الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: اللغات المشتركة
أشرنا في آخر الفصل الأول "ص307 و308" إلى أحد يعتبر توحيد اللغة ضرورة اجتماعية. ولولا مقاومة المجتمع للتفكيك اللغوي لأصبح العالم أمام حشد من صور التكلم التي لا تزيدها الأيام إلا تفرقا. ولكن الذين يتكلمون إحدى اللغات يميلون دائما إلى المحافظة عليها كما هي، وكذلك التبادل الكلامي الذي يحدث باستمرار بين أعضاء مجموعة اجتماعية واحدة يؤدي إلى توحيد اللغة. ومن هنا تنشأ اللهجات، وكذلك اللغات المشتركة التي تسير مع اللهجات جنبا لجنب.
ومع ذلك فهناك خلاف بين تكون اللغات المشتركة واللهجات. اللهجات تنشأ فجاءة من التعاون الطبيعي للأحداث اللغوية. إذ توجد اللهجة في كل مكان توجد فيه صور تكلم متجاورة ذات خصائص مشتركة وتشابه محسوس في المظهر العام لدى المتكلمين. فاللهجات لا يمكن تحديدها إلا على وجه التقريب. وقد قلنا إننا إذا جمعنا كل المعايير اللغوية، لم نستطع بها أن نخط حدودا للهجة من اللهجات.
فالعالم اللغوي لا يسير على قاعدة حين يختار الظواهر التي بمساعدتها يقسم الخريطة إلى أقسام لهجية. وشأن اللهجات كشأن الأقاليم الطبيعية التي ينقسم إليها قطر من الأقطار1. فإذا لم تستخدم هذه الأقاليم أساسا لتقسيم سياسي، بقيت حدودها دائما غير ثابتة. فسكان مقاطعة السين والمارن لا يزالون يتكلمون عن ألبري Brie والجاتينية Gatinais والمنتوا Montois ولكن هذه الأسماء المختلفة لا تمثل اليوم أي إقليم تحديدا دقيقا، وإن دلت على بعض الخصائص
1 قارن جلوا Gallois؛ Regions naturelles et noms de pays باريس، كولان 1908.
الجغرافية، ولكن كان يمكن الكلام فيما مضى عن حدود كنتية ألبري Comte de Brie، أما المنتوا -على الأقل- فلم تكن في يوم من الأيام أكثر من عبارة جغرافية.
كذلك اللهجة تتضح حدودها إذا كانت تطابق تقسيما سياسيا، وتبقى هذه الحدود في غالب الأحيان زمنا طويلا بعد زوال الظروف التي أدت إلى تحديدها1.
لذلك يلاحظ في بعض أقاليم ألمانيا الحالية، أن حدود الخصائص اللغوية تتطابق في بعض النقط التي تتفق فيها هذه الحدود مع الحدود السياسية السابقة لسنة 1789. وهذه الحدود ترجع في عمومها إلى القرن السادس عشر، بل إلى القرن الخامس عشر، وقد كانت حدودا دينية في نفس الوقت، حتى إن الأثر الديني يتعاون مع الأثر السياسي في تعيين حدود اللهجة. وكذلك الحال في بريتانيا الفرنسية، حيث تتفق حدود لهجات ليون Leon، وكرنواي Cornouailles وترجييه Treguier التي لا تزال واضحة في كثير من النقط، مع تقسيمات الإقليم الدينية والسياسية القديمة. ومما يلفت النظر أن نهر مرليه Morlaix الذي يفصل بين لهجة ليون ولهجة ترجييه هو الذي كان يفصل بين الإبرشيتين فيما مضى، وأن مدينة مرليه التي تقع على ضفتي النهر المسمى بهذا الاسم تنقسم لغويا إلى قسمين لهذا السبب. وهذا لا يعني أن سكان الضفتين لا يفهم بعضهم بعضا، ولكن هناك عددا من الخصائص المشتركة مجتمعة في منطقة تنتهي في تلك النقطة، والخطوط اللغوية التي تتطابق بعضها مع بعض تتطابق أيضا هنا مع تقسيم إداري قديم، كما هي الحال في اللهجات الألمانية.
ومع ذلك فمهما كانت أهمية العوامل السياسية والاقتصادية فإن اللهجة أولا وقبل كل شيء كيان لغوي. وحتى عندما نحسب حساب الظروف الخارجية في تكوين اللهجات، يبقى أن هذه الظروف تستند جوهريا إلى التطوير الطبيعي لعناصر اللغة.
1 ل. فيفر: Hisoire et dialectologie في مجلة Revue de la Synthese historique مجلد 12، ص429.
وهذا غير الحال في اللغة المشتركة. لأن الظروف الخارجية هي التي تحددها وتدين بوجودها إلى انتشار قوة سياسية منظمة، أو إلى تأثير طبقة اجتماعية غالبة أو إلى تفوق أحد الآداب، ومهما كان الأصل الذي تعزى إليه نشأتها، فهناك دائما أسباب سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تبعث على استبقائها. "المدنية وحدها هي التي تستطيع أن تنشر اللغة بين كتل عظيمة من البشر"1. ولا تتفكك اللغة المشتركة وتتفتت إلا إذا تراخت العرى الاجتماعية التي كانت تمسكها. وإذن فمن الممكن أن ندرس على انفراد تكون اللغات المشتركة وأن نبين بأمثلة من التاريخ الأسباب التي تبعث على نشوئها وازدهارها وذبولها.
تقوم اللغات المشتركة دائما على أساس لغة موجودة، حيث تتخذ هذه اللغة الموجودة لغة مشتركة من جانب أفراد مختلفي التكلم. وتفسر الظروف التاريخية تغلب هذه اللغة التي اتخذت أساسا وتعلل انتشارها في جميع مناطق التكلم المحلي المختلفة. ولكن على العالم اللغوي أن يبدأ بالعمل لتحديد هذه اللغة.
1 ا. رينان: رقم 111، ص101.
2 مييه: رقم 93، ص243-244. وقارن كرتشمير kretschmer رقم 177؛ و Thumb رقم 213، وهفمان: رقم 168.
