الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: النظام الصوتي وتغييراته
عدد الأصوات اللغوية الممكنة يكاد يمتاد إلى ما لا نهاية. وليس هناك من آلة موسيقية تساوي الجهاز الإنساني في تنوع الأصوات التي يصدرها. ولكن اللغات بعيدة عن أن تستعمل في وقت واحد جميع المصادر التي في حوزة الكلام. وعلى العكس من ذلك فإن الأصوات المستعملة في كل لغة محدودة العدد.
لسنا في حاجة إلى العقول بأننا لا نستطيع إحصاء الأصوات المستعملة في لغة ما بعد الحروف الموجودة في أبجديتها. فكل لغة فيها من الأصوات أكثر مما في كتابتها من العلامات. تلك حال الفرنسية والإيطالية والإنجليزية والألمانية. ومع ذلك فإن عدد الأصوات في أية لغة لا يكاد يتعدى الستين عادة، بل يمكن أن ينزل عن ذلك نزولا محسوسا.
هذا الرقم ليس مما يشير الدهشة، فإنه يفسر بداهة بتنوع الأصوات في الجهاز الإنساني، تلك الأصوات التي لا يمكن استعمال عدد كبير منها في لغة واحدة دون أن تسبب مشقة لمن يتكلمها هذا إلى أن من بين الأصوات الممكنة ما يستبعد بعضه بعضا بسبب تكوين أعضاء النطق.
في كل لغة ترتبط الأصوات بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، فهي تكون نظاما متجانسا مغلقا تنسجم أجزاؤها كلها فيما بينها، هذه هي أول قاعدة من قواعد الصوتيات، وهي ذات أهمية قصوى، لأنها تثبات أن اللغة لا تتكون من أصوات منعزلة، بل من نظام من الأصوات.
أولئك الذين يمارسون لغات أجنبية يشعرون جيدا بوجود نظام لغوي خاص بكل لغة. وعندما ينتقلون من إحداها إلى الأخرى لا يشغلون أنفسهم، لحظة النطق بكل كلمة، بوضع أعضائهم الوضع الذي يناسب الأصوات المكونة لهذه
الكلمة، وإلا لتعذر عليهم الكلام بسلاسة تعذار تاما: بل يكف في اللحظة التي ينتقلون فيها من لغة إلى أخرى أن يزودوا أعضاءهم بنوع من التوجيه العام مرة واحدة. وإذا كانت اللغة التي يتكلمونها أليفة لهم، حصل في أعضائهم بصورة غير شعورية، نوع من التحول يجعل جميع الأصوات الصادرة تصدر على طريقة اللغة الجديدة. فمثل المتكلم بعدة لغات مثل لاعب الهرمونيوم الذي يستطيع بنقله للمشط أن يخلع على جميع الأصوات التي يخرجها قيمة خاصة. ويحس هذا الانتقال من التعب الذي يعانيه الإنسان بعد أن يتكلم شطرا من الزمن لغة لما يعتد التكلم بها تمام. لأن الأعضاء تكون قد فسرت على أوضاع جديدة تستلزم جهودا عضلية جديدة أيضا. وإذا طالت هذه الممارسة التي تفرضها عليها فإنها تعجل بإتعاب هذه الأعضاء. وأولئك الذين يودون محاكاة نطق أجنبي في كلامهم بلغتهم هم، يعرفون كذلك أنه يكفيهم الحصول على الأثر المطلوب بما يمكن أن يسمى بالتحول الصوتي؛ فما دام هذا التحول قد وقع فعلا أمكن قراءة صفحة من الفرنسية وقد بدا عليها طابع النطق الإنجليزي أو الألماني. وجود النظام الصوتي نتيجة لقانون من التوازن، إذ ينشأ بين جميع الأعضاء التي تتعاون على التصويت نوع من الاتفاق الذي بمقتضاه يميل كل واحد منها بالوضع الذي يتخذه إلى أن ينسجم مع أوضاع الأعضاء الأخرى. بل إن الاتفاق لا يقتصر على وضع الأعضاء، وإنما يتعداه إلى الاتفاق العضلي، فبعض الأصوات مثلا يلزم لنطقها نفس أكثر مما يلزم للأخرى، أو يتطلب مجهودا أعظم من حركات الأعضاء الصوتية. هذا إلى فروق الكمية ترتبط بها عادة فروق طابعية.
في الفرنسية تختلف الفتحة "a" والضمة التي ترسم "o" في الطابع بوجه عام حسب اختلافهما في الطول والقصر: فلنلاحظ مثلا اختلاف النطق بين patte، pate وبين cotte، cote؛ وبين sotte و saute إلخ
…
ويوجد في الألمانية فرق مشابه بين الـe القصيرة والـe الطويلة، وبين الـo القصيرة والـo الطويلة: هكذا في Reh، stehen في مقابلة retten، stelle أو في Boden sohn في مقابلة Kommen و Gott إلخ. ويجري الحال على هذا المنوال في كثير من اللغات.
النظام الصوتي يعيد كل البعد من أن يكون ثابتا طوال تطور لغة من اللغات. ويستطيع الإنسان أن يفهم ذلك بسهولة إذا فكر في الصورة التي ينتقل بها وفي الشروط التي تمسك عليه توازنه.
يستقر النظام اللغوي في السنين الأولى من العمر. ويظل سليما طول الحياة، إذا صرفنا النظر عن الحوادث العرضية التي قد تصيب الأعضاء. ولكن تحصيل اللغة لا يقع دفعة واحدة. ففي أثناء هذه السنين الأولى التي لها أهمية عظمى في نشوء الكلام يختزن الطفل يوما بيوم وبشكل مستمر الكلمات التي يجتهد في إبرازها كما حفظها. فليست الأصوات هي التي يتعلم النطق بها، بل يتعلمه بالكلمات أو بمجموعات من الكلمات. وإذن يجب على أعضائه أن تخضع للنطق بتراكيب من الأصوات قد تكون في بعض الأحيان على درجة كبيرة من التعقيد. وقلما يصل إلى الصواب من أول خطوة، بل عليه أن يراجع الكرة مرارا مصححا نطقه على نطق الأشخاص الذي يكلمونه حتى يعتقد أنه قد وصل تماما إلى محاكاة ما سمع. والصورة التي يتخذها نهائيا في ختام تعلمه هي التي تكون نظامه الصوتي، وهو بقيمة على تحسسات متتابعة واستبعاد للأصوات التي التقطها في صورة خاطئة وبما يكسب أعضاءه من مرونة قصد الوصول إلى نطق كامل1. بعد ذلك يتم له تنفيذ الحركات في صورة آلية. فهناك ذاكرة للأعضاء يمكن أن تقارن بذاكرة أصابع لاعب البيانو التي تنتقل بين الأزرة بصورة آلية كلما وقعت عينه على النغمات المسجلة فوق الصحيفة.
