المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: اللغة والغات - اللغة

[جوزيف فندريس]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المقدمات:

- ‌تصدير: اللغة وأداة التفكير

- ‌مقدمة:

- ‌الجزء الأول: الأصوات

- ‌الفصل الأول: المادة الصوتية

- ‌الفصل الثاني: النظام الصوتي وتغييراته

- ‌الفصل الثالث: الكلمة الصوتية والصورة اللفظية

- ‌الجزء الثاني: النحو

- ‌الفصل الأول: الكلمات والأصوات

- ‌الفصل الثاني: الفصائل النحوية

- ‌الفصل الرابع: اللغة الانفعالية

- ‌الجزء الثالث: المفردات

- ‌الفصل الثاني: كيف تغير الكلمات معانيها

- ‌الفصل الثالث: كيف تغير الأفكار أسماءها

- ‌الجزء الرابع: تكون اللغات

- ‌الفصل الأول: اللغة والغات

- ‌الفصل الثاني: اللهجات واللغات الخاصة

- ‌الفصل الثالث: اللغات المشتركة

- ‌الفصل الرابع: احتكاك اللغات واختلاطها

- ‌الفصل الخامس: القرابة اللغوية، والمنهج المقارن

- ‌الجزء الخامس: الكتابة

- ‌الفصل الأول: أصل الكتابة وتطورها

- ‌الفصل الثاني: اللغة المكتوبة والرسم

- ‌خاتمة: تقدم اللغة

- ‌المراجع

- ‌أولا: المجلات

- ‌ثانيا: الكتب

- ‌الملاحق:

- ‌الملحق الأول:

- ‌الملحق الثاني:

- ‌الملحق الثالث:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌الفصل الأول: اللغة والغات

‌الجزء الرابع: تكون اللغات

‌الفصل الأول: اللغة والغات

الجزء الرابع: تكوين اللغات

الفصل الأول: اللغة واللغات

التحليل الذي قمنا به حتى الآن للأجزاء المختلفة للغة لا يستطيع أن يعطينا عنها إلا فكرة جزئية غير كاملة. فتقسيم اللغة إلى عناصر ثلاثة هي الأصوات والصيغ النحوية والكلمات، تلك العناصر التي خصصنا لدراستها الفصول السابقة، ما هو إلا تقسيم اصطناعي محض؛ لأن هذه العناصر ترتبط بعضها ببعض ولا توجد منفصلة إطلاقا مهما بدا من اختلافها. بل تنصهر كلها في تلك الوحدة التي هي اللغة نفسها. فالعالم اللغوي إذن لا ينتهي من مهمته بمجرد أن يفرغ من تحليل هذه العناصر بل يبقى عليه أن يدرس كيف يكون شأنها عندما تجتمع أو بالاختصار، كيف تؤدي اللغة وظيفتها.

ولكن على من يتصدى لإقامة نظرية عامة للغة أن يحذر الوقوع في خطر مزدوج. ذلك أن اللغة، تبعا لذلك التناقض اللغوي الذي درسه فكتور هنري1، واحدة وعديدة في آن واحد، واحدة لدى كل الشعوب، ولكنها متعددة بتعدد جميع الأفراد والذين يتكلمونها.

من المسلم به أنه لا يتكلم شخصان بصورة واحدة لا تفترق. واللغة محدودة

1 رقم 83، ص5 وما يليها.

ص: 295

بحدود الفرد عند العالم الصوتي لأنه لا يستطيع ملاحظتها إلا في خصائصها الفردية وليس من عيوب علم الأصوات الوصفي أن يقصر البحث اللغوي على دراسة الظواهر الفردية فإن من يسعى أيضا إلى اكتشاف عواطف النفس وانفعالاتها وأهوائها منعكسة في اللغة، تبدو هذه الأشياء أمام عينه باعتبارها ظواهر فردية. نعم ما دام الرمز قد اتفق على التسليم به، فقد صار ذا قيمة عامة. ولكن الأحداث الخاصة التي تتمخض عن الرموز والتي تعلن عن وجود الرموز ولما نزل في حالة يصح أن نسميها حالة الميلاد، لا يمكن أن تدرك إلا واحدة واحدة في مظاهرها الفردية. ومع أنه من غير الصواب أن يقال بأن التجديد اللغوي يصدر عن الفرد فمن الحق الذي لا ريب فيه أن كل فرد يدخل في اللغة جزءا من التجديد خاصة به. فليس من الباطل إذن أن يقال بأنه يوجد من اللغات بقدر ما يوجد من الأفراد.

