المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: اللهجات واللغات الخاصة - اللغة

[جوزيف فندريس]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المقدمات:

- ‌تصدير: اللغة وأداة التفكير

- ‌مقدمة:

- ‌الجزء الأول: الأصوات

- ‌الفصل الأول: المادة الصوتية

- ‌الفصل الثاني: النظام الصوتي وتغييراته

- ‌الفصل الثالث: الكلمة الصوتية والصورة اللفظية

- ‌الجزء الثاني: النحو

- ‌الفصل الأول: الكلمات والأصوات

- ‌الفصل الثاني: الفصائل النحوية

- ‌الفصل الرابع: اللغة الانفعالية

- ‌الجزء الثالث: المفردات

- ‌الفصل الثاني: كيف تغير الكلمات معانيها

- ‌الفصل الثالث: كيف تغير الأفكار أسماءها

- ‌الجزء الرابع: تكون اللغات

- ‌الفصل الأول: اللغة والغات

- ‌الفصل الثاني: اللهجات واللغات الخاصة

- ‌الفصل الثالث: اللغات المشتركة

- ‌الفصل الرابع: احتكاك اللغات واختلاطها

- ‌الفصل الخامس: القرابة اللغوية، والمنهج المقارن

- ‌الجزء الخامس: الكتابة

- ‌الفصل الأول: أصل الكتابة وتطورها

- ‌الفصل الثاني: اللغة المكتوبة والرسم

- ‌خاتمة: تقدم اللغة

- ‌المراجع

- ‌أولا: المجلات

- ‌ثانيا: الكتب

- ‌الملاحق:

- ‌الملحق الأول:

- ‌الملحق الثاني:

- ‌الملحق الثالث:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌الفصل الثاني: اللهجات واللغات الخاصة

‌الفصل الثاني: اللهجات واللغات الخاصة

1:

يمكننا دائما أن نحدد لغة ما من الوجهة المكانية بمقابلتها بلغات من فصيلة مختلفة. فنحن نعرف حدود الفرنسية في الأماكن التي ترتطم فيها بالألمانية أو بالبسكية أو بالبريتانية، هذه الحدود يمكن رسمها ما بين قرية وقرية، بل في داخل القرية نفسها، كثيرا ما يفصل بين اللغتين واد من الوديان أو جدول ماء أو مجرد شارع. فيمكننا إذن أن نتكلم عن لغة فرنسية أو ألمانية أو إيطالية أو مجرية أو صربية. كل هذه اللغات يتعارض بعضها مع بعض وتجدد بعضها بعضا على وجه الدقة.

ولكنا نعاني بعض الصعوبة إذا حاولنا أن نرسم حدودا بين الفرنسية والبروفنسالية أو بين الألمانية العليا والألمانية السفلى أو بين الصربية والبلغارية. لأننا هنا لم نعد أمام لغتين من أصلين مختلفين وصلت بينهما مكانيا مصادفات التاريخ، بل أمام لغات منبعثة من أصل واحد وقد فرقت بينها ظروف تاريخية. فالانتقال بين إحداهما والأخرى انتقال غير محسوس، وليس هناك معارض جسيمة

1 عن مسألة اللهجات انظر أسكولي ASCOLI؛ L'ITALIA DIA LETTALE "اللهجات الإيطالية"، رقم 41، مجلد 8، ص99-120؛ ل. جوشا Gibt es: l'Gauchat Muandartgrenzen? "هل توجد حدود لهجية؟ "، رقم 25 مجلد 111 ص365-403. "1904"؛ تابولت Tappolet:"في أهمية الجغرافيا اللغوية" نشر في Festschrift Morf ص385 وما يليها؛ ي: هوبر J. Huber: "الجغرافيا اللغوية" رقم 3، مجلد1، ص89 وما يليها، وانظر خاصة مؤلفات الأساتذة جيليرون وبابرج وترنشيه.

أما عن "اللغات الخاصة" عامة فانظر لاش Lasch: نشرات جمعية علم الإنسان بفينا "Mitteilungen der anthrop، Gesellschaft"، فينا "1907"، فان جنيب Van Gennep رقم 14 "1908" مجلد 1، ص327، رقم 74.

ص: 309

بين لغتين وضعت إحداهما في مواجهة الأخرى، وزودت كل منهما بوسائل للتعبير مختلفة. والصعوبة تعظم وتعظم إذا أردناأن نضع حدودا بين اللهجات التي في داخل مجال لغوي واحد.

أصبح اليوم من المقرر أن الخصائص اللغوية لا ينسجم بعضها مع بعض من حيث التوزيع، وبعبارة اخرى، أن الخطوط التي تفصل بين خاصية وأخرى، ليست هي نفس الخطوط التي تفصل بين خاصيتين أخريين.

