الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يلزم من عدم الطهارة عدم الصلاة، ولا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة، ولا عدم لذاته.
أما قول الأصوليين عند ذكر السَّبب والشَّرط والمانع ونحوها، لفظ
«لذاته» فذلك لحكمة وهي: أنَّه ينظر إلى هذا السبب وحده وذاته دون النَّظر إلى الأسباب الأخرى والموانع والشروط، إذ لو نُظِر إلى الأسباب الأخرى والشروط والموانع لم يتحقق هذا التعريف، ففيما يتعلق بالسَّبب لو غربت الشمس على من أغمي عليه، لم تجب الصلاة عليه على الصحيح لوجود مانع، وكذلك فيما يتعلق بالشرط لو لم يجد المصلي شيئًا يتطهر به فلم يتمكن من الوضوء ولا التيمم، فإِنَّه يصلي صلاة فاقد الطهورين على الصَّحيح، فلو لم يقل: لذاته، لم يستقِم تعريف السبب والشرط والمانع
…
الخ
قَوْلُهُ: «والعزيمة حكم ثابت بدليل شرعي خالٍ من مُعارض راجح» .
هذا يُتَصَوَّر بالمثال، فكل واجبُ يُعدُّ عزيمة؛ لأنَّه حكم ثابت بدليل شرعي، وليس له معارض راجح.
قَوْلُهُ: «وضِدُّها
الرُّخصة»
.
أي: ضِدّ وعكس العزيمة: الرُّخصة، وهي حكم ثابت على خلاف دليل شرعي، وهذا المعارض أرجح، وذلك كالقصر في السَّفر فإنَّ العزيمة ألا تقصر،
لكن جاء دليل معارض لهذه العزيمة وهو أرجح منه فعمل به وتُسمى رخصة، وتقدَّم أنَّ هناك فرقًا بين الرُّخصة في اصطلاح الأصوليين وفي الاستعمال الشرعي.
قَوْلُهُ: «والنَّاسي والمخطئ والمكره لا إثم عليهم» .
المراد بالنَّاسي: من علم الشيء وذهل عنه.
والمخطئ: من أراد شيئًا ففعل غيره بلا قصد، وله معانٍ أخرى، لكن هذا هو المراد بكلام المصنف في هذا الموضع كبقية الأصوليين.
والمُكْره: هو من أُلْزِم على فعل شيء ففعله مُلْزمًا.
قوله: «لا إثم عليهم» . أي أنَّ الإثم مرتفع عنهم، أما دليل النَّاسي والمخطئ فقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، جاء في صحيح مسلم (126) أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: «قد فعلت» .
أما دليل المكره فقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}
قَوْلُهُ: «ولا يترتَّب على فعلهم فساد عبادة» .
أي: لو فعل المخطئ أو النَّاسي أو المكره فعلًا يُفسِد العبادة فإنَّ عبادته لا تَفْسد، وذلك كأكل الصائم وشربه نسيانًا، لما أخرج الشيخان عن أبي هريرة
- رضي الله عنه أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإِنَّما أطعمه الله وسقاه»
(1)
.
والمخطئ كالنَّاسي في الأحكام الشرعية، وكذلك المكره بجامع أنَّهم لم يتعمدوا الفعل لذات الإفساد.
قَوْلُهُ: «ولا إلزام لهم بعقد» .
أي كما لا تفسد عبادتهم، فكذلك لو عقدوا عقدًا فإنَّه غير لازم، لأنَّهم معذورون.
قَوْلُهُ: «والنَّاسي والمخطئ يضمنان ما أتلفاه من النُّفوس والأموال» .
الإتلاف أمرٌ متعدٍ وألزمته الشريعة صاحب الغنم المفرط، ولم يذكر المصنف المكره؛ لأنَّ الضمان ليس عليه، وإنَّما على من أكرهه كما بيَّنه في الشرح.
قوله: «من النُّفوس والأموال» . الأصل - والله أعلم - أن يُعَمَّم ولا يُخصَّص بالأموال، بل يُقال: في كلِّ ما أتلفا، ليدخل في ذلك ما أتلَفه المحرِم من شَعْر وقلمه من أظفار، فقد ذهبت المذاهب الأربعة في أنَّ عليه كفارة
(2)
، وهو
(1)
أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (1155)، واللفظ لمسلم.
