المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة: لسنا في حاجة إلى تقديم طويل لتبرير المكان الذي يخصص - اللغة

[جوزيف فندريس]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المقدمات:

- ‌تصدير: اللغة وأداة التفكير

- ‌مقدمة:

- ‌الجزء الأول: الأصوات

- ‌الفصل الأول: المادة الصوتية

- ‌الفصل الثاني: النظام الصوتي وتغييراته

- ‌الفصل الثالث: الكلمة الصوتية والصورة اللفظية

- ‌الجزء الثاني: النحو

- ‌الفصل الأول: الكلمات والأصوات

- ‌الفصل الثاني: الفصائل النحوية

- ‌الفصل الرابع: اللغة الانفعالية

- ‌الجزء الثالث: المفردات

- ‌الفصل الثاني: كيف تغير الكلمات معانيها

- ‌الفصل الثالث: كيف تغير الأفكار أسماءها

- ‌الجزء الرابع: تكون اللغات

- ‌الفصل الأول: اللغة والغات

- ‌الفصل الثاني: اللهجات واللغات الخاصة

- ‌الفصل الثالث: اللغات المشتركة

- ‌الفصل الرابع: احتكاك اللغات واختلاطها

- ‌الفصل الخامس: القرابة اللغوية، والمنهج المقارن

- ‌الجزء الخامس: الكتابة

- ‌الفصل الأول: أصل الكتابة وتطورها

- ‌الفصل الثاني: اللغة المكتوبة والرسم

- ‌خاتمة: تقدم اللغة

- ‌المراجع

- ‌أولا: المجلات

- ‌ثانيا: الكتب

- ‌الملاحق:

- ‌الملحق الأول:

- ‌الملحق الثاني:

- ‌الملحق الثالث:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ ‌مقدمة: لسنا في حاجة إلى تقديم طويل لتبرير المكان الذي يخصص

‌مقدمة:

لسنا في حاجة إلى تقديم طويل لتبرير المكان الذي يخصص للغة في مؤلف يكرس لتاريخ البشرية. فالأجزاء السابقة قد عرفت القارئ بالمسرح الذي مثلت عليه درامة هذا التاريخ الكبرى، وقدمت له ممثلها الرئيسي وهو الإنسان والوسائل المادية التي كان مزودا بها. ولكن الإنسان، رغم هذه الوسائل المادية، كان يظل عاجزا عن تمثيل الدور الذي قدر له أن يلعبه لولا تملكه لناصية اللغة. فاللغة وهي أداة الفكر ومساعدته، هي التي مكنت للإنسان من الشعور بذاته ومن الاتصال بأمثاله، وجعلت من الميسور تكوين الجماعات. ومن العسير أن تتصور حالة أولية للإنسان كان فيها محروما من مثل هذه الوسيلة الناجعة للعمل. فتاريخ البشرية منذ بدايته يفترض وجود لغة منظمة، وما كان في وسعه أن يسير في طريق التطور دون اللغة.

إذا كانت دراسة تحتل مكانها المرموق الذي لا ينازعها فيه منازع في قمة كل تاريخ عام، فإن الآراء قد تختلف حول الصورة التي تتصور عليها هذه الدراسة. لأن اللغة مركب معقد تمس فروعا من المعرفة مختلفة وتعنى بها طوائف متفرقة من العلماء. فهي فعل فسيولوجي من حيث إنها تدفع إلى العمل عددا من أعضاء الجسم الإنساني. وهي فعل نفساني من حيث إنها تستلزم نشاطا إراديا للعقل. وهي فعل اجتماعي من حيث إنها استجابة لحاجة الاتصال بين بني الإنسان. ثم هي في النهاية حقيقة تاريخية لا مراء فيها نعثر عليها في صور متباينة وفي عصور بعيدة الاختلاف، على سطح المعمورة قاطبة. ومن ثم كان لنا أن نتصور دراسة للغة يقوم بها عالم من علماء وظائف الأعضاء. فيصنف الطرائق التي تؤدي بها أعضاء الكلام وظيفتها، أو عالم من علماء النفس فيحلل حركة التفكير مهتديا بنتائج علم الأمراض العقلية، أو عالم من علماء الاجتماع

ص: 24

فيظهر لنا أثر التنظير الاجتماعي في تطوير اللغات، أو مؤرخ فيصنف اللغات في أسر ويحدد توزيعها الجغرافي كل واحد من هؤلاء العلماء يستطيع أن يكتب كتابا يدخل في علم اللغة ولو أن يقظة البدء التي صدر عنها توجد خارج هذا العلم والنتائج التي يصل إليها تمتد حتى تخرج من حدوده.

وأما مؤلف هذا الكتاب، وهو عالم لغوي بحكم مهنته، فقد أراد أن يحصر مجهوده في ميدان العلم اللغوي وحده دون سواه، فاتخذ من الواقع اللغوي كما تمدنا به الخبرة نقطة الارتكاز التي صدر عنها. فمن تحليل الواقع اللغوي استخرج خطة كتابه. وعلماء اللغة يميزون فيها ثلاثة عناصر مختلفة: الأصوات والنحو والمفردات. ومن هنا قصر الأجزاء الثلاثة الأولى من الكتاب على دراسة هذه العناصر الثلاثة على التوالي، وهي دراسة تعنى في نفس الوقت بحالة اللغة الراهنة كما هي من جهة، كما تعنى بحالتها التطورية من جهة أخرى. وقد قصد بها استخلاص أسباب التغير من الوقائع اللغوية التي تنطوي عليها، والتمهيد للجزء الرابع الذي يتناول موضوعه دراسة اللغات، فهو يعالج على الترتيب تعريف اللغات وأنواع اللغات المختلفة والأثر الذي تحدثه بعضها في بعض، وأخيرا القرابة اللغوية. فتسلسل الكتاب يقوم إذن على الانتقال من البسيط إلى المعقد. فالواقع أن الأصوات أبسط من الكلمات ومن المجمل التي منها تتكون اللغات. وينجم عن هذا الترتيب أن كانت الفصول الأولى، وهي أكثر فصول الكتاب إيغالا في الفنية، أشد الفصول جفافا. وعلى العكس من ذلك فإن الفصول الأخيرة تقدم للقارئ الذي لم تثبط الفصول الأولى همته آفاقا أكثر تنوعا واتساعا. أما الجزء الخامس، وهو أشبه ما يكون بالملحق، فخاص بالكتابة وأخيرا يحيط بالكتاب فصلان: فصل تمهيدي وفيه تعرض مسألة أصل اللغة، وفصل ختامي وفيه تناقش مسألة تقدم اللغة.