ويكفينا للتحقق مما نقول أن نرجع إلى إحدى الخرائط اللغوية لاستيضاحها. فأطلس فرنسا اللغوي1 يعطينا عن كل حالة بعينها حدودا مختلفة. ولنتخيل عددا من القرى، عشر قرى مثلا، مفرقة في إحدى المقاطعات الفرنسية في رقعة تتكون من بضعة أميال مربعة. فنرى أن سكان هذه القرى يتكلمون لغة واحدة، بمعنى أن لهجتهم تمثل مظهرا خاصا من اللغة الفرنسية، وقد نتجت تاريخيا، من تطور مستقل لنفس اللغة في مجال متصل. ولكنا نجد فروقا ذات بال بين قرية وأخرى، حتى ليمكننا أن نميز لهجةكل قرية منها بوصف مخالف لغيرها2 من حيث الصوتيات ومن حيث النحو ومن حيث المفردات. ومن النادر جدا ألا تمتد إلى حد ما خصائص إحدى هذه القرى إلى القرى المجاورة. ولكن الحدود الجغرافية لكل واحدة من هذه الخصائص على حدتها، لا تكاد تتفق إطلاقا مع الحدود الجغرافية لأي خاصية أخرى تؤخذ على حدة أيضا. فنجد مثلا بين هذه القرى خمسا أو ستا تنطق "a""فتحة" حيث تنطق القرى الأخرى "e""فتحة ممالة"، ثم نجد خمس قرى أو ستا تنطق o "ضمة مفتوحة" حيث تنظق القرى الأخرى u "ضمة صريحة". ولكن الخط الذي يفصل بين أولئك الذين ينطقون a والذين ينطقون e ليس هو الخط الذي يفصل بين من ينطقون o وبين من ينطقون u؛ فالقرى التي تمارس التغيير ليست واحدة، ومعنى ذلك أن التوزيع يختلف.

1 الأطلس اللغوي لفرنسا، وانظر جيلبيرون وروك: رقم 76.

2 جوشا: "الوحدة الصوتية في عامية إحدى القرى" نشرت في: Festschrift Morf، ص175-232.

ص: 310

يوجد مثلا في مقاطعة اللاند1 Landes بالنسبة لنطق كلمة joug "نير" أربع مناطق غير متساوية تماما، وموزعة على هذا النحو:

والتقسيم يقوم أولا على نطق "j""جـ" بدلا من y "ي" التي في أول الكلمة وثانيا على نطق iw بدلا من u. ومناطق هذا الظواهر الصوتية لا تساير بعضها بعضا. ولكنها لا تساير ظاهرة أخرى صوتية مثل ظاهرة تبادل d "د" و z "ز" التي تشطر المنطقة إلى شطرين متقاربين2: laide laize ولا تساير ظاهرة صرفية مثل ظاهرة الاقتصار على واحد من الزمنين الماضيين دون الآخر. إما الماضي البسيط "il ecrasa" وإما الماضي المركب "Il a ecrase"، تلك الظاهرة التي يكون حدها الفاصل خطا متعرجا يقطع المقاطعة بصورة غريبة3.

وإذا درسنا مفردات المقاطعة نفسها، وجدنا لاسم المستنقع "etang" أربع كلمات مختلفة "Gourgue، pesque، clote، estan" 4، وثلاثا لاسم الغراب "croque، corbe، courbas" 5" ومناطق اسم الغراب لا تساير مناطق اسم المستنقع. وإذن فتوزيع حالات المفردات فيها نفس الشذوذ الذي في توزيع الحالات الصوتية أو الصرفية.

كانت نتيجة هذه الحال أن كثيرا من علماء اللغة ذهبوا إلى أن اللهجات لا وجود لها فعند هؤلاء العلماء أن الحالة اللغوية التي تنتج من تطور اللغة لا يمكن أن تتصور إلا في مظهرين: مظهر اللغة، تلك الوحدة الشاسعة التي تئول إليها

1 مييرديه: رقم 102، ص245.

2 المرجع السابق: ص249.

3 نفس المرجع: ص199.

4 نفس المراجع: ص208.

5 نفس المرجع: ص175.

ص: 311

صور التكلم المحلية جميعها، ومظهر صور التكلم المحلية التي إليها تتفتت اللغة. هذا بصفة عامة رأي علماء اللغات الرومانية الذي قام بعرضه في صورة فائقة جاستون باريس وبول ميير منذزمن. يقول الأول:"لا يوجد أي حد حقيقي يفصل بين فرنسي الشمالي وفرنسي الجنوب، فصور التكلم الشعبية عندنا تمتد على أرض الوطن من طرف إلى آخر كأنها بساط نضحت ألوانه المتنوعة في كل نقطة منه بعضها على بعض وأصبحت درجات لا يكاد يتميز بعضها من بعض"1.

هذا أيضا هو الرأي الذي تصير إليه "نظرية الأمواج" wellentheorie ليوهان شمت johann schmidt2. فهو يقرر أن كل ظاهرة لغوية تمتد على سطح القطر امتداد الأمواج، وأن كل موجة في تقدمها التدريجي غير المحسوس ليس لها حد معين. ويستند في نظريته على دراسة اللغات الهندية الأوربية حيث الخطوط التي تفصل بين كل خاصية لغوية وأخرى لا تنطبق على الخطوط التي تفصل بين خاصيتين لغويتين أخريين، وذلك كما هي الحال في اللغات الرومانية: ولكن الأستاذ مييه قد دافع بحق عن اللهجات الهندية الأوربية2. فأبان أنه يمكننا أن نقوم بتقسيم لهجي، حتى في زمن الهندية الأوربية. وهذا التقسيم يقوم على المبدأ القائل بأن من حقنا أن نتكلم عن وجود لهجات كلما رأينا عددا كبيرا من الخطوط التي تفصل بين الخصائص، ينطبق بعضها عن بعض ولو بشكل تقربي. فهناك لهجة محددة في كل منطقة يلاحظ فيها وجود خصائص مشتركة. وحتى عندما لا يمكن رسم خطوط دقيقة للفصل بين منطقتين متجاورتين فإنه يبقى أن كلا منهما تتميز في مجموعها ببعض السمات العامة التي لا توجد في الأخرى. فالبروفنسالية والفرنسية ليستا في حقيقة الأمر إلا لهجتين من لغة واحدة. وإذا لم يكن في وسعنا أن نرسم على الخريطة خطا محددا يبين أين تنتهي الفرنسية وتبدأ البروفنسالية، فإن كلا من اللهجتين في مجموعها قد اشتملت على خصائص عديدة واضحة إلى حد يجعلنا في مأمن من الخلط بينهما.

