حتى بين المثقفين، ويكاد الإنسان يدهش حين يعلم أن النحو قد سلم بها.
النحو كثيرا ما يكون في صراع مع الحس الطبيعي للغة. ففي الأقطار التي يطغى فيها أثر النحاة لا تستسلم اللغة لفعل القياس إلا بصعوبة، إذ تخنق المبتكرات القياسية في مهدها ولا تستطيع الحياة. فهذه يجب لتغلبها أن تكرر غالبا وبصورة مطردة. وتقابل عندنا في الاستعمال اللغوي في القرن السادس عشر حيث لم يكن عمل النحاة قد بلغ من الاتساع والفاعلية ما بلغه منذ ذلك الحين عددا كبيرا من الأخطاء التي لم تستطع أن يكون لها قوة القانون1. فكان رابليه Rabelais يقول: je finois بدلا من je finissais "كنت أتمم"، ولكنا لم نحتفظ إلا بهذه الصيغة الأخيرة. وعلى العكس من ذلك استطاعت لغتنا الحاضرة رغم النحاة أن تفرض استعمال بعض التراكيب التي ظلت مردودة حتى هذا الحين. فكل الناس يقولون: je m'en rappelle "أتذكره""حرفيا "استحضر منه إلي"" بدلا من je me le rappelle "أتذكره""حرفيا "استحضره إلي""، وأصبح ذلك التركيب المتبرر: de facon a
1 برينو Brunot؛ 57 مجلد 2.
ce que "بصورة أن""حرفيا "بصورة إلى أن"" تقال بل وتكتب بدلا من de facon que "بصورة أن". ويجب علينا أن نقرر، رغم أنفنا أن هذه الأخطاء تسير مع اتجاه اللغة الطبيعي.
ومع ذلك فهناك صيغ تثبت أمام القياس، ومن أجل ذلك تسمى بالشاذة، إذ يحتوي نحو كل لغة من اللغات على قدر يزيد أو ينقص من الأسماء والأفعال الشاذة. وتسمى أيضا بالصيغ القوية في مقابلة الصيغة الضعيفة أو العليلة التي تستسلم للتنظيم الذي يفرضه القياس. هذه الصيغ القوية تبقى خارج القاعدة. وتدين بمقاومتها إلى شيوع استعمالها الذي يبقي عليها حية في الذهن ولا يطيق لها تغييرا. وهي تفرض نفسها بخصائصها الفردية، وإن كانت هي نفسها في أغلب الأحيان غير جديرة بأن تصير مثلا وأن تتخذ أساسا لعمل قياس. وهكذا كانت أشيع الأفعال استعمالا من الأفعال القوية بوجه عام في جميع اللغات، أي من الأفعال الشاذة. وفعل الكينونة أكثرها شذوذا لأنه أوسعها استعمالا، فالمقابلة بين IL EST "يكون" و ils sont، "يكونون" موغلة في القدم، وتذكرنا في الصورة التي تعطيها إياها الكتابة على الأقل بمسلك للتصريف الهندي الأوربي لم تحتفظ به الفرنسية إلا هنا، وكان في اللاتينية بقايا من هذا النوع في أفعالها الكثيرة الاستعمال أما الفرنسية فلم يبق فيها إلا فعل الكون "etre" الذي لا يبدو أن هناك ما يهدد شذوذه.
ليس معنى ذلك أن الصيغ القوية لا تستسلم للوهن مع الزمن. ففعل الكون في كثير من اللغات تبدو عليه آثار من عمل القياس عدلت من تصريفه، فصيغة الشخص الأول jestem "أكون" في البولونية قد عدلت على غرار الشخص الثالث Jest "يكون"؛ ولكن هذا العمل محدود على وجه العموم ولا يعوقه فعل الكون عن الاحتفاظ بمظهره الشاذ في مجموعه. واللغات الغنية بالتصريف القوي كالألمانية، أمامها مجال واسع للاحتفاظ به زمنا طويلا؛ لأن الصيغ الشاذة يسند بعضها بعضا. أغلب الظن أن اللغة تقضي على بعض هذه الصيغ شيئا فشيئا لتردها إلى القاعدة. إذ يمكننا أن نقيد قائمة كاملة بأفعال قوية صارت
ضعيفة في القرون الأخيرة، وعددها في زيادة دائمة؛ لأن الصيغة الضعيفة التي تدخل في الاستعمال بجانب صيغة قوية تنتهي بالتغلب عليها، فبعض اللهجات تقول: ich verlierte "هكذا بالتصريف الضعيف""فقدت" بدلا من ich vetlor "بالتصريف القوي"، ich sprangte "وثبت" بدلا من ich sprang "وثبت" و ich fangte "أخذت" بدلا من ich fing و gefangt "مأخوذ" بدلا من gefangen. أما الحاضر الإخباري والأمر فقد انتهيا من تسوية تصريفهما في كثير من الأفعال، فالآن لم نعد نقول من: fliegen "السرقة" du fleugst "تسرق" er fleugt "يسرق" ولا من lugen "الكذب" du leugst "تكذب" er leugt "يكذب"، ويقال في بعض اللهجات nam "خذ" و half "ساعد" بدلا من nimm و hilf. وفي منهيم Mannhiem يقال: ich geb "أعطي" و du gebsch "تعطي" و er gebt يعطي بدلا من ich gebe و du gibst و er gibt1. وفي الإنجليزية حيث أثر القياس كان أشد عملا لا يوجد إلا عدد محدود من الأفعال القوية، هذا إلى أن ذلك العدد في تناقص مستمر، إذ نقرأ في Pickwick papers نقرأ على لسان مزخرف نزل هوايت هارت "he know'd nothing about parishes":white Hart "بدل knew" "إنه لا يعرف شيئا عن الدوائر القسسية"، وكذلك the ghost "بدل when he saw"؛ ven he seed "عندما رأى الشبح "، إلخ. ومع ذلك فهذه الأفعال من أكثرها دورانا على الألسن.