وهكذا تتراص جميع التفرعات التي يتكون منها هذا الكتاب حول الواقع اللغوي باعتباره مركزا لها. ومع أن مادة هذا الكتاب شديدة التنوع وكثيرا

ص: 25

ما تمتد إلى فروع مجاورة من فروع المعرفة، فإنه يمكن للناظر فيه أن يعترف بما له من وحدة جاءت بها وجهة النظر التي وضعها المؤلف نصب عينيه. وقد بدا من المفيد للمؤلف، في بعض مناسبات نادرة، أن يكمل النتائج المستخرجة من علم اللغة بالإغارة على حرمة أحد العلوم المتصلة بعلم اللغة، وهو يرجو ألا تكون مخالفته للقاعدة خالية مما يبررها. فهو على وجه العموم، قد اقتصر على عرض الوقائع عرض عالم لغوي، معتبرا أن تلك خير الوسائل لإفادة أصحاب العلوم الأخرى الذين لا يستطيع أن يأتيهم بشيء ذي بال في ميدانهم الخاص.

هذا وأن المبدأ الذي اتخذناه كان من شأنه أن يجعل مهمتنا على جانب من الصعوبة. لأن من يدرس اللغة بوصفه عالما لغويا يجد نفسه مسوقا بكل بساطة إلى وضع رسالة في اللغويات العامة. ولكن كل من له اتصال بالنواحي اللغوية يعلم أنه لا يكاد يوجد مشروع أكثر خطورة من هذا المشروع. إذ لا بد لنجاحه من إنسان قدير على الإحاطة بكل صيغ الكلام المعروفة، منقطع لممارسة جميع اللغات المتكلمة على وجه الكرة الأرضية، فهل يمكن العثور على هذا الإنسان المثالي؟ إن هذا ليدعو إلى الشك. أما لو كان الأمر يدور حول تعيين واحد من بين الأحياء كثيرا على العارفين. لكن الواقع أنه لم يظهر حتى الآن كتاب واحد حقق منهاجا كاملا لعلم اللغويات العامة1.

لا حاجة إلى القول بأن هذا الكتاب لم يبلغ في تحقيق هذا الحلم أكثر من غيره. فالمكان المحدود الذي منح للمؤلف يفسر تفسيرا كافيا، دون حاجة لذكر أسباب أخرى، لماذا لم يحاول المؤلف الإقدام على هذه المغامرة. فقد تظاهر بأن اعتبر كل واحد من الوقائع التي يدرسها قطعة منفصلة من تاريخ شاسع لم يدون بعد. ومع أنه قد استعرض مسائل علم اللغة الأساسية دون أن يهمل منها واحدة،

1 لم يصبح ذلك كله حقا منذ أن نشر في سنة 1916 كتاب فرديناند دي ساستور رقم 121، ولكن هذا الكتاب، الذي لم ينشر إلا بعد موت المؤلف، رغم وفرة الآراء التي يقدمها ليس عرضا منهجيا كاملا لعلم اللغويات العامة "انظر مييه رقم 4 مجلد 20، ص32".

ص: 26

إلا ما قد يكون من خطأ أو نسيان، فإنه لم ير لزاما عليه أن يبسط منها إلا بضعة أمثلة لها طابعها الخاص. كان يمكن لهذه الطريقة التفريقية أن تجر إلى عيب تمزيق المادة بقطع العرى التي تربط مواضع الاستيعاب والبسط بعضها ببعضها، ولكن المؤلف تجنب هذا العيب بطريق التحايل. لأن اللغة، ككل ما يمت إلى التاريخ والحياة بسبب، تكون ميدانا متصلا بمعنى أن ظواهرها لا تفصل بينها حدود متميزة. وأن الإنسان يتدرج بين القمم التي فيها يتجلى كل واقع على أتمه في سلسلة من المراتب غير المحسوسة. ومن ثم كان يكفي أن يشغل ما بين مواضع البسط والاستيعاب بمراحل انتقال طبيعية، بمعنى أنها مستعارة من طبيعة الحقائق المدروسة نفسها. فلو أن هذا الكتاب قد ادعى أنه يحوي الحقيقة الواقعة كاملة في قوالب قد تكون تجريدية محكمة التسلسل، فربما كان قد بدا عليه مآخذ من الجهل الفاضح، لكنه سترها باختياره لنظام مرن يطبقه على حقائق اختيرت مقدما، ويتتبع معالمها عن كثب بدلا من أن يتبع نظاما صارما كاملا واضح المعالم متميز الخطوط.

يستطيع المؤلف، وقد سلك هذا المسلك، أن يغتبط بأن جعل مهمته ممكنة دون أن يقلل ذلك من فائدتها. فهو لا يقدم للقارئ متنافي علم اللغويات العامة، بل أراد فقط أن يعطيه فكرة عن هذا العلم وعن المسائل التي يعالجها والنتائج الأساسية التي وصل إليها.

لكن المشروع رغم تحديده بهذا المنهاج قد يبدو على جانب كبير من الجرأة. أما ما حفز المؤلف على المضي فيه فهو العون القيم الذي لقيه من طائفة من الأصدقاء تفضلوا بالاهتمام بمؤلفه، فيسره هنا أن يقدم لهم شكره. فالأستاذ ا. مييه، وهو الذي أوحى إلى المؤلف بعمل هذا الكتاب، قد أخذ على عاتقه عبء قراءة المخطوط وناقش المؤلف في أكثر من مسألة من بين المسائل التي عالجها، فلعل القارئ يلمس معالم تأثيره! كذلك راجع المخطوط كاملا زميل وصديق آخر هو الأستاذ جيل بلوك Jules Bloch وأفاد المؤلف بملاحظات عديدة. وأخيرا لا يسع المؤلف إلا أن ينوه بما في عنقه من دين

ص: 27

لزملائه الأعزاء من أعضاء الجمعية اللغوية، وهم الأساتذة ديلافس وديني وجود فروا ديمنبين وإيزيدورليفي وليفي بريل وبيليوه، فبفضلهم زاد عدد من فصول الكتاب ثراء بوثائق جديدة متصلة بموضوعاتها اتصالا مباشرا، وفي النقط التي ساهموا فيها متفضلين أفاد الكتاب دقة ترجع إليهم وحدهم. وإذا لم يكن الكتاب في جملته قد تحسنت حاله، فليس مرد ذلك لهم.

