الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: اللغة المكتوبة والرسم
أحسن بنو الإنسان في كل العصور أهمية اللغة المكتوبة، فأرجعوا أصل الكتابة إلى الوحي الإلهي. إذ اعتقد العبريون أن موسى تلقاها من ذات الإله، وعزاها المصريون إلى الإله توت "أفلاطون، فيدروس: 274"، ووضع الإغريقيون اختراع الكتابة في نسق مع ممارسة الزراعة واكتشاف النار، فرفعوا كدموس Cadmus إلى مرتبة تريتوليم Triptolieme أو بروميتيه Promethee.
ولكن ليس معنى هذا أن الأولين من بني الإنسان قد صدمتهم فائدة هذا الابتكار، أو أنهم أحسوا الخدمات التي يمكن أن يؤديها إلى سلالتهم؛ بل لقد رأوا في الكتابة إجراء غيبيا أثار انتباههم بخصائصه المخوفة، فالكتابة بالنسبة إليهم كانت علما، والعلم قد أثار دائما خوف البشر، وهم على حق في ذلك لأنه يسمح لمن يستحوذ عليه بفعل الشر والخير على السواء.
أولئك الذين بدءوا باستعمال الكتابة كانوا يستعملونها في عمليات شبه سحرية، فالكتابة في أصلها كانت طريقة من طرق السحر، وقد احتفظت اللغة المكتوبة بهذه الصفة زمنا طويلا، فكتابة اسم على قطعة من اللحاء أو من إهاب حيوان، كان معناها إمساك الكاتب لصاحب الاسم تحت تصرفه، معناها قسره وتقييده، معناها القدرة على رفعه أو خفضه، على نجاته أو إهلاكه تبعا لإرادته، وأول ما خط من سطور تحتوي على اسم أحد الأشخاص، كان ضربا من الرقى: تعاويذ يقصد بها النجاح أو الشفاء، الإخضاع أو الإضرار. وإذا كانت الكلمة الملفوظة لها قوة سحرية "انظر ص238" فالكلمة المكتوبة من باب أولى. ومن ثم كان الكتاب الأولون من السحرة.
الكتابة والقدر SORT لا ينفصلان عند كثير من الشعوب؛ فالكتابة عند الكلتيين والجرمانيين من عالم "الغيب""بالقوطية RUNA"، وهي ضرب من ممارسة السحر1، وقطعة الخشب التي تحفر عليها الحروف كانت تستخدم في نفس الوقت للأذى السحري، وظل المعنيان مختلطين حتى أيامنا هذه في مفردات الأرلنديين والبريتانيين، وكما أن كلمة Buchstabe "ومعناها الحرفي: عصا من الزان" تدل على "الحرف" في الألمانية، فإن كلمة crann-chur "قذف الخشب" معناها "القدر" في الإيرلندية، وكذلك كلمة coel-bren "حرفيا: خشب النبوءة" في الغالية2.
وحتى بعد أن تجردت الكتابة من كل صفة سحرية، ظلت محاطة بهالة من الخوف والاحترام. ذلك أن الناس قد احتفظوا بما للنص المكتوب من خرافة، وقد استغل الدين والقانون هذه العاطفة ليفرضا على أذهاننا النص المكتوب الذي لا يعتريه تحويل أو تبديل والحرف الذي يتحدى ما يقتضيه العقل، ونرانا لا نزال نكرر:"هذا مكتوب" أو "لقد كان ذلك مكتوبا" كما لو كنا نشاطر الشرقيين عقليتهم التي تتصور المقدور مسجلا في كتاب كبير تطوى منه في كل يوم صفحة، هذا على أن أهمية النص المكتوب شيء طبيعي، إذ إن المكتوب يبقى، على حين تتبدد الألفاظ. والكلمة إذا سجلت عندما تخرج من بين حواجز الأسنان، استقرت إلى الأبد كأنها وثيقة إثبات، وبعد كل هذا فإن الإنسان يؤخذ "بما كتب". فالكتابة بعد أن لم تصبح رباطا سحريا، قد بقيت رباطا على كل حال.
وهكذا نرى أن الاستعمال يتفق مع التقاليد في تأكيد اختلاف اللغة المكتوبة عن اللغة المتكلمة. والواقع أنهما لا يختلطان أبدا. ومن الخطأ أن تظن أن النص المكتوب يعتبر تمثيلا دقيقا للكلام. فلسنا على عكس ما يتصور كثير
1 نكل Neckel؛ Zur Einfuhrung in die Runenforschung Germ. Rom. Monatschrift، مجلد 1، 1909.