وأحيانا يعمل القياس عمله داخل تصريف بعينه، ففي الألمانية يقال في المفرد wurde "صار" بدلا من ward، قياسا على الجمع wurden "صاروا" وقد تم توحيد التصريف في الماضي غير التام الألماني في وقت مبكر، وكانت الغلبة فيه لحركة الماضي بوجه عام. إذ يقال wir warfen "كنا نرمي" قياسا على ich warf "كنت أرمي""في الألمانية العليا القديمة wurfum، warf"؛ wir zogen "كنا نحدث" قياسا على ich zog "كنت أحدث"
1 بهاجل Behaghel. رقم 144، ص247.
"في الألمانية العليا القديمة: zoh، zu gum". وإذا كان الزوج: ward و wurden قد بقي إلى يومنا هذا فمرجع ذلك إلى أهمية الفعل werden "يصير" وإلى كثرة استعماله، وإذا كان الزوج: wurde، wurden قد خلق على هذا النحو مشتملا على نهاية الأفعال الضعيفة في حالة المفرد، فذلك تحت تأثير الأزواج: hatte، hatten "كان يملك، كانوا يملكون" و wollte، wollten "كان يريد، كانوا يريدون" و musste، mussten "كان يلزمه، كان يلزمهم" إلخ"، وهي أفعال تستعمل في بعض الأحيان أفعالا مساعدة. وليس معنى ذلك أننا لا نجد في تاريخ اللغات الجرمانية صيغا قياسية من نوع wurde. ففي الألمانية العليا القديمة، عندنا من الفعل beginnan "يبتدئ" الماضي غير التام bigonda أو bigunda "كان يبتدئ" وذلك إلى جانب bigan الأقل منهما استعمالا. ومن fundan "يجد"، تستعمل السكسونية القديمة الصيغة funda "كان يجد" في الماضي غير التام إلى جانب fand، كذلك تستعمل الإنجليزية القديمة funde في المفرد قياسا على الجمع fundun. ومع ذلك فخلق wurde جاء مستقلا عن هذه كلها. فكل حالة من الحالات الناشئة من أثر القياس تستدعي علاجا مستقلا؛ وإذا أردنا أن نفهم معنى القياس وجب أن نبحث عن النقطة التي يبدأ منها صدوره.
نقطة البدء هذه تنحصر دائما في شكل من الصيغ موجودة في اللغة. وليس مدار الأمر هنا حول تنفيذ خطة كاملة يسعى العقل إلى تحقيقها على خطوات متتابعة. نعم. قد يكون من نتيجة العمل القياسي في بعض الأحيان التقليل من عدد الصيغ الشاذة، أي إضعاف النوع القوي، ولكن ذلك ليس قاعدة مطردة، فقد يحدث أن بعض الأفعال القوية تفرض نفسها إلى حد أن تتخذ نماذج وتجذب إليها بعض الأفعال الضعيفة. وفي أغلب الأحيان توجد بواعث خاصة لتبرير القياس وقد وقع ذلك أكثر من مرة في الألمانية حيث يشتمل التصريف القوي على فصائل عديدة واضحة الحدود، فالصيغة: ich frug "سألت" من fragen ابتكار قياسي قديم، وإن كان في سبيل الفناء، غير أننا نجد في لهجات عدة
ich jug "صدت" من jagen، و ich kuf "اشتريت" من kaufen، إلخ. فهذه الأفعال دخلت في الفصائل المطردة للأفعال القوية، وعلى العكس من ذلك في الإنجليزية كما في الفرنسية ليست الأفعال القوية في الحقيقة إلا شواذ، وإلا مستثنيات منعزلة لا تكون نظاما يستطيع أن يؤثر على المتكلم، غير أنه قد يحصل أن تدخل هذه الأفعال الشاذة في مجاميع تتكون كل منها من فعلين أو من ثلاثة، فتقوى وتتساند بذلك، ومثال ذلك في الفرنسية الفعلان pondre "يبيض" و tonre "يجز" اللذان لم يكن بينهما أية صلة في الأصل "أصلاهما اللاتينيان tondere، ponere ينتسبان إلى نوعين مختلفين من التصريف" ولكنهما أصبحا يتبعان طريقة واحدة في التصريف، وكل ذلك ليس له من المنطق إلا حظ يسير. "فالعقل، وطبعه عدم الثبات، لا يتابع سيره في خط مستقيم. لماذا؟ لأنه يسعى لاقتناص الأقيسة؛ لأنه -وهو الذي لا يأبه للصلات الحقيقية بين الأشياء- يجري وراء علاقات خارجية، وهو في مسيره هذا لا يعرف دائما أين يذهب". هذه الفكرة لجان بول Jean Pual "في Tegebuch؛ 9 أغسطس 1782" يمكن تطبيقها على العملية التي ندرسها هنا، وأغلب الظن أن مرجع ذلك في الأصل الاتجاه إلى جعل الصيغ المختلفة صيغة واحدة، وهذا الميل نفسه يرجع إلى كسل طبيعي في العقل، ولكن هذا الميل إلى التوحيد لا يعد ميلا إلى التخصيص كما قيل في بعض الأحيان، إذ إن التخصيص قاعدة منطقية تقضي بأن يعبر بعلامة واحدة عن كل وظيفة نحوية وأن تعبر كل علامة عن وظيفة نحوية واحدة، وهو نوع من التطبيق المثالي للنحو على المنطق، ولقد رأينا فيما تقدم ما يمنع من تحقيق هذا المثل الأعلى، فالعقل لا يغير مطلقا نظامه الصرفي تغييرا كاملا، ولا يوجه مجهوده في الوقت الواحد إلا إلى جزء من النظام يعد جد ضئيل. ولما كان الأثر الواقع منه على الأجزاء المختلفة لا تقوده مطلقا إرادة منفذة لخطة منهجية، بل كان تابعا لوحي المصادفة والظروف المختلفة، كانت النتيجة في مجموعها خالية على وجه العموم من الترابط والتجانس.