1 دوزا: رقم 65، ص217 وما يليها، مع إشارات بالرجوع إلى شوخارت وأسكولي وجاستون باريس وب ميير. وقارن جاستون باريس: رقم 106، ص334.

2 رقم 199؛ وقارن برجمان: رقم 31، مجلد1، ص226 وما يليها.

ص: 312

يمكننا أن نوجد في داخل المجال الفرنسي نفسه تقسيما لهجيا باختيار بعض السمات الخاصة التي تكفي لتمييز اللهجة. فالفرنسية البيكاردية تمتاز عن فرنسية الإبل دي فرانس باحتفاظها بالـC الانفجارية "ك" التي صارت صوتا صفيريا "ش" في المجال الفرنسي. فتقول البيكاردية kar، kamp، keval بدلا من cher champ، cheval. نعم إن هذا المقياس النافذ في التمييز بين البيكاردية والفرنسية ليس صالحا كما أبان بول ميير، للتمييز بين البيكاردية وبين جارتها الشمالية أعني الفرنسية البلجيكية "الولونية wallon" أو بينها وبين الترمندية جارتها الغريبة ولكن يوجد بين البيكاردية والفرنسية البلجيكية أو النرمندية خصائص أخرى مميزة تمكننا من وضع حدود إجمالية بين هذه اللهجات.

لذلك لا يقع المتكلمون في الخطأ. فالتقسيم اللهجي يرجع إلى إحساس حقيقي لدى سكان الإقليم الواحد، إحساس بأنهم يتكلمون بصورة ما ليست هي الصورة التي يسير عليها سكان الإقليم المجاور. والبيكارديون القدماء كانوا يشعرون بأن فرنسيتهم البيكاردية لهجة تختلف عن فرنسية الإيل دي فرانس بقدر ما تختلف النرمندية عن الولونية "الفرنسية البلجيكية". وذلك لأن البيكاردية في مجموعها بالرغم من اختلاف صورها في المجال الواسع الذي تتكلم فيه، فيها سمات مميزة غالبة تميزها في أذهان الذين يتكلمونها بالنسبة للهجات المجاورة. وهذا يفسر لنا وجود مؤلفات أدبية مكتوبة بالبيكاردية1.

أغلب الظن أن اللغات الأدبية التي تعتمد على إحدى اللهجات أي التي تقوم على أساس لهجي لا تمثل، كما سنرى فيما بعد "ص342"، تمثيلا صادقا صورة التكلم لأي بلدة من بلدان المنطقة. وهذا يصدق على فرنسا في العصور الوسطى كما يصدق على بلاد الإغريق القديمة. ولكن لا ينبغي أن نستنتج من ذلك عدم وجود اللهجة. بل إنها توجد بقدر ما توجد اللغة المشتركة فلها نوع من الوجود المثالي. ففي الفرنسية لا يكتب سان ألكس Saint Alexis في نفس اللهجة التي يكتب فيها سان ليجيه Saint leger أو ال كانتيلين دي سانت أولالي la la Cantilene de Saint Eulalie.

1 رقم 97.

ص: 313

وفي بلاد الإغريق كانت لهجة الملحمة غير لهجة القصيدة الغنائية، وفي الدرامة كانت تستعمل لهجتان مختلفتان، واحدة للحوار والأخرى للغناء الجماعي. فأساس هذه اللهجات من حيث الأصل لغة أحد الأقاليم الإغريقية سواء أكان ذلك الإقليم في الجزر أم في القارة، وسواء أكانت هذه اللغة واسعة الانتشار أم محصورته. وكان في كل منهما من السمات الخاصة المميزة ما يكفي لتسميتها لهجة. ولكن استعمال الشعراء لها صيرها لغات أدبية، واللغات الأدبية التي من هذا النوع لا تختلف عن اللغات الخاصة إلا قليلا.

بعد أن عرفنا اللهجة على هذا النحو يجدر بنا، قبل أن ندرسها في صلاتها باللغة المشتركة، أن نقول كلمة عن اللغات الخاصة. واللغات الخاصة نتيجة للانفصال الاجتماعي، مثلها في ذلك مثل اللهجات ولكن من وجهة نظر أخرى.

نعنى باللغة الخاصة تلك اللغة التي لا يستعملها إلا جماعات من الأفراد وجدوا في ظروف خاصة. ومثال ذلك حالة "المحضر" أو حالة القاضي. فهذان الموظفان يستعملان في تسبيب حيثياتهما أو في تحريرها لغة بعيدة جدا عن اللغة الجارية، هي اللغة القانونية. ولدينا مثال آخر في لغة الطقوس الدينية: فكثيرا ما يستخدم المؤمن في خطابه لله لغة خاصة، كالكاثوليك إذ يستعملون اللغة اللاتينية. فيجب أن نسلك اللغات الدينية بين اللغات الخاصة. وأخيرا أنواع الأرجو les argots "اللغات العامية الخاصة" كلها لغات خاصة، فطلبة المدارس والصناع والأشقياء يستعملون فيما بينهم لغة متفقا عليها. ومن اللغات الخاصة أيضا تلك اللغات التي تتميز من اللغة الجارية ويستخدما عدد محصور من الأفراد للتفاهم الذي فيه شيء من السرية وكل هذه اللغات تشترك في كونها خاصة بالنسبة للغة مشتركة بعينها، وباختبار تكونها يتضح لنا أنها تنشأ جميعا عن ميل واحد، وهو ترويض اللغة على مشاغل المجموعة التي تستعملها.

