المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجزء الثالث: المفردات - اللغة

[جوزيف فندريس]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المقدمات:

- ‌تصدير: اللغة وأداة التفكير

- ‌مقدمة:

- ‌الجزء الأول: الأصوات

- ‌الفصل الأول: المادة الصوتية

- ‌الفصل الثاني: النظام الصوتي وتغييراته

- ‌الفصل الثالث: الكلمة الصوتية والصورة اللفظية

- ‌الجزء الثاني: النحو

- ‌الفصل الأول: الكلمات والأصوات

- ‌الفصل الثاني: الفصائل النحوية

- ‌الفصل الرابع: اللغة الانفعالية

- ‌الجزء الثالث: المفردات

- ‌الفصل الثاني: كيف تغير الكلمات معانيها

- ‌الفصل الثالث: كيف تغير الأفكار أسماءها

- ‌الجزء الرابع: تكون اللغات

- ‌الفصل الأول: اللغة والغات

- ‌الفصل الثاني: اللهجات واللغات الخاصة

- ‌الفصل الثالث: اللغات المشتركة

- ‌الفصل الرابع: احتكاك اللغات واختلاطها

- ‌الفصل الخامس: القرابة اللغوية، والمنهج المقارن

- ‌الجزء الخامس: الكتابة

- ‌الفصل الأول: أصل الكتابة وتطورها

- ‌الفصل الثاني: اللغة المكتوبة والرسم

- ‌خاتمة: تقدم اللغة

- ‌المراجع

- ‌أولا: المجلات

- ‌ثانيا: الكتب

- ‌الملاحق:

- ‌الملحق الأول:

- ‌الملحق الثاني:

- ‌الملحق الثالث:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌الجزء الثالث: المفردات

‌الجزء الثالث: المفردات

الفصل الأول: طبيعة المفردات ومدا ها 1

لم ندرس فيما تقدم حتى الآن الكلمات من ناحية قيمتها المعنوية، أي من ناحية المعنى الذي تعبر عنه مستقلة عن الدور الذي تلعبه في الجملة. ومع أن دوال النسبة تكون مع دوال الماهية في غالب الأحيان جسما واحدا إلى حد يجعل تحليل الكلمة أمرا مستحيلا "انظر ص122"، فإن الصرف مستقل عن قيمة الكلمات المعنوية وقيمتها الصوتية على السواء. وما نسميه بالمفردات هو مجموع الكلمات في إحدى اللغات باعتبار قيمتها المعنوية. فهذه النظم الثلاثة. نظام النطق ونظام الصيغ النحوية ونظام المفردات تستطيع أن تصور منفصلة كل منها عن الآخرين، تحت تأثير أسباب مختلفة. وبعض اللغات تحدد مفرداتها دون أن تغير شيئا من صوتياتها أو من نظامها الصرفي. فنجد مثلا في الأردية الأدبية وهي فروع من الهندستانية " جملا بأسرها ليس فيها من الهندية إلا النظام النحوي، أما الكلمات فكلها فارسية. والغجر الأرمينيون يستعملون لغة أرمينية

1 ك. أ. أردمان k.o. Erdmann و157؛ روفادوفسكي Rozwadoski. رقم 193.

ص: 225

نطقا ونحوا وإن كانت مفرداتها غريبة عن الأرمينية1. ذلك أن القالب النحوي الواحد يمكن أن تصب فيه مفردات مختلفة.

العلم الذي موضوعه دراسة المفردات يسمى الاشتقاق Etymologie2. وتنحصر في أخذ ألفاظ القاموس كلمة كلمة، وتزويد كل واحدة منها بما يشبه أن يكون بطاقة شخصية يذكر فيها من أين جاءت ومتى وكيف صيغت والتقلبات التي مرت بها، فهو إذن علم تاريخي يحدد صيغة كل كلمة في أقدم عصر تسمح المعلومات التاريخية بالوصول إليه ويدرس الطريق الذي مرت به الكلمة مع التغيرات التي أصابتها من جهة المعنى أو من جهة الاستعمال. ومن ضياع الوقت أن نحاول البرهان على أهمية هذا العلم. فلم يأخذ العلماء في تأسيس الصوتيات والصرف المقارنين إلا بفضل ما وصل إليه الاشتقاق من نتائج. والاشتقاق والصوتيات والصرف يسند بعضها بعضا. فما دامت القواعد التي يجري عليها تتابع الأصوات والصيغ النحوية في صورة الاشتقاق، فإن هذا الاشتقاق الذي يطبقها تطبيقا صحيحا يقدم لعلم اللغة إحدى المساعدات.

ولكن الاشتقاق يعطي فكرة زائفة عن طبيعة المفردات، لأن كل ما يعنى به هو أن يبين كيف تكونت المفردات. والكلمات لا تستعمل في واقع اللغة تبعا لقيمتها التاريخية؛ فالعقل ينسى خطوات التطور المعنوي التي مرت بها، ونقول ينساها إذا افترضنا أنه عرفها يوما من الأيام، وللكلمات دائما قيمة حضورية actuelle، يعنى أنه محدود باللحظة التي تستعمل فيها، ومفرد، يعني أنه خاص بالاستعمال الوقتي الذي تستعمل إياه3.

وإذا تصفحنا قاموسا اشتقاقيا كان أول ما يلفت نظرنا بعد العدد الكبير من الكلمات التي لا يذكر لها أي اشتقاق جدير بالاعتبار، إنما هي وفرة المعاني غير

1 Finck فنك: Die Sprache der armenischen zigeuner، في نشرات أكاديمية سانت بيتر سبرج الدورية مجلد 8، رقم 5 "1907".

2 عن الاشتقاق انظر مؤلفات الأستاذ أ. توماس. وراجع أيضا توبيسن Thurneysen. رقم 214.

3 بلي bally، رقم 45 صفحة 21، 47.

ص: 226

المنتظرة التي توالت على الكلمات، فأسماء رتبنا العسكرية مثلا من الكابورال Caporal "الأمباشي" إلى الجنرال general "لواء" مارة بالسِّرجن Sergent "جاويش" فالأدجودنت adjudant "الصول" فاليتينانت lietuenant "الملازم" فالصاغ "اليوزباشي" capitaine فالقومندان Commandant "البكباشي" تقدم لنا مجموعة من الأخلاط المتنافرة؛ وكذلك الحال في جميع التسميات التي نحار في تفسيرها على ضوء الاشتقاق وحده. فالاستعمال يخلع على كل كلمة قيمة محدودة دون أن يدخل في حسابه المعنى الذي كان لها في الماضي. فالماريشال marechal لقب أكبر مقام في نظامنا الحربي، جاءت من خادم الإسطبل "في الألمانية القديمة Marah-scalc، ومنها mariscalcus في لاتينية القرون الوسطي"، ولذلك يرى العالم الاشتقاقي أن ماريشال فرنسا Marechal de France والماريشال فران Marechal frrant "بيطار" يحملان اسما واحدا.

