الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة: تقدم اللغة
تقدم لنا الكتابة مثالا فائقا على تلك الأدوات التي يخلقها الإنسان والتي تستكمل مع الزمن وجوه الكمال التي يستلزمها الاستعمال أو يوحي بها فبين العلامات التي كانت تحفر بالأمس على الأحجار وبين الحروف التي تطبع اليوم على الورق تقدم شاسع لا ينحصر في الناحية المادية وحدها.
يتوقع الإنسان أن يصل إلى مثل هذه الخاتمة في دراسة اللغة باعتبارها نتيجة عمل عقلي قامت به الأجيال المتوالية. أليست أداتنا اللغوية أيضا تسير في طريق الإصلاح المستمر؟ والتراكيب المتنوعة التي يصب فيها العقل الأصوات لكي تترجم عن الأفكار، ألم تحقق هي أيضا شيئا من التقدم في خلال الأجيال؟ واللغة تبدو لنا في حركة دائمة، أهي حركة خادعة تبلى مكانها في مجهودات عقيمة؟ أم أن اللغة تهدف نحو غاية مثالية لا تني تقترب منها في كل خطوة من خطوات تطورها؟ نحن نعرف تاريخ بعض اللغات في خلال فترات واسعة ممتدة، ونراها في غالب الأجيال تتغير بسرعة عظيمة، فنحن إذن على حق أن نتساءل عن معنى هذه التغيرات، أو بعبارة أخرى أن نعرض على بساط البحث مسألة تقدم اللغة.
ولكن من المناسب أولا وقبل كل شيء أن نحدد ماذا نعنى كلمة "تقدم اللغة" فأولئك الذين يستعملونها لا يفعلون أكثر من إدخالهم في علم اللغة مصطلحا من تاريخ الأدب، إذ إن العادة قد جرت وقتا طويلا على اعتبار معنى التقدم في الأدب دينا ومذهبا؛ فكان الناس لا يرون في تطور الأنواع الأدبية genres litterraires إلا صعودا نحو الكمال أو انحدارا إلى الانحلال. وهذا هو الرأي الكلاسيكي الذي يذهب إلى أن الفن والذوق بعد أن يصلا إلى درجة
كمالهما لا يسعهما إلا الانحدار والفساد، وعلماء الفيلولوجيا الكلاسيون قد نقلوا هذه الفكرة إلى الدراسة اللغوية متخيلين أنه يوجد في تاريخ الإغريقية واللاتينية نقطة كمال وصلت إليها هاتان اللغتان بعد مجهودات طويلة، ومن بعدها سارتا في طريق الاضمحلال.
ففي اللاتينية كان شيشيرون هو المقياس، ومع ذلك كان يروق لهؤلاء الباحثين أن يفتشوا في كتاباته عن مواضع النقص، فأبعدوا من آثاره الخطابات التي كان يكتبها لأصدقائه على أنها كم مهمل لا يليق بقدره، واللاتينية الحقة عندهم تتلخص في طائفة من الخطب والدراسات الفلسفية التي تركها الخطيب الكبير وقد يضيفون إليها شروح قيصر وتراجم كرنليوس نيبوس Cornelius Nepos أما بقية الكتاب اللاتينيين فكانوا موضع ريب أو رفض صريح. فلكريس lucrece كان خشنا قليل العناية، وبلوت plaute متبربر لم يصقل بعد، وسلوست Salluste موبوء بالحوشية، وتيت ليف Tite-live يفوح بالريفية و Tacite غريب الأطوار مشتت الذهن، كأنه يجد لذة في الإكثار من الأخطاء اللغوية. وكانوا لا يقدرون مؤلفي العصر الإمبراطوري إلا بمقدار اقترابهم، بواسطة التقليد الأعمى، من لغة شيشيرون التي قرروا أنها مقياس اللغة اللاتينية.
ويمكننا أن نقول هذا القول بعينه في اللغة الإغريقية، وهذه الطريقة في معالجة اللغات القديمة تقوم على الخلط الكريه بين اللغة الأدبية واللغة بوجه عام، اللغة التي يتكلمها جميع الناس في القطر كله والتي تتغير مع الزمن. نعم، لعلماء اللاتينية أن يقرروا مثالا أعلى للغة اللاتينية وأن يفرضوه على طلاب هذه اللغة في موضوعاتهم الإنشائية. فهذه خطة النحو المذهبي الذي يتلخص في هذه العبارة التقليدية: قل كذا ولا تقل كذا، واتباعها يتفق مع تقاليد الكتاب اللاتينيين الذين كانوا يرون في شيشيرون استاذا ومثالا يحتذى، ولكن هذه الخطة الصناعية لا ينبغي أن تطبق على دراسة اللغة.
ومع ذلك فهذا ما كان يعمله لغويو القرن المنصرم1 الذين كانوا يقررون
1 ولا سيما شليشر: رقم 197، ص34، ورقم 198، مجلد 1، ص13-17.
على عاتقها أن ترد إلى اللغات الحديثة اعتبارها وترى أن أكمل اللغات هي تلك التي قطعت في التطور أطول شوط وهي بذلك لا تؤدي إلا إلى إيقاظ تلك المعركة الخالدة، معركة القديم والجديد، بتطبيقها على المسائل اللغوية، وتتجدد هذه المعركة كل خمسين عاما، فتكشف لنا عن ميل الناس إلى الأشياء المتناقضة وعن الإغراء الذي توجهه إليهم الأشياء القديمة والأشياء الحديثة كل بدورها.