تعتبر بعض هذه اللغات الخاصة لغات مختلفة عن اللغة العادية. ومنها اللاتينية التي ظل العلماء زمنا طويلا يستخدمونها في علاقاتهم الدولية فهم قد اختاروا

ص: 314

لغة ميتة للتفاهم مع غيرهم من العلماء، وفعل قسيسونا مثلهم في مخاطبة الله. وظلت اللغة السنسكريتية في الهند لغة البنديتيين، أي لغة المثقفين. ويمكننا أن نعد من لغات العبادة التي تختلف عن اللغة الحية اللغات الإغريقية والسلافية القديمة والأرمينية، أو القبطية التي ظلت اللغة الدينية لقوم يتكلمون في شئونهم العادية اللغة العربية، وهي لغة من أسرة أخرى. وهذا يفسر ببواعث خاصة، بالحاجة إلى إمكان التفاهم مع أناس من أقطار مختلفة في حالة اتخاذ اللاتينية لغة للعماء، أو باتباع التقاليد وأكثر من ذلك بالحاجة إلى تمييز القدسي من الدنيوي، وذلك كما في حالة اللغات الدينية "انظر ص321".

وعلى الجملة فإن اللغات الخاصة تقوم على الرصيد المشترك للغة حية

ولكن بعضها لغات ميتة موت اللاتينية، ومن ذلك لغة المحاكم. فكل مصطلح فيها اتخذ له دلالة نهائية، على رجال المحاكم أن يحفظوها وأن يتبوعها دون أن يغيروا شيئا منها. فهي ليست في نهاية الأمر إلا لغة فنية كلغة الأطباء عندما يحررون نشرة طبية وعلى العموم، كلغة العلماء من كل نوع عندما يعالجون مادة علمهم. واللغات الفنية تدين بوجودها إلى الحاجة للدلالة على أشياء أو أفكار لا أسماء لها في الاستعمال الجاري، ولكنها أيضا ترجع إلى الحاجة للدلالة "بصورة علمية" أي بمصطلح دقيق يرفع كل لبس، على أشياء مما تعبر عنه اللغة العادية تعبيرا جيدا. لذلك نراها أحيانا تخترع كلمات خاصة وأحيانا تستعمل كلمات اللغات العادية في معنى خاص، كما يفعل علماء الطبيعة حين يتكلمون عن "الكتلة" أو "السرعة" أو "القوة" وبهذا تنجو اللغات الفنية نحو اللغات العامية الخاصة1.

صارت كلمة "عامية خاصة""argot" في الأيام الأخيرة مصطلحا غامضا. والواقع أنها ليست إلا اسما آخر للغة الخاصة. ويوجد من العاميات الخاصة بقدر ما يوجد من جماعات متخصصة. والعامية الخاصة تتميز بتنوعها الذي لا يحد، وأنها في تغير دائم تبعا للظروف والأمكنة. فكل جماعة خاصة وكل هيئة من

1 انظر عن العامية الخاصة ف. ميشل: "دراسات في الفلولوجيا المقارنة عن العامية الخاصة". باريس 856، سينبان: رقم 119 ومؤلفات مارسل شفوب ودورا.

ص: 315

أرباب المهن لها عاميتها الخاصة. فهناك عامية التلامذة الخاصة، وهي غير واحدة في كل المدارس بل وتختلف أحيانا باختلاف الفصول في المدرسة الواحدة، وهناك عامية الثكنات الخاصة التي تختلف باختلاف الأسلحة بل وباختلاف الثكنات أيضا، وهناك عامية الخياطات الخاصة وعامية الغسالات وعامية عمال المناجم وعامية البحارين.

وأخيرا هناك عامية الأشقياء الخاصة. وهذه هي التي أطلق عليها كلمة "عامية خاصة""Argot" لأول مرة. فقد كان يوجد عندنا حتى بداية القرن التاسع عشر هيئة منظمة حقة للأشقياء وكانت لها لغتها الخاصة المتفق عليها والتي كان يعمل كل عضو من أعضاء الهيئة على المحافظة عليها. هذه هي العامية الخاصة "argot" ومن قبل كانت تسمى jargon لأن الكلمتين كانتا في الأصل بمعنى واحد. وتسمى بالإنجليزية cant وبالألمانية Rotwelsch أو Gaunersprache وبالإيطالية Furbesche وبالإسبانية germania وبالبرتغالية calao وبالرومانية smechereasca، إلخ. والذين يدرسون اللغة الخاصة ما زالوا يتخذون لغة الأشقياء أساسا لدراستهم، ولكنها أرض لا يوجد أقل منها تحديدا. وذلك لأن الأشقياء لا يكونون الآن جماعة مغلقة يستطيع أعضاؤها أن يفرضوا على أنفسهم وحدة لغوية تامة. فالذين يتكلمون العامية الخاصة الآن ينتسبون إلى جميع الآفاق الاجتماعية. وما يسمى عالم الأشقياء يشتمل على ممثلين لكل الأقاليم وكل الطبقات وكل الأوساط. وإذا اجتمع المجرمون، اجتمعوا في وحدات منعزلة لحاجات عابرة، لا يعترفون برئيس يستطيع، كما استطاع ملك تون roi de Thunes أو كوسر الكبير grand cosere أن يفرض عليهم إرادته. وليس يميزهم أي شيء خارجي، بل يختلطون بحياة الجميع، بالرغم من أنهم يعيشون على هامش المجتمع الشرعي. فكيف يوجد في هذه الظروف لغة للمجرمين محددة تحديدا دقيقا؟

تنحصر خصائص العامية الخاصة في اختلاف مفرداتها بوجه خاص. والواقع أنها تنشأ من تخصص اللغة المشتركة، ولما كانت لا توجد إلا بمعارضتها لهذه اللغة المشتركة، وجب أن تحس الصلة بين اللغة العامة والعامية الخاصة بصفة

ص: 316

دائمة ما دامت العامية الخاصة مستعملة والتشويه الصوتي أو الصرفي مهما قل ينتج عنه قطع الرباط الذي يصل العامية الخاصة باللغة المشتركة التي خرجت منها.