ولكن ليس من الباطل أيضا أن يقال بأنه لا توجد إلا لغة إنسانية، لغة واحدة في أساسها في جميع الأقطار والأصقاع. وهذه هي الفكرة التي تعرب عنها محاولات علم اللغة العام. ففيه يحاول العلماء وضع مبادئ تنطبق على كل لغة أيا كان نوعها. والواقع أن النظام الصوتي عند كل الشعوب يخضع لقوانين عامة واحدة، والفروق التي تلاحظ بين شعب وشعب ناتجة من ظروف خاصة، أما العبارة الصرفية ففيها كثير من التنوع، ولكن الأنواع الأساسية الثلاثة أو الأربعة التي ترجع إليها هذه التنوعات ليست على إطلاقها، إذ إننا نراها في مجرى التاريخ تتحول من نوع إلى آخر. لذلك لم يكن واحد منها كافيا لتمييز لغة لكائن إنساني. أما المفردات فإنها ترتكز على القاعدة القائلة بأن يضاف إلى كل مجموعة ما من الأصوات اللغوية فكرة ما، وهذه القاعدة واحدة في كل مكان ونافذة المفعول بالنسبة للغة في عمومها.

فوضع نظرية عامة للغة تصطدم إذن منذ البداية بالصعوبة الناجمة من كون العالم اللغوي لا يعرف إلى أي مدى يحدد دراسته وإلى أنه يبقى مترددا بين الاعتبار الفردي وبين الاعتبار الجنسي بأسره. ومع ذلك فإن هذه الصعوبة تهون بمجرد أن نحاول تصور اللغة في حقيقتها الواقعية لا في حقيقتها التجريدية. إذ لما كانت

ص: 296

اللغة وسيلة للعمل كانت لها غاية عملية، فيجب إذن أن ندرس الروابط التي تصلها بمجموع النشاط الإنساني، بالحياة نفسها لندركها تمام الإدراك.

أشرنا فيما سبق إلى "حياة اللغة"، وأبنا ما تحتمل هذه الاستعارة من بعد عن الصواب ومن إيقاع في اللبس، ولكن برغم ذلك يمكننا استعمالها على أنها فرض يوجه البحث ويجعل العرض التعليمي سائغا. ولكن المسائل التي جعلناها موضوع بحثنا حتى الآن ليست إلا تجريدات خلقها عقول علماء اللغة، وإنه لمن سوء التعبير، أو يكاد، أن نعبر بحياة اللغة عما هو خال من الحياة، عن الأصوات والأشكال النحوية والكلمات. فالحياة التي نحن بصددها الآن إن هي إلا مجموعة الظروف التي بين حدودها تموج الإنسانية، ما هي إلا الحقيقة الواقعية في تطوراتها التي لا تنتهي. واشترك اللغة في الحياة بهذا المعنى أمر بين، بل أكثر من البين. ولكن ليس أمامنا في هذه الحال نظام نظري يتكون من مبادئ تجريدية. بل نرانا أمام لغات تتكلم على سطح البسيطة بصور متنوعة.

الفرق بين اللغة LANGAGE واللغات، أن اللغة هي مجموعة الإجراءات الفسيولوجية والسيكولوجية التي في حوزة الإنسان لتمكنه من الكلام. أما اللغات "الألسن" LANGUES فهي استعمال هذه الإجراءات بصورة عملية. فيجب إذن، للوصول إلى تعريف كلمة لغة "بمعنى اللسان LANGUE" أن نخرج من محيط الفصول السابقة وأن ندرس الدور الذي تقوم به اللغة بمعنى LANGAGE في المجتمعات الإنسانية المنظمة.

أول فكرة تتبادر إلى الذهن هي فكرة الربط بين اللغة والجنس. بل إن المتن الكبير الوحيد الذي ألف في علم اللغة العام. ونعني كتاب فريدرش ملر Friedrich Muller1 ينبني على هذه الفكرة. ففيه تستعرض لغات الشعوب المجعدة الشعر واحدة فواحدة ثم لغات الشعوب الملساء الشعر، فهو يصنف اللغات وفقا للمميزات الإتنولوجية. ولا شيء أشد غرابة على القارئ من هذا الترتيب، ولكن المبدأ الذي يقوم عليه، وهو أمر أكثر خطورة، لا يثبت طويلا أمام

1 رقم 185، وانظر أيضا بيرن Byrne: رقم 131، مجلد 1، ص45.

ص: 297

البحث إذ أن الأحكام التي تطلق على الأجناس يجب أن تؤخذ دائما بكثير من التحفظ1 فمهما قيل في الدور الذي تلعبه التغيرات التي تصيب الجنس في تلك التي تصيب اللغة، فلا نستطيع أن نقول بوجود روابط ضرورية بين هاتين الفكرتين إذ لا ينبغي الخلط بين المميزات الجنسية المختلفة التي لا يمكن تحصيلها إلا بالدم وبين النظم من لغة ودين وثقافة التي تعد أعيانا قابلة للنقل، تعار وتتبادل2. ونحن نرى بمجرد إلقاء نظرة على خريطة لأوربا اللغوية في العصر الحاضر أن وحدة اللغة تظل تحتها أخلاطا من الأجناس. فالزنجي أو الياباني الذي يربى في فرنسا في ظروف واحدة مع الأطفال الفرنسيين يتكلم الفرنسية كأنه أحد أبنائها. وهذه الحقيقة تكفي لجعل كل محاولة تعمل للتوحيد بين اللغة والجنس عبثا لا طائل وراءه.

