الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
…
النحو العربي من بصرية وكوفية وبغدادية ومصرية أن تمنع انتشار اللحن لا في البلاد العربية المفتوحة ولا في جزيرة العرب نفسها.
لسنا بذلك ننكر فضل القدامي على اللغة العربية وإنما ندعو إلى مسايرة الطرق العلمية الحديثة في البحوث اللغوية وأن ننظر إلى اللغة على أنها نظام اجتماعي "تتأثر بالمجتمع وتؤثر فيه". ثم علينا أن ندرس العلاقات التي توجد بين اللغة وبين العقل البشري على أسس علمية صحيحة، لنطمئن إلى أن العربية ستظل بقواعدها ومفرداتها وأدبها لغة حديثة تساير كل نهضة علمية أو أدبية أو فنية.
يبذل مجمع فؤاد الأول للغة العربية جهدا مشكورا في تعريب المصطلحات العلمية وألفاظ الحضارة الحديثة والحياة العامة، وهو حين ينتهي من هذه المهمة الشاقة ويذيع مصطلحاته على الناس، يكون قد أدى للغة العربية أجل الخدمات لأنه سينتقل بها من العصور الوسطى حيث وقف بها أبناؤها إلى عصرنا الحديث الذي تخلفت فيه عن اللغات الحية، وأصبحت تنافسهما في معاهدنا العلمية الشرقية والمصرية اللغتان الفرنسية والإنجليزية منافسة قوية، إن أبناء العربية جميعا يتطلعون إلى اليوم الذي تصبح فيه لغتهم لغة علمية، ولن يكون هذا اليوم قريبا إلا إذا اقتنع أبناؤها تماما بضرورة الأخذ بالطرق الحديثة في الدراسات اللغوية.
أما إذا ظلوا يدرسونها معتمدين على الكتب القديمة وحدها فلن تكون دراستهم مجدية، لأن هذه المصادر، مهما كانت مفيدة نافعة ومهما احتفظت بقيمتها التاريخية، فستظل ناقصة إذا طبقت عليها مقاييس العلم الحديث.
نريد أن تصبح العربية لغة من يعيشون في الشرق من الشرقيين والأجانب على السواء، لأننا نكره كراهية شديدة أن تحرج اللغات الأجنبية آذاننا في معاهدنا ومنازلنا وطرقنا. إنه لمظهر يسيء حقا إلى قوميتنا وكرامتنا ويدعونا إلى التفكير الدائم والعمل المتواصل حتي يوجد "وعي لغوي" في البلاد العربية كلها.
على أن الوصول إلى ذلك ليس أمرا يسيرا، فاللغوي يحب أن يكون على معرفة بالعلوم التي تتصل باللغة اتصالا وثيقا، لأن اللغة كما تقول الأستاذ فندريس "مركب معقد تمس فروعا من المعرفة مختلفة وتعي بها طوائف متفرقة من العلماء فهي
فعل فسيولوجي من حيث أنها تدفع عددا من أعضاء الجسم الإنساني إلى العمل، وهي فعل نفساني من حيث أنها تستلزم نشاطا إراديا للعقل، وهي فعل اجتماعي من حيث أنها استجابة لحاجة الاتصال بين بني الإنسان. ثم هي في النهاية حقيقة تاريخية لا مراء فيها نعثر عليها في صور متباينة وفي عصور بعيدة الاختلاف على سطح المعمورة أجمع".
هذا هو الاتجاه الحديث الذي نرجو مخلصين أن يطبق على اللغة العربية تطبيقا صحيحا، وأن يأخذ به اللغويون العرب أنفسهم لترقى لغتنا إلى المستوى الذي نرجوه لها. وأما الجزاء الذي نود أن نناله لما صادفنا من عنت شديد في تعريب هذا الكتاب لكثرة ما فيه من مصطلحات لغوية لا عهد للعربية بها، هذا الجزاء يتمثل في أمنيتين:
الأولى: أن تتضام الأفكار على اختلاف المعاهد والثقافات وتتعاون في هذه السبيل ليكون للدراسات اللغوية طابع قومي يخلق "الوعي اللغوي" في الشرق.
الثانية: أن تنشأ جميعات لغوية من المتخصصين تعاون في الدراسات اللغوية، وألا نعتمد على الهيئات الرسمية وحدها في مثل هذه الدراسات العلمية. ثم نرجو أن تنشأ مجلة لغوية تكون مجالا لإثارة المشكلات المختلفة وعرض الآراء والنظريات الجديدة على نهج المجلات اللغوية في أوروبا وأمريكا.
ديسمبر سنة 1950
عبد الحميد الدواخلي
محمد القصاص
عضوا الجمعية اللغوية بباريس
المقدمات:
تصدير: اللغة وأداة التفكير
قلنا في التصدير الذي قدمنا به لكتاب البشرية قبل التاريخ L' Humanite" Prehistorique": "اليد واللغة: فيهما تنحصر البشرية. نعتقد أن أول ما ينبغي أن يزاح عنه الستار في هذا المؤلف شيئان، وهما اللذان يفصلان بين نهاية التاريخ الحيواني وبداية التاريخ البشري. ونعني بهما اختراع اليد -إذا جاز لنا هذا التعبير- واختراع اللغة، وهذا هو التقدم الحاسم للمنطق العملي والمنطق العقلي"1. وهنا يجب أن نذكر القارئ بأن الدعوى الأساسية التي نذهب إليها، هي أن التاريخ منطقي في جوهره، وأن تفسيره العميق ينحصر في ميل الكائن الحي إلى التشبث بكيانه والمضي في ترقيته، ولكنا لا نقدم دعوانا في هذا المؤلف إلا على أنها فرض يحتاج إلى التحقيق، ولا يتم إلا بالاعتراف بالعوامل الأخرى ودراستها، تلك العوامل التي تلعب دورها في التاريخ، والتي تجعل التاريخ على ما هو عليه: أعني شبكة معقدة غير متجانسة قد لا يرى فيها الناظر السطحي أو العالم الغارق في التفاصيل إلا مجموعة من الأحداث العارضة.
أبان المجلد السابق أهمية المنطق العملي: اليد، تلك الأداة التي لا تباري والتي مكنت للإنسان من استعمال العدة المادية التي تترجم عن التقدم النفسي وتسرع به على السواء، والفرد هو الباعث الحقيقي لهذا التقدم لا تستطيع البيئة إلا أن تدعو إليه وتثبته.
واللغة من ناحية أخرى تعد واحدة من أعجب المبتكرات التي أظهرها التطور الإنساني، فيجب الوقوف عندها، وإطالة الوقوف: ما هو الدور الذي
1 البشرية قبل التاريخ ص6 من التصدير.
تلعبه على وجه الدقة؟ ما هو النصيب الذي تقوم به في التطور العقلي؟ ما هي صلات الفرد بالجماعة فيما يختص بإنتاج هذه الأداة القيمة وإكمالها؟ هذه هي الأسئلة التي يجيب عنها المجلد الذي بين أيدينا.