ولا شك أن بعض اللغات الحديثة كالفرنسية والإنجليزية تتمتع بأوفى قسط من المرونة واليسر والطواغية فالفرنسية تمتاز خاصة بدقتها ووضوحها، لا تطيق التبذل ولا الإغراق في المبالغة ولا ذلك البريق الذي تجيزه لغات مجاورة، وإنما مسعاها الأول إلى الدقة الذي لا تحتاج إلى مزيد من شرح ولا تدعو حالتها إلى اعتذار عن تقصير على حد تعبير فولتير. ولكن هل يستطيع إنسان أن يدعي أن اللغات القديمة كالإغريقية أو اللاتينية تقل عنها شأنا؟ وإذاكان علينا أن نختار من بين سائر اللغات تلك اللغة التي تستحق أن تكلل بالغار، فمن يجرؤ على تضحية اللغة الإغريقية؟ ومن ذاق مرة حلاوة هذه اللغة ذات الجوهر الرباني، وجد كل لغة عداها، إما تافهة وإما مرة. ولسنا نتكلم عن الأفكار التي جعلت تلك اللغة وعاء لها، ولا تلك الآداب التي تعتبر بحق مدرسة للحكمة والجمال، و"كنزا من دواء الروح" كما كان يتكلم المصريون عن كتبهم، فاللغة الإغريقية في شكلها الخارجي، دون أي اعتبار آخر، تعد متعة عقلية معدومة النظير وليس ائتلاف النغم ورقة الأصوات وثراء المفردات كل مزاياها، بل ليست أقوم ما فيها من مزايا، ففي ميدان النحو تمتاز الإغريقية من بين سائر اللغات بدقة دوال النسبة فيها التي ترهف تركيب الكلمات، وبالمرونة الخفيفة التي تميز تنظيمها وتعمل على إظهار التفكير في كل قيمته وتحيط بكل حناياه ومنعرجاته، وتكشف بشفافيتها عن كل دقائقه، ولا نعلم أن الوجود قد رأى أداة أكمل منها في التعبير عن الفكر الإنساني.
ولكن إذا علمنا أنه قد أمكن للغات أخرى من نوع آخر أن توفى بالحاجات المتنوعة التي تطلبتها أفكار لا تقل عن الأفكار الإغريقية ثراء وتعقيدا، رأينا أنه من العبث أن نبحث عن المثل الأعلى للكمال اللغوي في نوع من اللغات دون سواه.
وقد يكون من المسلى أن يقوم إنسان بالبرهان على أن اللغة التي كتب بها هومير وأفلاطون وأرشميد تفوق لغة شكسبير ونيوتن ودارون أو تتخلف عنها. فقد أمكن لكل هؤلاء أن يعبروا تعبيرا تاما عما أرادوا التعبير عنه، ولكن بوسائل مختلفة. وكلهم يتساوون في الفضل لأن كلا منهم أمكنه أن يجد في لغته العبارة المساوية لفكرته، والواقع أننا لا نعلم إطلاقا لغة قد قصرت عن خدمة إنسان عنده فكرة يريد التعبير عنها، فلا ننصت إذن إلى أولئك المؤلفين العاجزين الذين يحملون لغاتهم مسئولية النقص الذي في مؤلفاتهم، لأنهم هم المسئولون على وجه العموم عن هذا النقص.
نعم، إن من حسن طالع الكاتب أن يجد أمامه تقاليد يسير عليها وأن يستعمل لغة قامت بتحضيرها وصقلها سلسلة طويلة من الكتاب، ولكن الأمر هنا لا يعدو الاختلاف في درجة الصعوبة. يقول ديكارت Descartes في "حديث المنهج":"أولئك الذين يفكرون خير تفكير ويهضمون أفكارهم خير هضم ليجعلوها واضحة مفهومة، يستطيعون دائما أكثر ممن عداهم أن يفهموا الآخرين آراءهم ولو لم يتكلموا غير البريتانية السفلى".
ومع ذلك فإن المسئولية لا تقع كلها على موهبة الكاتب وحدها. إذ يجب أن نعمل حسابا للوسط الذي يعيش فيه أيضا. إذ لما كان المتكلم لا يتكلم إلا ليسمع والكاتب لا يكتب إلا ليقرأ، كان من الضروري للكاتب أن يجد له جمهورا على درجة من الثقافة نسمح له بفهمه. لقد قال نوفون Buffon في مثل ذلك:"لم نصل إلى الكلام الجدي والكتابة الجدية إلا في الصورة المستنيرة". ولو أن بريتانيا أراد أن يكتب مؤلفا فلسفيا بلغته، لتيسر له ذلك على أرجح الفروض؛ ولكن البريتانيين، أو الذين يتكلمون منهم البريتانية على الأقل، لا يحفلون بالفلسفة لسوء الحظ، كما أن الفلاسفة لا يفهمون شيئا في البريتانية على وجه العموم. ولذلك يخشى على صاحبنا ألا يقرأه إنسان ولا يفهمه إنسان، فطاقة اللغة تتوقف على عدد الذين يمارسونها ودرجة تعلمهم، وهذا هو السبب في أن اللغات الكلتية أقل قيمة من اللغات الرومانية أو الجرمانية، ومع ذلك فقد استطاعت الإيرلندية والغاية طوال عصور
عديدة أن تعبرا عن أفكار شعرية فائقة الجمال، لعلها آصل ما خلفته العصور الوسطى من هذا القبيل، وقد نأسف على أن دافيد أب جويليم Dafydd ab Gwilym لم يكتب بالإيطالية كما كتب دانتي أو بالألمانية كما كتب فلفرم فوق إيشنباخ Wolfram von Eschenbach: فكان يستطيع اليوم أن يتذوق شعره عدد كبير من الناس، ولكن ما معنى ذلك؟ أين يذهب مجد هومير أو أفلاطون في اليوم الذي يزول فيه تعلم الإغريقية من المدارس؟ لا شك أن نعيق الغراب وتغريد العندليب يستويان تماما يوم لا يجدان أحدا يصغى إليهما.