انتقال النطق من جيل إلى جيل غير متصل، بمعنى أن الطفل مضطر إلى حفظ كل شيء. وأغلب الظن أن استعدادات الطفل الموروثة تلعب دروها في هذا التعلم. ولكن يمكننا أن نقدر دون عناء العوارض التي يمكن أن تعرض لسلامة النطق في كل جيل. فمن النادر جدا أن يكون نظام الطفل الصوتي بعد أن تنتهي مرحلة التعليم مماثلا تماما لنظام والديه. بل إن من علماء الصوت من يذهب إلى أن ذلك لا يقع مطلقا.
1 انظر المؤلفات التي ذكرناها في نهاية الفصل السابق ومعها ا. مييه رقم 9 ج 1 ص311 وج 2 ص860.
في هذا اللعب بالحركات المعقدة الذي يكون النظام الصوتي، قد يحدث لأحد الأعضاء أن يبالغ أو أن يقصر في أداء عمله ولو بقدر ضئيل، أو قد يعرض لعضلة شيء من التراخي أو الإبطاء في إخراج إحدى الحركات، أو قد يعرض لها على العكس من ذلك زيادة في القوة أو السرعة. ومن ثم يجيء الاختلاف في النظام الصوتي بين جيلين متتابعين. هذا الاختلاف قد يضؤل وقد لا يثير لدى السماع أي تغير محسوس، ومع ذلك فهو خطير النتائج لأنه لا يبشر بشيء أقل من انقطاع التوازن في النظام. هذا إلى أن الاختلاف قد يلحظ بوضوح في بعض الأحيان: الطفل ينطق مختلفا عن أبوبه، فيحل سلسلة جديدة من الأصوات محل السلسلة التي كان يملكها أبواه. وهكذا نرى الطفل الذي يضغط بطرف لسانه على قمة أصول الأسنان بدلا من الضغط على الأسنان نفسها يصدر سلسلة الأسنانيات الإنجليزية ت t ود d بدلا من السلسلة الفرنسية.
هذا النوع من التغير الصوتي يقدم لنا عدة صفات على جانب من الأهمية. فهو أولا غير شعوري. فالطفل الذي يتقدم لسانه إلى مدى بعيد أو إلى حد غير كاف لا يلتفت إلى ما يقع فيه من إسراف أو نقص. يعتقد أنه يقوم بنفس الحركات التي يقوم بها أبواه مع أنه يخالفهما. فعدم شعورية التغيير هو الذي يفسر لنا استمرار لأن الطفل قد يسعى إلى تصحيح خطئه لو أنه شعر به.
يزيد على هذا أن التغير مطلق، ومعنى ذلك أنه يتحقق في سورة تامة لا مرد منها، فليست المسألة خلقا اختياريا يضيف إلى النظام عنصرا جديدا، بل إنها مسألة تحول في عنصر موجود. هذا التحول يفترض أن الطفل قد عجز عن تكرار الصوت المسموع تكرارا مضبوطا. بل إنه لما يلفت النظر أن الصوت الذي استبدله به غيره يصير أشق الأصوات الغريبة على النظام وأعسرها على من يريد النطق به. وليس أصعب على فرنسي اليوم من نطق اللام المائعة بعد أن فقدوا هذا النطق.
وأخيرا فالتغير مطرد، بمعنى أنه يتم في اتجاه محدد بالتغيرات السابقة. هذا الطابع يفسر بطبيعة العناصر التي يقوم عليها توازن النظام. يوجد في كل نظام
صوتي عناصر غالبة تسود غيرها. فيمكن دائما، إذا أريد وصف نظام للهجة ما، إرجاع كل تفاصيل هذه اللهجة إلى بضع قواعد عامة من وضع اللسان وشدة النفس والمجهود العضلي
…
إلخ. هذه القواعد العامة ذات قيمة مؤقتة ما دام النظام الصوتي يتغير إن قليلا وإن كثيرا من سن إلى أخرى، ولكنها ما دامت موجودة فإنها تكون أساس اللغة وكأنها بمثابة هيكلها العظمى. فإذا ما نظرنا إليها باعتبار توالي العصور رأينا أنها تنبيء عن اتجاهات اللغة. ومن هنا نلاحظ، إذا فهمنا حالات اللغة التاريخية المتتابعة، أن التغيرات التي تبدو في حالات اللغة المتأخرة كانت توجد أجنة في حالاتها السابقة.
المثال الكلاسيكي الذي يذكر عادة لاطراد التغيرات الصوتية هو "الاستبدال المباشر للسواكن" في الجرمانية، ذلك الذي يسميه الألمان Lautverschiebung1 وتلاحظ هذه الظاهرة في لغات أخرى غير الجرمانية مثل الأرمينية والأوسية2 وتنحصر نقطة البدء في هذا الحذف في الفرق بين النطق مع إغلاق الحنجرة والنطق مع فتحها "انظر ص58".
إذا اعتاد شعب على النطق مع الفتح الحنجرة كما يفعل الجرمانيون، تعرضت الانفجاريات المجهورة والمهموسة لسلسلة من التغيرات ناجمة عن التأخر في وضع الذبذبات الحنجرية في حالة الحركة "انظر ص59" فمن جهة لما كان تذبذب الأوتار الصوتية لا يبدأ بعد الحبس مباشرة في مجموعه مثل با ba أو دا da، صار جزء من الساكن مهموسا، سواء أكان هذا الجزء صغيرا أم كبيرا. وأخيرا ينتهي هذا الميل بتحويل المجهور كله إلى مهموس. ومن جهة أخرى في مجموعة مثل تا ta وبا pa، يوجد بين انفجار الانفجاري وإنتاج الفتحة التي تليه وقت طويلا أكان
1 التفسير الذي نثبته هنا هو الذي يقول به عامة علماء اللغة الفرنسيين لهذه الظاهرة "مييه: رقم 95 ص27، جوتيو: رقم 6 مجلد 11 ص192، فندريس: رقم 99 ص130". ولكنه ليس رأي الجميع؛ ف. فونت: رقم 223ج 1 و2 ص405؛ هـ. مير: رقم 35 ج 45 ص107 وما يليها؛ هيرت: رقم 167 ص616؛ س. فيست: رقم 26 مجلد 36 ص307 ومجلد 37 ص112.
2 لغة أهل بلاد القوقاز الوسطى، ويبدو أنهم من ذرية الإيرانية الأقدمين.
المعربان.
أم قصيرا. ولكن الانفجار يترك الهواء حرية المرور. ومن هنا يجيء الميل الطبيعي نحو نحول الانفجاري إلى تنفي أو حتى إلى احتكاكي انفجاري إذا كان الانفجار على درجة شديدة من الحدة ولم تستطع الأعضاء أن ترجع مباشرة إلى وضعها في حالة الاستراحة رغم اندفاع الهواء المفاجيء باحثا عن سبيل للخروج. وعندئذ يتحول النطق إلى تها Tha، بها pha أو إلى تسا tsa وبفا pfa؛ والمآل الطبيعي للتنفسية والانفجارية الاحتكاكية أن تصير الاحتكاكية "فا وثا" إذا كان دفع الهواء يجعل الانفجار غير تام.