فقد كانت البونية منذ انتشارها على شواطئ آسيا الصغرى قد صارت لغة مشتركة، وهذه اللغة نعرفها من هيرودوت الذي يمثلها لنا خير تمثيل. فمع كوننا نعرف بشهادة هذه المؤرخ أنه كان يوجد في الدوديكابول Dodecapole عدد من اللهجات المحلية التي يختلف بعضها عن بعض، فقد كان فيها أيضا لغة مشتركة تظل اللهجات المحلية. ولكن الظروف السياسية لم تمكن هذه اللغة البونية المشتركة من الوصول إلى الأهمية التي وصلت إليها اللغة الأتيكية فيما بعد. فقد صارت الأتيكية في الفترة التي بين الحروب الميدية وقيام الإمبراطورية المقدونية في حالة تسمح لها بأن تمد العالم الهليني جميعه بلغة مشتركة، وذلك بفضل هذا التعاون الفائق الذي أنتجته عدة أسباب معقدة. ويجب أن نذكر بين الأسباب التي ساعدت لهجة الأيتكيين على هذا التغلب، ذلك الدور الأساسي الذي آل إلى أثينا بعد سقوط الإمبراطورية الفارسية. ولكن زاد من قون الأتيكية وإشعاعها شهرة شعرائها وفنانيها، فكان لأثينا -بوصفها مركزا سياسيا وأدبيا وفنيا على السواء- شرف تأسيس اللغة المشتركة التي ظلت منذ القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن التاسع بعد الميلاد، أداة للتفكير عند جميع الإغريقيين. هذه اللغة خرجت من اللهجة الأتيكية كما كانت تتكلم في حدود الإقليم، فهي لا شيء أكثر من تهيئة اللهجة الأتيكية لاستعمال سكان ذوي لهجات بل ولغات مختلفة.
في إيطاليا القديمة تختلف الظروف بعض الشيء1. فاللاتينية التي صارت لغة إيطاليا المشتركة وأخيرا لغة العالم الغربي بأسره، كانت لغة روما أولا وقبل كل شيء، أي لغة المدينة في مقابلة لغة الريف المجاور واللهجات القاصية على السواء. وقد بدأت لغة المدينة Le sermo urbanus بالتضييق على اللغة الريفية le sermo rusticus قبل أن تحل محل اللهجات المجاورة بعد أن غزتها في عقر دارها، مثل السابية le sabin والمرسية le marse، ثم محل لغات إيطاليا الأخرى من أسكية l'osque وأمبرية l'ombrien وأترسكية l'etrusque
1 شتلتس Stolz، رقم 208.
وكلتية le celtique وإغريقية. وهنا أيضا نقابل أهمية المدينة بوصفها عاصمة سياسية.
من العاصمة أيضا خرجت الفرنسية المشتركة. فأهمية باريس السياسية والمنطقة الباريسية تفسر لنا بدرجة كبيرة انتشار لهجة الإيل دي فرانس l'Ile de france أي "الفرنسية" في الأقاليم المجاورة وذلك بانضمام هذه الأقاليم إلى المملكة، وصيرورتها في نهاية الأمر أداة للتبادل الذهني من دنكرك إلى بربنيان ومن برست إلى شامونكس. وفرنسية الإيل دي فرانس لم تمتد فحسب على اللهجات التي تشترك معها في أسرة واحدة، أي اللهجات المشتقة مثلها من اللاتينية، بل اتخذت أيضا لغة مشتركة لدى الفلمنكيين والبريتانيين، مع أن لغتيهما الطبيعيتين من أصل جرماني أو كلتي؛ كما نفذت بوصفها لغة مشتركة في إقليم الباسك في الجنوب الغربي من فرنسا، على أنها لم تقتصر على حدود فرنسا السياسية، إذ إن بعض الأجزاء البلجيكية والسويسرية يدخل في المجال الفرنسي من الوجهة اللغوية، وذلك دون أن نتكلم عن الجاليات القديمة أو الحديثة التي تعمل على انتشار الفرنسية فيما وراء البحار1. وتاريخ هذه الفرنسية المشتركة وتاريخ تكوينها وانتشارها الجغرافي يتصل اتصالا وثيقا بتاريخ فرنسا السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ فلا يستطاع فهم أحدهما دون معرفة الآخر. ولكن الفرنسية إنما خرجت من العاصمة، ومن طبقة اجتماعية بعينها من طبقات العاصمة، وهي البرجوازية. وهذه حقيقة أبان عنها برينو Brunot في وضوح بالغ2: إن لغتنا المشتركة على النحو الذي استقرت عليه في القرن السابع عشر، هي لغة البرجوازية الباريسية، برجوازية "المدينة"، وقد سلم بها القصر ثم الأقاليم، والكتاب الكبار باستعمالهم إياها زودوها بالقدرة على فرض نفسها نهائيا وعلى استمرارها. لذلك لا نكاد نحس فيها أثرا للهجات. الإسبانية المشتركة نشأت واستقرت قبل الفرنسية بزمن طويل. إذ كانت
1 انظر la langue francaise dans le monde "نشر الأليانس فرنسيز" باريس 1900.
2 رقم 57، مجلد 3 "La formation de la langue francaise". انظر أيضا روسيه Rosset، رقم 112.
شبه الجزيرة عند الفتح العربي "عام 711" ميدانا لثلاث مجاميع من اللهجات يختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا: الغاليسية في الغرب والقسطلانية في الشرق ومجموعة وسطى تشغل منطقة شاسعة. والإسبانية المشتركة خرجت من لهجة من لهجات الشمال، لهجة قسطلة القديمة La Vieille- Castille القريبة من الأقاليم البسكية. اتجه انتشار القسطلانية نحو الجنوب، لأسباب يبررها التاريخ السياسي، وكان انتشارها في شكل هلال أخذ يزحف على لهجات المجموعة الوسطى شيئا فشيئا. ومع ذلك فقد بقيت عن يسار القسطلانية بمعناها الضيق وعن يمينها بقايا من هذه المجموعة تتمثل حتى أيامنا هذه في لهجتي الليون le leon والأرجون l'Aragon، اللتين تتشابهان تشابها غريبا. وقد صارت القسطلانية لغة أدبية في القرن الثالث عشر بفضل الملك ألفونس العاشر "1252-1284" الذي كان يحتل بالنسبة لأسبانيا الذي يحتله دانتي بالنسبة لإيطاليا. فالأسبانية المشتركة إذن نتيجة لتفوق قسطلة في السياسة والآداب. وهذا التفوق لم يمتد إلى البرتغال التي صارت دولة مستقلة منذ نهاية القرن الحادي عشر. واللهجات البرتغالية كانت تنتمي دائما إلى مجموعة الغربية. من ثم كانت البرتغالية القديمة تختلط بالغاليسية. ولكن الأهمية التي وصلت إليها لشبونة في القرن السادس عشر بوصفها العاصمة، وتأثير الشاعر الكبير كامونس "Camoens"؛ "1525-1580" جعلا الغلبة اللهجة المنطقة الوسطى في القطر الذي صارت فيه لغة البرتغال الأدبية المشتركة. أما اللهجة التي تتكلم اليوم في غاليسيا، فعليها سيما البرتغالية القديمة وقد توقفت عن التطور، ومع ذلك فهي مملوءة بالآثار اللغوية الأسبانية1.