2 ج. لوث j. Loth؛ le sort et l'ecriture chez les Anciens Celtes. "مجلة العلماء، سبتمبر 1911، ص403 وما يليها".
من الناس، نكتب كما نتكلم؛ بل إننا نكتب "أو نحاول أن نكتب" كما يكتب غيرنا، وإن أقل الناس ثقافة يشعرون، بمجرد وضع أيديهم على القلم، بأنهم يستعملون لغة خاصة غير اللغة المتكلمة، لها قواعدها واستعمالاتها كما أن لها ميدانها وأهميتها الخاصين بها "انظر ص340". وهذا الشعور له ما يبرره.
اللغة المكتوبة هي الطابع المميز للغات المشتركة. واللغة المشتركة بطبعها في نزاع دائم مع اللغة المتكلمة؛ لأن هذه الأخيرة في خضوعها للتأثيرات الفردية، تميل دائما إلى الابتعاد عن المثل الأعلى الذي تحتذية اللغة المشتركة، واللغة المكتوبة معرضة بدورها لضربات اللغة المتكلمة؛ لأن اللغة المشتركة تعتمد في مقاومتها على الكتابة أولا وقبل كل شيء، ومن جهة أخرى تستعمل الكتابة في التعبير عن كثير من اللغات الخاصة، بل لا وجود لبعض هذه اللغات الخاصة إلا في صورة مكتوبة. ولهذا الاعتبار أيضا كان الخلاف بين الكلام والكتابة أمرا مقررا ثابتا.
هذا الخلاف يتجلى في أوضح صوره في مسألة الرسم، فلا يوجد شعب لا يشكو منه إن قليلا وإن كثيرا، غير أن ما تعانيه الفرنسية والإنجليزية من جرائه قد يفوق ما في غيرهما، حتى أن بعضهم يعد مصيبة الرسم عندنا كارثة وطنية1. لذلك يهمنا أن نعرف مدى هذا الشر والأسباب التي أدت إليه وأنواع الدواء التي يمكن أن يعالج بها.
لعرض هذه المسألة على خير وجوهها، يجدر بنا أولا أن نتساءل إلى أي حد يمكن للرسم أن يخفف من وطأة الخلاف القائم بين الكلام والكتابة، وإلى أي
1 انظر خاصة ارسن در مسنتير: مسألة إصلاح الرسم، في Memoires et documents scol. الكراسة رقم 73، باريس 1888" وفرديناند برينو: إصلاح الرسم باريس 1905؛ ل. هافيه: تبسيط الرسم "Revue bleue 11 مارس سنة 1905"؛ م. بريال: كلمة أخيرة في الرسم "نفس المرجع"؛ موريس جرامون: تيسير الرسم الفرنسي، رقم 17، نوفمبر وديسمبر 1906، ص537، وما يليها. وترى عرضا كاملا للمسألة في دوتنس Dutens، رقم 69.
درجة تستطيع الكتابة أن تمثل النطق. فبعض أنواع الرسم تدين بتعقيداتها إلى الرغبة في تعليم القارئ نطق الكلمات على أدق صورة ممكنة، وتنشأ هذه التعقيدات في غالب أمرها في الخارج. فالعناية التي تبذلها اللغة في تسجيل الأصوات ترجع إذن إلى انتشار اللغة بين أقوام لم يكونوا يتكلمونها بسليقتهم، وهكذا تطور استعمال النبرات على الكلمات الإغريقية في مصر، حيث كان يتكلم الإغريقية أناس من غير الإغريق، فكانوا في حاجة إلى العناية بمعرفة الموضع الذي ينبر في الكلمة، وكذلك كان بدء تعليم الكتابة السامية بالحركات في بلاد الحبشة لما دخلت فيها اللغة العربية، إذ إن النصوص الحبشية الأولى مكتوبة بخط سيئ خال من الحركات، فالكتابة الحبشية أول كتابة سامية اتجهت إلى تعليم الحركات، وهذا شيء لا بد منه بالنسبة لقوم لم يتعودوا بعد النظام الصرفي السامي المعقد. وكان ذلك تقدما لا ريب فيه، جعل من الكتابة صورة من الكلام أقرب إلى الحقيقة.