إذا تابعنا المناقشة المتقدمة، أقحمنا أنفسنا في طريق لا يؤدي إلى غاية، فقيمة اللغات من الناحية الجمالية أو النفعية لا يصح أن يكون لها حساب في الكلام على تقدم اللغة. فموهبة الكتاب تستطيع في فترة من النشاط الأدبي القوي والرخاء الوطني والسيادة السياسية، أن تخلع على اللغة درجة من الكمال تكاد تكون مطلقة وبالتالي حالا من الهيبة تفرضها على الكون بأسره. وهذا ما تيسر للإغريقية في العهد الأتيكي وللاتينيه في عهد أغسطس وللفرنسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولكن ينبغي في الكلام على مسألة تقدم اللغة أن نغض النظر عن مثل هذا الكمال المؤقت الذي قد تصادفه هذه اللغة أو تلك، بل إن فكرة الكمال بعيدة عن تقدير التقدم إلى حد أننا لا نستطيع تبريرها إذا أردنا تطبيقها على جزء واحد من أجزاء اللغة، كالأصوات مثلا أو الصور النحوية.
تمتاز بعض اللغات على بعضها الآخر بالانسجام والعذوبة، ويمتاز بعضها على غيره بسهولة النطق. ومع ذلك فليس القصد إلى تزويد النطق ببعض المزايا التي تنقصه هو الذي يتحكم في مصير التغيرات الصوتية. هذا إلى أن تقدير هذه المزايا يرجع إلى حد كبير إلى الذوق الشخصي، ومن ثم يدخل في المناقشة عنصر ذاتي من شأنه أن يزيفها من أساسها.
كذلك ليس من اليسير أن نبرر فكرة التقدم في ميدان النظام الصرفي، إذا اقتصرنا في ذلك على البنية النحوية.
كان ميدان البحث اللغوي منذ أربعين عاما يخضع للنظرية القائلة بأن اللغات تمر بحالات ثلاث على التتابع: حالة العزل وحالة الإلصاق وحالة الإعراب. وكان من المسلم به أن كل لغة من اللغات المعروفة كانت على إحدى هذه الحالات الثلاث وفقا لمرحلة التطور التي عرفناها فيها. ومعنى ذلك أن هذه النظرية كانت تسعى إلى حصر التقدم اللغوي في النظام الصرفي1.
ما سبق أن قلناه عن تغيرات النظام الصرفي والروابط التي بين دوال النسبة والكلمات، يكفي للحكم على ما في تصور تاريخ اللغات على هذا النحو من زيف. لسنا ننكر أن العناصر النحوية آتية في غالب الأحيان من بلى كلمات قديمة كانت قائمة بذاتها. وأننا قد نجد في المفردات أصل اللواحق، بل والزوائد التي عمل الزمان على إلصاقها بالكلمات المنتهية بها، ومن ثم كان إلصاق العناصر التي كانت منعزلة في بادئ أمرها يسمح للغات بأن تجدد نظامها الصرفي. ومن جهة أخرى، كثيرا ما يعمل البلى الصوتي على اختزال طوال الكلمات وهدم الإعراب وإرجاع الكلمات التي كانت قد صارت متعددة المقاطع إلى حالة وحدة المقطع، أي إلى إحياء حالة الإلصاق من جديد.
ولكن هذه الحالات المختلفة تنشأ عن أسباب تعمل جميعها في وقت واحد في كل اللغات: أسباب تؤثر على كل نقطة في النظام الصرفي ويتوقف إخفاقها أو نجاحها المؤقتان على ظروف خاصة بكل لغة. هذا إلى أن التغير لا يكون تاما إطلاقا فكيرا ما تبقى الصيغ القديمة إلى جانب الصيغ المستحدثة. حتى لنلاحظ في النظام العام للغات التي لها تاريخ طويل والتي عانت تطورا ضخما كالفرنسية أو الإنجليزية مزيجا من النظم التي تضم حالات مختلفة.
وهكذا كانت وحدة المقطع تعتبر في يوم من الأيام من مميزات اللغة الإنجليزية. والواقع أن الإنجليزية تمتاز بصيغها القصيرة التي قد تصل إلى وحدة المقطع، بخلاف صيغ الإنجليزية القديمة المكدسة بالمقاطع والمثقلة باللواحق والزوائد. وهذه نتيجة البلى الصوتي الذي كان بعيد المدى في الإنجليزية. وكان يمكن للغة
1 انظر خاصة هو فلاك: رقم 84، مستيلي: رقم 182، وسيس: رقم 138.
أن تقاوم هذا البلى كما فعلت لغات أخرى. فاللغات الرومانية مثلا تتجنب وحدة المقطع بإضافة اللواحق، إذ تقول في الفرنسية Soleil "شمس" حيث كان يقوم اللاتينيون Sol، واستعضنا بالفعل Gemir؛ "il gemit: يئن" عن الفعل القديم geindre؛ "il geint يئن" "مقطع واحد" وقد لوحظ أن اللغة الأسبانية لا تكاد تحتوي على كلمة واحدة تتكون من مقطع واحد.