الغرض الذي قصدنا إليه كان ممكن التحقيق بصور شتى. فلو أن هذا الكتاب كان من وضع عالم سيكولوجي أو مؤرخ يهوى المباحث اللغوية، لكان من الممكن إلحاقه بالدعاوي التي قدمها مشروع "L' Evolution de l' Humanite""تطور البشرية" في صورة أحكم وأظهر مما هو عليها. ولكنه عمل عالم لغوي، وهذا العالم اللغوي يتعلق بالوقائع ويتحرز من النظريات؛ لقد أتيحت له الفرصة من قبل1 ليعلن عن ذلك، وها هو ذا يقول هنا أيضا نفس القول. إنه إنما يقدم لنا، ولا يريد أن يقدم لنا إلا دراسة فنية لتلك الآلة المعقدة المرنة، ألا وهي اللغة في تنوع أشكالها وتطوراتها التاريخية. وتتصل بالضرورة بهذه الدراسة للمسائل التي تثيرها اللغة وتعنى التاريخ التأليفي، ولو أنها لا تبحث فيها عمدا لذاتها لأن الأستاذ فندريس Vendryes لا يريد أن يكون إلا عالما لغويا فحسب.
ونعتقد ان في معاونة هذا الأخصائي لنا -وهو مع ذلك أخصائي واسع الأفق- خير ضمان لعلم التاريخ كما نفهمه. فتجربتنا في الأجزاء السابقة من سلسلة "تطور البشرية" قد برهنت على ضمان النجاح في مثل هذه الظروف بأكثر مما لو كنا قد اخترنا مفكرا آخر معتنقا نفس الدعاوي التي نقدمها. ومع ذلك ينبغي لنا أن نناقش قليلا الأفكار العامة التي يقدمها لنا كتاب الأستاذ فندريس القيم، وذلك من وجهة النظر التأليفية.
1 مجلة الجمعية الفلسفية الفرنسية عدد فبراير عام 1912 ص69-71.
الأمر الذي اضطلع الأستاذ فندريس ببيانه، والذي أبانه في قوة وبراهين بينة تدعو إلى الإعجاب، هو كيف أن اللغة نشأت من الحياة، وكيف أن الحياة راحت "تغذيها" بعد أن خلقتها.
إن الإدراك القديم، الذي يقول بأن اللغة قد أنزلت على الناس عن طريق معجزة أو أنها شيء خلقه الإنسان خلقا صناعيا، قد ترك آثارا في ذلك النوع من علم اللغة الذي يعدها شيئا ساميا مستقلا، ويضفي على قوانينها نوعا من الحتمية الكامنة، لا على القوانين الصوتية أو قوانين النطق التي ترتبط بالأعضاء فحسب، بل على القوانين الصرفية أيضا، أي قوانين النحو، وعلى القوانين المعنوية، أي قوانين المفردات. ولكن "من الباطل أن تعتبر اللغة كائنا مثاليا يسير في تطوره مستقلا عن بني الإنسان متجها نحو غاياته الخاصة"1. فالحقيقة أن اللغة على صلة وثيقة بالحياة النفسية، وأنها منذ نشأتها سيكولوجية فعالة.
يعلن الأستاذ فندريس أن مشكلة أصل اللغة لا تدخل في اختصاص العالم اللغوي، ولا يدلي في هذا الموضوع إلا بإشارات يحوطها الحذر الشديد. والواقع أنها مسألة سيكولوجية، وأن أصل اللغة كأصل اليد تعوزه تماما الأدلة التاريخية. هذا فضلا على أنه لم يكن هناك أصل بمعنى الكلمة لأنه لم يوجد هناك خلق من العدم، بل تحور-في اتجاه إنساني- لظاهرة وجدت عند الحيوان. فاللغة بمعنى الكلمة الضيق، اللغة السمعية -التي ليست إلا حالة من موهبة إنتاج العلامات- موجودة عنده2. فالحيوان يعبر عن حالاته الانفعالية بأصوات، وأغلب الظن أن اللغة خرجت من الصيحة التي تترجم عن الانفعالات بطريقة فجائية. ولعل الانطباعات الهادئة والعواطف المعتدلة هي
1 فندريس: الصفحة الأخيرة من هذا الكتاب.
وكوتيرا "Couturat": مجلة الجميعة الفلسفية الفرنسية عدد فبراير 1912، ص54، وعدد مايو 1913، ص140.
2 ريبو "Ribot": تطور الآراء العامة، ص66.
التي -كما أشار البعض1- تنتج الأصوات الملفوظة، أما الصياح فيقابل الانفعالات العنيفة. ولكن لا بد أن اللغة كانت انفعالية في مبدأ الأمر، وقد بقيت إلى حد كبير انفعالية مرتبطة بالفرد وبما هو من نصيب الفرد: وهذا كله يبينه الأستاذ فندريس بحجج لا تنازع في صفحات بارعة نفاذة، فهو يشير إلى اللغة الانفعالية عند الطفل ويبين أنها نقطة البدء، ويشير في لغة الكلام إلى الفجائية التي تكسو التعبير عن الفكر "وتلونه" وتجعل النحو غير مستقر2. ولا بد أن اللغة الفاعلية أخذت تختلط منذ زمن مبكر باللغة الانفعالية، وذلك عند ما كفت الصيحة عن أن تكون ترجمة لحالة شعورية لتصبح وسيلة للعمل أو النداء أو الرجاء أو الأمر3.
وهذه مرحلة هامة في تطور اللغة وقد لعبت الحاجة إلى الاحتفاظ بالوجود أو إلى توسيع نطاق هذا الوجود بالتعاون مع الآخرين أو باستخدام الآخرين دورا جوهريا في هذا السبيل "الكائن الحي معني دائما بالاحتفاظ بحياته وبوقاية نفسه من التأثيرات الضارة وبمد سلطانه على ما يحيط من كائنات" وبيير جانيه "Pierre janet" الذي أوضح هذه الصفة من صفات الحدث، التي يصح أن نسميها "العلية الفاعلة""L' Efficience" يعد اللغة صورة من صور النشاط مسببة فاعلة، ويعتبر أن "سلوك الشخص الذي يتكلم وسلوك الشخص الذي يخاطب مستمدان من حدثي الأمر والطاعة الموجودين من قبل عند
1 كرينجو "Cornejo": علم الاجتماع العام، ج1 ص24-25.
2 انظر الفصل الرابع من الجزء الثاني من هذا الكتاب، وقد سجل أوجست كونت Auguste conte" ملاحظات قيمة عن تكون اللغة ودور العواطف قبل أن تصير اللغة عقلية. أنظر أوجست جورج:"بحث في النظام السيكلوجي عند أوجست كونت": Auguste Georges: "Essai sur le systeme psychologique d' Auguste Comte"؛ 52.
3 انظر كرينجو المرجع السابق، 23.
الحيوان"1 فالكلام والإشارة مرتبطان ارتباطا وثيقا في بادئ الأمر ولكن اللغة السمعية تنمو وتتطور بفضل تفوقها من الناحية العملية2، وإذا كان الكلام الخارجي ينتج الحدث الخارجي فإن الكلام الداخلي يتحقق في الإدارة ويكشف عن نفسه في الاعتقاد والرغبة. فهو لا يزداد إلا لصوقا بجميع النشاط الإنساني.
