المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: كيف تغير الأفكار أسماءها - اللغة

[جوزيف فندريس]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المقدمات:

- ‌تصدير: اللغة وأداة التفكير

- ‌مقدمة:

- ‌الجزء الأول: الأصوات

- ‌الفصل الأول: المادة الصوتية

- ‌الفصل الثاني: النظام الصوتي وتغييراته

- ‌الفصل الثالث: الكلمة الصوتية والصورة اللفظية

- ‌الجزء الثاني: النحو

- ‌الفصل الأول: الكلمات والأصوات

- ‌الفصل الثاني: الفصائل النحوية

- ‌الفصل الرابع: اللغة الانفعالية

- ‌الجزء الثالث: المفردات

- ‌الفصل الثاني: كيف تغير الكلمات معانيها

- ‌الفصل الثالث: كيف تغير الأفكار أسماءها

- ‌الجزء الرابع: تكون اللغات

- ‌الفصل الأول: اللغة والغات

- ‌الفصل الثاني: اللهجات واللغات الخاصة

- ‌الفصل الثالث: اللغات المشتركة

- ‌الفصل الرابع: احتكاك اللغات واختلاطها

- ‌الفصل الخامس: القرابة اللغوية، والمنهج المقارن

- ‌الجزء الخامس: الكتابة

- ‌الفصل الأول: أصل الكتابة وتطورها

- ‌الفصل الثاني: اللغة المكتوبة والرسم

- ‌خاتمة: تقدم اللغة

- ‌المراجع

- ‌أولا: المجلات

- ‌ثانيا: الكتب

- ‌الملاحق:

- ‌الملحق الأول:

- ‌الملحق الثاني:

- ‌الملحق الثالث:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌الفصل الثالث: كيف تغير الأفكار أسماءها

‌الفصل الثالث: كيف تغير الأفكار أسماءها

نشرت دراسات عديدة تبين كيف تغير الألفاظ معانيها. ولكن هذا السؤال يمكن أن يدال على وجهه الآخر. فهناك مجال أيضا لدراسة كيف تغير المعاني الكلمات، أو بعبارة أصح كيف تغير الأفكار أسماءها.

وإذا درسنا المفردات في جميع اللغات التي نعرف تاريخها، أمكننا بكل يسر أن نكون مجاميع من هذا القبيل، لأن المفردات في كل اللغات قد خضعت لهذا التجديد إن قليلا وإن كثيرا. وأسباب هذا التجديد معقدة، وأحيانا تند عن كل

ص: 271

بحث، ذلك لأن حالات الكلمات جد غريبة، تتوقف على عوارض يستحيل أن تتنبأ بها قبل وقوعها كما يستحيل أن نتخيلها بعد وقوعها إذا لم يمدنا التاريخ بما يدل عليها. ومع ذلك فهناك أسباب عامة لتجديد المفردات، تستطيع أن تفسر الجزء الأعظم من حالاتها. ويمكننا اعتبار هذه الأسباب من وجهين، من وجهها الفردي في سيكلوجية المتكلم نفسه، ومن وجهها الاجتماعي في الاستعمال الغوي الذي تقوم به البيئات الاجتماعية.

يتخلص المتكلم عادة من الكلمات التي لم تعد كافية للتعبير عن المعنى الذي نيط بها التعبير عنه، لأنها ضعفت وبليت. وهذا البلى نفسه يمكن أن يرجع لأسباب صوتية أو لأسباب معنوية.

الكلمات القصيرة ينقصها التعبير غالبا. وإذن فالتغيرات الصوتية بتقصيرها للكلمات تعرضها للبلى. لذلك لم يعد عندنا في الفرنسية ولا في أية لغة رومانية أخرى، اثر للكلمة اللاتينية os "فم". واستعضنا عن الكلمة القديمة ive "من eque" بكلمة jument "فرس" التي هي أقوى منها بنية. ونعرف أن اللاتينية العامية اضطرت إلى إطالة بعض الكلمات بواسطة اللواحق لتحفظها من الضياع: فالكلمات auris، opis و sol صارت apicula و auricula و soliculus، ومنها جاءت الكلمات الفرنسية abeille "نحلة" و oreille أذن" و soleil "شمس". فاللاحقة هنا ليست لها أية قيمة تصغيرية، كما قيل أحيانا، بل القصد منها إنما هو تزويد الكلمات بالحجم، أي بالمادة التي كانت تنقصها. ولولا عملية التطعيم اللغوي تلك، لمات عدد كبير من الكلمات بعد أن لفظها الاستعمال؛ ومثل ذلك كلمة ains التي يبدو أن لبرويير la Bruyere كان يأسف عليها، فإذا كانت هذه الكلمة قد هجرت، فذلك بسبب صيغتها، فهي وحيدة المقطع، وتبدأ بحركة وتتكون فقط من حركة أنفية، فكان مصيرها الهلاك.

هناك أيضا ميل لطرح الكلمة التي صارت بسبب عوارض صوتية، كبيرة

ص: 272

الشبه بغيرها. فنعالج العقبات الناجمة من تشابه الكلمات بواسطة الاستعاضة عن إحدى هذه الكلمات بكلمة جديدة. ومثل ذلك الكلمة التي تمثل صوتيا الكلمة اللاتينية Serrare "ينشر"، فإنها لم تبق حتى اليوم إلا في أماكن متفرقة من الأقاليم المتكلمة بالفرنسية1، وكانت من قبل ذات ميدان انتشار مترامي الأطراف متلاصق متجانس. فإذا كانت قد استعيض عنها في كثير من الأماكن بكلمات متأخرة عنها في الاشتقاق ومأخوذة من الأصول اللاتينية secare أو resecare أو sectare فذلك لأنها كانت تشبه الفعل serare "يغلق" شبها يكاد يكون تاما، وكان هذا الشبه يتقدم شيئا فشيئا نحو التماثل الكامل. ونشأ عن ذلك شيء من العسر حاولت اللغة أن تتخلص منه في كل الأماكن التي كانت تستعمل الفعلين معا.