وتاريخ الزائدة ER في الألمانية من أقوى الأدلة على ذلك1. فهذه الزائدة التي يتميز بها عدد كبير من جموع الكلمات المحايدة ليست في حقيقة أمرها إلا لاحقة عممها القياس. ذلك أن بعض الفصائل المحايدة في الهندية الأوربية كانت تتميز باللاحقة ES التي نعثر عليها في اللاتينية "في صورة ER" في إعراب الكلمات من فصيلة GENUS "جنس" وجمعها GEN-ER-A إلخ. ففي الألمانية التي فيها يتغير حرف الصفير أيضا في مثل هذه الحالة إلى R، وجدت الكلمات المحايدة التي من هذا القبيل مزودة بنهاية جديدة ER وذلك بعد سقوط النهايات القديمة، وهذه النهاية الجديدة قد استطاعت أن تجعل الجمع مختلفا عن المفرد، ومن ثم صارت علامة مميزة للجمع. فهي إذن كانت زائدة قوية التعبير تحرص اللغة على ألا تفقدها، فمدتها بطريق القياس على عدد كبير من الكلمات المحايدة التي لم تكن في الأصل من الفصائل المحتوية على ES، فقياسا على KALB "عجل" التي تجمع على KALBER والتي تنتمي إلى فصيلة ES أمكن أن يجمع HAUS "بيت" على HAUSER و BUCH "كتاب" على BUCHER و FASS "برميل" على FASSER و GLAS "كوب" على GLASER و GELD "نقد" على GELDER و WORT "كلمة" على WORTER ومع ذلك فقد بقي عدد لا بأس به من الكلمات المحايدة التي تجمع على غير ذلك من MASS "مقياس" وجمعها MASSE و ROSS، "حصان" وجمعها ROSSE و AUGE "عين" وجمعها AUGEN، إلخ. ومن جهة أخرى نعثر على الزائدة ER في بعض الكلمات المذكرة مثل: RAND "حافة" وجمعها RANDER و GOTT "إله" وجمعها GOTTER و WURM "دودة" وجمعها WURMER، إلخ. ومعنى ذلك أن القياس لم ينجح في إعطاء الزائدة التي خلقها وظيفة واحدة.
وما الرأي في اللغات الصناعية المبنية على خطة منطقية قد وضعت مقدما، هذه اللغات غير ممكنة الوقوع إلا إذا كانت لغات خاصة: لغات فنية أو لوائح علامات. ففي هذه الحال يكفي الاتفاق بين الأشخاص المعدودين الذين يستعملونها
1 شتريتبرج STREITBERG، رقم 210، ص103.
للاحتفاظ بها كما خلقت دون تغيير، ولكن لا ينبغي لها أن تصير لغات حية؛ لأنها حينئذ لا تلبث أن يعتريها التغيير، فتنشأ بين الصيغ خلافات في القيمة، وتتغلب بعض الصيغ على بعضها الآخر، ويعمل قانون القياس عمله، وتحل الفوضى محل النظام الجميل. فالصيغ ذات الغلبة تصير مراكز إشعاع قياسي، وتجذب إليها غيرها من كل جانب لأسباب متنوعة، بعد ذلك توجد خطط قياسية متضاربة متقاطعة، لا يستطيع عقلنا القاصر أن يوفق بينها، ذلك أن اللغة المثالية حلم من الأحلام. تذكرنا ببستاني بذر في بقعة منظمة الأرجاء بذورا متماثلة كل التماثل وأخذ يولي كلا منها قدرا متماثلا من عنايته أملا منه في أن تنبت حديقته أشجارا متساوية الحجم تجري على نظام واحد وتثمر عددا متساويا من الأزهار والأثمار، بل إن هناك كثيرا من الأسباب التي تجعل الظروف البيولوجية تحيد عن سمتها، ومن هذه الأسباب ما يعلو على قدرة الإنسان؛ وكذلك الحال في اللغويات التي يقف فيها القياس في غالب الأحوال موقفا مغايرا للمنطق، على الرغم من أنه ينبعث من الحاجة إلى التوحيد ويستخدم التعليل العقلي بطريقة ترضي العقل1.