ومع ذلك فلا يوجد رسم واحد يمثل اللغة المتكلمة كما هي، فإننا إذا تصورنا رسما مما يسمى بالرسم الصوتي، وقد زود بحروف متنوعة وبعلامات للتشكيل، فإن هذا الرسم لا يتيح معرفة النطق الحقيقي معرفة تامة لشخص لم يسمع الكلام باللغة التي يقرؤها. ومن ثم كان من المعتاد في كتب الأصوات أن تصور الأصوات اعتمادا على لغة معروفة للقارئ لا على الجهاز الصوتي للإنسان، وهذه الطريقة أبسط وأدق من غيرها، فيقال إن هذه العلامة أو تلك تمثل الـTH "ث" الإنجليزية الرخوة، أو الراء البارسية أو الـCH الألمانية الصلبة "خ"، وأفضل من ذلك أن يقال مثلا إن الحركة الفلانية هي الـa "الفتحة" الفرنسية في كلمة كذا إذا نطقت على الطريقة الباريسية. وإن كان لا يستفيد من هذا التحديد من لم يسمع كلام إنجليزي أو ألماني أو باريسي.
ولكن هذه الوسيلة أيضا غير كافية. لأن القارئ، مهما سوعد بمقابلات دقيقة في اللغات التي يعرفها، لا يستطيع إدراك أصوات لغة جديدة وأن يقوم بتحقيقها دون أن يسمع نطقها بنفسه. ذلك لأن اللغة المتكلمة من التعقيد بحيث
تشتمل على أكداس من تفاصيل الشدة والتنغيم والنطق الفجائي، مما لا يستطيع رسم تصويرها مهما بلغ من درجات الكمال.
ففكرة عمل رسم صوتي يطبق على جميع اللغات سراب خداع؛ لأن تنوعات النطق من الكثرة بدرجة يستحيل معها أن يكون الرسم غير تقريبي، وهذا ما نراه في المحاولات التي عملت لإيجاد رسم واحد منسجم لكتابة الأعلام الجغرافية، فقد اصطدم القائمون بهذا الأمر بتلك الصعوبة الدائمة، وهي أن الرسم لا يخلو أبدا من الإيقاع في اللبس1. بل إن علماء اللغة يلاقون أشد العناء في وضع نظام ينطبق على اللغات التي يدرسونها2.
إما إذا أردنا أن نصل بمبدأ الرسم الصوتي إلى غايته الحتمية، فإن ذلك يؤدي بنا تقريبا إلى عمل نظم من العلامات المختلفة لكل لغة على حدتها؛ لأنه لا يوجد إلا القليل من اللغات التي تتفق في نظامها الصوتي وفي نظام حركات جهازها النطقي فلا يكاد يوجد صوت واحد مشترك بين الإنجليزية والفرنسية، وإذن يجب وضع علامات مختلفة لرسم الإنجليزية. وهذا يؤدي بنا إلى أن نجعل عدد علامات الرسم غير محدود، لكل ذلك كان من الخير أن ندع الأمور على ما هي عليه، إذ إنه يتحتم على من يريد معرفة قيمة العلامة أن يكون قد سمع الكلام باللغة التي هو بصددها كما بينا سابقا.
نضيف إلى ذلك أن أتم نظم الرسم لا تستطيع مطلقا أن تصور الخصائص اللهجية، وأنه لا يمكننا أن نشير في الكتابة مثلا إلى خصائص النطق التي يتميز بها أهل البيكاردي أو الفرنش كنتيه، بله أهل مرسييا أوجسكونيا.
وهذه صعوبة أولى.
وهناك صعوبة ثانية ترجع إلى أن الرسم الصوتي يصاب بالقصور على مرور
1 انظر كرستيان جرنييه: طريقة عقلية عامة لرسم الأسماء الجغرافية، يمكن أن تطبق على جميع الكتابات المستعملة في العالم، باريس 1899.
2 برجمان Brugmann، رقم 30، مجلد 7، ص167؛ هـ. هرت H. Hirt في صعوبة الرسم، رقم 30، مجلد 21، ص145، وكرستيان برتولومار Chr. Barthalomar رقم 30، مجلد 21، ص366؛ ي. فكرناجل، رقم 30، مجلد 22، ص310.
الزمن وبسرعة تختلف باختلاف اللغات، إذ إن السبب الأساسي لأزمات الرسم ينحصر في استحالة مسايرة الرسم لحركة اللغة، وذلك في نفس الوقت خير شهادة على اختلاف اللغة المكتوبة عن اللغة المتكلمة. فاللغة المكتوبة تتطور دون توقف1. أما اللغة المكتوبة فمحافظة بطبعها، لا لأنها تعبير مشخص للغة المشتركة وقد قننها النحاة فحسب، بل أيضا لأنها لا تستطيع التغير بنفس السرعة التي تتغير بها اللغة الكلامية. نعم إن قوة التقاليد تصير أمرا خطيرا عندما تحميها المدرسة والآداب وإجماع المثقفين، ولكن التقاليد هنا ليست العقبة الوحيدة في سبيل تطور الكتابة، فالثبات ضروري للغة المكتوبة، لأنها تعتبر لغة مثالية حددت معالمها نهائيا، ولا يمكن المساس بها إلا بعد فوات الأوان، فمهما عنينا بجعل هذا الكساء مرنا مطابقا لحنايا الجسم الذي يكسوه، فلن نستطيع مطلقا أن نخضعه لنزوات الطبيعة وأن نجعله ينمو بنمو الجسم لأنه شيء ميت يغطي كائنا حيا.