يرجع التجديد في هذه الحالات جميعا إلى عارض صوتي. ومع ذلك لا ينبغي أن نبالغ في أهمية الصوتيات. إذ من النادر أن تستطيع وحدها تفسير كل شيء فالكلمات التي تركها الاستعمال لصيغتها كانت تحتوي أحيانا على دواعي أخرى لهذا الترك. واللغات نفسها كثيرا ما تقاوم. فالسياق يحمي الألفاظ المتماثلة من خطر اللبس، وهذا يسمح بالإبقاء عليها دون إضرار. وتستطيع اللغة حماية الكلمات القصيرة وتعضيدها بأن تسندها بكلمات أخرى بصفة دائمة. فالصفتان sain "سليم" و sauf "معافى"، لا توجد إحداهما بمعزل عن الأخرى بل تتحدان معا، وبهذا تأتي لهاتين العاجزتين أن تقويا على المقاومة، فيقال sain et sauf "سليم معافى". وليس أعلام الأماكن من الأسماء التي يسهل على الإنسان أن يتركها للضياع؛ فإذا كانت وحيدة المقطع حاولت اللغة أن تحافظ عليها بأن تضيف إليها أسماء مشتركة تسندها. وبذا صارت الكلمات ain "اسم نهر" و Eu "اسم مدينة" و Batz "اسم قرية" على الصورة الثانية: la riviere d'Ain "نهر الإين" و la ville d'eu "مدينة أو" la bourg de Batz "قرية باتز". وأحيانا بإضافة عنصر إليها يمد من طولها؛ فيقال في Bourg "اسم مدينة

1 جلبرون: رقم 75.

ص: 273

"بور"" Bourg -en- Bresse "أو أن يقال بكل بساطة Bourk بنطق الكاف المتطرفة: بورك"، هذه كلها أنواع يعالج بها البلى الصوتي.

وليس البلى المعنوي أقل خطورة من ذلك. فكثرة الاستعمال تبلي الكلمات في معناها وفي صيغتها، ولا سيما إذا كانت من الكلمات المعبرة، لأن قيمتها التعبيرية تتضاءل بسرعة في الاستعمال. فتصبح الكلمة معتمة بالية. وفي حالة التعبير عن انفعالات النفس مثلا، نرى أقوى الكلمات تخطو نحو الخمول شيئا فشيئا حتى تنتهي بالإهمال، لأنها لم تعد معبرة. ويمكننا تحقيق هذه الحقيقة في حالة التعبير عن الكمية، ولا سيما الكمية الكبيرة، وبالتالي عن التجاوز والخروج عن الحد. فالكلمة الفرنسية beaucoup "كثير" حلت محل الكلمة القديمة moult "من multum"؛ ونحن نعرف أن beaucoup نفسها قد استعيض عنها في اللغة الجارية بعدد كبير من الأبدال مثل un grand nombre "عدد كبير" و une foule "جمهور" و des quantites "كميات" و des tas "أكوام" و"des flottes" "أساطيل إلخ؛ وذلك تبعا لموضوع الكلام ولدرجة التعليم عند المتكلم أيضا.

ص: 274

"مجنون للغاية" أو ultra-reactionnaire "رجعي فوق الحد" أو تستعمل ظروفا مثل parfaitememt "تماما" أو completement "كلية" أو absolument "مطلقا" أو tout a fait "للغاية"، إلخ. ووفرة ظروف التفضيل تلك في الفرنسية أمر معروف، حتى لقد يتعذر إحصاؤها، لأن كل شخص يخترع منها ما شاء له هواه. وبعض هذه الظروف يمكن أن يفسر من تلقاء نفسه، مثل grandement و fameusement و extraordinairement و epatamment. ولكن الصفة التي اشتق منها الظرف كانت تضعف بقدر ما كانت تقوى القيمة التفضيلية. فكأن العقل قد أهمل الأصل ليركز انتباهه في اللاحقة ment التي أصبحت جزء الكلمة الرئيسي. ويكفي للتعبير عن التفضيل المطلق على وجه العموم أن يدل الأصل على شيء فيه فكرة القوة والخشونة أو الغلظة، ومن ثم استعملت للتعبير عن التفضيل المطلق هذه الظروف: rudement و salement و bonnemet و terriblement و effroyablement و furieusement، إلخ.

وهذا غير مقصور على الفرنسية. فالألمانية المتداولة قد تصف امرأة بأنها FURCHTBAR NETT لطيفة بإزعاج، بشكل مزعج، يعني "لطيفة جدا" أو FURCHTBAR SUSS "حلوة بشكل مزعج"، وتستعمل عبارات مثل HUBSCH ARTIG "خبيث بشكل جميل، خبيث جدا" و HUBSCH GESUND "سليم بشكل جميل، سليم جدا

"؛ وذلك كما تقول الإنجليزية PRETTY DIRTY "قذر بشكل لطيف "قذر جدا"". ولما لم يكن في الألمانية والإنجليزية علامة خاصة توصل بالظرف، كانت قيمة الكلمات FURCHTBAR و HUBSCH و PRETTY متوقفة فقط على مكانها ونبرها وعلى كونها لا تنفصل من الصفة التي تتبعها والتي تكون معها كلمة واحدة بالنسبة للعقل. فنحن في الواقع أمام خلق لدالة نسبة، ولكنها حالة نسبية تعبيرية "انظر 180، 186".

كل الكلمات التي لها قوة تعبيرية أيا كانت، معرضة لضعف قيمتها، وهذا بدوره يبعث على التجديد، وكم في كل لغة من عبارات تدل على شيء كريه ثقيل؟

ص: 275

يقال في الفرنسية وحدها ENNYUANT و EMBETANT و FATIGUANT و CRISPANT و ESQUINTANT و ETREINTANT و ASSOMMANT و TUANT و RASANT و BARBANT و CANULANT، إلخ، وهي كلمات غير مترادفة وتنتمي إلى لغة أوساط متنوعة، ولكنها جميعا تتنافس في الدلالة على ما تدل عليه، وستبلى هي الأخرى أيضا بكثرة الاستعمال حتى يضطر الحال إلى اختراع غيرها.

إذا كانت الفكرة أو الشيء من الأفكار أو الأشياء التي تثير إلى جانب قيمتها الأساسية قيما ثانوية تبعا للأوساط والظروف، وجدنا عنها في اللغة عبارات متنوعة. وتدخل النقود في هذه الأشياء، فلها في كل لغة عبارات عديدة، فيقال عنها في الفرنسية: de la galette و de la braise و du pognon و de la douille و du beurre و de l'os و du peze و du platre إلخ؛ وفي الألمانية تستخدم الكلمات Draht و Kies و Moos، مرادفة للكلمة Geld وبالطبع يعبر عن فعل "نقد" بصورة مختلفة تبعا للأوساط، فيقال في الفرنسية verser و casquer و cracher و eclairer إلخ وفي الألمانية blechen و bluten و berappen. ونجد في اللغات المختلفة للتعبير عن فكرة tromper "يخدع" صورا متنوعة من هذا القبيل. والضوضاء تنجم عن أسباب مختلفة، ومن ثم تنوعت طرق التعبير عنها؛ فيقال في الفرنسية du potin و du barouf و du chahut و du raffut و du petard و du chambard وفي الألمانية Radau و Randal و krakehl إلخ.