كلتا العمليتين اللتين عرضناهما الآن تلعبان دورا كبيرا في تاريخ اللغات الجرمانية، فبهما يجب أن تفسر كون الانفجاريات المجهورة في الهندية الأوربية يقابلها دائما مهموسات في الجرماني المشترك "في القوطية skapajn "يشكل" itan "يأكل"، وفي الألمانية العليا القديمة malken "يحلب" وذلك في مقابلة الكلمات اللاتينية "mulgeo، edo، scabo"، والانفجارية المهموسة تقابلها دائما احتكاكية، "في القوطية hilfan "يسرق"، thahan "يسكت" في مقابلة الإغريقية xyerw واللاتينية taceo". هذان وحدهما هما النوعان من أنواع الإبدال المباشر المميزان للجرمانية1. لكن الاحتكاكي الناتج من الانفجاري المهموس لا يكون مهموسا دائما، فهناك حالات يكون فيها مجهورا. وقد بين العالم اللغوي الدنمركي فرنر2 verner، أنه لا يكون مجهورا إلا في الكلمات التي لا يكون فيها المقطع التالي منبورا في الهندية الأوربية.
الواقع أن عددا من الاتجاهات الأخرى قد وجدت فاختلطت بأثر الإبدال المباشر. منها مثلا ذلك الاتجاه الذي يظهر في بعض اللغات الأخرى ويعمل على أن تصير الاحتكاكية المهموسة مجهورة إذاوقعت بين حركتين "اكتشاف فرنر لا يضيف إلى ذلك إلا بعض التصحيح". ومنها ذلك الذي ينحصر في أن
1 اعتاد الألمان، وتبعهم علماء اللغة في البلاد الأخرى في غالب الأحيان، أن يسموا قوانين الإبدال المباشر في الجرمانية قوانين جريم مع أن راسك Rask الدنمركي قد اكتشفها قبل جاكوب جريم، انظر بدرسن pedersen: رقم 230 ص52 وما يليها.
2 في مقال مشهور رقم 37 ج 23 ص97.
الاحتكاكيات المجهورة تقاوم الضعف الذي يصيبها وذلك بفضل استدراك المتكلم، فتصير انفجارية مجهورة. والحالة الثانية قد وقعت في الألمانية، فالكلمات الانجليزية thin "رفيع" و thumb "إبهام" أو thorn" "شوكة" يقابلها في الألمانية الكلمات Dorn، Daumen، dunn التي كانت تبدأ باحتكاكي قبل أن يصير انفجاريا. ولكن هذا التطور يظهر في أوضح صورة في حالة الأصوات الأسنانية، بل إنه يمتد في شكل مبعثر خارج الميدان الألماني "في الانجليزية Gold "ذهب" wild "متوحش" في مقابلة gulth و wiltheis في القوطية". في هذا الميدان يلاحظ أن نفس التطور موجود بالنسبة لبعض الاحتكاكيات الأخرى1: ففي بعض اللهجات نرى الفاء w تصير باء b إذا كانت في أول الكلمة "bas بدلا من was أو beil بدلا من weil" أو الـJ تصير g إذا وقعت بعد الراء r ferge "قائد طيارة، دليل"، scherge "جاويش"، وهما مشتقتان من الكلمتين القديمتين Scerjo و verjo".
هذه الأمثلة ترينا أنه لا ينبغي أن نعزو إلى مبدأ واحد جميع التغيرات التي طرأت على السواكن الألمانية. ولكن مما تجدر ملاحظته أن الاتجاه العام الذي يظهر في حالات الإبدال منذ ما قبل التاريخ يظل خلال جميع التقلبات الناتجة من ظروف خاصة، محسوس الأثر في تاريخ اللغات الجرمانية بأسره: فمثلا بعد أن أتمت الألمانية العليا القديمة حوالي القرن السادس بعد الميلاد إبدالا مباشرا في الساكن للمرة الثانية، ونرى الألمانية الحديثة -في الأقاليم الجنوبية على الأقل- تمهد لإبدال ثالث، وهناك إبدال جديد في سبيل التحقق في مكان آخر من هذا الميدان، أعنى اللغة الدنمركية2.
ظاهرة مثل ظاهرة الإبدال المباشر في السواكن، وهي من خير الأمثلة على الإطراد والاستمرار، ترينا في عين الوقت أن التغير الصوتي يمكن أن يمتد على مجموعة من السكان هامة في غالب الأحيان، فلا يكفي إذن لتقويم طبيعة تغير من التغيرات
1 بهاجل behaghel: رقم 144 ص201 و204.
2 براونه Braune: رقم 26 ج 36 ص564.
أن نقارن نطق طفل بنطق أبويه، يعني أن نعتبر فردا واحدا منعزلا في كل جيل. لأن التغير الوحيد الذي يعتبر في عين العالم اللغوي هو التغير الذي يظهر في كلام مجموعة من الأفراد.
التغيرات اللغوية تنتج على وجه الخصوص في الانتقال من جيل إلى جيل آخر. ولكن لا بد من التفرقة بين التغيرات الفردية والتغيرات المشتركة بين جميع الأطفال في نفس الجيل. فقد يحدث أن أحد الأطفال لا يستطيع النطق ببعض الأصوات نتيجة لاستعداد خبيث موروث، أي أن يكون عنده بعبارة أخرى نقص في النطق. هذه الحالات من النقص الفردي، في غالب الأحيان، لا تعنى غير الطبيب. وغاية ما يعني العالم اللغوي من أمرها أنه قد يستدل بها على اتجاهات اللغة. فأحيانا لا تكون هذه الأنواع من النقص في الواقع إلا مبالغة في ميل طبيعي. وفي هذه الحال يكون شأنها الأعراض من حيث إنها تعلن عن نقط الضعف في النظام، فهي ترينا في أي مكان تنهار المقاومة وفي أي اتجاه تهدد بعض الاتجاهات الجديدة أن تجر إليها اللغة. ولكن هذه الحال تتطلب من العالم اللغوي أشد الحذر ويمكن بوجه عام أن تتركه خارج دائرة البحث، فللتعرف على وجود أي اتجاه يجب أن تشمل الدراسة أكثر من فرد.
ساد شطرا طويلا من الزمن الاعتقاد بأن كل تغير صوتي إنما يصدر عن الفرد وأنه لم يكن إلا تغيرا فرديا ثم عمم. وهذا إدراك للأشياء غير صحيح. فليس في وسع أن فرد أن يفرض على جيرانه نطقا تنبو عنه فطرتهم، وليس هناك من قسر جدير بتعميم تغير صوتي. فلأجل أن يصير تغير ما قاعدة لمجموعة اجتماعية، يجب أن يكون لدى كل أفراد هذه المجموعة ميل طبيعي لتحقيقه من تلقاء أنفسهم1. بل إن سلطان المحاكاة نفسه لا يقدر هنا على شيء. فإن النطق الشاذ لا يجلب أتباعا لصاحبه، بل لا يجلب له بوجه عام إلا السخرية منه.