وقد تمت آخر خطوة من خطوات التقدم الذي حقق اللغة الإنسانية في الواقع عندما اعترف للصوت بصفة العلامة، وذلك حينما أتيح للفجائية التي خلقت العلامة المفيدة أن تستكمل بانضمام الإرادة إليها، تلك الإرادة التي تستخدم العلامة. وهذا التقدم، وهو تقدم عملي من حيث أصله ويخدم غايات الحياة بطريق مباشر، قد أفاد ثراء نفسانيا غير محدد3. ولا شك أنه يجب أن تكون الذاكرة قد وصلت إلى درجة من التطور لتتمكن من فصل الصوت عن الخاطر الذي كانت تصحبه مبدئيا، ولا بد من وجود شعور حاد اليقظة لتحقيق رابطة العلامة بالشيء الذي تشير إليه "فالأشياء في ذاتها لا تشير إلى شيء": ولكن الشعور بقوى ويمرن بدرجة عميقة إذا كانت لديه رموز تعمل على تثبيت صور الأشياء. فاستعمال الرمز يعين الإنسان على سهولة التصور لا سيما أن عندما ينقله إلى ذهن آخر فإنما ينقله إليه مستقلا عن الانطباع المباشر. وهذا الذكاء الناشئ يجعل من اللغة شيئا فشيئا آلته الخاصة وأداة التفكير، وبذلك يسمح للتفكير أن يعمل دون صلة مباشرة بوظيفية ما هو
1 انظر: P. Janet: La Tension Psychologique، ses degres et ses oscillations. وهي محاضرات ألقيت في لندن ونشرت في: The British journal of Psychology. أكتوبر 1920 ويناير 1921.
2 انظر ريبو المرجع سالف الذكر، ص63.
3 عن ضيق حدود الإدراكات عند ارتباطها بحركة اليدين، انظر هنري ولون Henri wallon في البحث:"la conscience el la conscience de moi" المنشور في مجلة علم النفس، عدد يناير 1921 ص61.
واقع1. فالكلمة بقيمتها التصويرية وقدرتها على الإفهام، لها نفس المزايا التي للورق النقدي، ولكنها محفوفة مثله بالأخطار بمعنى أنها إن كانت خالية من الحقيقة صارت مجرد "أنفاس صوتية" "Flatus vocis" أي خيالا باطلا2.
فاللغة وقد خلقتها الحياة والحاجة والرغبة، تقوم بادئ أمرها على نظام التأليف "Synthese". ويبين لنا الأستاذ فندريس أن التفكير وهو غريب عن التصنيفات النحوية يبدأ وهو في حالة توهجه بالانصباب في قالب اللغة. فالصورة الكلامية أو الكلمة الصوتية لها نفس القيمة التي للجملة، وذلك أن اللغة في أصلها حدث؛ ففيها تنشأ الأسماء التي تمثل الأشياء وصفاتها، والأسماء التي تمثل الأحوال والأدوات النحوية التي تشير إلى الروابط. فالجملة قد سبقت الكلمة النحوية، والكلمة قد سبقت المقطع.
واللغة تظل خاضعة للحياة "في تطورها الذي لا ينتهي إلى حد". ولا شيء أكثر إمتاعا من أن نلاحظ مع الأستاذ فندريس تنوع الوسائل، وأحيانا كثيرة خرق تلك الوسائل التي تترجم عن العلاقات التي تلتقط في الحياة الواقعية، وعدم ثبات المفردات الذي يصل إلى حد التطرف، وتلك الخاصة التي تجعل اللغة تتفرق دون توقف وتنمو دون حد عند جميع أولئك الذين يتكلمونها في تعبيرهم عن حياتهم الخاصة بكل ما فيها من شخصي بحت. واللغة المكتوبة -حتى لغات كبار الكتاب الذين يبدون كأنهم يثبتون هذه الأداة بما يخلعون عليها من كمال- لا تستطيع أن تقف الحياة، "فقوة الحياة التي لا تقهر، تتغلب على القواعد وتحطم قيود التقاليد". الكلمات لا تحيا برغم كل ما يقال: بل إن العقل هو الذي يحيا ويغير معناها، كما أن حياة العقل هي التي تغير أسماء الأشياء وتجددها "فليس من الباطل إذن أن يقال بأنه يوجد من اللغات
1 العبارة لجانيه، وانظر ملاحظة ل. ديبوي في مجلة علم النفس، عدد يناير 1921: La memoire des noms propres et la fonction du reel.
2 انظر ريبو، المرجع سالف الذكر، صفحة 125، وانظر ما سيأتي في هذا التصدير.
قدر ما يوجد من الأفراد".
ومن ثم يعني الأستاذ فندريس بلفت النظر إلى ما في اللغة من صفة العرضية. ولكن كمال تمكنه من موضوعه وحسه الحاد بالحقيقة الواقعية يمنعانه من أن يحيد عن وجهة النظر الأخرى التي تلزم الباحث الناظر. "فهناك من اللغات قدر ما هناك من أفراد": ومع ذلك فهناك اللغات، اللغات المشتركة واللغات الخاصة، وهناك اللغة "إذ يقوم اتجاه آخر يعمل على الدوام على مناهضة التفريق، ألا وهو الاتجاه إلى التوحيد الذي يعيد التوازن". فعلم اللغة يمكنه إذن من أن يجد أمامه حالات من الاطراد، من العموم على درجات متفاوتة.
هذه الاطرادات يعتبرها الأستاذ فندريس من محض صنع المجتمع، وإذا كان يرتاب في النظريات، وإذا كان نصيب التعميم في كتابه يعمد إليه في حذر، فإننا نحس بعظيم ركونه إلى السيولوجيا، إلى ذلك النوع من السسيولوجيا الذي اعترفنا نحن أيضا بجدواه وكشفنا عن مزاياه1 -وأنه يميل إلى أن يشبع بالعنصر "الاجتماعي" تلك الحاجة إلى التفسير التي تبدو عنده في كثير من المواضع، وإن كان ذلك في صورة مكبوتة نوعا ما. وهو باهتمامه بهذا العنصر يتفق مع بعض علماء اللغة -ومنهم أستاذ كبير- أولئك الذين وإن لم ينضموا إيجابيا إلى مدرسة دركهيم "Durkheim" فإنهم قد تأثروا بجاذبية هذا العقل اللطيف الجبار2. وإذا كان "من القول المعاد أن نؤكد أن الإنسان كائن اجتماعي قبل كل شيء" فإنه يجد بنا تحديد ما يخلع عليه ذاتيا هذا الطابع، ويجب أن يميز فيه ما هو اجتماعي خالص وما هو جماعي وما هو إنساني. والأستاذ
1 انظر La synthese dans l' Histoire ص124-127.
2 ظل الأستاذ مييه يقوم بتحرير الفصل الخاص باللغة في مجلة: "L' annee sociologique" ابتداء من المجلس الخامس "1902".