قد يحتج بأن الكلمات التي ذكرت هنا، كلها من العامية الخاصة argot والعامية الخاصة تنحصر في استعمال مفردات خاصة. ولكن هذا احتجاج باطل، لأن العامية -كما سنرى في فصل لاحق- تنتج من ظروف طبيعية للغة، واللغة الخاصة ليس معناها لغة اصطناعية بأية حال. فمسالك العامية الخاصة مسالك طبيعية لا غبار عليها. وإذا كانت الحاجة إلى التجديد أظهر في العامية الخاصة منها في غيرها، فمرجع ذلك إلى استعمال هذه العامية الخاصة لغة للكلام، والتعبيرية في لغة الكلام ضرورة دائمة "انظر الفصل الثاني من الجزء الرابع".

ص: 276

على أنه لا يوجد حد فاصل بين العامية الخاصة وبين اللغة التي يتكلمها جميع الناس. فكم من ألفاظ تعد من أنبل الكلمات وأوغلها في الروح الأدبية، قد استعيرت من العامية الخاصة! من ذلك كلمة tete "رأس" بالنسبة لكلمة caput، وإذا انتزعت tete من عرشها يوما لتحل محلها bobine أو fiole، كان ذلك انتصارا جديدا تسطره العامية الخاصة في قائمة انتصاراتها. فتسمية الرأس باسم إناء من الآنية أمر طبيعي وقع في لغات أخرى، ولا سيما في الجرمانية، حيث تشترك كلمة kopf "رأس" مع الكلمة اللاتينية cupa في أصل واحد، والاسكندناوية اشتقت kollr "رأس" من Kolla "إناء". وأسماء أجزاء الجسم كثيرا ما تبعث على استعمال استعارات من هذا القبيل، وإن لم تكن كلها في ذلك سواء. فاسم "القدم" مثلا قد بقي واحدا لا يتغير في كثير من اللغات، ولكن اسم السيد تجدد أكثر من مرة، واستعيض في الدلالة عليها بأسماء تدل على الكلابة والملقط والملعقة، إلخ1. ويرجع ذلك إلى أن اليد تستخدم في أمور أكثر تنوعا من القدم، وخاصة في أمور تبعث هي نفسها على التجديد في التعبيرية. فلفكرة الأخذ مثلا عبارات عديدة في كل اللغات.

فكرة "التكلم" أيضا" تختلف بدورها باختلاف العواطف التي تثيرها2. والأفعال التي معناها "تكلم" تبلى بسرعة. فها نحن أولاء في سبيل إحلال causer محل parler "يتكلم". والفعل parler نفسه دخيل متأخر على اللاتينية "parabolare"؛ أما الفعل القديم loqui فقد مات منها، وهذا الفعل loqui نفسه كان تجديدا في اللاتينية "أو الإيطالية الكلتية" في معنى "يتكلم" العام. واللغات الكلتية الحديثة الأساسية الثلاث تستعمل للتعبير عن هذه الفكرة ثلاثة أفعال مختلفة هي: labhraim في الإرلندية و siarad في الغالية و komps في البريتانية، ويقال في الإنجليزية speak وفي الألمانية sprechen وفي القوطية

1 أولسين Uloszyn، رقم 33، مجلد 2، ص200.

2 ميشيل بريال michel Breal، رقم 12، مجلد 14 "1901"، ص113؛ وكارل د. بك Karl D. Buck، رقم 19، مجلد 34، ص1-18 و125-154، ا. مييه: رقم 6. مجلد 20 "1916"، ص28.

ص: 277

وأحيانا يرجع التجديد إلى الرغبة في المخالفة. فهناك أشياء تسلك أزواجا ويصر الذهن على التفريق بين أفرادها إلى أحد أنه إذا تشابه اسما فردين من هذه الأشياء نتيجة مصادفة ما، اختفى أحدهما وحل غيره محله ليبقى التمييز بين المسميين واضحا. هذه هي الحال مع التمييز بين الجنسين في بني الإنسان وفي الحيوان. والزوج الأساسي الذي اتخذ مثالا يحتذى في كل ما عداه، هو الأب والأم اللذان لهما في كل الحالات وفي كل الأماكن اسمان مختلفان "من حيث الأصل بالطبع". ووفقا لهذا المثال سمي عدد آخر من الأزواج بأسماء مختلفة: الزوج والزوجة، الأخ والأخت، العم والعمة، إلخ. وأغلب الظن أن الاحتفاظ بهذه المخالفة على هذا النحو من العناية يرجع إلى ميل عام في الذهن. وقد احتفظت الفرنسية بالكلمتين fils "ابن" و fille "بنت" اتباعا للاتينية، ولكنها عند مقابلة الجنسين أحدهما بالآخر، لا تستعمل الآن fils "ابن" بل garcon "صبي" فيقال: filles et garcon "بنات وصبيان". هذا إلى أن اللاتينيين بخلقهم للزوج filia filius، قد خالفوا الاستعمال الجاري في الهندية الأوربية، هذا الاستعمال الذي احتفظت به اللغات الجرمانية والسلافية وكذلك الإغريقية. فالكلتية لم تبق الأسماء القديمة، ولكنها احتفظت بالمقابلة، في الإرلندية mac، وفي البريتانية map "ابن" وفي الإرلندية ingen وفي البريتانية merc'h "ابنة".

الكلمة اللاتينية dominus "سيد" ومؤنثها domina "سيدة" قد أصبحتا في الفرنسية صيغة واحدة كان المقصود منها أن تطلق على الجنسين. وقد بقيت لنا ذكرى من dame مذكرا في صيغة التأفف dame المختصرة من عبارة Dame-Dieu "السيد الإله" وفي اسم vidame "نائب السيد

ص: 278

"وهو لقب لنائب الأسقف في الأمور المدينة قديما""، ولكنها ليست أكثر من ذكرى. فلم يبق إذن في اللغة إلا الكلمة المؤنثة وخلق لها مذكر جديد هو monsieur "سيد". وقد وقع هذا الشيء بعينه في الألمانية؛ فالكلمة الألمانية frau "سيدة" "frouwa في الألمانية العليا القديمة" كان لها مذكر إلى جانبها، وهو fro "في القوطية frauja". وقد مات هذا المذكر ضحية أيضا لشدة شبهه بالمؤنث الذي يقابله. وتستعمل الألمانية اليوم Herr "سيد" في مقابلة frau كما تستعمل الفرنسية monsieur في مقابلة madame والإنجليزية Gentleman في مقابلة lady.