قد يعترض معترض بتأثير الجدة ذلك التأثير الذي لا يمكن إنكاره في بعض الحالات. فكلنا نعرف أن المجتمع الراقي في عهد حكومة الديركتوار كان يعمد
1 مييه: رقم 9 ج 1 ص311، وج 2 ص860، ورقم 2 ج 9 ص595.
إلى عدم النطق بالراء محاكاة لآل بوهارنية الذين كانوا لا ينطقون بهذا الحرف لعادة المولدين Creoles: وقد أدى ذلك إلى "بدعة الأنكوبابل" Les incroyables التي لم تستمر إلا وقتا قصيرا، ولم يبق منها إلا بعض الأساطير في الرسومات وكتب الأقاصيص. وقد عرف العالم القديم بدعا مماثلة. فألسبياد كان من عادته أن ينطق الراء لاما "أرسطوفان، الزنايير، ص44 و46"، فظن ابنه من الخير أن يحاكيه "أرشيبوس Archippos ونقل عنه بلو تارك plutarque في حياة ألسبياد، ص41". ويتهكم كاتول catulle على روماني معاصر له، اسمه Arrius، كان ينفس حرف c في اللغة اللاتينية، محاكاة اللإغريق، فيقول chommoda بالشين بدلا من commoda بالكاف.
هذه حالات استثنائية، إذا فسرت تفسيرا لائقا أثبتت صحة القاعدة إذ يلاحظ أن هذه التغيرات الصوتية لم تنته إلى نتيجة. فقد استمر الرومان على نطق الحرف c انفجاريا، وتاريخ حرف c في اللغات الرومانية لا يبدو فيه أي اضطراب من جراء البدعة التي مثلها أريوس. بل ظل النطق الشاذ لهذا المتحذلق غريبا على النظام الصوتي عند اللاتينيين نعم لقد كان من الممكن أن يستمر في بعض الكلمات المنعزلة وقتا طويلا أو قصيرا. ولكن المسألة في هذه الحال لا تكون مسألة صوتيات بل مسألة مفردات. هذا إلى أنه يجوز لنا أن نتساءل إذا لم تكن الهواية التي يسخر منها كاتول إنما هي في الواقع مسألة مفردات لا أكثر من ذلك. إذ يبعد عن الاحتمال أن يكون أريوس قد غير جميع الـC "ك" في لسانه إلى CH "ش"، أي أن يكون قد أبدل نطقا من نطق بطريقة منظمة: بل لعله أحل الشين CH مكان الكاف C في بضع كلمات ليخلع عليها طابعا إغريقيا.
مختلف عن ذلك حالة الأنكوبابل الذين أدخلوا في الفرنسية العادية، فرنسية باريس، عادة نطقية من لهجة فرنسية أخرى، هي لهجة المولدين في جزيرة المرتنيك. وإذن فإبعاد الراء من الفرنسية يبدو حينئذ مطابقا لاتجاه عام في اللغة.
على الأقل فيما يخص الراء الحلقية التي تتميز بها فرنسية باريس. واليوم نرى هذه الراء لا تحس إلا بقدر ضئيل في بعض الأوضاع، إذا جاءت بعد ساكن في نهاية الكلمة أو وقعت بين حركتين. ولعلها كانت قد اختفت من اللغة الفرنسية لولا تأثير المدرسة والكتابة التقليدية. والراء الإنجليزية التي من أصول الأسنان في طريق الاختفاء أيضا وإن كانت من مخرج آخر: فكثير من الإنجليز لا ينطقونها اليوم، وإن كانوا لا يعرفون ذلك.
جرت العادة في علم اللغة على أن يطلق على التغيرات الصوتية باسم القوانين1، مثل تلك التي تسمي قوانين "جريم GRIMM" المتعلقة بالإبدال المباشر في السواكن الجرمانية. ومن ذلك يستطيع المرءؤ أن يكون فكرة عن القيمة التي يجب أن تعطي لكلمة "قانون" هنا.
وهناك جملة ظلت شهيرة، تعلن أن "القوانين الصوتية تسير في صورة عمياء، وبحتمية عمياء "Die Lautgesetze wirkenblind، mitblinder Notwendigkeit2".
هذه الجملة التي أثارت في حينها مناقشات حادة لا تثير اليوم سوى الابتسام وأقل ما يقال فيها أنها جريئة، إذ تضفي على القانون الصوتي سلطة لا مبرر لها.
فالقانون الصوتي لا يمارس حدثا وليس "ضروريا" بالمعنى العلمي للمصطلح. وكلمة "قانون" وقد استعملت هنا على ضلال، هي التي جرت إلى الخطأ.
يسن القانون ليهيمن على أعمال الإنسان، ومن ثم كان فعله متجها نحو
1 انظر مراجع van Ginneken رقم 77 ص462، وخاصة مييه: القوانيين الصوتية رقم 9 ج1 ص311، Gibt es lautgeretze?:wechessler "هل توجد قوانين صوتية؟ " Das wesen der lautgesetze. B. Delbruck ماهية القوانين الصوتية" رقم 24 ج1 ص277-308 عام 1902، ج. فندريس: تأملات في القوانين الصوتية، رقم 99 ص115-130 عام 1902، baudouin de courtenay رقم 142.
2 هي للعالم اللغوي الألماني هرمن ستوف Hermann stoff "1890". وكان البدء في إقامة القوانين الصوتية بين سنتي 1870 و1880 بوجه عام. انظر شوخارت، رقم 204.
المستقبل: فقانون العقوبات يصفي حساب الجناة، والقانون المدني يملي على المواطنين مسلكهم. لذلك كان من الاتساع المسيء أن أطلقت كلمة قانون على الحقائق الطبيعية الناتجة من الاختبار، كما في الطبيعة أو في الكيمياء. والذي ساعد على هذا الاتساع أن العلاقات التي يكشف عنها الاختبار في هذه العلوم بين الظواهر المختلفة هي علاقات دائمة، حتى ليبدو كأن القانون، وهو تعبير مجرد عن هذه العلاقات، سابق على الاختبار وإن كان من الواقع متأخرا عنه. ولكن من إساءة الاستعمال في اللغة على كل حال أن تضفي على القانون صفة الإلزام.
إن القوانين الصوتية لا تشبه حتى قوانين الطبيعة والكيمياء. فالذي يجمع بين حالين متتابعين في لغة واحدة إنما هو رباط تخلقه وليس رباطا طبيعيا، لذلك لا يمكن أن نعرف مقدما كيف يتطور هذا الصوت أو ذاك، لأنه يوجد دائما في تطور الأصوات عدد يكثر أو يقل من العوامل غير المنظورة التي تنتج أثرها. ومع ذلك فالقانوني الصوتي، بوصفه تعبيرا عن تغير وقع في الماضي، له صفة الإطلاق، هذه الصفة نتيجة لانسجام النظام الصوتي واطراد التغيرات "انظر ص65". ولما كان التغير لا ينحصر في كلمة منعزلة، بل في آلية النطق نفسها، فإن جميع الكلمات التي تتبع آلية واحدة في النطق تتغير بنفس الصورة. هنا مبدأ القوانين اللغوية بأسره، وهذه القوانين ليست إلا عبارات تلخص هذه العمليات، وإلا قواعد من الارتباطات.