أفنذهب على الأقل إلى القول بأن كل لغة تقابلها عقلية معينة؟ الواقع أن علم النفس يتكلم عن عقلية فرنسية وعقلية ألمانية، فلا بد أن تعبر اللغة عن الفرق الذي يفصل بينهما، إذا صح أن اللغة ليست في الواقع إلا التعبير عن العقلية. هذا المنطق الذي لا غبار عليه من حيث المبدأ عسير التحقيق لأنه يصطدم باعتراضات عديدة.

أول ما يجب تجنبه الحكم باختلاف العقلية باختلاف الدماغ. لأننا إن فعلنا ذلك أقحمنا من جديد فكرة الجنس في مسألة سيكلوجية. فحتى في حالة المقارنة بين الزنجي والأبيض لا نجد أي دليل على أن لون البشرة أو شكل الشفتين يقابله دماغ خاص ينتج تفكيرا مختلفا عن تفكيرنا.

هذا المنطق، على أية حالة، لا يمكن تطبيقه على أفراد كلهم من الجنس الأبيض ليست بينهم اختلافات جنسية أساسية وإننا نعرف أن لون العينين أو البشرة أو شكل الجمجمة كلها لا تقدم لنا مقياسا يصلح للتمييز بين الألماني والفرنسي من الوجهة الجنسية نفسها. فمن باب أولى من الوجهة اللغوية. ومع ذلك فليس من شك في أن كلا من الشعبين له عقلية خاصة، وأذواق وعادات وأمزجة وطنية، ولكن

1 ا. رينان رقم 111.

2 هويتني WHITNEY رقم 129، ص231.

ص: 298

هذه الأمزجة الوطنية ومثلها اللغات عليها طابع النتائج لا طابع الأسباب. كذلك من التحكم أن تعتبر اللغة وليدة العقلية أو العقلية وليدة اللغة؛ لأن كلتيهما وليدة الظروف ونتائج الثقافة والمدنية.

لم نرد بالوصول إلى تلك النتيجة أن تثبط من هم أولئك الذين يحاولون ربط الفكرتين معا. إذ من الجائز أن تكون اللغة والعقلية نتاجا لأسباب واحدة وأن تكون المميزات التي تميزها واحدة دون أن يترتب على ذلك صدور إحداهما عن الأخرى. فإذا كانت اللغة علامة مميزة لصورة من صور التفكير. كان من الممكن أن نصل بتحليل مقارن للغات إلى سيكولوجية للأجناس. وهذه كانت فكرة هردر HERDER في مؤلفه عن أصل اللغة، وفكرة غليوم فون همبولت WILHELM VON HUMBOLT وشتينتال STEINTAL أيضا. وفي أيامنا هذه عاد العالم اللغوي الألماني ف. ن. فنك1 F. N. FINCK إلى فكرة هردر محاولا تكميلها وفي رأيه أنه لا يجب علينا أن ننظر إلى اللغات إلا بوصفها آثارا معبرة عن عقل الشعوب. وأن اللغات ليست إلا تصويرات، لا تقدم أمام عين العالم السيكولوجي أية حقيقة واقعية ملموسة. وأن من الخداع لأنفسنا أن ندرسها على أنها حقائق واقعة فيجب أن تطبق عليها طريقة ذاتية محضة بألا نبدأ من اللغة التي ليست إلا نتيجة، بل من العقل الذي يخلق اللغة. هذه الطريقة خير الطرق لدراسة بعض نتاج النشاط النفساني PSYCHIQUE كالمعتقدات الشعبية. وهي نفس الطريقة المتبعة في دراسة الخوف أو الحلم أو الإيمان فها نحن أولاء بهذا الرأي قد ابتعدنا عن علم اللغة.

ويمكننا أن نجيب فنك بأن اللغة حقيقة واقعة مهما كانت الحال2. فاللغة بصوتياتها وبكيانها الصرفي لها وجود خاص مستقل عن استعدادات المتكلم النفسية واللغة تفرض بنفسها عليه في صورة نظام قد أعد من قبل، في صورة آلة وضعت في يده. وهو يستخدمها لغايات شتى، فيستعملها في حاجات سوقية أو يستخرج منها آثارا تدل على الحدق وتدعو إلى الإعجاب. ولكنها في كل الحالات آلة

1 رقم 155.

2 نفسه رقم 2 مجلد 1، ص664.

ص: 299

واحدة بعينها، ومهمة العالم اللغوي هي بالضبط أن يدرس ما في هذه الآلة من جوهري ومن دائم. ومن ثم كانت الطريقة الموضوعية التي يحاربها فنك صالحة للتطبيق في علم اللغة تمام الصلاحية، واللغة في وسعها أن تدرس مستقلة عن العقلية.