يدهش الإنسان أحيانا من إبطاء اللغة النقية في مسايرتها للتقدم الذي تقوم به اللغة الكلامية في ميدان الصرف والمفردات، فالأكاديمية لم تجز حتى الآن عبارات من قبيل "je m'en rappelle" أو "de facan a ce que"، مع جريانها في الاستعمال منذ قرن، ولكن لا أهمية لذلك، ما دامت هذه العبارات قد أصبحت اليوم من المقررات، وكثير من الاتجاهات المتنوعة التي تبدو في اللغة يكون مصيرها الإخفاق، وإذا كان الاتجاه جديرا بالبقاء فإنه يتطلب وقتا طويلا للوصول إلى غرضه، فإذا فرضنا أنه سجل في نفس اليوم الذي وصل فيه إلى غايته، كان القيام بهذا العمل متأخرا عن أوانه، ما دام هذا الاتجاه قائما مؤثرا منذ زمن طويل، وكذلك الحال بالنسبة للرسم، فإنه لا يعتمد بطبيعة الحال إلا الصور التي محصت وثبتت بالاستعمال مهما كانت دقته ومسارعته نحو التقدم.
ولكن من العسير أن يكون الرسم دائما دقيقا سباقا إلى التقدم، إذ يجب
1 عن تاريخ النطق في الفرنسية انظر تورو Thurot رقم 126، وروسيه: رقم 112؛ وعن النطق في الإنجليزية. انظر إليس Ellis رقم 23، 1873-1874.
التفريق بين اللغات بالنسبة لهذا الاعتبار. ويدهش الإنسان أحيانا بحق عندما يرى اختلاف لغات مثل الإنجليزية والألمانية والفرنسية والأسبانية من حيث قيمة الرسم. فرسم الألمانية لا يعد رديئا ورسم الأسبانية جيد جدا، أما رسم الإنجليزية أو الفرنسية فسيئ، ولا يمكن أن يسبقهما في هذا المضمار إلا رسم لغة التبت أو اللغة الإيرلندية، وقد ذكر بعض علماء اللغات الكلتية على سبيل التسلية رسم بعض الكلمات الإيرلندية من قبيل saoghal و lanamhain و Oidhche و cathughadh التي تنطق على وجه التقريب sil و lanun و i و cahu. وبهذا تستطيع الإيرلندية أن تستثير غيرة الفرنسية التي تكتب oiseau ما تنطقه wazo والإنجليزية التي تكتب و enough و knight و Wrought وتنطق enaf و naft و rot. ولكنا لا ينبغي لنا أن ننسى الظروف المخففة في حكمنا على هذه اللغات، فالاختلافات التي نلاحظها بين الرسوم المختلفة ترجع إلى أسباب تاريخية.
لنلاحظ أولا وقبل كل شيء أن اللغات المشتركة التي تعبر عنها هذه الرسوم قد تكونت في عهود على جانب من القدم، ثم لنلاحظ بعد ذلك أن التطور الصوتي في بعض اللغات أسرع منه في غيرها وأنه يغير نطق الكلمات تغييرا تاما؛ فالإيطالية والأسبانية قد بقيتا أقرب إلى اللاتينية من الفرنسية بكثير. والإنجليزية قلبت النظام الصوتي الذي ورثته عن الجرمانية، ولنلاحظ على وجه الخصوص أن الظروف التي نشأت فيها الرسوم كانت تختلف في كل قطر عنها في الآخر، وقد أثر على الرسم كثير من الأسباب الخارجية بل والفردية، مثل ذلك تأثير المصلح الديني الغالي سالسبوري Salisbury الذي صارت ترجمته للكتاب المقدس في سنة 1567 حجة، فالعادة التي أدخلها في كتابة الضمير الذي لا ينطق إلا i "اِي" على هذا النحو ei ظلت متبعة حتى أيامنا هذه. وفي روسيا أثر تقاليد اللغة السلافية القديمة، وهي لغة دينية كانت من القوة بحيث جعلت الروسية الحديثة تكتب حالة من حالات الإضافة togo في حين تنطقها tavo، وتأثر الرسم عندنا في نهاية القرن السادس عشر بأثر العلماء المشربين بالروح الكلاسيكية ومسائل علم الاشتقاق. فهم أول المسئولين عن المتاعب التي نعاني اليوم نتائجها، ولكنهم كانوا على اتفاق
