الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرحلة من إفريقيا إلى بلاد الحرمين
مدخل
…
(مقدمة لأحد الطلبة)
…
فنشكرك جدًّا لتجاوبك، فنريد أن تحدثنا الآن يا شيخ عن مولدك، وعن بلدك، وصباك، وعن رحلتك إلى المدينة.
قال الشيخ حماد -رحمه الله تعالى-:
"بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين: نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هدي محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وشر الأمور محدَثاتُها، وكل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما شاء الله لا حول ولا قوّة إلا بالله.
بمناسبة سؤالكم عن مولدي وعن رحلتي من إفريقيا:
فإنني وُلدت سنة 1344هـ-في شهر ذي القعدة في تلك السنة، وهذا الخبر مؤكَّدٌ لأنه كان مكتوبًا.
وُلدت في هذا الوقت في بلدٍ يسمّى (مناقة) -ومعنى (مناقة) أن هذه البلدة في الأصل كانت بادية يسكنها رُعاة الإبل ومَن كان على شاكلتهم، ولكن بُنيت مدينة بعد مُدّة بعد أن كانتْ بادية، بُنِيت فيها مدينة، وهذه المدينة تُعتبر الآن من أهم المراكز في (مالي) ،
…
فولادتي في (مالي) في تلك المدينة، يعني: ولدت في (مالي) في مدينة (مناقة) .
و (مناقة) هذه كانت في السابق تابعة للمركز الكبير المسمى (تاد مكة) ، (وتاد مكة) هذا بلد يعرفه التاريخ، كل المؤرخين ذكروه ووصفوه بكل ما يحتوي عليه من الناحية التجارية، كان بلدة تجارية كبيرة، وكان هذا المركز الكبير في السابق يسمى (السوق) ، وسمي بالسوق لأنه كان متوسِّطًا بين هذه الدول التي هي أولاً (ليبيا) ، و (الجزائر) و (المغرب الأقصى) و (موريتانيا) و (مالي) ، وهي في وسط هذه الدول، وكانت هذه الدول ترد على هذا المركز لنشاط التجارة فيه، فسُمِّي بالسوق.
ثم تغيّر هذا الاسم بسبب أن الموريتانيين الذين في الغرب -يعني: تقريبًا بين هذا البلد الذي يسمى بالسوق ثم تغير اسمُه إلى اسم (تادا مكة) -أصرّ الإخوان الموريتانيّون- وما كانوا أي المورتانيون يسمون بالموريتانيين، وما كانوا يسمون أيضًا بالشناقطة، كانوا يسمون بالقبلاويين ـ، يعني: كل ما هو في غربنا نسميه (قبلاوي) ، فكان هؤلاء يأتون باسم (الحج) فيمرون على هذا البلد، لأن هذا البلد في الطريق، هو في الطريق، لأنهم إذا وصلوا إليه وخرجوا إما أن يتجهوا إلى (تونس) وإما أن يتجهوا إلى (ليبيا) في طريقهم إلى (مصر) ، ومن مصر إلى (ينبع) ، هكذا كان طريق الحج سابقًا قبل الاستعمار.
طيب، فهم -هؤلاء القبلاويون أي الموريتانيون- إذا جاءوا عندنا يأتون بكثرة باسم الحج وباسم التجارة، فإذا جاءوا وصلوا إلى البلد فإنهم لا يخرجون منه، بل يبقون ويستوطنون ويتجّرون، ففي يوم من الأيام بعض أهل البلد سأل بعض أعيانهم، قالوا لهم: يا جماعة أنتم لما جئتم عندنا تقولون: نحن حجّاج، تقولون: أنتم جئتم إلينا في طريقكم إلى الحج، كيف إذًا أقمتم ولم تذهبوا إلى الحجّ؟، فيقولون لهم: حقًّا إننا جئنا باسم الحج، ولكن عندما وصلنا إلى هذه البلدة وجدنا أن هذه البلدة هي مكّة. انظر!، هي مكة. أي: أنهم استفادوا
كثيرًا، ولهذا صاروا يقولون لها:(تا مكة) ، فلما كثُرت هذه الكلمة منهم أطلق الناس على البلد اسم (تا دمكة)(تاد مكة) ، وبقي هذا الاسم إلى الآن، وتنوسي السوق، فصارت البلدة إلى يومنا هذا تسمى (تاد مكة) كما ذكره البكري في "تاريخه"، وكما ذكره -أيضًا- الناصري في تاريخه (الاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى) . هذا هو سبب تسمية هذه البلدة بـ (تادا مكة) بعد أن كان اسمها (السوق) .
فهذا المركز الذي أنا وُلدت عنده هذا المركز اسمُه (مناقة) هو تابعٌ لهذه المدينة. ولكن بعدما هُدمت هذه المدينة، لأنها هُدمت في القرن التاسع الهجري، هدمها واحد إفريقي معروف بفسقِه وفجوره يسمى (سون غلي) ، هذا الشيوعي هو الحاكم على عاصمة المنطقة الشرقية في (مالي) ، وتسمى هذه العاصمة بـ (قاوا)، وهي على النيل -يعني: نيل النيجرـ، هذه المدينة هي عاصمتُه، ومدينة (تادا مكة) في شمالها بين (مالي) وبين (الجزائر) يعني أقرب إلى الجزائر، فهذا الشيوعي هو الذي تسلّط على هذه المدينة فهدمها، وهرب من سلِم منه، وشردوا إلى بلادٍ أخرى، وهذا هو سبب بناء مدينة (مناقة) بدلاً منها، وإلا في الأصل المفروض أن هذه كانت بادية، وهذه البلدة تابعة لهذه المدينة، ولكن لما هُدمت الناس الذين شردوا تمركزوا في هذه المدينة الجديدة التي تسمى (مناقة) ، وبنوها وصارت مركزًا، وما زال إلى الآن، ما زال مركزًا مشهورًا.
وهذا الشيوعي الذي هدم هذه المدينة هذا الشيوعي كتب عنه العلماء، ومن جملة العلماء الذين كتبوا عن كفره: عبد الكريم المغيلي المغربي الأصل الجزائري الاستيطان -كتب عنه كتابًا هو عندي-، الكتاب هذا موجود عندي، مطبوع، وكذلك كتب عنه الشيخ (عثمان فوديو) الذي كان حاكمًا في (نيجيريا) في القرن الثاني عشر، كتب أيضًا عن هذا الشيوعي، وكتب عن
كفره، وهذا الكتاب -أيضًا- مطبوع، بواسطة الشيخ عمر محمد فلاّته؛ لأنَّ الشيخ عثمان أيضاً من قبيلة فُلاّتة، والشيخ عمر محمد من فُلاّتة الذين في (نيجيريا) ، فهو الذي طبع هذا الكتاب الذي كتبه الشيخ (عثمان فديو) في كفر هذا الشيوعي المسمى بـ (صون غري) .
هذا من ناحية البلد وتفاصيلِه، ولهذا أنا الآن حينما أذكر النسبة كاملةً أقول:
حمّاد بن محمد بن محمد الأنصاري، الإفريقي، المالي، التادا مكي، المناقي. هكذا سلسلة النسبة.
هذا من ناحية مكان الولادة.
وأُسرتنا أسرة علم وقضاء وفتوى معروفة، حتى إنَّ السخاوي في كتابه (الضوء اللامع) ترجم بعض أجدادي -وهو محمد ابن يوسف الأنصاري-، ترجمه، وكذلك -أيضًا- عندي كتابان الآن في ترجمة هذا الجدّ، هو وبقية الأجداد، كلهم مترجمين، في كتاب عندي في ثلاثة مجلدات.