فضلا عن ذلك فليس من المؤكد أن الأسباب التي تؤثر على اللغة تحدث في العقلية آثارا مماثلة. فالأجزاء الجوهرية الدائمة في اللغة تتحول وفقا لقواعد ليس للعقلية فيها أي نصيب. وهذا بالذات هو ما أدى إلى الافتراض بأن للغة حياة مستقلة عن كل حياة نفسية أو فسيولوجية أو اجتماعية. والواقع أن الفروق التي نلاحظها في فترة ما من التاريخ بين لغتي شعبين، حتى ولو كانتا من أصل واحد، يمكن تفسيرها بظواهر لغوية خاصة بتطور كل واحدة من اللغتين، وبالتالي لا تسمح لنا بحال أن نصدر حكما ما على عقلية الشعبين.

هذه الملاحظة تنطبق على أوضح الصفات التي يمكن أن تميز بين لغتين فترتيب الكلمات في الجملة مثلا عملية لها دلالاتها الفائقة، لأن جذوره، على ما يظهر، ناشبة في أبعد أعماق الشعور اللغوي، إذ إنه هو الأصل في تحضير الصورة الكلامية. ومع ذلك فنحن على تمام المعرفة من أن بنية الجملة في الألمانية أو الإرلندية أو الأرمينية الحديثة ناتجة من تطورات صرفية خاصة بهذه اللغات "انظر ص190" وكلما أوغل المؤرخ في الرجوع إلى الماضي، اكتشف في بنية التنظيمات الشديدة الاختلاف أثر قوانين داخلية يفسرها تطور كل لغة من هذه اللغات.

كذلك دأب العلماء، وهم على حق، على مقابلة اللغات التي تمارس التركيب باللغات التي تلجأ إلى الاشتقاق، إلى مقابلة الإغريقية باللاتينية أو الألمانية بالفرنسية مثلا. فالذي يبدو لأول وهلة أن هذين النوعين يمثلان نوعين مختلفين من العقلية، إذ أن العقل في الحالة الأولى بعد أن يحلل التصور يعبر بالتفصيل عن العناصر التي تنتج من هذا التحليل، بينما لا تشير الحالة الأخرى إلا إلى مظهر واحد من مظاهر التصور تاركة للسامع البحث عن المظاهر الأخرى. ولكن الواقع أن هذين المسلكين ينتجان من عادات قد تطورت إن قليلا وإن كثيرا، هذا إلى أنهما لا يتنافيان بل يستعملان معا في كل لغة بدرجات مختلفة. إذ يكفي في إحدى

ص: 300

اللغات أن يتغلب نوع ما على غيره في فترة من الفترات، ليتضاعف استعماله بعد ذلك في العصور التالية. فهذا أثر مباشر لتنافس الطرق الصرفية، لا يتوقف بأية حال على اختلاف العقلية.

لأن العقلية في الحالتين واحدة، وإنما تختلف العبارة فقط. فكون إحدى اللغات تقول Liber petri "كتاب بطرس" والأخرى تقول: le livre de pierre "الكتاب "بتاع" بيير" لا يحتم أن يكون الشعبان اللذان يتكلمان هاتين اللغتين يختلفان في تصور علاقة الملكية، وإنما يختلفان فقط في التعبير عنها. ولهذا الاختلاف أسباب تاريخية. فنسعى إلى معرفة عقلية الشعب من خصائص لغته مشروع فاشل إذا راعينا وسائل البحث التي نملكها في حالاتنا الراهنة. بل إن المفردات نفسها لا تعكس العقلية إلا في صورة جزئية. فالفرنسية مثلا ليس فيها إلا كلمة واحدة louer "يؤجر" و"يستأجر" لترجمة الفعلين الألمانيين miethen "يستأجر" و vermiethen "يؤجر" ومعنى كل منهما على عكس معنى الآخر. وفي هذا ما فيه من لبس غير مستحب في اللغة الفرنسية، ولكن الألمانية بدورها لا تملك غير فعل واحد Lehnen للتعبير عن الفعلين الفرنسيين preter "يعبر" emprunter "يستعير" ونعرف لغات أخرى تعبر بكلمة واحدة عن "البيع" و"الشراء" معا1. فهل في ذلك ما يشير إلى الصورة التي تدرك عليها هذه الشعوب الإجارة والإعارة والبيع؟ كلا. فالمفردات في أية لغة لا تعرض مطلقا وجوه التفكير كاملة. بل يوجد دائما من الكلمات أقل مما يوجد من الأفكار، والاستعمال الجاري يكتفي دائما بالعبارات التقريبية، لأن لديه من الوسائل ما يجنبه الوقوع في اللبس. إذ إن السياق يوضح معنى كل كلمة، وإذا لم يكف السياق، لم تعدم اللغة أن تجد وسيلة لتجنب هذه النقص. فالفرنسية في الواقع لا تشكو غموضا في كلمة louer ولا الألمانية في

1 تقول الصينية مثلا mai و mai، ولا فرق بين هاتين الصيغتين إلا في التنغيم "جبلنتس Gabelentz؛ Chinische Grammatik؛ 1888، فقرة 230، أخذناه عن اقتباس لجسبرسن، رقم 134، ص84-85".