إذا قارنا الإنجليزية المشتركة بالفرنسية أو الأسبانية، وجدناها تحمل منذ بدايتها آثار اللهجات المختلفة2. وهذا ناتج من وقع مدينة لندن التي نشأت فيها الإنجليزية المشتركة في نقطة تجعلها ملتقي لمختلف اللهجات. هذا إلى أن تكون اللغة
1 تدين بالمعلومات التي نوردها في هذه الفقرة إلى الأستاذ أمريجو كاسترو Amerigo castro الذي تفضل فبعث بها إلينا، وانظر ليني دي فاشكنشلوس leite de Vasconcellos رقم 127.
2 و. هورن W. Horn، رقم 169، 170؛ مرصباخ Morsbach رقم 183.
المشتركة صادف وقوعه فترة نمو لندن المفاجئ حيث أخذت تتلقى بين أحضانها طوائف المهاجرين على اختلافهم، يفدون عليها من كل الأقاليم ويمتزجون بالسكان السابقين. هذه الهجرات أدت إلى شحن اللغة المشتركة بآثار اللهجات، حتى لنجد نطق الإنجليزية في القرن السابع عشر لم يثبت بعد، وأنه يشتمل على كثير من وجوه الخلاف. ولا تزال بقايا منه موجودة حتى اليوم. ولكن هذه الهجرة الإقليمية أنعشت تبادل السكان بين العاصمة والأقاليم، ذلك التبادل المفيد الذي أدى أجل خدمة لانتشار اللغة المشتركة. وإذن فإنجلترا تدين أيضا بتوحيد لغتها توحيدا نسبيا إلى أهمية عاصمتها، ولكن ذلك كان في ظروف تختلف اختلافا محسوسا عن الظروف التي تكونت فيها الفرنسية. فهذه الأخيرة أقوى توحيدا.
نشأت في أيامنا هذه لغات مشتركة في شبه جزيرة البلقان، والمستقبل وحده كفيل بتعديل حدودها أو بتوسيعها، ولكنها أيضا نشأت من وجود عاصمة. فاللهجات الصربية الجنوبية كثيرة الاختلاف عن الصربية التي تكتب وتتكلم في بلغراد1. فالنبر فيها في غير موضعه في الأولى، والكم غير مرعي والإعراب مبسط للغاية. وتعتبر هذه اللهجات من وجهات شتى خطوات وسطى بين الصربية والبلغارية، إذ من المستحيل عمليا أن نخط حدا لهجيا بين اللغتين. ولكن توجد -منذ نهاية الحروب البلقانية- لغة صربية مشتركة تغير على اللهجات الجنوبية وتبتلعها داخل الحدود السياسية لمملكة الصرب. ونحن مثلا على علم تام بالطريقة التي بها تحل اللغة الأدبية المشتركة محل اللهجة المسماة بالإيكافية l'ikavien2. وينحصر التغير الأساسي في إحلال المجموعة الصوتية iye "إيبي" محل i "-ي" وييسر هذا الإحلال في بلاد الصرب وجود الوحدة
1 ا. بروخ O. Broch؛ Die Dialekte des sudlichsten serbiens فينا "1903" linguist-Abteilung "schriften der Balkan-Commission" مجلد 3.
2 هـ. هرت H. Hirt؛ Der ikavische Dialeket im konigreiche Serbien "رقم 39، phil. hist. klasseK، مجلد 146، 1903".
العائلية، ألا وهي الزدروجا la zadruga1. إذ يجب ألا يكون في داخل الزدروجا إلا لغة واحدة، ولكن التزاوج يدخل في الزدروجا باستمرار نساء أجنبيات عن الإقليم، يتكلمن لغات مختلفة، وبهذا تضعف مقاومة اللغة المحلية، وبمقدار ضعفها يزداد أثر اللغة المشتركة. وعلى هذا، تصير اللغة الأدبية لغة الكلام بين جميع الصربيين المقيمين بالمملكة.
وفي ألمانيا -حيث العاصمة حديثة العهد وليس لها أثر غير منازع على مجموع الأقاليم الألمانية- قام انتشار اللغة المشتركة على أسباب مستقلة عن كل وحدة سياسية. فالألمانية المشتركة أولا وقبل كل شيء لغة كتابة، تدين بنجاحها إلى أسباب دينية، كما تدين بأصلها إلى الرغبة في الاستعمار2. فبحركة الإصلاح انتشرت ألمانية لوثر في المنطقة الألمانية السفلى بأسرها؛ وفي نهاية القرن السادس عشر كان لا يستعمل في هذا المجال لغة مكتوبة أخرى غير اللغة الأدبية المشتركة. وكان الانتشار بطيئا في أقاليم جنوب ألمانية الكاثوليكية وفي سويسرة البروتستنتية. غير أن لوثر نفسه إنما استخدم آلة قد مهدت منذ زمن طويل. إذ كان يوجد منذ القرن الرابع عشر في مستشاريات المدن أو مستشاريات الإمارات الألمانية، ميل لاتخاذ لغة مشتركة تختلف عن اللهجات الإقليمية. والمستشارية الإمبراطورية هي الأولى التي سنت هذه السنة3. إذ أخذت على عاتقها أن تتجنب الخصائص اللهجية وأن تستعمل لغة واحدة في جميع الأقاليم التي تحت سلطانها. وهذا واضح في عهد الإمبراطور شارل الرابع في صميم القرن الرابع عشر. وقد استمدت لغة المستشارية قوة عظيمة من كونها لغة استعمار أولا وقبل كل شيء. إذ الواقع أن الألمانية كانت تحتل الأراضي السلافية قدما بقدم وتحل محل اللغات السلافية. فتكونت الألمانية المشتركة في مدن الاستعمار في ألمانيا
1 "الزواج إحدى الوسائط الإنسانية الدائمة بين اللغة والتاريخ المحلي". تراشيه Terracher، رقم 124، ص10 من التمهيد: وص228.
2 كلوجه kluge: رقم 175، 176؛ وجتياهر Gutjahr؛ Die Anfange der neuhochdeutschen schriftsprache vor Luther، هال "1910".
3 سوسن Socin: رقم 206، ص164، 203.
الشرقية، تلك اللغة التي وصلت بفصل الإصلاح الديني إلى أهميتها الأدبية، واستقرت بفضل اكتشاف المطبعة وصارت لغة الكتابة في ألمانيا المثقفة بأسرها.
وتاريخ الروسية يختلف عن ذلك اختلاف محسوسا1. فقد ظلت اللغة السلافونية -وهي التي استعملها مترجمو الكتاب المقدس الأقدمون- لغة الكتابة في روسيا طوال العصور الوسطى. هذه السلافونية وهي تقوم على أساس اللهجات السلافية الجنوبية "في إقليم سالونيك" قد أصابها في روسيا شيء من التأقلم، ولكنها لم تتحد إطلاقا مع الروسية نفسها. وإذا كان أناس من أنصاف المثقفين قد كتبوا بلغة أقرب إلى لغة الكلام، فإن اللغة الأدبية بقيت دائما لغة الكنيسة. ولم تأخذ اللغة في التخلص من هذا الأثر السلوفاني إلا منذ بطرس الأكبر، حيث حذت حذو لغات أوربا الغربية ولا سيما الفرنسية والألمانية، وسايرت الاستعمال السائد في روسيا الوسطى على النحو الذي كانت توجد عليه في العاصمة القديمة موسكو. فتكونت في غضون القرن التاسع عشر لغة أدبية فيها آثار سلافونية ولكنها تستند في جوهرها على لغة الكلام المستعملة.