هذا إلى أن الصرف والأصوات يكونان نظامين لا يستطاع مسهما بشيء دون تغييرهما من أساسهما. فلا عدوان للعامية الخاصة عليهما. طبعا قد يقع للعامية الخاصة أن تتبع بعض عادات في النطق تساعد على تمييزها. فالعامية الخاصة المستعملة في الأطراف الباريسية تحتوي على بعض الخصائص الصوتية التي تكفي للتعريف بطبقة المتكلم الاجتماعية. ولكنا هنا أمام حقيقتين مختلفتين يجب علينا أن نميز بينهما، إذ أن النطق الطبيعي في الأحياء الباريسية المتطرفة ليس هو النطق الفرنسي المعتاد. فالأطراف لها أصوات خاصة لا علاقة لها بالمفردات. وقد نسمع بعض العمال يتكلمون فرنسية لا شائبة فيها بتنغيمات أهل الأطراف، وأناسا من علية القوم يتكلمون كلمات من العامية الخاصة مع نطق لا يعلو عليه نطق. فإذا اجتمع نطق الأطراف ومفردات العامية الخاصة في متكلم واحد، فمعنى ذلك اجتماع نوعين مستقلين من الخصائص بطريق الاتفاق.

يمكننا إذن أن نحصر الفوارق التي تميز العامية الخاصة في المفردات. ولكن يبقى علينا أن نبين كيف تنشأ تلك الفروق بين المفردات. فايسر الوسائل أن تستعمل كلمات اللغة الجارية استعمالا خاصا. وقد قلنا سابقا إن الكلمات العامة التي مثل Travail "عمل" و ouvrage "مشغل، عمل، صنعة، تصنيف

إلخ".

و operatiou "عملية" تتخذ بالضرورة معنى خاصا في أفواه الذين يستعملونها وفقا لنوع المهنة التي تستخدمها فيها هذه الالفاظ. فظاهرة التخصص المعنوي ذلك هي أساس العامية الخاصة "انظر ص256".

الاستعمال الاستعاري من الوسائل المحببة إلى العامية الخاصة، وكذلك استعمال اسم العلم في وظيفة الاسم المشترك. وهاتان الخطتان معروفتان في اللغة الجارية "انظر ص287"، فهما لا يميزان العامية الخاصة من اللغة الجارية في شيء ولكن طريقة تطبيقهما قد تسمح بشيء من التمييز؛ فالواقع أن الاستعارة والنقل يستعملان في العامية الخاصة بتواتر خاص، إذ أن الاستعارات فيها تبلى بسرعة

ص: 317

وتحتاج إلى كثيرة التجديد، حيث أن الغرض من استعمالها هو توسيع شقة الخلاف التي تفصل بين العامية الخاصة واللغة المشتركة والمحافظة على بقاء هذا الخلاف، فلا يدهشنا إذن أن تستهلك العامية الخاصة من الاستعارات أكثر مما تستهلك أية لغة أخرى. كذلك كثيرا ما تكون هذه المبتكرات شعورية وعرضية. وهنا نلمس عن كتب أكثر الخواص تمييزا للعامية الخاصة عن اللغة الجارية. إذ أن العامية الخاصة مع كونها لغة طبيعية من حيث مبدؤها ومن حيث تكوينها فإنها تقارب اللغات الاصطناعية وتتزود من المبتكرات الفردية. فتفوق عضو من الجماعة يفرض على الآخرين تسمية ناجمة من ظروف خاصة في حياة الجماعة، وهكذا يشاطر الهوى الفردي في خلق كلمات جديدة.

وهذا كله غير كاف. فوسائل اللغة العادية لا تكفي، مهما شد من أزرها فعل الأفراد الخاص، لتزويد العامية الخاصة بذلك التيار الدائم من الكلمات التي تحتاج إليها. وهنا تتدخل المفردات الأجنبية بمد يد المساعدة. ويجب أن نفهم كلمة أجنبية هنا بمعناها الواسع الذي يشمل كل ما ليس من اللغة المشتركة التي ترتكز عليها العامية الخاصة. وهكذا تستطيع المساهمة في تكوين العامية الخاصة وتجديدها صور التكلم المحلية المنتشرة في جميع أرجاء القطر، وكذلك اللهجات ولهجات اللهجات التي تعتبر بدورها لغات مشتركة صغيرة خاضعة للغة القطر العامية، بل واللغات الأجنبية التي تتكلمها الأقطار المجاورة. "فعامية ألمانيا الخاصة" ROTWELSCH مثلا ملأى بالكلمات اليهودية الألمانية والجرمانيا GERMANIA "في أسبانيا" فيها عناصر غجرية هامة جدا، والـSMECHEREASCA تضيف إلى أساسها الروماني عناصر مجرية وروسية ويهودية ألمانية وغجرية، ونقابل هنا وهناك في الـcant كلمات إرلندية، مثل twig "الفهم" من "الإرلندية twigin "أفهم"". وفي العامية الخاصة بمدرسة البوليتكنيك توجد كلمة ألمانية هي Schiksal "مصادفة، قدر"1. والعامية الخاصة الفرنسية على وجه العموم تحتوي على كلمات أجنبية قليلة العدد "عربية، غجرية، يهودية ألمانية"؛

1 مارسل كوهين: رقم 6، مجلد 15، ص170.