فندريس لا يعنى بتحرير هذه العناصر1. ولكن يمكننا مع ذلك أن نجد في مؤلفه التصحيحات والتحفظات التي أملاها عليه ميله السيولوجي: ذلك لأن الخبرة والمباشرة للحقائق اللغوية أقوى عنده من كل حماس نظري. وفي رأينا أنه يجب الالتفات إلى التفرقة الآتية أولا وقبل كل شيء.
إن المجتمع، من جهة كونه مجتمعا، له حياته الخاصة التي تشمل حياة الأفراد وتتجاوزها وتكسبها ثراء: فحاجاته المعينة تعلن عن نفسها بأوضاع ضرورية يتضامن فيها الأفراد وإن اختلفوا فيما بينهم. فالجماعة والأمة، لها طابعها الخاص الذي يطبع الأفراد بوجوه مقررة من التشابه2. طابع الأمة -ومن باب أولى السمات الخاصة بواحدة من تلك الجماعات الثانوية التي تتمتع بحظ ما من الدوام والتي توجد داخل الأمة- ينعكس على اللغة "سواء أكانت لغات مشتركة أم لهجات أم لغات خاصة"، وذلك بأن تدخل فيها أعراضا من أنواع شتى لا صلة بينها وبين "التكون الاجتماعي" أو "التفتت الاجتماعي". ولقد استطعنا أن نقول بأن اللغة "موطن الفكر" والموطن شيء آخر غير المجتمع.
الأستاذ فندريس الذي ينتقد بحق إقحام فكرة الجنس في علم اللغة ينتقد أيضا فكرة العقلية الجنسية. ومع ذلك فإنه يعترف بوجود صلة بين عقلية الشعب ولغته. ويمكننا أن نتصور علما لسيكولوجية الشعوب يقوم على اختبار التغيرات المعنوية المختلفة التي تشاهد في اللغات التي يتكلمونها. وقد تكون هذه الدراسة شاقة ولكنها تستحق ما ينفق فيها من عناء.
1 كذلك في كتاب "فردينان دي سوسير "Cours de: f. De saussure linguistique generale، الذي نشر بعد وفاته، لا نجد المؤلف يفرق بوضوح بين عبارات "القوى الاجتماعية" و"السيكولوجية الجماعية" و"العوامل التاريخية" التي تقوم عليها اللغة. انظر خاصة صفحات: 107، 110، 115.
2 عن صورة هذه الأعراض، انظر La Synthese en Histoire" ص69" وما يليها.
الواقع أن هناك لغات تجريدية ولغات تشخيصية تقابل عقليات جنسية متعارضة. ومن أشد ما يسترعي النظر في هذا الصدد ملاحظات الأستاذ م. جرانيه.M.M Granet عن "بعض خصائص اللغة والتفكير الصينيين" التي نشرتها المجلة الفلسفية1 وفيها يبين "أن دراسة المفردات تكشف عن طابع التصورات الصينية المسرف في التشخيص". "الكلمات في جملتها تدل على أفكار فردية وتعبر عن حالات منظور إليها من وجهة نظر خاصة كل الخصوص، هذه المفردات لا تعبر عن حاجات تفكير من دأبه أن يصنف ويجرد ويعمم، تفكير يريد أن يعمل في مادة واضحة متميزة ومعدة لتطبيق نظام منطقي عليها، بل على العكس من ذلك تعبر عن حاجة ملحة إلى التفصيل والتخصيص، وإلى ما هو معجب
…
يبدو أن كلمات اللغة الصينية كما تلوح لنا وكما يشرحها الصينيون أنفسهم، تقابل صورا إدراكية Concepts images مرتبطة، من جهة بالأصوات التي كأنها مزودة بالقدرة على إثارة التفاصيل المميزة للصورة ومن وجهة أخرى بالكتابة الممثلة للإشارة التي تسجلها الذاكرة المحركة كأنها أمر جوهري".
هذا العامل السيكولوجي الجنسي ليس العامل الوحيد الذي له أثر عام في تشكيل اللغة "التطور اللغوي يعتمد اعتمادا وثيقا على الظروف التاريخية". فهو يعتمد على المسكن، ويعتمد على نوع الحياة، ويعتمد على تشابك حياة الشعوب2. ولكن لا يتحتم كما رأينا أن نرجع السمات التي تميز مجموعة من المجموعات أو وطنا من الأوطان بأسره إلى أصل اجتماعي. فكلمة "تاريخية" هنا هي الكلمة الحقة.
ومن بين الآثار التي تتلقاها المفردات وتسجلها بوصفها جهازا حساسا أثر المسائل الاجتماعية بمعناها الحقيقي. وقد قدم لنا الأستاذ مييه أدلة بارعة في هذه الناحية: "يرجع الجزء الأكبر من تغيرات المعنى إلى توزيع المتكلمين في طبقات اجتماعية مختلفة وإلى انتقال الكلمات من مجموعة اجتماعية إلى أخرى"3. ولكن
1 يناير-فبراير ومارس- أبريل عام 1920.
2 ص414 و330 وفارن كرنيجو Cornejo المرجع السالف الذكر ص66.
3 L'annee sociologique، مجلد 11 ص791؛ وانظر في هذه النقطة أيضا نفس المرجع، مجلد 5 ص600 ومجلد 7 ص676 ومجلد 8 ص643 ومجلد 9 ص15 وما يليها ومجلد 12 ص850.
أيكفي هذا القدر الذي تعكسه اللغة من "الظروف الاجتماعية" لحياة الشعوب -وكذلك الحال بالنسبة للظروف التاريخية- لنقول بأن اللغة اجتماعية؟ نحن لا نظن ذلك.
لا تكون اللغة اجتماعية حقا في نظرنا إلا إذا كانت من خلق المجتمع، وإلا إذا كانت نظاما ملتصقا بالمجتمع. يقول الأستاذ فندريس: "في أحضان المجتمع تكونت اللغة
…
فاللغة وهي الحقيقة الاجتماعية بأوفى المعاني، تنتج من الاحتكاكات الاجتماعية، هذه هي أم المسائل: فما نصيب المجتمع، بوصفه مجتمعا في تكوين اللغة وتقدمها؟
يعترف الأستاذ فندريس بأن في تكوين اللغة عملية سيكولوجية "في نقطة البدء" وأنه "لم يتأت لكائنين بشريين أن يخلقا لغة فيما بينهما إلا إذا كان مهيأين مقدما لهذا العمل"، يقول إن اللغة تنشب جذورها في أقصى أعماق الشعور الفردي، ومن هنا تستمد قوتها لتتفتح على شفاه بني الإنسان، وإذن فإن كان يريد بهذا الاهتمام بأثر المجتمع الذي يبديه في كثير من الفقرات، أنه يبين فحسب مقدار المعونة التي لقيتها المنظمة الاجتماعية في تلك الوسيلة للتفاهم بين البشر، وكيف أدى التوفيق بين المواهب الإنسانية والحاجات الاجتماعية إلى تقدم المجتمع واللغة على السواء، إذا كان ذلك ما يرمي إليه، فإنه لا يسعنا إلا أن نتفق معه.