اتخذت البولونية لغة أدبية منذ القرن الرابع عشر، ولكنها لم تزدهر بهذه الصفة إلا في القرن السادس عشر، في إقليم كراكوفيا "بولونيا الصغرى". ومع ذلك فإن البولونية الأدبية والمشتركة ليست لغة هذا الإقليم، وإنما خرجت من إقليم بوسن Posen ومن جنيسن Gnesen "بولونيا الكبرى" التي تعد مهد البولونيين الجنسي في القرن العاشر. فمن بيع مجاميع اللهجات الكبرى الأربع، المازوفية mazovien والبسنانية pasnanien والكراكوفية Cracovien ولهجة بولونيي رويتنيا Ruthenie2. اتخذت البسنانية وحدها أساسا للغة الأدبية
1 ا. بده E. Budde. تاريخ مجمل للروسية الأدبية المعاصرة من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر "بالروسية"، وهو ما تحتوي عليه الكراسة الثانية عشرة من Enciklopedija slavjonskoj filologif، بطرسبرج، 1908.
2 انظر كازيميرنتش Casimir Nitsch؛ Mova ludu polskiego: كراكوفيا "1911".
المشتركة، ولكن هذه اللغة تطورت في بولونيا الصغرى، وتم تكوينها في الجزء الشرقي من المنطقة، في روتينيا أي في أرض مستعمرة لم تكن تنتمي في الأصل إلى بولونيا الجنسية.
وأخيرا توجد لغات مشتركة من أصل أدبي محض. مثل الإيطالية1 التي استقرت لغة مشتركة ابتداء من القرن الرابع عشر بفضل هيبة الكتاب العظام وتأثيرهم، مثل دانتي وبترارك وبوكاشيو، وذلك في وقت لم يكن لإيطاليا فيه أية وحدة سياسية. وأغلب الظن أن هؤلاء الكتاب استعملوا اللغة التي كانت تتكلم حولهم، ومن ثم أطلق اسم اللغة التسكانية lingua toscana على اللغة الأدبية الإيطالية. ولكن هذه التسمية لا تفرض أن تكون إيطالية الكتب قد أتت من انتشار لهجة إقليمية. فاللغة التي رفعها دانتي إلى مرتبة اللغة الأدبية، والتي صارت لغة إيطاليا المشتركة، كانت أولا وقبل كل شيء لغة مدينة هي فلورنسا، ولغة المجتمع الراقي في هذه المدينة. واللغة التسكانية نفسها فيها خصائص لم تدخل في اللغة الأدبية، فهي مثلا الـC "ك" إلى SPIRANTE إذا وقعت بين حركتين فتقول FUOHO بدلا من fuoco و la hasa بدلا من la casa. ومع ذلك فمن الحق أن نلاحظ أن أسبانيا عديدة مختلفة النواحي جعلت من فلورنسا la terra promessa "أرض الميعاد" للغة الإيطالية المشتركة. فهذه المدينة فضلا عن نبوغ كتابها وأهميتها كمركز أدبي واقعة بين بولني Bologne وروما، مما رشحها لتكون همزة الوصل بين المدن الثقافية في إيطاليا. ولغة فلورنسا من جهة أخرى كانت مزاياها الذاتية ترشحها أكثر من غيرها للقيام بدور اللغة المشتركة، إذ كانت أقرب من غيرها إلى اللاتينية، وبذلك كانت تيسر لكل متعلم الانتقال من لهجته إلى اللغة المشتركة. وهذا كله مهد لانتصار التسكانية lingua toscana
1 دوفديو Dovidio؛ Lingua e dialetto "رقم 41، مجلد 1، ص564-583"، وج. اسكولي G. Askoli؛ Il toscano e il linguaggio letterarion degli italiani "رقم 41 مجلد 8، ص121-128"، وبيو راجنا pio rajna؛ Origine della lingua italiana "Manuale della letteratura italiana" تأليف دنكو D'Ancona وبتشي Bacci، مجلد 1، الطبعة الثانية "1908"، ص15-24".
هذا الانتصار الذي تم حين راح Bembo البندقي نفسه يستعملها في مؤلفاته في القرن الرابع عشر. طريقة تكون اللغات التي قدمنا منها عدة صور تؤثر على العلاقة التي تكون بين هذه اللغات وبين اللهجات فإذا لم تكن اللغة المشتركة نفسها إلا لهجة أظهرتها الظروف على اللهجات المجاورة، سهل عليها ابتلاع هذه اللهجات في وقت وجيز لأن اللهجة التي اتخذت أساسا، لها من السلطان ما يفرضها على اللهجات الأخرى. وأغلب الظن أنها تفقد على وجه العموم ما فيها من صفات موغلة في الخصوصية، فقد تخلصت الأتيكية مثلا من بعض خصائصها البينة عندما صارت اللغة الهلينستية. ولكن اللهجات الأخرى من جانبها تبلى سريعا باحتكاكها باللغة المشتركة. فاللهجات تمحي حدودها شيئا فشيئا إلى أن تنتهي بالاندماج في اللغة العامة، اللهم إلا إذا أمدتها ظروف خاصة بحيوية تطيل في عمرها في صورة لغات خاصة أو لغات أدبية فلم يبق عندنا في فرنسا الشمالية لهجات بمعنى الكلمة، لم يبق هناك من وسيط بين اللغة المشتركة والتكلم المحلي الذي يسمى رطانة patois، والبيكاردي لم يعد في وسعه أن يتصور غير نوعين من اللغات: رطانته الخاصة واللغة الفرنسية المشتركة، وقد تعلم هذه الأخيرة في المدرسة وتطلع عليه كل صباح في صحيفته اليومية. هذا إلى أن طريقة التكلم المحلية تمتلئ يوما بعد يوم بالعناصر التي تستعيرها من اللغة المشتركة. ولكن إذا اتفق لبعض العناصر المحلية أن تدلف إلى اللغة المشتركة، فليس معنى هذا أننا نواجه بقايا لهجية أو أمام لهجة جديدة في سبيل التكوين، بل نواجه اللغة المشتركة نفسها في مظهر محلي. ويجب أن نرجع قرونا إلى الوراء لنعثر على نصوص مكتوبة بالبيكاردية. فاللهجة البيكاردية
قد انقرضت من يوم أن فقد المتكلمون بها الأحساس باستقلال اللهجة وهيبتها.