بواسطة القوانين الصوتية يمكننا أن نصوغ في بضع عبارات تاريخ الأصوات في لغة من اللغات أو أن نكشف عن سر التغيرات التي أصابتها. وإذا عرفت من اللغة كلمة يبرر القانون صيغتها، عرفت مقدما صيغة جميع الكلمات الأخرى التي تقع تحت طائلة هذا القانون. وإذا كان هناك لهجتان صادرتان عن لغة واحدة تبعا لقوانين خاصة، فإذن مظهرهما الصوتي يستبين بمعرفة هذه القوانين. وإذا عرف أن الألمانية قد أبدلت الـz "تس" من الـt "ت" القديمة الواقعة في أول الكلمة والتي احتفظت الإنجليزية بها، أمكن تفسير zahre في مقابلة tear "دمعة" ولكنا نفهم أيضا المقابلة التي بين zehn و ten "عشرة" وبين zwingen "يقسر"
و twinge "يضغط"، وبين zunge و tongue "لسان" إلخ. فالواحدة من هذه الكلمات تنبئ عن الأخرى. وقد حدث لبعض علماء اللغة أحيانا أن يبنوا باديء ذي بديء صيغة لكلمة غير موجودة، ثم وجدوا لها فيما بعد ما يبررها باكتشاف نص جديد. فالقوانين اللغوية أساس كل عمل يمس الاشتقاق. والاشتقاقي الذي يسقطها من حسابه يضيع وقته عبثا.
من السهل أيضا إثبات ما يمكن أن تقدم هذه القوانين من خدمات في دراسة اللغات الأجنبية. إذ يمكن في تعلم لغة جديدة، أن نحصل على مساعدة قيمة من معرفة قواعد الصلات التي بين هذه اللغة الجديدة واللغات التي نعرفها من قبل. وهكذا إذا عرفت أن الإسبانية تبدل من الفاء "f" اللاتينية هاء "h" عندما تكون في أول الكلمة، فإني أعرف مقدما أن hacer هي في الفرنسية faire "يعمل" و harina هي "farine دقيق" و heno هي foin "دريس" hierro هي fer "حديد و hijo" هي fils "ابن" و hoja هي feuille "ورقة" و humo هي fumee "دخان"، إلخ. وهناك في مثل هذه الأحوال نوع من الحس يقود الذاكرة بل يستعاض به عنها عند الحاجة في العثور على صيغة الكلمة مع شيء من ضمان صحتها. ومع ذلك فمجال الخطأ موجود. بل هنالك من أخطاء الكلام ما هو ناجم من تطبيق القوانين الصوتية تطبيقا خاطئا أو مبالغا فيه "من ذلك حالات المبالغة اللهجية أو المبالغة المدنية التي سنتكلم عنها فيا أواخر هذا الفصل". ففي الحالة السالفة الذكر يخطيء الإنسان إذا أراد أن يبني باديء ذي بدء اسم النار "feu" بالإسبانية اعتمادا على الصيغ المقابلة لها في اللاتينية focus والإيطالية fuoco والفرنسية feu لأن الصيغة الحقيقية هي fuego وليست huego ذلك بأن انتقال الفاء F المبدئية إلى هاء h لا يقع في الإسبانية قبل حرف u إذا تلته حركة. واللهجات الفسقونية تذهب في هذا الصدد إلى أبعد مما تذهب إليه الإسبانية فتقول في Feu "نار" huek محققة انتقال الفاء F المبدئية إلى هاء h في جميع الأوضاع1.
1انظر مييه: علم اللغة التاريخي وعلم اللغة العام، ورقم 22، "1908"، ص5.
أول ما تجب العناية به على العالم اللغوي أن يحدد بالضبط شروط تطبيق القانون ومدى انتشاره في المكان والزمان.
الواقع أن التغيرات الصوتية محدودة بالزمان: فما دام التغير قد أصاب جميع الكلمات التي تقع تحت طائلته، يصبح القانون الذي يفسره وكأنه قد نسخ. ويمكن للغة أن تخلق مركبات صوتية جديدة مشابهة كل الشبه للمركبات التي كان التغير يعمل فيها سابقا. هذه المركبات تبقي دون تغير، فيقال إنها لم تعدل واقعة تحت سلطة القانون. وهكذا يوجد في كل اللغات مزدوجات، تمثل كلمات من منبع واحد دخلت اللغة في حقب مختلفة، وتعرف أقدمها بكونها أكثر تشوبها، فهي قد عانت فعل التغيرات الصوتية التي توقفت عن العمل في التاريخ الذي دخلت فيه الأخرى. فعندنا في الفرنسية avoue1 و avocat "محام" وكذلك Loval "وفي" و Legale "مشروع قانونا" ويرجع كل زوج منهما إلى أصل لاتيني واحد. وعندما دخلت الكلمة الثانية من كل زوج منهما في اللغة الفرنسية، وكان دخولها بطريق يخالف دخول الأولى، كانت التغيرات الصوتية التي أثرت في الأولى قد كفت عن العمل منذ زمن طويل.
وقد يحدث لبعض القوانين الخاصة بالعلاقات المقررة بين بعض اللغات أن تصير في حالة نقص بسبب استعارات محدثة. ففي الألمانية تقابل السين المضعفة ss التاء البسيطة أو المضعفة في الإنجليزية إذا كانت داخل الكلمة: فكلمة besser "أحسن" تقابل better "أحسن"، كما تقابل كلمة wasser "ماء" كلمة water. ولكنا نجد اللغتين تعبران عن كلمة زيد بلفظ واحد هو butter كما نجد في الألمانية messe وفي الإنجليزية mass "عيد" في الكلمتين "lammas، christmas" وكل حالة من الحالتين تناقض القانون الصوتي السالف الذكر في اجاه مخالف. ذلك أن butter و Messe" mass" مستعارتان من اللاتينية.
1 المراد بهذا المصطلح رجل القانون الذي يعهد إليه الموكلون بمباشرة القضايا، وهو نظام متبع في القضاء الفرنسي. المعربان.
وحتى لو أننا حاولنا أن نعمل حساب الشروط التي تحرر طاقة القوانين الصوتية ومدى انتشارها وتسمح بتفسير الحالات التي ظاهرها الشذوذ على أنها أحداث طبيعية، فإننا لا ننجح دائما في تجنب جميع الصعاب، لأن منها ما هو لاصق بالطريقة نفسها. ولأن القانون الصوتي من جهة أخرى لا يعطينا إلا معلومات ناقصة عن طبيعة التغير الذي يسجل نتيجته، وليس هو بعد كل هذا إلا حلا وسطا يلخص عمليات مختلفة معقدة.