وهذه المقابلة شائعة في أسماء الحيوانات. فاللاتينية تقول: equa، equus ولكنها تقول: taruus و aries، vacca "أو ueruex" و ouis و catus و feles؛ uerres و scrofa. والفرنسية تقابل cheval "حصان" بـjument "فرس" كما تقابل الألمانية: Pferd بـStute والإنجليزية horse بـmare ومع ذلك كان في وسعنا أن نقول: chevale "حصانة" كما نقول chatte "قطة" أو chienne "كلبة". ونحن كذلك الذين خلقنا le mouton "الخروف" و la brebis "النعجة"، le bouc "الجدي" و la chevre "العنزة"، le porc "الخنزير" و la truie "الخنزيرة" و le cerf "الوعل" و la biche "الوعلة"، le sanglier "الخنزير البري" و La laie "الخنزيرة البرية"، le coq "الديك" و la poule "الدجاجة"، le lievre "الأرنب البري" و la hase "الأرنبة البرية". فهي صورة خاصة من الإحساس بتقابل النوعين، تلك التي تلعب في كثير من اللغات دورا هاما.

لا تستطيع السيكولوجية، حتى في الأمثلة السابقة، أن تفسر لنا كل شيء. فالبلى الذي يصيب الكلمات يرجع دائما، ولو بمقدار قليل، إلى البيئة الاجتماعية التي تستعملها. وإذن يجدر بنا أن نناقش مسألة تجديد المفردات من الوجهة

ص: 279

الاجتماعية. فالأسباب الاجتماعية واضحة جدا في تغير الكلمات مراعاة للياقة1. إذ ليس من اللائق أن يتكلم في أحد المجتمعات عن أفعال معروفة بالفظاظة أو بأنها مما يجرح الحياء، وتستبعد الألفاظ التي تعبر عنها من بين المفردات التي يستعملها الأشخاص المهذبون. فللتعبير عن هذه الأفعال عبارات متنوعة تبقى مستعملة حتى تصير بدورها خشنة وجارحة للأذن. لذلك لم نستبق نحن كلمة واحدة من مشتقات الفعل اللاتيني mingere "يبول"، والفعل pisser الذي استعضنا به عن السابق لم يعد هو الآخر يستعمل في مجتمع راق، بل يستعاض عنه بالفعل uriner الذي هو أقل منه خشونة. ولم ينج الفعل vomir "يقيء" من الضياع إلا ما له من صفة طيبة، ولكنه تعبير خشن ويستعاض عنه بأبدال مثل: rejeter و rendre و s'expliquer إلخ. والألمانية أيضا تستعيض عن ausbrechen بـsich uber-geben.

والذي يقطع بكون الكلمة لائقة أو غير لائقة إنما هو العرف. واللفظ بذاته يختلف حاله في إقليم عنه في الآخر. فكلمة pissoir "مكان البول" في الألمانية أقل منها جرحا للأذن في الفرنسية. لأن استعارة كلمة من الخارج تخفف من افتضاح الشيء الذي يعبر بها عنه، فهي تلعب دور الكناية. وهناك أفكار يعبر عنها غالبا بالكناية، ومنها فكرة الموت، فبدلا من mourir "يموت" تقول الفرنسية perir "يفنى"، passer "يمر"، trepasser "يعبر" deceder، "معناها الأصلي "يذهب"" s'endormir "ينام" rendre son ame a Dieu "يرد روحه إلى الله"، إلخ؛ أو تستعمل فقط partir أو s'en aller "ينطلق" وكان يقال في القوطية usqiman، ويقال في الألمانية vergehen و erblassen و verbleichen. هذه العبارات المخففة تصور شبح الموت في صورة أقل إيلاما.

عدد الكلمات الجارحة وطبيعتها يختلفان باختلاف البيئات والعهود. فيزداد عددها بالطبع في عصر الرقة حيث يصطبغ المجتمع بالصبغة التي تضفيها عليه النساء. ويصل الحال إلى التضييق من دائرة المفردات شيئا فشيئا، حتى لا يتكلم

1 انظر هـ. شلتس H. Schulz، رقم 36، مجلد 1، ص129-173.

ص: 280

الناس إلا تلميحا. ولما كان يتحتم عليهم دائما أن يجدوا كلمات للأشياء كلما دعت إلى ذلك فرصة، فإنهم يضطرون إلى تجديد المفردات.

وقد عدل الأطباء منذ حين عن استعمال كلمة "عملية" operation التي صيرها الاستعمال قاسية مخوفة. لا يسمعها المريض حتى يتصور الآلات المرعبة والملابس الملوثة بالدماء والجسم وقد طواه الألم طيا. فكلمة operation "عملية" ضحية الصور التي تثيرها. لذلك يسود الميل إلى الاستعاضة عنها بكلمة intervention "تدخل" لأنها أنضر جدة منهان وأكثر تحفظا وأشد غموضا أيضا، لا يهلع لسماعها قلب المريض. والكناية euphemisme ليست إلا صورة مهذبة متحضرة مما يسمى تحريم المفردات "انظر ص237". فكثيرا ما يقع لدى المتوحشين أن يكون لبعض الألفاظ طابع من السرية والخفاء يمنع بعض الأفراد من استعمالها. ولكن ليس في لغاتنا الأوربية شيء من هذا التحريم. فقد قضت المدنية على تلك البقايا المتبربرة. غير أننا إذا رجعنا إلى تاريخ أكثر اللغات مدنية، وجدنا حواث من هذا التحريم لا تقل صراحة عما عند الأمم المتوحشة1.

تعد الجهة اليسرى عند كثير من الشعوب جهة السحر، جهة القوى الخفية التي لا يحسن إيقاظها. لذلك كثيرا ما قضى بالتحريم على اسم اليسار وكانت نتيجة هذا التحريم الإضطرار إلى استعمال العبارات الملفوفة والاستعارات للتعبير عن اليسار. فإن كان العدد الأكبر من اللغات الهندية الأوربية قد احتفظت لذلك بكلمة واحدة للدلالة على اليمين، فإنها تستعمل للدلالة على اليسار كلمات متنوعة، لا تستعمل الكلمة منها في غالب الأحيان في أكثر من لغة واحدة أو لغتين، وهي حتى في هذه اللغات نفسها قد تعرضت بدورها للأقصاء والاستبدال.