ومع ذلك فلا ينبغي لنا أن نبالغ في وحدة المقطع الإنجليزية التي ليست في غالب أمرها إلا مسألة ظاهرية محضة1. ولنحاذر أن نخدع هنا بالكتابة أو بالعادات التي يفرضها علينا استعمال كتب النحو والمعاجم. فكثير من بين الكلمات الإنجليزية التي يمكن تمييزها بالتحليل النحوي، ليس لها وجود مستقل، وكثير منها ليست إلا دوال نسبة أولا توجد إلا في تراكيب ثابتة متصلة بدوال نسبة لا تستطيع الانفصال عنها. فجملة I DO'NT KNOW لا تحتوي على كلمات أكثر مما في اللاتينية nescio. إذ إن العنصر know -وهو أكثر عناصرها دلالة- لا يستعمل منفردا.
وكذلك العناصر الأخرى ليس لها وجود مستقل، وإنما هي أدوات نحوية غير قائمة بذاتها، ولا توجد إلا بوصفها عناصر من مجاميع قائمة بذاتها، هذا إلى أن وحدة المقطع في الكلمات الإنجليزية الأصل قد تضاءلت في وسط الكلمات التي استعارتها اللغة من اللاتينية والفرنسية. ونحن نعرف مقدار ترحيب الإنجليزية باستقبال الكلمات الأجنبية التي تراها مفيدة أو صالحة.
هذه العادة تسمح لها بألا تستعمل الاشتقاق في مفرداتها إلا لماما، فبينما نراها تترك جانبا كبيرا من الكلمات الوحيدة المقطع الموروثة من المتاع القديم على ما هي عليه دون أن تضيف إليها لواحق أو مزيدا من العناصر العرضية، نراها في الوقت نفسه تستقبل بين مفرداتها عددا كبيرا من الكلمات الفرنسية أو اللاتينية المتعددة المقاطع عن طريق الاستعارة.
كما أن معارضة حالة التصريف بحال العزل أو الإلصاق تبدو وهما من الأوهام إذا رجعنا إلى الصورة الكلامية التي فيها تختلط هذه الحالات المختلفة في تأليف
1 جسبرسن: رقم 133، ص10.
يوفق بينها. فالمتكلم إنما يتكلم بجمل لا بكلمات منعزلة. والفرق الوحيد الذي يوجد بين اللغات ينحصر في مكان دوال النسبة، وفي طبيعة الرباط الذي يربط هذه الدوال بالكلمات. وهو اختلاف عرضي لا جوهري. فلا نستطيع أن نستخلص منه قاعدة لتصنيف اللغات، ومن باب أولى لا يمكننا أن نرى فيه عنصرا نقيس به مسألة التقدم اللغوي.
ولا ينبغي أن ننسى أن كل تجديد لغوي لا يمكن أن يكون إلا ضئيلا. إذ لا يوجد في الميدان اللغوي كسب دائم يوفر اللغة التي نحصل عليه ثراء نهائيا.
فالربح المكتسب عرض زائل في كل الأحوال وكثيرا ما تقابله خسائر من ناحية أخرى. لقد رأينا كيف تمكنت الفرنسية من خلق أداة استفهام لها. ولزم لهذه الأداة، كي تحيا وتشتد وتنمو، تعاون ظروف عدة كلها عرضية. ويمكننا أن نتنبا، دون أن نتعرض لخطأ كبير، بأن هذه الأداة بدورها ستفقد عن طريق التطور الطبيعي هذه التعبيرية التي تملكها الآن وتصير عديمة القيمة ثم تخرج من الاستعمال. هذا هو تاريخ كل ما تكونه اللغة. ونحن نعرف كيف نشأت أدوات الاستفهام اللاتينية، على ما لها من صلاحية وقوة في التعبير، وكما أننا نعرف أيضا كيف بادت. فعبارة Num uides "لعلك ترى؟ "، إذا نطقت بنغمة الاستفهام صارت عبارة استفهامية في حالة توقع جواب منفي "كلا" وعبارة Videsne "لا ترى؟ " إذا نطقت بنغمة الاستفهام صارت استفهامية كأنها "ألست ترى؟ " وذلك في حالة ما يكون الجواب المتوقع بالإيجاب:"بلى". وكان ذلك ربحا قيما للغة اللاتينية ولكنه لم يدم، إذ لم يلبث أن تلاشى بفعل البلى الصوتي الذي حرم ne، num من قوتهما التعبيرية. فالتقدم، إذا صح لنا أن نستعمل هذه الكلمة، لم يكن إلا عابرا.