من محض المصادفات أن كانت مجموعة واحدة بعينها من الأصوات تدل في لغة واحدة على العملية الحسابية "calcul" وعلى الحصاة الكلوية "Calcul" إذ إنهما يرجعان من ناحية الاشتقاق إلى كلمة واحدة. وعلى العكس من ذلك يرى العالم اشتقاقي كلمتين مختلفتين في الجملتين il loue une maison "يؤجر بيتا" و il loue la vartu "يمتدح الفضيلة". "مع أن الفعل المستعمل في الجملة الراهنة فعل واحد يستعمل في كلا المعنيين louer"، أو في il pratique le vol a la tire "يمارس السرقة بالخطف"، و il pratique le vol plane "يمارس الطيران الشراعي". "الاسم المستعمل في المعنيين سرقة وطيران واحد هو Voler". ولكنها مصادفة كبيرة أيضا تلك التي جمعت في الفرنسية في مجموعة واحدة بعينها من الأصوات معنى الكلمة اللاتينية Locare "يؤجر" والكلمة اللاتينية أيضا laudare "يمتدح" وفكرة التلصص مع فكرة الجولان في الهواء أو فكرة التفكير الحسابي وفكرة الأحجار تتكون في داخل الكليتين. والمتكلم لا يفرق بين هذه الحالات الثلاث المتقدمة بعضها وبعض فاشتراك اللفظ

ص: 227

في أكثر من معنى l'homoynymis يوجد مستقلا عما كان بين الكلمات من صلات تاريخية.

أكثر من ذلك أننا حينما نقول بأن لإحدى الكلمات أكثر من معنى واحد في وقت واحد نكون ضحايا الانخداع إلى حد ما. إذ لا يطفو في الشعور من المعاني المختلفة التي تدل عليها إحدى الكلمات إلا المعنى الذي الذي يعينه سياق النص1. أما المعاني الأخرى جميعها فتمحى وتبدد ولا توجد إطلاقا. فنحن في الحقيقة نستعمل ثلاثة أفعال مختفة عندما نقول "الخياط يقص الثوب" أو "الخبر الذي يقصه الغلام صحيح" أو "البدوي خير من يقص الأثر". وكذلك الحال عندما أقول "لا تصاحب الآنسة س: إنها بنت" أو "السيدة س ولدت مولودا، إنه بنت" أو "أقدم لك بنتي"، فإني أستعمل في الواقع ثلاثة كلمات لا يربطها بعضها ببعض أي رباط، لا في ذهن المتكلم ولا في ذهن السامع.

في التسليم بأن للكلمات معنى أساسيا ومعاني ثانوية صادرة عن الأول إثارة لمسألة وجهة النظر التاريخية ووجهة النظر التاريخية تلك لا قيمة لها هنا. ربما رأى الشخص الذي يشمل اللغة بأسرها في تطورها واتساعها بنظرة واحدة أن الريشة التي من حديد جاءت من ريشة الأوزة، فهي عنده كلمة واحدة أخذت دلالتين مختلفتين على مرور الزمن. لذلك يجدر بقاموس يفخر بتتبعه لخط سير المعاني أن يضع تحت كلمة ريشة، معنى الريشة التي من "حديد" بعد معنى ريشة "الأوزة" ولكن الفرنسي الذي يتكلم لغته اليوم، لا يرى في هذين الاستعمالين في الواقع إلا كلمتين مختلفتين. ولا يوجد شخص واحد يحاول أن يشكو من الغموض عند سماعه جملتين من قبيل "يعيش من كد ريشته" و"اجتث له ريشة". وكل واحد يفهم دون تردد أن الكلام في الجملة الأولى عن أحد الكتاب وفي الثانية عن أحد الطيور. فالكلمتان مختلفتان كجميع المشتركات الأخرى. وفي اللغة كلمتان من "ريشة" تقابلان المعنيين السابقين كما يوجد

1 قارن ما يقول بولان PAULHAN فيما يقتبسه عنه ب. لروا B. LEROY رقم 87، صفحة 97.

ص: 228

أربع كلمات من "سو SO""وإن اختلفت في الكتابة" في الجمل الأربعة الآتية: ILS ONT DEPOSE LEURS SEAUX "لقد حطوا دلاءهم" ILS ONT APPOSE LEURS SCEAUX "وضعوا توقيعاتهم" و LA NATURE NE FAIT PAS DE SAUTS "الطبيعة لا تقوم بوثبات" ces enfants sont des sots "هؤلاء الأطفال بلهاء"1.

قد يعترض معترض فيقول بأنه قد مرت لحظة كان يحس خلالها بأن كلمة ريشه استعارة. ولكن هذه اللحظة لم تطل، فأية كلمة في اللغة الجارية ليس لها إلا معنى واحد في الوقت الواحد. إذ لما كانت ريشة الأوزة تستعمل في الكتابة، كان الذي قال "آخذ ريشتي لأكتب كلمة" قد استعمل كلمة ريشة بمعنى أداة للكتابة، ولم يقصد استعمال استعارة، وسامعه لم يقدر غير هذا التقدير. الاستعارة تشبيه مختزل، تقديرها يحتاج إلى مجهود يستطيع الإنسان أن يسلم به له لمؤلف يقرؤه عندما يتوفر له الوقت، ولكنه في المحادثة لا يملك الوقت الكافي لهذا العمل. فاللغة في حاجة إلى تحديد ووضوح. وأكثر ما يجب تجنبه عند الكلام إنما هو اللبس. والجناس في حد ذاته مسلك غير طبيعي، فهو عمل فني يتطلب انتباها خاصا ككل إنتاج فني. وأولئك الذين يقبلون على هذا النوع من الممارسة يعرفون جيدا ضرورة تحضير الجو وإيقاظ عقل السامع ليكون على بينة مما يجري فيقف بالمرصاد لاقتناص النكتة العقلية. فلو كانت الكلمة تمثل دائما في الكلام بكل معانيها الممكنة لأحسن السامع في المحادثة على كل حال ذلك الأثر المضايق الذي تحدثه في نفسه سلسلة من الجناسات.

لا شك أن هذه النتيجة تصدم المتشددين الذين يعلقون أهمية كبيرة على اختيار الاستعارات، والذين يقولون بإقصاء كل تلك التي لا تأتلف ائتلافا تاما مع سياق النص، وقد يعترضون بأن فن الأسلوب لم يوجد عبثا. نعم، نحن نوافق أنه ليس من التجاوز في العناية بالأسلوب أن تعاب هذه الاستعارات المتنافرة التي كثيرا

1 الكلمات التي تدل على دلو وتوقيع ووثبة وأبله واحدة في نطقها ولكنها مختلفة في رسمها. المعربان.