1 مييه: Quelques hypotheses sur les interdictions de vocabulaire dans les langues indo-europopeems "عام 1906".

ص: 281

التي تستخدم للدلالة1. ففي الإرلندية اثنا عشر اسما للدب ومثلها "للسالمون": ونحن نعرف، من مصادر أخرى، أنهما من الحيوانات التي جعل منها الخيال الشعبي تابوهات TABOUS. وحيوانات الصيد على العموم تحاط بقوى سحرية، فما أكثر تابوهات الصيادين. كذلك يدل بالمترادفات في غالب الأحيان على الحيوانات البرية.

لا ينحصر الأثر الناجم من تحريم المفردات في استبدال كلمة مكان كلمة فحسب بل يتعداه أيضا إلى تشويه الكلمات الموجودة. فتغيير حرف من الكلمة أو نقله يخفف ما تنطوي عليه من الخطر أو مما لا يليق دون أن ينقص ذلك من قيمتها الدلالية. وفي استطاعة كل إنسان في هذه الحال أن يفهم المراد على الفور.

فالحجاب لا يستر إلا الجهات الجارحة والمؤذية للحياء، ويشف عن معالم الكلمة الكبرى ولونها العام. ونرى الشتائم في كثير من اللغات تصاب بشيء من التشويه المقصود الذي يمكن من إدخالها في أرقى الأوساط، مثل BIGRE أو FICHTRE ويقال: PARDIENNE، PARGNIEU، PARBLEU، PALSAMBLEU بدلا من PAR LE SANG DE DIEU "بدم الإله" أو PAR DIEU "بالله".

هناك أصل هندي أوربي بمعنى "قاع أو عمق" ومنه الكلمة الفرنسية monde "عالم". هذا الأصل يقدم لنا في اللغات الهندية الأوربية المختلفة تشويهات فريدة في بابها. فقد أحصى منها ثماني صور أو تسع، لا يختلف بعضها

1 رينان Renan، رقم 110، ص142.

ص: 282

يجب ألا نهمل من حسابنا عند دراسة الأسباب الاجتماعية التي تؤدي إلى تجديد المفردات نوع النشاط الذي يمارسه المتكلمون. فالكلمات التي تنتمي إلى نشاط المجموعات الاجتماعية "عقليا كان أو يدويا" يطلق عليها كلمات الحضارة.

كلما تحقق أي تقدم في الصناعة الإنسانية ترجم عن نفسه باستعمال آلات وإجراءات جديدة يقابلها خلق كلمات جديدة بقدرها.

التغيرات التي تطرأ على الآلات تنعكس في المفردات بطبيعة الحال. فالجرمانية المشتركة كانت فيها كلمة تدل على الخبز، نعثر عليها في الفترة القديمة لكل لهجة من لهجاتها، وهي في القوطية hlaifs "في حالة الإضافة hlaibis". وكان لهذه الكلمة من الأهمية بقدر ما للشيء الذي تدل عليه. وقد استعارها اللتوانيون والسلافيون: ويشهد بأهميتها في الجرمانية نفسها عدد المركبات التي اشتقت منها:

1 فندريس: رقم 6، مجلد 18، ص308.

2 نجد أمثلة من هذا التشويه الذي يرجع إلى مراعاة اللياقة أو الآداب في كاديير Cadiere، رقم 58، ص30.

ص: 283

ففي الإنجليزية القديمة hlafward "حارس الخبز""في أيامنا هذه لورد" و hloefdige "عاجنة الخبز""في أيامنا ليدي Lady" وفي النروية القديمة witandahalaiban "إلى سيد الخبز""في نقش مكتوب بالحروف الرونية، وهي أقدم الكتابات الجرمانية". ولكن هذه الكلمة كانت تدل على الخبز غير المختمر فلما اهتدوا إلى تخمير العجينة، اضطروا إلى استعمال اسم جديد للدلالة على هذا الإجراء الجديد في صنع الخبز. فكانت كلمة brot في الألمانية العليا القديمة، braudh في الإسلندية القديمة، وهي كلمة غير موجودة في القوطية، ولا يعثر عليها في الإنجليزية القديمة إلا في عناء كبير.

وقد بقيت الكلمتان المتنافستان في اللغات الجرمانية الحديثة، ولكن أحدثهما هي الأكبر أهمية؛ فهي الكلمة الألمانية Brot "خبز" والإنجليزية bread، أما الثانية فبقيت كلمة شبه شعرية أو للاستعمال في معنى خاص، وهي loaf "الجمع loaves في الإنجليزية و laib في الألمانية، ومعناها "رغيف". فخلق كلمة جديدة لا يتحتم عليه هلاك القديمة، ولكنه يقذف بها غالبا في جزء خاص من المفردات.

ص: 284

_________

1 المقصود به الجواد الذي يعلق في مقدمة العربة فيكون سابقا غيره من الخيل.

المعربان.

ص: 285

تعدد الاستعمال يؤدي إلى خلق كلمات مختلفة. فإذا صرفنا النظر عما في الفرنسية من عبارات العامية الخاصة التي تطلق على النقود "انظر ص274"، وجدناها تستعمل عددا كبيرا من الكلمات للدلالة على النقود بالنسبة للطائفة الاجتماعية التي تضاف إليها؛ ففيها les gages لأجرة الخادم و le traiement لمرتب الموظف و la solde لمرتب الضابط و le pret لمرتب الجندي و les appointements للموظف في غير الحكومة و les honoraires لأتعاب الطبيب أو المحامي و les emoluments لأجر صاحب الوظيفة العامة "كالمأذون مثلا" و le salaire للعامل و la paye لأجر المشتغل باليومية و les rentes لدخل صاحب الدخل الثابت و les dividendes لأرباح الأسهم المالية و l'indemnite للمكافأة البرلمانية و les mensualites لشهرية الصحفي و le casuel لعوائد القسيس و les feux لأتعاب الممثل و le secours لما يعطى للمحتاج، إلخ. هذا فضلا عن الكلمات الناقصة مثل retribution و subvention و gratification و allocation، إلخ. في هذه المفردات المتنوعة ينعكس مجتمعنا الحالي في تعقده. أما كلمة epices "بالنسبة للقاضي" وكلمة benefice "بالنسبة لرجل الدين" فقد أصبحتا لا تمثلان شيئا، إذ فقدا المعنى الذي كان لهما في النظام القديم.

