الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الكلمة الصوتية والصورة اللفظية
التغيرات الصوتية التي تكلمنا عنها حتى الآن تنتج من التحول في النظام الصوتي للغة. وسبب التحور الواقع في الأصوات اللغوية كان يبحث عنه في الصلة بين هذه الأصوات وبين النظام الصوتي. ولكن هذا النوع من التغير ليس الوحيد الذي ينبغي للعالم اللغوي أن يحسب حسابه.
لا توجد في اللغات أصوات لغوية منعزلة. وهذا لا يعنى فقط أن الأصوات اللغوية لا توجد مستقلة وأنها لا تحلل على انفراد إلا بنوع من التجريد إذ أنها في كل لغة تكون نظاما مترابطا. ولكن معنى ذلك أيضا أنها لا تستعمل على انفراد: فلا يتكلم إلا بمركبات من الأصوات اللغوية. فأقل جملة، وأقل كلمة تفترض سلسلة من الحركات النطقية المعقدة وقد تركبت فيما بينها. ومن هذه المركبات تنتج أفعال متبادلة تؤدي إلى أنواع مختلفة من التحوير. والتغيرات التي تصيب الأصوات من جهة الصلات التي تربط هذه الأصوات بعضها ببعض في كلمة واحدة هي ما يمكن أن نسميها بالتغيرات التركيبية. وأهميتها في تاريخ اللغة لا تقل عن أهمية التغيرات السابقة1. ولكن يجدر بنا قبل أن نبدأ في درسها أن نبين حدود المجموعة الصوتية التي في داخلها تحدث التغيرات التركيبية، أو بعبارة أخرى، أن نحدد الكلمة الصوتية.
السؤال الذي يتطلب الإجابة سؤال مزدوج. وينحصر في أن نبحث أولا عما إذا كانت الجملة في لغة من اللغات، إذا ما اعتبرت من جهة الأصوات اللغوية التي
1 سيفرس: رقم 305، 377، والعرض القيم للحقائق السلافية لبروخ، رقم 149 ص185.
تتركب منها فحسب، تتضمن أقساما يحسها المتكلم أم لا، ثم عما إذا كانت هذه الأقسام تطابق أقساما نفسانية أم نحوية.
أما عن النقطة الأولى فيمكننا أن نجيب بالإيجاب دون تردد. فليس مما يشك فيه أن توجد في كل جملة أيا كانت أقسام صوتية طبيعية. بل إن هذه الأقسام عديدة الأنواع.
التقسيم إلى مقاطع يعد واحدا من أظهر هذه الأقسام. كل متكلم يشعر به كما يبرهن عن ذلك علم الأمراض العقلية1. فقد لوحظت حالات من فقدان الذاكرة ظل فيها الإحساس بالمقاطع حيا بعد نسيان الكلمة نسيانا تاما. مثل هذا المريض لا يستطيع تعيين الأشياء إلا بعد المقاطع التي تكون الكلمة الدالة عليها، فمع عجزه عن التعبير بكلمة غطاء أو مقعد، فإنه يعرف مع الإشارة بأصبع يده أن كل واحدة من الكلمتين تتكون من مقطعين. فقد ضاعت من ذاكرته الحركات النطقية التي يجب القيام بها للنطق بالكلمة ولكنه ما زال يعرف كم عددها. نعم قد يمكن أن ترد شهادة هذا الاختبار بحجة اختلاطه بعادات محصلة لدى تعلم القراءة وأنه من المستحيل التمييز بين ما يرجع إلى اللغة المكتوبة وما يرجع إلى اللغة المتكلمة، فقد يمكن لعوائد اليد التي تخط الحروف وعوائد العين التي تدركها أن تختلط هنا فتفسد نقاء الصلات التي تربط الحقائق بعضها ببعض.
يستخرج من النظم نتائج أخرى أكثر قوة من سابقتها. ففي عدد كبير من اللغات يقوم الوزن على عدد المقاطع، وذلك في لغات كانت تجهل الكتابة وحياة الشعر فيها كانت قائمة على تقاليد شفوية. ففي الهند وفي اليونان، أول ما بدأت الآداب، كانت تنظم قصائد طويلة يحسب فيها عدد المقاطع بشدة صارمة. وهذا على الأقل إذا جاز لنا أن نبني حكمنا على ورثة كتاب الفيدا المباشرين أو على مؤسسي الشعر الغنائي اللسبي2. وبدايات الكتابة تزكي هذه الشهادة، ففي الكتابة الصوتية بدئ في تسجيل اللغة بتسجيل المقاطع. فالتقسيم إلى مقاطع سبق التقسيم
1 انظر روسلو، رقم 115، ج2، ص969.
2 ل: هافيه: رقم 80 ص166.
إلى حروف، بل عاقه مدى طويلا أو قصيرا "انظر الجزء الخامس". وكان لا بد من تحليل طويل دقيق لتمييز عناصر المقطع. أم الأبجديات الأولى فسابقة على هذا العمل. فهي مقطعية.
بل إن التقسيم إلى مقاطع قد سبق التقسيم إلى كلمات. ففي أقدم النصوص لكثير من اللغات لا يفصل بين الكلمات. ففيها آخر كل كلمة مركب مع مبدأ الكلمة التالية تبعا لقواعد الكتابة المقطعية، تلك هي الحال في كتابات الهند القديمة، وكذلك في الكتابة القبرصية، وهي بدورها كتابة مقطعية.
يبدو أن التقسيم إلى مقاطع هو أول ما يحتل ذهن القارئ الذي يود أن يقيد بالكتابة جملة سمعها أو نطقها: ونحن نعرف مقدار المشقة التي يعانيها أشخاص غير مثقفين لفصل الكلمات فصلا صحيحا، وعلى العكس من ذلك مقدار دقة حسهم في التقسيم إلى مقاطع: فيظهر أن هذا الأخير أقرب إلى الطبيعة وأن الأول فيه قسط من التوافق الذي يحتاج إلى دراسة ومران.
ومع ذلك فإن تعريف المقطع أمر عسير1.