هذا من ناحية، والأسرة أصلُها من (غرناطة) ، وسببُ ذلك الأصل القديم، كما ستراه إن شاء الله بعد هذه الكلمة -أن سعيد بن سعد بن عبادة هذا الصحابي بعدما تولّى معاوية رضي الله عنه بدلاً من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بعدما تولى تتبع كل الأمراء الذين كانوا من طرف علي بن أبي طالب فعزلهم كلَّهم، ومن جملتهم: سعيد بن سعد ابن عبادة، كان أميرًا لعلي في صنعاء، فعزله، فلما عزله وكانت هناك مناسبة وهي أن معاوية بعث جيشًا لأفريقيا لتثبيت الإسلام في تلك البلاد التي وصلها المجاهدون قبل معاويةـ، فأُرسل في ضمن هذا الجيش -سعيد بن سعد-، ومن هنا بقي سعيد بن سعد بن عبادة -رضي الله عن الجميع- في مصر وأنجب أولادًا، هؤلاء الأولاد
موجودين عندي مكتوب تراجمهم عندي، أنجب أولاداً، وثُمَّ هؤلاء الأولاد بعضهم ذهب إلى المغرب الأقصى، ومن المغرب الأقصى ذهبوا إلى الأندلس، حتى وصلوا إلى طُليطلا، ومن طُليطلا توصلوا إلى (غرناطة) ، فبقوا هناك وأنجبوا هناك.
الحاصل: الأسرة موجود عندي الكتابة عنها وأصل وصولهم إلى (غرناطة) ثم رجعوهم من (غرناطة) حتى وصولهم إلى إفريقيا التي أنا وُلدت فيها، هذا كلُّه موجود عندي مكتوب.
فهنا من ناحية الأسرة: أن الأسرة من الأنصار بالوثائق، الوثائق موجودة عندي منها العدد الذي فيه إثبات أن أسرتنا من الأنصار.
طيب، هنا ننطلق إلى الرحلة، ولكن قبل الرحلة لا بدّ من كلمة حول الدراسة: كيف، لأني أنا ما درستُ إلاّ هناك، دراستي كلها هناك، من الصبا إلى أن جئت هنا، لأني أنا جئت هنا -كما ستسمع- جئت وأنا رجل، جئت وأنا مدرِّس.
الشاهد: من ناحية الدراسة تحتاج إلى وقت حتى نعطيك التفاصيل جيداً، ولهذا نؤخر هذه الكلمة وندخل في مسألة الرحلة:
أما الرحلة من البلاد من مالي أيام الاستعمار: أنا ارتحلت عند انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة خمسة وستين هجرية في القرن الرابع عشر الذي انقضى، خرجت في هذه السنة باسم (الهجرة) ، خرجت أنا باسم الهجرة أيام الاستعمار الفرنسي -ما زالت فرنسا موجودين في البلاد، وما زال استعمارهم على البلاد-.
وسبب خروجي باسم الهجرة: أنه لما انتهت الحرب العالمية الثانية فرضت
علينا فرنسا وضعاً شديداً ما كانوا أولاً يعاملوننا به، وهو أنهم قالوا: لا بد أن ندخل أبناءكم مدارسنا لكي يتعلموا اللغة الفرنسية كما هو الحال في كل المستعمرات، ويقولون: لماذا أنتم لم تدخلوا أولادكم في المدارس مثل أولئك، فنحن كانت عقيدتنا مع الاستعمار الفرنسي: أن الاختلاط بهم لا يجوز لأنهم كفّار، لاسيما دخول مدارسهم هذا عينُ الكفر، هكذا كنا .... فلهذا نحن صمّمنا على أنه لا يدخل أي ابن أو أي بنت من أبنائنا في المدارس، فلما انتهت الحرب العالمية الثانية جاءت فرنسا بجيش أربعمائة جندي مدجّج بالسلاح
-بالبنادق-، وجاءونا ونحن نصلِّي المغرب على غفلة، لأنه ما كانت الاتصالات، متوفرة، ولما جاءوا عند باب المسجد وقف الجيش واصطفّ أمام باب المسجد ونحن نصلِّي، فلما صلينا قال المترجِم الذي يترجِم للقائد -قائد الجيش- قال: لا يخرج أحد من المسجد أبدًا، لا يخرج أي أحد، لماذا؟، قالوا: لأن القائد يقول لا يمكن أن يخرج أحد من المسجد إلاّ بعدما توافقون على إدخال أبنائكم في مدارسنا، وإلا فكل من اعترض فدمُه هدر، هكذا، بهذا الشكل. طيب، الناس في المسجد عُزّل، ولا كان أحد عنده علم حتى مثلاً يدافع ولو بخشبة أو حجرًا، ما في، فالحاصل: صارت هذه طامة عظيمة على الناس، فمن هنا قال الكومندي لبعض العسكر: ادخلوا البلد أي ولد تجدونه تمسكونه، وأي أحد اعترض فاقتلوه.
هذا ما حصل، وفعلاً أخذوا أولادًا كثيرين منًّا، لأنه لا يوجد أحد يستطيع يقاوم، ما معنا أيُّ شيء نستطيع أن نقاوم به في تلك اللحظة، فأخذوا الأولاد.
فلما أخذوهم وذهبوا بهم، وقال الكمندي بعدما أخذوهم، وقد ألقى خطبة قال: نحن نعرف أن سبب امتناعكم من تسليم أولادكم للمدارس عندنا
أنكم تعتقدون أو ترون أنَّ إدخال أولادكم في مدارسنا عبارة عن تكفيرِهم، ولكن –يقول- من باب التطمين لكم ومساعدةً لكم فإنّا نعطيكم عهدًا إذا أردتم أن تبعثوا معنا مدرِّسين تثقون بهم يعلمونهم الإسلام في مدارسنا في جانب اللغة الفرنسية فنحن موافقون.
فلما أعطى هذه الكلمة أفادت الناس، لأنه أولاً ظنوا أنهم إذا أخذوا الأولاد هؤلاء فإنهم يذهبون بهم إلى مدرستهم ولا يسمحون لأحد -يعني: مسلم- أن يدرِّس، فلما فتح هذا الباب، قام المسئولون في البلد فعينوا مدرِّسين للتوحيد وللفقه واللغة، وذهبوا معهم....
ثم -أيضًا -تنازل كذلك فقال: إضافة إلى هذا فإنه سنفتح لهم مدرسة عندكم حتى يكونوا تحت رقابتكم.
وفعلاً فتح المدرسة عندنا في مركز (مناقة) ، نعم فتحها لأن المدرسة التي نحن ظننا أن الأولاد يذهبون إليها بيننا وبينها سبعة أيام بالجمل -وهذه الأيام لا يوجد شيء إلاّ الجمال، حتى هو راكب على الجمل، جاء هو والجيش يركبون على الجمال، ما كانت توجد سيارات في ذلك الزمان أبدًا ـ.
فالحاصل: لما عمل هذه العملية وبنى مدرسة، ودخل، وسمحوا لمدرِّسين منا بالمشاركة في تدريس الأولاد استقرّت المدرسة.
فلما استقرّت كان هناك شباب ما هم مقتنعين بما حصل وأنا منهم، قلنا: هؤلاء المجرمون الكفّار حينما يعلمون أولادنا وينصِّرونَهم معنى ذلك يرجعون إلينا لكي ينصرونا أيضًا، فإذًا لا بدّ لنا من طريق ننظر إليه كيف نعمل، فهنا اتفقنا نحن أربعة نَفَرٍ من الشباب، اتفقنا على أننا نخرج من هذه البلاد باسم الهجرة، حتى لا يُدركنا الوضع المرتقب، اتفقنا وخرجنا سنة 1365هـ، ونحن أربعة.
خرجنا بدون جواز خرجنا متسلِّلين، لأن فرنسا لا تسمح لأحد لا بالحج ولا بالهجرة. وأنا كتبتُ في ذلك كتاب، هذا هو انظر إليه، هذا بخطِّي في ذلك الوقت، هذا الكتاب:(إعلام الزُّمرة بأحكام الهجرة) ، هذا سبب كتابته وأنا هنا، انظر هذا، هذا بخطِّي لما كنت في البلاد، هذا الكتاب سبب كتابته أن الإخوة لما عزموا على الخروج قالوا: إذًا نريد أن تكتب لنا كلمةً حول الهجرة، لأنه ما كانت الهجرة تُذكر حتى –مثلاً- يعرفون عنها شيئًا كافيًا، فكتبت هذا، نعم، كتبته بخطٍّ غير هذا هناك، ولكن بعدما خرجنا فوصلنا إلى مكة، وكانت منه نسخة منها، هذه النسخة بيضتها، فهذا سبب كتابة الرسالة "إعلام الزمرة بأحكام الهجرة".