واللتوانية، وهي لغة شعب زراعي، فيها خمس كلمات للدلالة على اللون الأشهب. ولكن هذه الكلمات ليست من المترادفات، لأن كلا منها تقال عن شيء خاص، فيقال: pilkas للصوف والأوز و szirvas أو szirmas للخيل و szemas للبقر zilas لشعر "الإنسان" والحيوان الداجن ما عدا الأوز والخيل والبقر. أما أسماء الألوان الأخرى، وإن كانت أقل تنوعا، ففيها مقابلات مشابهة، فعند الكلام على البقر يقال: zalas "أحمر" بدلا من الكلمة المعتادة raduonas؛ ويقال: dwrylas "أسود" بدلا من judas، إلخ. وفيها للدلالة على "المبقع أو الأبلق" عدد من الكلمات بقدر ما يوجد فيها من الفصائل الحيوانية. وهذا يستلزم قوما أخصائيين في تربية الحيوان للون الوطاب عندهم أهمية كبيرة. فكل طائفة من مربي الحيوانات تميل إلى خلق مفردات خاصة بأسماء ألوان الحيوان الذي

ص: 286

يشتغلون به. وفي النهاية تستفيد اللغة المشتركة من هذا الانفصال الذي خلقته اللغات الخاصة.

في كل العهود التي كونت فيها الأرستقراطية طبقة مغلقة تحيا حياة الصالونات وتعتز بجمال اللغة، أدت هذه الحال إلى نشوء مفردات نبيلة أبعدت منها كل كلمة سوقية. يقول Duclos1:"وهم وإن استووا في العقل مع غيرهم ظلت لهم "لطبقة البلاط" على غيرهم من سواد الناس ميزة التعبير بعبارات خير من عباراتهم وجمل أشهى إلى النفس". هذه المفردات المختارة التي كانت تسمح بتعيين طبقة المتكلم على الفور تبدو لنا اليوم كأنها كل ثابت وتعطينا فكرة الشيء الكامل المنتهي. والواقع أن هذه المفردات كانت تخلق يوما بيوم من جمل عابرة تتفتح في الصباح لتموت في المساء، كانت تولد من تلميح من التلميحات أو من نكتة أدبية أو من حادثة تافهة اشتبك فيها أهل هذه الطبقة.

ونحن نعرف هذه المفردات اليومية مما كتب الكتاب عنها بقصد التهكم منها على وجه العموم. فموليير في سنة 1659 يهجو في روايته les Precieusesridicules "المتساميات المضحكات" لغة الصالونات المتكلفة في عصره. وبورسو Boursault في Mots a la mode "كلمات موضة" في سنة 1694 ودلانفال d'Allainval في l'Ecole des bourgeois "مدرسة الأعيان" في سنة 1728 يتهكمان بدورهما بلغة معاصريهما المصطنعة. وهذه الأنواع الثلاثة من المفردات يختلف بعضها عن بعض. وإذا تصفحناها رأينا مقدار السرعة التي بها يعلو نجم بعض الكلمات ثم ينخفض. فمدام جوس دي بورسو Josse de Boursault لا يدع لسانها استعمال كلمة joli "لطيف"؛ وتستعيض عن كلمة grand "كبير" بكلمة "gros"2؛ إذ يظهر أن هذه الكلمة كان لها حظ عظيم بين تلك الطبقة، ولكن لمدة قصيرة فقط، لأننا نرى المحامي بريس Brice، شقيق

1 considerations sur les moeurs الطبعة الخامسة، باريس "1767" ص211.

2 برينو Brunot، رقم 57 مجلد 4، ص222.

ص: 287

مدام جوس، وهو يهتم مثلها بلغة القصر ولكنه أعرف منها بها، نراه يذكرها بأن هذه الكلمة قد انقضى عهدها فيقول:

Laissez mourir en paix un mot agonisant;

Hors chez quelques laquais qu'il est en etalage،

En aucun lieu du monde il n'est plus en usage

"Gros" est un mot proscrit، ma soeur

"هذه كلمة محتضرة فدعيها تمت في سلام"

"إذ لم يبق لها استعمال في أي مكان في العالم"

"إلا لدى بعض الخدم يتحلون بها

"

""Gros" كلمة مقضي عليها، يا أختاه

"

والصعوبة في هذه الحالة بالنسبة للشخص الذي لا يعيش في تلك المحيطات، هي في أن يكون على علم دائم بما يقال فيها. فكم من أشخاص وأشخاص يفتخرون بأنهم يتكلمون لغة "أولاد البلد" وأنهم مشبعون بالروح الباريسي، ثم ينكشف لهم أن الكلمات التي يستعملونها قد ماتت من الاستعمال منذ العام الماضي، وها هو ذا السيد هوميه Homais صيدلي يونفل "من شخصيات فلوبير في مدام بوفاري" كان يقول: Faire flores أو bazar، turne أو Breda-street أو je me la casse بدلا من "je m'en vais" في وقت كانت هذه العبارات قد فقدت جدتها عند أولاد البلاد.

لغة المغازلة أيضا من أسرع اللغات تجددا. وليس من العسير أن نجد تطور العادات ينعكس في الصور المختلفة التي تقدمها لنا هذه اللغة، ويجب عند تفسيرنا لها ألا نهمل العلاقات الاجتماعية بين الجنسين ففي عهود الثروة والبذخ كانت توجد أرستقراطية أنيقة تخص الحب بكل عنايتها وتجعل منه سلوتها المعتادة. في هذه البيئة تكونت في داخل اللغة الأرستقراطية مفردات خاصة بمسائل الغزل. هكذا كان الحال في فرنسا في العصور الوسطى، في الجنوب أولا ومن بعده في الشمال. ففي القرن السابع عشر نشأت عدة مفردات غزلية متتابعة تلي بعضها بعضا منذ قصر رمبوييه I'hotel de Rambouillet بخريطته المسماة "إقليم العاطفة

ص: 288

الناعمة" حتى صالونات سو Sceaux عند دوق المين، ثم اجتماعات "التمثيل temple" عند آل فندوم vendome.