الواقع أن المجتمع استعمل اللغة. وقد استعمل شيئا من الضغط -ولا نقول من القسر1- في سبيل جعلها مناسبة من الوجهة العملية وفي سبيل استكمالها. بل لقد ساعد بشتى الطرق على جعلها من نظمه إذ يجب علينا أن نميز بين النظم الرئيسية والمؤسسات الثانوية2 ولكنا نرى أن اللغة في الأصل عامل
1 انظر مثلا ما يقول الأستاذ موس Mauss في مجلة L' annee ociol. مجلد 4 ص141 من أن "اللغة إلزامية لجميع الأفراد الذين تتكون منهم جماعة، فيمكن القول بأنها توجد خارج الأفراد". وما يقوله الأستاذ مييه في مجلد 9 ص2 من أن خصائص الخروج عن الفرد والقدرة على الكتب التي يحدد بها دركهيم الحقيقة الاجتماعية
…
تدل عليها اللغة أوضح دلالة".
2 انظر La synthese en Histoire ص133.
من عوامل المجتمع وليست من منتجاته. فاللغة ومعها اليد قد مكنت للمجتمع التوسع الذي هو عليه الآن وأن ما فيه من الترابط يبلغ من درجات الإحكام قدر ما يبلغ فيه التخالف من عظم، وهذا التخالف نفسه تساعد عليه اللغة كما تساعد عليه اليد.
ولكن الأستاذ فندريس لا يجعل دور المجتمع مقصورا على الإثارة. فبعد أن يقول: "لا وجود للغة خارج من يفكرون ومن يتكلمون. فهي تنشب جذورها في أقصى أعماق الشعور الفردي، لا يلبث أن يقول: "ولكن الشعور الفردي ليس إلا عنصرا من عناصر الشعور الجماعي الذي يفرض قانونه على كل فرد" فيؤخذ من كثير من فقراته أن اللغة بوصفها أداة الفكر وآلة العقل من خلق المجتمع حقا. "يعزو إميل دركهيم وجود الكليات إلى نوع من الضرورة تقف بالنسبة للحياة العقلية موقف الالتزام الأخلاقي من الإرادة: يعني أن الكليات اجتماعية الأصل وتتوقف على المجتمع" فالأستاذ فندريس يقبل هذه الفكرة من أفكار المدرسة الدركهمية التي يوضحها الأستاذ ليفي بريل Levy-Bruhl في كتابه: "Les fouctions mentales dans les soietes inferieures" "الوظائف العقلية في الجماعات البدائية". فها نحن أولاء في صميم مسألة ذات أهمية جوهرية بالنسبة للتفسير التاريخي، وهي دور المجتمع في تكوين المنطق.
نحن نرى من جانبنا أن الفكر يستمر بالحياة، وأن التفكير العملي وهو شعوري إلى حد ما، يسبق التفكير النظري، وأن اللغة، وهي التي تدعم التفكير العملي وتسمح وحدها بتقدم التفكير النظري، تعبر أساسا عن الطبيعة البشرية. فالإنسان بوصفه إنسانا هو خالق المنطق العقلي والمنطق العملي. فاللغة والتفكير، وكلاهما مرتبط بالآخر تمام الارتباط، إنما يترجمان عنه حين يصنف الأشياء ويقرر ما بينها من روابط. ولا يمكن أن يكون المجتمع هو الذي خلق الكليات المنطقية "CATEGORIES LOGIQUES". فالمجتمع له حاجاته ولكنه لا يفكر إذا كان في اللغة اطرادات ذات أهمية مختلفة عن أهمية الاطرادات التي تنشأ عن الرواية وعن
الظروف المحيطة وعن المحاكاة، فإنها ترجع إلى الوحدات الأساسية التي تتصف بها الحياة التصورية عند جميع البشر1.
تكلمنا في التصدير الذي قدمنا به للمجلد الثاني عن نصيب اليد في التطور النفساني، فالتقدم التدريجي في استعمال اليد استعمالا ينطوي على الذكاء يقابل تقدما مثله في التكوين النفساني وفي درجة الوضوح الداخلي. لم تساعد اليد باختلاف عملها على تيسير التعاون بين أفراد البشر فحسب: بل ساهمت بقسط وافر في معرفة العالم الخارجي. لأن المعرفة العملية المحضة المؤسسة على المنفعة والتي هي وليدة الميل معاصرة للحياة، والتهيئة ما هي إلا المعرفة. وهناك معرفة الواقع المجسم في كل تكوين عضوي، وهناك ميكانيكا وفيزيقا بالفعل في كل ممارسة للجهود العضلية "فقانون السببية قبل أن يدرك كان يحس به شيئا فشيئا، وذلك باتساع نطاق النشاط الإنساني في عالم يحكمه هذا القانون ويكون الإنسان جزءا منه، مكملا له".
وليس معنى ذلك أن موهبة التجريد والتعميم لا تستيقظ إلا مع اللغة، فبدون اللغة يقوم الانتباه والذاكرة بدورهما تحت تأثير الميل. والإنسان الفطري "الخام" Homo alalus كالحيوان يستخلص إدراكات شتى من الأحاسيس المختلطة التي لا تحصى. وهذه الإدراكات تنتج عن نوعها من الاختيار "فالذي يكون له أهمية عملية" من بين هذه الإحساسات "هو الذي يحض بالعناية"2 وهو الذي يستثير الانتباه. هذا إلى أن الذاكرة تنمي الانطباعات التي تستقبلها بتلك
1 انظر الخواطر القيمة التي نشرها د. بارودي D. parodi في مجلة الجمعية الفلسفية الفرنسية فبراير ومارس عام 1914 صفحة 90-91.
2 ابنجهاوس precis de psychologie: Ebbinghaus ص159، وقارن ريبو في المرجع السابق الذكر ص9.
التصورات التي تستقيها من الاختبارات السابقة. وبذلك تنفصل من الأشياء بعض السمات البارزة، تلك السمات المشتركة بين مجموعة من الأشياء1. وفي هذه الحياة التصويرية الأولى تلك الحياة الفردية الخاضعة للمصلحة، تتكون بعض الصور النوعية وتصير آلات عملية كالآلات المادية تماما، آلات تعمل على جعل الأشياء ملكا للشعور ومسودة له، وهي النواة المتواضعة للمعرفة النظرية.
اللغة، وهي في مبدأ أمرها انفعالية وفاعلة ثم تأليفية، كلما تنوعت لتقوى على تمييز الأشياء والصفات والحالات وكلما زادت مرونة بالتعبير عن علاقات العالم الواقعي المتنوعة أشد التنوع بكلمات قد جردت من معناها الحقيقي لتتخذ قيمة الأدوات النحوية، تلك القيمة التجريدية العامة، نقول كلما تقدمت اللغة في هذا المضمار، صارت قوة لا تبارى، وأمكنها أن تدير الملكة التي تميز الشبيه من المخالف، والتي من بعد ذلك تجرد وتعمم، تلك الملكة اللاصقة بالحياة لصوق الحاسة التي تميز بها رائحة الطيب من الخبيث، واللغة على هذا النحو تمكننا من "الاستيلاء على الأشياء أنفذ وأشمل من ذي قبل".