يجب في التغيرات الصوتية أن تميز تلك التي تحدث بالاستبدال من تلك التي تحدث بالتطور. فهناك تطور عندما يتحول صوت إلى صوت من تلقاء نفسه بطريق التجديد الطبيعي. ففي فرنسية الإبل دي فرانس1، نرى الـ"e" اللاتينية "فتحة مماثلة" وهي الطويلة المقفولة قد صارت على التوالي we "وي" ثم wa "تكتب اليوم oi وفقا لرسم قديم أصبح منذ القرن الثالث عشر لا يمثل النطق تمثيلا صحيحا". فنحن ننطق lwa "لوا و rwa وروا و pwar بوار" و lwar "لوار" الكلمات التي تكتب loi "قانون" و roi "ملك" و poire "كمثرى" و loir "حيوان قارض". هذا هو النطق الطبيعي في باريس. فإذا سمع هذا النطق في لهجات بعض الأقاليم النائية، فذلك ناشيء في غالب الأحيان استعارة من كلام باريس وليس تجديدا طبيعيا في هذه اللهجات. وبرهان تلك الحقيقة موجود في ذاك الكلام نفسه الذي لا يزال يحتفظ بنطقه الطبيعي في صورة أقدم عهدا أو في كلمات خاصة متفرقة: فمثلا قد نسمع في إحدى لهجات الريف. un ler "لير" بدلا من loir "لوار" إلى جانب كلمة une poire "بوار". فنطقه. "بوار" على هذا النحو من عمل المحاكاة، يعني الاستعارة2.
أهمية الاستعارة فيما يتعلق بالتغيرات الصوتية تتجلى في تكوين جميع اللغات الأدبية. فمن عمل الاستعارة ما نراه في لهجة ألمانيا الشمالية من استبدال أي ai
1 الإيل دي فرانس: مقاطعة فرنسية قديمة كانت تشمل باريس والمقاطعات المحيطة بها المعربان.
2 عن طابع الاستعارات في اللهجات انظر جرامون، رقم 7، مجلد 10، ص293 وتراشيه Terracher، رقم 124، المقدمة.
و au اوْ مكان الكسرة i والضمة u البسيطتين، فالتغير لم يقع من تلقاء نفسه. كذلك الحال عندما يعتنق السكسوني النطق الألماني العادي فيقول mussen "بالضمة الممالة إلى الكسرة" و schon بدلا من أن يقول missen "بالكسرة" و schen "بالكسرة الممالة للفتحة"، فهذا تغير بالاستبدال لا بالتطور1.
ولكن نص القانون الصوتي لا يكشف عن طبيعة التغير، فلا بد إذن من دلائل إضافية وتحقيق خاص لمعرفة إلى أية بقعة من الإقليم يكون التغير طبيعيا ناتجا من تلقاء نفسه، وإبتداء من أي حد يكون ناتجا من الاستبدال بالمحاكاة. ولعله مما يحدث غالبا في تاريخ اللغات القديمة أنه عندما يصاغ قانون صوتي يشمل جميع الإقليم فإنه يدخل تحت هذا القانون أشياء مختلفةوذلك يؤدي إلى خلط الاستبدال بالتطور عن غير قصد.
وهناك أسباب أخرى كثيرة تخفي على القانون الصوتي. فعندما نقول بأن الهاء المنفسة h أو الفاء digamma" w" قد اختفت من اليونانية فإننا نلخص في بضع كلمات تطورا في غاية التعقيد لا يعنى الصوتيات وحدها. فيجب أن نرجع إلى العرض المجمل الذي عمل مييه2 لنرى التقلبات التي مر بها نطق هذين الصوتين. وكيف ساعدت ظروف سياسية أو اجتماعية على الاحتفاظ به أو إحيائه من جديد في بعض اللهجات، وعلى استبعاده في البعض الآخر، والواقع أنه إذا كانت الهاء h المبدئية قد اختفت من لهجات اليونان الحديثة فإن تاريخ اختفائها يمتد على حقبة طويلة من الزمن، لقد اختفى النطق بهذه الهاء في يونيه آسيا وإيوليه لسبوس في زمن مبكر، ولكنا نجد آثارا أكيدة من وجودها بعد الميلاد. وأطول من ذلك الوقت الذي لزم لإختفاء الفاء w فقد فقدتها اليونية والأنيكية في فترة ما قبل التاريخ، أما في لاكونيا فقد ظلت تنطق حتى العهد الذي جمع فيه القاموس الذي نقل عنه هيزخيوس heysychius ولعلها تختفي اختفاء تاما من هذا الإقليم في يوم من الأيام، إذ يبدو أن التساكونية الحديثة ما زالت محتفظة
1 بوارو: رقم 2، مجلد9، ص613، وانظر بريمر، رقم 147، ص11، وعن اللغة الإنجليزية انظر ستورم، رقم 209، ص820.
2 رقم 93، صفحات 24، 27، 167.
بها إذ أننا نراها ننطق vanne فان "حمل""وهي الإغريقية القديمة "Faqviov" ومع ذلك فمن الحق أن اتجاه الإغريقية العام في كل لهجاتها كان يذهب إلى إسقاط هذه الهاء h وهذه الفاء معا، ولذلك حق للعالم اللغوي أن يذهب إلى أن إسقاطهما قانون من قوانين اللغة الإغريقية، رغم شذوذ التساكونية عنه حتى يومنا هذا. فصيغة القانون على هذا النحو تعبر عن اتجاه اللغة وتلخص التطور الصوتي الذي مر في الواقع بعدد من العمليات والمظاهر اختلفت باختلاف العصور والأماكن.
لعل اختبار الجزء الأعظم من القوانين الصوتية الكبيرة التي تتميز بها اللغات يقودنا إلى تقرير هذه النتيجة.
فالقوانين اللغوية التي يصوغها علماء اللغة لا تعبر إلا عن حالات وسطى، سواء أكان ذلك في الزمان أم في المكان. إذ لا يتم التحول الصوتي دفعة واحدة على رقعة من الأرض مترامية الأطراف كتلك التي تتكلم فيها الفرنسية أو الألمانية، الإغريقية أو اللاتينية. ومع ذلك ففي وسعنا أن نقرر بأن الفرنسية قد غيرت الفتحة الممالة المقفولة "e" -التي كانت في اللاتينية- إلى "وا" oi وأن الألمانية تستعمل في داخل الكلمات السين المضعفة مكان التاء t في الإنجليزية سواء أكانت بسيطة أم مضعفة. لأننا إذا رجعنا إلى القاموس واستعرضنا جميع الأمثلة واحدا واحدا بعد أن نستبعد منها بالطبع المستثنيات الناتجة من الاستعارة، لم نجد فيها واحدا فقط ينقض هذه القاعدة.