ج. فندرس، ميلان في يوليه 1914

ملاحظة؛ انتهى هذا المؤلف في سنة 1914، ولم تقدم مخطوطاته للطبع إلا في سنة 1920، وإن الحوادث تكفي لتفسير هذا التأخر لدرجة تسمح بغفرانه. لكن المؤلف يصر على إخطار القارئ بأنه يقدم له مؤلفا مضى عليه سبع سنوات، والواقع أنه لم يمس شيئا من نظام الكتاب العام، بل اكتفى بإدخال إصلاحات في التفاصيل على بعض النقط ساعده فيها الأساتذة موريس مارتان Maurice Martin، وأرنست ماركس Ernest Marx، وهنري جربان Henri Grappin، فإليهم جميعا يعبر المؤلف عن عرفانه بالجميل.

ص: 28

تمهيد: أصل اللغ ة 1

يثير الإنسان دائما دهشة السامع كلما قال بأن مسألة أصل الكلام ليست من مسائل علم اللغة. ومع ذلك فليس هذا القول إلا الحقيقة بعينها. فغالبية أولئك الذين كتبوا عن أصل الكلام منذ مائة عام يهيمون في تيه من الضلال، لأنهم لم يتنبهوا إلى هذه الحقيقة: وغلطتهم الأساسية أنهم يواجهون هذه المسألة من الناحية اللغوية، كما لو كان أصل الكلام يختلط بأصل اللغات.

إن اللغويون يدرسون اللغات التي تتكلم والتي تكتب، ويتتبعون تاريخها بمساعدة أقدم الوثائق التي كشف عنها، ولكنهم مهما أوغلوا في هذا التاريخ، فإنهم لا يصلون إلا إلى لغات قد تطورت وتركت خلفها تاريخا ضخما لا نعرف عنه شيئا. أما فكرة الوصول إلى إعادة بناء رطانة بدائية بمقارنة لغات موجودة بالفعل فسراب خداع. ولكن هذا السراب، الذي ربما كان مؤسسو علم النحو المقارن يتطلعون إليه قديما، قد هجر منذ زمن طويل.

هناك لغات تنتسب إلى تواريخ منها القديم ومنها الأقدم. ونحن نعرف بعض لغاتنا الحديثة في صور قديمة ترجع إلى أكثر من عشرين قرنا ولكن أقدم اللغات المعروفة "اللغات الأمهات"، كما تسمى أحيانا، لا شيء فيها من

1 تاريخ طيب لهذه المسألة في بورنسكي Borinski رقم 146، ص3-20 وانظر أيضا جسبرسن jespersen رقم 134، ص328-365. وقد كتبت عن هذه المسألة مؤلفات كثيرة. والأسماء الرئيسية التي تقرن بالاتجاهات أو الخطى الرئيسية في الماضي هي:

J. J. Rousseau، Essai sur porigine des langues "ouvrage posthume" Harder، Geburt der Sprasche mit der ganzen Entwicklung der menschlichen krafte، 1770، J. Grimm، Uber den Ursprung der Sprache، 1851، Steinthal، Ursprung der Sprache in Zusmmenhang mit der letzten Fragen alles wissens، 1851 "الطبعة الرابعة 1888"، Renan رقم 11.

ص: 29

البدائية. ومهما اختلفت عن لغاتنا الحديثة، فإنها لا تفيدنا علما إلا بالتغيرات التي طرأت على الكلام، ولا تدلنا على شيء من كيفية نشوئها.

كذلك لا يمكن استخلاص شيء في هذا الصدد من لغات المتوحشين. فالمتوحشون ليسوا بدائيين، رغم الإسراف في تسميتهم بهذا الاسم في غالب الأحيان. فهم يتكلمون أحيانا لغات على درجة من التعقيد لا تقل عما في أكثر لغاتنا تعقيدا، ولكن منهم من يتكلم لغات على درجة من البساطة تحسدهم عليها أكثر لغاتنا بساطة. فهذه وتلك ليست إلا نتيجة تغيرات تغيب عنا نقطة البدء التي صدرت عنها. وإذا كان هنالك من فرق بين لغات الشعوب التي تسمى متحضرة ولغات المتوحشين، فهو في الأفكار التي تعبر عنها أكثر مما هو في العبارة نفسها. فلغات المتوحشين في وسعها أن تفيدنا في معرفة ما بين الكلام والفكر من روابط1 وليس في معرفة ما كانت عليه الصورة البدائية للكلام.

وقد يجنح الإنسان في البحث عن هذا المطلب في كلام الأطفال2، وهذه المحاولة أيضا سيكون نصيبها الفشل. لأن الأطفال لا يعلموننا إلا كيف تحصل لغة منظمة، ولا يعطوننا أية فكرة عما كان عليه الكلام عند أصل نشوئه. فحينما تلاحظ المجهودات التي ينفقها أحد الأطفال ليعيد ما يسمعه مما يقال للمدركين، فإننا نلحظ أكثر من علامة دالة على أسباب التغيرات التي يتعرض لها الكلام. ولكن الطفل لا يؤدي إلا ما قيل أمامه، فهو يشتغل بالعناصر التي يمده بها من حوله، ومنها يركب كلماته وجملة. إنه يقوم بعمل المحاكاة لا الخلق، عمل يخلو من

1 ليفي بريل، رقم 88، ص 76 وما يليها.

2 عن الكلام عن الأطفال، انظر خاصة:

وقارن أيضا: Clar und william stern Die kindersprache leipziq "1907". Consuletr Meumann; Die Sprache des kindes، Zurich "1903""Abhandlungen herausgegeben von der Gesellachaft fur deutsche Sprache in Zurich"; Ch. Roussey، Notes sur L'apprentissage de la parole chez uu enfant؛ رقم 7 "1899، 1900" M. Grammont، observations sur le langage des enfants؛ رقم 99، ص61-82 O. Bloch: Notes sur le langage des enfant رقم 6 ص 18 من المقدمة وص37 j. Ronjat، le develop Pement du langage observe chez enfant bilingue، 1913 باريس.