ص: 229

ما تثقل الخطب الرسمية والمقالات التي تنشر في صغار الصحف. فجعل "عربة الدولة تسبح على بركان" أو وصف فنانة مبتدئة بأنها "كوكب من العشب، يغني "رغم حداثته" بأنامل فنان ناضج" ليس من العناية بالأسلوب في شيء. وكل اللغات تحتوي على عبارات عوجاء من هذا القبيل تذكر أحيانا للتفكه وإثارة الضحك. وكلنا يعرف الجملة الألمانية der zahn der zeit، der Schon so manche Thrane getrocknet hat، wird auch uber diese wunde Gras wachsen lassen وترجمتها الحرفية "ناب الدهر الذي كثيرا ما جفف من دموع، سيجعل العشب ينمو على هذا الجرح أيضا". لا شك أن مثل هذه الجمل تثير الضحك، ولكنها لا تضحك إلا بعد تفكير، أما في حرارة الارتجال فإن وجه الإضحاك فيها لا يبدو دائما. وخطؤها أنها تجمع بين كلمات لا تأتلف إذا كانت مستعملة مجازيا. ولكن من يدخلها في كلامه يستطيع أن يقول في الدفاع عن نفسه بأنه لم يسع إلى عمل استعارات. وإنما أراد أن يستعمل عبارات مصنوعة stylisees في الحال. والواقع أن كلمة واحدة منها تليق بالغرض الذي وضعت له إذا أخذت على حدة. ولكن تراكمها في مكان واحد هو الذي يدعو إلى الضحك منها1.

كل منا معرض للوقوع في أخطاء من هذا القبيل إذا لم يراقب نفسه. فنجد الكثير منها عند الخطباء الذين يرتجلون. بل إن الكتاب ذوي المواهب ليسوا بمنجي عن الوقوع فيها. فقد أحصى الألمان الكثير منها في شعر شيلر. ولكنها لا تعاب حقا إلا عندما يكرر منها عدد كبير أو عندما تثير صورا مغرقة في إثارة الضحك كما في الأمثلة السالفة. غير أن المتشددين يعيبون على كل العبارات التي فيها استعارة غير مؤتلفة أو مزادة بين كلمات لا تتزاوج. ومع ذلك إذا سمعنا هذه الأشياء من أفواه عامة الشعبة، لا ينبغي لنا أن نعجل بالاحتكام إلى محكمة العقل ضدها على أنها من سوء الاستعمال. فإن عددا كبيرا من العبارات الجارية التي تجيزها القواميس ويستعملها خير الكتاب قد نتج من استعمالات مجازية ممسوخة. أليس من الخرق أن يقال: يملأ غرضا "يعني "يحقق غرضا" أو

1 إردمان Erdmann ورقم 157، ص172.

ص: 230

خربت ثوبها بمعنى "abimer"" أو يحتضن صناعة أو يتمتع بصحة سيئة؛ فالمتشددون على حق حين يرفضون هذه العبارات. ولكن من الخرق أيضا أن نتكلم عن مرساة سكة الحديد debarcadere de chemin der fer "حيث لا ينزل من القطار في قارب، والمرساة deparcadeir أصلها للخشبة التي تصل بين السفينة والشاطئ" أو عن الوصول إلى بلدة كذا arriver "حيث لا يوجد شاطئ لعدم وجود نهر، وأصل معنى arriver الوصول إلى rive أي الشاطئ" أو عن الاستياك بفرشة شعر أو عن اعتناق مبدأ من المبادئ ولا دخل فيه للعنق. ومع ذلك فهذه كلها من خير عبارات اللغة، لا نحس فيها شيئا مما يخالف المنطق، وقد يعترينا الدهش حين نعلم أن بعض المتشددين من أعضاء الأكاديمية كانوا في القرن السابع عشر يخطئون عبارة "أغلق الباب" مدعين أنه يجب القول "ادفع الباب" أو "اغلق الغرفة"1.

كذلك لا نحس خبثا -اللهم إلا إذا قصدنا إلى ذلك قصدا- في مسميات مثل "براغيت الست" أو "فسية العفريت" أو "حظيرة الحزب"؛ لأن أصل الاستعارة قد اختفى من الاستعمال الحالي، إذ صارت أسماء تدل على نوع من الحلوى، أو على ظاهرة جوية أو على مستقر لجماعة ما وبالتالي على مبادئها. كما في وسعنا أن نقول:"نقرن زيدا بعمرو" دون أن نسيء إليهما، لأن قيمة الكلمة الاشتقاقية قد اختفت.

الذي يعين قيمة الكلمة في كل الحالات التي ناقشناها إنما هو السياق، إذ أن الكلمة توجد في كل مرة تستعمل فيها في جو يحدد معناها تحديدا مؤقتا. والسياق هو الذي يفرض قيمة واحدة بعينها على الكلمة بالرغم من المعاني المتنوعة التي في وسعها أن تدل عليها، والسياق أيضا هو الذي يخلص الكلمة من الدلالات الماضية التي تدعها الذاكرة تتراكم عليها، وهو الذي يخلق لها قيمة "حضورية".

1 سانت إفرمن saint-Evremond؛ Comedie des Academiciens الفصل الثالث المنظر الثالث.

ص: 231

ولكن الكلمة بكل المعاني الكامنة توجد في الذهن مستقلة عن جميع الاستعمالات التي تستعمل فيها مستعدة للخروج والتشكل بحسب الظروف التي تدعوها.

تنوع الاستعمالات التي تصلح لها الكلمة لا تخلع عليها قيمة عامة. إذ لا يوجد بين القيم المختلفة التي تصلح لها الكلمة قيمة وسطى. بل كل واحدة منها موجودة بأسرها، لا تنتظر لتعزز وجودها إلا إشارة واحدة. وإذا كان هناك شيء من التردد، فإن ذلك التردد لا يرجع إلى القيمة نفسها بل إلى الظروف التي تتدخل فيها. في ذهني مثلا كلمة "بنت" Fille. فمعانيها التي أشرنا إليها سابقا لا يختلط بعضها ببعض، بل تبقى كل منها تحت تصرفي ساعة أحتاج إليها. ومع ذلك فليس عندي في ذهني إلا كلمة واحدة هي Fille "بنت".

هذه الكلمة نفسها ليست منعزلة، بل مسجلة في ذهني مع كل حالات السياق التي سبق أن أدخلتها فيها، ومع كل الارتباطات التي تصلح للاشتراك فيها:"بنات وبنين"، "بنت طيبة"، "بنت أم"، "بنات الملجأ"، إلخ. فأراني أربطها في آن واحد بعدة عائلات من الكلمات. وهي تثير في نفسي عددا من التصورات يكبر أو يصغر تبعا لقوة مخيلتي، وكل هذه التصورات تشع منها في جميع الجهات.