فالقانون يكاد يكون مطلقا بالنسبة لمؤرخ اللغة الذي لا يختبر إلا النتائج ولا يشمل بنظرته إلا تطور اللغة في جملته. أما من يلاحظ اللغة المتكلمة ويجوب في إقليم على درجة ما من الاتساع، إقليم يشهد نحولا صوتيا، فإنه يرى الأشياء بعين مختلفة، فإذا ما أراد أن يثبت تاريخ ذلك التطور الصوتي من حيث المكان والزمان رأي محتوما عليه أن يكتفي باعتبار فرد واحد مع مقارنته بأسلافه وأولاده المباشرين.
إذا جمعنا النتائج التي تقدمها لنا لهجات لغة واحدة في أطوار تاريخها المختلفة.
حصلنا على خط بياني مطرد لتطور كل صوت لغوي "ص65". بل حتى لو اعتبرنا المسألة من وجهة نظر جغرافية محضة وراقبنا تغيرا صوتيا. على رقعة معينة من الأرض لوجدنا خطوات هذا التطور تندرج من قرية إلى قرية.
فهناك ميل في البريتانية الحديثة نحو تغيير الصوت اللغوي المعقد الذي يرسم c'hw إلى f. وهذا الصوت يشتمل على احتكاكي حلقي مهموس متبوع بشبه حركة w "و" ينطق كما في الإنجليزية. ففي شمال المنطقة البريتانية، في ليونار، يمكننا حتى الآن أن نسمع هذا الصوت بوضوح: Chwech "ستة" و c'hwero "مر"، وفي الجنوب الغربي من هذه المنطقة، بين دوارنينز Douarnenez ورأس الراز pointe du raz، نسمع نفس الكلمتين تنطقان fec'h و fero بالفاء الاحتكاكية كما نراها في fave "فول" و faire "يعمل1".
يمكننا من الوجهة النظرية أن تتمثل خطوات التطور دون مشقة فلا بد أن الـch قد مرت أولا بخطوة التنفيس البسيط، على نحو الصوت اليوناني المقابل المسمى بالفرنسية:"esprit rude" والهاء الألمانية h. ونحن نعرف هذا الانتقال في ملفات أخرى، وفي الألمانية نفسها بوجه خاص. وفي الوقت نفسه اتجه ميل الواو w إلى أن تصير احتكاكية أسنانية شفوية لتنتهي إلى الفاء v البسيطة، وهو تغير معروف أيضا خير معرفة نستطيع أن نسميه تغيرا تقليديا، لأنه وقع في كثير من اللغات ابتداء من اللاتينية الدارجة والألمانية. ومن ثم تحولت المجموعة القديمة c'hw إلى hf. ثم عانت المجموعة الأخيرة بدورها تحولا كان منتظرا. إذ أخذ النفس المدفوع للنطق بالهاء h يوقف الذبذبات الحنجرية ويطغى على الفاء v فجعل منها فاء مهموسة F. وهذا ما وقع في الإرلندية القديمة حيث نجد المجموعة hv "الصادرة من sw س ولا من c'hw كما في البريتانية" تتمخض عن فاء f. فتطور المجموعة البريتانية chw يفترض إذن عددا من الخطوات الانتقالية، ولكنها جميعا مشروعة ومتفقة مع وقائع شوهدت في غيرها.
1 ج. لوث، رقم 8 مجلد 18، ص238 وفندريس رقم 1 مجلد 16 ص390.
فإذا تركنا إقليم الليونار متجهين نحو دوارنينيز douarnenez مارين بشاتولان chateaulin ولكرونان lacronan قابلتنا عمليا، مبعثرة في أماكن متباعدة، هذه الخطوات التي وصلنا إلى استنباطها من اعتبارات نظرية. على هذا النحو يستعيد الإنسان تاريخ اللغة في نفس المكان الذي حدثت فيه التغيرات: فينتقل إذن من c'hw إلى hw، ثم إلى hu ثم إلى ف f، والمناطق الجغرافية للأصوات تهبط إذن في درجات متتابعة. ومن العدل أن نقول بأن انتقال الـc'hw إلى الفاء f ناتج من أحد اتجاهات اللغة البريتانية الحديثة، ولكن هذا الانتقال لا يتحقق تحققا تاما إلا في جزء واحد من الإقليم، ويفترض حدوث سلسلة من العمليات المعقدة التي لا تثير إليها علم الصوتيات.
وحالات الاستثناء من التغيرات الصوتية أمر لا يستطاع تجنبه. ونحن نعرف منها عدة أمثلة كان سببها في غالب الأحيان أن كلمات دخلت اللغة بعد ما توقف تأثير القوانين التي كانت تستلزم تعديلها. فتلك مسألة استعارة ولها تاريخها في ميدان الألفاظ المستعارة. فيوجد في تاريخ جميع اللغات عدد كبير من المستثنيات ناتجة من الاستعارة، أي أنها ترجع إلى تأثيرات خارجية.
كثير منها أيضا يرجع إلى تلك التأثيرات الداخلية التي تتلخص فيما يسمونه القياس analogie. وينحصر القياس في أن التغير الذي يفرضه القانون الصوتي على كلمة من الكلمات قد يتوقف أو يعدل تحت تأثير كلمات أخرى من اللغة. فمثلا يفرض قانون فرنسي مطرد أن تصير الكاف اللاتينية c شينا ch في الفرنسية إذا كانت واقعة قبل فتحة قديمة a فتقول chien "كلب" و chevre "عنزة" و cheval "حصان" و chantre "مغن" من canem و capram و caballum و cantor. ومن كلمة eapsa اللاتينية جاءتنا كلمة chasse "صندوق معد لحفظ مخلفات الصالحين". وقد جاءنا منها، بطريق الاستعارة عن إحدى اللهجات الجنوبية، كلمة caisse "صندوق" التي دخلت الفرنسية في تاريخ كان فيه القانون الذي نحن بصدده قد توقف عمله. هذه حالة تدخل تحت ما سميناه سابقا بالتأثير الخارجي. ولكن من vincat اللاتينية "صيغة النصب من
vinco ومعناه يهزم" كان يمكن أن يقال في الفرنسية qu'il vainche "لأن يهزم" بالشين؛ فإذا كنا نقول: qu'il vainqhe بالكاف فذلك لأننا أثبتنا الانفجاري في هذا الفعل المنصوب قياسا على صيغ أخرى كاسم المفعول vaincu "مهزوم". الذي أبقي فيه على الانفجاري اطراد لأنه واقع قبل u. القياس لا يكف عن أن يصحح أثر القوانين الصوتية أو أن يعوقها. فكثيرا ما يعرقل تطور الأصوات في سيره المطرد، مما جعل عالما اشتقاقيا لامعا محبا للنظام والوضوح يقول بأنه في بعض الأحيان "تعتريه نوبات من الغضب من جراء تخريبات القياس1". والواقع أنه لا تكاد تمر عملية صوتية دون أن يصيبها منه بعض الاضطراب إن قليلا وإن كثيرا. وغالبا ما يكون معنى الكلمات هو الذي يحدث أثره. ومن هنا تولد أحداث من الاشتقاق الدارج الذي هو أيضا من "آفات" الصوتيات. وسنعاود الكلام في هذا في الفصل الأول من الباب الثالث.