فلنأخذ أبسط الحالات: الحالة التي تحتوي على سلسلة من السواكن والحركات مرتبة ترتيبا تبادليا، ولتكن مجموعة مثل المجموعة الفرنسية L'Academie des beaux-arts منطوقة هكذا lekademidebozar "لا كاديمي ديبوزار". يمكننا من التحديد الذي حددناه فيما سبق للسواكن والحركات أن تستخلص قاعدة تنظم هنا التقسيم إلى مقاطع. فالحركات تقتضي فتح الفم. وهذا الفتح مهما اختلفت سعته، فهو دائما أكبر من ذلك الذي يصحب السواكن. بل إن بعض السواكن، وهي الإنفجارية، لا يصحبها فتح قط، والأخرى التي يصحبها فتح في التجويف الحلقي تتميز بضوضاء احتكاكية، مما يفترض ضيق فتح الفم نسبيا. تقدم إذن مجموعة الأصوات التي افترضناها سلسلة متتابعة من الفتح والتضييق الذي يذهب أحيانا إلى حد الإغلاق. فحالات الفتح تقابل
1 هذه السطور كانت قد كتبت عندما نشر كتاب فرديناند دي سوسير، رقم 121 حيث تعرض في ص64 وما يليها "ولا سيما ص89" نظرية عن المقطع تعد جد عريبة.
الحركات وحالات الإغلاق تقابل السواكن. هذه الحقيقة تتجلى بشكل مقنع في الصورة التي ترسمها الإسطوانة المسجلة. فإذا تتبعنا حركات الريشة، أمكننا قراءة التقسيم إلى مقاطع. فالحركات ترسم منحنيات تختلف فيها بينها في درجة الانحناء ويدل مكان النزول منها على أوقات الإغلاق التي تكون السواكن.
أما موضع الدقة فينحصر في تحديد النقطة التي تبدأ وتنتهى عندها المقاطع. يرى الأستاذ روديه M. roudet أن التقطيع يظهر في ثلاثة وجوه تبعا لوجهة النظر التي يرى منها. يقول: "يوجد عند الانتقال من مقطع إلى مقطع تغير مفاجيء يصيب كلا من الجهاز التنفسي والحركات النطقية والإدراك السمعي معا1. هذا التغير الثلاثي يسمح، في بعض الأحوال، بتعيين حدود المقاطع، ويكون التقسيم تحكيما في أحوال كثيرة أخرى. لذلك يكون من العبث أن نسعى إلى حديده كما لو أردنا أن ن نحدد النقطة التي يوجد عندها قا واد يقع بين جبلين.
أما تعريف الكلمة الصوتية فالتحكم الذي يعتريه لا يقل عن سالفه، بمعنى أن كثيرا من المقاطع بل ومن مجاميع المقاطع لا نعرف ما إذا كنا نعدها كلمات مستقلة أو أن نصلها بالكلمات المجاورة لها. فالتقسيم يكون قاطعا أو غير قاطع تبعا للغات المختلفة.
كان يجب أن نجد في النبر وسيلة لحل المسألة. لقد رأينا أن إصدار النفس، عند خروجه من القصبة، لا يحدث بصورة مطردة متساوية. فتصريف كمية الهواء غير متصل لأن العضلات التي تهيمن على المنفاخ الصوتي تعجل حركته تارة وتبطيئ فيها تارة أخرى.
وإذن فهناك حالات من الإسراع ومن التقطيع الوزني ومن تخفيف السرعة ومن أوقات التوقف، يقع كل هذا بعدد يقل أو يكثر تبعا للغات وتبعا للمتكلمين. وبعبارة أخرى ينطوي الكلام في حد ذاته على مبدأ من الوزن مع فترات من القوة وأخرى من الضعف. كما نستطيع تقسيم الجملة الموسيقية، باستثناء الميلودية Melodie، إلى تفاعيل "وحدات" mesures، كذلك يمكننا أن نجد في كل
1 رقم 113، ص182.
جملة أيا كانت، إذا استثنينا المعنى، عددا من التقسيمات لعلها أقل اطرادا وطولها أشد اختلافا منها في الموسيقي، ولكنها كذلك قائمة على التكرار المنتظم لفترات القوة. فاللغة فيها قم وأغوار.
ولكن هذه القمم لها في الغالب قيمة سيكلوجية. حتى ليجد الإنسان نفسه مسوفا في بعض الأحيان إلى القول بأن الحركات العضلية التي تنتج الشدة والعلو تسيرها أسباب سيكلوجية فكأن النبر ينفث الحياة في هيكل الأصوات العظمى أو على حد تعبير مجازي لقدامي النحاة، النبر "روح" الكلمة. فهو الذي يعطي للكلمة طابعها وشخصيتها، سواء أكان نبر علو أم نبر شدة. ولكن النبر مع كل هذا لا يكفي لتحديد الكلمة1.
أولا لأنه لا يعين حدودها إلا بصورة ناقصة. نعم إن النبر في بعض اللغات يتوقف على آخر الكلمة، وفي البعض الآخر مبدأ الكلمة هو المنبور. ولكن هذا الحالات لا تستغرق جميع الإمكانيات. فمن اللغات ما لا يشير نبرها المتغير إلى نهاية الكلمة. هذا إلى أنه قد لا يوجد في مجموعة م الكلمات إلا نبر واحد، وعلى العكس من ذلك قد يوجد نبران في كلمة واحدة. فقد كان في الهندية الأربية. كما تبرهن عليه الإغريقية والنسكريتية، ما يسمى بالكلمات الملحقة، وهي كلمات قصيرة لا توجد مستقلة بل توصل بما قبلها. وفي لغاتنا الحديثة التي تستخدم نبر الشدة تنطق بعض مجاميع الكلمات بدفع صوتي واحد يرتفع فيه النفس على مقطع واحد من المجموعة كلها. ومن جهة أخرى فإننا نعرف في السنسكريتية كلمات مزودة بنبرين، وإنه كثيرا ما ينشأ في اللغات التي تستخدم نبر الشدة، نبر ثانوي إلى جانب النبر الأساسي.
فمن المتعذر أن نجد رباطا نهائيا دائما بين النبر والكلمة، إذ نجد في بعض اللغات التي تستخدم نبر العلو كلمات أساسية تخلو من النبر، كالفعل السنسكريتي في كثير من استعمالاته: فمهما كانت أهمية الفعل في الجملة السنسكريتية، فإنه لا ينبر في الجملة الرئيسية. فينبغي إذن ألا تخلط بين استقلالية الكلمة وتعبريتها وتنبيرها. فهنا أمثلة من الروسية يوصل فيها الاسم بالحرف، مثل u marja "قريب من
1 عن النبر في الفرنسية انظر الملاحظات التي كتبها الأستاذ جرامون رقم 78، ص121.
البحر"، na zemlju "على الأرض"، pu gorodu "في المدينة"1.
وسنرى من جهة أن النبر لا يقع بالضرورة على أهم مقطع في الكلمة: فعندنا النبر في الفرنسية على المقطع الأخير في أغلب الأحيان، يعني على عناصر تكوينية أي لواحق بينما يبقي الجزء الأصلي من الكلمة غير منبور2.