ص: 301

كلمة lehnen، كما لا تشكو البريتانية من كونها لا تملك إلا كلمة واحدة "glas" للتعبير عن "الأخضر والأزرق" وتستعمل نفس الكلمة لتقول:"السماء زرقاء" و"الفاصولية خضراء".

يبدو إذن أننا نخطئ حينما نرى في أي جزء من أجزاء اللغة صورة لعقلية بعينها. ولا يعني هذا أنه لا توجد أية رابطة بين العقلية واللغة، بل إن اللغة تستطيع في بعض الأحيان أن تعدل من العقلية وتنظمها. فعادة وضع الفعل في مكان بعينه دائما، يمكن أن تؤدي إلى صورة خاصة في التفكير وأن يكون لها أثر في طرق الاستدلال. والتفكير الفرنسي أو الألماني أو الإنجليزي خاضع للغة إلى حد ما. فإن اللغة إذا كانت مرنة خفيفة مقتصرة على الحد الأدنى من القواعد النحوية، سمحت للفكرة بالظهور في وضوح تام وأتاحت لها حرية الحركة. وعلى العكس من ذلك تختنق الفكرة من التضييق الذي يصيبها من لغة جامدة ثقيلة. ولكن عقلية المتكلمين تتصرف لتعتاد أي شكل من أشكال اللغة. لذلك كان من المحال تحديد اللغة بمزاج الأمة التي تتكلمها. فدراسة الدور الاجتماعي الذي تقوم به اللغة هي خير ما يعطينا فكرة عن ماهية اللغة.

أصبح تكرار القول بأن الإنسان كائن اجتماعي أمرا مبتذلا. لعل من أول السمات على الطبيعة الاجتماعية في الإنسان تلك الغريزة التي تدفع على الفور والأفراد المقيمين معا إلى جعل الخصائص التي تجمعهم مشاعة بينهم، ليتميزوا بها عن أولئك الذين لا توجد لديهم هذه الخصائص بنفس الدرجة.

هذه الغريزة في غاية القوة، نعثر عليها في كل الأقسام التي تنقسم إليها أية هيئة اجتماعية، وترجع في أصلها إلى حقيقة التجمع نفسه. فإذا التقى فرنسي وفارسي في جزيرة مهجورة نسي كل منهما الفروق التي تفصل بينهما وسعيا بطبعهما إلى الاتحاد، لأن المساواة في العزلة تنمي الزمالة بينهما. ولكن لو أن فارسيا جاء إلى فرنسا زائرا ووجد نفسه في مكان ككور لا رين COURT LA REINE، ورآه بعض الفرنسيين، لأوحت إليهم على الفور عاطفة الوطنية التي من شأنها أن تقوي وجود الجماعة بهذه الجملة المشهورة. كيف يمكن لإنسان أن يكون فارسيا؟ وإذا

ص: 302

قابل جندي منعزل من جنود الخيالة جنديا آخر من جنود المشاة تآخى الجنديان دون عناء، مع أننا نعرف أن المدن التي تضم ثكنات لكلا السلاحين كثيرا ما تكون ميدانا لمشاحنات ناجمة من هذا الاختلاط حتى تضطر السلطات أحيانا إلى التدخل لحفظ الأمن. بل لسنا في حاجة إلى التمثيل بسلاحين مختلفين قد يفترقان أحيانا في العمل وفي التقاليد وفي الاختيار. فكثيرا ما تشتد المنافسات في داخل فرقة واحدة بين كتيبة وكتيبة أو جماعة وجماعة أو غرفة وغرفة، لا لشيء إلا لاختلافهما في ساعات العمل أو القيادتين أو في رقم "العنبرين"، فأتفه الفروق تزكي نار المنافسة. فكأن الناس إذا ما تجمعوا بحثوا عن أتفه الأسباب التي تقدمها لهم الظروف لإثبات تجمعهم بمعارضة غيرهم.

في هذه الحالة لسنا في حاجة إلى الاحتجاج بوجود باعث من الزهو الذي يبعث عليه الشعور بوجود تفوق ما، وإن كانت روح الجماعة تصطحب غالبا برضاء داخلي. إذ إنها تنطوي على شعور بالعزة يدفعها إلى استثارة الآخرين وإذلالهم. ولكن هذه العواطف تنتج من روح الجماعة ولا تخلقها. والذي يقوي من روح الجماعة هو وجود التجمع، وهذا التجمع نفسه ليس فيه شيء شخصي ولا تدخل في حسابه قيمة الأشخاص منفردين. إذ يكفي لأي دخيل أن يحتل مكانا في الجماعة لتعترف له بالحقوق التي للآخرين، وكل ما تفعل به لدى دخوله أن تفرض عليه نوعا من البلاء التأديبي الذي لعله بقية باقية من الرياضة الصوفية القديمة. وأخيرا لا تقوم الجماعة التي من هذا القبيل على نظم شرعية. والرباط الذي يجمع بين أعضائها لا يرجع إلى اتفاق سابق ولا إلى إرادة مقصودة، وإنما ينحصر في الاتفاق في العمل والمصالح والحاجات، وتزداد قوة الجماعة إذا وجدت بحانبها جماعات أخرى تختلف عنها في الأعمال والمصالح والحاجات.