الحاجة إلى التعبيرية كالحاجة إلى التوحيد من الحاجات التي لا تسد، ولكن العقل بسعيه إلى سدها يصلح من البلى الذي يلحق بالصيغ، وبالتالي يغير الصرف.
في أثناء التطور الصوتي للغة من اللغات، تتآكل بعض العناصر الصرفية حتى تصبح غير صالحة للاستعمال، بل قد تبتر في بعض الأحيان بترا تاما. وعندئذ يجب ترميمها أو إحلال غيرها محلها. فإذا كانت اللغة من اللغات المعربة كاللاتينية وكانت الإصابة فيها واقعة على نهايتها "انظر ص88" وجب أن يتناول الترميم الإعراب بأسره. فالبقايا الصرفية التي يبقي عليها فعل القوانين الصوتية يندر أن
1 راجع عن اللغات الصناعية كوتورا وليو GOUTURAT ET LEAU، رقم 60 ورقم 10 سنة 1908، ص716، سنة 1911، ص509، وسنة 1912، ص1. انظر أيضا مجلة الجمعية الفلسفية الفرنسية، سنة 1912، ص47-84. وانظر مناقشات BOUDOUIN DE COURTENAY للاعتراضات التي أثارها ترجمان ولسكين BRUGMANN ET LESKIEN. في ZUR KRITIK DER KUNSTLICHEN WEITSPRACHEN. ستراسبرج "1907" ومجدها في رقم 34. مجلد 4، ص385، وقارن رقم 22، ص365.
تكون على درجة من التعبيرية تجعلها صالحة للبقاء على ما هي عليه؛ لذلك نرى إعراب الاسم يختفي شيئا فشيئا في اللاتينية العامية في القرون الأولى من التاريخ المسيحي. ولم يبق منها من كل أنواع الإعراب إلا المخالفة بين الفاعل والمفعول التي بعثت بعد ذلك بفضل عملية القياس. كذلك تصريف الفعل في اللاتينية الحديثة يدين بمقدار كبير إلى القياس. والعلامتان الفرنسيتان ONS، EZ اللتان تميزان جمع المتكلم والمخاطب نتيجة لامتداد قياسي. كذلك الزائدة ISS في التصريف FINISSONS "ننتهي" و FINISSEZ "تنتهون" و FINISSAIS "كنت أنتهي" ليست إلا اللاحقة اللاتينية ISC الدالة على الابتداء والاستمرار، قد أخذت من بعض الأفعال وطبقت على هذه الفصيلة من التصريف وصارت رمزا لها. والزائدة U في أسماء المفاعيل EU "مملوك""قديما EVU" و VU "مرئي""قديما VEU" و LU "مقروء" و TENU "ممسوك" و ROMPU "مفصوم"، إلخ قد جاءت من نهاية اسم المفعول اللاتينية utus، وهي صيغة نادرة الأمثلة في اللاتينية ولكن كان من اللازم في كل هذا إصلاح ما فقد بفعل البلى الصوتي، فأسماء المفاعيل القديمة Habitus و uisus و lectus و tentus و ruptus إلخ، لم تظهر أو ما كان يمكن أن تظهر في الفرنسية في صورة خالية من التعبير الصرفي، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى الامتداد القياسي لنهاية معبرة.
ولكن كل ذلك لم يكن كافيا، ولقد كان من العسير محاولة مد جميع الفصائل النحوية بالتعبير بمجرد إنعاش التصريف اللاتيني بتطعيم قياسي؛ لذلك تدخلت عملية أخرى تنحصر في زيادة أهمية الحروف وفي التوسع في الأداة وفي استعمال الضمائر، وبالاختصار في خلق نظام بأسره من الكلمات المساعدة تستعمل استعمال العناصر الصرفية؛ لذلك نرانا اليوم نقول la soeur "الأخت" و de la soeur "بتاع" الأخت" و a la soeur للأخت "أو" إلى الأخت" أو je lis "أقرأ" و tu lis "تقرأ" و il lit "يقرأ" بينما كان اللاتينيون يقولون: soror و sororis و sorari و lego و legis و legit1.
1 ومعنى هذا أن اللغة الفرنسية تستعمل أدوات في حالات تستعمل فيها اللاتينية علامات الإعراب. المعربان.
وأصل التركيب الفرنسي موجود في اللاتينية على وجه التأكيد حيث تختص الحروف مثلا باستعمالات عديدة، بل وكثيرا ما تستخدم لشد أزر علامات الإعراب، غير أن a "إلى، ل" و de "من أو "بتاع" في الفرنسية رمزان نحويان يخلوان من كل قيمة ذاتية على عكس ad "إلى، ل" و de "من" في اللاتينية فقد احتفظتا بقيمة ظرفية واضحة. ومع ذلك فإن ad و de كانتا في اللاتينية عنصرين صرفيين منذ زمن طويل.