ص: 30

الارتجال خلوا تاما. أما هذا النصيب من التجديد الذي يدخله في الكلام فغير شعوري، ناتج عن كسل طبيعي يقنع بما يكون على وجه التقريب، وليس نائشا عن إرادة تحت سلطانها قدرة خالقة.

فالعالم اللغوي سواء ألجأ إلى أقدم اللغات المغروفة أم إلى لغات المتوحشين أم إلى اللغات التي يتعلم الأطفال بها الكلام، فلن يجد أمامه في كل حال إلا بنيانا شيد منذ زمن طويل وتعاقب على العمل فيه أجيال عديدة خلال قرون طويلة. فتبقى مسألة أصلة الكلام خارجة عن نطاق خبرته. والواقع أن هذه المسألة تختلط بمسألة أصل الإنسان وأصل الجماعات البشرية، فهي من اختصاص تاريخ البشرية البدائي. لقد نشأ الكلام بالتدريج مسايرا لتطور دماغ الإنسان ولتكون الجماعة، فمن المستحيل أن يقول في أي صورة بدأ الكائن الإنساني يتكلم، لكن من الممكن أن نحاول تحديد الظروف التي سمحت للإنسان بأن يتكم: وهي ظروف نفسية واجتماعية في نفس الوقت.

أعم تعريف يمكن أن يعرف به الكلام أنه نظام من العلامات1. فدراسة أصل الكلام ترجع إذن إلى البحث عن أي أنواع من العلامات كانت بطبيعتها في متناول الإنسان ثم كيف حمل على استخدامها.

ويجب أن يعنى بالعلامة أي رمز قابل لأن يستخدم للتفاهم بين البشر

ولما أمكن للعلامات أن تكون متنوعة الطبيعة، أصبح هناك عدة أنواع من اللغات فكل أعضاء الحواس يمكن استخدامها في خلق لغة. فهناك لغة الشم ولغة اللمس ولغة البصر ولغة السمع، وهناك لغة كلما قام شخصان فأضافا معنى من المعاني إلى فعل من الأفعال بطريق الاتفاق وأحدثا هذا الحدث بقصد التفاهم بينهما. فعطر ينشر على ثوب، أو منديل أحمر أو أخضر يطل من جيب سترة أو ضغطة على اليد يطول أمدها قليلا أو كثيرا، كل هذه تكون عناصر من لغة ما دام هناك شخصان قد اتفقا على استعمال هذه العلامات في تبادل أمر أو رأي.

1 ب. لروا رقم 87.

ص: 31

ومع ذلك فهناك لغة من بين مختلف اللغات الممكنة تطغى على جميع ما عداها بتنوع وسائل التعبير التي في طوقها: وهي اللغة السمعية التي تسمى أيضا لغة الكلام أو اللغة الملفوظة؛ تلك وحدها هي التي سنتحدث عنها في هذا المؤلف. وقد تصحبها بعض الأحيان اللغة البصرية، وغالبا ما تكون مكملة لها. والإشارة عند جميع الشعوب تقطع الكلام، وهيئة الوجه تترجم في آن واحد مع الصوت عن الانفعالات والأفكار. والتعبير بالحركات لغة بصرية، ولكن الكتابة بدورها لغة بصرية أيضا وكذلك على العموم كل نظام من نظم الإشارات.

ولعل اللغة البصرية توازي اللغة السمعية في قدم العهد. فليس لدينا ما يحملنا على الاعتقاد بأن إحداهما متقدمة عن الأخرى وأكثر من هذا ليس لدينا أية وسيلة للبرهان على ذلك.

وغالبية اللغات البصرية المستعملة اليوم مشتقة من اللغة السمعية، وهذا ينطبق على الكتابة كما سنرى في الجزء الخامس، وينطبق على قانون الإشارات. وقانون الإشارات البحرية مثلا قد جعل ليزودنا بمعادلات بصرية بدلا من الكلمات والجمل في جميع اللغات القائمة. وهو لا يمدنا بمعلومات عن أصل العلامات باعتبارها تصويرا للأفكار. فإن اختيار هذه العلامة دون تلك بطريق الأفضلية مبني على الاتفاق، على الاتفاق التحكمي. وإن كان قد قيد منذ البداية ببعض الشروط. مثل هذه اللغات بنص حدها لغات صناعية.

إننا نعرف حالة من الاستعمال الطبيعي للغة البصرية ألا وهو لغة الحركات المستعملة إلى جانب اللغة السمعية1 عند بعض الشعوب المتوحشة. وهنا لا يتوقف" الأمر على أن يكون الكلام مصحوبا بالإشارة كما هو الحال لدى الشعوب المتحضرة، بل يدور الأمر حول نظام من الحركات لا تستطيع وحدها التعبير عن الآراء التي يراد توضيحها، مثلها في هذا مثل الكلمات تماما. وتلك لغة فطرية إلا أن لها مزاياها: إذ يمكن استعمالها على بعد بين مكانين لا يقدر الصوت على أن يصل بينهما وإن استطاعت العين التقاط الحركات، ثم تمكن على وجه الخصوص من عدم إثارة

1 wundt رقم 223، 1، 1 ص128.

ص: 32

انتباه الحاضرين بضوضاء الأصوات. وتلاميذ المدارس يستعملون هذه الوسيلة الصامتة لتفاهمهم داخل غرف الدراسة. فاللغة بالحركة يمكن إذن أن يكون لها أصل نفعي. ومع ذلك فكون استعمالها عند الشعوب المتوحشة من شأن النساء على وجه الخصوص يوحي بتفسير آخر. ذلك أن السبب الذي يدعو عادة إلى التفريق في اللغة بين الجنسين يكون سببا دينيا1 فلما كانت الكلمات التي يستعملها الرجال محظورة على النساء، فقد وجب على هؤلاء أن يستعملن مفردات خاصة، وجب عليهن أن يخلقنها بأنفسهن حتى ولو اضطررن عند الحاجة إلى إحلال الحركة محل الصوت. وهكذا يمكن أن يفسر استبقاء لغة الإشارات بالإلزام الناشئ عن النواهي ولكنها ليست، مهما كان أصلها، إلا عوضا عن اللغة السمعية التي يجب أن تسير لغة الإشارة على نهجها.