ليس في الذهن كلمة واحدة منعزلة. فالذهن يميل دائما إلى جميع الكلمات، إلى اكتشاف عرى جديدة تجمع بينها. والكلمات تتشبث دائما بعائلة لغوية بواسطة دال المعنى أو دوال النسبة التي تميزها، أو بواسطة الأصوات اللغوية التي تتركب منها لا أكثر من ذلك. فنحن نشعر بأن الكلمات: إعطاء، عطية، عطاء، معط، معطى"

إلخ، تكون عائلة قائمة بذاتها تتميز بعنصر مشترك، هو الأصل "ع ط ي" مهما تنوعت معاني المشتقات. كذلك الكلمات bonasse "مصطفاوي" و blondasse "شقراوي" و cocasse "مضحكاوي" و jaunasse "أصفراوي" و degueulasse "مقرفاوي""وهذه الأخيرة عريقة في العامية" ترانا نربطها بعضها ببعض بواسطة اللاحقة asse "آس" التي تدل على السخرية. ولكن من الكلمات إعطاء، معط، ومعطى، إلخ تكون

ص: 232

مجموعات أخرى. فإعطاء ترتبط بإحلال وإعظام

إلخ، ومعط يرتبط بها مغن ومزر

إلخ، ومعطى ترتبط بها كلمات مثل مرضى وملقى

إلخ. فهناك إذن تداخل بين المجموعات.

اجتماع الكلمات تبعا لأصواتها يؤدي دورا هاما فيما يسمى الاشتقاق الشعبي "انظر ص79" فالذهن يميل إلى أن يصل بين الكلمات تبعا لشكلها الخارجي وأحيانا على عكس ما يقتضي المعنى، بل على عكس ما يقتضي العقل السليم. وقد تسوق مشابهة غامضة بين كلمة وكلمة أخرى أشيع استعمالا أو أكثر شهرة إلى التقريب بينهما، ومن هنا تنشأ بعض التشويهات الغريبة: فالتسمية اللاتينية culcita pucata ومعناها الحرفي "ملحفة ذات غرز" Couverture piquee صارت في الفرنسية courte pointe "الغرزة القصيرة" بدلا من Coulte pointe "الغرزة المشكوكة" مع أن فكرة القصر لا صلة بينها وبين تعريف المادة التي نحن بصددها. والرقص الإنجليزي المسمى countrydance "رقص الريف" مع أنه منقول من فرنسا، دخل اسمه في اللغة الفرنسية من جديد بصيغة contredancse "عكس الرقص" وهي عبارة لا معنى لها. ونحن نعرف الصيغ الظريفة التي تأخذها أسماء الأمراض والأدوات الفنية في أفواه العامة، فهي كنز لا يفنى من التسلية للمشتغلين بتسجيل الطرائف. وإذا كانت عبارة la liqueur a piocer "خمرة النوم" التي تقال بدلا من laqueur opiacee "خمرة بالأفيون" وهي عبارة لذيذة موفقة المعنى فإنه لا يوجد أي مبرر لإطلاق lait d'anon "ليدانون""لبن الحمارة" على الدواء المسمى Laudanum.

وقد ذكرت حالة أطلق فيها اسم chantepleure "غناء البكاء" على نوع ما من الأقماع لا علاقة له مطلقا بالبكاء ولا بالغناء حتى أصبح اسمه في تغيراته المتتابعة من خير المثل للاشتقاق الشعبي الذي ليس للمعنى فيه أية أهمية. وأسماء الأعلام "ونعتبر أسماء الأعلام هنا بمعناها الأوسع انظر ما يلي في آخر هذا الفصل" مسرحا خصيبا لمثل هذه التشويهات. ومن أمتع هذه التشويهات ذلك الذي جعل من pipe de kummer "عليوم كومبر" اسم صانعه pipe d'ecume de mer "kummer" "عليوم

ص: 233

زبد البحر" "ومن تسميته بالألمانية Meerschaum، وجاء من التسمية الإيطالية "mala aethiopica" pomi dei Mori التعبير الفرنسي Pommes d'amou "تفاح الحب""ومن ثم love-apples في الإنجليزية و liebesapfel في الألمانية" كما جاء من التسمية الإنجليزية "Aunt sallay العمة سلي، اسم للعبة".

التسمية الفرنسية ane sale "الحمار المملح" وجاء من الطليانية girasole "اسم نوع من الخضروات" الكلمة الإنجليزية Jerusalem اسما لهذا النوع من الخضروات، وصحف اسم جبل الهيميت Hymette في اليونان إلى Il matto ""المجنون في لغة البندقية في القرون الوسطى"" ومنها جاءت التسمية المتداولة الآن في الإيطالية السويسرية Trello-vonuno "جبل المجنون" هذه كلها أمثلة بينة من ترابط الكلمات التي يحصل في الذهن. فحدوثه بصورة غير شعورية عادة لا يمنع من أنه بالغ الأثر.

وإذا استقصينا نتائج هذه التغيرات خرجنا من الميدان اللغوي إلى ميدان الفلكلور: فكم من الأساطير ولدت من أحداث لغوية كتلك التي أشرنا إليها هنا1. فبالقرب من جرينوبل قلعة تسمى سان فران Saint-vrain حرف اسمها إلى سن فنان Sans-venin "دون سم" فنسجت حولها أسطورة منشؤها هذا الاشتقاق الشعبي. فالاسم وهو مطية الأفكار، يؤدي بتلاعب التشابه والجرس إلى مقاربات تغرر بالعقل. هذه أشياء يرفضها العقل السليم، ينظر فيها الإنسان فيظنها من خيال الأطفال ولكنها تأخذ سيما الحقيقة. لذلك ذهب البعض إلى أن الأساطير إنما نشأت من مرض في اللغة، وقد نجح في البرهان على بعض الحالات2. ولكن لقصص الأولياء أيضا نصيبها من مسئولية ذلك في غالب الأحيان؛ فكثير من القديسين المعروفين بشفاء المرضى في ريفنا يدينون ببركاتهم إلى أنواع من الجناس ساعدت عليها صيغ أسمائهم. كذلك يطفح الطب الشعبي

1 مكس ملر، رقم 104، مجلد 2 ص91-92، ص317، نيروب NYROP رقم 146، ص222.

2 بريال، رقم 54.

ص: 234

بالوصفات الناشئة عن اللعب بالألفاظ، فترابط الأفكار يخلق أدوية من نوع الأمراض HOMEO-PATHIQUES، ذلك أن الكلمات لها دائما قيمة رمزية إن قليلا وإن كثيرا1.