لم تكتف الفرنسية بالحروف اللاتينية، فاضطرت إلى خلق حروف جديدة ففضلا عن التراكيب الظرفية أو الحرفية اللاتينية من مثل dans "في" و apres "بعد" و sous "تحت" و avec "ب" إلخ، استعملت كلمات أخرى موجودة في اللغة، فأخذت chez "عند" من الاسم اللاتيني cosa "بيت"؛ وما زلنا نجد في بعض الأقاليم الفرنسية أسماء أماكن من مثل chez، chez Rolland، pierre "بيت بيير وبيت رولاند". كما أن بعض أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات قد صارت حروفا حقيقية، مثل: pendant la nuit "أثناء الليل، أو في الليل" و vu les circonstances "نظرا للظروف "حرفيا منظورة الظروف"" nonobstant la defense "رغم الدفاع "حرفيا: الدفاع غير مانع"" excepte le dimanche "عدا الأحد""حرفيا: الأحد مستثنى"". و malgre la pluie "رغم المطر "حرفيا: مرغم المطر""، sauf erreur "عدا الخطأ" و plein la rue "ملء الشارع "حرفيا ملئ الشارع"". ونجد حالات مماثلة في عدد كبير من اللغات. فالتعبير عن حالة الإضافة يدل عليه في بعض لغات الهند الحديثة "كالسنغالية مثلا" بواسطة العنصر ge "ج" وهو العبارة المكانية السنسكريتية القديمة grhe "في البيت" وذلك كما لو قلنا في الفرنسية le livre chez pierre "الكتاب عند بيير" بدلا من le livre de pierre "الكتاب "بتاع" بيير" والزائدة الإعرابية المجرية vle التي يعبر بها عن الآلة والتي يمكن ترجمتها بالحرف الدال على الآلة "ب" مشتقة من
كلمة مستقلة قديمة في حالة مفعول الآلية، وهي vayl أو vayd "بقوة، بواسطة". وفي الإنجليزية تعتبر الكلمات التالية حروفا حقيقية: concerning "خاصا بـ" و past "بعد "حرفيا: ماض"""half past two""الساعة اثنتان ونصف. "حرفيا: نصف بعد اثنتين"" وفي الألمانية الكلمتان trotz "برغم" و betreffend "خاص بـ" وفي الدنمركية الكلمة undtagen "ما عدا" إلخ.
كل هذه الكلمات صارت "كلمات فارغة" بالمعنى المعروف في الصينية "انظر ص116". ذلك أننا إذا تركنا عملية القياس جانبا نجد الصرف يستعيض في الواقع عن خسائره بتحويل الكلمات المليثة إلى كلمات فارغة. فالأدوات النحوية التي تستعملها اللغات ليست إلا بقايا من كلمات مستقلة قديمة، أفرغت من معنها الحقيقي واستعملت مجرد موضحات أي مجرد رموز.
وفي الألمانية: man sagt "كما في الفرنسية تماما"، وفي البريتنانية: neuz ket den "لا يوجد أحد"، وفي الأرمينية marth egav "هل جاء أحد؟ " وقد تعبر عن المعرف:"في الغالية: y gwr "هذا الذي، الذي"".
الأفعال التي تسمى بالأفعال المساعدة كلمات مفرغة أيضا. ففي الإنجليزية فعل to do "يفعل" تستعمل أداة نحوية للاستفهام مثل do you see "هل ترى؟ " وللنفي مثل I do'nt see "لا أرى" وتستعمل الألمانية الفعل Thun "يفعل" استعمالا مشابها، في بعض اللهجات على الأقل مثل: er tat schiessen "أطلق "عيارا ناريا"" en tut sich wenden "استدار". والأفعال التي تستعمل أفعالا مساعدة هي غير الأفعال في كل اللغات بوجه عام. ففكرة "Vouloir""يريد" أو devoir "يجب" تميل دائما إلى التعبير عن العرضية، عن الاستقبال "انظر ص199"، وفكرة "tenir""يشغل" و"accouper""يحتل" تستعمل للدلالة على الحدث المنتهي، ومن ثم التام. ومن هنا جاء في الإنجليزية I will go "سأذهب" و I shall find "سأجد" وفي الأرمينية الحديثة: bidi anem "سأفعل" وفي الفرنسية: j' ai conquis "افتتحت" و ich habe gedacht "فكرت" في الألمانية
…
إلخ. وإذا كنا في الكتابة نفصل الكلمة الفارغة عن الكلمة المليئة التي تصحبها، فتلك عادة كتابية محضة.
يوجد في الفرنسية حالات تم فيها التحام الكلمتين، فصارت الكلمة الفارغة لاحقة من اللواحق. ففيها المستقبل والشرطي J' aimerai "سأحب" و je lisais "
…
"ل" قرأت" وهما مأخوذان من تراكيب لاتينية متأخرة مثل: legere habebam و amare habeo. وظروف الحال عندنا تتكون بواسطة اللاحقة ment مضافة إلى الصفة، وهذه اللاحقة ليست شيئا آخر غير صيغة مفعول الآلية mente من كلمة mens "عقل". ونجد في اللاتينية منذ القرن الأول قبل الميلاد استعمالات لكلمة mente تعلن عن هذه الوظيفة، وظيفة التعبير عن الحال مثل: constanti mente و Obstinata mente و Liquida mente "كاتول
فذلك الشيء نفسه قد وقع في الفرنسية بالنسبة لأداة النفي. ونحن نعرف إلى أي حد تسري عدوى النفي إلى الكلمات التي تلامسه. فالكلمات aucun "لا أحد" و Personne "لا أحد" "وذلك في صدد النفي ومعناها في
1 بول شوري paul shorey، رقم 20، جـ5 "1910"، ص83.