ولغة الإشارات التي يستعملها الصم البكم هي الأخرى منسوخة عن اللغة السمعية. فبالحركة يعلم هؤلاء العجزة إجراءات اللغة عند الآخرين: حيث يوضعون في حال تمكنهم من التحادث فيما بينهم ومن قراءة ما يكتبه من يتكلمون ويسمعون. فإن يجري لهم استبدال حاسة مكان حاسة لوضعهم في حال يتفاهمون فيها بالعلامات.

حالة الصم البكم تدعو إلى التفكير في أصل الاستعمال اللغوي للعلامات، ويستطيع المرء بمناسبتهم أن يتساءل عما إذا كانت اللغة عند الإنسان شيئا مكتسبا ناتجا من التعليم، أم على العكس من ذلك شيئا فطريا تلقائيا. الأطفال العاديون لا يعلموننا شيئا عن هذا السؤال، فإنهم منذ ميلادهم متيقظون أمام العالم الخارجي، وهم قبل أن يصدروا أصواتا، على صلة بمن يحيطون بهم بواسطة حاسة السمع، ويجدون أنفسهم في اللحظة التي يتكلمون فيها، منغمسين في تيار التبادل الاجتماعي. أما الصم البكم فهم في حاجة إلى أن يوقظ عندهم الشعور بالعلامة. فهم لعجزهم عن تعلم اللغة السمعية من جراء عاهتهم في منجى من كل تأثير يقع على الأطفال الذين يسمعون من الأشخاص الذين يتكلمون. ولكنهم يرون، ويدركون عندما

1 Van Gennep رقم 74 ص265 وما يليها.

ص: 33

يفتحون أعينهم ما يمكن أن تكون عليه المعاملة التي تشترك فيها اللغة بنصيب. فللإجابة على السؤال المتقدم، يجب أن يستطاع النفاذ في شعور كائن إنساني قد بقي بفضل عاهات موروثة معلقا أما العالم الخارجي، أو قد أقصى منذ ولادته إقصاء تاما عن تأثير بني جنسه. الفرض الثاني لا يمكن ذكره ذكره دون الإحساس بسخفه، وإلا فكيف يمكن الحكم على كائنات بشرية بالعزلة عن غيرهم من بني الإنسان ويحرم عليهم على طريقة ما استعمال حواسهم إلى درجة أن يصير مخهم وكأنه يدور في غرفة مظلمة دون أي اتصال بالخارج.

نحن نعرف الاختبار الشاذ الذي قام به إبسمتيك ملك مصر كما رواه هيرودوت "حـ2 رقم 2" أراد الملك أن يعرف ما إذا كان الفريجيون أسبق في العالم من المصريين، فأمر بتربية طفلين حدثين في عزلة منذ ميلادهما وحرم أن يسمعا أي كلام. وعند اختبارهما بعد بضعة أشهر وجد أن الطفلين يطلبان الطعام بقولهما "Beyos" ومعناها "خبز" بالفريجية. فاستنتج إبسمتيك من ذلك أن اللغة الفريجية أقدم من المصرية. وكان يمكن أن يستخلص من ذلك أيضا أن ملكة اللغة فطرية في الإنسان. لولا أن تجربة إبسمتيك تعوزها سيما الصدق وروح الجد.

هناك اختباران تبدو عليهما منذ الوهلة الأولى صفة الإقناع. وهما التجربتان اللتان أجريتا على طفلين ولدا أصمين كفيفين، وكانا بذلك محرومين من الاتصال بالعالم الخارجي. فكلنا يعرف مثلا حالة الفرنسية ماري هيرتان1 Marie Heurtin أو الأمريكية هيلين كلر2 Helen Keller. حالة هذه الأخيرة لها أهمية خاصة، فقد استطاعت الحصول على درجة كافية من التعليم، مكنتها من قراءة وكتابة عدد من المؤلفات في الأدب والفلسفة بعدة لغات. وإن كتابتها بقدر ما تكون خالية من روح المبالغة التي أسبغها عليها الأشخاص المحيطون بها لتسمح لها باستخلاص دلائل غريبة.

1 Ames en prison: Louis Arnould باريس، الطبعة العاشرة 1919.

2 Die Entwicklung und Erziehung: Helen Keller w. stern einer Taubstummblindeu برلين 1905.

ص: 34

كانت اللغة عند هيلين كلر نتيجة للتربية. يصف لنا في شيء من التأثر كتاب نشر عنها1 ذلك المنظر الذي توصل فيه بعد عدد من المحاولات الفاشلة إلى إفهامها قيمة العلامة. في ذلك اليوم تمزق الحجاب الذي كان يحول بينها وبين الكون، وتجلى الكون أمام عقلها بتلك الشبكة من العري المعقدة التي تربط الأشياء بالكلمات. لكن فائدة هذا المنظر فردية قبل كل شيء. فهيلين كلر وجدت نفسها خارج الظروف العادية للحياة، فظلت حالتها متسمة بسيما الاستثناء. أما الأولون الذين تكلموا من البشر فلم تتفتح نفوسهم لإدراك العلامة كما وقع لتلك البائسة. فنشوء اللغة عند من حرمته عاهاته حتى ذلك الحين من الاتصال بالعالم، لا يستطيع أن يعطينا فكرة عن التطور الذي حدث في مجتمع من الكائنات العادية في أحضان المجتمع تكونت اللغة. وجدت اللغة يوم أحس الناس بالحاجة إلى التفاهم فيما بينهم. وتنشأ من احتكاك بعض الأشخاص الذين يملكون أعضاء الحواس ويستعملون في علاقاتهم الوسائل التي وضعتها الطبيعة تحت تصرفهم: الإشارة إذا أعوزتهم الكلمة والنظرة إذا لم تكف الإشارة. فالاختبار الذي يمكن إجراؤه، إذا ما أريد استلهام إيسمتيك، هو أن يوضع طفلان أو عدة أطفال بعضهم مع بعض يجهلون جهلا تاما كل شيء عن اللغة بعد إقصائهم إقصاء تاما عن كل مؤثر تعليمي. عندئذ إذا غضضنا النظر عما قد يكون عندهم من استعدادات موروثة، فليس من شك مهما كانت جنسيتهم، في أن يخلقوا بفطرتهم لغة لحسابهم الخاص، وهذه اللغة لن تكون الفريجية، ذلك بأن الحاجة توجه العضو حتما إلى العمل. ولا بد أن الأشياء عند البدء وقعت على هذا النحو. فاللغة وهي الواقع الاجتماعي بمعناه الأوفى، تنتج من الاحتكاك الاجتماعي. وصارت واحدة من أقوى العرى التي تربط الجماعات وقد دانت بنشوئها إلى وجود احتشاد اجتماعي.