الخسائر أيضا لا يمكن أن تفسر بافتراض التقدم. فما يؤسف له أن الفرنسية الحديثة قد صيرت الزمنين الماضيين اللذين كانت تملكهما وهما الماضي المحدد والماضي غير المحدد، زمنا واحدا. مع أن الخلاف الذي كان يفرق بينهما كان خلافا حقيقيا، وكان استعمالها يمكن القارئ من البيان عن معان دقيقة، اختفت اليوم من الوجود
لاختفاء ما يعبر به عنهما، ونحن نعرف السبب الذي أدى بأحد هذين الزمنين "وهو الماضي المحدد على وجه العموم" إلى الضياع؛ وذلك أن الزمنين قد تكافآ وتعادلا؛ لأن الماضي غير المحدد "من قبيل j'ai fait"، كان في بادئ أمره زمنا مركبا ثم اتحد جزآه وفقد القيمة الحرفية التي كانت لا تزال تحس في فعله المساعد. ومن الممكن أن تشعر اللغة، بعد أن تعالى أثر هذا النقص، بالحاجة إلى التعويض عنه، فتصل يوما بوسيلة، إلى التمييز بين القصص البسيط الذي كان يعبر عنه فيما مضى بالماضي المحدد "il fit" وبين الحدث الذي كان يعبر عنه بالماضي غير المحدد "il a fait". ولكن سنظل حتى هذه اللحظة نتكلم لغة جردت من أحد عناصرها المفيدة. أما عن الماضي التابع غير التام l'imparfait du subjunctif فلا يمكن لأحد أن يشعر بمثل هذا الأسف على فقدانه؛ ومع ذلك فقد كان هذا الزمن يقوم بكثير من الخدمات الجليلة، إذ كان يسد فراغا كبيرا في نظامنا الفعلي بتكميله لسلسلة الأزمان. ومع ذلك فلا معنى للأسف عليه. لقد اختفى بالرغم من جهود المدرسة لحفظه من الضياع، إذ راح هو أيضا ضحية لاتجاهات لا تستطيع الإرادة الإنسانية لها دفعا.
وإذا كانت قائمة الأرباح والخسائر على هذا النحو في كل تطور صرفي، فلن تستطيع الوصول إلى تحرير معنى التقدم، فكل تغير يقع على اللغة لا يصيب إلا جزئية خاصة من جزئياتها، وليس له في ذاته أثر عام. نعم، لا شك أننا إذا نظرنا إلى لغة واحدة في فترتين من تاريخها، وجدنا أنفسنا أمام حالتين مختلفتين؛ فنلاحظ أن العناصر التي تكونها قد تغيرت وتبدل مكانها وانقلبت، ولكن الأرباح والخسائر تكاد تتعادل في مجموعها، وقد بينا فيما سبق لماذا لا نستطيع اللغة مطلقا أن تصل بتطورها الطبيعي إلى الكمال المنطقي الذي يمنح منحا إراديا للغات قد وضعت وضعا صناعيا من أولها إلى آخرها "انظر ص213". فالحالات المختلفة لكل تطور صرفي تذكرنا بالصور المختلفة التي نراها في الكالبيدوسكوب kaleidoscope الذي يمكن للإنسان أن يحركه دون خطة مرسومة فيتغير
ترتيب العناصر التي تكونه دون أن نحصل من هذا التغيير على شيء آخر غير ترتيب جديد.
ومع ذلك فإن كل شيء يتوقف على اليد التي تحرك الآلة.
والتطور اللغوي يعتمد اعتمادا وثيقا على الظروف التاريخية، فبين التطور اللغوي والظروف الاجتماعية التي تتطور فيها اللغة صلة وثيقة. إذ إن تطور المجتمع يستتبع تطور اللغة في طريق معينة. لذلك يحق لنا أن نتساءل عما إذا كان تاريخ اللغة يمثل مرآة ينعكس فيها تاريخ الحضارات، وإذا نظرنا إلى مسألة تقدم اللغة هذه النظرة، رأيناها تبدو أمام أعيننا في وضع جديد، يجدر بنا الآن أن نناقشه.
كثيرا ما لوحظ أن تطور اللغات يزداد سرعة بازدياد انتشارها في الخارج وبازدياد عدد الناس الذي يتكلمونها وتنوعهم. إذ إن انتشارها في أقاليم تحتك فيها بلغات أخرى يعرضها لأن تفقد خصائصها الموغلة في الذاتية، والتأثير الذي يقع عليها من الخارج يؤدي بها إلى التغير السريع. فإذا ما قارنا لهجة موطن أصلي بلهجة مستعمراته، تبين لنا أن هذه الأخيرة قد فقدت بعض القواعد النحوية الخفية الدقيقة؛ ذلك لأن التقاليد قد أبقت عليها في مهبط رأسها، ثم تلاشت بهجرتها بعيدا عن موطنها. من ذلك أن الاختلاف بين I shall و I will لم يعد له وجود في الإنجليزية المتكلمة في أمريكا؛ فلا يقال الآن إلا I will.
ومن جهة أخرى نرى أن حمل اللغة بعيدا عن موطنها يساعد الاتجاهات الكامنة فيها على التفتح بصورة أسرع وأكمل مما لو بقيت في مكانها، ومن ثم ظهرت بعض المستحدثات في الفرنسية المتكلمة في كندا قبل أن تظهر في غرب فرنسا الذي هاجرت منه الفرنسية إلى أمريكا في القرن السابع عشر، فالفرنسية الكندية تبدو فرنسية حوشية في بعض نواحيها، ولكنها في البعض الآخر تسبق فرنسية فرنسا نفسها، إذ إنها تخلصت قبل هذه الأخيرة من بعض السمات الميتة
التي عملت التقاليد على إبقائها1. كذلك الهولندية التي يتكلمها البوير قد سبقت هولندية هولندا في طريق التطور2.
اللغات التي لا تتنقل تعد لغات محافظة على وجه العموم، إذ إن اللغات التي لا تتكلم إلا في مساحة محكمة الحدودة بعيدة عن ملتقى طرق المواصلات الكبرى -التي تختلط فيها الأجناس- ذات طابع حوشي بين في غالب الأحيان. فاللتوانية أكثر اللغات الهندية الأوربية حوشية، لأنها لغة قوم زراعيين يقطنون إقليم غابات فقير، في معزل عن الأقطار الأوربية الكبيرة. وأصلح الأماكن للمحافظة على سلامة اللغة هي الأقاليم الجبلية وأطراف أشباه الجزر حيث يضؤل التأثير الخارجي. ومن ثم احتفظت البسكية بطابعها لانحصارها بين وديان البرينيه، وكذلك البريتانية لتحصنها وراء المحيط.