الإثبات: "شخص"" DU TOUT "بالمرة" من خير المثل في الفرنسية لما حدث في الإسبانية للكلمة NADA "لا شيء" "من: REM NATAM" ففي الفرنسية قيل في النفي أولا: JE NE VOIS POINT "لا أرى نقطة" je ne mange mie "لا آكل كسرة" و je ne marche bas "لا أمشي خطوة" je ne bois goutte "لا أشرب قطرة" إلخ. ففي كل هذه الجمل يعبر عن النفي بالأداة ne "لا" أما الكلمات المعمولة "المفاعيل: نقطة، كسرة
…
إلخ" فإن معنى الجملة نفسه يبرر وجودها. غير أن قيمة النفي سرت في هذه المعمولات إلى حد أن أماتت قيمتها الحقيقية وصارت الكلمة، بعد أن أصبحت نفيا، تستعمل مع أي فعل لنفي أي حدث "أي ولو لم يكن فعل الرؤية أو الأكل أو
…
إلخ" بقي من هذه الكلمات كلمة Pas "أصل معناها: "خطوة"" وكلمة point "أصل معناها "نقطة"" تستعملان أداتي نفي، ولكنهما لا يستويان في الاستعمال، أما goutte "أصل معناها "قطرة"" فقد بقيت في عبارات معدودة je n'entends goutte" لا أسمع مطلقا "حرفيا: لا أسمع قطرة"" je ce vois goutte "لا أرى مطلقا "حرفيا: لا أرى قطرة"" و mie "فتات، كسرة" اختفت تماما من لغة الكلام، ولكن الناس استمروا زمنا طويلا يقولون: je ne dors mie "لا أنام مطلقا "حرفيا: لا أنام كسرة"" و je ne souffle mie "لا أتنفس مطلقا "حرفيا: لا أتنفس كسرة""، وقد كان ذلك يصبح مستحيلا لو أنه بقي في شعور المتكلم شيء، مهما كان قليلا، من المعنى الحقيقي لهذه الكلمات.
قبل أن تصير الكلمة مجرد لاحقة، تتفرغ من معناها الحقيقي شيئا فشيئا وبطريقة غير محسوسة. ويمكننا أن نلاحظ الطريقة التي يتم بها هذا العمل في اللغات التي لا زالت تمارس التركيب بصورة عادية. فقد صاغت الألمانية مثلا عددا كبيرا من الكلمات المركبة بواسطة كلمة mann "رجل" مثل: Bergmann "معدن "عامل مناجم"" و Dienstmann "فاعل "العامل الذي يشتغل في الأعمال اليدوية"" و fuhrmann "حوذي" و kaufmann "تاجر"
وكذلك الحال مع كلمة Frau "امرأة" فيقال Hausfrau "خادمة" و Waschfrau "غسالة". فهذه كلمات مركبة تركيبا حقيقيا وتحس على أنها كذلك. غير أن وجود كلمتي Mann "رجل" و Frau "امرأة" منعزلتين يجعل السامع يحس التركيب بعض الشيء. وكون الكلمات التي يدخلان في تركيبها تجمع بواسطة Leute "ناس" فيقال: Dienstleute "فعله" و kaufleute "تجار" يقوى هذا الشعور. ومع ذلك فمن المؤكد أن عناصر التركيب تلك ليس لها في العقل نفس الأهمية فالنبر الذي يقع على أول العنصرين يقلل من شأن الثاني بالنسبة للأول، والنبر هنا يسير مع المعنى أولا وقبل كل شيء. ذلك أن العنصر الأول هو عنصر الكلمة الدال، وقيمة الثاني قيمة صرفية على وجه الخصوص. فنحن في الفرنسية نترجم الكلمات Bergamann "عامل مناجم" و Fuhrmann "حوذي" و Kaufmann "تاجر" بالكلمات mineur و voiturier و negociant، أي بوضع لاحقة بسيطة مكان الطرف الثاني من المركب الألماني، لاحقة لها نفس القيمة التعبيرية. أغلب الظن أننا لا نستطيع أن نقول بأن العنصر الألماني Mann لاحقة، ولكنه صائر إليها، ولعله يصير مع ذلك بكل ما تتميز به اللاحقة، فالعنصر الأول يجذب إليه التفات العقل كله، والثاني يقنع بدور لا يكاد يزيد عن دور اللاحقة1.
نعثر في الألمانية على لواحق عدة خلقت بهذه الصورة. فقد كان يقال في الألمانية العليا القديمة ni scouuous the heit manno"؛ non respicis personam hominum""إنجيل متى 22/ 15" ثم أخذت كلمة heit تدخل في التركيب، مثل: man-heit "الإنسانية" vip-heit " النسوية، النساء". وأخيرا أصبحت اليوم لاحقة من أشيع اللواحق "Mansch-heit "الإنسانية"، Schonheit "الجمال" إلخ". ويمكننا أن نجد نفس الطريقة إذا تتبعنا نشأة اللاحقين lich أو tum. فالأولى اسم قديم معناه "جسم، شكل" ولا يزال محتفظا به حتى اليوم في Liechnam "رمة" و Leichdorn "جسم في القدم
1 جانسمان Ganzmann: رقم 164، ص26.
