الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: كيف تغير الكلمات معانيها
1؟
يوجد في تطور اللغة فرق بين الصوتيات والصرف والمفردات.
فالنظام الصوتي يستقر منذ الطفولة ويستمر طول الحياة، فالإنسان يحتفظ حتى آخر حياته بمجموعة الحركات التي تعودت عليها أعضاؤه الصوتية منذ طفولته اللهم إلا أن يحدث له عارض ناتج من التعليم، وذلك في حالة أن يتلقن نطقا أجنبيا يحل محل النطق القومي. النظام الصرفي ثابت أيضا. نعم إن استقراره يتطلب وقتا أطول، ولكنه بعد أن يستقر لا يعتريه تغير يذكر. ذلك بأن الصرف لا يتغير في أثناء جيل واحد، بل هو كالصوتيات إنما يتغير في الانتقال من جيل إلى جيل. فالنظام الصوتي والنظام النحوي إذا ما اكتسبا مرة بقيا طول العمر، ويدينان باستقرارهما إلى استقرار ذهنية المتكلم.
أما المفردات فعلى العكس من ذلك لا تستقر على حال، لأنها تتبع الظروف. فكل متكلم يكون مفرداته من أول حياته إلى آخرها بمداومته على الاستعارة ممن يحيطون به. فالإنسان يزيد من مفرداته ولكنه ينقص منها أيضا ويغير الكلمات في حركة دائمة من الدخول والخروج. ولكن الكلمات الجديدة لا تطرد القديمة دائما، فالذهن يروض نفسه على وجود المترادفات والمتماثلات
1 انظر على وجه العموم: بريال BREAL، رقم 55؛ ونيروب، رقم 105، مجلد 4 ورقم 186 ويابرج JABERG، رقم 38 مجلد 25، ص561 وما يليها "وذلك عن مراجع المسألة وتاريخها". وانظر خاصة ا. لتريه E. LITTRE: COMMENT LES MCTS CHANGENT DE SENS "مع مقدمة وتعليقات لميشيل بريال، باريس 1888"؛ ا. مييه. COMMENT les mots changent de sens. رقم 2، 1905-1906، ص38؛ وباول PAUL، رقم 188، فصل 4، وبرسون PERSSON، رقم 190، مجلد 2، ص968 وما يليها.
ويوزعها على وجه العموم على استعمالات مختلفة. فالكلمتان الفرنسيتان chaire "كرسي" "ولكنها تقال لكرسي الأستاذية أو كرسي الخطيب
…
إلخ" و chaise "كرسي"؛ أو sieur "سيد "للاستعمال العادي" و seigneur "سيد""تطلق على النبلاء أو على من لهم أتباع، أو من يعطي لهم لقب السيادة من جهة رسمية" ليس لهما نفس القيمة. ذلك بأن الحياة تشجع على تغير المفردات لأنها تضاعف الأسباب التي تؤثر في الكلمات. فالعلاقات الاجتماعية والصناعات والعدد المتنوعة تعمل على تغير المفردات وتقضي على الكلمات القديمة أو تحور معناها وتتطلب خلق كلمات جديدة. ونشاط الذهن يستدعى دائما للعمل في المفردات. وبالاختصار فإن الأسباب التي تؤدي إلى تغير الظواهر ليست في أية مادة أكثر تعقيدا ولا عددا ولا تنوعا منها هنا.
لا تكاد تفكر في تغير المفردات حتى يتجه ذهننا في التو إلى حياة الكلمات "la vie des mots" وإلى الكتاب الصغير الذي كتبه أرسين درمستتير Arsene Darmsteter بهذا العنوان1. ولكن العنوان ليس أحسن ما في هذا الكتاب. هذا الكتاب. فعبارة حياة الكلمات نفسها عبارة موقعة في اللبس وكثيرا ما أدت إلى تفسيرات لو سمعها دار مستتير لما فاته أن يحتج عليها. إذ لا يعقل أن تعتبر الكلمة اعتبار الكائن الحي. فالشبه بينهما ظاهري فقط. لأن الكلمات لا تولد وتموت على الصورة التي بها يولد الإنسان ويموت. فقد نستطيع استثناء أن نعين السنة التي فيها دخلت في الاستعمال كلمة لم تكن معروفة حتى هذا العهد؛ مثلا كلمة chandail يرجع ظهورها إلى عام 1894م2؛ ويعزى خلق كلمة pudeur "حياء" إلى الشاعر ديبورت Desportes3، وكلمة bienfaisance "إحسان" إلى الأب
1 رقم 62.
2 كليدا cledat رقم 59، الطبعة الرابعة ص117.
3 فوجلا Vaugelas؛ Remarques sur la langue francaise، ملاحظة رقم 527، طبعة سنة 1738، مجلد 3، ص348. ويلاحظ أن كلمة pudeur مما استعمله منتي Montaigne، و Essais، 2/ 15 و3/ 5".
دي سان بيير de saint-pierre1. وكلمة obscenite وهي من خلق المتحذلقات، كانت تبدو لمعاصري موليير Moliere كأنها خلق جديد"2.
وأحدث من كل هذا rescape "ناج" التي دخلت الفرنسية على أثر نكبة الكوريير courrieres "في سنة 1906" وكلمة indesirable "غير مرغوب فيه" التي دخلت على أثر مغامرة غرامية منع صاحبها من دخول الولايات المتحدة. ولكن الأمر في الحالة الأولى يتعلق بانتشار كلمة في الفرنسية المشتركة وكانت مستعملة فقط في مقاطعة "با، دي، كاليه" pas، de، calais؛ وفي الثانية باستعارة كلمة من اللغة الإنجليزية. فعندنا "إدخال" لكلمتين في الفرنسية، ولكن في ظروف لا تشبه الميلاد في شيء.