كل ذلك يحملنا على تحديد الكلمة الصوتية مستقلة عن النبر.
في كثير من اللغات تنفرد "القطعة" النهائية من الكلمة -على حد تعبير علماء الأصوات- بمعاملات خاصة لا تعرفها القطعة المبدئية، ولا القطع الداخلية3. ذلك على وجه التأكيد أمثل حجة للبرهان على وجود الكلمة الصوتية. والقطعة النهائية من الكلمة خائرة القوى من حيث هي نهائية، بصرف النظر عن قيمة الكلمة الصوتية وأبعادها ونبرها، وذلك ما بينه جوتيو. هذا المبدأ العام لخور النهائيات يستتبع مظاهر مختلفة، والخور قد يكون خطيرا وقد يكون ضئيلا. ولكن يمكننا أن نجد في الظروف التي يخضع لها هذا المبدأ ما يقوي المبدأ نفسه، لأن نتائج الخور تزيد جلاء بقدر استقلال الكلمة وقيامها بنفسها. فنطق النهايات بطريقة خاصة ناجم عن وجود الكلمة ويعين حدودها.
ما دمنا قد سلمنا بوجود الكلمة الصوتية، فقد أمكننا أن ندرس التعديلات التي تحدث فيها بسبب ما للعناصر التي تكونها من فعل متبادل.
والواقع أن الحقيقة الأخيرة التي لفتنا النظر إليها هي إحدى الحقائق العامة التي تنتج ومن وجود الكلمة الصوتية، وتصلح مثالا على ما يسمى التغيرات التركيبية. فالنهاية تتطور في اللغات الهندية الأوربية يوصفها نهاية، أي بسبب المكان الذي تحتله بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، وإذا وجد في بعض اللغات حالات مخففة من مبدأ الضعف العام، بل وحالات من الاستثناء أتاحت لهذه النهاية أو تلك أن
1 بوييه Boyer وسبيرنسكي speranski، رقم 53، ص31 هامش 2 وص11 هامش 2.
2 جسبرسن، رقم 133، ص26 وما يليها.
3 جوتيو، رقم 73، ص34-35.
تبقى سليمة، فذلك لأن جميع اللغات ليست سواء في الاحتفاظ التام لنهاية الكلمة بطابعها من جهة، ومن جهة أخرى لأن آثارا خاصة عارضت الأثر العام الذي يضعف النهايات.
وهكذا سقطت الميم m النهائية من النطق في اللغة اللاتينية منذ عهد مبكر، ولكن كلمة rem احتفظت بأنفيتها التي بقى منها آثار في الكلمة الفرنسية rien "لا شيء". وذلك لأنها. كلمة قصية، وحيدة المقطع، والكلمات القصيرة كثيرا ما تقاوم الانحرافات التي تصيب الكلمات الطويلة باطراد. أما الكلمات الطويلة فعلى العكس من ذلك، تقدم لنا في بعض الأحيان انحرافات خاصة ناجمة من طولها1 هذه بوجه خاص هي الحال بالنسبة لكلمات كثيرة الاستعمال، ومن ثم يمكن فهمها قبل النطق بها إلى حد أن المتكلم يستطيع أن يعفي نفسه من توضيح النطق بها، مكتفيا بنطقها في صورة مختصرة. فالبلي الصوتي واضح فيها بدرجة خاصة. هذه الألفاظ في عمومها إما آلات مساعدة في اللغة وإما عبارات محفوظة متداولة ولذلك ليست في حاجة إلى وضوح النطق الذي تقتضيه الرغبة في الإفهام. ويوجد في كل اللغات أدوات وحروف جر وحروف وصل
أصلها في غالب الأمر كلمات قائمة بنفسها تحولت إلى آلات نحوية "أنظر الفصل الخامس من الجزء الثاني"
هي في الإغريقية القديمة فعل أمر معناه "دع""قارن العبارة الإنجليزية let us go "لنذهب" let him write "دعه يكتب""، فالتقلص في الحالتين يتجاوز، ويتجاوز بكثير القواعد العادية للغة، ويمكن تفسيره بالطابع النحوي للكمات التي تقع في حوزته.
1 مييه: رقم 6، مجلد 13، ص26.
2 برنو: رقم 109، ص125، 236، ملاحظة رقم1.
ومن الشائع في الفرنسية أن يقال وِمْسييه "wimsyoe" و"wimmzel" وِمْزِلْ بدلا من oui، monsieur "نعم سيدي" و oui، mademoiselle "نعم آنستي" وفي الأسبانية يقال:"أُسْتد" usted بدلا من vestra merced وفي الألمانية moen gmoen بدلا من Guten Morgen "جوتن مورجن""صباح الخير phyadtigot، "حفظك الله" بدلا من behute dich gott. وقد جرت محاولات لتفسيرها بنظرية حركة الكلام sprech temop، وعند أصحاب هذه النظرية الصيغتان gmoen، wimsyoe، من صيغ السرعة "الأللجرو allegro" أما الصيغتان oui، Mosieur و guten Morgen من صيغ البطء "اللنتو lento". ولكن هذا التفسير لا يقنع أحدا. نعم إن سرعة إرسال الكلام تختلف من لغة إلى أخرى: فالفرنسيون أو الإنجليز أسرع من الألمان في الكلام، وألمانيو الشمال أسرع من ألماني الجنوب. ولكن من غير الصواب أنه توجد في داخل اللغة نفسها صيغتان في آن واحد وأنه يمكن استعمال هذه أو تلك تبعا لسرعة المحادثة. والواقع أن هناك كلمة Morgen أو كلمة monsieur وكلتاهما موجودة في الفكر، وكلمة moen أو msyoe وهما اللتان تنطق بهما الأعضاء. وقد نشأت الصيغتان الأخيرتان من اتجاه في اللغة طبق إلى أبعد الحدود، وهما تبنيان إلى أي حد يصل تأثير الاتجاه الصوتي في اللغة إذا لم يعقه عائق: فهما في الواقع من الصيغ المتطرفة في اللغة1.