الإنسان لم يكن "الإنسان المفكر""Home sapiens" لأنه "الإنسان العامل""Homo faber" فحسب، بل أكثر من ذلك لأنه "الإنسان الناطق""HOMO LOQUENS" ويظهر أن تطور اللغة كان يقتفي عن كثب أثر تطورات الآلات المصنوعة. ويرى الأستاذ بول M. Boule أن الإنسان الهيدلبرجي" "Homo heidelbergensis" كان الحلقة الوسطى بين الإنسان الذي يتكلم والحيوانات التي تصيح، أما "الإنسان النيندرثالي" Homo neanderthalensis فيظهر أنه كان يملك مبادئ فكرية من اللغة الملفوظة2.
ولكنا لسنا في حاجة إلى القول بأن الانتقال من الصورة النوعية إلى الإدراك المحض كان متناهيا في البطء فالكلمة في بادئ الأمر كانت "ضئيلة الشأن" ثم
1 أحدث ما أخرج في سيكولوجية الانتباه يبرز دور الهياكل العامة أو الصور المخلخلة التي تتميز بخضائصها الفردية البحتة وبعدم قابليتها للتألف أصلا. انظر ريفودلون Revault d' Allonnes في بحثه "الصور العليا للانتباه" في مجلة علم النفس ص232.
2 بول. Les Hommes Fossiles: Boule ص154 و237.
ارتفعت بالتجريد حتى صار ينطوي تحتها أعم الخصائص وأخفاها على المعرفة وهي التي ثبتت أكثر الأفكار عمرانا "بالمعرفة التي بالقوة" من العدد والمكان والزمان والسبب والقانون والنوع. "تنتقل الكلمة من العدم إلى السيادة المطلقة، والشخص ينتقل من الكينونة الكاملة إلى العدم"1.
ومما لا يحتاج إلى تقرير أيضا أن دور المجتمع هنا كان حاسما، وإن لم يكن مباشرا. والكلام قد مكن للإدراك من أن ينتقل من دماغ إلى آخر: والمجتمع يحبذ وينشط تعاون الأفهام، أو "التمويل" العقلي. ولكن إذا كان هذا التعاون المنطقي مما ينتج في المجتمع فإنه ليس ظاهرة اجتماعية. بل على العكس من ذلك يجب أن تقرر أن الكلام بتسخيره للذكاء الفردي في خدمة المجتمع، يزيد في شعور المجتمع شعورا واضحا بحاجاته النوعية، ويسمح له بأن يتطور تطورا معقولا.
والقدرة على التجريد والتعميم التي هي من خصائص الإنسان والتي تتفتح في العقل، ليست عند جميع البشر على السواء. المخترعون "أولئك الذين يولدون بموهبة التجريد أو عبقرية التجريد"2 والقدرة على التجريد التي كانت عند المخترعين عملية محضة في بادئ أمرها تصبح نظرية على التدريج بمساعدة الذخيرة المتجمعة والممارسة الفجائية ولعب الملكات العقلية. وذلك دون أن تختفي الحاجة الأولى، أي المصلحة. لا نريد بذلك أن نقول إن هناك نشاطا عمليا يبقى، ويصل أحيانا إلى درجة لا نظير لها من الأهمية والسطوع فحسب3 بل إن أشد أنواع النشاط إيغالا في الناحية التأميلية يتجه في نهاية الأمر-بناء على المبدأ الذي بنينا عليه رأينا- في أغراضه الخفية وفي غايته القصوى، نحو التسلط على الأشياء، ونحو تحرير العقل، نحو قمة الإنسانية العليا. فالعلم "أداة حيوية" حتى في أبعد صورة من الوجهة العملية من حيث المظهر، ولا سيما في هذه الصورة. "إذا كان الإنسان يسجل له في كل يوم انتصارا
1 ريبو: المرجع السالف الذكر، صفحات 100، 116، 148.
2 ريبو: المرجع السالف الذكر ص 246.
3 انظر ل. فيبير Le rythme du progres: L. weber.
جديدا على الطبيعة، بينما يستأنف الحيوان في كل يوم جهاده القاصر ضدها دون نتيجة حاسمة، فذلك لأن الإنسان يعرف في بعض الأحيان كيف ينظر إلى العالم منزها عن الغرض. أما الحيوان، ذو الروح المسرف في الناحية العملية فإنه عبد إدراكه الذي يحمله دائما على القيام تقريبا بعمل واحد آلي بعينه". فالبحث عن الحقيقة المنزه عن الغرض هو آكد الوسائل للوصول إلى المنفعة1.
أما عن الدور الذي قامت به الكتابة والطباعة في سبيل البحث عن الحقيقة -وهما كما هي الحال في اللغة، خليط من اختراعات عديدة قد حوكيت وتنوقلت وطبعت بالطابع الاجتماعي- فذلك ما ستكشف عنه المجلدات التالية. فالكتابة قد خلقت أشياء متكلمة، والطباعة أكثرت من عددها إلى غير ما حد وخلدتها. وهكذا أمكن للفكر أن ينتظر على المكان والزمان والموت2 ولكن كثيرا ما ينتهي التفكير المجرد إلى سراب وإلى الابتعاد عن الجادة. فالفكر في هذه الحال يجول في "عالم غير مخلوق يرجع إلى عهد الإنسان البدائي". عالم الأفكار، الذي هو أيضا عالم الألفاظ -من حيث المبدأ- وكان يمثل الأشياء3 ظن الإنسان بطبيعة الحال أن كل كلمة تقابلها حقيقة واقعية: ومن هنا نشأ الاعتقاد في الأصنام وفي جوهر الأشياء المحقق عمليا. ولما كانت بعض الألفاظ تحدث آثارا معينة، كان من الطبيعي أن يظن بأن كل كلمة لها هذه الصفة. "فالشخص الذي يدعو إليه صاحبا له موجودا على بعد منه، ويراه يهرول ملبيا نداءه، يسخر في ذلك قوة تختلف اختلافا واضحا عن القوى المادية، عن القوة
1 انظر د. رستان La science comme instrument: D. Roustan.vital"، في la Revue de Met. et de Mor. سبتمبر 1914 صفحة 612-643.
2 انظر كورنو: Essai sur les fondements de nos connaissances ص 317 ولا كمب L'histoire consideree comme science: La combe، صفحة 197 وما يليها، ود. ماجوسكي D. Majewski: la science et la civilisation، ص242.
3 بل يبدو أنه يحتفظ ببعض من حقيقة هذا الشيء: ومن ثم نشأت حوله بعض الأعمال السحرية -انظر فيبير في المرجع السالف الذكر ص92، وفي مجلة الجمعية الفلسفية الفرنسية ص74-75، ريبو المرجع السالف الذكر ص 108.
الناجمة عن سلاح الطعن أو سلاح الرمي، لا شك أن هناك نصيبا من الحقيقة في هذه الفكرة التي يقول بها الأستاذ ل. فيببر من أن ممارسة اللغة قد ساهمت في استخراج معنى للسبب الفاعل يختلف عن ذلك الذي ينتج عن ممارسة الفنون المادية.