فخرجنا متسلِّلين بدون جوازات، نسافر ليلاً ونكمُن نهارًا، من (مالي) إلى (النيجر) ، ومن (النيجر) إلى (نيجيريا) ، ومن (نيجيريا) إلى (الكامرون) ، ومن (كامرون) إلى (تُشاد) ، ومن (تُشاد) إلى السودان، ومن السودان إلى جُدة، هكذا الرحلة، ولم نخرج من التسلُّل ومن التفتيش إلا بعدما وصلنا إلى (نيجيريا) -لما وصلنا إلى (نيجيريا) بعد شهرٍ ونصف -على الجمال، هذا كلُّه على الجمال، لما وصلنا إلى (نيجيريا) هناك انتهى الاختفاء وصرنا ظاهرين، لأن (نيجيريا) في ذلك الوقت تحكمها (بريطانيا) .
ومن نيجيريا اتصلنا بمدير الجوازات، لأننا سنخرج من نيجيريا إلى الكامرون إلى تشاد، فلما جينا إلى مدير الجوازات في نيجيريا في بلدة تسمى (يروة) -وهي الفاصل بين الكامرون وبين نيجيريا- لما وصلنا إليها وقدمنا لمدير الجوازات -وكان مدير الجوازات هوساوي أو برناوي، لا، برناوي، كان برناوي- دلّنا عليه بعض الإخوان في تلك المدينة، لأنهم قالوا لنا: لا تخرجوا على عادتكم لما كنتم قادمين من فرنسا، لا تخرجوا إلاّ بجواز، لماذا، لأنكم إذا
وصلتم إلى تُشاد، تُشاد في حكم فرنسا -أيام ديجول- قال: إذا وصلتم إلى هناك يردُّونكم، لأن حكم فرنسا واحد، وهم في مالي وهم في تشاد، قلنا: ماذا نعمل؟، قالوا: أحسن تذهبون إلى الجوازات، يعني: مدير الجوازات في هذه المدينة -التي هي (يروى) ـ، ذهبنا إليه واستشرناه، نعم، شاورناه، قلنا له: نحن جئنا من مالي وهي في الاستعمار الفرنسي بدون جواز، والآن نحن مقبلون على تشاد فما هو رأيُك حولنا؟.
هذا الرجل تجاوب معنا تجاوبًا جديًّا، قال لنا: اعطوني مبلغًا من المال ونحن معنا فلوس كثيرة، قلنا له: لا بأس، أنت حدِّد، حدِّد الذي تُريد، فحدّد، قال: كل واحد يعطيني عشرين جنيهًا استرلينيًّا، العشرين جنيهًا استرلنيًّا في ذلك الوقت -هذا عند انتهاء الحرب العالمية الثانية -تساوي مبلغًا كبيرًا، وفعلاً أعددنا له المبلغ رأسًا، كل واحد منا أدّى له عشرين جنيهًا استرلينيًّا، وكانت العملة هذه في تلك البلاد -بلاد نيجيريا -ما تسمى جنيه استرليني -الذي هي اسمُها في بريطانيا التي تحكم البلاد-تسمى (الفام) ، اسمها بلغة المواطنين ما يقولون الجنيه يقولون (الفام)، ويقولون:(سِلي) ، نعم، (فام) هو الجنيه، (سلي) هي التفاريق هذه.
فالشاهد لما أعددنا له المبلغ قال: أنا الآن أعطيكم جواز، وفعلاً كتب لنا جوازات بطريقة غير مستقيمة، وهي أنه قال لنا: أنتم من مالي، لا يمكن أعطيكم جوازات باسم مالي، لماذا؟، لأنه لو أعطيتكم جوازات باسم مالي ودخلتم تشاد -تشاد تحكمها فرنساـ، وفرنسا تعرف، هي الحاكمة لمالي إذا نظرت إلى أنّ معكم جوازات من نيجيريا وهي تابعة لبريطانيا تسكت عنكم وأنتم باسم مالي؟، إذًا قلنا: ماذا تعمل؟، قال: أنا أعطيكم جوازات باسم ليبيا، قلنا له: لماذا؟، قال: لأن ليبيا في ذلك الوقت تحكمها إيطاليا، قال: أنتم
أمثالكم في ليبيا كثيرون- ذكر لنا قبائل كذا وكذا، فحينما تحملون جواز ليبي ما في أحد يتعرّض لكم في تشاد، لأن الليبين والتشاديين شيء واحد، وهو كذلك، يعني: هذا يدخل وهذا يخرج.
الحاصل: عمل لنا هذه الطريقة، أعطانا جوازات باسم ليبيين، وسافرنا، ولا أحد تعرّض لنا، لأننا ليبيّون، الليبي مع التشادي شيء واحد.
بهذه الطريقة وصلنا إلى تشاد، ومن تشاد إلى السودان الفرنسية.
ومن هنا سلكنا هذه الطريقة البعيدة التي تساوي في ذلك الوقت تساوي سنتين -سفر سنتين- لولا أن الله عز وجل منَّ علينا بالسيارات في نيجيريا لا يمكن أن نصل من هذا الطريق إلاّ بعد سنتين لو كنا على الجمال كالعادة.
فلهذا آثرنا هذا الطريق لأنها قد نسلم فيها ما لا نسلم لو سلكنا الطريق التي هي أقرب".
(ولكن ألم تتعرّضوا لمخاطر؟)
"لا توجد مخاطر؛ لأننا كنا نسافر ليلاً ونكمُن نهارًا، لم تقف أمامنا أيُّ مخاطر، حتى إنه لما وصلنا إلى الحدود بين فرنسا وبريطانيا، بريطانيا تحكم نيجيريا، وفرنسا تحكم مالي، وتوجد حدود بينهما، والجيش الفرنسي هو الذي يلينا، والجيش البريطاني هو الذي على الجهة الثانية في الوادي، إذًا لا بدّ من المرور به، مهما كان في الطريق من مخاطر، وقد أحاطوا بنا من كل جهة.
فلما جئنا إلى هذا الموقع، هذا الموقع يسمى هناك عندنا (إيّاك وإيّاك)، يعني: معناها إذا قربت من هذا المكان خذ من الحذر كل ما تستطيع، ولهذا لكثرة الخطر سمّاه الناس هناك (إياك وإياك) .
فلما جئنا إلى هناك والجيش الفرنسي هو الذي يلينا، عملوا شيئًا غريبًا:
لما كان الجيش على شاطئ الوادي، على اليمين وعلى اليسار عملوا طريقًا ضيِّقًا حتى إذا جاء الجمال -نحن على الجمال- الجمل ما يستطيع يتحول، لازم يكون الجمل أمام الجمل، جمل خلفَه جمل، ما يمكن غير هذا حتى يتمكنوا من الناس، استقبلنا العسكر وهم راكبون على خيول -لا توجد سيارات في ذلك الوقت-.
لما استقبلونا كان من الحظّ كنت أنا أمامَ الإخوة جميعهم، فاستقبلني العسكري الأول -هم كذلك لا بد يكونوا مترتِّبين-، استقبلني رافعًا يديه -وعندهم إذا أقبل عليك سلامه يكون برفع يديه-، وقال كلمة فرنسيّة (بونجور) .
وأنا في الحقيقة هذه الكلمة ما أعرف معناها، أول مرّة أسمعها، فالحاصل: استوقفنا وعندهم مترجم، قال المترجم: أنتم من أين؟، ونحن عندنا تعليمات أننا إذا وصلنا إلى هناك لا نقول نحن قادمين من مالي أبدًا، لا بدّ أننا نقول شيئًا آخرًا، وهو أننا نقول أننا من نيجيريا، لأن في هذه الحدود توجد قرى نيجيريّة حولها.