من العسير أن تكون عناصر الكلمة الصوتية متساوية القيمة في داخلها. فمنها القوي ومنها الضعيف، منها ما يسود ومنها ما يساد، ومنها ما يقاوم آثار العوامل الهدامة ومنها ما يستسلم لها بسرعة2. السيادة والغلبة، هاتان هما الصفتان الجوهريتان اللتان على مؤخر اللغة قبل كل شيء أن يعين حدودهما وأسبابهما في في داخل النظام الصوتي للغة التي يدرسها: الواقع أن التكوين الصوتي لكل لغة يقضي بوجود أنواع من السيادة ومن المقاومة الخاصتين. ولا يمكن أن تختلف اللغات بعضها عن بعض في التطور الصوتي غلا بصراع ينشأ بين الأصوات من
1 انظر فندريس: خواطر عن القوانين الصوتية، رقم 99 ص122.
2 انظر جوريه juret رقم 86.
جراء التوازن. غير أنه فيما عدا التأثيرات الصوتية الخاصة بكل لغة، توجد تأثيرات عامة تتجلى في كل اللغات وهي نتيجة لاتجاهات طبيعية فسيولوجية ونفسية معا. ففي الأصوات الإنفجارية يوجد فرق بين العنصر الانحباسي والعنصر الانفجاري، فالأول أقل حساسسية للمسع لأن انطلاقه أقل صلابة من الثاني. هذا الفرق يعرض الانحباس لعوارض مختلفة. فمجموعة مثل "أكتا" akta فيها الكاف k وهي انحباسية أقل مقاومة من التاء t الإنفجارية "انظر ص49". ويمكن لاتجاهين متعارضين أن يؤثرا معا، وتكون النتيجة تعديلا في المجموعة فإما أن يتخلى المتكلم كسلا عن تحقيق الحركات النطقية للكاف k فينتقل طرف لسانه توا منذ الاحتباس إلى موضع التاء t فنحصل في النهاية على atta "أنا" بتاء طويلة. هذه العملية قد وقعت في اللغة الإيطالية حيث نجد الكلمات اللاتينية actus "اكتس" و strictus "ستركتس" قد صارت atta "أتا" و stretia "سترتا. وإما أن تدفع المتكلم الرغبة في توضيح نطق الكاف k إلى أن يتبع الكاف الانحباسية بانفجار طفيف يقوم به في نفس النقطة قبل الانتقال إلى انفجار التاء t وهذا النطق نسمعه في الفرنسية غالبا عن أولئك الذين يغالون في صحة الأداء، ويمكن رسمه بكتابة faqueteur "فكتير" بدلا من facteur "فكتير" "ساعي البريد. فانفجار الكاف k في الواقع مهما بلغ من القصر، يقع حتما على شبه حركة، هي الحركة الضامرة المخنوقة التي يشار إليها بالـe الصامتة. في الحالة الحالة الأولى حدث توافق1 وفي الثانية انفصال.
هناك مسلك ثالث: وذلك بألا يتجه الصوتان المتماسان إلى التوافق بين عناصرهما بزيادة المشابهة التي بينهما، تلك المشابهة التي تصل أحيانا إلى التماثل التام، ولا أن يتحصن كل منهما ضد الآخر بوضع نوع من العازل يكون عقبة في سبيل التأثير المتبادل بينهما، بل على العكس من ذلك، بأن يستغلا ما بينهما من فروق فيعمقاها إلى حد ألا يبقى بينهما شيئ مشترك، ثم يزيلا كل نقطة للتشابه. وتلك هي عملية المفارقة2 التي هي ضد التوافق. وهكذا، في مثل المجموعة السابقة kt "كت"
1 فندريس، رقم 6، مجلد 16، ص53 "1909".
2 مييه: رقم 45 مجلد 12، ص14 وما يليها "1901".
نجد بعض اللغات كالإيرانية والكلتية تقلب الانفجاري الأول إلى احتكاكي فتحصل في نهاية الأمر على CHT "شت" وطبيعة التغير في حالة التوفيق أو الفصل أو التخالف تتوقف على الشروط العامة لنظام اللغة الصوتي. هذه العمليات الثلاث كثيرا ما تتدخل لإزالة المجاميع الصوتية التي يصعب نطقها.
وتعمل اللغات على إبعاد الأصوات أو بجاميعها التي من هذا القبيل لأسباب عضوية على وجه العموم. وعسر النطق كعكسه، وهو اليسر، من المسائل النسبية المحضة التي يحسها المتكلم بوضوح على ما يبدو، ولكنها تختلف في كل لغة عنها في الأخرى. ولا يمكن تقويمها دون معرفة اللغة معرفة دقيقة. والواقع أن أصلها يرجع إلى العادات المكتسبة من الحركات النطقية. لذلك كانت هذه المجموعة أو تلك التي يعسر نطقها على شعب من الشعوب، ينطق بها جاره دون صعوبة.
بيد أن هناك مجاميع عسيرة النطق بصفة عامة، وبسبب الاستعداد الطبيعي للأعضاء ويمكن أن تطلق عليها اسم المجاميع غير الثابتة. فكلما أدت الظروف إلى نشوئها في اللغة، أمكننا أن تتنبأ بأن اللغة ستدبر الأمر للتخلص منها ولكن خطة التخلص منها تختلف.
فالمجموعة TN "تن" مجموعة غير ثابتة. فلما كانت نقطة الحركة النطقية للتاء هي عين نقطة النون في تركيب مثل أثنا ATNA، كان على اللسان ألا يتحرك بين الفتحتين وتكفي حركة بسيطة من غشاء الحنك مع وضع الذبذبات الحنجرية في حالة حركة للتفريق بين التاء والصوت الأنفي. وهذه آلية على جانب من اللطف تتطلب كثيرا من الدقة. ويستطيع الإنسان أن يستعد لها عندما يدور الأمر حول كلمة علمية. مثل إسم العلم إتنا ETNA. والحقيقة أن أسماء الأعلام تقاوم أكثر من غيرها الانحرافات الصوتية التي تنشأ من التغيرات التركيبية. ولكن الإنسان في الكلمات الكثيرة الدوران في الكلام على العموم يدبر أمره للتخلص من المجموعة غير الثابتة NT "نت". فطورا يحصل توافق، ينخفض حجاب منذ بدء المجموعة وتستمر الأوتار الصوتية في الذبذبة دون توقف بين الفتحتين فتكون النتيجة ANNA "أنّا"، "هذه هي الحال في الكلمة اللاتينية ANNUS
"آنُس" إذا قورنت بالقوطية ATHNUS "أثنس" وكلتاهما مأخوذتان من ATNOS "أتنس" التي تعد أقدم منهما". وطورا يحصل تخالف يتجه على حسب الأحوال إما نحو الانفجاريوإما نحو الأنفي، فيوسع اللسان من شقة الخلاف بين الصوتين ليتجنب البقاء في وضع من التوازن يصعب عليه الإحتفاظ به: فنحصل مثلا في بعض الأحيان على AKNA "كما في الأمبرية1 حيث نجد فيها كلمة AKNUS "أكْنُس" تقابل ANNUS "أنُّس" في اللاتنيية". وفي بعض الأحيان atra "أتْرَا"، كما وقع في عدد من اللغات الكلتية، وعلى الخصوص في اللهجة البريتانية، حيث تنحدر كلمة TRAON "تراؤن" "قاع، واد" من الكلمة الأقدم منها tnaou "تناؤو". وهناك مسلك ثالث للتخلص ينحصر في الفصل. إذ لما كان تلامس التاء والنون هو مصدر الصعوبة في النطق، أمكن حذف هذه الصعوبة بإدخال حركة بينهما مثل: tyno "تِنو" في الغالية "تنطق بالفرنسية teno بـe صامتة" التي تقابل traon في اللهجة البريتانية.