وتشربت اللاتينية في إيطاليا عددا من اللغات التي لا نعرف عنها اليوم شيئا يذكر، كما تشربت اللهجات المجاورة للهجة روما. وقد نجحت بعض الجهود التي بذلها فريق من علماء اللغة في أن يستخرجوا من مفردات اللاتينية ومن نظاميها الصوتي والصرفي بعض سمات لهجية، ولعل لهجات إيطاليا الحديثة تحتفظ ببعضها حتى الآن2.
توجد إذن بين اللهجات التي تدخل في إعداد اللغة العامة درجات يجب التمييز بينها. فأكثرها مبادرة بالاختفاء أقربها إلى اللغة التي اتخذت أساسا للغة المشتركة. هذه الملاحظة التي تبدو مبتذلة، لها أهميتها في دراسة احتكاك اللغات "انظر أواخر الفصل الرابع". ومن ثم كان هناك فرق محسوس بين الأثرين اللذين وقعا من الدنمركية ومن الفرنسية النرمندية على اللغة الإنجليزية3. فبنية الإنجليزية لم تتأثر بهذه الأخيرة إلا قليلا، أما الدنمركية فقد تركت فيها أثرا عميقا: فتمزيق النظام النحوي وتبسيطه قد وقعا في الأقاليم التي كان يقيم فيها الدنمركيون قبل وقوعهما في الأجزاء الجنوبية وهي الأجزاء التي نزل فيها النرمنديون قبل ذلك بقرنين من الزمان. نعم يجب أن نلاحظ أن عدد النرمنديين في إنجلترا كان قليلا
1 ثمب THUMB، رقم 213.
2 انظر دراسات ج. مول G. Mohi؛ Chronologie du latin vulgaire وأربو Ernout؛ رقم 70 ودي ريبزو de Ribezzo؛ Reliquie italiche mei dialetti dell italia meridionale في "Atti accad. Arch lett. Bell. arti، Napoli 1، 1908"،
3 جسبرسن 134، ص170-173.
نسبيا، وأنهم كانوا يكونون فيها طبقة خاصة، ولكن إذا صرفنا النظر عن هذه الظروف الاجتماعية والسياسية، وجدنا أن الاختلاف الذي أشرنا إليه آت من درجة القرابة بين اللغات التي نحن بصددها. فقد كان بين الإنجليزية والدنمركية من جهة النظام النحوي وجوه شبه لم تكن بين الإنجليزية والفرنسية النرمندية. واللغات المشتركة التي هي لغات كتابة قبل كل شيء كالألمانية والإيطالية تختلف في وضعها عن اللهجات اختلافا كافيا. فالقاعدة التي تقوم عليها اللغة المشتركة لا تتعارض مع اللهجات، إذ إنه لا تميل لهجة أيا كانت إلى الاعتداء على اللهجات الأخرى. وذلك لأنهما لغتان مختلفتان تسيران جنبا إلى جنب. والشعور بوجود وحدة لغوية أوسع من اللهجة المحلية وأضيق من وحدة اللغة المشتركة، يوجد في البلاد كلها دون أن يصاب بضعف يذكر. ففي بييمنت وفي اللمبارديا لا تتفق لغة الحديث ولغة الكتابة، وهذه الأخيرة تتسم بطابع الاصطناعية والحوشية، فهي حقا لغة ميتة لا تلقائية فيها، ولا Securezza كما يقول اسكولي1. كذلك في ألمانيا يمكننا حتى اليوم أن نتكلم عن اللهجات. وهي فيها تشغل مكانا وسطا بين الرطانة المحلية واللغة المشتركة، وتتمثل في الشعور الشعبي على أنها لغة مناطق على جانب من الاتساع وإن كانت حدودها غير بينة. ولهذه اللهجات مكانها في الآداب وفي الصحافة. واللغة المشتركة تتأثر بها لأن نطقها غير موحد في كل مكان وتختلف صورة التكلم بها باختلاف الأقاليم. وجدنا أن كل ألماني يتأثر في نطقه للغة المشتركة باللهجات إن قليلا وإن كثيرا. فالألمانية المشتركة تكتب بصورة واحدة في كل مكان، ولكنها تنطق بصور مختلفة إلى حد يسمح للسامع بتعيين أصل المتكلم من نطقه. أما الاختلافات التي تلاحظ في نطق الفرنسيين من أهل الأقاليم، فتعتبر تافهة إذا قورنت بآثار اللهجات في الألمانية.
ومع ذلك فقد سبق أن قلنا إنه لا يوجد فاصل مطلق بين الألمانية المشتركة، وهي لغة كتابة، وبين اللهجات الإقليمية. والواقع أنه يوجد، كما يتوقع، تبادل
1 اسكولي Ascoli، رقم 41، مجلد 8، ص126.
دائم بين هذه وتلك، فهناك تداخل من كلا الجانبين في الجانب الآخر. ومن نتائج هذا التداخل أنه يقلل من حدة الخصائص اللهجية، حتى ليحق لنا أن نتنبأ هنا، كما في الحالة السابقة باختفاء اللهجات. بعد زمن ما قد يطول وقد يقصر ولكن يجب علينا عند الكلام على تنافس اللهجات واللغات المشتركة ألا نسقط من حسابنا حقيقة جوهرية لم نقل عنها شيئا حتى الآن، وهي الثبات النسبي لكل منهما.
لما كنا سنفرد للغة المكتوبة فصلا خاصا فيما بعد، لم يكن لنا أن نتكلم عنها هنا إلا بمقدار اتصالها بتطور اللغات المشتركة. واللغة المكتوبة تمثل دائما تقاليد وقواعد محافظة. بالطبع قد توجد التقاليد دون الكتابة. فقد كان عند الجوليين، كما يروي قيصر، رسوم يفضي بها القسس شفويا إلى ذاكرة تلاميذهم، وعلى هذا
النحو كانت تنتقل من جيل إلى جيل. وفي الهند كانت النصوص الدينية، قبل وجود الكتابة، تنتقل بالطريق الشفوي دون أن تصاب بأدنى تغيير.
ولكن من البدهي أن التقاليد، إذا اعتمدت على الكتابة، ازدادت قوة وقدرة على المقاومة.