هذه العقلية التي تستخدم الكلمات استخداما تحكميا أطلق عليها اسم العقلية "قبل المنطقية" وقيل إنها من أصل اجتماعي خالص1. ويبدو لنا أنها آتية في الواقع من حياة الفرد الانفعالية، ولكن الذي يستبقيها ويساعدها على التطور إنما هي الحياة الاجتماعية التي هي حياة انفعالية في أصلها إلى حد كبير والتي تخلق، بتقويتها لحالات الفرد الانفعالية، نوعا من الوسط الغيبي لا يتطرق إليه الاختبار، إن قليلا وإن كثيرا. ففي المجتمع تنمو التصنيفات وتزداد قوة، وليست التصنيفات قبل المنطقية هي التي نعنيها هنا، بل التصنيفات الغريبة على المنطق التي يوجدها "الفن الكلامي" إلى جانب الفنون المادية. والسلطة الاجتماعية التي تقوم مقام رقابة الواقع الخارجي بتأسيسها للتفكير تشل العقل إن قليلا وإن كثيرا، وبعد أن يتحرر العقل ويشتد في وقت ما يظل زمنا طويلا يحتفظ بدرجة مسرفة من الثقة في بعض الأسس الخداعة وفي سراب الألفاظ2.
يجب أن تظل الإدراكات منطوية على الحقيقة الواقعة حتى يستطيع العقل أن يشتغل بالكلمات بطريقة مجدية. فالمثل الأعلى في كل صورة يتولد من اللغة، ولكن هناك من المثل العليا ما هو فارغ أجوف. وبمضي الزمن يصل العقل في كفاحه المنطقي، إلى تشبيه الأشياء بالعقول وبالتالي إلى تشبيه العقول بعضها ببعض.
ولعل المجتمع النهائي سيقوم على وحدة العقول، ويمكننا أن نقول بأن العلم لم يؤد من خدمات اجتماعية بقدر ما أدى منذ أن تحرر من كل سلطة اجتماعية بل من كل نظام اجتماعي ليصير موضوعيا محضا، أي ليصير في نفس الوقت
1 انظر لوسبان ليفي بريل L. levy-Bruhl المرجع السالف الذكر. جرانيه: المقالات سالفة الذكر، مارس، أبريل 1920، 187، La synthese en Histoire ص195 وما يليها.
2 نفس المرجع ص 188-263، فيبير وريبو وجانيه في المراجع السالفة الذكر.
فرديا وعاما لا اجتماعيا، لأن هذين أمران يختلفان كل الاختلاف.
قامت حول المنطق، وحول تقدم اللغة، مناقشات حارة في سنتي 1912، 1913 في الجمعية الفلسفية الفرنسية، وقد ساهم فيها الأستاذ فندريس. وكان الباعث عليها وأساسها تلك الأعمال الممتعة المثيرة التي قام بها المأسوف على حياته لويس كوتيرا في اقتناع يقوم على التفكير العميق. عمل كوتيرا على أن يخرج للوجود لغة دولية تفرض نفسها على جميع الشعوب وجميع العقول بعملها على تحقيق الاتجاهات العميقة التي يتجهها التطور اللغوي. والواقع أنه كان يعتقد أن التفكير الإنساني واللغة يرتبطان أحدهما بالآخر بعري وثيقة، وقد كان يجمع إلى تبحره العظيم في مسائل المنطق اطلاعا دقيقا على المسائل اللغوية، فراح يبين أن بعض "الحدود أو الفصائل" الأساسية يمكن استخلاصها من الدراسة المقارنة لجميع اللغات الإنسانية، معتمدا في ذلك على دراسات الأستاذ مييه meillet أكثر اللغويين اصطباغا بالفلسفة. تلك الدراسات البارعة في سعة المعرفة وخطورة النتائج. فعنده أن هناك نحوا عاما "grammaire generale" لأن هناك عقلا إنسانيا؛ "الإنسان ليس له عقل لأنه حيوان اجتماعي أو "سياسي" كما يقول أرسطو، بل إنه حيوان اجتماعي لأن له عقلا"1.
فلنحدد موقف الأستاذ فندريس في المناقشات الدائرة حول الفصائل لنرى كيف تستقيم، في هذه النقطة سسيولوجيته البادية، وتتقلص بسبب الحقائق المكتشفة كما وقع لدركهيم Durkheim نفسه في كتبه الممعنة في التقرير، ولليفي بريل2. "فتصور عقل إنساني ذي قوانين ثابتة لا تتغير ومتماثل تمام التماثل
1 انظر كوتيرا: La logique et la philosophie contemporaine في la Revue de met. et de mor مايو 1909، وعن البنية المنطقية انظر نفس المرجع يناير 1912. وقارن ما في مجلة الجمعية الفلسفية الفرنسية، فبراير 1912، ومايو 1913. وانظر لالاند L'oeuvre de louis couturat: Lalande في المجلة السابقة، عدد سبتمبر سنة 1914.
2 انظر La synthese en histoire ص174 ومجلة الجمعية الفلسفية الفرنسية، عدد فبراير 1912 ص64.
في كل الأرجاء" يبدو له -وهو على حق- موضع نظر: ولكنه يعلن بأنه لا ينكر إنسان وجود بعض سمات أساسية مشتركة مهما اختلفت العوائد العقلية بين شعوب الأرض"، ويفوض الأمر إلى المناطقة ليقرروا "ما إذا كان وراء الفصائل النحوية المختلفة الألوان فصائل منطقية تجري على كل اللغة وتفرض عليها جميعا بحكم تركيب المخ الإنساني1.
أما عن الأصول فإنه يجمع الاعتراضات تلو الاعتراضات ضد الجهود التي عملت لإرجاع اللغات إلى الوحدة ويبدي تحفظا شديدا أمام نتائج الطريقة المقارنة. ويعترف مع ذلك "بأن العلماء قد نجحوا في تكوين عائلات لغوية كبيرة"، ويضيف قائلا:"وليس من شك في أن تقدم الفيلولوجية المقارنة سيؤدي إلى ازدياد عدد الأسر اللغوية الصحيحة التكوين"2.
وأما عن التطور فيقول: "فنحن نجني ثمار التحسسات العقلية التي قام بها أسلافنا الغابرون، فهم الذين سهلوا مهمتنا بتحضيرهم لعقليتنا فما أكثر ما بذلوا من وقت ومن مجهود في تمرين الدماغ الذي ورثونا إياه، تمرينا جعلنا لا نشعر حتى بوقوع هذا التمرين"3.
ويعترف الأستاذ فندريس على رغم الغيبية التي "تحيط بالعقلية البدائية من كل جانب" بأن هناك "عنصرا عقليا" يتدرج شيئا فشيئا حتى ينتهي بالغلبة4. ويبين بقوة عظيمة في أي اتجاه تسير اللغة: فهي تسير من المشخص إلى المجرد، ومن الغيبي إلى العقلي. ولغات المتوحشين مفعمة بفصائل التشخيص والتخصيص، أما لغات المتحضرين فلا يكاد يوجد فيها إلا الفصائل التجريدية، وإن وجدت غيرها فهي في سبيل الانقراض. وفكرة الزمن، ودرجتها من حيث التجريد
1 انظر آخر الفصل الثاني من القسم الثاني والصفحات الأخيرة من الفصل الثاني من القسم الثالث.