وقد دخل الكثير من هذه المفردات في آداب العصر مثل la gloire et les soins و les appates et les feux و les cruautes و les rigueures و les alarmes وغيرها من العبارات التي تبدو للفرنسيين اليوم مضحكة بالية. ونعتبرها في مجموعها ممثلة للغة الحب التي لم يستطع كاتب في مقام راسين نفسه أن يتجنبها. ولكن الواقع أنها ليست جميعا من عصر واحد، بل لكل منها تاريخها وفترة صعودها وسقوطها. واليوم حيث لا توجد أرستقراطية تكون طبقة منعزلة عن الأمة، وحيث انتشار الطبقة الوسطى جعل الغزل في متناول جميع الطبقات الاجتماعية، توجد أيضا لغة الحب، ولكنها لغة مشتركة تستعير مفرداتها من العاميات الخاصة ومن رطانات جميع الأوساط، فليس هناك إذن لغة للغزل بمعنى الكلمة، لأن الغزل لم يعد مقصورا على طبقة من الطبقات.

هكذا نرى أنفسنا مسوقين في دراستنا لتغير المفردات إلى أن ندخل في حسابنا تأثير أنواع اللغة المختلفة بعضها على بعض. فهذه الكلمات الفرنسية الشائعة مثلا قد جاءت من ثكنات الجنود؛ جيء بها منها لأنها أكثر تعبيرية من غيرها وأقوى دلالة على ما يراد أن يقال. وتلك الكلمة الأخرى استعيرت من لغة الصالونات. وهناك أيضا الحالات التي تفرض فيها لغة أجنبية على جاراتها، بما لها من سلطان، نوعا من التجديد ولو جزئيا. وهذا يفسر وجود عدد ضخم من الكلمات اللاتينية في لغات كالـbrittonique أو الألمانية العليا القديمة. فهذه الكلمات لا تدل دائما على فكرة جديدة أو شيء جديد، وإنما هي في غالب أمرها قد حلت محل كلمات كانت تستعملها لغة متبربرة، ولكن السلطان أتاح النصر للكلمة اللاتينية فالسلطان آخر الأسباب الاجتماعية في تجديد المفردات، ولا ينبغي لنا أن ننساه "انظر الصفحة الرابعة من الفصل الرابع في الجزء الرابع".

العمليات اللغوية التي بها تتحدد المفردات يمكن إرجاعها بسهولة إلى بضعة

ص: 289

أنواع عامة. والموارد التي يمكن للغات أن تستنبطها من ذات نفسها محدودة عندما يلجأ الإنسان إلى كلمة عامة فينوط بها، بواسطة التخصيص، استعمالا خاصا، أو إلى كلمة ما فيدير معناها بواسطة الاستعارة أو النقل، ويكون بذلك قد فعل كل ما في وسعه في حدود المفردات الموجودة في اللغة. وهذا خلق للمعاني لا أكثر من ذلك.

طرائق الاشتقاق والتركيب تزيد إمكانيات التجديد زيادة هامة، لأنها تتيح خلق الكلمات. فالمشتق بعد أن يخلق يصير كأنه كلمة جديدة وينطبق في الحال على الشيء الذي خلق له. من ذلك كلمة bottine "حذاء طويل" التي اتخذت معنى مخالفا جدا لمعنى botte "تزلك". وكذلك الكلمات chausson "شبشب" و chaussette "جورب" و chaussure "حذاء" ليس بين بعضها وبعض ولا بينها وبين أصلها chausse "نوع من السراويل" علاقة من حيث المعنى وهذا هو شأن الكلمات المركبة التي تتحد عناصرها فجأة فلا توقظ في الذهن إلا تصورا واحدا.

ومن الطرق الشائعة عند تسمية شيء جديد أن يطلق عليه اسم مخترعه أو مروجه أو بائعه أو من ساعد على نجاحه بأية وسيلة من الوسائل وإلى هذه الطريقة ندين بكثير من الكلمات الفرنسية: calpin "مفكرة جيب" guillemet "علامة اقتباس" و barene "جدول حسابات" godillot "نوع من الأحذية" و quinquet "نوع من المصابيح" و catogan "شريط لربط الشعر""وهذه الكلمات مستعارة من الإنجليزية، ولكنها صنعت بالطريقة التي نتحدث عنها" و bottin "دليل" و poubelle "صندوق القمامة" و gibus "نوع من القبعات" و pepin "مظلة" و riflard "مظلة كبيرة" و sil houette "رسم خطي" و fontange "عقدة من الشريط يزين بها الشعر" ولا يتحتم لاستخدام هذه الطريقة أن يكون الشيء جديدا، بل تطبق أيضا على شيء معروف من قديم ولكن صار اسمه في حاجة إلى تجديد لسبب من الأسباب. وإذا لم تكف هذه الطرق اتجه الناس إلى الاقتراض فيلجئون إلى المفردات

ص: 290

المجاورة التي قد تنمي إلى لغات مختلفة المشارب؛ فيستعيرون من الرطانات ومن العاميات الخاصة ومن اللغات الإقليمية ومن اللغات الأجنبية، والأخذ من هذه اللغات يحدد دائما بظروف خاصة، تعين الاختيار أو تنظمه.

كلمات الحضارة بوجه خاص معرضة للاستعارة، حيث تحمل في نفس الوقت مع الشيء الذي تدل عليه، فالشيء يقوم لها مقام المركبة التي تحملها في بعض الأحيان إلى آفاق بعيدة rem uerba sequuntur. وإذا أحصينا الكلمات التي استعارتها من اللاتينية شعوب الشمال والبريتانيون والإرلنديون والإنجليز السكسون والألمان والبلطيون والسلافيون، وجدناها كلها تقريبا واحدة، بل وجدنا أن عددا كبيرا مما استعاره اللاتينيون أنفسهم من الإغريق1 فيمكننا أن نفترض أن الكلمة إذا ما تجاوزت حدود لغتها، انفتح أمامها الطريق لطول الطواف، لأنها لم تطلب في الخارج إلا لأنها تدل على شيء جديد خاص بالبلد الذي جاءت منه، ومن ثم كان من الطبيعي أن نتوقع رؤيتها في كل مكان يطلب فيه هذا الشيء.

وإلى جانب المفردات المجاورة تسيطر كثير من اللغات على معين خاص تنهل منه ما شاءت، وذلك هو معين اللغات العلمية واللغات الميتة، فاللاتينية كانت في كل العصور مصدرا لتجديد المفردات في لغات أوربا الغربية، ومفرداتنا الفرنسية تطفح بالكلمات اللاتينية التي أدخلت فيها شيئا فشيئا تبعا للحاجة المتجددة بعد أن عدلت صيغتها وفقا لبعض القواعد التي تنظم النقل إلى الفرنسية من اللاتينية، والتي لا تزال كامنة في إحساسنا اللغوي. كما كانت اللاتينية أيضا نبعا فياضا للغة الإنجليزية، وللغة الألمانية ولكن بصورة مصغرة، لأن الألمانية تكتفي بنفسها بفضل ما فيها من لهجات عديدة غنية وبفضل نظام التركيب الذي يسمح لها بزيادة مفرداتها زيادة واسعة.