ينبغي ألا نخلط بين "لغة مكتوبة" و"لغة أدبية". فقد يجتمع المعنيان أحيانا في لغة واحدة. ولكنهما قد يتعارضان ويتضاربان. اللغة المكتوبة في غالب الأمر عبارة عن اللغة المشتركة، أما اللغات الأدبية فتتميز عن هذه الأخيرة في غالب الأحيان؛ لأن رجال الأدب في كثير من الأقطار، من شعراء وقصاص يكونون طبقة منعزلة لها تقاليدها وعوائدها وامتيازاتها، وفي هذه الحال كانت للغتهم كل خصائص اللغة الخاصة، وكانت تتطلب تهيئة وترويضا وتثقيفا مهنيا. بل كان يتفق أن يكون الدور الذي يقوم به الشاعر دورا شبه ديني، وأن تكون بعض اللغات الأدبية لغات دينية في نفس الوقت، وقد حفظت السنسكريتية مثلا هذا الطابع زمنا طويلا. ولعل الخصائص التي نعثر عليها في القصائد الغنائية الكبرى في بلاد اليونان ترجع إلى كونها تقوم على لغات دينية خاصة. بل لقد وجد في كثير من الأقطار لغات أدبية مقصورة على استعمالات معينة مع بعدها عن كل تأثر ديني، ولغة الملحمة اليونانية صورة من هذه اللغات الأدبية الخاصة التي تكونت بفعل الشعراء وانتهت بالاستقرار الدائم، فكان كل من يضع بين شفتيه بوق الفروسية في بلاد الإغريق ينفخ فيه لغة لا تتصل بأية واحدة من اللغات المتكلمة، وقد سار أبلون الرودسي وكونتوس الأزميري على تقاليد هوميروس. كذلك كان من المتواضع عليه في أثينا أن تستعمل لأجزاء الغناء الجماعي في التراجيدية لغة معينة مصبوغة بالأصباغ الدورية وإن لم تمثل في جوهرها لهجة دورية معينة. وفي الهند وجدت لغات أدبية على أساس ما من اللهجات، وكانت لا تستعمل إلا في أنواع أدبية معينة، ولا يستعملها من الشعراء إلا طوائف خاصة، وكانت تتميز عن اللغة المشتركة باختلافها عنها. وسكان الملايو الذين لا يتكلمون
لغة هندية أوربية عندهم لغة أدبية خاصة تسمى الكاوية Kawi، وهي مفعمة بالعناصر السنسكريتية1.
ولكنا نستطيع -حتى بغض النظر عن الحالات التي تستمد فيها اللغة الأدبية أصلها من اللغة الخاصة- أن نفهم بسهولة الفرق الذي يفصل بين اللغة الأدبية واللغة المشتركة، والواقع أن خاصية اللغة المشتركة الأساسية تنحصر في أنها لغة وسطى تقوم بين لغات أولئك الذين يتكلمونها جميعا، وإذا انتشرت اللغة المشتركة في قطر بأسره. أخذت العناصر المشتركة الداخلة في تكوينها في الازدياد، وأدى ذلك بالضرورة إلى النزول بمستواها، فبالرغم من الأثر البالغ الذي تقوم به النخبة العقلية، فإن العناصر التي تستعيرها اللغة من الطبقات السفلى من السكان تزداد بانتشار اللغة، وتصير بالتدريج كثيفة رتيبة لا لون لها، وعندئذ تتميز بالخصائص السلبية، أي بالضعف والسوقية.
ولكن الأديب في حاجة إلى أداة شخصية يعبر بها عما يوجد في ذكائه وحساسيته من عناصر خاصة، يقول موريس بريس M. Barres:"اللغة وقد قدت للاستعمال الشائع لا تستطيع التعبير إلا عن الحالات الخشنة". وكان لفلوبير في الكتابة طريقتان، تبعا لما إذا كان يحرر كتابا لصديق أو يكتب عملا أدبيا بأسلوبه المتوتر. "فالكتابة الفنية" رد فعل دائم ضد اللغة المشتركة، وهي إلى حد ما نوع مما يسمى بالأرجو "argot"، اللغة الخاصة الأدبية، وهي في كل حالاتها مغايرة للغة الكلام رغم تنوعها العديد ورغم اختلافها عند البرناسيين عنها عند الرمزيين وعنها عند كتاب عصور الانحلال. هذه اللغات الخاصة المنزوية في صوامعها المقصورة على عدد قليل من المريدين لا تعنينا هنا. وكل ما نستطيع أن نقوله عنها إنها في بعض الأحيان تغذي اللغة المشتركة ببعض التراكيب أو ببعض الكلمات. ولكن علينا هنا أن نبحث الحالة التي تكون فيها اللغة الأدبية واللغة المكتوبة شيئا واحدا، والتي فيها تعتبر اللغتان معا نواة للغة المشتركة.
1 انظر الكتاب الشهير تأليف و. فون هميولت v. von Humboldt؛ Uber die kawisprache auf der insel java، برلين 1836-1839.
النصيب الذي ساهم به الكتاب الفرنسيون في تكوين اللغة المشتركة عندنا كبير جدا، فاللغة التي نتعلمها في المدرسة ندين بها إلى المجهود المزدوج الذي قام به الأدباء والنحاة1، فهم الذين خلقوا لنا هذه الأداة الجميلة، وسهروا عليها بحدب شديد عاملين على ألا يعلوها الصدا، فيغير معالمها، وقد يبدو لنا أن تطهير اللغة الذي دام قرونا عديدة عمل جدلي رخيص، مغرق في الادعاء والتظاهر، ولكن الفوائد التي نجنيها من هذا العمل تحملنا على الاعتراف بالجميل لمن قاموا به.
فأصبح لدينا بفضل أساتذة المدارس الذين درجوا على دراسة الكتاب، خير قالب نصوغ فيه أفكارنا، وصارت لنا لغة كل كلمة من كلماتها لها معناها اللائق، وكل تركيب من تراكيبها قد انفرد بدقائق ولطائف لا تبارى؛ إذ إنهم أقصوا عن اللغة كل ما يجرح الطبع السليم والذوق الحسن، ودأبوا على إخضاعها لقواعد العقل واللياقة فجعلوا منها، على حد قول بوهور Bouhours، أداة قادرة "على إمساك أشد المواد قوة ورفع أشدها ضعفا"، وبالاختصار جعلوها منذ البداية قديرة على الاستجابة لكل مطالب العقل، وقد استفادت اللغة المشتركة أجل فائدة من الأعمال التي قاموا بها. استفادت الوضوح والأناقة والدقة مع التنوع، وكما قال ريفارول Rivarol "لقد استفادت تلك الأمانة المتصلة بعبقريتها".
كبار الكتاب يصنعون بالكلمات ما كان يصنعه الملوك القدماء بالنقود، يفرضون القيمة التي يريدونها ويحددون لها السعر الذي على كل فرد أن يقبله. وبذلك ينفذ فينا شيء من عقليتهم، وإذا تكلمنا الفرنسية فإن بسكال ولارو شفوكو ولا برويير وبوسويه ومنتسكيو وفولتير، هم الذين يملون علينا الكلمات التي نستعملها. وكل منا حين يكتب يعترف على غير شعور منه من ذكرياته المدرسية، مهما قل تعليمه. وهذا الكاتب المعاصر الذي نعرفه مثالا ليست لغته إلا نسخة من كتابنا الكلاسيكيين، فهو يصلح أن يتخذ مثلا يحتذى من كل من يحاول الكتابة بالفرنسية، لأنه يحقق على وجه الكمال المثل الأعلى للفرنسية
1 انظر برينو Brunot، رقم 57، مجلد 4، ص219 وما يليها، وراجع أيضا الكسيس فرنسوا Alexis francois؛ La grammaire du purisme et l'Academie francaise au 18 e siecle باريس "1905".