(2)
ينظر: الاستذكار (4/ 160)، والمجموع (7/ 339)، والمغني (3/ 429).
قول عطاء فقد قال: «النَّاسي والمتعمِّد سواء»
(1)
، وكأنَّ المصنِّف تبع في هذا ابن تيمية وابن القيم.
وبعد هذا هناك قواعد مهمَّة تتعلَّق بما ذكره المصنِّف:
القاعدة الأولى: من ترك مأمورًا ناسيًا فلا إثم عليه، لكن يجب أن يأتي بالمأمور
(2)
.
ودليل عدم الإثم: قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .
ودليل أنَّه يجب أن يأتي بالمأمور: ما أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك»
(3)
.
وجه الدَّلالة: أنَّه لم يُسْقِط المأمور لنسيانه بل ألزَمه أن يأتي به عند تذكره.
القاعدة الثانية: من فعل محظورًا ناسيًا فلا إثم عليه، ولا يأتي بشيء
(4)
.
أما رفع الإثم فقد تقدَّم قوله سبحانه: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، أما أنَّه لا يأتي بشيء فلما أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ
(1)
ينظر: المصنف لابن أبي شيبة (3/ 217) رقم (13589)، ونصه:«في ثلاث شعرات دم، الناسي والمتعمد سواء» .
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (21/ 429) و (22/ 99)، وإعلام الموقعين (2/ 25).
(3)
أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684).
(4)
ينظر: مجموع الفتاوى (21/ 478) و (22/ 99)، وإعلام الموقعين (2/ 24).
الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتمَّ صومه، فإنَّما أطعمه الله وسقاه»
(1)
.
وجه الدَّلالة: أنَّه لم يأمر أن يُؤتَى بشيء عند النسيان.
ومن حيثُ المعنى: فعل المحظور ليس إيجادًا لشيء حتى يُطَالب بإيجاده كترك المأمور.
القاعدة الثالثة: الخطأ كالنسيان في القاعدتين السابقتين
(2)
.
القاعدة الرابعة: من ترك مأمورًا جاهلًا فلا إثم عليه ولا يجب عليه أن يأتي بشيء
(3)
؛ لعموم الأدلَّة في عُذر الجاهل من جهة الإثم كقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} .
وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .
مفهوم المخالفة: أنَّ اتِّباع أهوائهم جهلًا لا يجعله من الظالمين.
(1)
أخرجه البخاري (1933) ومسلم (1155).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (21/ 478)، وإعلام الموقعين (2/ 26).
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى (21/ 429 - 430) و (22/ 101 - 103)، وإعلام الموقعين (1/ 207).
أمَّا الأدِلَّة على أنَّه لا يأتي بشيء فحديثُ المسيء في صلاته، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجلٌ فصلَّى، ثُمَّ جاء فسلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام وقال:
«ارجع فصلِّ فإنَّك لم تصلِّ» ، فرجع الرجل فصلَّى كما كان قد صلَّى، ثم جاء إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فسلَّم عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وعليك السلام» ، ثُمَّ قال:«ارجع فصلِّ فإنَّك لم تصلِّ» ، حتى فعل ذلك ثلاث مرات. فقال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا علِّمني
…
الحديث
(1)
وبعد ذلك علَّمه الرسول الصلاة ولم يأمره بالإعادة.
وجه الدَّلالة: أنَّه كان يظنُّه عالمًا مفرِّطًا فأمره بالإعادة، لكن لما تبيَّن له أنَّه جاهل لم يأمره بالإعادة، فدلَّ هذا على أنَّ الجاهل معذور في ترك المأمور.
ولو لم يظنُّه مفرِّطًا لما أمره بالإعادة؛ لأنَّه جاهل سيصلِّي صلاة غير شرعية ولو عادها كثيرًا بما أنَّه لم يُعلَّم.
أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها في قصة فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها أنَّها جاءت إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنِّي امرأة أُستَحاض فلا أطهر. أفأدع الصلاة؟ فقال:«لا، إنَّما ذلك عِرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدَّم وصلِّي»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (757)، ومسلم (397).
(2)
أخرجه البخاري (228)، ومسلم (333).