تلعب اللغة دورا ذا أهمية عظمى في الجماعة الاجتماعية مهما كانت ومهما كان مقدار امتدادها. فاللغة أوثق العرى التي تجمع بين أعضاء هذه الجماعة. وهي على الدوام رمز ما بينهم من تشارك وحارسه الأمين. وأية آلة أفعل من اللغة في توطيد وجود الجماعة؟ فاللغة بمرونتها وتنوع حياتها ولطف سريانها واختلاف

ص: 303

استعمالها وسيلة للاتفاق بين الجماعة وعلامة لأعضاء هذه الجماعة، بها يعرف بعضهم بعضا ويهرع بعضهم إلى بعض.

كل عضو في الجماعة يشعر بأنه يتكلم لغة معينة ليست لغة الجماعات المجاورة. فللغة إذن وجود مستقل في الشعور المشترك بين أولئك الذين يتكلمونها جميعا. وهذا التعريف، وهو ذاتي محض في مظهره، يستند إلى كون هذا الشعور بالاشتراك في اللغة يضاف إليه شعور آخر في وجدان المتكلمين بوجود مثل لغوي أعلى يسعى كل منهم من جهته إلى تحقيقه1.

فكأن هناك عقدا ضمنيا أقامته الطبيعة بين أفراد الجماعة الواحدة ليحافظوا على اللغة في الصورة التي توجبها القاعدة. وكثيرا ما ترجع هذه القاعدة إلى الاستعمال، وهذا لا يخلو من الصواب. ولكن الاستعمال غير التحكم، بل هو ضده على خط مستقيم لأن الاستعمال خاضع لمصلحة الجماعة، وهي هنا حاجتها إلى أن تكون مفهومة. فكل فرد يدأب بغريزته وعن غير شعور منه على الوقوف في سبيل ما هو تحكمي حتى لا يدخل في الاستعمال. وإذا وقعت مخالفة من جانب فرد منعزل، أصلحت على الفور، والسخرية اللاذعة كفيلة بإمساك الجاني عن التفكير في المعاودة. ولا يمكن أن تصير للمخالفة قوة القانون إلا إذا كان أعضاء الجماعة كلهم على استعداد لارتكابها، أي أن يشعروا بها على أنها قاعدة، وفي هذه الحالة لا تصبح مخالفة.

والصرامة التي بها تفرض القاعدة نفسها في غاية القوة، يستوي في ذلك كل الجماعات اللغوية وفي كل اللغات. قد نسمع في بعض الأحيان أشخاصا، وأشخاصا مثقفين، يظهرون دهشتهم من أن يكون للغة الفلاح قواعد ونحو. فهم يتخيلون أن القواعد لا توجد إلا في الكتب التي توزع على تلامذة المدارس، وهذا خطأ. لأن الكلام الريفي، أو اللهجات كما يسمونها، فيها قواعد أشد صرامة في غالب الأحيان مما في اللغات التي تتلقن من كتب النحو. وفي اللغات المكتوبة دون

1 انظر عن المثل الأعلى للسلامة اللغوية نورن Norren: رقم 23 مجلد 1 "1892"، وسيتالا setala: رقم 28، مجلد 4 "1924" ص2-79.

ص: 304

سواها يوجد التردد ونقاش العلماء، وكما يقول هوراس Horace؛ "Grammatici certant". ولكن الذين يتكلمون اللهجات لا يترددون. انظر إلى فلاح يتكلم عن لهجة القرية المجاورة، تجده يكتشف فيها فروقا لا يكاد يحسها الغريب عنها، وتسمعه يؤكد بخيلاء أنه هو وأهل قريته وحدهم هم الذين يتكلمون صحيحا، وأن الصحة تنعدم بمجرد أن تعبر إلى الشاطئ الآخر من النهر أو أن تنتقل إلى سفح الوادي الآخر.

فالطبقات الشعبية على العموم عندها عن لغتها فكرة محددة، ويحسون في إرهاف نادر المثال أقل مخالفة للقاعدة. وقد وجد مالرب Malherbe أدق حس لغوي عند طغام البور أو فوان port-au-foin، حتى كان يتخذهم أساتذة له1.

ونحن نعرف أخبار المغامرة التي وقعت في سوق أثينا ليتوفراست وكان من لسبوس. كان يسأل عن ثمن إحدى السلع، ففطنت امرأة من الشعب إلى أنه غريب على لغتها2. فالشعب هو الذي يجب أن يستشار عند التردد في حالة من حالات الاستعمال، والمجامع اللغوية هي التي تستطيع أن تناقش وأن تقرع الحجة بالحجة لتعرف ما إذا كانت كلمة "أوتومبيل" automobile مذكرة أم مؤنثة، وكل ذلك من الأمور النظرية. أما من الناحية العملية، فإن الشعب لم يتوان عن الحكم بتأنيث الكلمة. وإذا كانت قد مرت به فترة من التردد، فذلك لأن الجنس لا تبدو آثاره في كثير من الحالات "انظر ص131". ومعنى ذلك أن الكلمة لا جنس لها في بعض استعمالاتها، ولكن الشعب جدد جنسها في كل ما يحس فيها وجود الجنس مثل: une belle، une grande automobile

أو "سيارة جميلة، سيارة كبيرة" l'automobile est vetre ou grise

"السيارة خضراء أو رمادية".