الأدبية، في صورتها العامة و"المشتركة"، والواقع أننا نتبين طابع أساتذتنا العظام بكل حذافيره في جميع مؤلفاته من طريقة استعماله للكلمات وكيفية وصلها بعضها ببعض وفي تركيب الجملة ووزنها. نعم يجب على من يتصدى لتقدير هذا الفن الخفي أن يكون ذا ذوق مدرب، ولكنها لذة كبرى تلك التي يشعر بها حين ينظر في هذا النسج الجميل اللامع فيستطيع أن يتبين كل خيط من خيوطه ويميز مصدره، ومن المؤلم حقا أن نفكر في أنه قد يأتي يوم لا يوجد فيه من يستطيع تذوق هذه اللذة، وذلك إذا تخلى التعليم، في تغيره طبيعة وغرضا، عن العناية بالنخبة المختارة، عندئذ نقصر الجلافة الشعبية عن فهم قيمة هذا النسج فتطأ بأقدامها محملا دقيق الصنع تناسقت ألوانه حتى كأنه لوحة رسمت "بالباستيل".
ذلك بالطبع لأن كل صورة فنية فيها شيء من الشخصية بعيد عن إدراك الجماهير، هذا إلى أن خلق صورة "مشتركة" مهما كانت درجة كمالها، ليس إلا فترة في تاريخ اللغة. وأن اللغة المكتوبة أيضا في تأخر دائم بالنسبة للغة المتكلمة.
تكوين اللغات المشتركة معناه فترة من التوقف في تطور اللغة. إذ تتبلور الصيغ والتراكيب وتتحجر، وتفقد طواعية الحياة الطبيعية، ولكنا نخدع أنفسنا إذا افترضنا أن اللغة تستطيع التوقف. والذي يحملنا على هذا الظن أنها لغة اصطناعية توضع بجانب اللغة الطبيعية، والبون بين اللغتين يكون ضئيلا في بادئ الأمر، ثم يعظم مع الزمن، حتى يأتي يوم يصير فيه هذا البون صدعا عميقا. ويمكننا أن نقارن خلق اللغات المكتوبة بتكون طبقة من الجليد على سطح نهر. فالجليد يستعير مادته من النهر، بل بعبارة أوضح ليس الجليد إلا ماء النهر نفسه، ومع ذلك فليس هو النهر. وإذا رأى الجليد أحد الأطفال ظن أن النهر غير موجود وأن تياره قد توقف عن المسير. وهذا خداع! فالماء تحت طبقة الجليد لا يزال يجري منحدرا في طريقه نحو السهل، وإذا تكسر الجليد رأينا الماء ينبثق فجأة ويتلاطم مزمجرا. هذه صورة من تيار اللغة، فاللغة المكتوبة هي طبقة الجليد التي فوق النهر، والماء الذي يتابع جريانه تحت الجليد الذي يحبسه هو اللغة الشعبية والطبيعية. والبرودة التي تنتج الجليد وتبغي احتجاز النهر، هي مجهود النحويين
والمربيين، وأشعة الشمس التي تعيد إلى اللغة حريتها هي قوة الحياةالتي لا تقهر، تتغلب على القواعد وتحطم قيود التقاليد.
الفرنسية الحالية تبرر التشبيه السابق بصورة مرضية. فالبون الذي بين لغة الكتابة ولغة الكلام لا تزيده الأيام إلا اتساعا. فالتنظيم والمفردات ليست واحدة في كلتا الحالتين. بل إن الصرف نفسه يحتوي على بعض الفروق، فالماضي المحدد "أو البسيط". PASSE DEFINI والماضي غير التام من صيغة التبعية IMPARFATI DU SUBJONCTIF لم يعد لها استعمال في لغة الكلام. ولكن اختلاف المفردات بوجه خاص هو الذي يكاد وضوحه يعشي العيون. فنحن نكتب لغة ميتة، تلك اللغة ترجع إلى كتاب القرن السابع عشر ويمثلها اليوم في أتم صورها ذلك الكاتب المعاصر الذي أشرنا إليه. ولكنا نتكلم لغة غير ذلك. ومفرداتنا الجارية قد تغيرت منذ القرن السابع عشر1. والفرق بين الكلمات التي تتكلم والكلمات التي تكتب يذكرنا بالفرق بين الكلمات السوقية وكلمات النبلاء، فنحن نأنف من كتابة معظم الكلمات التي تستعملها في المحادثة. والشخص الذي يتكلم كما يكتب يبدو لنا كأنه كائن متكلف، والأشخاص الذين من هذا القبيل في تناقص مستمر.
ظلت الطبقات العليا وقتا طويلا محتفظة بحوشية اللغة التي توحي بها استعمالات اللغة المكتوبة، وكانت الطبقات السفلى وحدها هي التي يشاهد فيها نشوء لغة فجائية تعمل على تحديد عناصر اللغة التعبيرية. واليوم نرى لغة الطبقات العالية التي كان وجودها غير طبيعي تختفي لتحل محلها اللغة الشعبية. والمتشددون جميعا ينعون هذا "السقوط"؛ ولكنها شكوى عقيمة2. لأن اللغة المكتوبة نفسها لم تصبح في مأمن من الإصابة، فالصحف اليومية التي يحررها على عجل أناس غير مثقفين في غالب الأحوال، أخذت تكثر شيئا فشيئا من استعمال عبارات اللغة
1 انظر ف. كوهين f cohen؛ les transformations de la langue francaise pendant la deuxieme moitie du 18 e siecle "1740-1789"، باريس "1903".
2 انظر خاصة E. Deschanel رقم 67، ب. ستايفر p. Stapfer. رقم 123.
المتكلمة، بل وصيغها، فالعبارة الخاطئة je m'en rapplle "استحضر منه في ذاكرتي" والتركيب المتبربر de facon a ce que "بصورة إلى أن" قد أصبحا فيها من الاستعمالات الجارية. وفي كل يوم تطالعنا فيها "أخطاء أخرى" ليست أقل خشونة من تلك. وقد أمكن لبعضهم أن يستخرج من إحدى الصحف الباريسية الواسعة الانتشار تراكيب مثل:"avec cette brusquerie dont il ne se depart pas" و"Cette affaire ressort de la prefecture de police" و"il demanda a ce que" و"au point de alors il s'enfuya"، "vue pecunier" إلخ. ونلاحظ أننا نجد في هذا الخليط المتبربر آثارا عديدة من اللغة المكتوبة، فمثلا عبارتا ressortir و se departir ليستا من استعمالات لغة الكلام، واستعمال الماضي البسيط، إحدى خصائص اللغة المكتوبة. فقد كان في عزم هذا الصحفي الذي ارتكب هذه الأخطاء وفي شعوره أن يكتب بلغة الكتابة، ولكن نقص ثقافته جعله يبني لغته المكتوبة من عناصر اصطناعية وزائفة في غالب أمرها. وعلى هذا النحو كان جرجوار دي تور Gregoire de tours -الذي كانت لاتينيته مشحونة بالأخطاء التي ترجع إلى اللغة المتكلمة حوله- لا يزال يستعمل الفعل اللاتيني المسمى deponert على الرغم من أنه كان قد اختفى من اللغة المتكلمة منذ زمن طويل، إذ إن الكثير من أفعال هذه الفصيلة لا يوجد في اللاتينية الكلاسيكية1.