فهي قد تركت مأمورًا وهو الطهارة للصلاة جهلًا، فَعذَرها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمرها أن تقضي الصلوات الماضيات. ذكر هذا ابن تيمية في مجموع الفتاوى
(1)
.
القاعدة الخامسة: من فعل محظورًا جهلًا فلا إثم عليه، ولا يجب عليه أن يأتي بشيء
(2)
.
أمَّا فلا إثم عليه؛ فهو للأدلة التي تقدَّم ذكرها في القاعدة السابقة.
أمَّا الدَّليل على أنَّه لا يجب عليه أن يأتي بشيء: فهو ما أخرج مسلم (537) في قصة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، وهو أنَّه تكلم في الصلاة ولم يبطل الرسول صلى الله عليه وسلم صلاته؛ لأنَّه كان جاهلًا.
وكل ما تقدم ذكره من القواعد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى وابن القيم في إعلام الموقعين.
قَوْلُهُ: «فصل:
السُّنَّة: قول النَّبي صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره».
المراد بالسنة هنا: ما بيَّنه المصنِّف من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره، ولا يريد به السنة بمعناها عند علماء المعتقد، ولا السُّنة بمعناها عند علماء الحديث.
(1)
مجموع الفتاوى (21/ 430).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (21/ 477) و (22/ 41 - 43)، وإعلام الموقعين (1/ 207).
قَوْلُهُ: «فقوله واضح» .
أي: تقدَّم الكلام عليه، وهو أنَّه إذا كان أمرًا فهو للوجوب .. وهكذا.
قَوْلُهُ: «وفعله الأصل فيه أنَّه مندوب» .
وذلك أنَّ الشريعة دعت إلى الاقتداء به، وهذا مستحب ومندوب، وليس واجبًا؛ لأنَّه لا دليل على الوجوب، ومن الأدلَّة على استحباب متابعته قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
وما أخرج البخاري (631) عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم قال: «صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي» .
وأخرج مسلم (1297) عن جابر رضي الله عنه أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم قال: «لِتأْخذوا مناسككم» .
وكلا هذين الحديثين يَدلَّان على عموم الاتِّباع، لا على الوجوب كما أفاده ابن القيم
(1)
.
قَوْلُهُ: «وقد تصرفه القرينة إلى الوجوب» .
أي: قد يَنتقل الفعل من الاستحباب إلى الوجوب بدليل، وذلك مثل طواف الإفاضة فهو فعل، وانتقل إلى الوجوب لقوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
(1)
تهذيب السنن (1/ 66، عون المعبود).
ومثل ذلك: الركوع والسجود في الصلاة فهو فعل للاستحباب لولا الأمر به لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} .
قَوْلُهُ: «أو الخصوصية» .
أي: أنَّ الأصل في أفعاله عدم الخصوصيَّة إلَّا لدليل، وقد تنازع العلماء في تطبيق هذه القاعدة في أمثلة كثيرة ومما قرَّرَه جمهور أهل العلم أنَّ الوصال خاصٌّ بالرسول صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ: «إلَّا أفعاله التي علم أنَّه لم يفعلها على وجه التشريع» .
أي: مالم يفعله على وجه التشريع فليس مستحبًا.
قَوْلُهُ: «كالأمور التي يفعلها اتفاقًا بلا قصد لجنسها، فإنَّها تكون مباحة» .
معنى هذا: أنَّ مالم يفعله لذاته، بل فعله وِفاقًا فإنَّه لا يُتَقَصَّد ويُفْعل لذاته.
وذلك مثل: الأماكن التي صلَّى بِها صلى الله عليه وسلم في طريقه ذهابًا وإيابًا وفي سفره فإِنَّها لا تُتَقَصَّد، لذا لا يقال إنَّ فعلها مندوب، لأجل هذا قال المصنف:«فإنَّها تكون مباحة» أي لذاتها، وهذا المباح محرَّم لدوافع أخرى كالتَّعبُّدِ فإنَّه يكون بدعة.
وينبغي أن تعرف أقسام أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم.
إنَّ أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم أقسامٌ خمسة:
القسم الأول: ما كان من الأفعال الخاصة به، وتقدم الكلام على مثاله.