يؤثر المسكن أيضا على تطور اللغات. فإذا كان السكان مخلخلين متفرقين، فإن هذا التبدد يساعد على الانقسام إلى لهجات. وإذا كان السكان يعيشون متجمعين في محلات ومدن، فإن هذا النوع من الحياة يساعد على خلق اللغات المشتركة التي ليست في واقع الأمر إلا منزلة وسطى بين لغات الطبقات الاجتماعية المختلفة التي تضمها المحلة أو المدينة. ومن ذلك نرى أن التأثير الاجتماعي لا يعوق تطور اللغة أو يعجل به فحسب، بل أيضا يعين اتجاه هذا التطور ومداه. وكل ما قلناه فيما سبق عن أحوال اللغات المشتركة واللهجات واللغات الخاصة يصلح تمثيلا لهذا المبدأ العام.
وتوجه العوامل الاجتماعية نشاطنا العقلي أيضا. فتاريخ اللغات حين يشمل فترة طويلة من الزمن، يسمح لنا بأن نتبين بعض تأثير التطور الاجتماعي على عقلية البشر، وقد لاحظنا مثلا اتجاه اللغات العام نحو التخلص من الخصائص الغيبية لتسير في سبيل العقلية ونحو نبذ التعبير عن الأفكار المشخصة لترقي صعدا في معارج التجريد، ونحو اللغات الهندية الأوربية في أقدم صورها أكثر ذاتية
1 جدس Geddes؛ Study of a Candian French dialect ونقل عنه Meyer Lubke في Germ-rom - Monatschrift مجلد 1، ص133.
2 هـ. ميير H. meyer؛ Die Sprache der Buren، جوتنجن "1901".
وتشخيصا مما صار إليه فيما بعد، ففكرة الزمن في الهندية الأوربية تكاد تنحصر في التعبير عن الناحية الذاتية، أي في الدلالة على زمن الاستغراق، وبمرور العصور اتجهت إلى التعبير عن فكرة الزمن بمعناه الحقيقي، أي فكرة اللحظة.
وبحث لغات البدائيين يعضد هذه الملاحظة المستخرجة من التاريخ. فهذه اللغات تقدم لنا حالة لغوية ليس فيها نصيب أو لا يكاد يكون فيها نصيب لما نسميه بالمدنية. فهي مفعمة بالفصائل المشخصة والخاصة وبذلك تختلف عن لغات المتحضرين، التي تسير فيها الفصائل دائما نحو التدريج والتعميم. ذلك أن البدائي يعبر بدقة نادرة عن جحفل من التفاصيل المادية التي تغيب عنا. ويوجه إلى الاعتبارات المكانية مثلا نصيبا من الالتفات يفوق النصيب الذي نوجهه نحن إلى الاعتبارات الزمنية، إذ إن الحدث يمثل في ذهنه محصورا بخير، والروابط المكانية التي بين الأشخاص والأشياء يعبر عنها في لغته بفصائل خاصة كالروابط الزمنية أو أكثر منها1. ونحن نعرف أن الزمن أرفع من المكان في مرتبة التجريد، ومن ثم نرانا نحن المتحضرين نسقط من نظامنا الصرفي فكرة الحيز المشخصة ونقبل بارتياح على التعبير عن فكرة الزمن المجردة. وهذه نتيجة للمدنية.
لذلك نرى الطريقة التي تتلاشى بها الفصائل التشخيصية من اللغات تعضد أهمية الدور الذي تلعبه المدنية هنا، ومن أوضح الحالات التي من هذا القبيل حالة المثنى في الإغريقية "انظر ص 134". فاستعمال المثنى في اللهجات مرتبط بدرجة المدنية، والهجات التي فقدت هذا العدد منذ فترة ما قبل التاريخ هي نفس اللهجات التي كان يتكلمها أكثر الناس ثقافة. فلهجات المستعمرات سبقت في ذلك لهجة الوطن الأصلى، ونجد اللهجة الواحدة تحتفظ بالمثنى في القارة وتفقده عندما تستعمل في آسيا الصغرى أو في الجزر. هذه القاعدة عامة وتخلو من الاستثناء إذا غضضنا النظر عن بعض اللهجات كالأتيكية حيث تتدخل تأثيرات خاصة وثانوية، وإن كان تعرف هذه التأثيرات تعرفا جيدا يعضد القاعدة. ولهجات العواصم كما قلنا من قبل، أشد محافظة من لهجات المستعمرات؛ لأن الأخيرة تمثل لغة صفوة سكان
1 رقم 88 ص158.
المدن الإغريقية، لغة العنصر الذي يعد أكثر العناصر نشاطا وذكاء وحيوية ففي المستعمرات بدأت عوامل الحضارة في الازدهار، وكان الأدب في مقدمة هذه العوامل، وعلى هذا، فالاحتفاظ بالمثنى يبدو كما لو كان دليلا على حضارة متأخرة، واختفاؤه على العكس من ذلك يدل على تقدم الحضارة.