فالشاهد: قلنا نحن من نيجيريا، وذكرنا قبيلة تسكن بجنب هذا المكان.
فلما ذكرنا هذا قالوا: إذن ادخلوا.
فدخلنا، فلما وصلنا إلى مكان آخر تعدينا الخطر فاستقبلنا الجيش البريطاني يصرخون ويرحِّبون، فلما وصلنا عندهم قالوا: الليلة أنتم ضيوفُنا لأنكم تعديتم -تجاوزتم- الخطر، فنزلنا عندهم، وأكرمونا وضيّفونا عند الجيش، وقالوا: ما رأيكم بالمقارنة بيننا وبين الفرنسيين؟، قلنا: هذا شيء ما يحتاج إلى المقارنة، فنحن الليلة كأننا في مكة، فأخذوا يضحكون.
فلما أصبحنا دخلنا في أول مدنية من نيجيريا الشمالية وتسمى (ليلى) ، دخلنا فيها واسترحنا فيها ونحن قاصدون (سكوتوا) عاصمة الشمال، وفي هذه المدينة -سكوتوا- رأيتُ فيها السيارات لأول مرة.
هذا من ناحية الرحلة التي لما وصلت إلى نيجيريا حصل فيها أمن، وحصلت فيها بعض الراحة، إلى أن أخذنا الجواز الذي ذكرتُه لك، أخذناه في آخر مدينة، التي إذا تجاوزناها ندخل في بلاد تشاد -والكامرون وفي تشاد ـ، والكامرون ما تعرّض لنا المستعمرون، لأن المدينة التي تسمى (كوسلي) -وهي آخر مدينة من دولة الكامرون جهة تشاد -هذه على البحيرة- على بحيرة فولامي التي تسمى الآن أنجميناـ، هذه البحيرة طرفُها الغربي تبع للكامرون، وطرفها الشرقي تبع لتشاد.
هذه المدينة -كوسلي- تابعة للكامرون على الضفة الغربية، جئنا إليها ولا يمكن أن ندخل تشاد حتى نَمُرَّ فأشار إلينا المستعمر قفوا، فختموا لنا على الجواز، فركبنا في العبّارة، لأن البحيرة لا يمكن مجاوزتها إلاّ بالعبارة، فركبنا إلى تشاد.
لما وصلنا إلى أنجمينا -التي هي فورلامي سابقًا-كان في طريقنا مركز للتفتيش -يتبع الفرنسيين-، هذا المركز فتّشنا تفتيشًا لم أرَ له نظيرًا في حياتي في الدنيا، وهو أنهم فتشونا حتى إنهم أمرونا بفسخ السراويل، لازم نفسخ السراويل ونفسخ النعال، فهم يفتشون السراويل ويفتشون النعال، ونحن عندنا تعليمات مسبّقًا عن هذا، وبتوفيق من الله عز وجل وضعنا المال قبل الوصول إليهم في القِرْبة ونشفناها، ولما نشفت هذه القربة أخذنا الفلوس كلها ووضعناها في داخلها، ثم علقناها على جانبٍ من السيارة، وهي ناشفة تمامًا، فلما فتشونا وفتشوا السيارة وهذه القربة لم يفتشوها، حيث لم يأتي على بالهم أنّ بها مالاً.
ثم بعد ذلك انطلقنا من تشاد إلى السودان بالسيارة، والمسافة بين تشاد والسودان في غاية من الوعورة، وهي عبارة عن رمال تغرِّز فيها السيارات كثيرًا ولا يوجد غير هذا، وقطعنا المسافة بين تشاد وجنينا -جنينا هي آخر مدينة سودانية جهة تشاد- قطعنا المسافة في ستّة أيام.
ولما وصلنا إلى المركز الفرنسي الذي دون جنينا -وفيه أيضًا تفتيش خطير، تفتيش في غاية من الخطورة، لما وصلنا كانت القربة معلّقة على طرف اللَّوري (1) ، فتشونا وبهدلونا، حتى انتهت هذا المهمّة.
ولما وصلنا إلى جنينا سألت عن رئيس القضاة، حيث كانت عندي تعليمات سابقة أننا إذا وصلنا إلى مدينة جنينا فاسألوا عن رئيس القضاة فإنه رجل عظيم، فدلونا عليه، فجئنا عنده وسلمنا عليه، ورحب بنا، وسكّننا في بيت، هنا عرفنا الناس، أول نحن ضائعون، ولكن لما وصلنا إلى السودان عرفنا الناس، وبقينا عنده مدّة، حتى استرحنا.
وانطلقنا من مدينة جنينا إلى مدينة (الأبيّض)، والأبيض والجنينة الطريق بينهما مثل ما بين تشاد وجنينا: رمال وعرة، أخذنا فيها أيضًا ستّة أيّام، حتى وصلنا الأبيض.
لما وصلنا مدينة الأبيّض نزلنا عند رجل عظيم يسمى محمد إسماعيل، وهذا رجل عظيم سلفي، وكان الرجل هذا له اتصال قوي بشيخنا الشيخ محمد
عبد الله المدني الذي إن شاء الله سأعطيك عنه كلمة، فجئنا عنده ورحّب بنا وأنزلنا -أيضاً- في بيت، وأقمنا عنده مدة تقريبًا أظن نصف شهر.
(1) اللوري: السيارة الكبيرة (عبد الأول) .
ثم بعدما عزمنا على السفر إلى الخرطوم -العاصمة المثلثة- رفض أن نسدّد أجرة القطار -لأن هناك القطار لا السيارة-، قال: لا، سفركم من الخرطوم إلى بورسودان، هذا كله على نفقتي، لقد أكرمني إكرامًا ما أستطيع أصفه.
فالحاصل: أدخلنا في القطار، وكلُّ شيء على نفقته سواءًا أجرة القطار ونفقة السفر كلّه، واتّصل بالتلفون برئيس أنصار السنة في أم درمان على أنك تستقبل الجماعة في الساعة الفلانية في محطة القطارات في (الخرطوم قِبلِي)، لأن العاصمة المثلثة هكذا: خرطوم قبلي، شرقي، خرطوم بحري أم درمان، هكذا هي العاصمة، والقطارات التي تأتي من مدينة الأبيّض تقف في خرطوم قبلي.
فلما وصلنا إليها من الضحى إلى الضحى فإذا رئيس أنصار السنة هو والإخوان واقفون ينتظرونا، ونزلنا وهم واقفون، ثم أخذونا إلى أم درمان، لأن أم درمان هي البلد فيها مركز أنصار السنة الذي منه إسماعيل طاهر الذي جئنا من عندِه من مدينة الأبيض.
ولما وصلنا إلى أم درمان نزّلونا في قصر من الطراز الحديث -قصر في ثلاثة أدوارـ، وهذا القصر الدور الأسفل كلُّه مكتبة للمطالعة، والدور الثاني والذي فوقه هذا للسكنى، نزلونا في هذا القصر على شاطئ النيل جهة أم درمان بقرب بيت عبد الرحمن المهدي.
فالشاهد: ضيّفونا في هذا البيت، ولم يتركوا أحدًا يسكن معنا في هذا القصر، القصر تركوه لنا نحن أربعة أنفار مع المكتبة.
وهذه المكتبة فيها عرفت كلّ ما يتعلّق بعقيدة السلف، في هذه المكتبة عرفت العقيدة السلفية، وكتب الحديث التي كان حامد فقي يبعثها لأنصار السنة في أم درمان من مصر، لأن هذا الفرع فرعٌ لأنصار السنة في القاهرة.