القسم الثاني: ما كان من الأفعال بيانًا للفظ مجمل من القرآن أو من قوله صلى الله عليه وسلم، كصلاة الظهر أربع ركعات.
القسم الثالث: ما كان من الأفعال ابتداء تَعبُّدِيًا من الرَّسول صلى الله عليه وسلم، مثل السِّواك، والأكل بالأصابع الثلاث.
القسم الرابع: ما كان من الأفعال راجعًا إلى عادة قومه، أي: الأفعال العادية، فهذه الأصل فيها أنَّه يستحب أن يفعل فيها كعادة قومه، وذلك كاللباس فإنَّ السنة في اللباس أن يلبس بلباس قومه، ذكر هذا ابن تيمية
(1)
.
القسم الخامس: ما كان من الأفعال راجعًا إلى الجبِلَّة، كمحبَّة أكل شيء أو صفة المشية .. وهكذا.
تنبيه:
ما كان من عادة القوم، إن كانت إحدى العادات موافقة لعادة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنَّ تعمَّد فعل ذلك مستحب، مثل: أن تكون للقوم أكثر من عادة، ومن ذلك: لبس العمامة، فتقصُّد لبس العمامة لأنَّها عادة الرَّسول صلى الله عليه وسلم مستحب، ويدلُّ لذلك ما أخرج البخاري (166) أنَّ ابن عمر رضي الله عنه كان يلبس النّعال السبتية لأنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم كان يلْبَسُها.
(1)
مجموع الفتاوى (22/ 311).
وكذلك من تَعمَّد محبة طعام أو جبلة جُبِل عليها الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فإنَّه يثابُ على ذلك، لذا أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه أنَّه كان يحبُّ الدّباء لما رأى الرَّسول صلى الله عليه وسلم يتَتبَّعها في القصعة
(1)
.
قَوْلُهُ: «والأصل أنَّ أمَّته أسوة له في الأحكام كلها إلا ما خصَّه الدَّليل» .
تقدَّم الكلام على هذا.
قَوْلُهُ: «وإقراره صلى الله عليه وسلم على شيء يدلُّ على الجواز إلَّا بدليل» .
الإقرار دليل شرعي، ويدلُّ عليه: كلُّ دليل على وجوب إنكار المنكر، فإنه إذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا دلَّ على أنَّه ليس منكرًا وأنَّه قد أقره.
والإقرار نوعان:
النوع الأول: إقراره صلى الله عليه وسلم على شيء اطَّلع عليه، وهذا النَّوع قسمان:
القسم الأول: إقرار كلِّي، وذلك أنَّه اطَّلَع على عَمَل فَأَقَرَّه، كمثل الذي كان يقرأ سورة الإخلاص في كلِّ ركعة، أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها
(2)
.
القسم الثاني: إقرار جُزئي، ومعنى الإقرار الجزئي: أن يفعل أحدُ الصحابة أفعالًا، فيُنكر بعضها دون بعض، أو ما كان بهذا المعنى، فعدم إنكاره للأمور
(1)
أخرجه البخاري (2092) ، ومسلم (3/ 1615).
(2)
أخرجه البخاري (7375)، ومسلم (813).
الأخرى يدلُّ على إقراره، وقد أشار لهذا النوع جمع من العلماء منهم ابن تيمية
(1)
، وابن القيم
(2)
.
ومن الأدلة على هذا: أنَّ عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر رضي الله عنه وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا أبا بكر، إنَّ لكلِّ قومٍ عيدًا وهذا عيدنا»
(3)
.
وجه الدَّلالة: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر رضي الله عنه لما وصف الدف بأنَّه مزمار الشيطان، فدلَّ هذا على أنَّه كذلك، فيُستفاد منه أنَّ الدف محرَّم لكن استُثنيَ في العيد.
النوع الثاني: إقرار شيء وقع في عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلم ولم يطلع عليه، فمثل هذا حجة ولو لم يطلع عليه؛ لأنَّه لو لم يكن مرضيًا لما أقرَّه ربُّ العالمين.
أخرج الشيخان عن جابر رضي الله عنه أنَّه قال: «كنَّا نعزِل والقرآن ينزل» قال الثوري: لو كان شيء يُنهى عنه لنهانا عنه القرآن
(4)
.