لم تولد اللغة كحدث اجتماعي إلا يوم أن وصل المخ الإنساني إلى درجة من النمو

1 Les miracles des hommes: Gerard Harry باريس، لاروس.

ص: 35

تسمح له باستعمالها. فلم يتأت لكائنين بشريين أن يخلقا لغة فيما بينهما إلا لأنهما كانا ممهدين لهذا العمل. فحال اللغة حال جميع المخترعات البشرية. كثيرا ما احتدم الجدل حول معرفة ما إذا كانت اللغة الإنسانية واحدة الأصل أم متعددة وهذه مسألة لا طائل من ورائها. ففي اليوم الذي يضيف تقدم الذكاء الإنساني درجة جديدة من الكمال، يحدث الكشف الجديد من ذاته وفي بقاع متعددة في نفس الوقت. فهو منتشر في الهواء كما يقول العلماء ويشعر الإنسان بمجيئه كما يتوقع وقد أقبل الخريف سقوط الفواكه الناضجة في أحد البساتين.

من الوجهة النفسية، ينحصر الفعل اللغوي الأساسي في إعطاء قيمة رمزية للعلاقة. هذه العملية النفسية تميز لغة الإنسان من لغة الحيوان1 فمن الزيف أن يقال في المقارنة بين تلك وهذه بأن الثانية لغة طبيعية في حين أن الأولى لغة صناعية توافقية. لغة الإنسان ليست أقل طبيعية من لغة الحيوان، ولكنها من درجة أعلى من حيث إن الإنسان، وقد أعطى للعلامات قيمة موضوعية، جعل هذه القيمة تتنوع بالموافقة إلى ما لا نهاية. الفرق بين لغة الإنسان ولغة الحيوان مستقر في تقويم طبيعة العلامة2. والكلب والقرد والطائر تتفاهم مع بنات جنسها، فإن لها صيحات وحركات وأغاني تقابل حالات نفسانية خاصة من الفرح والرعب والرغبة والشهية، بعض هذه الصيحات تلتئم مع بعض حاجات خاصة إلتئاما يكاد يمكن من ترجمتها في جملة من لغة الإنسان، ومع ذلك فإن فصائل الحيوان لا تصدر جهلا3؛ لأنها عاجزة عن تنويع عناصر صيحاتها، مهما بلغت هذه الصيحات

1 Steinthal رقم 207، ص324-358؛ R. M. Heyer رقم 30 مجلد 12 ص307.

2 هذا الرأي قد أوضحه بوسويه إيضاحا تاما، إذ يقول:"يمكن أن تتأثر لغات الحيوان بالصوت باعتباره هواء مدفوعا مثارا، لا باعتبار أنه دال بنظامه على ذلك الذي يسمي كلما وسماعا بمعنى الكلمة". "المنطق ج1، 24"، وقارن Traite de la connaissance de Dieu et de soi-meme فصل 5 الفقرة 5:"أما أن يقرع الصوت أو الكلم الأذن ثم المخ من حيث إنه يثير الهواء، فهذا شيء، وشيء آخر هو أن ينظر إليه على أنه علامة اتفق الناس عليها، وأن يتذكر بواسطته الأشياء التي يدل عليها. هذه الناحية الأخيرة هي التي تسمى سماع اللغة، وليس منها أي أثر عند الحيوان".

3 pseudo-langage: L. Boutan بوردو 1913، "Actes de la societek linneenne de Bordeaux"، وقارن مييه رقم 4 مجلد 18ص177.

ص: 36

من التعقيد، على نحو ما ننوع نحن كلماتنا التي تكون في الجملة عناصر استعاضة. أما بالنسبة لها فإن الجملة لا تتميز عن الكلمة ولكن هناك ما هو أهم من ذلك: فهذه الكلمة نفسها صيحة أكانت أم إشارة، كما يحلولنا أن نسميها، ليست لها قيمة موضوعية. ومن ثم لم تسكن موضوعا للموافقة، وينجم عن ذلك أن لغة الحيوان ليست قابلة للانقلاب ولا للتقدم، وليس هناك ما يدل على أن صرخة الحيوان كانت في الماضي تختلف عما هي عليه اليوم. فالطائر الذي يدفع بصيحة ينادي بها اليد التي تحمل له ورقة من الخس، لا يشعر بصيحته على أنها علامة1. ولغة الحيوان تستتبع نوعا من التلازم بين العلامة والشيء المدلول عليه بها. وينبغي للتخلص من هذا التلازم وحتى تأخذ العلامة قيمة مستقلة عن الشيء أن تكون هناك عملية نفسية، هذه العملية النفسية هي نقطة البدء في لغة الإنسان. كان على مسائل الأنثروبولوجيا أن تنير لنا بعض ما غمض علينا من لغز التطور النفسي في الإنسان فهذا العلم يقرر أن جماجم سكان الكهوف من البشر تشبه جماجم القرود العليا. في الجمجمة التي عثر عليها في "La Chapelle aux-Saints"، نرى أن المكان المخصص للتلافيف التي يقرر أنها مركز الكلام ضئيل غاية الضآلة. وإذن يجوز أن يفترض أن نشوء الكلام قام على تطور طبيعي للمخ الإنساني. مثل هذا الفرض لا يلزمنا أن نسلم دون تحفظ بنظرية بروكا Broca المشهورة في تحديد المراكز المخية2. فمن المعروف أن هذه النظرية قد فقدت الكثير من سلطانها القديم، بل أن بعض الحوادث الحديثة قد رأت أن تطعنها في الصميم. ولكن الذي يمكن أن يؤخذ عليها بوجه خاص أنها تبالغ في تبسيط مسألة في غاية من التعقيد. فبروكا، عندما يعين مركز الكلام في التلفيف الثالث من ناحية الجبهة

1 في لغة الطير، انظر الملاحظات القيمة التي كتبها الأستاذ بريال في Revue des revues مجلد 33 عام 1900 ص629-632 "وأعيد نشرها في رقم 4 مجلد 11 ص110-115".