استبدلت الفرنسية كلمة tete "رأس" مكان الكلمة القديمة CHEF المأخوذة من CAPUT اللاتينية، وكلمة JUMENT "فرس" مكان كلمة IVE المشتقة من EQUA اللاتينية. فلنفترض، وإن كان افتراضا بعيد الاحتمال، أن كلمة CHEF عادت إلى الاستعمال بمعنى TETE "رأس"، وأن IVE احتلت مكان منافستها الموفقة JUMENT "فرس"، أيمكننا في هذه الحال أن نتكلم عن عودة كلمة مريضة هي "CHEF" إلى الحياة، وعن بعث كلمة بعد موتها وهي كلمة "IVE" ذلك ما لا نستطيعه بأية حال، بل كل ما هناك هو إدخال كلمتين جديدتين في المفردات ولا يمكن أن يقال بوجود صلة بين كلمة IVE التي كانت في العصور الوسطى وكلمة IVE الجديدة التي ابتكرت في أيامنا هذه بواسطة الهوى أو الحاجة.
وقد تنتقل كلمة من لغتنا إلى الخارج، وتصير مفقودة بالنسبة لنا، ثم تعود إلينا بعد قرون. مثال ذلك كلمة FLIRT "مغازلة" وكلمة BUDGET "ميزانية" اللتان تعتبران عندنا اليوم مستعارتين من الإنجليزية، ولكنا نعلم أن فرنسا موطنهما الأصلي، وأنهما عبرا البوغاز إلى إنجلترا منذ زمن قديم. ومع ذلك فمن غير الحق أن ننظر بعين الجد إلى ذلك المجاز الذي يشبه الكلمات بالمسافرين الذين يعبرون الحدود في اتجاه ما ثم يعودون إلى عبرها من جديد في اتجاه مضاد.
1 فولتير VOLTAIRE؛ SEPTIEME DISCOURS SUR L'HOMME.
2 نقد مدرسة الزوجات.
ذلك بأن الكلمة التي وفدت علينا من إنجلترا ليست هي الكلمة الفرنسية القديمة fLEURETTE "زهيرة" وإنما جاءتنا كلمة إنجليزية FLIRT "مغازلة" أدخلناها في لغتنا الحديثة. وليست كلمة BOGETE "كيس صغير" القديمة هي التي استرجعناها في صيغة BUDGET "ميزانية" وإنما جاءتنا كلمة مخالفة، كلمة أجنبية، كلمة تدل، فضلا عن ذلك، على شيء آخر غير ما تدل عليه الأولى.
ومع ذلك فعلم الاشتقاق الذي يقص أثر الكلمات في خلال العصور والأقطار ذو فائدة عظمى. نعم من المتفق عليه أن الكلمات لا تحيا حياة مستقلة، ولا وجود لها إلا في ذهن بني الإنسان. ولكن هذا النشاط الذهني الذي لا يكف عن العمل ينعكس في المفردات. فلنعب الغلطة التي تؤدي إلى أخذ الصورة المنعكسة في المرآة على أنها شخص حي، لأن الصورة لا حياة لها. ولكن هذا لا يطعن في أن المرآة تقدم لنا بأمانة تامة سلسلة الحركات التي نعملها أمامها. ومن المسموح به أن نحكم على هذه الصورة أو أن نفسرها على نحو ما نحكم على الشخص الذي يعكسها تماما. وهذا التعليل الساذج يكفي لتبرير قيمة النتائج التي يمكن أن ننتظرها من الاشتقاق.
ومع ذلك فهناك شرط لا بد منه. ذلك أن الاشتقاق لا يعتبر عمله منتهيا عندما ينجح بقوة الصبر في أن يقرر تاريخ بضع كلمات قد أخذت على انفراد. اشتقاق الألفاظ منفردة لا فائدة منه في حد ذاته، فالحالة الخاصة، مهما ثبتت علميا ليست إلا ملهاة يتسلى بها إذا لم يستخرج منها مبدأ عام يستطاع تطبيقه على حالات أخرى. ونحن نعلم أنه يوجد من بين الاشتقاقات حالات كثيرة لا تؤدي إلى نتائج عامة. فلا يهمنا كثيرا أن تكون كلمة الـECHALOTE "نوع من البصل" مأخوذة من اسم مدينة عسقلان Ascalon، أو أن hussard "جندي من الفرسان" مأخوذة من اسم العدد "عشرين" بالمجرية، أو أن ليون lyon معناها مدينة الإله لوج "lug" فذلك يمكن أن يفيد منه من يدرس زراعة الخضار أو المؤسسات الحربية أو الأساطير الكلتية، ولكنه لا يفيد العالم اللغوي في شيء، فالعالم اللغوي
لا يهتم بالاشتقاق إلا ليجمع أكبر عدد ممكن من العمليات المعنوية المتشابهة بقصد أن يستخرج منها القوانين العامة التي بمقتضاها يتطور معنى الكلمات.
هذه القوانين لا تكون إطلاقا في الكلمات بعضها. وغلطة دومستير أنه أوهم بوجود نوع من المنطق الداخلي الذي يحكم التغيرات المعنوية للكلمات. فيظهر أن نظر المؤلف لم يمتد إلى أبعد من تلك التجريدات السكولاستية التي تنحصر في الاستعمالات المجازية أو في تسمية الأشياء الجديدة بأسماء قديمة، ولم يصل إلى الحقائق الواقعية المشخصة التي تمثلها الكلمات.
الكلمات على ما هي مرتبة في الذهن ليست منعزلة. وميل الذهن إلى تجميعها إلى عوارض، كعوارض الاشتقاق الشعبي التي تصب الكلمات في صيغتها "انظر ص232". وأثر التجميع على معنى الكلمات أقوى منه على صيغتها.
عرى الأسرة المعنوية تمسك كل كلمة في معناها التقليدي، أو إذا حدث لكلمة من كلمات الأسرة الرئيسية تحول في معناها، جذبت معها الكلمات الأخرى إلى المعنى الجديد. فلما تخصصت كلمة habit، ومعناها "حالة، هيئة" في معنى اللباس"، أصاب الفعل habiller "الوضع في هيئة ما" نفس التخصص؛ وهاتان الكلمتان جذبتا إليهما مشتقاتهما ومركباتهما habilleur "من يلبس" و habillement "الإلباس" و deshabiller "انتزاع الملابس" إلخ، والكلمتان pondre أو ponte تحولت كلتاهما في وقت واحد من فكرة "الوضع" عامة إلى فكرة "وضع البيض" في الكلام عن طائر أنثى. فالإحساس بالأسرة اللغوية أمسك هذه الكلمات مجتمعة.