في الأحوال السابقة كان الأمر يتعلق بأصوات متلامسة، ولكن حالات التوازن وتبادل التأثير تصيب أيضا أصواتا يفصل بينها عدة عناصر، بل أصواتا أيضا تنتسب لمقطعين مختلفين وتوجد في أماكن يبعد بعضها عن بعض في الكلمة الصوتية. والعمليات التي تنتج هنا هي عمليات التشابه والانتقال والتخالف2.
يقال إن هناك تشابها عندما يستعير واحد من صوتين منفصلين عنصرا أو أكثر من عناصر الآخر إلى حد الاختلاط به. والصوت المشبه يسبق في أغلب الأحيان الصوت المشبه. أي أن هناك في الواقع حالة تعجل: فالعقل باشتغاله بنطق صوت ما في داخل مجموعة صوتية يجعله يصدره قبل أوانه، وينتج مرتين
1 الأمبرية OMBREN: لهجة إيطالية قديمة عرفت من بعض نصوص منقوشة على الآثار. المعربان.
2 انظر خاصة جرامون، رقم 79. والمقالات العديدة التي نشرها عن الانتقال المكاني في كثير من اللغات ولا سيما في رقم 6 مجلد 13، ص73 وما يليها، رقم 101 ص179. وانظر أيضا برنو PERNOT رقم 108، ص540.
متتابعتين الحركات الصوتية التي يقتضيها هذا الصوت. ويكون الصوت المشبه عادة قريبا من الآخر إلى حد ما لتبرير الخطأ. وهكذا كان أسلاف اللاتينيين يقولون Quequo كوكوا بدلا من pequo ومن ثم جاءت coquo "كُوكْوو""أنضج" في النصوص التاريخية. ولكن التشابه يستطيع أن يسير في طريق عكسي، فنجد في الفرنسية الدارجة juchque "جشْك" بدلا من jusgue "جُسك""حتى"، على أن التشابه هنا ينحصر فقط في إحلال موشوس محل صغيري دون تأثير على صفة الجهر.
والانتقال المكاني يصدر عن نفس الأصل الذي صدر عنه التشابه. إذ أن مرد الأمر في كليهما إلى الخطأ ونقص الالتفات. ولكن النتيجة مختلفة كل الاختلاف فبدلا من تكرار الحركة النطقية مرتين، يقتصر على تغيير مكان حركتين، وأخيرا يبدو الانتقال المكاني كما لو أن جزأين في كلمة واحدة قد تبادلا أحد العناصر. فبدلا من "فِسْتْرا" festra "نافذة" يقال في البرتغالية fresta "فِرْستا"، ويقال في بعض اللهجات البريتانية drebi بدلا من debri "دِبْري""يأكل".
1 فضلا عن كتاب جرامون ذلك الكتاب الأساسي، انظر: ك. برجمان: "معنى التشابه الصوتي". ليبنرج 1909.
والنظام الذي تتم به العمليات الثلاث المتقدمة بتوقف على أسباب خاصة على العالم اللغوي أن يحررها في كل حالة على حدة: فضغط الشدة أحد الأسباب التي تتحكم في آلية الانتقال المكاني والتخالف. كما يجب ألا نسقط من حسابنا طبيعة الأصوات ولا مكان كل منها في داخل الكلمة.
التغيرات التركيبية لا تنتج منها أصوات لغوية جديدة. فالتخالف مثلا لا يخلق أبدا أصواتا جديدة غير معروفة في اللغة التي يحدث فيها، "عندما يكون على فعل التخالف الطبيعي أن ينتهي بإنتاج صوت جديد، يحدث أحد أمرين: إما أن يستعاض في الحال عن هذا الصوت المريب بأقرب صوت إليه تعرفه اللغة، وإما أن يبقي الصوت أو مجموعة الأصوات التي كانت عرضة للتخالف على حالها دون تغير، وذلك عندما تتعذر الاستعاضة، أي عندما يكون أقرب الأصوات إليه في اللغة لا زال ببعد عنه بعدا شاسعا""م. جرامون" في هذه الحال لا يحدث التخالف، أو إذا حدث، حدث في اتجاه عكسي. وإحساس الإنسان اللاشعوري بأنه سيحمل على نطق ما لا ينطق، يمسكه عن المضي في طريق التخالف، ويقلب كيان القوى التي في الكلمة ويخلع على الحرف الذي كان يجب أن يختفي فضلا من القوة يميل بكفة الميزان في مصلحته: ويقال حينئذ إن التخالف قد انعكس.
وكذلك لا ينتج التخالف لباعث نفساني، إذا كان اشتقاق الكلمة جليا بالنسبة للمتكلم. وإذا كان هذا الأخير يعرف اشتقاق جزء الكلمة الذي يجب أن يقع عليه التخالف فحسب، حصل التخالف عادة في طريق عكسي: أما إذا كانت أجزاء الكلمة كلها واضحة الاشتقاق بالنسبة إليه، لم يحصل تخالف فقط. وتكون القوة أحيانا في جانب الجزء اللاحق باللفظ وأحيانا في جانب جزئه الأصلي. فكلمة pruneraie "برنيريه" كان يجب أن تكون عند التخالف pluneraie "بلنريه" في الفرنسية ولكنها صارت prunelaie "برنيليه""مزرعة برقوق" لكون الجزء الأصلي أقوى الجزأين، هذا إلى أن وجود كلمة prunelle "بروينل""نوع من البرقوق الوحشي صغير الحبة" قد ساعد على حدوث التخالف. أما
في حالة الكلمة الإسبانية sombrero "سمبريرو""قبعة" فلم يحدث تخالف لأن العناصر المقطعية التي فيها الراء r ذات دلالة بالنسبة لمن يتكلم. وقد استطاع الأستاذ جرامون أن يجمع كل أحوال التخالف تحت قانون واحد هو: الصوت اللغوي القوي يقتضي بالتخالف على الضعيف. وإذا كان الصوتان في قوة واحدة بقي كل منهما.