أشرنا فيما سبق إلى ما بين اللغة الانفعالية واللغة المنطقية من علاقات؛ فكلتاهما تختلطان في الاستعمال الذي يستخدم الكلام. ولكن هذا المزج يكون على أثبت حال في ميدان المفردات منه في أي ميدان آخر. فالكلمة لا تحدد فقط بالتعريف التجريدي الذي تحددها به القواميس. إذ يتأرجح حول المعنى المنطقي لكل كلمة جو عاطفي يحيط بها وينفذ فيها ويعطيها ألوانا مؤقتة على حسب استعمالاتها. بل حتى عند أقل الناس خيالا وأبعدهم عن التأثر يختلط بالمعنى التجريدي العام الذي تبين عنه الكلمة، ألوان خاصة هي التي تكون قيمتها التعبيرية.

إذا أردنا تحليل هذه القيمة اكتشفنا فيها خصائص متنوعة وأصولا عديدة فهي تنشأ أولا من اتفاق يتكون بين معنى الكلمة والأصوات التي تتألف منها. نعم أغلب الظن أنه لا يوجد اليوم من يرى رأي الرئيس دي بروس de Brosses أو رأي كوردي جبلان court de gebelin من أن الكلمات تكونت في الأصل من أصوات مساوية للأفكار وأن fleuve "النهر" مثلا يدين باسمه إلى أن الحرفين ف ل f1 اللذين يحتويان حرفا مائعا يوقظان الإحساس بشيء "يسيل" إذ لا يوجد أي تطابق مبدئي بين الصوت والمعنى، فالمفردات لم تخرج من مجموعة من أسماء الأصوات. ولا نظن أحدا يضم صوته إلى مقولة رجل الكنيسة الذي يزعم أن الأسماء يجب أن تتفق وطبيعة الأشياء، كما يقول سان توماس الأكويني:

"momina debent naturis rerum congruere"

ولكن إذا كان هذا الاتفاق فرضا لا قيمة له في تفسير بناء المفردات، فإن هذا الغرض يحتفظ بقيمته كاملة من حيث أنه يقرر الطريقة التي يجري عليها

1 عن القيمة الرمزية للكلمات انظر ميير meyer، رقم 30، مجلد 12، ص256.

ص: 235

عقلنا1. فمن الحمق أن نحكم بوجود علاقة ضرورية بين الحرفين ف ل f1 مجتمعين وبين فكرة السيلان إذ إن الكلمات ruisseau "مجرى" و riviere "جدول" و torrrent "سيل" التي تعبر أيضا عن فكرة السيلان بقدر ما تعبر عنها كلمة fleuve "نهر" لا تحتوي على مثل هذين الصوتين، وأن كلمة fleur "زهرة" التي لا تكاد تتكون إلا من هذين الحرفين أيضا لا توقظ في الذهن إطلاقا فكرة السيلان. ولكن من الحق أن كلمة fleuve "نهر" معبرة لأن الأصوات التي تكونها صالحة تمام الصلاحية لإثارة الصورة التي تمثلها.

فالواقع أن هناك بين الأصوات ومركبات الأصوات فروقا في القدرة التعبيرية، وهذا هو سر الكلمات التي تعبر بأصواتها عن معناها oinomatopees؛ فالكلمة الألمانية kladderadatsch "كلادراداتش" تمثل جيدا مجموعة من الآنية بعضها فوق بعض وقد سقطت شظايا، والكلمة الفرنسية patapouf "باتابوف" تمثل كيسا محشوا بالملابس يسقط على درج السلم، وكلمة "pan""بَنْ" تثير الصوت الجاف الذي يصدر من طلقة مسدس، و poum "بوم" ذلك الصدى الممتد الذي ينبعث من طلقة مدفع. وكل الموسيقيون يعرفون أن النغمات المختلفة تناسب التعبير عن الأحاسيس المختلفة إن قليلا وإن كثيرا، فهذا السلم أليق من غيره ببساطة الحقول، وذلك بالعذوبة الرقراقة اللذيذة، وذاك بجهد الرجولة الصارم. وفطرة المؤلف تجعله يختار في كل حالة النغمة اللائقة، لذلك كان من الحق أن الانتقال بالقطعة من نغمة إلى نغمة يشوه طابعها في بعض الأحيان. ولكن لا يستطيع إنسان أن يقرر أن المؤلف العبقري ليس في وسعه أن يعبر عن العاطفة التي يحسها بأية نغمة من النغمات. كذلك فن الشاعر يستطيع أن يحمل أصوات الكلمات كل تعبيرية تروقه: "الكلمة الخالقة للفكرة تصير بعناصرها الصوتية خالقة للبيت من الشعر وتخضع الكلمات الثانوية التي

1 جرامون Onomatopees et mots expressifs: Grammont، في رقم 17، مجلد 44، ص27.

ص: 236

تصحبها لتبعية نغمية" "بك دي فوكيير Becq de fouquieres" فالشاعر في وسعه أن يحدث تأثيرات غير منتظرة بكلمات يظنها البعيد عن هذا الفن غير جديرة بمثل هذا الاستعمال، وذلك بواسطة ألوان من الإعداد والمقابلة محكمة التنسيق. كل كلمة أيا كانت توقظ دائما في الذهن صورة ما بهيجة أو حزينة، رضية أو كريهة، كبيرة أو صغيرة، معجبة أو مضحكة، تفعل ذلك مستقلة عن المعنى الذي تعبر عنه، وقبل أن يعرف هذا المعنى في غالب الأحيان. اذكر اسم إنسان ما أمام شخص لم يره قط، فإنه يكون عنه فكرة في الحال، فكرة زائفة على وجه العموم. فإذا ما قدمت له هذا المجهول، أجابك على الفور "أهو هذا! ما كنت أظنه هكذا" مثل هذا الشيء نفسه يحصل بالنسبة لكلمات اللغة. فإدراكنا للأشياء خاضع لانطباعات فجائية منبعثة من الاسم الذي يدل عليها.

إننا عندما نقيم ائتلافا بين الاسم والشيء، نسير على عادة نفسية قديمة قدم العالم نفسه. فقد ظل الاسم زمنا طويلا يعتبر جزءا لا يتجزأ من الأشياء، وليس فقط علامة قد توضع عليها: كان يشترك معها في خصائصها. فلم تكن العلامة تميز عن الشيء. فعبارة nomen omen تذكرنا بهذا الرأي العتيق، ونجد منه آثارا في تحريم المفردات وفي التشويهات الناجمة من هذا التحريم. في ذلك الحين كان للاسم أهمية بالغة. فنرى في سفر التكوين تلك الأهمية البالغة التي تعلق على أسماء إبراهيم وسارة وإسحاق. وفي بلاد الإغريق كان أجاكس Ajax المنكود الحظ يحمل في اسمه رمز مقدوره "سوفوكل، أجاكس Ajax، بيت 430".