أخذنا تقريبًا شهرين في هذا القصر، ومنعونا من أن ننفق على أنفسنا، وإنما إذا أردنا أن ننفق شيئًا أنفقنا سرًّا، أما علانية فلا يمكن أن ننفق شيئًا، وأخبرناهم أن عندنا فلوس كثيرة، قالوا: لا، هذه الفلوس أمامَها مسئوليات، أنتم تذهبون إلى الحجاز والحجاز يغلب عليه الفقر -قالوا هذا -في ذلك الوقت.
الشاهد: لما أردنا السفر من الخرطوم إلى بورسودان، عفوًا نسيت أن أقول لك: لما أردنا أن نتوجّه إلى تشاد كل واحد منا معه مبلغ من المال، قالوا لنا هذا المبلغ لا تأخذوه معكم، يجب أن تحولونه، قلنا له: ما معنى التحويل؟، هذه أول مرّة نسمع هذه الجملة؟، قالوا لنا: البنك، يوجد بنك تضعون هذه الفلوس في هذا البنك ثم تستلمونها في جدّة، فهذه عملية أول مرة نسمع بها، فوضعنا كميّة كبيرة من الفلوس في ذلك البنك واحتفظنا بالمبلغ الذي وضعناه في القربة.
فلما عزمنا على السفر من الخرطوم وسألنا عن التكاليف من بور سودان إلى جدة، وجدنا أن المبلغ الذي معنا والذي بقي ما يكفي لتلك التكاليف، فقلنا لرئيس أنصار السنة طه كردي كيف الحل، فقال لنا: أنا أعمل لكم طريقة، ودلّنا على (علي المرغني) في خرطوم بحري، وهذا رجل عظيم، واتصل به تلفونيًّا وقال له: عندي جماعة من أنصار السنة الآن أمامهم مشكلة وهي أن عندهم شيكات محوّلة من الخرطوم إلى جدّة وهم يحتاجون إلى فلوس فكيف الحل؟، قال علي الميرغني أرسلهم إليَّ -ونحن في أم درمان-، فركبنا العبّارة إلى خرطوم بحري، لما وصلنا خرطوم بحري وجدنا خُدّامًا ينتظرونا، استلمونا وسكّنونا في بيت، فبقينا ثلاثة أيّام في هذا البيت، قال لنا الخدّام: الشيخ سيخرج اليوم لاستقبالكم يوم كذا فأنتم اصبروا فصبرنا، ولما جاء يوم خروجِه
-في اليوم الثالث- جاءنا الخادم وقال لنا: استعدوا لمقابلة الشيخ، خرجنا
ولبسنا ومشينا معه، فلما أقدمنا على القصر -قصر كبير- فإذا العسكر محيطون به من كلّ جانب -العسكر البريطاني والعسكر السوداني- فاستغربنا الوضع قلنا ما هذا؟، قال: هذه هي العادة، أنه إذا كان اليوم الذي يخرج لازم يحيط العسكر لقصره، قال لنا: لا تخافوا، فدخلنا عليه وكان الناس عنده ما بين بارك وجاثم على ركبتيه للسلام عليه.
فالشاهد: نحن الغرباء ما عملنا شيئًا من هذه الخرافات، مشينا مع الخادم رأسًا وقطعنا هؤلاء حتى وصلنا إليه على دكّة عند مدخل داخل القصر، فلما أقبلنا عليه قام وسلّم علينا، وأخذني أنا على يمينه أنا وواحد، واثنين على شماله.
ورحّب بنا، ثم قال: أبلّغني طه كردي عن قضيتكم أبشركم أنكم إن شاء الله ناجحون، ودعونا له بالخير. وكلّم البنك البريطاني بالتليفون ونحن جالسون، قال له سيأتيك جماعة-، وكتب ورقة بأسمائنا مع خادمه -سيأتون إليك، فإذا جاءوا سلمهم المبلغ الذي كتبته لك، ثم سلمنا عليه، وخرجنا مع الخادم إلى الخارج بالسيارة –سيارته- حتى وصلنا إلى البنك، ثم استلمنا المبلغ.
وذهبنا إلى مكان منزلنا عند طه كردي وسُرَّ كثيرًا، وشكر للرجل هذا التعاون على البر والتقوى، وقلنا له: الآن نحن نغادر إلى بورسودان. غادرنا بورسودان في القطار إلى الخرطوم قبلي من الضحى إلى الضحى في القطار.
وصلنا إلى بورسودان، وبورسودان طبعًا فيها أنصار السنة، ورئيس أنصار السنة في أم درمان اتصل بالفرع الذي في بورسودان، ورئيس الفرع اسمه وكيعة الله، اتصل به وقال له: إنه سيصلكم الإخوة الساعة الفلانية في القطار الفلاني.
ما وصلنا إلى بورسودان في القطار إلاّ والإخوان واقفين ينتظرونا، لما نزلنا من القطار أخذونا إلى حارتهم -لهم حارة تسمّى دمشاط في بورسودان- أخذونا إلى هذه الحارة وسكّنونا في بيت.
بقينا في بورسودان مع أنصار السنة حتى أخذنا تقريبًا شهرًا كاملاً معهم وأنا أُلقي دروسًا في الجامع الكبير، وأُلقي دروسًا في مسجد أنصار السنة تارة.
هذا ما يتعلّق بمجمل الرحلة.
ولما غادرنا بورسودان في الخامس من شهر رمضان سنة ستٍّ وستين، ولما أتينا إلى محل الباخرة -أنا كان عندي صندوقان مملوءان من الكتب الحديثية والعقدية، لما جئنا إلى محلّ الجمرك عند الباخرة، المشرفون على العملية بريطانيون، قال لي البريطاني المشرف على العفش افتح الصندوقين حتى ننظر فيها، ففتحته فقال: افتح الثاني، ففتحته، فقال: أنت تاجر، تحمل الكتب من عندنا إلى الحجاز لكي تبيعَها، قلت: لا، أبدًا، حاشا وكلاّ، قلت له: هذه الكتب للعلم فقط، للتعلُّم، أما التجارة أنت الآن -قلت له- لو أردت أن تشتريها مني الآن بنصف بورسودان ما أعطيك إيّاها، قال لي: هكذا؟، قلت له: نعم، لا يمكن أبدًا أن تشتريها مني ولو بنصف بورسودان، فقال: يا عجبًا هذا الكتب ما هي للبيع؟، أنا الآن لو أعطيك نصف بورسودان الصندوقان هذان لا تسلمها لي، قلت: لن أسلمها لك أبدًا، إلاّ إذا ضمنت لي أنني إذا وصلت إلى الحجاز أجد هذه الكتب، قال: عجيب، ثم قال للعمال: اغلقوها، هذه الكتب ليست للتجارة، وأمروهم أن يرفعوها إلى الباخرة ومشينا.
ثم لما وصلنا إلى جدة -ولله الحمد- جاء المسئولون عن الباخرة -ونزّلوا الناس- وهذا في رمضان ونحن صائمونـ، إلا نحن، ثم قالوا لنا أين الجواز، أعطيناهم الجواز الليبي، فلما لما نظروا إليه قالوا: يا عجبًا أنتم لستم ليبيين، لأنّ المكيين والمدنيين يعرفون الناس، جوازاتكم هذه مستعارة، فلذلك لم ننزل من الباخرة، نحن الأربعة فقط بقينا في الباخرة، والباخرة تحمل ألفا نفر، ولم يبقى في هذه الباخرة إلاّ نحن الأربعة.
قلنا لهم: لماذا نحن نبقى؟ إلى متى؟، قالوا: أنتم ما عندكم جوازات، الجوازات التي معكم مستعارة أو مزيّفة، هكذا قالوا.
فبقينا ذلك اليوم في الباخرة. وكان أحد المسوؤلين يدور علينا في الباخرة كل يوم، ويقول لنا: أنتم ترجعون، لا بد من رجوعكم لأنكم ما عندكم جواز.