(1)
الاستقامة (1/ 287).
(2)
إغاثة اللهفان (1/ 254 - 256).
(3)
أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892).
(4)
أخرجه البخاري (5208)، ومسلم (1440).
أيضًا أخرج البخاري (5519) عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «نحرنا فرسًا على عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلم فأكلناه» . أي: أنَّه لو كان محرمًا لنُهينا عن ذلك.
تنبيه:
الإقرار يأخذ حكم ما أُقِرَّ عليه، فإن أقرَّ على عبادة فتكون هذه العبادة مشروعة؛ كما أخرج الشيخان عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال:«إنِّي رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر»
(1)
، فأقرَّه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، فدلَّ على استحباب سَرْدِ الصِّيام، أي: على صيام الدهر، والمراد ما عدا الأيام المحرَّمة كالعيدين وأيام التشريق.
أما إذا أقرَّ على الجواز فإنَّه يكون جائزًا، كأكل الفرس في حديث أسماء المتقدِّم.
قَوْلُهُ: «ويُقدَّم قوله على فعله» .
أي: عند التعارض ولم يمكن الجمع، أما إذا أمكن الجمع بأن كان قوله لفظًا عامًا وخالفه بفعله فإنَّه يكون تخصيصًا أو غير ذلك ممَّا يستقيم معه الجمع.
(1)
أخرجه البخاري (1942)، ومسلم (1121) واللفظ لمسلم.
ومن أمثلة هذه القاعدة - وهي عدم إمكان الجمع - أنَّ الرَّسول فَطر بالحجامة، وقال:«أفطر الحاجم والمحجوم» أخرجه الخمسة إلا الترمذي من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه
(1)
.
وهذا قول يتعارض مع فعله صلى الله عليه وسلم، وهو ما أخرجه البخاري (1939) عن ابن عباس رضي الله عنه أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم.
ففي هذا المثال يقدَّم قوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ فعله محتمل لاحتمالات، ذكرها ابن القيم
(2)
.
منها: أن يكون مريضًا أو مسافرًا .. وهكذا.
تنبيه:
ينبغي أن يُدّقَّقْ عند احتجاج العلماء بهذه القاعدة؛ لأنَّه قد لا يُوافق في كلِّ مثال على التطبيق.
مثل: نهي الرَّسول صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، أخرجه الشيخان عن أبي أيوب رضي الله عنه
(3)
، ثم خالف ذلك بفعله فاستدبر القبلة
(1)
أخرجه أبو داود (2369)، والنسائي في «الكبرى» (3144)، وابن ماجه (1681)، وأحمد (5/ 283).
(2)
زاد المعاد (4/ 57).
(3)
أخرجه البخاري (394)، ومسلم (264).
في بيت حفصة عند بوله أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه
(1)
.
فمنهم من طبَّق هذه القاعدة وقدَّم القول على الفعل، والأولى في هذا المثال الجمع لأنَّه ممكن، لقاعدة إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما.
ووجه الجمع: ما جمع به جمهور أهل العلم وهو الحرمة في الفضاء والصحراء، والجواز في البنيان.
قَوْلُهُ: «إجماع الأمَّة» .
بدأ كلام المصنِّف في الدَّليل الثالث، وهو دليل الإجماع؛ فإنَّه مشهور عند الأصوليين أن يذكروا:
الدَّليل الأول: القرآن.
الدَّليل الثاني: السنة.
الدَّليل الثالث: الإجماع.
والإجماع حجَّةٌ شرعية، دلَّ على ذلك أدلة:
الدَّليل الأول:
(1)
أخرجه البخاري (148)، ومسلم (266).
وجه الدَّلالة: أنَّ الله ذمَّ على ترك سبيل المؤمنين، فدلَّ هذا على أنَّ اتباع سبيل المؤمنين واجب، ذكر هذا الشافعي
(1)
.
الدَّليل الثاني:
قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} .
وجه الدَّلالة: أنَّه إذا لم يحصل نزاع، وهو الإجماع، فاجتمعوا بهذا الإجماع، ذكر هذا الآمدي
(2)
، وشيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
.
الدَّليل الثالث:
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون»
(4)
.