مع روح العصر الذي عاشوا فيه، وهذه الحالة النفسية بذاتها قد وقعت في أيرلندة حيث وضع الرسم بعد محاولات عديدة قام بها قوم من المتحذلقين المفتونين بحب التقاليد، ففي غضون القرن السادس عشر قامت محاولات لإصلاح رسم اللغة الغايلية في المخطوطة الشهيرة التي قام بنسخها السير جيمس مكجريجور Sir james Macgregor، عميد لسمور lismore "في أرجيلشير Argyllshire، وبفضل هذا الكتاب يمكننا أن نحكم بمقدار اختلاف اللغة المكتوبة عن اللغة المتكلمة في ذلك الحين، ولكن لا ينبغي لنا أن نبالغ في تقدير ما في الرسم الأيرلندي من تعقيدات فجزء كبير منها يرجع إلى غلطة مبدئية تنحصر في اتخاذ الحروف علامات لتحديد نطق الحروف الأخرى، وهذا قد طبع الكتابة بطابع ممل، ولكن يمكن التعود عليه بعد قليل من الممارسة، والدليل على جودة الرسم التقليدى في بعض الأحيان أننا نستطيع بشيء كثير من الدقة أن نقرأ النصوص الأيرلندية المعقدة التي ترجع إلى عهد مخطوطة عميد لسمور، بينما نعجز عن تحديد ما لبعض رسوم هذه المخطوطة نفسها من قيمة.
ينطقون الكلمات Chaptel "سلالة" و dompter "يروض" و sculpter "ينحت" promptement "على الفور" بالمجموعة الصوتية pt "بت"، وهو نطق غير سليم. وهناك ما هو أنكى من ذلك؛ فإن كلمة lais القديمة -وهي من فعل laisser "يدع"- قد كسيت رداء جديدا لم يكن من حقها أن تلبسه، فصارت تكتب legs بحرف g، وذلك تحت تأثير الفعل leguer "يودع". واليوم ينطقها الكثيرون بهذا الحرف كما ينطقون اسم العلم Laygues، ومن ثم نرى أن الرسم من العوامل التي تؤدي إلى تغيير المفردات1. فنراه يفصل بين festoyer و fete وبين legs و laisser بينما نراه يصل forsene ""متهور غضبا"" بكلمة force "قوة" وذلك بكتابتها forcene كما أنه يحرف الاشتقاق بعض الأحيان؛ فإن الاستعمال السيئ لـ"ge" بدلا من "j" قد أوجد كلمة Gageure التي ينطق بها سواد الناس في عصرنا هذا على وزن beurre، مع أنها مشتقة من gager "راهن" بواسطة اللاحقة ure مثل picure "لدغة" من piquer "لدغ" و mouillure "تبلل" من mouiller "بلل". وإذا أردنا أن نعدد هنا آثام الرسم في الفرنسية فلن نستطيع الانتهاء منها2. وإن المناقشات التي دارت حديثا حول هذا الموضوع قد سمحت بتسجيل قوائم بهذه الآثام وإن في مادتها من الغزارة ومن الشهرة ما يعفينا من محاولة ذكرها في هذا المكان.
وهي دائما في سبيل الزيادة، لأن أزمة الرسم تتوقف على الظروف الاجتماعية التي تتطور فيها اللغة، فبمقدار اتساع الخلاف بين الفرنسية الأدبية والفرنسية الكلامية "انظر ص343-344" تزداد حدة الشر؛ لأن عددا من الكلمات التي تستعمل الآن في المحادثة سيترك نهائيا اللغة المكتوبة وعندئذ لا يحفظ إلا من الكتب ولا تعمل على الاحتفاظ بسلامة نطقها أية رواية شفهية، فتصبح هذه
1 عن وجود حالات من هذا القبيل في الألمانية انظر Behaghel تأثير الكتابة في مفردات اللغة، مجلة اتحاد اللغة الألمانية، مجلد 18، ص35-40 وص 68-76.
2 ا. جازييه A. Gaziera: الرسم عند آبائنا وعند أطفالنا في Melanges de litterature et d'hsitoire، باريس "1904" ص321.