أما إذا تراخت عرى الأسرة أو انفصمت. لم يبق شيء لمنع المعنى من أن يضل الطريق: فالكلمة اللاتينية captiuus احتفظت بمعنى "أسير" خلال تاريخ اللغة اللاتينية بأسره، لأنه كان يوجد إلى جانبها الفعل capio "آخذ". وفي الفرنسية لم يبق الفعل capio بينما بقيت كلمة captiuus المشتقة منه، ولكن في حالة العزلة تلك، فلما لم تبق لها سنادة من الأصل الذي اشتقت منه وأصبحت
غير مرتبطة هائلة صرفية محدودة، تطورت تطورا سريعا فأصبحت chetif "بائس، ضعيف"، هذا التطور في المعنى الذي ساعد عليه انحلال المجموعة التي كانت تنتسب إليها الكلمة أصلا، يرجع بعض الشيء إلى وجود كلمة petit فكلمة "صغير""والتي أدت إلى خلق مؤنث منها بصيغة CHETITE في بعض اللهجات". فكلمة CHETIF، وقد انتزعت من منبتها. غرست على شكل ما في مكان آخر ووصلت بمجموعة معنوية أخرى.
في الألمانية العليا القديمة كانت بعض الصفات التي تصاغ بمساعدة اللاحقة -i- تملك إلى جانبها ظرفا يحتوي على اللاحقة -o- مثل FESTI "ثابت" و FASTO "بثبات"؛ SKONI "جميل" و SKONO "بجمال" ولكن هذه الصياغة
المزدوجة لم تثبت على مر الزمن، وصار الظرف يصاغ من الصفة مباشرة، ومن هنا ورثت الألمانية، بعد سقوط النهايات، زوجين مختلفين من الكلمات هما: FEST "ثابت" و SCHON "جميل""وهما صفتان"، FAST و SCHON "وهما ظرفان"، فلم تعد الصلة يحس بها بين كل كلمتين. فساعد ذلك على تطور معنى الظرفية: و FAST أخذت معنى "تقريبا" و SCHON أخذت معنى "قد DEJA""قارن في الفرنسية A LA BELLE HEURE "لحسن الحظ" و DE BONNE HEURE "مبكرا"؛ أما إذا أرادت الألمانية في أيامنا هذه أن تقول "بثبات أو بجمال" قالت FEST و SCHON.
ترينا هذه الأمثلة مقدار الأثر الذي تخضع له الكلمات من جراء الكلمات الأخرى التي من نفس الأسرة اللغوية يحدث في الدماغ عمل غير شعوري يثبت الكلمات في بعض المعاني وبعدها للاستعمالات التي توجه إليها. وفي الاستعمال تتعرض الكلمات إلى تغيرات أخرى في المعنى، والتغير في هذه المرة يأتي من سياق النص.
تزود كل كلمة في لحظة استعمالها تزويدا تاما بقيمة وقتية تبعد عنها جميع القيم الناتجة من الاستعمالات الأخرى التي تصلح لها الكلمة. ومع ذلك فإن استعمال الكلمات يقوم بواسطة هذا التنوع نفسه، بتأثير دائم على دلالتها. وهذا يتجلى في صورتين: الأولى تنحصر في أن الاستعمال الثابت لكلمة بعينها في نص واحد بعينه يمكن أن يخدع الذهن، إذ إنه لما لم يكن لديه الوسيلة لتحديد قيمة الكلمة بالمقارنة، فإنه يتعرض لتغيرها. ومن جهة أخرى قد يؤدي الاستعمال المتكرر لنفس الكلمة في نصوص مختلفة إلى إبلاء قيمتها او إلى تغييرها.
عندما نسمع جملة أو نقرؤها نرى الكلمات التي تشتمل عليها يفسر بعضها بعضا. فإذا كانت منها واحدة غير مألوفة لنا -والواقع أن هناك دائما فترة في حياتنا نسمع فيها الكلمة لأول مرة- حاولنا بطبيعة الحال تفسيرها معتمدين على سياق النص، وهذه هي الخطة التي يتبعها التلاميذ عندما يحاولون ترجمة نص أجنبي، نص لاتيني أو ألماني مثلا. هذه الفكرة التي نحصل عليها بالتخمين قد تكون زائفة. ولكنها تصحح في غالب الأمر، لأن الكلمة نفسها تقابلنا بعد
ذلك في جمل أخرى مع كلمات أخرى تحدد لنا معناها. وعلى هذا النحو يثبت في الذهن معنى كل كلمة.
وهناك كلمات محدودة الاستعمال لا تظهر مطلقا إلا في صحبة بعض الكلمات الأخرى. وفرصة الخطأ في هذه الكلمات أوسع. لأن الاستعمال لا يقدم لنا الوسيلة لتحديد قيمتها. وفي هذه الحال كثيرا ما تبتعد الكلمة عن دلالتها الأصلية بسبب المعنى الزائف الذي يضاف إليها. فكلمة fruste كانت لا تقال في الأصل إلا وصفا للعملة التي مسح رسمها، وصار يفهم من عبارة monnaie fruste عملة خشنة الصنع خالية من الفن والدقة. ثم صارت تطلق بطريق التوسع على الرجل الفظ الغليظ غير المهذب. فهذا الذي تغلب هو معنى زائف، ولعل الذي ساعد على ذلك شبه صوتي غامض بين هذه الكلمة وبين الكلمتين:rustre و rustaud "خشن"1.
الواقع أن الذهن يسعى إلى تحديد معنى الكلمات بجميع الوسائل التي في متناوله. ولكنه يخدع أحيانا إذا وجهته بعض ظروف خاصة في طريق غير مستقيم. فالصفة emerite كانت تطلق في الأصل على الموظف الذي يحال إلى المعاش. ثم صاروا يحاكون اللاتينية حذلقة فيطلقون عبارة professeur emerite على ما نسميه الآن "أستاذ شرف" ولكنهم راحوا يفسرونها على أنها تدل على "الجدارة" merite أو سمو المقام؛ فأصبحوا الآن يصفون الأستاذ بأنه emerite إذا أرادوا وصفه بالامتياز. وهذا ضد المعنى الأصلي، ولكنه استقر إلى حد أننا لن ندهش إذا سمعنا الناس يتكلمون عن فارس emerite أو طيار emerite. والآن بعد أن توسعت هذه الكلمة في استعمالاتها ودخلت في نصوص متنوعة، فقد امتدت أمامها الفرصة للاحتفاظ بالمعنى سليما وإن كان قد أضيف إليها عن طريق الخطأ.