فهذا التوخي للسلامة وتلك الثقة في تثبيت الاستعمال هما اللذان يقرران اللغة في مجموعة بعينها من البشر. ومع ذلك فلو بحثنا عن تحقيق كامل للغة لم نجده في

1 Memoires pour la vie de malherbe تأليف المركيز دي راكان Marquis de Racan: فقرة 47.

2 شيشرون: برونس، فصل 46، 172، كنتيليان quintilien؛ 8، 1.

ص: 305

أي مكان1. فكثير من الناس يتكلمون الفرنسية. ولكن لا يوجد شخص واحد يتكلم الفرنسية ويصلح أن يكون مثالا ومقياسا للآخرين، فما نسميه الفرنسية لا يوجد في لغة الكلام عند أي كائن إنساني. لذلك كان من اللغو أن نتساءل في أي مكان تتكلم الفرنسية في أسمى صورها. فالفرنسية الحسنى "فكرة" بالمعنى الذي يستعمل فيه لبرويير la Bruyere هذه الكلمة أي أنها خرافة، مثلها مثل حكيم الرواقيين الذي كان كاملا جميلا طيبا سليم العقل والجسم. إلا إذا انتابته نوبات البلغم. كذلك فرنسيتنا الحسنى نراها تحت رحمة زلة من زلات الذاكرة أو لحن أو خطأ. فهي مثل أعلى يبحث عنه ولا يمكن العثور عليه، إنها قوة فعالة لا يستطاع تحديدها إلا بالهدف الذي تتجه نحوه، هي حقيقة بالقوة لا تخرج إطلاقا إلى حيز الفعل، وصيرورة لا تصل أبدا إلى الاستقرار.

يمكننا أن نلخص ما تقدم بأن اللغة هي الصورة اللغوية المثالية التي تفرض نفسها على جميع الأفراد في مجموعة واحدة.

لكن يبقى علينا في هذه الحالة أن نعرف المجموعة. والواقع أن الفصول التالية في جملتها مخصصة لهذا الموضوع، لأن خصائص اللغة تتوقف على طبيعة المجموعة وعلى مقدار امتدادها. إذ يوجد في فرنسا إلى جانب اللغة الأدبية التي تكتب في كل مكان والتي يزعم المثقفون بأنهم يحققونها في كلامهم. مجموعة من اللهجات مثل الفرنش كنتيه والليموزنيه اللتين تنقسمان بدورهما إلى لهجات محلية عديدة. وهذه لغات أخرى يقابلها عدد مساو لها من التجمعات. هذا إلى أنه يوجد داخل مدينة واحدة كباريس، عدد من اللغات المختلفة تسير كلها جنبا إلى جنب. فلغة الصالونات مثلا ليست لغة الثكنات، ولغة الأعيان ليست لغة العمال، وهناك رطانة المحاكم والعامية الخاصة التي تتكلم في حواشي المدنية. وهذه اللغات يختلف بعضها عن بعض إلى حد أنه قد يعرف الإنسان إحداها دون أن يفهم الأخرى.

تنوع اللغات يرجع إلى تعقد الروابط الاجتماعية. ولما كان من النادر أن

1 مييه: رقم 93، ص357.

ص: 306

يعيش فرد محصورا في مجموعة اجتماعية واحدة، كان من النادر أيضا أن تبقي إحدى اللغات دون أن تنفذ إلى مجموعات مختلفة. إذ يحمل كل فرد معه لغة مجموعته ويؤثر بلغته على لغة المجموعة المجاورة التي يدخل فيها.

لا تتكلم أسرتان متجاورتان لغة واحدة إطلاقا. ولكن هذا الخلاف اللغوي الذي يفرق بينهما حاليا طفيف لا يكاد يحس حتى ولو كان يحمل في طياته جراثيم انفصال في المستقبل، لذلك كان لنا الحق في ألا ندخله في حسابنا في حالته الراهنة.