الكلمات بمثابة الكلمات الأجنبية التي تدخل في اللغة بواسطة الكتب، فنحن نقول rail "شريط السكة الحديد" أو wagon "عربة القطار" متأثرين بالصورة المطبوعة فنطبق النطق الفرنسي على الرسم الإنجليزي؛ ولكنا نقول Bifteck على النطق الإنجليزي، لأننا أخذنا هذه الكلمة عن الرواية الشفهية. وكلمة gageure كل صحفية مثل كلمة rail وكلمة wagon؛ وهذا يفسر لنا ما طرأ عليها. فالكتاب يعكس دائما في اللغة رد فعل الصورة المكتوبة على الصورة الشفوية.
وفي إنجلترا أيضا يعلن تباين اللغتيين عن نفسه منذ زمن طويل. فرطانات الأقاليم الإنجليزية مشربة جميعها باللغة الأدبية من تأثير الكتب والصحف بوجه خاص. وهذه اللهجات ليست في غالب أمرها إلا اللغة الأدبية بعد أن صبغت بالصبغة اللهجية كما هي الحال في فرنسا "انظر ص336 و337". غير أن صبغ اللغة الأدبية بالصبغة اللهجية يعرض صاحبها للوقوع في الأخطاء، وهذا مثل نموذجي من تلك الأخطاء؛ كلمة light التي تنطق lait في اللغة المشتركة لا تزال تنطق lixt في شمال القطر وبالقياس على ذلك راح أهل الأقاليم ينطقون كلمة delight كأنها dilixt بدلا من dilait مع أنها من أصل آخر غير الكلمة الأولى، وقد يجمعون بين الخطتين فيقولون في Light؛ Laixt، وهي طريقة أخرى لصبغ اللغة بالصبغة اللهجية على نحو خاطئ1.
تأثير الرسم على النطق في الألمانية أشد منه في الفرنسية أو الإنجليزية، وهذا يرجع إلى أن الألمانية المشتركة لغة كتابية أولا وقبل كل شيء "انظر ص332" ففي إبان تكوين اللغة المشتركة سوى النطق على الرسم في غالب الحالات؛ لأن الرغبة كانت تتجه في ذلك الحين إلى إقامة نطق عام، لا هو نطق إقليم معين ولا نطق مجموعة اجتماعية بعينها، فالاستعمال كان يتجه ولا زال يتجه إلى تطبيق الألمانية الكلامية على رسم الألمانية الأدبية. فمن ذلك مثلا، أن الحركة المركبة ie في الألمانية العليا الوسطى صارت i طويلة "ي" دون أن يتغير الرسم لهذا السبب، ولكن لما كانت المستشارية السكسونية تكتب je بدلا من ie عندما تكون
1 و. هورن: رقم 169، ص55.
في مبدأ الكلمة، فقد أدخل هذا الاختلاف في النطق أيضا، ومن ثم نرى jemand "بعض الناس" و je في مقابلة niemand "لا أحد" و nie "لا"1. ومع ذلك فإن الألمانية تمتاز عن الفرنسية والإنجليزية بأن الرسم بعد أن استقر فيها بقي ثابتا. أما في الفرنسية فإن التباين الذي بين الفرنسية الكتابية والفرنسية الكلامية لا يزداد مع الأيام إلا اتساعا.
لا يمكننا إلا أن نمتدح المجهودات التي تبذل لإصلاح عيوب الرسم. وحجة القائمين بها تتلخص فيما يلي: الرسم الفرنسي عبارة عن نظام توافقي قام بوضعه جملة وتفصيلا طائفة من متحذلقي العلماء. وما وضعه التوافق يستطيع التوافق أن يلغيه. وليس في إصلاح رسم اللغة إضرار باللغة نفسها. بل إن في ذلك تخليصا لها من داء ينخر في جسمها وتوفيرا لوقت ثمين يضيع على أولادنا هباء منثورا وتسهيلا للأجانب الذين يتعلمون لغتنا.
وكلها أسباب وجيهة وكنا نتمنى لو أنصت لها الناس في كل مكان، ولعله كان يلزم لذلك أن تكلف لجنة من العلماء المختصين بالبحث عن الوسائل الناجعة في إصلاح الرسم في الفرنسية، وأن يكون ذلك بصفة دائمة، كما يفعل الأطباء إذ يسهرون على المريض حتى شفائه التام. وهذا العمل يستلزم وقتا طويلا، إذ لا ينبغي أن يسار فيه إلا ببطء شديد، إذ إن هناك أسبابا كثيرة تبعث على التبصر في هذا الأمر. وسنشير فيما يلي إلى بعضها.