وجه الدَّلالة: أنَّ العلماء إذا أجمعوا على قول، فلابدَّ وأنَّ من بينهم الفرقة الناجية التي لا تكون إلَّا على الحق، فدلَّ هذا على أنَّ ما أجمعوا عليه فهو حق.
(1)
ينظر: التبصرة في أصول الفقه (ص: 349)، والبرهان في أصول الفقه (1/ 261).
(2)
الإحكام في أصول الأحكام (4/ 24).
(3)
منهاج السنة (8/ 348).
(4)
أخرجه البخاري (7311)، ومسلم (1921).
وإذا عرف هذا فإنَّ لدليل الإجماع مزيَّة على بقية الأدلة، وهو: أنَّه لا يكون إلَّا قطعيًّا في دلالته، فلا يأتي الإجماع محتمِلًا في دلالته، ذكر هذا ابن قدامة
(1)
، وابن تيمية
(2)
.
ومن هاهنا صار دليل الإجماع دليلًا مهمًّا، واعتنى به علماء الأمة؛ لأنَّه بهذه المزية أصبح من أعظم ما يُحفظ به معتقد أهل السنة؛ لأنَّ أصول معتقد أهل السنَّة مُجمع عليها، فلا يصَحُّ لأحدٍ أن يشكَّ في معتقد أهل السنَّة بحجَّة أنَّ دليله ظنِّي محتمل؛ لأنَّ مسائله مُجمع عليها، ودليل الإجماع لا يكون إلا قطعيًا في دلالته، بخلاف ثبوت الإجماع، فإنَّه من جهة الثبوت قسمان:
القسم الأول: القطعي، وهو الذي استند على أدلة قطعية في دلالتها وصحتها، كقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ، فأجمع العلماء على أنَّ الصلوات الخمس فرض وواجب، وهذا النَّوع من الإجماع من أنكره كفر.
القسم الثاني: الإجماع الظني، وهو مالم يكن من القسم الأول، وهذا النَّوع من الإجماع منكره لا يكفر.
ذكر القسمين السابقين وما يتعلق عليها من الكفر ابن تيمية
(3)
.
(1)
روضة الناظر (1/ 378).
(2)
مجموع الفتاوى (1/ 17).
(3)
مجموع الفتاوى (19/ 267، 270).
ومما تقدَّم يُعرف أهمِّية الإجماع؛ لذا حاول أهل البدع إسقاطه، فأوَّل من خالف في حجيته النَّظَّام المعتزلي، وذكر هذا ابن قدامة
(1)
وغيره.
ومن أهلِ البدع من لم يستطِع إسقاط الإجماع لكن جعلوا وقوعه كالمستحيل فقالوا: الحجَّة في الإجماع المنطوق دون المسكوت، ومعنى المنطوق: أن ينطق كلُّ عالم، ومعنى المسكوت: أن يتكلَّم طائفة من العلماء ولا ينكر عليهم الأخرون، ولازم هذا التأصيل أنه لا إجماع، لذا ذكر ابن قدامة أنَّه لا يُستطاع إثبات وجوب الصلاة عن كل فرد من أهل بدر فضلًا عن غيرهم، فإذا لم يستطع إثبات وجوب الصلاة عن أهل بدر فغيرها من الأحكام عن باقي العلماء من باب أولى، لذا تقسيم الإجماع إلى منطوق ومسكوت، والقول بأنَّ الإجماع السكوتي ليس حجَّة إنَّما قاله المتكلِّمون ومن تأثَّر بهم، ومن نسبه إلى الشافعي فقد أخطأ، كما بين هذا العلائي وأشار لهذا النَّووي، وقد أخطأ من ظنَّ أن الإمام أحمد لا يرى حجية الإجماع، مستندًا إلى قوله لابنه عبدالله: من ادَّعى الاجماع فهو كاذب، وما يدريه لعل النَّاس اختلفوا، هذه دعوى بِشر والأصَمّ.
وقائل هذا مُخطئ؛ لأنَّ هذا يدلُّ على أنَّ الإمام أحمد لا يرى حُجِّية الإجماع.
والجواب عن هذا من وجيهن:
الوجه الأول: أنَّ الإمام أحمد قد حكى الإجماع في مسائل كثيرة:
(1)
روضة الناظر (1/ 288 - 289).