1 انظر ج. لوت j. Loth، رقم 89؛ وفندريس، De Hibernicis vocabulis، quae a Latina lingua origenem، duxertunt باريس 1902؛ ف. كلوجه F. kluge؛ vorgeschichte der Altgermanischen Dialelkte، الطبعة الثانية، ستراسبورج، 1897 ص333.

ص: 291

والإغريقية كانت معينا للغات السلافية، وخصوصا الروسية، التي كان لها معين آخر دائم لتجديد مفرداتها يتمثل في اللهجات السلافية القديمة التي ظلت متصلة بعضها ببعض تحت تأثير الكنيسة "انظر ما يلي في الفصل الثالث من الجزء الرابع".

هناك صعوبات جمة تعترض تجديد مفردات أساءت استعمالها بعض اللغات. فقد أخذ على الإنجليزية تضخم مفرداتها وإسرافها في المترادفات التي لا يلبث الاستعمال أن يطرحها ليطلب غيرها من جديد من اللاتينية التي تعد مستودعها المعتاد، وذلك فضلا عن المستودعات الفرعية التي هي اللغات الأجنبية بالنسبة للإنجليزية. والفرنسية أيضا لا تخلو من ملام التهالك على اتخاذ الكلمات الجديدة ولما تزل الكلمات القديمة في حيوية تامة وكافية للتعبير. وهذا عيب ينجم دائما من رخاء الحال الذي يمكن اللغة من استعارة كل ما ينقصها كما تشاء، حتى ما يطلب منه لاستعمال مؤقت.

من النادر في هذه الحال أن تلجأ اللغة إلى صنع الكلمات من أساسها بتركيب مجاميع من الأصوات اللغوية بعضها مع بعض، لأنه يعتبر عملا غير مفيد. فكل ما تعمله أنها قد تغير وضع العناصر الصوتية في هذه الكلمة أو تلك. وهذه طريقة معروفة في العامية الخاصة، ولكن العامية الخاصة تشوه ولا تخلق. فالخلق أمر في غاية الندرة1. وإذا ذكر منه بعض الأمثلة، فإنما تذكر على سبيل التندر، مثل gaz "غاز" التي اخترعت في القرن الثامن عشر، و felibre "شاعر يقرض الشعر بلغة الأوك" و rococo "نوع من الزخرفة"2؛ ومن ذلك أسماء بعض المستحضرات والسلع والآلات، مثل كلمة kodak "كوداك" فقد خرجت كما هي من دماغ مخترعها. ولكنا لا نستطيع أن نصنع عددا من مثل

1 جسبرسن، رقم 133، فصل 5، 6. وانظر ر. م. مير R. m. meyer، رقم 30، مجلد 12، ص257.

2 درمستتير Darmesteter، رقم 63، مجلد 1، ص23؛ وج. باريس G. Paris؛ Penseurs et poetes ص 94، ولكن قارن جنروا Jeanroy، رقم 18، مجلد 33، ص463.

ص: 292

هذه الكلمات دون أن تعرض اللغة للخطر. فقيمة هذه الكلمات بالضبط كقيمة اسم العلم الذي لا يوقظ في ذهن السامع أية فكرة محددة إذا لم يعرف الشخص الذي يحمله. لذلك يجب أن تحاط بسياق يكون لها بمثابة تفسير توضيحي. وإذن لا يمكننا أن نزيد في عددها دون حذر. ولكنها إلى جانب ذلك صعبة الصنع. فلا شيء أصعب من صنع كلمة دون الاهتداء بوسائل الاشتقاق والتركيب المعتادة في اللغة التي يتكلمها الصانع1 ولئن صح ما قيل من أن كلمة gaz فيها صدى كلمة Geist "روح"، كنا في هذه الحالة أمام تشويه لكلمة موجودة بالفعل.

وكذلك الحال بالنسبة لكلمة jingo وهي كلمة إنجليزية تطلق على من يظهر بمظهر المتطرف في الوطنية، يقال إنها جاءت من صيغة سب، هي by jingo التي كانت قد حلت محل by jove، وهذه بدورها استعيض بها عن صيغة أخرى كان طلبة جامعة إكسفورد يكثرون من استعمالها. أم الكلمات التي من قبيل Kodak و rococo فلها قيمة تعبيرية لا تنكر، ذلك أنها كلمات أشبه بأسماء الأصوات، وتدخل في فصيلة من الكلمات تعتبر اليوم ثابتة النظام والقواعد2. فكلمة "كوداك" تصور لنا صورة، هي صورة سمعية، حتى كأننا نسمع صوت المفتاح الذي يفتح الآلة لالتقاط الصورة ويغلقها. فهل أحس مخترع الكلمة هذه القيمة وأراد أن يحاكيها؟ إن هذا لجائز، ولكنه غير ضروري. غير أن هناك دائما اتفاقا غير شعوري يقوم بين الأصوات والأشياء. فالانطباع الذي تحدثه كلمة غير معروفة يمكن أن يختلف من سامع إلى آخر، ولكن هناك انطباعا على كل حال، إن قليلا وإن كثيرا. وإنما يقاس الفرق بدرجة حساسية السامع، أو خياله، أو مجرد حالته العصبية. فالذي يطلق اسما مصنوعا من أوله إلى آخره على شيء أيا كان قد يكون مستهديا بتوافق نفسي بين الأصوات والشيء نفسه. هذا إلى أن كلمة "كوداك" متمشية مع قواعد اللغة التصويرية، فالسواكن تحتوي على

1 رينان، رقم 110، ص147.

2 جرامون GRAMMONT؛ ONOMATOPEES ET MOTS EXPRESSIFS في رقم 17 مجلد 44، ص9.

ص: 293

نفس الحركة الصوتية، والحركات فيها نفس الجرس الذي قرره الأستاذ جرامون وهذه الكلمة تعد على درجة من حسن الصياغة تجعلنا نتساءل عما إذا كان في الإمكان صياغتها على غير ما هي عليه.

ولعل القدرة على خلق الكلمات ليست إلا نوعا من الخداع، وهذه النتيجة تؤدي بنا إلى القاعدة اللغوية الكبرى التي تقول: إن اللغات تسير على تحوير العناصر الموجودة لا على الخلق.

ص: 294