ومع ذلك نلاحظ أن معنى الكلمة يزيد تعرضا للتغير، كلما زاد استعمالها
1 كتب حديثا أحد أعضاء الأكاديمية كتابا نقرأ فيه الجملة الآتية يلخص فيها صورة بطل من أبطال الحرب: L'ensemble est solide، dominateur et fruste "هو على الجملة متين، متسلط خشن".
وكثر ورودها في نصوص مختلفة. لأن الذهن في الواقع يوجه كل مرة في اتجاهات جديدة، وذلك يوحي إليه بخلق معان جديدة ومن هنا ينتج ما يسمى بالتأقلم polysemi. يجب أن نفهم من هذا الاسم قدرة الكلمات على اتخاذ دلالات متنوعة تبعا للاستعمالات المختلفة التي تستعمل فيها، وعلى البقاء في اللغة مع هذه الدلالات. وعندنا مثال جميل عن التأقلم في كلمة bureau "مكتب" إذا كانت تدل في الأصل على نوع من نسج الصوف الغليظ المسمى etoffe de bure ثم أطلقت على قطعة الأثاث التي تغطي بهذا النسج، ثم على القطعة من الأثاث، ثم على الأعمال التي تعمل في هذه الغرفة، ثم على الأشخاص الذين يقومون بهذه الأعمال، وأخيرا على أية مجموعة من الأشخاص تقوم بإدارة إحدى الإدارات أو الجمعيات. وخلق معنى جديد لا يقضي بالضرورة على المعاني السابقة، فهنا يمكن لكل المعاني أن تبقى حية في اللغة إذا استثنينا الأول منها "نوع من النسيج". وحركة التغيرات المعنوية لا تسير دائما في خط مستقيم، بل تسير في كل الاتجاهات حول المعنى الأساسي، وكل واحد من المعاني الثانوية يمكن أن تصير بدوره مركزا جديدا للإشعاع المعنوي1.
مهما تعددت الاستعمالات التي تصلح لها الكلمة وتنوعت، فإن أحدها يطغى غالبا على ما عداه، وهو الذي يعين معنى الكلمة الأساسي على النحو الذي يسجل عليه في القاموس. فإذا اتفق أن وجد استعمالان غالبان أو أكثر ولم يكن في الإمكان تداخلهما، فمعنى ذلك أننا أمام كلمتين مختلفتين، كما هي الحال في الأمثلة المذكورة في الصفحة الثالثة من الفصل الأول بالجزء الثالث. ولكن هذا المعنى الغالب لا يستطيع أن يضمن لنفسه البقاء مطلقا، فهو محوط بمعان ثانوية تتحفز دائما للظهور عليه واحتلال مكانه. المعنى الجديد ينمو شيئا فشيئا، ويحل نفسه محل القديم، كما يمتص فرع الشجرة العصير إلى أن يدوي الجذع الأساسي. وعندئذ تجد الكلمة نفسها وقد تغير معناها.
1 درمست Darmesteter رقم 62، ص74.
_________
1 عن هذه الأمور انظر: ت. هدسن وليمز T. Hudson williams رقم 21، مجلد 26، ص22 ونلدكه، Noldeke، رقم 29، جـ3، ص279.
هناك نقابل شيئا يمكن أن يقارن في الصرف بالصيغ القوية والصيغ الضعيفة، فبين الكلمات من حيث المعنى نوع من النظام التصاعدي يحتوي على معان قوية ومعان ضعيفة. فالأولى، وهي ليست أقدم المعاني بالضرورة، تفرض نفسها على العقل بمجرد ذكر الكلمة، وتدين بقوتها إلى أهمية استعمالها، أما الثانية فتبقى في الظل لأنها نادرة الاستعمال أو خاصته، ولا بد لإخراجها من الظلام، من مساعدة كلمة أخرى تضيئها وتظهر قيمتها؛ ولكن نظام المعاني التصاعدي هذا لا شيء فيه من الإطلاق والثبات. فهو خاضع لنزوات الاستعمال جميعها، تلك التي تولد التأقلم.
ترجع أحيانا التغيرات المختلفة التي تصيب الكلمات من حيث المعنى إلى ثلاثة أنواع: التضييق والاتساع والانتقال. فهناك تضييق عند الخروج من معنى عام إلى معنى خاص مثل "pondre "يبيض" و sevrer "يفطم" و traire "يحلب""؛ وهناك اتساع في الحالة العكسية أي عند الخروج من معنى خاص إلى معنى عام مثل "chercher "يبحث عن" و gagner "يربح" و triompher "ينتصر""؛ وهناك انتقال عندما يتعادل المعنيان أو إذا كانا لا يختلفان من جهة العموم والخصوص "كما في حالة انتقال الكلمة من المحل إلى الحال أو من السبب إلى المسبب أو من العلامة الدالة إلى الشيء المدلول عليه إلخ، أو العكس". ولسنا في حاجة إلى القول بأن الاتساع والتضييق ينشآن من الانتقال في أغلب الأحيان، وأن انتقال المعنى يتضمن طرائق شتى يطلق عليها النحاة أسماء اصطلاحية "METAPHORE "الاستعارة" SYNECDOQUE "إطلاق البعض على الكل" أو METONYMIE "المجاز المرسل بوجه عام" أو CATACHRESE "المجاز المرسل بعلاقة الشبه أو غيره عند عدم وجود اسم للشيء المنقول إليه" إلخ". ونجد أمثلة منها في جميع الكتب المدرسية1، وهذا يغنينا عن بحثها هنا تفصيلا.
1 انظر خاصة درمستتير: رقم 62، وبريان: رقم 55. وراجع كذلك ل. كليدا: Revue de philologie francaise et provencale. مجلد 9 "1895" ص49.
ولعل من الأفيد أن نذكر بإيجاز كيف تفسر أنواع التغير الثلاثة بظروف الحياة نفسها.