هذا إلى أن اللغة التي تتفاهم بها الأسرتان فيما بينهما تصير إلى الوحدة حتما، إذ إن الروابط المتبادلة تعمل منذ اليوم الأول على إضعاف الفروق بينهما وتكوين نواة مشتركة. ولنتخيل أخوين يعيشان معا ولكنهما لا يمارسان مهنة واحدة. فكل منهما يحتك في مصنعه بمجموعات مختلفة ويأخذ عنهم اللغة بالضرورة مع عادات. التفكير والأعمال وآلات المهنة. وبذلك ينشأ في كل يوم بين الأخوين اختلاف لغوي يؤدي بهما -إذا لم يريا أحدهما الآخر زمنا طويلا- إلى التحقق من أنهما يتكلمان لغتين مختلفتين، ولكن هذا الاختلاف يزول كل مساء بفضل عودة الصلة بينهما من جديد. وعلى هذا النحو يجدان نفسيهما خاضعين لتيارين متعارضين يتبادلان التأثير عليهما ولا يفصل أحدهما عن الآخر إلا بضع ساعات ويجدان أن اللغة التي يتفاهمان بها في حاجة دائمة إلى التطهير من عناصر التفرقة التي تفد عليها من الخارج.

هذا مثل طيب لصراع التوازن الذي هو قانون تطور اللغات جميعا. فهذان ميلان متعارضان يوجهان اللغة في طريقين متباينين1. وأحد هذين الميلين يتجه نحو التفريق. فتطور اللغة على نحو ما أجملناه في الفصول السابقة يؤدي إلى انفصالات تزداد مع الزمن تعددا، وتكون النتيجة تفتت اللغة تفتتا يزداد بازدياد استعمالها، إذ تضطرها إلى هذا التفتت مجاميع الأفراد التي تترك وشأنها دون احتكاك بينها. غير أن هذا التفريق لا يصل إطلاقا إلى تمامه، لأن سببا حيويا.

1 مييه: التوحيد والتفريق في اللغات "رقم 42، 1911، ص402".

ص: 307

يوقفه في الطريق، إذ أنه بإمعانه التدريجي في الحد من امتداد المجموعات التي تستخدم اللغة وسيلة للتفاهم بينها، ينتهي بحرمان اللغة من قيمتها الجوهرية، فتحطم اللغة نفسها وتصير غير قادرة على إيصال الناس بعضهم ببعض. لذلك يقوم ميل آخر يعمل دواما على مناهضة التفريق، وهو الميل إلى التوحيد الذي يعيد التوازن. ومن صراع هذين الميلين تنتج أنواع اللغات المختلفة، من لهجات ولغات خاصة ولغات مشتركة، تلك التي ستكون موضوع دراستنا منذ الآن.

ص: 308

‌الجزء الخامس: الكتابة

‌الفصل الأول: أصل الكتابة وتطورها

تعبر على نحو ما عن الأفكار العامة والطبقات الاجتماعية والطبيعية والكليات العقلية، فعلى هذا النحو تتكون الحروف الصينية من عنصرين: الأولى صورة الفكرة ideogramme التي صارت صورة صوتية phonogramme، وتعبر عن الصوت المقطعي الذي يكون الكلمة، والثاني بمثابة مفتاح المشكلة ويعين معنى الكلمة.

اللغات التي من أجلها اخترعت الكتابة المسمارية والهيروغليفية أول ما اخترعت، كانت لغات تصريفية؛ لذلك لم تنجح فيها إلا بقدر ضئيل تلك الطريقة التي استعملت في تكميل الكتابة الصينية. ومع ذلك فإن المصريين باختراعهم للمميزات، قد أوجدوا ما يعادل الأقسام عند الصينيين، فالصورة الهيروغليفية التي تقرأ ankh تدل إما على "الحياة"، وإما على "الأذن" فإذا ما أريد بها أن تدل على هذا المعنى الأخير بالذات صحبت بصورة الأذن التي تؤدي وظيفة المميز، ومن ثم نعثر في الكتابة المصرية -حتى بعد أن صارت كتابة صوتية محضة- على بعض المميزات المتفرقة التي أبقت التقاليد على استعمالها أما الكتابة المسمارية فلم تخل يوما -حتى في أوج انتشارها- من بعض حالات اللبس، ولتسهيلها من الوجهة العملية اضطر أهلها إلى جعلها مقطعية، وعلى هذه الصورة نراها تستعمل في تسجيل إحدى اللغات الهندية الأوربية، وهي الفارسية القديمة وذلك في نقوش دارا. ولكنها على وجه العموم كانت أقصر الكتابات التصويرية عمرا، وسمارية الأشمينين كانت آخر مثال منها، إذا لم تلبث أن استعيض عنها في كل مكان بكتابات صوتية، ولا سيما بالكتابة الآرامية المشتقة من الأبجدية الفينيقية.

أما الأبجدية الفينيقية -نحو ما نراها على شاهد ميسا Mesa القبري "وهو اليوم في متحف اللوفر" ذلك الشاهد الذي يرجع إلى ما قبل المسيح بتسعمائة سنة فإن البعض يعدها صورة مشوهة من الكتابة الهيروغليفية، ولكن هذا التشويه قد وقع بالتدريج على خطوات عدة، وقد بينا فيما سبق كيف يصل التطور الطبيعي بالصورة الفكرية إلى أن تصير صورة صوتية، وقد استقرت بعض الكتابات كالصينية في منتصف الطريق بين الخطتين بفضل نظام من التراكيب العلمية؛

ص: 297