فإذا قمنا بإصلاح شامل دفعة واحدة كنا قد استبدلنا مكان اللغة المكتوبة التي تعودنا عليها لغة كتابية أخرى جديدة، ويترتب على هذا أن نطرح وراء ظهرنا دفعة واحدة جميع المطبوعات التي نشرت بالفرنسية منذ قرون، وهو أمر مستحيل، هذا إلى أن مثل ذلك العمل يوجب على جيل أو جيلين من الفرنسيين أن يتعلموا لغتين بدلا من لغة واحدة، وإن هناك من العادات والتقاليد الأدبية ما لا يستطيع المرء أن يغيره بجرة قلم واحدة. وطبعا من الواجب جعل الفرنسية
1 و. برونه: في توحيد اللغة الألمانية، في Akademische Festrede، هال "1905".
أسهل تحصيلا وأقرب منالا بالنسبة للأجانب. وعلى الفرنسيين الذين يرجون لقطرهم مستقبلا استعماريا ناجحا، أن يفكروا في صعوبة كتابتهم الكفيلة بأن ينفر منها من يريد تعلمها من سكان إفريقية الوسطى أو الشرق الأقصى، ولكن يبدو أن صعوبات الكتابة الإنجليزية لم تعرقل نجاح الإمبراطورية الإنجليزية، وإنه ينبغي بذر الاضطراب في العادات التي درج عليها مواطنونا في سبيل إرضاء بعض الأجانب. والواقع أن أقل تغيير في قواعد الرسم كفيل بزعزعة العادات المكتسبة زعزعة ضارة؛ لأننا إذا طبقنا الحد الأدنى من الاصطلاحات التي يقترحها المصلحون، لم تبق صفحة واحدة مكتوبة بالفرنسية ودون أن تتغير تغيرا تاما، ويتحتم على العين والفكر أن يظلا ساهرين على تصحيح ما يقع من أخطاء حتى يصابا في نهاية الأمر بالملل، ولكن يمكن الإجابة على تلك الاعتراضات بأن الصعوبات الناشئة لا يمكن أن تؤثر على أكثر من جيل أو جيلين، وأن ما نعمل نحن على نسيانه من العادات القائمة يوفر على أحفادنا مئونة حفظه، وهذه إجابة وجيهة، ومع ذلك فإن الاعتراض ينبهنا إلى مقدار التبصر الذي يجب أن نراعيه في كل إصلاح للرسم.
فإذا ما اقتصرنا على التبسيط التدريجي حسب خطة موضوعه، فإننا نكون قد احترمنا حقوق اللغة الكتابية التي لا ينبغي لنا أن نهدرها.
يميل بعض العلماء إلى اعتبار اللغة المكتوبة خادما مطيعا للغة الكلام، وهذا رأي طائفة من علماء الأصوات وأساتذة اللغات الحية الذين يهتمون بالحد من تطرف أساتذة المدارس، أولئك الذين يحصرون اللغة كلها في اللغة الكتابية. ولكن هل يجوز لنا حقا أن نقول بأن تلك الكلمة المكتوبة تنطق على هذا النحو وأن تلك الكلمة الملفوظة تكتب على ذاك؟ وهل توجد الكلمة في الصوت المنبعث من الفم أم في الكتابة التي تسود وجه الصحيفة؟ الواقع أنها بالنسبة لكل شخص متحضر توجد في هذه وفي تلك على السواء، فكثير من المتحضرين يتفاهمون فيما بينهم بالكتابة أكثر مما يتفاهمون بالكلام. وأغلب الظن أننا إذا رجعنا إلى أصول الكتابة وجدنا أن اللغة المتكلمة هي المنبع الذي استمدت منه اللغة الكتابية. فعندما اعتزم فلفيلا
wulfila أن يسجل لغة القوطيين اجتهد في أن يوجد لكل صوت من أصوات اللغة صورة كتابية مناسبة. وبهذا المعنى يصح لنا أن نقول إن الكتابة قد اقتفت أثر النطق، ويسير الحال على هذا المنوال في أيامنا عندما يعمد أحد الجوابين إلى تسجيل لغة من لغات البدائيين لم تكن قد كتب من قبل، طبعا لا يدرك الأمي من الكلمة إلا صورتها السمعية، ولكن عندما تنتشر الكتابة ويفرض تعلم القراءة على جميع أبناء القطر تزداد أهمية الكلمة المكتوبة شيئا فشيئا.