ص: 318

أما أساسها فمستعار من عناصر أهلية، ولكن اللهجات الإقليمية ممثلة فيها بأكثر من الفرنسية المشتركة1.

يترتب على هذا التنوع في تكوين العامية الخاصة، أننا نجد فيها كثيرا من الكلمات الحوشية، إذ الواقع انه إذا دخلت كلمة في العامية الخاصة بواسطة التخصص المعنوي أو مجرد الاقتباس، حافظت التقاليد في غالب الأحيان على بقائها فيها حتى بعد انقراضها من اللغة الجارية. وقد يدهش الإنسان مثلا حين يعلم أن الكلمة الألمانية القديمة lutt "صغير" تستعمل في عامية الألمانية الخاصة بدلا من كلمة "klein" أو أن الفعل occire "يقتل" الذي اختفى من الاستعمال منذ قرون ما يزال يستعمل في العامية الخاصة الفرنسية بدلا من الفعل tuer. وهذه حوشية. ومثل هذه الحالات لا تكون في كثير من الأحيان حوشية إلا في مظهرها فحسب إذ هي في حقيقة الأمر مستعارة حديثا في نصوص أدبية، ومن العسير في بعض الأحيان أن نميز بين الخطتين.

والأخذ عن الكتب أمر فردي في غالب الأحيان، وهو إحدى الوسائل الاصطناعية التي تدخل في تكوين العامية الخاصة. وهذه الوسائل على درجة كافية من التنوع. وتنحصر مثلا في تشويه مظهر الكلمات الخارجي. وهكذا يستعيضون عن لاحقة من لواحق اللغة الجارية بلاحقة خاصة بالعامية، وذلك كقول العامية الخاصة الفرنسية epismar بدلا من epicier "بدال" و auverpin بدلا من Auvergant بدلا من Aurergnat "أو فرني" وكقول الألمانية في عاميتها الخاصة kofmich بدلا من kaufmann "تاجر". وبعض التشويهات الأخرى ليست إلا توسعا في التغيرات الصوتية المطردة. وإن الأسباب المذكورة في صفحة 89 لتفسير المبالغة في العوارض الصوتية لتجد مجالا خصبا في العامية الخاصة. ففيها يستطيع المتكلم بوجه خاص أن يسمح لنفسه بنطق الكلمات في صورة مختزلة. لأنه يخاطب عددا محصورا من المتكلمين، كلها ممهد الذهن لفهمه،

1 انظر الدراسة القيمة التي كتبها الأستاذ إرنو عن العامية الخاصة البريتانية، رقم 8 مجلد 14 ص267.

ص: 319

وكلهم متفاهم معه مقسما. ومن ثم يجيء هذا العدد الضخم من حالات الحذف والإسقاط والتبسيط وحذف النهايات، هذه العوارض الصوتية التي تجعل العامية الخاصة لا يفهمها إلا العارفون. ومن جهة أخرى تجد ظواهر التشابه والتخالف والنقل المكاني في العامية الخاصة المتكلمة ميدانا خصيبا لا يعترض انتشارها أية عقبة من القواعد. وأخيرا نعثر في العامية الخاصة على تشويهات مصطنعة غير مرتبطة بظروف اللغة الطبيعية، ومثال ذلك le javanais، le loucherbeme الجافانية. ففي الحالة الأولى ينقل الحرف الأول منها إلى آخرها ويستعاض عنه بحرف ل "l" ثم يضاف إلى الكلمة بعد هذا التشوية لاحقة من اللواحق العامية الخاصة؛ وفي الحالة الثانية يقحم مقطع ما في داخل الكلمة "ar أو oc أو al أو am إلخ"، ولكن الغالب أن يكون المقطع المقحم av أو va ولعل هذا هو أصل الاسم الجافانية "javanais".

اللوشيربيم le loucherbeme حديثة العهد نوعا لأنها ترجع إلى بداية القرن التاسع عشر على الأكثر، أما الجافانية المستعملة بين طغام باريس فيظهر أنها أقدم منها عهدا، ولكن الطريقة التي تنبني عليها هاتان العاميتان الخاصتان أقدم منهما بكثير، إذ لا بد أنها قد استخدمت في كل زمن وفي كل مكان احتاج فيه قوم إلى تغيير لغتهم. ويوجد في البنجاب اليوم قبيلة من اللصوص خلقت لنفسها لغة إلى تغيير لغتهم ويوجد في البنجاب اليوم قبيلة من الصوص خلقت لنفسها لغة خاصة بإقحام المقطع ma في داخل الكلمة المستعملة في اللغة البنجابية1.

وهي طريقة من أبسط الطرق وفي متناول كل إنسان. فقد رأينا في ص293 أن خلق كلمات جديدة أمر في غاية العسر. فإذا لم يكن لدى القائمين بهذا الأمر منبع من المفردات المجاورة ينهلون منه ما شاءوا من كلمات جديدة، أمكنهم أن يعدلوا الكلمات الموجودة بالفعل تبعا لقاعدة مطردة. وهذه الطريقة التشويهية مستعملة في عدد كبير من العاميات الخاصة. فتلاميذ المدارس كثيرا ما يستعملون الجافانية، وقد شوهد استخدام هذه الطريقة في بعض المؤسسات التعليمية بالأقطار الجرمانية والسلافية.