2 عن هذه المسألة، انظر العرض الإجمالي الممتع الذي نشره Dagnan-Bouveret رقم 10 مجلد 16 عام 1908 ص466 وما يليها وراجع أيضا أعمال الدكتور ب. ماري P. Marie وكتاب الدكتور F. Moutier: L'aphasie de Broca باريس 1908

ص: 37

اليسارية لا يقرر إلا شيئا تقريبيا بعيدا كل البعد عن الدقة، وبوجه خاص عندما يقول بأن المخ يحتوي على مناطق كبري متميزة تقابل مناطق العقل الكبرى، يخدع نفسه فيما يخص الروابط التي بين اللغة والتفكير. من الزيف أن نتصور أن المخ قد بني على مثال النحو وأنه قد قسم إلى أقسام لكل جزء من أجزاء الكلام قسم منها فجملة الحقائق اللغوية موزعة في المخ، على طريقة أكثر حرية، وأكثر اتساعا مما افترض بروكا. أغلب الظن أن حوادث تعطل الكلام من ناحية الحركة، تلك الحوادث التي ترتكز عليها نظرية بروكا، ترجع عادة إلى خلل موضعي، أما تعطل الكلام من ناحية الحس كما عرفه فرنكه wernicke يفترض غالبا نقصا عقليا عاما، ومنه جهة أخرى غالبا ما يحصل في مثل تلك الحال ظاهرة تعويضية حيث تقوم مراكز مجاورة بوظيفة المراكز التي أصيبت بالخلل. وأخيرا فإن الطبقات الغلافية مرتبة على نحو ما يؤدي إلى أن أي خلل يمكن أن يحدث اضطرابات مختلفة حتى ولو كان في تلفيفة الجبهة اليسري، وذلك على حسب النقطة التي يصيبها الخلل من التلفيف1. وبالاختصار، إذا كانت محلية الكلام لا ينازع فيها من حيث المبدأ فإن تفاصيل التحديد في حاجة إلى إعادة النظر فيها من جديد.

إذن يجب الحذر في تفسير المسائل التي تقدمها لنا أنثروبولوجية ما قبل التاريخ فإننا إذا أخذناها على شكل ضيق وأخذنا نقيس جمجمة إنسان المغاور على نحو ما نقيس جمجمة واحد من المعاصرين، تعرضنا لاستنتاج أن صاحب الجمجمة الأولى كان فاقدا للكلام. ومن اليقين أن ذلك يتقهقر بمبدأ تطور اللغة والإنسانية إلى أمد بعيد. ولكن الذي لا شك فيه أن مخ رجل المغاور كان أقل استعدادا للنشاط اللغوي من مخنا.

عند هذا السلف البعيد الذي لم يكن مخه صالحا للتفكير بدأت اللغة بصفة انفعالية محضة. ولعلها كانت في الأصل مجرد غناء ينظم بوزنه حركة المشي أو العمل اليدوي2 أو صيحة كصيحة الحيوان تعبر عن الألم أو الفرح وتكشف عن

1 WUNDT رقم 223 مجلد 1 ص494.

2 ARBEIT UND RHYTHMUS:K. BUCHER الطبعة الثالثة ليبرج 1912.

ص: 38

خوف أو رغبة في الغذاء. بعد ذلك، لعل الصيحة اعتبرت بعد أن زودت بقيمة رمزية، كأنها إشارة قابلة لأن يكررها آخرون، ولعل الإنسان قد وجد في متناول يده هذه المسلك المريح، قد استعمله للاتصال ببني جنسه أو لإثارتهم إلى عمل أو لمنعهم منه. ولا بد أن اللغة، قبل أن تكون وسيلة للتفكير، كانت في الواقع وسيلة للفعل وواحدة من أنجع الوسائل التي مكن منها للإنسان. وما أن استيقظ في ذهن الإنسان شعوره بالعلامة حتى راح يوسع من شأن هذا الاختراع العجيب، وكان تقدم الجهاز الصوتي يسير بنفس الخطى مع تقدم المخ. وكان يثبت اللغة في داخل الحشود الإنسانية الأولى يسير على نفس القوانين التي تحكم كل مجتمع. وبوجه خاص كان أعضاء كل جماعة يلتزمون في احتفالاتهم الجماعية نفس المظاهرات الصوتية أو الغنائية1. وهكذا كانت عناصر الصياح أو الغناء تصبح مزودة بقيمة رمزية يستبقيها كل فرد في نفسه لاستعماله الشخصي. ثم قليلا قليلا، وبفضل الاتساع المتزايد في التبادل الاجتماعي تكون أخيرا هذا الجهاز المعقد الذي لا يجاري في ثرائه ليكون وسيلة للتعبير عن العواطف والأفكار، عن كل العواطف والأفكار.

هذا الفرض تبدو عليه مخايل الصدق وإن لم يكن مما يمكن البرهان عليه. ومن مزاياه أنه يفهمنا كيف كانت اللغة نتاجا طبيعيا للنشاط الإنساني نتيجة لتطابق ملكات الإنسان على حاجاته الاجتماعية2. غير أنه يجب البدء من الشعور بالعلامة. وإذا ما حصل على هذه الحقيقة تتابعت اللغة كلها بطريق التنويعات المتتابعة.

إنه لمن المجازفة بعد الذي قيل في الصفحات السابقة أن نعمد إلى تحديد أدق وأن نسعى إلى معرفة الكيفية التي جرى عليها التخالف "Differenciation" والمراحل التي مر بها منذ صيحة الإشارة حتى وسائل التعبير الكثيرة التنوع التي تقوم عليها ثروة لغة كاللغة الفرنسية. ومما يطلب إلى العالم اللغوي، اعتمادا على

1 بورنسكي رقم 146ص38

2 "لما كان الكلام هو النظام الاجتماعي الأول فإنه لا يدين بصورته تلك إلا لأسباب طبيعية" ج. ج. روسو: "بحث في أصل اللغات".