واسم أوليس Ulysse يحمل في طياته بعض سمات أخلاق جده "انظر الأودسة، كتاب 19، بيت 406". فالكلمات إذن لم تكن مجرد علامات لا خطر لها، بل كانت لها قيمة سحرية، هي التي تفسر قوة الرقي واللعنات. والكلمة المكتوبة كانت بطبيعة الحال أبلغ أثرا من الكلمة الملفوظة، لذلك سنعود إلى الكلام عن قوة الكلمات السحرية في الفصل الخاص بالكتابة. ولكن الكلمة المجردة كانت كفيلة بإحداث آثار

ص: 237

جسام ولا سيما إذا كانت مسلوكة في بيت من الشعر، حيث تثبت الكلمات وتنظم بواسطة الوزن، أليس فرجيل virgile هو الذي يقول:"إنه يمكن إنزال القمر من السماء بجملة منظومة" Carmina uel coelo possunt deducere lunam؛ "8، بيت 69".

وكانت تنسب إلى الشعراء الأقدمين قوة مخوفة تتلخص في الاسم la satire "الهجاء". هذه الكلمة لا تثير في أذهاننا، نحن المتحضرين، غير فكرة تمرين أدبي عدا عليه الزمن بعض الشيء، ولكنه على كل حال لا يملك خيرا لإنسان. غير أن الهجاء في وقت ما كان يتقمصه ساحر، وكان الهجاء لعنة فادحة تصيب من يوجه إليهم. ونحن نعرف ما كان لأهاجي أرشيلوك Arcbiloque من نتائج. فهذا العاشق المطرود قد استطاع بقصائده الهجائية أن يلقي اليأس في قلب والد معشوقته وأن يقوده إلى الانتحار، وأقسى من ذلك أنه استطاع أن يفعل مثل هذا مع الفتاة نفسها. ورواة هذه القصة يحكونها لنا على أنها أسطورة من الأساطير، تشيد بموهبة أرشيلوك وإن لم تشد بخلقه. ولكن ليس من العدل في شيء ان نأخذها على أنها أسطورة، بل يجب أن نأخذها بنصها وحرفها. فالحق أن أرشيلوك قضى بالموت على ليكمبيس Lycambes ونيوبوليه Neobule؛ إذ قذفهما بلعنة سحرية لم يستطيعا منها خلاصا. وإن الشاعر الهجاء لم ينفصل عن الساحر الآثر إلا في العصور المتأخرة بفضل تقدم المدينة. أما في الأصل فكانا شيئا واحدا، وقد ظل الناس في كثير من الأقطار حينا طويلا لا يميزون بينهما. ففي جالية أسكتلندة يطلق على القضاء حتي يومنا هذا كلمة Ortha المنقولة عن الكلمة اللاتينية ORATIONEM منذ عهد قديم، ويقال عن الساحرة Tha facal aice "لها كلمة"، وذلك إشارة إلى قوتها1.

فالواقع أن معرفة الإنسان للأشياء بأسمائها إمساك لها في قبضته، وإذن فعلم المفردات علامة القوة. لذلك كان سحرة الآثار دافيدا المتطببون يقولون في رقاهم:"أيتها الحمى! لن تفلتي مني، فإني أعرفك باسمك! " والأمر الذي يوجه إلى

1 ج. هندرسن G. Henderson: نفايا من الاعتقاد عند الكلتيين: "1911". ص11، 18، 291.

ص: 238

الداء ليفارق المريض أبلغ دلالة من ذلك. ففي معرفة اسم المرض شفاء من نصفه، ولا ينبغي لنا أن نسخر من هذه المعتقدات البدائية، فإنها لا تزال سارية حتى يومنا هذا، إذ لا زلنا نعتقد في أهمية الألفاظ التي تعبر عن تشخيص الأمراض. "عندي ألم شديد في الرأس يا دكتور. فيجيب الطبيب: عندك GEPHALALGIE "صداع" أو إني سيئ الهضم يا سيدي الطبيب، فيجيب هذا الأخير: عندك DYSPEPSIE "عسر هضم". مثل هذه المحاورة الجديرة بإحدى روايات موليير تتكرر كل يوم في عيادات الأطباء. قد يقال بأن الاسم الفني يحدد المرض بأكثر مما يفعله الاسم العاي وأنه يدل على مجموعة أعراض معينة وأن "الصداع" ليس مرادفا لوجع الرأس وعسر الهضم ليس مرادفا لسوء في الهضم. ولكن الواقع أن الطبيب لا يفعل أكثر من أن يضع كلمة معمية مكان كلمة عادية مبتذلة يفهمها هؤلاء المرضى جميعا، والمرضى يشعرون بالارتياح حينما يعلمون بأن رجل الطب قد عرف الداء الخفي الذي يشكون منه، عرفه باسمه.

إنها علاقات قياسية، تلك العلاقات التي تتقابل وتتقاطع حول الكلمات، وهي التي تقوم بين الأصوات والأفكار والأشياء، هذه هي النتائج التي يتركها في المفردات عمل العقل. وإذن فالكلمة التي تطفو في الشعور لا تكون كلمة منعزلة. فإنها متى مثلت أمامنا، ولو في صفة واحدة منعزلة من صفاتها مع بقاء صفاتها الأخرى في الظلام، جرت وراءها جحفلا من المعاني والعواطف التي ترتبط بها بعرى دقيقة على استعداد دائم للكشف عن نفسها. فالكلمات التي تختزنها في ذهننا تشارك في حياتنا العقلية والعاطفية كلها.

لذلك ربما كان من الممتع معرفة مقدارها1.

بعض اللغويين طرحوا هذا السؤال، وحاولوا أن يجيبوا عنه بالأرقام. فزعم مكس ملر مثلا استنادا على شهادة قسيس في إحدى القرى أن مجموع الكلمات التي يستعملها فلاح إنجليزي أمي لا يتجاوز ثلاثمائة كلمة. وآخرون لم يعدموا أن يحتجوا

1 نص مكس ملر رقم 103، ص287 وما يليها.