فنحن أمام صراع من السيطرة والمقاومة. ولكن هذا الصراع لا يمس الأعضاء وحدها. نعم يوجد في بنية كل لغة عناصر تفوق غيرها قوة "انظر الفصل السابق" ولكن القوة الخاصة بكل عنصر مقرها المخ على وجه الخصوص. فالتغيرات التركيبية تأتي من نقص في التناسق بين الفكر والأعضاء، وتنتج من خطأ في الالتفات. فأحيانا يصل الالتفات إلى درجة كبيرة ويتركز بإسراف في نقطة واحدة على حساب غيرها أو يوزع نفسه بصورة غير متساوية على العناصر المختلفة التي تكون الكلمة، وأحيانا على العكس من ذلك يفر تاركا العضو لكسله الطبيعي.
لتقدير قيمة هذه التغييرات على حقيقتها، يجب أن تكون لدينا معرفة دقيقة بعلم الصوتيات العام وكذلك بالنظام الصوتي الخاص بكل لغة، ولكن يتبقى لنا فضلا عن ذلك أن نستطيع إرجاع التغير إلى عملية نفسانية. لأن عقل المتكلم هو المسئول عن ذلك في نهاية الأمر.
تسوقنا هذه الخاتمة إلى أن نقول كلمة عن الصلة بين الكلام وبين الفكر. إذ أن هذه المسألة وإن كانت مسألة سيكلوجية قبل كل شيء فلا يسوغ للعالم اللغوي أن يهملها بأية حال1. عندما نسمع لغة أجنبية لا نعرفها لا تدرك أذننا منها إلا مجاميع من الأصوات على شيء من الطول يقل أو يكثر، ويفصل بينها
1 انظر خاصة ب. إردمان B. Erdumann: "الأسس السيكلوجية بين الكلام والفكر" في "Archiv. f. system. philosophie" مجلد 2، عام 1896، ص355-416. وموتنر Mauthner رقم 178 مجلد1، ص164. ويوجد في فان جينيكن van Ginneken رقم 78، مراجع عديدة عن هذه المسألة في أماكن متفرقة.
فترات من الصمت. فإذا كنا نفهم اللغة التي يتكلم بها أيقظت في ذهنتا هذه المجاميع من الأصوات مجاميع تصورية مرتبطة كل منها بالأخرى وتكون ما يسمى جملة في الاصطلاح النحوي. أصوات وجمل، هاتان هما الحقيقتان اللتان يميزهما للوهلة الأولى تحليل الكلام تحليلا سريعا مبنيا على الفرق بين الأثر الذي يحدثه فيتا سماع لغة مجهلها وبين الذي يحدثه سماع لغة تفهمها.
من الحق أننا لا نغير بأصوات عن كل ما في ذهننا من وحدات تصورية. فالتأمل مثلا لا يقتضي تمرين الأعضاء المنتجة للصوت، ولكن التأمل كلام داخلي فيه تتسلسل الجمل كما في الكلام المنطوق1. وكل واحدة من جمل التأمل تنطوي بالقوة على جميع الحركات النطقية للكلام. فالتفكير يسير معتمدا على الأصوات، حتى عند ما تكون الأصوات غير منطوقة. لذلك نرى أنفسنا في بعض لحظات التأمل مسوقين بطريقة غير شعورية إلى نطق بعض الكلمات التي تقابل تفكيرنا. فكأن الفكرة، وقد ثقلت وطأتها على العضو، قد وضعت الآلية في حالة حركة على غير إرادة منها، على نحو ما يفعل أخرق أو أهوج وقد أراد أن يجرب جهازا ما فلم يكتف بالتمثيل التوضيحي، بل راح ينفذ العمل على حقيقته.
يجب أن تترك لعلماء النفس أن يبينوا إلى أي حد تكون الإمكانيات الصوتية ضرورية للكلام الداخلي. هذه الضرورة ناتجة من العادة على وجه التأكيد، وليس إلزاما من الطبيعة. ولكن يمكن الجزم بأن تأمل الأصم الأبكم يختلف عن تأمل الإنسان السليم الذي وهب الكلام. فالصورة التي نعبر بها تسجن التفكير بشكل يجرده من الوجود المستقل ولا يسمح له بالانفصال عن الأصوات التي تحقق ماديته، ولا بالانفصال عن إمكانيات الأصوات عندما لا يحدث في الواقع التحقق المادي. والحالة التي فيها تدور الأعضاء في الفراغ، دون عمل التفكير، لا تناقض هذا المذهب. فإذا أردنا أن نسمع سلسلة من أصوات متنوعة مجردة من المعنى، فإن تنوعها لا يساوي أبدا ذلك التنوع الذي يستلزم التعبير المنطوق عن فكرة من الأفكار. وأغلب الأمر، أن يقتصر الإنسان على إنتاج
1 ف. إججيه "v. Egger" الكلام الداخلي، باريس 1881.
مجاميع من الأصوات موجودة في اللغة، أي مما اعتادت الأعضاء على النطق بها ويجري استعمالها مزودة بمعنى من المعاني.
يمكننا أن نسمي الوحدة النفسانية السابقة على الكلام بالصورة اللفظية، وهي تصوير أعده الفكر قصد التعبير الكلامي، وهي في الوقت نفسه مجموعة من الإمكانيات الصوتية على استعداد للتحقق الفعلي. فالصورة اللفظية صورة مزدوجة الوجه تنظر بإحدى ناحيتيها في أعماق الفكرة وتنعكس بالأخرى في الآلية المنتجة للصوت. إذا اعتبرت من وجهة تحققها المادي ترجمت بالأصوات، ولكنها بأصولها النفسانية من نتاج عمل العقل. ففيها يتحد طرفا الثنائية التي كنا في سبيل الكلام عنها فيما سبق، وفيها يلتقي ميدان العالم اللغوي بميدان العالم النفسي.