ص: 39

الفكرة القائلة بأن كل لغة فيها أجزاء أساسية تتميز عن الإضافات اللاحقة، أن يحدد هذا العالم طبقات اللغات المختلفة وأن يميز منها الأجزاء التي كانت لها الأولية في التكوين. وقد يجازف العالم فيلقي بالجواب في بعض الأحيان. ولكن يجب أن نعترف في شجاعة بأن كل هذه الأجوبة لا قيمة لها. فالطريقة التي تقوم على الانتقال من المعلوم إلى المجهول عاجزة هنا؛ لأن المبادئ التي يبنى عليها تطور اللغات التي نعرفها لا تنطبق ضرورة على لغات كان يتكلمها أفراد تتجه عقليتهم اتجاها يخالف اتجاهنا، ودراسة اللغات تعلمنا أن نشوء اللغات ونموها لا يتم في تتابع منطقي ملتزما في سيره طريقا مستقيما، فمن الخطأ أن نتصور أن الخطة التي بنيت عليها دراسة "البور رويال" النحوية قد فرضت نفسها منذ البداية على العقل الإنساني ليتخذ منها إطارا يملؤه بالتدريج وعن طريق التتابع المنظم.

هذا وإنه ليوجد بين العلامة والشيء المدلول عليه بها، بين الصيغة اللغوية ومادة التصوير أي رباط مستمد من الطبيعة، ولكنه رباط مأخوذ من الظروف فحسب. ولقد ساد زمنا طويلا الاعتقاد بأن الحقيقة الأولى للغة كانت تقوم على إعطاء أسماء للأشياء، أي على خلق مفردات. وتلك هي الفكرة التي عبر عنها لكريس Lucrece في بيته الذي كثيرا ما ينشد وهو:

Utilitas expressit nomina rerum

"إن الضرورة هي التي تخلق المسميات"

الذي يعزو فيه بحق اللغة إلى سد الحاجات، وفي القرن الثامن عشر في فرنسا حاول الرئيس دي برس1 De Brosses أن يفسر الصورة الخارجية للكلمات بالمعاني التي تعبر عنها هذه الكلمات. وكان غرضه أن يكتشف للأصوات نوعا من الرمزية، رغم أن الأوليين من البشر استخدموها في خلق كلمتهم. هذا المشروع لا يثير في أيامنا هذه إلا الابتسام. فإن ما هو مهم ليست تسمية الأشياء بهذه الكلمة أو تلك، وإنما هو إعطاء الكلمات بنوع من الاتفاق الضمني بين المتكلمين قيمة اسمية، إنما هو اتخاذها وسائل للتبادل، كما استعيض عن مقايضة الأشياء بعضها ببعض بالنقود أو بالأوراق النقدية.

1 Traite de la formation mecanique de langues باريس 1765، وقارن R. M. Meyer رقم 30 مجلد 12 ص243.

ص: 40

بعض علماء اللغة ممن هم أقرب إلينا قد تخيلوا نظريات ذهبوا بمقتضاها إلى أن كل المفردات قد خرجت من صيحة تشبه نباح الكلب أو من سلسلة من الأصوات توحي بتمثيل الأشياء عن طريق المحاكاة1. وكان في هذا الوقت نفسه أن راح العلماء المشتغلون بالفيدا يفسرون كل الأساطير بنار البرق أو مسير الشمس. وكلا الفريقين من علماء اللغة وعلماء الأساطير كانوا في ذلك الحين يعنون بإدراك الأشياء على نحو ساذج. وكانوا يتناقشون لمعرفة ما إذا كانت اللغة قد بدأت بالاسم أم بالفعل: الفعل الذي يعبر عن الحدث والاسم الذي يعبر عن ماهية الأشياء وصفاتها. ولكن مما بدا لنا من الاختلاف بين الاسم والفعل، فإن التعارض بين "قطبي" نحونا هذين ليس أمرا ضروريا، وإلا فماذا يعني نباح الكلب: أيعني "أنا جوعان" أو "أعطني ما آكل" أو "هذا حسن" أو "انتهيت من الأكل"؟ لا هذا ولا ذاك أو كل هذا معا، ويمكننا أن نفسره على السواء بفعل أو باسم بالأمر أو بالماضي وقد بقي، رغم كل ما بذل من جهود بين النباح البدائي وأقدم ما عرف من لغاتنا، فراغ يتعذر سده.

وما أغرى العقول بالبحث عن الصور البدائية للغة إلا المقارنة التي كانت تقام بين علم اللغة والعلوم الطبيعية، من جغرافية ونبات وحيوان، وقد جرت هذه المقارنة غير الصحيحة إلى أخطاء مرذولة، فإذا أريد إيجاد نوع معادل للغة وجب البحث عنه على الأصح في التاريخ الاجتماعي. وكان ميشيل بريال Michel Breal مأخوذا بمقارنة تصريف الفعل في اللغة الهندية الأوربية "بتلك النظم السياسية والقانونية الكبيرة -البرلمانات أو مجلس الملك- التي رأت نفسها بعد أن ولدت من حاجة أساسية تتنوع وتمد من سلطان اختصاصاتها حتى حل زمن جديد فوجد هذا الدولاب ثقيلا في مجموعه، فشطر منه جزءا ومزق وظيفته بين عدد متباين من هيئات حرة ومستقلة، وإن كانت لا تزال تشترك في الخطة التي

1 انظر التفاصيل في جسبرسن Jespersen، رقم 134 الطبعة الثانية، ص330 وما يليها وبورنسكي، رقم 146، ص11 وما يليها ثم ص39.

ص: 41

بنيت عليها منذ المبدأ إلى حد ما وبشكل يدل بوضوح على تضامنها القديم"1. هذه المقارنة يمكن أن تطبق على اللغة في عمومها لأن اللغة إحدى هذه النظم ومع ذلك ففي اللغة عناصر أكثر ثباتا وأقل خضوعا للتحكم الإنساني مما في النظم السياسية. وهذه العناصر هي في الواقع الأصوات التي سنبدأ بها هذه الدراسة.

1 رقم 6 مجلد 11 ص284.

ص: 42