ولكن يجب علينا، إنصافا للصحافة الفرنسية، أن نعترف بأن بعض الصحف الكبرى قد احتفظت باللغة الأدبية، حيث يتبع محرروها قواعد اللغة المكتوبة دون أن يحيدوا عنها قيد شعرة. وإذا كان عدد هذه الصحف في هبوط فإن تمسكها بالسلامة اللغوية لا يزداد إلا صرامة؛ وذلك رد فعل منها ضد تيار العامية الجارف، ومن ثم تزداد عنايتها بنقاء اللغة قوة على قوة. ولذلك السبب كانت الصحف الباريسية لا تكتب لغة واحدة بمعنى الكلمة. فالصحف الشعبية لا تكاد تكتب غير اللغة المتكلمة مصبوغة بالصبغة الأدبية إن قليلا وإن كثيرا. وعلى العكس من ذلك لا تستعمل الصحف الكبرى إلا اللغة التي كان
1 بونيه Bonnet، رقم 50، ص402.
يستعملها خير كتابنا في مؤلفاتهم: "اللغة الفرنسية الأدبية" النقية.
ولكن هذه الفرنسية الأدبية لغة تتعلم. فشدة اختلافها عن اللغة المتكلمة يتطلب مرانا كثيرا ما يطول زمنه، وممارسة على أكبر جانب من الحذر، وليس في مقدور أحد أن يقرر إلى متى ستظل المحافظة قائمة، وأعني بذلك المحافظة على تعلمها. وعلى كل حال يمكننا أن نتكهن للفرنسية الأدبية بمصير كمصير اللاتينية، أي أنها ستبقى ولكن بصفتها لغة ميتة، قد جمدت قواعدها ومفرداتها إلى الأبد. أما اللغة الحية فستتطور مستقلة عنها كما فعلت اللغات الرومانية. وكل ما يبقى للغة المكتوبة من عمل هو أن تصير مستودعا يزود اللغة المتكلمة بالمفردات "قارن ص291". وفي هذه الحالة تنشأ لغة أدبية تخالف اللغة العامية كما هي الحال في اللغة العربية حيث يوجد نوعان من اللغة يخالف أحدهما الآخر، وفي الصين حيث تخالف لغة المندريين mandarins اللغات المتكلمة1. ولو تحقق إصلاح الرسم عندنا لتجلى أمام أعيننا الفرق بين هاتين اللغتين الفرنسيتين جلاء تاما. فوجود الفرنسية الأدبية لا يمنع من أن تتكون تحت سطحها لغة مشتركة، فاللاتينية العامية التي منها خرجت اللغات الرومانية كانت تختلف عن اللاتينية الكلاسيكية التي كانت لا تزال تكتب في زمن أوزون Ausones وكلوديان Claudien. وكان إلى جانب الإغريقية المشتركة في العصر الهلينستي لغة أدبية اصطناعية، يختلف نظامها الصرفي عن النظام الصرفي للأولى فضلا عن اختلاف المفردات بينهما. الواقع أنه يمكن أن توجد عدة لغات مشتركة بعضها فوق بعض.
ففي الهند القديمة صارت السنسكريتية التي كانت في الأصل لغة دينية، لغة أدبية مشتركة في اليوم الذي جاءت فيه دولة دخيلة فأباحت استعمالها في الأمور الدنيوية. وهي اليوم لغة العلم، لغة الثقافة العالية والدين على السواء، فما زالت تقرأ في المعابد وتلقى نصوص بها مثل المهبهاراتا Le Mahabharata والبورانا les Puranas، كما لا يزال الكاثوليك يتمسكون بالنصوص اللاتينية في الكنيسة. ولكن لا حاجة بنا إلى القول بأن السنسكريتية تمتد إلى ما وراء منطقة اللغات
1 شتيننتال Steinthal، رقم 207، ص53.
الهندية، إذ إنها لا تضم شبه الجزيرة الهندية فحسب حيث يستعملها أناس مختلفو الأجناس واللغات، بل لقد حملها المبشرون البراهمة والبوذيون إلى جميع الأماكن التي وصلوا إليها في أداء رسالتهم.
وجود السنسكريتية لم يمنع من وجود لغات مشتركة أخرى. فقبل أن تتطور السنسكريتية إلى لغة أدبية بزمن طويل -وهي لم تصبح كذلك إلى حوالي ميلاد المسيح- وجدت لغات أحدث منها استعملت استعمال لغات مكتوبة مشتركة وكان الملك أسوكا Acoka قبل الميلاد بمائتين وخمسين عاما يستخدم هذه اللغات في كتاباته على أنها لغات رسمية، كما كانت تستخدم مع السنسكريتية نفسها لغات أخرى في كتابة النصوص البوذية على أنها لغات دينية، وذلك كاللغة البالية مثلا، وأخيرا كانت تستعمل في الدراسة بصورة عادية مع السنسكريتية بعض لغات أدبية "les prokrits" تذكرنا بما كانت عليه لغة الشعر الغنائي ولغة الملحمة في بلاد الإغريق1.
ولكن كان يوجد تحت سطح اللغات البركريتية2 منذ عهد سحيق، ولا يزال يوجد حتى الآن لهجات ورطانات محلية. وقد وصل بعضها إلى درجة من الأهمية جعلتها تستخدم في الحاجات الأدبية، وذلك مثل الهندية والبنغالية والماراتية. بل يوجد اليوم في الهند لغة مشتركة، وهي الهند ستانية التي لا تمثل في حقيقة الأمر أية لهجة حقيقية.
يمكننا أن نختتم هذا الفصل بذلك المثال من لغات الهند. فهو يوضح خير توضيح صلات اللغات المشتركة بعضها ببعض وباللهجات المحلية، وترينا مقدار الصعوبة التي يلاقيها من يحاول رسم حدود بين العناصر التي تكونها، وإلى أي حد يتداخل بعضها في بعض دون توقف. ذلك لأن تكون اللغات المشتركة وتطورها وتحللها تتوقف على أسباب تاريخية غريبة عن اللغة، أي على حركات المدنية نفسها.
1 ف. لكوت F. Locote؛ Essai sur Cunadhdya et la Brhatkatha ص40-59.
2 انظر جون بلك، Jules Bloch، رقم 49.