فبتنا يومنا ذلك في الباخرة، وفي اليوم التالي جاء إلى الباخرة أحد المسؤولين، فقلت له: يا أخي لماذا نحن مسجونون في البحر؟، قال: ما عندكم جوازات، قلت: إذا كان ما عندنا جوازات تسجنوننا في البحر بعفونته وبكل شيء، قال: هل تعرفون أحد في مكة أو في المدينة؟، قلنا: نعم، ذكرتُ له أننا نحن نعرف الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ، تعليمات أخذناها من الشيخ محمد عبد الله المدني عن بعض أهل الحجاز.
قال لنا: كيف تتصلون به، قلنا: نحن نريدك أنت تتصل به لأنه هو إذا عرف أننا مسجونون في البحر سيكفلنا حتى نرى ماذا يفعل الله بنا.
ثم ذهب واتصل به تلفونيًّا، هذا الرجل ساعدنا كثيرًا، وهذا الرجل من جماعة برهان، هذا المسئول عن الحجاج الذين يأتون من إفريقيا السوداء.
اتصل به وذكر له كما قلت أنا له، فقال الشيخ عبد الملك: إذًا الإخوان هؤلاء تُخرجونهم على كفالتي، وفعلاً أخرجونا بعد أن مكثنا أربع وعشرين ساعة في الباخرة.
ثم استرحنا يومين أو ثلاث في جدّة، ثم سافرنا إلى مكة في العصر، وفي ذلك الوقت تعرف أنه لا توجد طرق معبّدة للسيارات، ومكثنا بين جدة وبين مكة يومًا كاملاً بالسيارة، وذلك بسبب الرمال.
ثم وصلنا ليلاً إلى مكة ولله الحمد والمنة، ولما انتهينا من العمرة ذهبنا إلى إخوان لنا من السودان تبع مالي يسمون (باجا) ، وهم ساكنون في جرول، ونزلنا عندهم وما شاء الله استقبلونا وكانت المساكن في ذلك الوقت عشش، لا توجد بيوت من اللَّبن ولا من الطين، كانت (جرول) كلها من العشش والصنادق، أنزلونا في عشّة من العشش، وكان هناك عبارة عن عشتين: عشة للسكنى وعشة كمسجد، فصرنا نحن الأربعة مشرفين على المسجد هذا.
بقينا هناك في جوارهم وفعلاً جاورونا جوارًا طيِّبًا، وأكرمونا إكرامًا، ودلّونا على ما نجهل، لأنك تعرف أن للقادم دهشة.
فالحاصل: أرشدونا ودلّونا، فبقينا في مكة سنة 1367هـ في رمضان، وشوّال وذو القعدة وذو الحجة، ثم حجينا ورجعنا من الحج وبقينا المحرّم وصفر، ثم توجهنا إلى المدينة.
وفعلاً المدينة ما استطعنا أن نتوجّه إليها رسميًّا، فتوجهنا إليها على طريق غير رسمي، لأننا ما عندنا جوازات، هم كتبوا أنه ما عندنا جوازات وأننا على كفالة الشيخ عبد الملك آل الشيخ.
فلما عزمنا على التوجه إلى المدينة النبوية سألنا كيف الطريق؟، قال لنا بعض الإخوان يوجد سائقوا خشبية (1) يمكن يأخذونكم بطريقة غير رسميّة، وذهبنا عند واحد سائق إفريقي قال لنا: أنا آخذكم ولكن كلما اقتربنا من أيّ مركز تفتيش تنزلون وتأتون ماشين، لأنهم إذا وجدوكم مَعِي فإنهم يعاقبوني معكم.
(1) خشبية: السيارة الكبيرة المصنوع جوانبها من الخشب ا. هـ (عبد الأول) .
فركبنا معه على هذا الشرط، كلما قربنا من مركز يُنْزِلُنا، وهو ينتظرنا حتى نأتي إليه.
وقبل أن نصل إلى ذي الحليفة بمسافة -يعني عند البيضاء ـ، لما وصلنا إلى هناك أنزلنا نحن وعفشنا، أما في المسافات الأخرى يُنْزِلنا نحن دون عفشنا، ونحن كل واحد عنده صندوق فيه كتب.
فنزلنا هناك، قال السائق: أنا ما أستطيع آخذكم إلى ذي الحليفة فمركز التفتيش هناك، ولا يمكن أن أُبقيَ عفشي مع عفشكم ونذهب إلى المدينة لأنه يوجد تفتيش شديد، وافقنا رغمًا على أنفنا، وأخذنا صناديقنا، حملناها على ظهورنا إلى ذي الحليفة، هذا في الضحى، وصلنا إلى ذي الحليفة قبل أذان الظهر ماشين، ونزلنا في المسجد، وبقينا حتى صلينا الظهر وصلينا العصر، فلما صلينا العصر حملنا صناديقنا رأسًا إلى المدينة النبوية.
والشيء الذي أتعبنا في هذه المشي: وادي العقيق، حيث كانت تغوص فيه أقدامُنا ونحن حاملون الصناديق.
فالشاهد: مشينا من العصر حتى وصلنا إلى باب العنبرية إلى المسجد الذي فيها، وصلنا عنده والناس يصلون المغرب، لما وصلنا عنده وجدنا رجلاً واقفاً، قلنا له: ما هذا المكان؟، قال لنا: هذا باب العنبريّة، قلنا: ما هو هذا المسجد؟، قال لنا: هذا المسجد النبوي، قلنا: عجيب هذا المسجد النبوي؟، قال: نعم.
فدخلنا المسجد والناس كانوا في آخر ركعة من المغرب سألنا الناس الذين في الصف، قلنا لهم: هذا المسجد هو المسجد النبوي؟، قالوا: لا، المسجد النبوي هناك، هذا غير، هذا مسجد العنبرية، فعرفنا أن الشخص الأول الذي أخبرنا هذا جاهل.
خرجنا من المسجد وأخذنا صناديقنا، مشينا نبحث عن المسجد النبوي، في ليلة مظلمة، ما في كهرباء، يا عجبًا، ولا في قمر نسأل كلما مرّ بنا أيّ أحد من المدينة: نسأله أين المسجد النبوي، وهكذا حتى وصلنا إلى المسجد النبوي من جهة باب المجيدي بعد صلاة المغرب، ما وصلنا إلاّ والناس يصلون العشاء، وكان العسكري واقف عند الباب -أنت تعرف وضع المدينة في ذلك الوقت كلّه دكاكين-، قلنا للعسكري نحن ندخل في الصلاة والصناديق نتركها عندك، قال: أبدًا، ولا يمكن أبدًا، ابحثوا عن محل تضعون فيه صناديقكم فقلنا له: يا أخ العرب نحن غرباء ما نعرف أحد وأنت عسكري مسئول الواجب عليك أنك توافق، رفض رفضًا باتًّا، ونحن لا يمكن أن نرمي صناديقنا، قال لنا العسكري: من تعرفون؟، قلنا له: نعرف الشيخ عبد الرحمن الإفريقي ونعرف الشيخ أبو بكر التنبكتي، قال: أين هؤلاء؟، ما أعرفهم، قلنا: يا عجبًا.
وفي أثناء التفاهُم مع هذا العسكري رأينا أحد الأفارقة، قلنا له: تعال نحن الآن في ورطة مع العسكري هذا، العسكري يقول: ما نضع الصناديق، لا بدّ أننا نبحث لنا عن مكان نضعها فيه، ونحن لا نعرف فما العمل؟، قال: أنا أذهب معكم الآن أدلّكم على بيت الشيخ عبد الرحمن الإفريقي.
فمشينا معه إلى بيت الشيخ، ولما وصلنا إلى بيت الشيخ، قال: هذا البيت، قلنا له: كيف ندخل؟، قال: لا ما تدخلون، تجلسون على الدرج حتى يجي الشيخ بعدما يأذن لكم الشيخ.
قلنا له: وأنت؟، قال: لا، أنا أرشدتكم إلى المكان، مالكم بي أيُّ تعلّق.
جلسنا على الدرج وهرب منا، فجلسنا هناك في ليلة مظلمة مدلهمّة في غاية من الإظلام، ونحن جالسون على الدرج.