الكلمات العامة لا تكاد تستخدم في الاستعمال بقيمتها العامة، اللهم، اللهم إلا إذا كان ذلك عند الفلاسفة، فكل واحد من المتكلمين يطلقها على نوع خاص من أنواع النشاط. وقد تكلم علماء اللغة عن المعاني المختلفة لكلمة عملية2. فإن معناها يختلف تبعا لما إذا كان الكلام في الجراحة أم في المالية أم في الفن الحربي أم في شئون الغابات
1 نيدرمان niedermann: رقم 30 "Anzeliger"، مجلد 18، ص75.
2 تريان: رقم 55، ص285.
أم في الرياضة، وتبعا لذلك نعرف ما إذا كان يدور حول قطع عضو من أعضاء الجسم أو عقد صفقة من صفقات البورصة أم قيادة كتيبة من الجيش في ميدان القتال أو تعليم الأشجار التي يجب أن تقطع أو حل مسألة حسابية. وإذا تكلم علماء اللاهوت في عملية الروح القدس، أرادوا معنى آخر غير هذه جميعا. وكلمة "موسم" أيضا من الكلمات التي تحتمل استعمالات مختلفة كل الاختلاف.
فهناك موسم ما عند كل من مدير الفندق وصاحب "الفلا" وتاجر الفاكهة وزارع النبيذ والخياطة، بل وعند كل تاجر أو صانع، فلكل واحد من هؤلاء "موسم" وهو الفترة التي يكون فيها نشاط العمل على أشده، وتختلف هذه الفترة باختلاف أنواع النشاط وباختلاف الأماكن. وفي جزء من بمبروكشير PEMBROKESHIRE من بلاد الغال يطلق الموسم على الفترة التي ترى فيها خيل اللقاح تجوب الإقليم، وهذا وحده كاف للدلالة على إقليم معنى بتربية الخيل خاصة، فكل شخص فيه يهتم بمسألة اللقاح، فتشير الكلمة إلى الموسم بمعناه الحق في نظر المتكلم، كما رأينا في كلمة "العملية" حيث يرجعها كل واحد من المتكلمين الذين افترضناهم إلى الموضوع الذي يألفه. ويمكننا أن نسوق أمثلة من هذا القبيل لجميع الكلمات العامة، بل لجيمع كلمات اللغة، لأن معنى الكلمة مهما أوغل في التخصص، يمكن دائما التضييق من سعته أو من تخصيصه كما يقولون.
أندر من ذلك حالة التعميم وإن كانت موجودة أيضا. وينحصر التعميم في إطلاق اسم نوع خاص من أنواع الجنس على الجنس كله. وهذه هي حال الأطفال الذي يسمون جميع الأنهار باسم النهر الذي يروي البلدة التي يعيشون فيها؛ هكذا يفعل الطفل الباريسي عندما يصيح وقد رأى نهرا JE VOIS UNE SEINE "أرى سينا" وتلك غلطة طفل لا يدوم لها أثر. ولكن هناك أخطاء مماثلة قد استمر بقاؤها. ففي السلافية الجنوبية صار اسم الوردة يطلق على الزهرة عموما1: في الصربية ROZA، وفي الكرواتية ROZICA. امتد أثر هذه الواقعة
1 شوخارت SCHUCHARDT، رقم 203، وقارن موركو MURKO، رقم 33 مجلد 2 ص147.
امتدادا جعل كلمة BLUME "زهرة" تختفي من اللهجات الألمانية المجاورة ويحل محلها كلمة ROSE "أصل معناها "وردة"" فيقال die wiese ist voll rosen بمعنى "الحقل مملوء بالأزهار". وبطريق العدوى صارت اللهجات الإيطالية في إقليم فريول frioul تطلق اسم الوردة على كل زهرة أيا كانت، واضطرت إلى أن توجد للوردة اسما جديدا، هو rosar أو garoful di spine، هذه الحالة التي لها أهميتها فيما يتعلق بانتشار الحالات الخاصة بالمفردات، تبرهن على وجود بعض الفصائل المعنوية التي فيها تختلط بسهولة النسب الكامنة بين الأجناس والأنواع.
هذه المجاميع هي التي يكثر فيها بصفة خاصة انتقال المعنى بسبب التجاور. فكل كلمة من كلماتها لها مضمون خاص بها وتدل على شيء خاص objet. ولكنها أمام العقل تشترك جميعا في انتسابها إلى مجموعة عامة، ولما كانت فكرة العموم تطغى على المعاني الخاصة، فقد يحدث للعقل أن ينتقل من أحد المعاني إلى الآخر. وهذه الظاهرة تقع بصورة خاصة في أسماء النبات والحيوان وأسماء أجزاء الجسم والأمراض والألوان.
اختلافات المعنى التي تلاحظ على اسم واحد من أسماء الألوان بين لغة وأخرى ترجع في غالب الأمر إلى أنواع من التخصص "انظر الصفحة السابقة"، ولكن الاتجاه الذي ندرسه هنا يستطيع أن يؤدي دوره أيضا.
أسماء أجزاء الجسم تعتبر "الميدان التقليدي لانتقالات المعنى"1. فنرى عددا كبيرا منها يتأرجح في اللغات المختلفة. وينتقل بسهولة من عضو إلى عضو أو من جزء إلى آخر: فكلمة coxa معناها "أعلى الفخذ" في اللاتينية، ولكن قرينتها coss تطلق في الإيرلندية على "القدم"، ونجد الخطوة الوسطى بينهما في الكلمة الألمانية Hachse "وهي أفضل من Hechse "أعلى الساق jarret" وفي مشتقات الكلمة اللاتينية "الكلمة الفرنسية cuisse "فخذ"، والكلمة الغالية المستعارة coes "بنفس المعنى""، فنرى أن الكلمة قد استمرت في النزول من أعلى العضو إلى أسفله. وأصل واحد هو الذي أعطانا الكلمة اللاتينية mentum "ذقن" والغالية mant "فك" والألمانية Mund "فم"، أما الكلمة الفرنسية bouche "فم" فقد جاءت من اللاتينية bucca التي تدل على "الخد"
…
إلخ.
قد يوجد في بعض هذه الأمثلة استعارة أو بتعبير أفضل، انتقال شعوري. فالذهن قد يضيف مختارا اسم أحد الأعضاء إلى العضو الذي يجاوره لقصد المزاح أو لسبب آخر. ويمكننا أن نقطع بوقوع الاستعارة إذا كانت الألفاظ تثير فكرة
1 ميرنجر Meringer: رقم 33، جـ3، ص46، ونسونر zamer؛ Romanische forschungen، رقم 14 "1903" ص339.