ص: 239

بمفردات شكسبير التي تبلغ 15000 كلمة عند بعضهم و24000 عند البعض الآخر. ويقال إن الكلمات التي استعملها ملتن MILTON تتراوح بين 7000 إلى 8000 كلمة. وأن قصائد هوميروس تحتوي على حوالي 9000 كلمة والعهد القديم على 5642 كلمة والعهد الجديد 4800 كلمة. وهذه أرقام لا تدل على شيء ذي خطر. إذ يجب أولا وقبل كل شيء أن نقصي المؤلفات الأدبية من حسابنا. طبعا نستطيع أن نعرف على وجه الدقة عدد الكلمات التي تؤلف الإلياذة والأودسة أو مسرحيات شكسبير أو راسين. ولكن من العبث أن نزعم أننا بذلك نحدد مفردات هومير أو شكسبير أو راسين. فمن الكتاب المبرزين من يضيقون دائرة مفرداتهم عن قصد؛ لذلك كان من غير الحق أن نحكم بمآسي راسين على سعة لغتنا كما يكون من غير الحق أن نحصي عدد سكان فرنسا بعدد النخبة المختارة من رجالها. ولكن لغة الكتاب على وجه العموم تزداد ازديادا صناعيا بعدد من الكلمات يقتنصها مصادفة من بعض مقابلاته أو من البحث في الكتب، وذلك إذ لم يخترعها اختراعا. فهل لنا أن نعد من مفردات فكتور هوجو كلمة JERIMADETH الشهيرة التي ليست إلا "مسخرة"، وكثيرا غيرها من أسماء الأعلام التي وإن كانت واقعية فليس لها في دماغ الشاعر، إلا وجود عرضي زائل. وإذا غضضنا النظر عن أسماء الأعلام، فكم من كلمات مشتركة استخرجها الشاعر من القاموس ولم تكن بالنسبة إليه إلا نبعا عرضيا مؤقتا. فينبغي ألا نخلط بين مفردات الكاتب وبين قاموس الكلمات المستعملة في مؤلفاته. فمثل هذا القاموس يعد خليطا دائما فيه كلمات السادة تجاورها كلمات السوقة والمصطلحات الفنية تجاور ألفاظ الحياة اليومية. في كل قاموس أنواع عديدة من المفردات يختلط بعضها ببعض إذ تضاف إلى مفردات الكاتب الخاصة به والتي يستعملها في كلامه المعتاد، أنواع أخرى من المفردات منها الحوشي والعلمي والعامي وهي التي تمد أسلوبه بالثراء وتجعل له قيمته في غالب الأحيان.

لا يعرف إنسان مقدار مفرداته، ولا توجد أية طريقة لتقديرها. إذ لا يكفي أن نستعرض كلمات القاموس كلمة كلمة لنرى الفكرة التي تثيرها في ذهننا.

ص: 240

إذا كانت تثير فكرة ما. إذ إننا في مثل هذه الحال نضع أنفسنا في ظروف مخالفة للواقع كل المخالفة. فالكلمات لا تصف في ذهننا كما تصف في أعمدة الكتاب.

ولا يتأتى لنا أن نجيل نظرنا في تتابعها وأن نستعرضها كما يستعرض القائد الجند في صفوفهم. ولا نعرف بالضبط من أي مستقر يخرجها نشاطنا العقلي ليسلكها في الجمل وليصبها كامل الإعداد في أعضائه الصوتية. فالكلمة لا توجد منعزلة في الذهن إطلاقا بل تكون جزءا من مجموعة ذات امتداد ما نستعير منها قيمتها. ولكن تكون المجاميع يرجع في نفس الوقت إلى علل نحوية أو سيكولوجية أو تاريخية أو اجتماعية مما يجعل من العبث كل محاولة لإحصاء المفردات.

إحصاء المفردات ولو من وجهة نحوية خالصة، يعد أمرا متعذرا. فقد بينا مقدار العسر الذي يعترضنا في تعريف الكلمة، ومقدار الصعوبة التي نلاقيها غالب الأحيان في تحليل عناصرها. بالطبع ينبغي لنا عند تعداد المفردات أن نقصي دوال النسبة، ولكن هناك كلمات كثيرة ليست إلا دوال نسبة، كما أن من دوال النسبة ما يعتبر كلمات. فالنفي مثلا أكثر من مجرد لاحقة تشير إلى جنس أو إلى وظيفة نحوية، فإذا اعتبرناه من دوال النسبة بخسناه حقه من غير وجه. ومع ذلك فالنفي لا يعبر عنه في كثير من اللغات بكلمة منعزلة مستقلة؛ فعندما تقول الإرلندية في نفي domelim "آكل" nitoimelim "لا آكل" وتقول اللتوانية في نفي neszu "أحمل" neneszu "لا أحمل" لا نرى أن ندخل في اعتبارنا في كلتا الحالتين إلا كلمة واحدة، ولكنها كلمة تحتوي على دال نسبة منفي.

عدد الكلمات لا يمكن أن يحد نحويا بفضل فصائل اللواحق. فقد استطعنا في الفرنسية، حيث اللاحقة eur بقيت حية، أن نأخذ من promener "التنزه" promeneur "متنزه" ومن marcher "المشي" marcheur "مشاء" ومن trotter "العدو" trotteur "عداء" ومن ثم لا نهتم بأن تكون كلمة galopeur "عداء" موجودة أو غير موجودة، لأننا إذا

ص: 241

احتجنا إلى استعمالها فهمنا محدثنا على الفور، إذ إن العناصر التي تكونها ليست غريبة عليه. فحتى لو لم توجد الكلمة في القاموس، وجب عدها بين كلمات اللغة الفرنسية، إذ إنها توجد بالقوة في ذهن الفرنسيين جميعا. إذن فهناك عدد من الكلمات التي أشعر بها حاليا والتي لم أستعملها إطلاقا، وربما لن أستعملها أبدا، ولكنها مع ذلك تكون جزءا من مفرداتي إذ إنها تحضر طبيعيا في ذهني إذا احتجت إليها، وأفهمها على الفور إذا استعملت أمامي. ومع ذلك فهذا المثال الفرنسي أقل حجية مما في لغات أخرى كاللتوانية، حيث تؤخذ الأسماء المجردة وأسماء الفاعلين بالمراد من إحدى الصيغ الفعلية كما يؤخذ منها المستقبل أو صيغة التبعية. من هذه الوجهة، التي هي وجهة نظر النحو، تعتبر المفردات غير محدودة.

وهي ليست أقل بعدا عن التحديد من وجهة نظر الاستعمال المعنوي البحت للكلمات. فقد رأينا فيما سبق أن الكلمة لها على وجه العموم من المعاني بقدر ما لها من الاستعمالات. ولكن كل معنى منها مستقل عن المعاني الأخرى، إذ إنه لا يكون في ذهننا عند استعمال الكلمة إلا معنى واحد. يمكننا إذن أن نقول بأنه يوجد في المفردات كلمة مختلفة بقدر ما يوجد من استعمالات لكل كلمة من كلماتها. ولما كان عدد الاستعمالات التي تصلح لها كل كلمة لا يحد، إذ إن الاستعمال العام يخلق استعمالات جديدة كل يوم، وجب أن نقرر أن مفردات اللغة تزداد دون حد ما دامت اللغة حية. فكل كلمة فيها ينبغي لها أن تعد مرات عديدة، مرات يستحيل تحديدها.