1 T. G. Bailey on the secret words of the culuas "proceedinge of the Asiatic Society of Bengab، 1902".

ص: 320

هناك شخصية محوطة بالألغاز لا نعرفها إلا باسم مستعار ضخم الدلالة، هو اسم فرجيليوس مارو virgilius Maro النحوي الذي عاش على ما يظهر في القرن الخامس بعد الميلاد. يقال إن هذا الرجل اخترع لغة خاصة ظلت شائعة الاستعمال زمنا طويلا بين تلامذة المدارس الإيرلندية. وكانت تقوم هذه اللغة على تشويه الكلمات الجارية بأنواع من تضعيف المقاطع أو بترها أو نقلها. وبمضي الزمن تحورت وتمخضت عن لغة أخرى أمشاج سميت "لغة الشعراء" berla na filed بالإيرلندية. وهي عامية خاصة اختلطت فيها على غير قاعدة كلمات مستعارة من اللاتينية والإغريقية والعبرية وكلمات أهلية أهملها الاستعمال أو استمدت من النصوص العتيقة. وكلمات مأخوذة من الاستعمال الجاري بعد قلبها أو تشويهها. هذه اللغة، التي لا زالت تحت يدنا منها عينات عسيرة التفسير في غالب الأحيان، بقيت بقوة التقاليد زمنا طويلا تستخدم في المدارس الإيرلندية كلغة سرية. ولكنا نجهل إلى اي حد كانت تتكلم، ولعلها لم تكن إلا نظاما من نظم الرسم، كلغة السحرة وكتاب التعويذات.

الرقى السحرية التي نعثر عليها في قبور اليونان وإيطاليا وإفريقية مكتوبة على ألواح من الرصاص، تطبق في غالب الأحيان هذه الخطط نفسها: استعمال الكلمات الأجنبية أو تشويه الكلمات الأهلية1. ولكن الباعث هنا يختلف؛ إذ يبغون من وراء ذلك الاتصال بالعالم الآخر، ومن ثم يدخلون في تحرير النص اعتبارات لا صلة لها باللغة.

هذه الملاحظة تؤدي بنا إلى أن نقول كلمة عن اللغات الخاصة التي تنشأ عن بواعث خفية. السياح الذين طافوا بالأقطار البدائية وعلماء الأجناس الذين ينسقون أخبار السائحين يحدثوننا عن أهمية اللغات الخاصة غير المتحضرة. إذ يوجد في داخل اللغة الواحدة لأسباب دينية أنواع مختلفة من المفردات، ووجهة الخلاف فيها تنحصر في طريقة استعمالها وفي الأغراض التي تستعمل فيها، والواقع

1 أودولن Audollent؛ Defixiomumtabellae، باريس 1904.

ص: 321

"أن مجال التقديس عند هؤلاء المتوحشين أوسع منه عندنا. إذ لا يوجد نشاط اجتماعي أيا كان دون أن يساهم وقتا ما في طقس من الطقوس السحرية الدينية، ويجب من الوجهة النظرية استعمال لغة خاصة كلما جدت مناسبة من هذه المناسبات. هذه اللغات الخاصة التي لا تستعمل إلا لوقت محدود، ذات طابع انفصالي في غالب الأحيان، أو على الأقل إنما تتكون "إلا في الحالات النادرة" من عدد يقل أو يثكر من العبارات المحرمة الاستعمال، أي من تابوهات TABOUS لغوية"1. فكل ما كان ذا صفة قدسية، وبالطبع كل ما مثل الألوهية في جميع صورها، وأيضا كل ما دل على الرؤساء والموتى والأشياء المخصصة لهم والحيوانات التي تمثلهم، إلخ، كل هذا يدعو إلى استعمال لغة خاصة. وتستعمل أيضا في الأفعال التي تعمل طابع التقديس عامة كالصيد البحري والبري والملاحة والحرب، وفي بعض الأفعال الخاصة التي تدين بطابعها التقديسي إلى أهمية مكانية أو زمنية. فيوجد في أندونيسيا لغات خاصة بالباحثين عن الكافور وبالباحثين عن الذهب.

من أكثر أنواع التخصيص شيوعا، ذلك التخصيص الناجم من اختلاف الجنسين. فالنساء لا يستعملن اللغة التي يستعملها الرجال، وحتى عندما يفهمن الكلمات التي يستعملها الرجال لا يكون لهن الحق في النطق بها فلا بد إذن من وجود نوعين من المفردات متوازنيين تماما حتى يصير لكل شيء اسمان تبعا لجنس المتكلم. فعند الكاريبيين مثلا يتكلم الرجال اللغة الكاريبية CARAIBE والنساء الأرواكية AROWAK2. وأحيانا يتعدد الاختلاف في الطبقة الاجتماعية. فعند سكان جاوا الأصليين يتكلم الرئيس إلى مرؤوسيه باللغة النجوكية NGOKA، ويجيبه المرؤوس باللغة الكرومية KROMO3.

1 فان جنب VAN GEMM، رقم 14، 1958، ص327 وما يليها؛ ور. لاش R. LASCH؛ MITTERI، DER ANTHROPOL GESELLSCH. فينا "1907".

2 ل. آدم. L. ADAM؛ DU PARLER DES HOMMES ET DU PARLER DES FEMMES DANS LA LANGUE CARAIBE.

3 فون در كابلنتس VON DER CABELENTZ، رقم 163، ص244.

ص: 322

وفي بعض الأحيان تختلف اللغات أيضا باختلاف الأعمار. فعند الماسيين MASSI في إفريقية الشرقية يقسم السكان الذكور بحسب أعمارهم إلى طبقتين، لكل طبقة منهما تقاليدها الصارمة التي تحرم عليها بعض الأطعمة وبالتالي استعمال بعض الكلمات1. ولا يجوز لمن هم أكبر سنا أن يمسوا ذيل حيوان مقتول أو رأسه، ويجب أن يستعملوا ألفاظا خاصة للدلالة على هذا الذيل أو هذا الرأس.