حلسية وفي هذه الحالة يمكن تفسيرها إما بوازع من الحياء وإما على العكس بسوء القصد. فقد يطلق الشخص على ثديي المرأة لفظ "النحر" أو "المعدتين" حسبما يكون مهذبا أو جلفا. وأسماء أعضاء الجسم المخزية، وبصفة عامة الكلمات التي تطلق على أفعال مشهورة بقذارتها أشد من غيرها تعرضا للنقل1. ويمكننا أن نقول إن الكلمات القذرة عامة كثيرة التبادل، اللهم إلا إذا كانت الكلمة المخجلة نفسها قد أطلقت على مدلولها بطريق استعارة معلومة للمتكلم، إذ في هذه الحالة لا يوجد سبيل لإطلاقها على عضو آخر. وهي ألفاظ يجمع بينها كونها كلمات قذرة، وهذا تعريفها، فيمكن أن تستعمل دون قيد للدلالة على أي جزء من الجسم ما دام قذرا. إذ قد يكفي وجود شبه بعيد أو جوار تافه لا يحس ليبرر انتقال الكلمة من معنى إلى آخر. وكل اللغات فيها أمثلة من هذه الظاهرة، فترك للقارئ مهمة البحث عنها بنفسه.
1 مار ستراندر Marstrander: رقم 30، مجلد 20، ص351.
يمكننا أن نتنبأ بنشوء علم دلالة عام، وذلك بتركيز المعلومات المستقاة من كل لغة عن تغيرات المعنى، فيسمح لنا هذا العلم بإرجاع تلك التغيرات إلى بضع قواعد -لا من وجهة نظر منطقية كما فعل العلماء حتى الآن- بل من وجهة نظر سيكولوجية وذلك يتطلب الابتداء من الأفكار التي تعبر عنها الكلمات لا من الكلمات نفسها.
ليس من المصادفة بطبيعة الحال أن كان يعبر عن فكرة "المرة" في غالب الأحيان بالكلمة التي تدل على الرحلة؛ فيقال للعامل الذي ينزل براميل في كهف المنزل أو يصعد خشبا في الغرفة العليا منه: كم رحلة قمت بها؟ بدلا من "كم مرة نزلت أو صعدت؟ " والكلمتان uicissim، uices في اللاتينية اشتقتا من كلمة تدل على الرحلة، وكلمة رحلة نفسها تستخدم في صورتها اللهجية yadze للتعبير عن "مرة" في مقاطعة الفاليه valais السفلى "سويسرة" وفي القوطية تستعمل كلمة sinths التي معناها الحقيقي "رحلة" لتكوين الظروف العددية فيقال ainamma sinths "مرة" و trim sinshams "ثلاث مرات"، وتستعمل في معنى "مرة" كلمة allvart في اللتوانية و fecht في الإيرلندية و gwaith في الغالية وفي الألمانية السفلى reise والاسكندناوية gang، وكل هذه الكلمات معناها الحقيقي "رحلة" وواضح أن هذا يفسر بتطور المعنى الطبيعي تطورا مستقلا في كل بلد من البلاد التي وردت فيها هذه الظاهرة على حدة.
ومع ذلك فهناك تسميات من هذا القبيل لا يمكن أن يكون مجرد ورودها في لغات مختلفة دليلا على أنها نتيجة لاتجاه واحد بعينه، وإن كان مستقلا في كل حالة عنه في الأخرى. من ذلك اسم belette "ابن عرس" وهو حيوان ثديي صغير من أكلة اللحوم؛ فإنه في كثير من اللغات، كما في الفرنسية، مأخوذ من الصفة "جميل". فهو في الألمانية Schontierle "الدويبة الجميلة" وفي الدنمركية kjonne وفي البريتانية kaerell وفي الأسبانية "الغاليمية" garridina بل وفي البسكية andereder، ومعناها الحرفي "السيدة الجميلة"
"andere "سيدة" و eder "جميلة"". فليس من المعقول أن تكون هذه الفكرة نفسها قد عرضت في وقت واحد في أذهان كل هؤلاء الناس الذين يتكلمون لغات مختلفة1. بل إننا هنا أمام مثال من خلق الكلمات بالمحاكاة، وبعبارة أدق من استعارة الكلمات بواسطة الترجمة، الأمر الكثير الوقوع في حالة اتصال اللغات بعضها ببعض. "انظر الفصل الرابع من الجزء الرابع".
ويحدث أن ترتبط الكلمة بأسطورة فتنتشر معها وتساعدها على البقاء. وفي هذه الحالة تترجم المفردات عن واقعة فلكلورية، فلا يمكن إذن تتبع الطريق التي مرت به الكلمات إلا بدراسة الفلكلور. كذلك يحدث كثيرا أن تنتشر عبارة تجريدية في الأقاليم المجاورة بواسطة نوع من النقل يشبه أن يكون نسخا. فالفعل الإنجليزي to become "يصير" مثل الفرنسي devenir تماما، والفعل الغالي digwyddo "يصل"، مثل اللاتيني accidere "فالصيغة cywddo "يسقط" مثل cadere". وسندرس هذه الحالات فيما بعد، في الفصل الخاص باحتكاك اللغات. فهي على العموم تختلف كل الاختلاف عن الحالات التي نحن في صدد دراستها هنا، وإن لم يكن من السهل تعيين حد فاصل بين النوعين. فمثلا عندما نرى الفعل "يقع" يستعمل للتعبير عن فكرة "الإعجاب" في الألمانية "gefallen" وفي الإيرلندية "dofuit lemm "يعجبني" حرفيا "يقع لي""، وذلك دون وجود صلة تاريخية بين العبارتين، ففي هذه الحال لا يسعنا إلا أن نقول بوجود استعارتين متماثلتين نشأت كل واحدة منهما مستقلة عن الأخرى في كلتا اللغتين.