ولكن ينبغي لنا ألا نبالغ في أهمية المثل الذي استعرناه من اللغة الإغريقية، لأن هناك أسبابا أخرى، لغوية خالصة، تفسر بدورها أن المثنى قد اختفى في المستعمرات قبل أن يختفي في العواصم "انظر ص364". ولكن المثل الذي ضربناه باللغة الإغريقية ليس مقصورا عليها، إن تاريخ معظم اللغات ليؤيده، وحتى تلك اللغات التي لا تنضوي تحت لواء المجموعة الهندية الأوربية. ونفس بدعة حذف المثنى تراعى أيضا في اللغات السامية والفينية الأجرية. فاللغات التي تعد من أقدم اللغات السامية تقدما. لغات الحضارة القديمة كالآشورية والعبرية والآرامية والحبشية، لم تعد تستعمل المثنى إلا في بعض كلمات ذات دلالة مزدوجة، أما اللغة العربية -التي كانت حتى القرن السابع الميلادي لغة بدو ذوي حظ يسير من الحضارة- فقد احتفظت بالمثنى في الاسم والضمير والفعل، ويمكننا أن نقول أيضا: إن درجة الحضارة تحدد درجة الاحتفاظ بالمثنى في تاريخ اللغة العربية. وفي المجموعة الفنية الأجرية، نرى أن اللهجتين اللتين احتفظتا بالمثنى هما أقل اللهجات تطورا وهما اللهجتان الفوجولية والأستياكية، ولم نعد نعثر للمثنى على أثر لا في الهنغارية ولا في الفنلندية، وإذا هبطنا درجات في سلم الحضارات، وجدنا لغات تستعمل المثلث، كما هو الحال في لغات بعض الشعوب الأمريكية أو الأسترالية1.
ومما لا يحتاج إلى تنبيه أننا حين ندرس هنا العمليات النفسية التي تعد العدة للغة، فإننا نغض النظر عن الظروف النحوية التي تتكون فيها اللغة لأنهما شيئان تجب العناية بالتفرقة بينهما. إن ضعف التشخيص لا يحول دون التعقيد النحوي، وليست هناك أية صلة تقام بين طبيعة أطوار النفس وبين العدد أو بين ما في الفصائل النحوية من تعقيد. فالفصائل النحوية تعتمد قبل كل شيء على
1 رقم 88، ص157.
الذاكرة والذاكرة عند البدائيين نامية عادة نموا كبيرا. لقد فرضتها عليهم حاجيات كبيرة الأهمية وضرورات حيوية بالنسبة لهم، فنشاطهم العقلي لا تعاونه تلك الطرق العديدة التي تحل في سهولة ويسر عند المتحضرين محل الذاكرة، وتورثها الكسل دون أي ضرر في ذلك، ويخيل إلي أنه لم يهتم بعد بدراسة أثر الذاكرة في تطور اللغات. مع أننا نشاهد بعض لغات غير المتحضرين قد ملئت بالصيغ المتنوعة وظلت بهذا الوضع زمنا طويلا جدا، فنظمها الصرفية شديدة التعقيد أو أن مفرداتها كثيرة الثراء، ومثل هذه اللغات مرتبطة دون شك بتطور عجيب للذاكرة، ومن الطبيعي أن تكون الذاكرة محافظة، وعلى هذا فليس البناء النحوي هو الذي يكشف عن آثار اختلافات الحضارة، وإنما يكون ذلك في العناية التي يعبر بها عن التفصيلات المشخصة، فهناك رابطة بين درجة الحضارة والطابع المشخص إلى حد ما لأطوار النفس.
وبما أن ظاهرة سير اللغة نحو التجريد مرتبطة بتطور الحضارة فإنها ترينا كيف يجب علينا أن نفسر الأمثلة السابقة. إننا نعلم تماما أن اللغة تعد بمثابة انعكاس للضمير البشري، وأنها تعرفنا صورة النفس التي تحملها، ونفس الإنسان المتحضر أكثر قابلية للتجريد من نفس الإنسان البدائي؛ لأن ظروف حياة المتحضر توجه العقل إلى الاعتبارات المجردة على حساب كل ما هو مشخص فالتجارة تستلزم الحساب وبعبارة أخرى التفكير، وتطور الحياة السياسية تحبذ عادة ذوق الآراء العامة، وتمرين الفكر ينتقل بطبيعة الحال من الأمور المشخصة إلى الأمور المجردة ونستطيع أن نحكم على ذلك بأنفسنا، فلو أننا وازنا بيننا وبين أناس قريبي الجوار منا فأية فروق تتضح لنا من وجهة نظر التجريد بين العقليتين؟ والفلاح الأمي الذي يتكلم الفرنسية مثله تقريبا مثل غير المتحضر الذي ليس في متناول يده للتعبير عن آرائه غير اللغة الفرنسية. وإن عقليته للتصورها أداة ناقصة. وعلى هذا فهو لا يعجز عن أن يستكمل ما فيها من نقص ليجعلها صالحة لاستعماله، فهو يحيد بها عن المجردات ليسلكها في المشخصات التي يهتم بها دون سواها. إنه ليدخل فيها مثلا أسماء الأصوات وصيغ التعجب، وإنه ليحل المفردات محل
الفصائل المشخصة إذا غابت؛ وهو يقضي على كل ما هو قطعي ومنطقي في جملنا بإساءة نطقها وتفكيك أوصالها.