فبينما نحن جالسون فإذا الشيخ عبد الرحمن الإفريقي أقبل علينا، ونظر إلى
الأسودة لأنه لا يوجد نور، عرف أنه يوجد ناس، فقال: من على
الباب؟، لما قال: مَن على الباب؟، قلنا له: نحن الجماعة: حماد الأنصاري وفلان قال: أهلاً وسهلاً، فدخل ثم رجع، قال: تفضلوا، قلنا: نحن ما صلينا العشاء يا شيخ، قال: أنتم صلوا هنا الحرم أُغلق، قلنا له: أين القبلة، فأرانا القبلة فصلينا وبتنا تلك الليلة في غاية من الشوق إلى الحرم النبوي، فلو كانت لنا أجنحة نستطيع أن نطير بها حتى ننزل لنزلنا، بقينا تلك الليلة ما نمنا ننتظر الفجر، ورغم هذا جاء الفجر وسمعنا الأذان ومع ذلك ما استطعنا أن نخرج، ما نعرف كيف نخرج. والشيخ ما أدري ما الذي أصابه هل نسينا، طبعًا هو ذهب وصلّى الفجر ولكنه ما مرَّ علينا ولا دلّنا وبقينا محصورين ما نعرف أين نذهب، نسمع الأذان ولكن ما نستطيع نخرج، لأنه لو أردنا أن نخرج كيف نخرج؟.
وفعلاً صلينا الفجر في نفس الغرفة، وبقينا وما نمنا أيضًا، هكذا حتى طلعت الشمس، فلما طلعت الشمس جاءنا واحد إفريقي -أرسله الشيخ-، فلما جاء هذا الإفريقي، قلنا له: يا أخي ما نريد منك إلاّ أن تدلنا على منزل الشيخ أبي بكر التنبكتي"
(ثم قال الشيخ) :
"الشيخ أبو بكر أين كان ساكن؟، تعرف القلعة التي دون قباء؟، هو كان ساكن هناك في بيتٍ منفرد وليس حوله أيّ بيت، هذا بيت أظنُّه لواحد من الناس بناه على الطراز الحديث ولم يجد أحدًا يسكنُه فسكنه الشيخ لأنه ما عنده مأوى.
قال لنا الإفريقي بيت الشيخ بعيد، قلت: ولو كان بعيدًا نريدك تدلنا عليه.
وفعلاً مشينا أخذنا صناديقنا ومشينا، فوصلنا إلى الشيخ عند هذه القلعة.
الحمد لله عندما وصلنا إلى الشيخ عاد إلينا النفَس الذي تعبنا منه، نحن تعبنا داخل المدينة، لأننا نحن من المغرب والعشاء والفجر ما ندري عن أنفسنا شيء، يعني: كأننا في السجن.
استرحنا عند الشيخ، وذكرنا له أننا ما دخلنا الحرم إلى الآن، فلذلك نحن قصدنا الآن أن نصل إليكم ونسلِّم عليكم ثم بعد ذلك نخبركم بماذا نريد أن نفعلَه.
وفعلاً رحّب بنا، وقال لنا: أنتم الآن تنزلون عندي، قلنا: ما يمكن ننزل عندك وأنت بهذا البُعد، نحن ما جئنا لك نحن جئنا للحرم، فلا بدّ لنا من السكنى في مكان قريب من الحرم، أما في مكانك فلا، قال، فحاول، ولكن ما استطاع، قلنا له: نحن الذي نريده نترك العفش عندك أما نحن بأشخاصنا نحن في الحرم، وفعلاً، وحاول أننا -مثلاً -يكون الغدا عنده والفطور، قلنا له: لا، مالنا غدا عندك ومالنا فطور عندك، ومالنا عشى، نحن يكفينا أن عفشنا عندك.
وفعلاً اشترينا السجاجيد وإذا أُغلق الحرم بعد العشاء نفرش عند الباب في الزحام.
هكذا مضى عينا المحرّم وصفر وربيع وربيع، فلما انتهت علينا هذه الأربعة الأشهر هذه اتصل بعض الإخوان من أم درمان، اتصلوا بأهل مكّة، يطلبوني أنا، وفعلاً كتب لي بعض الإخوان الذي اتصلوا به أن فلان -رئيس أنصار السنة- يلحّ عليك بالزيارة، وفعلاً لما بلغني هذا الطلب رأسًا أنا مشيت وتركت الإخوان في مكة، وذهبت أنا رأسًا في الباخرة إلى أم درمان، حتى وصلت بورسودان ومن بورسودان إلى أم درمان، وبقيت هناك جمادى وجمادى
شهرين، ثم بعد ذلك رجعت، من ذلك التاريخ إلى الآن أنا هاهنا في البلاد المقدّسة، هذا سنة ثماني وستين، والوصول سنة سبعة وستين، إلى هذا الوقت.
لما رجعت الرجعة الثانية من الخرطوم -أم درمان-جئت مباشرةً إلى المدينة النبوية، نحن عادتنا هكذا، نحن ما نسكن عادة إلاّ في المدينة.
لما وصلت المدينة النبوية سكنت في أحد الأربطة، وقد تفرّقنا الإخوان بقوا في مكة، أنا فقط سكنت المدينة في رباط العجم وهو عند باب جبريل، حتى إنك تستطيع لو أمكن أنك تخرج من بابِه تمدّ رجلك في باب جبريل.
وبمناسبة أن هناك واحد من جماعة الشيخ الطيب الأنصاري وهو عبد القدوس الأنصاري كان أيضًا ساكن في هذا الرباط، وهو الذي طلب مني أن أسكن معه، وفعلاً سكنتُ معه.
وهذا الرباط ضيّق، وجدت منه ضيقًا شديدًا، ذهبت للشيخ أبي بكر في قباء وقلت له: يا شيخ أنا ساكن مع الإخوان في رباط العجم وهو ضيّق وأنت تعرف الناس، وأريد أن تدلّني على مكان يمكن أن أضع فيه كتبي وأجد فيه ولو غرفة واحدة، فخرج معي إلى رباط أمام البقيع، ودلني على غرفة نظيفة مفروشة بخسف فيها مكتبة وأعطاني المفتاح -مفتاح المكتبة -لأن الرباط كله لطلبة العلم، مليء هذا الرباط إلاّ هذه الغرفة.
جئت وكأني سكنت في أبهى قصر في الدنيا، سكنت في هذه الغرفة بجانب المكتبة، وإذا جاء وقت المكتبة أخرج من الغرفة إلى غرفة المكتبة أفتحها للطلبة، أنا أطالع فيها، وهذا في سنة ثمانية وستين وتسعة وستين وسبعين (1) -أربع سنوات-.
(1) 1368 ـ 1369 ـ 1370هـ.
وكنت في أثناء هذه المدة أدرِّس في المسجد النبوي وكذلك أدرُس في دار العلوم. لماذا؟، لما استقررت في المدينة، سألت الإخوان في هذه الدار -وما شاء الله فيها كمية كبيرة من الطلاّب لاسيما الغرباء- قلت لهم: أنا هل يمكن أن أنضم إليكم؟، قالوا: لا يمكن إلاّ إذا راجعت محمد خيّال -قاضي المستعجلة الأولى-، فسألت عنه حتى عرفت شخصيّتَه، فلما عرفت شخصيته كتبت ورقة صغيرة جئت وسلمت عليه وقلت له: يا شيخ أنا في أمس الحاجة إلى التعاون على البر والتقوى، قال لي: كيف، قلت له: أنا طالب علم ولكن لا يمكن لي أن أطلب العلم إلاّ عن طريق المدارس، قال لي: طيب، ما يمكن نقبلك إلاّ بعد الاختبار، قلت: أنا مستعد للاختبار، ولما جاء وقت الموعد رأسًا أنا حضرت ووجدته جالساً وسلمت عليه، وقال لي: الآن أنت جئت للاختبار؟، قلت: نعم، فاختبرني في التوحيد، واختبرني في الحديث، في مادتين فقط، وكتب أن فلانًا ناجحٌ في مادة التوحيد ومادة الحديث، بناءً على هذا، وقد اختبرني في (صحيح البخاري)، واختبرني في التوحيد (فتح المجيد) فلذلك كتب: أن فلانًا بمناسبة نجاحه في هاتين المادتين يستحق أن يكون في قسم التخصص على مراحل: الابتدائي، والمتوسطة، والثانوي، والعالي، والتخصص، كتب أن فلانًا يدخل في التخصّص ولكن بشرط أنه بعد صلاة الصبح -لأن محمد خيّال إذا صلى الصبح وصلى الناس الفجر يخرج رأسًا ويدرس في دار العلوم لأنه يلقي درسًا في "كتاب التوحيد" في البخاري -فيقول: بشرط أنه كلما جلست بعد الصبح يحضر يستمع للدرس،
وفعلاً أنا التزمتُ بهذا الشرط، فلما وجدني ملتزمًا بها أمر المدير أنه يدعني في الفصل الذي أريد في التخصص، وفعلاً دخلت في التخصص.