واليوم لا نستطيع أن نتصور اللغة دون صورتها الكتابية. ولا تظهر الكلمات أمام أذهاننا إلا في الثوب الذي يخلعه عليها الرسم. فيمكننا أن نقول هنا إن العضو قد خلق الوظيفة، وأية وظيفة؟ وظيفة بلغت من الطغيان حدا جعل اللغة المكتوبة تفوق اللغة الكلامية وضوحا عند بعض الناس، وهم أولئك الذين نطلق عليهم اسم البصريين، فنسمع بطلا من أبطال دي موسيه يقول بأنه لا يستطيع أن يفهم بوضوح إلا ما كان مكتوبا بالخط المستدير المجسم، هذه الفكاهة المسلية يمكن أن تنطبق على كثير من الناس، فهذا مثلا لا يفهم صفحة يسمعها ولا يحسن فهمها إلا إذا قرأها، وذلك لا يستفيد من درس يلقى عليه إلا إذا هُيِّئ له بعد ذلك أن يرى فحواه مطبوعا أمام عينيه. إن هذه حالة قصوى تلفت النظر بندرتها، ولكن إذا راقب كل منا نفسه بعض الشيء، تحقق من قربه منها إن قليلا وإن كثيرا.
عندما نسمع حديثا ما نلاحظ في أغلب الأحيان أن الكلمات تقرع في نفس اللحظة جهازنا البصري بقدر ما تقرع جهازنا السمعي، بمعنى أن الأثر الواقع على المراكز السمعية ينتقل بدوره إلى المراكز البصرية، وحينئذ نبصر الكلمات التي تسمعها أذننا، بل نحن أيضا عندما نتكلم نرى الكلمات التي نلفظها، فتمر أمام عقلنا كأنها مسطورة في كتاب مفتوح، والصورة التي تتخذها على شفتينا محددة غالبا بالمنظر الذي تظهر فيه أمام عقولنا. لذلك كان من خير الوسائل لتجنب أخطاء النطق أن نرجع إلى صورة الكلمة البصرية التي تصحب دائما صورتها السمعية في ذهننا، وكذلك صورة الكلمة البصرية يصحبها عند القراءة إحساس سمعي،
فنرانا نغني لأنفسنا جمل الكتاب الذي نقرؤه، وعندما نكتب، نرى قلمنا يتبع الإشارات التي يمليها على الصوت الداخلي، فيمكننا أن نقول بأنه في أثناء النشاط اللغوي لدى الشخص المتحضر العادي، تشترك صورة اللغة جميعها في العمل.
اللغة الكتابية إذن ذات أهمية عظيمة في سيكولوجية اللغة، فما دمنا نعلم القراءة والكتابة للأطفال، يجب ألا نسقط من حسابنا حقوق اللغة الكتابية وإن تعارضت أحيانا مع حقوق اللغة الكلامية، ولكن هذه الحقيقة لا تستبعد إمكان إصلاح الرسم. إذ من الطبيعي أن نعمل على تضييق الشقة بين اللغة الكتابية واللغة الكلامية. ولكن لا ينبغي لنا أن ننسى أن الحصول على تعادل تام بين اللغتين أمر مستحيل؛ وإذا كانت الكلمة توجد في الصورة الكتابية وفي الصورة الكلامية على السواء، فلعله ليس من الشر أن يوجد في الرسم بعض وجوه من الشذوذ والنفور والعيوب، فبذلك تحفر صورة الكلمات في الذاكرة بطابع أعمق، وإن غرابة اللباس تعبر بشكل أوضح عن الفكرة التي ترتديه.
يقول فولتير: "الكتابة صورة الصوت، فكلما قربت منه في سيماها، كانت خيرا" وهذا القول لا يصدق إلا من الناحية النظرية، ولا يمكن أن يتخذ مبدأ وطريقة إلا عندما يحتاج الأمر إلى وضع كتابة للغة جديدة، أما في لغة كاللغة الفرنسية، فإننا نحد من نطاق الكتابة دون مبرر، إذا أردنا أن نجعل منها صورة للكلام نعم أغلب الظن أن اللغة المكتوبة قد ولدت من اتفاق قام بين بضعة أفراد، ولكن هذا الاتفاق قد امتد حتى شمل المجتمع بأسره وفرض نفسه عليه بقوة صارمة، وليس العقل هو الذي ينظم حياتنا الاجتماعية، بل العادة، وحجج الفلسفة كلها عبث في عبث أمام قدرة العادة. فعندما أريد الاستفادة في العمل من نور النهار أطول مدة ممكنة، كان المعقول أن تغير مواعيد العمل، لا أن تغير الساعة، ومع ذلك فإن الساعة هي التي غيرت، لأننا لم نقبل أن نتناول طعام الغذاء في الساعة الحادية عشرة إلا إذا أطلق على هذه الساعة اسم الظهر، فنحن عبيد العادات الاجتماعية إلى هذا الحد والرسم هو إحدى هذه العادات بالنسبة لكل شخص متحضر، فلا يمكن إصلاحه إلا بأشد الحذر وباستيحاء العادة نفسها.