2 انظر آخر الفصل الخامس من القسم الرابع.
3 انظر أول الفصل الأول من القسم الخامس.
4 انظر الصفحات الأولى من الفصل الأول بالقسم الخامس، وانظر la aynthese en histoire من ص191-195.
أعلى من درجة الفكر المكانية، تلعب في لغات المتمدينين دورا أهم من الدور الذي تلعبه في لغات البدائيين1.
وعندما تتحلل ذاكرة الفرد نرى" المجرد أثبت عنده من المشخص. ولعله يمكن تفسير ذلك بأن التجريد ينفذ إلى الدماغ بعد مجهود عقلي ويتطلب من الذهن تركزا، أما المشخص فليس إلا انعكاس الأشياء في مرآة الوجدان"2.
القول بأن التطور اللغوي مرتبط بالمدينة بصلات وثيقة ليس معناه إنكار المجهود المنطقي، أو دور العامل الإنساني، وإنما معناه الحد من دور العامل الاجتماعي، فالمدينة شيء والمجتمع شيء آخر.
ولكن ما هي المدنية على وجه التحقيق؟ هل يترتب على المدنية وجود ترتيب تصاعدي للغات، أو تقدم لغوي؟ يقابل الأستاذ فندريس هذا السؤال بريب شديد، ريب يجب أن نقابله بدورنا بالاحترام التام، لأنه يقوم على إحساس حاد بتفاصيل الواقع اللغوي المتفرقة المتحركة، وعلى الحذر من الأفكار السائرة التي تعرض على أنها معرفة نقية خالصة. ووجهة نظره في ذلك هي وجهة نظر العالم اللغوي المرتبط بواقع الأشياء، فنراه يطيل القول عن الفصائل النحوية في اللغات المختلفة وعن العقبات التي يلاقيها المنطق وعن سراب اللغة الصناعية الخداع. ويذهب إلى حد القول:"بأننا لا حق لنا في اعتبار لغة معقولة تجريدية تفوق لغة أخرى مشخصة غيبية، لمجرد أن تلك الأولى هي لغتنا. إنهما في الوقع عقليتان مختلفتان يمكن لكل منهما أن يكون لها ناحيتها من الفضل إذ لا شيء أمام شخص من أهالي سريوس "Sirius" يستطيع أن يبرهن له على أن عقلية المتمدنين عقلية منحلة"3.
ولنقرر مرة أخرى أنه يروقنا في كتاب الأستاذ فندريس هذا النصيب المبالغ فيه من الشك العلمي، لأنه في رأينا لا يرفع من قدر كتابه فحسب، بل يرفع جميع
1 انظر الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب.
2 انظر آخر الفصل الثالث من القسم الثاني.
3 انظر الصفحتين الأخيرتين من الكتاب.
أجزاء المؤلف الذي يتشرف باشتراكه فيه. وهكذا تجد منه الدعاوي التي نقترحها ولا نفرضها ممحصا ثاقبا. ونعتقد أنها ستخرج من بين يديه وقد زادت قوة لا ضعفا، وذلك برغم بعض المظاهر، ودون أن يعمد الأستاذ فندريس إلى الوصول إلى هذه النتيجة، "وتلك هي عين الخبرة".
مسألة التقدم مسألة معقدة، ومن العسير تحديد "القيم" التي تتحق بها المدنية: إن تطور البشرية بأسرها هو الذي يقدم لنا حلا لهذه المشكلة.
رأينا مقدار المسائل العامة التي يثيرها كتاب الأستاذ فندريس ومقدار العناصر القيمة التي حشدها لحلها. أما المسائل الخاصة فقد أبرزها جميعا وعالجها في فصول رزينة مشبعة، بطريقة تظهر النتائج التي وصل إليها وتشير إلى البحوث التي ينبغي أن تعمل. ولم يخصص فصل لهذه الناحية، لأن الكتاب كله، كما تصوره مؤلفه، إحصاء لما عمل في هذا الميدان ولما يجب أن يعمل.
كانت الجمعية الفلسفية قد رغبت في المناقشات التي أشرنا إليها إلى لويس كوتيرا أن يلخص مسائل علم اللغة في مجلد يكون "في متناول الجمهور". ولكنا نقرأ في آخر العدد الصادر من المجلة في مايو سنة 1913 ما يلي:
"عدل الأستاذ كوتيرا، مؤقتا على الأقل، عن مشروع وضع المتن الذي كان قد اعتزم إخراجه في المنطق اللغوي
…
لأنه علم أن الأستاذ فندريس يعمل على إخراج مؤلف في علم اللغة، يبدو أنه يجيب رغبات أساتذة الفلسفة ويسد حاجاتهم".
ها هو ذا الكتاب: سيكون مفيدا للغويين ولكل من يهتمون بعلم اللغة على اختلاف مشاربهم، ولكن لعل فائدته الأساسية، وهو على النظام الذي هو عليه، تقوم على بيان أن علم اللغة ليس علما قائما بذاته، وأنه يندمج في التاريخ. فالحياة والفكر ينصبان في اللغة. واللغات الميتة مثلها مثل الحفريات التي تحتفظ بطابع الكائن الحي. واللغات الحية تعبر في قوالب متغيرة ولكن النصوص
تسجلها، عن جميع العمل الداخلي، وعن جميع الآثار الخارجية للحياة الفردية والجماعية. فإذا كان العالم اللغوي في حاجة إلى التاريخ، فإن المؤرخ في حاجة إلى علم اللغة: إذا كان يتصور التاريخ على أنه تفسير عميق لتلك الحياة الموغلة في التعقيد، لا على أنه مجرد حكاية أمينة لما كان1.
هنري بر
ملاحظة:
لاستكمال مراجع هذا الكتاب من ناحية السيكولوجيا، نعتقد من المفيد أن نشير إلى المرجعين الآتيين "Traite de psychologie" ذلك المؤلف الذي تخرجه طائفة من علماء النفس تحت إرشاد ج. ديما G.dumas، ففيه مقالان عن اللغة في الجزء الأول "le langage، association sensitivo- motrice" بقلم بارا Barat وشالان Chaslin. وفي الجزء الثاني "La langage، operation"؛ "intellectuelle بقلم دلكروا Delacroix. هذا إلى أن الـ"Journal de psychologie" الذي يصدره ب. جانيه وج. ديما، سيصدر قريبا عددا خاصا باللغة.
1 خير من أدرك هذه الفكرة وعبر عنها من المؤرخين هو لوسيان فيفر Lucien febvre انظر ذلك في: Revue de synthese historique مجلد 23، أكتوبر 1911 و Histoire et linguistique ومجلد 27، أغسطس، أكتوبر 1913 و Le developpment des langues et l.htm' histoire.