فكرة الألم تجتمع بسهولة مع فكرة العظم، كما تجتمع فكرة القسوة بفكرة القوة. فالصفة الألمانية القديمة sero "أليم، موجع" التي لا تزال تستعمل في لهجات الجنوب "صربيا وبفاريا" بمعنى "مجروح، مكتئب" لم تستبق في الألمانية الأدبية إلا للتعبير عن التفضيل المطلق. ولعلنا نستطيع بسهولة أن نتصور خط سيرها. فقد قيل في أول الأمر sehr krank "مريض جدا" sehr betrubt "مكتئب جدا" قبل أن يقال sehr gross "كبير جدا" و sehr gut
1 رقم 33، مجلد 2، ص190، هامش رقم 1.
يمكن أيضا الانتقال دون عناء من فكرة الإشفاق إلى فكرة الحنان. فتأمل البؤس يصحبه دائما إحساس بالحدب. لأن الإشفاق والود ينبعان من موضعين متجاورين في القلب الإنساني. فيقال حدبا: MON PAUVRE PETIT "صغيري المسكين" إذ لما كانت فكرة المسكنة وفكرة الصغر مرادفتين للضعف، كانتا توحيان بالحنان والإشفاق معا. وفي كثير من اللغات تستعمل كلمات واحدة للتعبير عن كل هذه العواطف دون تفريق؛ وتنتقل من أحداها إلى الأخرى. فالصفة bleiths تعنى في القوطية "مدر للشفقة"، وقرينتها في الألمانية العليا القديمة Blidi معناها "ظريف" ويظهر أن أصلها هو أصل الكلمة السنسكريتية mrityati "يذوب، يتفكك"، فالفكرة الأساسية هي فكرة الإشفاق التي تندي القلب وتلينه.
لكن الطيبة لا تكون بلا ضعف، وبالإغراق في الطيبة يصبح الإنسان "مغفلا" كما يقول المثل الفرنسي في صراحة قاسية. والكلمات التي تمت إلى الطيبة والعذوبة والهدوء في كثير من اللغات قد استعملت للدلالة على البلاهة فالبساطة، وهي فضيلة في الخلق، تعد نقصا في العقل أيضا. وقاصر العقل يوصف في الفرنسية بأنه simple "بسيط" وفي الألمانية بأنه einfaltig "بسيط" والكلمات bonasse و debonnaire "مبالغ في الطيبة" تحملان اليوم محملا سيئا وقد ساعد
على انحدار المعنى في الكلمة الأولى وجود اللاحقة asse التي تحمل معنى تحقيريا لا شك فيه. ولكن ليس هناك أي أثر خارجي ساعد على تطور الكلمات silly في الإنجليزية و albern في الألمانية و gwirion في الغالية "في الجزء الشمالي" والأولى منها معناها في الأصل "هادئ، مأمون الجانب""قارن soelig في الإنجليزية القديمة و selig في الألمانية" والثانية "حسن العشرة طيب""في الألمانية العليا القديمة alawar" والثالثة "صادق الود، بريء""وما زالت تستعمل في جنوب الإقليم"؛ واليوم تطلق الكلمات الثلاث ويراد بها الغبي أو الأخرق. وقد وقع نفس التحول بالنسبة للكلمة الفرنسية innocent "بريء"، ولكن بواعث دينية زادتها سوءا على سوء. ذلك أن سخرية مواطنينا دأبت تنصب على أولئك الأشخاص الذين وهبوا أنفسهم لله ليمن عليهم بشهادة من بساطة العقل، إن لم تكن من النفاق، وإلى هذا الاتجاه الخالي من التبجيل تدين الكلمتان benet، و cretin بمعناهما التحقيري "فالأولى منهما جاءت من beni "مبارك" والثانية من Chretien "مسيحي"".
كل التغيرات المعنوية التي أشرنا إليها ليست سيكولوجية إلا جزئيا حيث أن المادة التي تدل عليها الكلمة تعين على هذا التغير بطبعها. فالشخص التعس يستدعي الحدب عليه بطبيعة الحال، والرجل الطيب فيه استعداد لضعف الشكيمة وأحيانا لبساطة العقل؛ والعنف يفترض القوة والقدرة، ويبطش بطش الرفيع العظيم فيمكننا القول بأن العقل إنما اتبع في انتقاله من فكرة إلى أخرى السبيل الذي خطته التجربة في الحياة، فاختصر في كلمة واحدة سلسلة بأسرها من الملاحظات، ومع ذلك فإن نصيب العقل يعد على جانب من الخطورة بحيث يخول لنا أن نتكلم هنا أيضا عن تحولات سيكولوجية؛ إذ لا يكفي للملاحظة أن تمون بالتجربة، إذا لم يستطع العقل أن يستخرج منها النتيجة المناسبة. فتفسير صفات المسالمة التي تبدو على رجل طيب تفسيرا سيئا وتمجيد قسوة الظالم عن أنها من عظائم الأمور والعطف على البائسين، أليست كلها ميولا يستجيب لها كل إنسان إن قليلا وإن كثيرا؟ إذا وجدنا اللغة تعبر عنها، أمكنا أن نقول بأنها تكشف
عن خلق المتكلم: فهي علامة الخلق الساخر أو المستعبد أو الرحيم، وبها نستطيع أن نميز الأشخاص على ما بينهم من اختلاف.
الانحدار الذي يصيب الكلمات "يعكس بطريقة ملموسة إما الاحتقار الذي تكنه الطبقات الاجتماعية بعضها لبعض وإما البغض المتبادل بين الأوطان والأجناس وإما التعصب الأعمى من جانب الجماهير وإما عدم احترام المتعصبين لآراء غيرهم، فالناس يتباغضون ويتناحرون ويتبادلون الاحتقار ويتنابذون بالألقاب، واللغة حارس أمين على آثار هذه الحماقات المستمرة"1. فالكلمات BRIGAND "قاطع طريق" و RIBAUD "إباحي" و ASSASSIN "قاتل" GRIVOIS "خليع" التي كانت تطق في أول أمرها على بعض الكتائب العسكرية تدين بمعناها الحالي إلى غلظة الأخلاق الحربية واستهتارها، كما تدين كلمة cuistre "قديما "طباخ" وكلمة goujat "قديما "خادم"" إلى احتقار السيد لخادمه؛ والكلمات bouquin "مستعارة من الفلمنكية boecken "كتاب"" و LIPPE "مستعارة من الألمانية LIPPE "شفة" و ROSSE من الألمانية ROSS "حصان"". و HABLEUR "من الأسبانية Hablar "يتكلم" تحمل على التهكم الساخر الذي يرتبط بكل ما يأتي من الخارج. ومما تجدر ملاحظته أن كلمة parlar في الأسبانية "المشتقة من parler الفرنسية بمعنى "يتكلم"" لا تقال إلا لتدل على أمر سيئ. وكلمة madame "سيدة" قد بقيت كلمة نبيلة في الإنجليزية والفرنسية، أما في الألمانية التي دخلتها بطريق الاستعارة، فقد صارت عامية سوقية: ففي برلين تعتبر Madamchen من ألفاظ السوقة2.