"كالو""، ونجده في gleich "الذي له نفس الشكل، مشابه"، وصار لاحقة في صورة lich في weiblich "الذي له صورة المؤنث" و leiblich "ما له صورة محببة"، إلخ. واللاحقة tum نجدها اسما مستقلا في القرن التاسع في قصيدة أتفريد otfrid "في صيغة duam "حدث، وظيفة""؛ ثم قيل rihhiduam "امبراطورية"، "يعبر عنها الآن بـreichtum"، ثم على سبيل التوسع، Deutschtum "الألمانية" و yankeetum "الأمريكانية" إلخ. ونعثر على هذا الاتجاه بعينه في الإنجليزية القديمة حيث نجد wefhad "النسوية" تقابل vip-heit في الألمانية القديمة، و cynedom "اليوم kingdom" تقابل konigtum "الملكية" و woroldic "اليوم worldly" تقابل weltlich "دنيوي".
الكلمات التي صارت لواحق بعد أن أفرغت من معانيها الحقيقية، أخذت قيمة تجريدية جعلتها قابلة للتعبير عن فصيلة صرفية. فبعضها مثلا يعبر عن الصفة، وبعضها عن الحالة: بعضها يميز أسماء الحدث، وبعضها أسماء الفاعلين. هذه القيمة التجريدية لا تمنعها بعد أن نشأت من أن تتلون بألوان من العاطفة. فاللاحقة ard التي أخذتها الفرنسية من الجرمانية حيث تستعمل عنصرا ثانيا في بعض أسماء الأعلام المركبة "Richard، Eberhard، Bernhard"، هذه اللاحقة اتخذت في الفرنسية دلالة تهكمية؛ هذه الدلالة نشأت بعملية القياس، ولكن بعض الكلمات نجت من هذا القياس "مثل buvard "نشاف" foulard "منديل" فاحتفظت فيها اللاحقة بقيمتها العامة التجريدية التي لا يخالطها أي لون انفعالي. وهذا يدل على أن هذا اللون الانفعالي طارئ.
الميزة الحقيقية للكمة الفارغة هي التجريد. فكلما أوغلت اللاحقة في صيرورتها كلمة فارغة، زادت قيمتها التجريدية إلى حد أن بعض دوال النسبة تنتهي إلى أن تصير مجرد رموز جبرية لا يمكن ترجمتها إلى لغة أخرى، وهذه حال
هذه الفقرة تسحب إسكانر؟؟؟؟؟؟؟؟
عندنا مثال من خير الأمثلة التي تلخص عمليات تكوين دال النسبة، وذلك في أداة الاستفهام الفرنسية ti "تي".
جاستون باري Jaston paris أول من لفت الأنظار إلى أهمية هذه الأداة الكثيرة الاستعمال في اللغة المعاصرة1. فعبارة il aime "يحب" "وتنطق إيلَيم" "المسند فيها الفعل إلى ضمير الغائب المفرد إذا جعلت استفهاما كانت تصير في الفرنسية الوسطى aime-il؟ "هل يحب؟ "وتنطق: إيميل"" وكانت تستعمل على هذا النحو حتى أوائل القرن السابع عشر. وتحت تأثير جميع الغائب الذي ينتهي فعله بحرف التاء "ils aiment "يحبون" وتنطق إيلزيم؛ aiment-ils؟ "هل يحبون؟ " وتنطق إيمتيل" أقحم حرف التاء في صيغة المفرد عند الاستفهام لحفظها من الفناء الذي ينجم عن عدم التعبيرية. ومن ثم جاءت aime-t-il "إيمتيل" التي هي نتيجة لخطوة أولى في التوسع. غير أن الغائب مفردا وجمعا قد صار بهذه الوسيلة مميزا في حالة الاستفهام بالنسبة للشخصين الآخرين. فإن التاء لا توجد إلا في صيغة الاستفهام -إذ إن النطق في غيره em إيم "ils aiment، il aime" دائما في كلتا الحالتين- فصارت هذه التاء في الواقع علامة للاستفهام حرمت منها الأشخاص الأخرى "aime-je""هل أحب"، aimons-nous "هل نحب"، aimet-tu "هل تحب" aimez-vous "هل تحبون". وأصبح المفرد المتكلم" "aime-je" في حالة نقص بين هذه الأشخاص بسبب ظروف صوتية، بل أصبح مبعدا في بعض الأحوال إبعادا واضحا وذلك في مثل "cours-je "هل أجرى؟ " و lis-je "هل أقرأ؟ " و pars-je "هل أنطلق؟ " و sers-je "هل أخدم؟ "، إلخ، وتعرض شخصان آخران، هما aimons-nous "هل نحب؟ " و aimez-vous "هل
1 رقم 18، مجلد 6، ص438، وقارن مجلد 7، ص599.