كما لا يباح لمن هم أصغر سنا أن يأكلوا من قرع الكوسة أو من القرع الأحمر. ومن أشنع الأخطاء أن ينسى أحدهم فيسمي أمام الآخر أحد الأفعال المحرمة على الأخير. وهذه التقاليد ناشئة من اعتبارات دينية: إذ ينظر إلى المجموعتين على أنهما شطرا وحدة سرية، هي مجموع أفراد القبيلة الذكور. فيبين الفرق بين الشطرين بالاختلاف في الأفعال وهذا يؤدي بالضرورة إلى الاختلاف في المفردات.

هذا الظاهرة تدخل مباشرة في دائرة الأعمال الترويضية التي لها أهميتها عند المتوحشين وهناك طقوس خاصة تصحب الانتقال من مرتبة من مراتب السن أو من المراتب الدينية إلى مرتبة أخرى. يقصد بها فصل المبتدئ من وسطه السابق لإدماجه في الوسط الجديد، ومن ثم يجيء استعمال اللغات الخاصة التي تبقي كلمة أو غير كاملة حتى بعد اندماج المريد في الوسط العام.

تعارض العالمين عالم الحقيقة وعالم الغيب، أو عالم الخير وعالم الشر يعد أساسا لعدد كبير من الأديان. وهذه المثنوية كثيرا ما تخلق انفصالا في اللغة. فيوجد في الأفستا عشرون كلمة بصورة مزدوجة، تستعمل واحدة من كل زوج عند الكلام على هر مزد، إله الخير والأخرى عند الكلام على أهريمان، إله الشر2. وقد يكون للفعل الواحد -في عالم الحقيقة أو في عالم الغيب- وجهان، فإذا دخل في عالم السحر دل عليه بكلمة متميزة جديدة. وموضوع التضحية التي

1 الكابتن مركر CAPIT، MARKER؛ DIE MASAI، ETHNOGRPHISCHE MONOGRAPHIE EINES OSTAFRIKANESCHEN SEMITENVOLKES "1910"، ص71 ينقل عنه س. فايست S. FEIST: رقم 24، مجلد 37 ص113.

2 انظر درمسنتير، رقم 64.

ص: 323

يقوم القسيس بتنفيذها هو المساعدة على العبور من عالم إلى عالم1. لذلك كانت تقتضي التضحية في كل الأقطار استعمال لغة خاصة، وهي التي نسميها اللغة الدينية. وإذن فاللغات الدينية في أوربا الحديثة تقوم في أصلها على أسباب سحرية، ترجع بنا إلى رياضات البدائيين وعقائدهم.

هذا إلى أنه يجب ألا نبالغ هنا في الفرق بين المتوحشين وبين المتحضرين. فالأسباب التي تدفع بهؤلاء وأولئك إلى خلق اللغات الخاصة، أسباب واحدة. وفي أعرق لغاتنا مدنية حالات من التخصيص لو وجدناها في إقليم الزمبيزي أو في سومطرة لما ترددنا في إرجاعها إلى العقلية الغيبية، وتحريم المفردات على ما له من أهمية في تكوين جميع المفردات الأوربية القائمة، خطة غيبية خالصة، وكم من أناس حولنا يتجنبون نطق هذه الكلمة أو تلك مخافة أن يحل بهم العارض الذي تدل عليه الكلمة، كما أن عبارة absit omen عبارة وحشية، وما القدرة التي تضاف للاسم إلا بقية من تلك العقلية الغيبية. بل لا نعدم أن نجد بيننا تلك اللغات الخاصة بالنساء. إذ يوجد في بعض الأحيان عند يهود ألمانيا الذين يستعملون اللغة اليهودية الألمانية، نوعان من المفردات لتمييز ما هو يهودي مما هو غير يهودي2.

ولكن هناك أيضا فروقا في استعمال اللغة تبعا لاختلاف الجنسين، فالرجل يلقي التحية أو يرد عليها بالعبرية، أما المرأة فتستعمل في ذلك الألمانية دائما.

من جهة أخرى يمكننا أن نتساءل عما إذا كانت اللغات الخاصة التي لا يزال يستعملها أرباب بعض المهن المميتة في الأقطار المتوحشة برهانا على عقلية غيبية. وكما أن سكان الملايو عندهم لغة الباحثين عن الذهب أو الباحثين عن الكافور، فعندنا أيضا تلك العامية المهنية الخاصة التي تستعمل في صناعاتنا على اختلافها. وفي بريتانيا تنوولت لغة الخياطين3 "longaje kemener" بالدرس، كما

1 هوبرت وموس Hubert et maus؛ Essai sur la nature et la fonction du secrifice في رقم 85، ص1-130.

2 إرنست ليفي Ernest levy: رقم 6، مجلد 18، ص333.

3 إرنو، رقم 8، مجلد 34، ص27.

ص: 324

تنوولت في إيرلندة وأسكتلندة لغة صانعي الصهاريج "shelta" ولغة غيرهم من أبناء المهن الأخرى1. فلعل هذه اللغات لغات غيبية قديمة مثل le berla na filed؛ ولكن بقاءها يفسر بتقاليد هذه الطوائف الخاصة وحاجاتها، وهي طوائف تعزلها أعمالها عن بقية الناس.

اللغات الخاصة تنشأ من الانفصال الاجتماعي، لذلك كانت -من حيث المبدأ- لغات طبيعية كاللهجات تماما. ولكنها تقوم دائما على مادة لغة مشتركة، وتظل عادة تستمد منها غذاءها.

1 انظر رول. بست R.L Best؛ Bibliography of lrish Philology and Literature.

ص: 325