يمكننا أن نتصور علما لسيكولوجية الشعوب يقوم على اختيار التغييرات المختلفة التي تشاهد في اللغات التي يتكلمونها خاصة بالمعنى. وقد تكون هذه
1 نيروب Nyrop: رقم 105، مجلد 4.
2 جوستاف كوهين: "خطاب بمناسبة افتتاح كرسي اللغة الفرنسية وأدبها بجامعة أمستردام". باريس شامبيون "1912" ص13.
الدراسة مضنية، ولكنها تستحق ما ينفق فيها من عناء. بل من الممكن ألا نخرج منها بنتيجة محددة وأن نصل في النهاية إلى أن نكشف عند جميع الشعوب اتجاهات سيكولوجية واحدة على وجه التقريب، هي ميول العقل الإنساني نفسه. ولكن قد نصل أيضا إلى إقامة بعض الحدود وتحديد بعض دقيق الفروق. فأغلب الظن مثلا أن تكشف لنا المفردات الإنجليزية عن احترامهم للأشياء الدينية وللأشخاص الذين كرسوا للدين أنفسهم أكثر مما نجد منها في مفردات الفرنسية. وقد تطلعنا هذه الدراسة على بعض الفروق بين الألمانيين والفرنسيين. فكلاهما مثلا في حديثه العائلي يألف إطلاق أسماء بعض الحيوانات على الأشخاص، ولكن الفرنسي يخلط بهذا الاستعمال عاطفة من السخرية والاحتقار، أو القذف. أما الألماني -وهو أكثر عاطفية من صاحبه- فيفضل أن يلونها بلون من العطف. فالمحامي هلمر Helmer من أبطال رواية لإبسن Ibsen يبدو للفرنسي مضحكا، إذ ينادي امرأته كل حين بالعصفورة أو بالسنجاب. ولكن هذه الألفاظ التي تدل على الملاطفة لا تعد جارحة في اللغة الإسكنديناوية ولا في اللغة الألمانية.
وعلى العكس من ذلك، يميل الفرنسي إلى أن يربط أفكارا مخزية أو فاحشة بالأسماء التي تدل على أشخاص من الجنس اللطيف، وقد أصيبت برشاش هذا الانحراف أسماء الأعلام Jeanneton، Goton، Catin والأسماء المشتركة garce و gouge و donzelle و Fille "تدل في الأصل على معنى بنت أو امرأة، والآن أصبحت من الشتائم المقذعة"، ولن تلبث كلمة demoiselle "آنسة" أن تصاب بما أصيبت به سابقاتها.
إن أعنف الكلمات التي يتأتى للغضب أو البغض أن يستخدمها، قد تستعمل أحيانا في الملاطفة، فتستخدم استخدام عبارات المداعبة اللطيفة البريئة من كل احتقار أو ملام. فمن المألوف أن يدعى الطفل polisson "فاجر" أو petit coquin "الخبيث الصغير" ويوصف الصديق بأنه bon bougre "المعتوه الطيب" أو Vieille canaille "الوغد العجوز" كذلك الكلمات luder أو Schelm في الألمانية و ctverak في التشيكية يمكن أن تقال على سبيل
الملاطفة، وهي شتائم في الأصل. ولكن الأم الفرنسية لا تنادي طفلها:"mon""petit pouilleux""يا صغيري المقمل" كما تفعل الألمانية إذ تقول بلا حرج mein Lausbube، فهناك شيء من الفرق؛ ولكن هذه الاستعمالات رهن بالعرف بل وقصيرة الأجل. ويمكننا بسهولة أن نستخرج من الألمانية بعض العبارات الأليفة التي تبدو لنا خالية من الروح مثل das ist mir wurst und egal "هذا لا يعنيني"؛ و nicht die Bohne بمعنى "كلا، مطلقا! " و kein Bein "لا أحد" إلخ. ولكن العبارات الفرنسية مثل "la jambe" أو "la barbe" أو "la ferme" ليست أكثر منها تميزا وذكاء.
وإذا كان في وسع التغيرات المعنوية أن تعرفنا بالسيكولوجية، فإنها ليست أقل قدرة على تعريفنا بظروف الشعوب الاجتماعية.
تفسر الروابط العائلية أيضا الاستعمال المجازي لبعض أسماء القرابة الذي تقابله في كثير من اللغات. فكون كلمة nepos تطلق في اللاتينية على السفيه وكلمة Schwager تطلق في الأنية على سائق عربة البريد يمكن تفسيره على أنه نوع من المزاح، ويطلق اسم "العم" في الألمانية على شيخ محبوب فعال للخير،
واسم العمة على الشخص العابس الكثير التقريع "die Tante voss" في كل هذه الاستعارات تبدو بكل بساطة روح الخبث التي هي صورة من صور البصيرة الشعبية. وبالعكس عندما تستعمل الكلمة الدالة على ابن الأخ "أو ابن الأخت" للدلالة على المنافس كما في السنسكريتية "bhratrivyas" فإن هذا الاستعمال يكشف لنا عن نظام عائلي كانت فيه العلاقات بين العم وابن أخيه مختلفة اختلافا شاسعا عما هو سائد في عائلات اليوم.
1 يذكر في الوثائق خاصة بالقديس بتريس Saint Patrice أن حصانا بيع بـcumal من النقود. "Codex Ardmachannus، to 17 ba".
فنرى هنا أن بعض العوامل الاجتماعية تتدخل في تطور المفردات، تلك العوامل التي لم نكن قد قابلناها حتى الآن إلا مصادفة. وستظهر في صورة أوضح في الفصل التالي.