تحبون" للالتباس بصيغة الأمر من الفعل المطاوع ولذلك فقدا جزءا كبيرا من قيمتها التعبيرية وقد كان ذلك ربحا لصيغة الشخص الثالث الاستفهامية التي أصبحت بها واضحة مع قصرها، ثم صار يستعمل أيضا مع الفعل مسندا إلى الظاهر مثل: pierre aime-t-il? "هل بيير يحب؟ " يزيد على ذلك أن نهاية الجملة il "إيل" صارت تنطق i "إي" تبعا لعملية صوتية معتادة "قارن coutil "نوع من النسيج" و nombril "سرة" و persil "بقدونس""وفيها جميعها لا تنطق اللام الأخيرة" فانقطعت بذلك الصلة التي تربطه بالضمير "il aime "إيليم"، aime-ti? "إيم تي" أو كان ذلك على الأقل في حالة ما إذا كان الفعل يبدأ بحرف حركة. وعلى ذلك صار يأخذ شيئا فشيئا قيمة عنصر مستقل أصبح خاصا بمعنى الاستفهام. وأخيرا ساعد على انتشار ti "تي" الاستفهامية وأكد نجاحها الميل الطبيعي في اللغة الفرنسية لوصل الفعل بضمير الفاعل بعروة وثيقة لذلك تقل الحالات التي يفصل فيها بينهما شيئا فشيئا: فبدلا من أن يقال je ld dis "أقوله" و tu le sais "تعرفه" "بالفصل بين الفعل والفاعل بضمير المفعول يقال في لغة الكلام je dis ca "أقول ذلك" و tu sais ca "أنت تعرف ذلك". وهكذا أصبحنا نتوقع اللحظة التي لا يفصل فيها بين الفعل وبين الضمائر: Je "أنا" و tu "أنت" و Il "هو" و nous "نحن" و vous "أنتم" و ils "هم". ومن ثم صارت دلالة القلب "يعني تقديم الفعل وتأخير المسند إليه" على الاستفهام تتناقض شيئا فشيئا. وأصبح العنصر ti "تي" pierre، aime ti? "بيير، أيحب؟ " من أبسط العبارات وأنسبها في الدلالة على الاستفهام، فعممت في il aime-ti? "هل يحب؟ " ثم في j'aime-ti؟ "هل أحب؟ " و tu aimet-ti "هل تحب؟ " nous aimons-ti "هل نحب؟ " ces enfants s'aiment-ti "هؤلاء الأطفال، هل يحب بعضهم بعضا؟ " دون تغيير في نظام الفاعل والفعل الذي تتمسك به اللغة تمسكا قويا.
فأداة الاستفهام ti "تي" تدين إذن في انتشارها إلى سلسلة من خطوات التوسع القياسي، ساعدتها في كل واحدة منها ظروف خاصة فأصبحت اليوم
رمزا تجريديا ذا صبغة عامة، إذ إنه يطبق على أنواع الجملة الاستفهامية كلها دون تمييز، وذلك هو رمز الاستفهام الوحيد الذي كانت اللغة الفرنسية في حاجة إليه.
وقد رأينا كيف وصلت إلى خلقه وبأي قدر من المهارة المرنة الملحة قد خلقته.
ولم يكن في الفرنسية تقاليد كتابية، ولو لم تكن اللغة تتلقى وتكتب اليوم على نحو ما يفعل بلغة قوم متبربرين، ما أتيح لنا أن نرى الأداة ti تفصل عن الفعل الذي يسبقها. ولصرنا نكتب كلا من العبارتين: j.htm'aime-ti "هل أحب" و j'aime-ti pas "ألست أحب" في كلمة واحدة هكذا Jemti "جِمَتِي" jemtipa "جَِمْتيبا" ولاعتبرت أداة الاستفهام وكذلك أداة النفي عنصري بناء أي لاحقتين على قدم المساواة مع اللواحق وعلامات الإعراب في الإغريقية واللاتينية. ولفقدنا كل وسيلة للكشف عن أصل ti "تي" أو pa "با"، ولاعتبرناهما أداتين نحويتين مجردتين من كل معنى ذاتي.
ولعل الإعراب في الهندية الأوربية والسامية إنما نشأ من إلصاق عناصر مستقلة التكوين إلى الأصل، وهي عناصر كانت تحوم حوله ثم التحمت به على مرور الزمن1. ولكنها نجهل نقطة البدء التي تصدرت عنها. ولعله من العبث أن نحاول البحث عن الصيغة والدلالة البدائيتين لعلامة الإسناد في المتكلم الجمع أو مفعول الأداة، أو عن لاحقة الفعل الدال على الابتداء فالاستمرار أو الاسم المجرد. ولكن يمكن التأكيد بأن هذه العناصر التصريفية نتجت من امتداد قياسي لكلمات قديمة مستقلة، بعد أن شوهت تشويها قليلا أو كثيرا، ونزلت إلى حد الاقتصار على أداء دور الأدوات النحوية. فالنظم الصرفية لا تتجدد بغير هذه الوسيلة.
1 انظر خاصة هرت Hirt رقم 30، مجلد 17، ص36 وما يليها، وكذلك هـ. أورتي H. oertei وا. ف. موريس E.F. morris في:
A'm examination of the theories regarding the nature and origin of Info-European inflexion.
"رقم 22، مجلد 16، ص63-122".