يجب أن نلحق بهذا الباب حالات الإسراف في المدينة والإسراف في اللهجية2. وما يسمى الإسراف في المدنية هو المبالغة التي يؤدي إليها ولع صحة الكلام عند من يفخر بجمال العبارة. كالذي حدث أن فلاحا إيطاليا أراد أن يتكلم لاتينية روما، وكان يعرف أن حركة o الطويلة في لهجته يقابلها غالبا الـau diphtongue في لغة العاصمة فراح يقول plaustrum "بلوسترم" بدلا من plostrum و"كوْدا" cauda بدلا من coda "كودَا" و plaudere "بلودير" بدلا من Plodere "بلوديره" ذلك هو الإسراف في المدنية فحركة الـo هنا أقدم من الناحية الاشتقاقية. ولكن المدني أيضا كان ميالا بطبعه إلى المبالغة في المدنية حتى لا يتهم بالكلام على طريقة الفلاحين، فكان يستعمل عن طيب خاطر الكلمات التي ذكرناها بالنطق الذي أشرنا إليه. إذ الواقع أننا نعرف أن مثل هذه الطرائق من النطق كانت تستعمل في روما نفسها، وربما كان الناطقون بها من قدماء الرومان. فيروى أن السناتور فلوروس florus كان قد أخذ يوما
1 ا. بوما: رقم 125، مجلد 3 ص32.
2 هـ. أورتل H. oertel: رقم 137، ص148 وما يليها.
على فسبسيان vespasien أنه يقول Plaustrum فأجاب الأخير السناتور مازحا وهو يستجوبه: "تحية يا فلوْري""salue، flaure". والحق في جانب فسبسيان لأن plostrum هي الصيغة الصحيحة، أما بلَوْسترم plustrum فهي من إسراف في المدنية كما يمكن أن تكون فلورس Flaurus كذلك.
وإذا تكلم الإنسان لهجة أجنبية تعرض للأخطاء بسبب التردد في صيغة الكلمات، فمن الأخطاء الشائعة الغلو في في مراعاة الصحة، أو خطأ التطرف في الخنبلية. هذا الخطأ كان كثيرا ما يقع من الإغريق عندما يحاولون الكتابة بلغة غير لغتهم. ففي دورية المؤلفين الفيثاغورثيين يوجد الكثير من الإسراف في اللهجية: إذا لما كان هؤلاء المؤلفون "أو ناسخوهم"؟ يعرفون أن "في الأتيكية يقابل غالب الأحيان a في الدورية، فقد غيروا الـn إلى a في أحوال كثيرة يبقى فيها الحرف n في الدورية على ما هو عليه. ويمكننا من ذلك أن نتصور وقوع أخطاء كثيرة من هذا القبيل في الفترة التي فيها أخذت اللهجات اليونانية تندمج بعضها في بعض لتكون اللغة المشتركة كلما أريد الكتابة بإحدى اللهجات الخالصة. ومن الأسباب التي كانت توقع في الخطأ اختلاف الألوان في داخل اللهجة وامتلاؤها بصيغ مشتركة، فيصعب عند الكتابة التمييز بين ما هو من صميم اللهجة مما ليس منها. بل حتى الأشخاص الذي يتكلمون اللهجة منذ ميلادهم يتعرضون لأخطاء الإسراف في اللهجة.
رأينا في العرض المتقدم حالات كثيرة تصطدم فيها النزعات الصوتية المطردة مع نزعات من طبيعة مختلفة مختلفة. ولا بد أن مثل هذه الحالات قد مرت كثيرا في تاريخ اللغات، وإليها يجب أن تعزى الشواذ التي تقابلها في التاريخ الصوتي قاطبة وقد كان يحدث، على وجه الخصوص، أن يغير شعب لغته وبالتالي كانت اللغة الواحدة تتكلمها شعوب مختلفة. فتارة يفرض فاتح لغته على مهزوم. وتارة تحمل الظروف السياسية والاجتماعية شعبا من الشعوب على اتخاذ لغة جارة. ومن هنا
كانت الانقلابات السريعة الغربية في تطور بعض اللغات. لأن الشعب الذي يتخذ لغة جديدة يطبق عليها أحيانا عوائد النطق في اللغة التي تركها. وعلى هذا الأساس اضطر الدارسون إلى البحث عن تأثير لغة الجول1 في اللغة اللاتينية الدارجة التي كانت تتكلم في بلاد الجول، ولكن يجب الاعتراف بأن علماء اللغات الرومانية غير متفقين في هذه النقطة2. غير أنه من المحقق، من جهة أخرى، أننا نلاحظ وجود تطورات صوتية مشابهة في لغات شعوب مختلفة الجنس ولكنها متجاورة جغرافيا كما في الليفونية "وهي لغة فينية" والليتونية3 "وهي لغة هندية، أوربية"، وكما في الأرمينية "لغة هندية أوربية" والجورجية.
كان بعض علماء اللغات يميلون إلى المبالغة في تأثير تغيير اللغة فيجعلونه أصلا لتغيرات الصوتية الرئيسية4. والواقع أن هناك تغيرات صوتية ذاتية تنتج من انحدار طبيعي في النظام ويدعو إليها استعمال اللغة نفسه ويبررها كذلك.
دراسة تطورات اللغات تسمح لنا بأن نميز في سلسلة من التحولات الصوتية ما يرجع فيها إلى ظروف أجنبية. والعالم اللغوي الذي دأب باديء ذي بدء على معرفة النظام الصوتي للغة من اللغات في فترة من فترات تطورها معرفة عميقة، يستطيع دون مشقة أن يتعرف في التاريخ اللاحق لهذه اللغة آثار الاتجاهات الطبيعية التي كانت تحتويها اللغة بذورا في عهد سابق. هذه الدراسة تبشر بدراسة ذات قيمة عامة. فإن من ينجح في استخراج التعليمات التي تقدمها له جميع اللغات التي يعرف تاريخها، وفي تنسيقيها، يستطيع أن يحرر العمليات المطردة للتغير الصوتي. ولكن هذا العمل لم يعمل حتى الآن. ومع ذلك فأي عالم لغوي على علم بالصوتيات التاريخية لعدد من اللغات لا يكاد منذ الآن يتردد إذا ما رأي أمامه حالتين صوتيتين واردتين، في أن يقرر أيهما أسبق وفي أي اتجاه قد وقع التغير.
1 المراد بالجول هنا فرنسا القديمة قبل الفتح الروماني. المعربان.
2 ماير لوبكه Meyer-lubke رقم 181 ص170. عن تأثير اللغة السلافية على لغة رومانيا انظر دنسيانو Dansusianu رقم 66، مجلد 1 صفحة 241.
3 جيرسن: رقم 173، صفحة 79.
4 انظر خاصة jamillischeg: عن تبادل الأصوات "المسائل الأساسية لعلم اللغات الرومانية صفحة 162-191" عام 1911؛ وقارن دلبروك: رقم 153 صفحة 152.