لما دخلت في التخصص كان الأساتذة هؤلاء -اسمع يا شيخ-:
كان عمر بَرّي يدرِّسنا في (صحيح مسلم) ، وفي (الهداية) في المذهب الحنفي، وفي (ديوان المتنبِّي) ، وفي (ألفية ابن مالك) أربع مواد، التخصص.
ومحمد الحافظ (1) الموجود الآن -الشيخ- ذا يدرسنا في (سنن النسائي) .
والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -لأنه كان من المدرسين- يدرسنا في (ابن كثير) وأصول فقه الروضة – (روضة الناظر) .
الحاصل: أنه توزعت الدروس هكذا بين المشايخ.
وعمار المغربي -تسمع به؟ -عمار المغربي يدرسنا في (صحيح البخاري) و (جامع الترمذي) .
الحاصل: هكذا توزعت الدروس، هذا كله سنة 68-69-70 -ثلاث سنوات-، وسنة واحد وسبعين أيضًا، ولكن واحد وسبعين جاءني طلب من مكة بواسطة الإخوان الذين تركتهم، ألحوا على أني لا بد وأن أرجع إليهم، وفعلاً عملوا هذه الطريقة للرجوع إليهم: وهو أنهم كتبوا للمدرسة الصولتية
-لأنهم كانوا يدرِّسون فيها- نريد أن تطلبوا فلانًا من دار العلوم، وفعلاً هم طلبوني من المدرسة الصولتية، وألحّوا عليّ الإخوان أيضًا فانتقلت"
(أسماء رفقاءك هؤلاء؟)
أنا أذكرهم لك: رفقائي:
واحد منهم حي الآن: عمار بن الحسن بن حذيفة الأنصاري، وهذا يشتغل الآن في رئاسة الإشراف على الحرمين الآن، هذا الذي بقي منهم من رفقائي.
أما الآخرون لم يبقى منهم إلا إثنان أنا وعمّار بن الحسن بن حذيفة الأنصاري: موجود الآن.
(1) توفي بعد الوالد بسنة عام 1419هـ. رحمه الله تعالى (عبد الأول) .
لما وصلنا إلى الصولتية للتدريس سنة واحد وسبعين، حيث إني خرجت من هنا واحد وسبعين، وبقيتُ فيها واحد وسبعين، اثنين وسبعين، وثلاث وسبعين، أربع سنوات، أدرِّس كمتخصص.
وفي السنة الرابعة من عملي تعرّفت في أثناء وجودي مع المشايخ: تعرفت على الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد اللطيف آل الشيخ، وأمثالهم من المسئولين في الرياض، فلما عرفوا أني في الصولتية وقد فتحت الكليّات والمعاهد في الرياض طلبوا أن أنتقل إلى الرياض مدرِّسًا، وفعلاً انتقلت سنة 1374هـ، بعد انتهائي للاختبارات.
أربع وسبعين انتقلت إلى الرياض، وباشرت العمل في الرياض خمسة وسبعين، باشرت العمل في المعهد العلمي، التابع لإدارة العامة للمعاهد والكليّات في ذلك الوقت، اسم العمل هناك، ما هناك جامعة، يقال: المعهد التابع للإدارة العامة للكليات والمعهد.
فالشاهد باشرت التدريس في المعهد العلمي، وأسندوا إليَّ المواد التّالية: أسندوا إليّ تدريس (ألفية ابن مالك) ، و (كتاب التوحيد) ،
و (روضة الناظر) ، و (بلوغ المرام) ، هذه هي المواد التي أسندوها إليَّ.
ولما مضت السنة الخامسة والسبعون ودخلت السنة السادسة انضممتُ إلى الكليّات، نقلوني إلى الكليات، وبقيت في الكليات من سنة ستة وسبعين إلى سنة خمس وثمانين هـ، هنا نقلوني إلى الجامعة الإسلامية، هكذا المراحل هنا.
وأرجو أن يتيسر لنا وقت، لأن الوقت الآن ضيق، لأجل أن نعطيكم معلومات عن الدراسة في إفريقيا حتى تعرفوا كيف كان الناس يدرُسون في إفريقيا وكيف يتلقّون العلوم وما هي العلوم التي كانوا يتلّقونها، وفي أثناء ذلك -أيضًا- أعطيكم كلمةً حول وصول الشيخ محمد عبد الله المدني الذي كان
إمامَ المسجد النبوي قبل الشيخ عبد العزيز بن صالح أيام الشيخ صالح الزغيبي، ووصولُه إلينا سنة ألف وثلاثمائة وسبعة وخمسين هجري، لما وصل إلينا في إفريقيا فتح مدرستين: مدرسة في توحيد السلف، ومدرسة في تعليم السنة النبوية.
وهذا الرجل في الحقيقة نستطيع أن نقول أنه سبب في نجاح هجرتنا، وأنا عندي الآن كتابة موجودة عن الشيخ وعن رحلتِه إلينا وبقائه عندنا يعلم العقيدة والسنة إلى أن خرجنا وتركناه هناك-، هو الذي أعطانا المعلومات التي قلت لك نحن نجيء كل بلد فنعرفه كأننا قد رأيناه سابقًا، كلها منه، وعندي كتابة الآن هنا لو كان الوقتُ واسعًا نخرجها ونقرأ عليك منها تفاصيل اللقاء وإقامة الشيخ عندنا حتى تعرف كيف كان التعليمُ في تلك البلاد، سواءٌ قبل الشيخ أو بعد الشيخ، والشيخ أصلُه من عندِنا، جاء به أبوه المحمود وهو ابن خمس سنوات، إلى هنا زمن حكم تركيا، وصل إلى هنا سنة سبعة عشر من القرن الذي قد انصرف (1) -القرن الرابع عشر-، وبقي هنا وتعلّم في دار العلوم، لأنه ذلك الوقت لا توجد إلاّ مدارس أهلية، تعلم فيها وبقي هنا حتى جاءت هذه الدولة، وتلقّى العقيدة عن الشيخ عبد الله بن الحسن آل الشيخ، الذي هو المسؤول عن المنطقة الغربية، هو وشيخُه الطيب الأنصاري، والشيخ أبو بكر التنبكتي، هؤلاء كلهم منا، لأن الشيخ الأنصاري ابن عمِّي، أما الشيخ أبو بكر التنبكتي أنا خالُه، وكذلك الشيخ محمد عبد الله أنا خالُه، فلذلك تحتاج مسألة الشيخ إلى وقتٍ أوسع من هذا حتى نعطيكم عنه جملة تستفيدون منها إن شاء الله فيما بعد.
(1) عام 1317هـ.
ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وهذه مجمل الرحلة، وهذه الرحلة لها تفاصيل، وهذه التفاصيل مكتوبة عندي أيضًا".
طبعت؟
"لا ما طبعت، كنانيش، لعلك تعرف معنى كنانيش؟، كُنَّاشات موجودة عندي، إذا حصل لنا وقت نعطيكم منها نبذة غير هذه المقتطفات"