إذا اعتبرنا المسألة من وجهة نظر أخرى، وجدنا كثيرا من الكلمات لا يصح أن تعد بين المفردات.

هناك نظام تصاعدي للكلمات يسمح بتمييز الفعل من الصفة أو من الاسم، والاسم المشترك من اسم العلم "انظر الصفحة الأخيرة من الفصل الثالث". هذا النظام التصاعدي له ما يبرره سيكلوجيا، ولكنه يخلق فروقا محسوسة بين الكلمات فما الذي يصوره لنا اسم من أسماء الأعلام؟ لا شيء في أغلب الأحيان. فكم من

ص: 242

شخص بين أكثر الناس ثقافة عنده فكرة صحيحة محدودة عمن يسمى بركليس أو من يسمى أغسطس، وعن المدعو لويس الرابع عشر أو عن فريدريك الثاني. نحن نسمي علماء أولئك الذين يختزنون في دماغهم سلاسل من أسماء الأعلام ويستطيعون عند الطلب توزيعها بالتجزئة إزاء إعجاب الجهلة والبلهاء. ولكن كم من هذه الأسماء نفسها توقظ في أذهانهم أفكار واضحة؟ ليست تلك الأسماء في غالب الأمر بمثابة حمل ثقيل يحشون به أدمغتهم. فليس من الحق إذن أن نعد في حساب المفردات ما لا يصح أن يعتبر إلا تمرينا للذاكرة.

وكثير مما يقال بأنه من الأسماء المشتركة ليس في واقع الأمر إلا من أسماء الأعلام. فإني أعرف أن الكلمات الآتية: etourneau "زرزور" والـlinotte "عصفور التيل" والـemerillon "يؤيؤ" والـautour "صقر" كلها أسماء طيور لأني قابلت هذه الكلمات أو تلك مصادفة في أوصاف بعض المناظر الخلوية أو عند تصفحي لكتاب من كتب التاريخ الطبيعي، ولكني لا أستطيع أن أكون لنفسي أية فكرة عن هذه الطيور؛ فأسماؤها لا توقظ في ذهني أية صورة محددة، إنها طيور، وذلك كل ما أستطيع أن أقوله عنها، وإنه لكثير. فهناك أسماء أخرى كثيرة أحار فيما إذا كانت تدل على حيوانات ثديية أو على زواحف أو أسماك، فيما إذا كانت نباتا أو معدنا، حتى أصل إلى بعض الكلمات المنسية في أركان ذاكرتي فأعثر عليها مصادفة ولا أعرف عنها شيئا مطلقا، لا أعرف عنها إلا أنها كلمات فرنسية.

وهكذا إذا تابعنا امتحان المفردات، وتحليل الكلمات التي تحتوي عليها كلمة كلمة وتصفيتها، أدركنا أن متاع الرجل المتعلم المثقف منها يحتوي على عدد كبير من الكلمات التي يزدحم بها رأسه دون جدوى. ولكن الكلمات

1 فندريس. sur qulques difficultes de l'etymologe des noms porpres في Melanges litteraires publles par la faculte des lettres de clermont ferrand عام 191، ص329-337.

ص: 243

تتدرج بصورة غير محسوسة من تلك التي نشعر بها شعورا تاما ونستعملها في حياتنا اليومية إلى تلك التي دخلت ذاكرتنا عرضا ولا تؤدي لنا أية خدمة. فإذا أردنا عند إحصائنا للكلمات أن نضحي بنصيب، فإلى أي يجب أن نقف في تعيين هذا النصيب؟

أيجب أيضا أن نضيف إلى كل ذلك ما يثقل مخنا من أحمال من جراء معرفة لغات أجنبية؟ إن حاذق اللغات الأجنبية هو الذي يستطيع أن يعبر عن فكرة واحدة بعينها في عدة لغات. وترجمان فندق من الفنادق المختلطة يعرف أسماء الأشياء المتداولة بثلاثة أوجه مختلفة، أو أربعة أو خمسة. فهذا تمرين للذاكرة تفرضه عليه مهنته. أفنقول إن مفرداته تبلغ ثلاثة أو أربعة أو خمسة أمثال خادم الفندق الذي لا يتعامل إلا مع أبناء لغة واحدة؟ نعم إذا أدخلنا في حسابنا هذه الحقيقة الواضحة، وهي زيادة الحمل الذي تضطلع به ذاكرته. ولكن الواقع أن مفرداته في هذه الحال ليست أكثر ثراء، بل إنه يملك أنواعا مختلفة من المفردات تتلاصق بعضها ببعض ويتراص بعضها فوق بعض دون أن تندمج عادة، كما أن استعمالها رهن الظروف.

هناك حاجات مشتركة بين جميع الناس، ولهذه الحاجات مفردات تكاد تتساوى في عدد الكلمات في كل مكان. يقال بإن الفلاح الأمي لا يحتاج في حياته إلى أكثر من ثلثمائة كلمة، فلنسلم بهذا الرقم، وإن كان لا يجادل في أنه دون الواقع بكثير. وعندئذ يتحتم علينا أن نقول بأن السيد لا يكاد يستخدم أكثر من هذا القدر في حديثه العادي. ولكنها ليست نفس الكلمات التي يستعملها الرجل الشعبي، وهذا هو كل الفرق. غير أن السيد قد يعرف لغة الشعب أيضا وقد تتاح له فرصة استعمالها. وبذلك يكون له نوعان من المفردات، نوع للصالون ونوع للمزرعة1. وإذا كان جنديا عرف لغة الثكنات، وإذا

1 رجل البلاط الذي يتكلم لغة السوقة له عندي فضل العارف باللغات الأجنبية "دكلو Duclos"؛ Considerations sur les moeurs. الطبعة الخامسة. باريس "1767، ص212".

ص: 244

كان يشارك في علم من العلوم، عرف مفرداته الفنية. وإذا فرضنا أنه يعرف لغة أجنبية أو لغتين، أضيفت مفرداتها إلى ما في ذهنه من قبل: أنواع من المفردات مختلفة، إذ إنها ناتجة عن حاجات مختلفة وتستخدم للتفاهم مع أشخاص مختلفين.

أوضح ما يلاحظه الإنسان عند اختباره للمفردات عن كثب، هو التعقيد البالغ للمتاع الذي يحمله الشخص في دماغه من الكلمات فليست العناصر التي تكونها في مستوى واحد دائما، لا نحويا ولا سيكولوجيا، ولا من ناحية الاستعمال الذي تستعمل فيه، ولهذه النقطة الأخيرة خاصة. ذلك التعقيد هو الذي يجعل للمفردات أهميتها. وسنتكلم عنه عندما ندرس بنية اللغات. أما الآن فسنراه يفسر لنا التغيرات التي تتعرض لها المفردات.

ص: 245