لا ينبغي لنا أن نعجب حين نرى لغة غير المتحضرين تفيض بالمصطلحات المشخصة التي يذهلنا ما فيها من تنوع وتحديد، وهي حالة نجدها في كل اللغات الريفية. لقد شوهد ذلك في اللغة الليتوانية، حيث ألفت قصة بأسماء أصوات متتابعة1، ونستطيع أن نجد ذلك أيضا في رطانات الريف الفرنسي فلنوازن بين قصة تؤلف بالرطانة الريفية الخالصة وبين خطاب يلقيه في مدرسة المناطقة أحد كتابنا السياسيين ممن عاشوا في القرن الثامن عشر، فالقصة تفيض بالمشخصات، وهي مفككة، ممجوجة لا منطق فيها إلا أنها رغم هذا كله جد معبرة. أما الخطاب فينطوي على تتابع عبارات مجردة وعامة، متسلسلة كما لو كانت قضية منطقية. هذا ضربان من اللغة يمثلان ضربين من التفكير، ويجب ألا نطرب من فكرة أن لغاتنا الكبرى ذات الحضارة قد خلت تماما من كل تصوف، إذ ليس هذا إلا في الظاهر فحسب؛ لأن عنصر التصوف ليس في اللغة وإنما في الفكر، أو على الأصح فإنه إذا وجد في اللغة فقد وجد من قبل في الفكر، ومع ذلك، فلسنا في حاجة كبيرة إلى البحث طويلا في لغة الأميين من عشيرتنا لنرى عنصر التصوف يظهر أمامنا في خير مستقر له، فسلطان الاسم وخلق قصص أسماء الأعلام واستعمال الصيغ والرقى السحرية، ومنع استعمال المفردات في "فلكلور" ريفنا، أيعد هذا كله شيئا آخر غير عقلية المتخلفين عن الحضارة وقد تفتحت في لغة المتحضرين؟
ولكن بعد هذا كله، لو أننا تصورنا طوفانا سياسيا أو اجتماعيا قد اكتسح الحواجز الموجودة اليوم بين المجموعات البشرية وخلط ممثلي الطبقات والجنسيات والأجناس المختلفة بعضهم ببعض، وقضي على حضارتنا القديمة واستبدل بها حضارة جديدة تقوم على أسس أخرى، لو صح هذا كله ألا تكون اللغة أول
1 Schallnachahmungen und Schallyerba im Litauischen: Liskien رقم 30 مجلد 13، ص167.
ما يصاب بهذا التعبير؟ وهذه العقلية الصوفية والمشخصة التي كاد يقضي عليها في لغاتنا الكبرى المشتركة، ألن تعود لها قوتها لتشكل لغاتنا من جديد وفقا لها وتفرض عليها عاداتها؟ وماذا تصبح إذن اللغة الفرنسية؟ لا أكثر ولا أقل من لغة قوم تخلفوا عن الحضارة. ستسلك طريقا مضادا للطريق الذي سلكته من قبل والذي أدى بها إلى حالتها الراهنة، ستنتقل من التجريد إلى التعبير بالمشخصات، وستمتلئ بالفصائل الصوفية والذاتية. هل سيكون هناك ما يدعو إلى تقدم اللغة أو أنها تدور حول نفسها وتتأخر عما هي عليه؟ لا هذا ولا ذاك، على الأقل وفقا لوجهة النظر اللغوية، وليس لنا أن نقيم وزنا للمزايا أو الأضرار، التي تعد نسبية، لتغير حضارة من الحضارات، حتى ولا للعودة إلى ما يسمى التبرير، وليس لنا الحق في أن نعد لغة من اللغات عقلية ومجردة في مرتبة أعلى من لغة مشخصة وصوفية، لا لشيء إلا أنها لغتنا، إننا في مثل هذه الحالة نواجه عقليتين مختلفتين لا تعدم كل منهما أن تكون لها مزاياها، ولا شيء يدل على أن أهل سريوس لا ينظرون إلى عقلية المتحضر كما لو كانت مرادفة لفساد النوع.
ومن هذا، نرى كيف ينبغي لنا أن ندرك افتراض التقدم اللغوي، التقدم بالمعنى المطلق لا سبيل إليه كما لا سبيل إلى التقدم المطلق في الأخلاق أو في السياسة. هناك أوضاع مختلفة يتلو بعضها بعضا، وفي كل وضع منها تسيطر بعض قوانين عامة يفرضها توازن القوى الموجودة، وهذا ما يصيب اللغة. نستطيع أن نرى في تاريخ اللغات بعض تقدمات نسبية. فهناك لغات تتلاءم مع بعض حالات الحضارة إن قليلا وإن كثيرا. فالتقدم يتكون من أن اللغة تتلاءم وحاجات المتكلمين بها على خير وجه، ومهما يكن هذا التقدم حقيقيا، فإنه لن يكون نهائيا إطلاقا. إن صفات لغة من اللغات تظل قائمة طالما احتفظ أهلها بنفس عاداتهم في التفكير، وإلا فهذه الصفات قابلة للفساد والاندثار والضياع. ومن الخطأ أن نعد اللغة كائنا مثاليا، تتطور مستقلة عن البشر، وتتبع أغراضها الخاصة بها.
إن اللغة لا توجد خارج أولئك الذين يفكرون ويتكلمون إنها تمد جذورها في أعماق الضمير الفردي؛ ومن هنا تستمد قوتها لتتفتح على شفاه الناس. غير أن الضمير الفردي ليس إلا عنصر الضمير الجمعي الذي يفرض قوانيه على كل فرد من الأفراد، وعلى هذا فتطور اللغات ليس إلا مظهرا من مظاهر تطور الجماعات، فليس لنا أن نرى فيه سيرا في طريق متصل نحو غاية محددة، وإن دور اللغوي لينتهي حينما يعلم أن اللغة لعبة تتقاذفها القوى الاجتماعية وردود أفعال التاريخ.