علماء النفس1 يعتبرون الصورة اللفظية نتاجا معقدا ناشئا من انطباق صور أربع بعضها فوق بعض أو من اشتراكها، وهي صورة شفوية وصورة سمعية وصورة بصرية وصورة يدوية. وهذا التمييز بين الصور الأربع قديم جدا، قال به منذ سنة 1740 دافيد هارتلي David Hartley في ملاحظاته عن الإنسان Observations on man. ونحن نعرف المكان الذي احتله هذا التمييز في أعمال مدرسة charcot. فهذا الأخير كان يعلم أن كل كلمة تتكون من عناصر أربعة تجتمع مثنى مثنى في صور حسية "سمعية وبصرية" ومحركة "شفوية ويدوية" أو -وذلك بنوع من التوزيع الذي يتلاقى مع السابق- في صور صوتية "سمعية وشفوية" وكتابية "بصرية ويدوية". هذا التحديد يمكنه أن يدافع عن نفسه إذا طبق على الصورة اللفظية لا على "الكلمة""قارن الصفحة الأخيرة في هذا الفصل". ومع ذلك فإن تحليل الصورة اللفظية تافه الأهمية بالنسبة للعالم اللغوي. لأن أحوال النشاط المخي التي هي شغل العالم النفسي الشاغل تخرج عن دائرة اختصاص العالم اللغوي.
نستطيع هنا أن نعتبر الصورة اللفظية كلا يغيب عنا تكوينه. فعنصران على الأقل من العناصر التي يعرفها لها علماء النفس "أعني البصري واليدوي"
1 انظر دنيان بوفريه، رقم 10، مجلد 16، ص466 وما يليها.
لا يدخلان في حسابنا لأنهما لا يعنيان غير الكلام المكتوب. ولا يدخل في الحساب بالنسبة للشخص الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة إلا الصورتان الشفوية والسمعية، ولكنا، حتى منذ ابتداء الفصل الأول، قد ذكرنا من البواعث ما يدفعنا على جعلهما صورة واحدة "انظر ص44".
ومن جهة أخرى ليس علينا أن نعمل حسابا للاختلافات التي تنتج في نشأة تكوين الصور اللفظية. فنحن نعتبرها مكونة نهائيا في مخ المراهق الذي يتكلم لغته القومية. ونحن نأخذ كلام المراهق كما يسير سيره العادي، بناء على التحصيل الذي تلقاه منذ طفولته الأولى.
على كل طفل أن يخلق هو نفسه ومن كل وجه كلامه، وإذن فالصور اللفظية التي ليست إلا بعض وقائع الاختبار تحولت في المخ إلى إمكانيات لغوية، وعلى الطفل أن يحصلها شيئا فشيئا وأن يربيها. وإنه ليتعذر علينا أن نتمثل أطوار هذا التحصيل بناء على الصورة التي بها نتعلم لغة أجنبية في سن المراهقة. لأن تعلم لغة أجنبية يقوم دائما على أساس اللغة القومية. فإن الإنسان يسير بطريقة الاستبدال، ويسعى إلى تكوين معادلات بأن يرص في ذاكرته كلمات وجملا من اللغة التي يتعلمها إلى جانب كلمات لغته القومية وجملها. كما يعتمد هذا التحصيل في غالب أحيانه على الكتب، فيعتمد على الكلمات المكتوبة ويتخذ أساسا له نوعا من البنية النحوية المصطنعة إن قليلا وإن كثيرا.
أما العمل الذي يتم في دماغ الطفل فيختلف عن هذا اختلافا كليا. فإن الطفل يتلقى عمن يحيطون به جملا جاهزة تفيد التعبير عن بعض الأوامر أو بعض الحاجات، أو عن بعض الوقائع فحسب:"انصرف"، "أنا جوعان"، "الجو صحو"
…
إلخ. كل هذه تختزن في الدماغ وتكون بعددها صورا لفظية، صورا تصقل وتتحدد كلما تكاثرت؛ لأن هذه الصور تصير -بواسطة الاستبدال الذي يعتاد عليه عقل الطفل بسرعة- جديرة بالتعبير عما في الأشياء والأفكار والعواطف من تنوعات جمة، وتتلون بجميع ألوان التفكير على اختلافها. فإذا ما انتهت مرحلة التحصيل، كان في حوزة الطفل مجموعة من الصور اللفظية التي تظهر من تلقاء نفسها في الدماغ كاملة التكوين، وعلى استعداد تام لتحقيقها عمليا.
في الكلام، كلما عن له أن يلقي أمرا أو أن يعبر عن حاجة أو أن يصوغ واقعة من الوقائع. ولا يلبث المجهود العقلي الذي تتمخض عنه الصورة اللفظية أن يصير من البساطة والألفة بحيث لا يشعر به الإنسان وبحيث يتبع مباشرة إنتاج الصورة اللفظية الإحساس بالحاجة أو استيقاظ الإرادة، ثم تتلى الصورة نفسها على التو بالتحقق العملي في اللغة.
يستسلم الطفل في مرحلة التحصيل التي تفرض عليه رياضات معقدة. فيعود أعضاءه على إنتاج الأصوات التي يسمعها. ولكنه لا يسمع إطلاقا أصواتا منعزلة، بل تقدم إليه الأصوات في كل ذي معنى، فيتعلم في نفس الوقت كيف يخضع أعضاءه إلى أوضاع متنوعة تقابل الأصوات المختلفة وكيف يربط مجاميع الأصوات التي تصدر على هذا النحو بمعنى من المعاني. والأصوات ليست جميعا على درجة واحدة من الأهمية، بل منها ما يسود غيرها كما رأينا في دراسة التغيرات الصوتية. ولكن العناصر العقلية التي تكون تلك المادة التي تصاغ في الأصوات تحمل بدورها درجات مختلفة من السيطرة، فمنها ما تطفو وتفرض نفسها على الانتباه بدرجة من الوضوح أعلى مما لغيرها. ويترتب على ذلك أن الصور اللفظية، من وجهة نظر العناصر التي تؤلفها نفسها، تتكون شيئا فشيئا بواسطة تحسينات متتابعة تضاف إلى التجربة الأولى التي تعد بطبيعة الحال غير كاملة ولا تظهر في تلك التجربة المبدئية إلا بعض الملامح المميزة، وهي تلك الملامح التي تقابل قمم السيطرة سواء في الصوتيات أو في العقليات ثم تمثل في الصورة شيئا فشيئا الملامح الثانوية في أدق تفاصيلها.
ومهما كان الوقت الذي يستغرقه التحصيل حتى يصل إلى التكوين النهائي للصورة اللفظية، بل مهما كانت الفترة التي تقدر لاستكمالها، فإن الذي يميزها في عين العالم اللغوي إنما هي وحدتها. فكل العناصر المكونة لها تندمج في عمل واحد هو العمل اللغوي الجوهري، الذي لا يملك العالم اللغوي أية وسيلة يستطيع بها أن يتعداه. فعندما يقول الطفل "Pas poupe" يقصد أن يقول بأنه لا يحب الحساء الذي يقدم إليه، أو أنه يرفض شربه، فإن الصورة اللفظية التي في ذهنه والتي
تهيمن على التعبير بجملته تعد كلا محكم التناسق وإن كان بدائيا. بعد ذلك في سن المراهقة، يستطيع أن يقول على حسب الأحوال:"لا آخذ حساء" أو "أحب ألا آخذ حساء" أو "أفضل ألا تعطوني حساء". الصورة اللفظية التي تقوم على أساسها كل واحدة من هذه الجمل أغنى وأعمر بالألوان المتنوعة من جملة الطفل. وهذه وتلك تنطوي على نفس الوحدة.
يمكن تعريف الجملة بالصيغة التي يعبر بها عن الصورة اللفظية والتي تدرك بواسطة الأصوات. والجملة، كالصورة اللفظية، عنصر الكلام الأساسي. فبالجمل يتبادل المتكلمان الحديث بينهما، وبالجمل حصلنا لغتنا، وبالجمل نتكلم، وبالجمل نفكر أيضا. الصورة اللفظية يمكن أن تكون في غاية التعقيد، والجملة تقبل بمرونتها أداء أكثر العبارات تنوعا، فهي عنصر مطاط. وبعض الجمل يتكون من كلمة واحدة:"تعال" و"لا" و"وأسفاه" و"صه! "، كل واحدة من هذه الكلمات تؤدي معنى كاملا يكتفي بنفسه.
غير أن الجملة لها امتداد الصورة اللفظية بالضبط، بل إنها غير محدودة بالطاقات الصوتية، إذ أنه في غالب الأحيان لا يكفي نفس واحد لنطق جملة بتمامها، وقد يحدث أن تشمل جملة واحدة بعينها مجموعتين تنفسيتين أو أكثر. وعمل العقل يسيطر على عمل الأعضاء. ولا يمكن أن تكون عدم كفايتها سببا في وقوفه، كما لا ينبغي أن يكون في ضرورة أخذ الشهيق عائق لنافخ الناي أو "للسلامية". والجملة تنتظم جميع الدرجات، من الحركات النطقية البدائية التي يصوغ بها الطفل حاجة من حاجاته إلى الصورة المستكملة المؤتلفة ألطف ائتلاف تلك التي تكسو فكرة فنان من نوع ديموستين أو شيشرون أو بوسويه.
يرى من كيفية تعريفنا للجملة أنها تشمل الصورة اللفظية، فكلتاهما لا حد لها إلا في موهبة التأليف التي للعقل. فيجب بناء على ذلك أن يعطي للصورة اللفظية امتدادا أوسع مما يعطي لها عادة وألا تقصر على الكلمة. ولا خلاف بين الصورة اللفظية والجملة إلا في أنه لما كانت الجملة حقيقة واقعية مشخصة، كانت معرضة لكل العوارض التي يستتبعها التحقق الواقعي. فالخزاف الذي يضع في فرنه فنجانا
من الخزف لا يمكنه أن يقطع بالنتيجة التي سيحصل عليها بعد الحريق، لأنه يخشى دائما من نار عاتية تحيل الطينة فحما أو من نار ضعيفة لا تقوى على إبراز اللون. كذلك الصورة اللفظية، وقد حضرت في المراكز العصبية، لا تستطيع المرور بالأعضاء دون التعرض للأحداث.
ويمكننا أن نضرب مثلا نوضح به ما تقدم: أتخيل أن جارا لي وخزني غير عامد، فأصيح قائلا:"آه! لقد وخزتني! ".
من اليسير أن نستعيد تتابع الأفعال التي تمت. فهناك إحساس بالوخزة، نقل إلى المراكز العصبية، واستدعاء مفاجئ لصورة لفظية، ترجمت على الفور في اللغة بالجملة الآنفة الذكر. وكان التتابع من السرعة بحيث تبعت الصيحة الوخزة مباشرة. فما نسميه صورة لفظية إنما هي الصورة التي أعطاها الفكر، وفقا للعوائد المكتسبة، إلى الصيحة التي صحتها. وتختلف الصورة اللفظية في لغة ليس فيها أفعال متعدية أو تعبر عن الحدث في صيغة المبني للمجهول:"أنا ملدوغ منك". واختلاف الصورة اللفظية كثيرا ما يكون الاختلاف الوحيد الموجود بين اللغات. وهكذا يقال في الألمانية "أنا هو" على حين يقال في الفرنسية: "إنه أنا". فالصورة اللفظية مختلفة التركيب. جملة "آه! لقد وخزتني! " تقابل الصورة اللفظية للفرنسية السليمة. فلنفترض الآن أن لساني قد انحرف فقلت: "آه! لقد خزوتني! " مرتكبا "قلبا صوتيا""بالألمانية Schuttelform"1. ومع ذلك فالصورة اللفظية لم تتغير. وإذا كانت لم تتحقق إلا تحققا ناقصا، فمرجع ذلك إلى خطأ قد عرض في التنفيذ. فالجملة التي نطقت بها لا تتفق مع الصورة، وقد وقع الخطأ في الانتقال من إحداهما إلى الأخرى.
لسنا في حاجة إلى القول بأنه توجد حالات تكون فيها الصورة اللفظية مسئولة عن الخطأ المرتكب. فرغم معرفتي التامة لاسم صديقي ديران، أراني أدعوه في المحادثة باسم لبران، وهو اسم شخص آخر من أصدقائي. فمثل هذا ليس عارضا ماديا يمكن أن يعزى إلى الأعضاء. وإذا اتفق مثل ذلك لفرد
1 قارن مير نجف Merxingef وماير Mayer، رقم 180.
من أفراد الشعب لسمعناه يقول: "لا أدرى لماذا كان لبران في ذهني". والواقع أن انزلاق اسم مكان آخر قد حدث في نفس الصورة اللفظية التي يؤلفها العقل. وهذا هو وجه الاختلاف.
إذن تتألف الصورة اللفظية والجملة من عناصر واحدة. هذه العناصر هي التي تسمى في النحو المعتاد بالكلمات. وقد درسنا في هذا الفصل الكلمة الصوتية، ولكن الكلمة الصوتية قد تشتمل على عدة كلمات بالمعنى الذي يقصد في النحو المعتاد، بل إن حدودها قد تكون جلية الوضوح تبعا للغات. فلأجل أن نحددها تحديدا كاملا يجب أن نحلل عناصرها من وجهة نظر نحوية. وذلك هو موضوع الفصل التالي.