الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْلُهُ: «غير العهدية» . يريد أنَّ (أل) للعهد لا تفيد العموم، وهذا ما قرره الأصوليون كابن قدامة
(1)
، وابن تيمية
(2)
، فهي إنَّما تعود للمعهود بالإجماع، كما قاله الرازي
(3)
، وإنَّما تكون بحسَب المعهود؛ فإن كان المعهود عامًّا فهي للعموم، وإن كان خاصًّا فهي للخصوص
(4)
.
فبهذا يتبين أن
(أل) أقسام ثلاثة:
الأول: لاستغراق الجنس، وقد تقدَّم.
الثاني: للعهد، وقد تقدَّم.
(1)
روضة الناظر (2/ 11)، (2/ 29).
(2)
المسودة (ص 105).
(3)
المحصول (2/ 356).
(4)
شرح الأصول من علم الأصول لابن عثيمين (ص 270).
الثالث: لبيان الجنس، وهذه ليست من ألفاظ العموم، وإنما فيها بيان المعنى من حيث الجملة، ومثَّل الأصوليون والنحاة على ذلك بقول:«الرجل خير من المرأة» ، وهذا من حيث الجملة لا كل مفرد.
قَوْلُهُ: «والمفرد المضاف لمعرفة» . هذه هي الصِّيغة السَّادسة.
قَوْلُهُ: «والنكرة في سياف النفي، أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام» . وهذه هي الصيغة السابعة. ويُزاد على ذلك الامتِنَان.
وبعد هذا أنبِّه على أمرين:
الأمر الأول: أنَّ للعموم أقسامًا أربعة:
القسم الأول: العموم المحفوظ: أي: الذي لم يُخصَّص، كقوله تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، فلفظ الناس عامٌّ لم يُخصص.
القسم الثاني: العموم المخصوص: كحديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم في الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يُخْتلى خلاها، ولا يُقطع شجرها
…
»، قال صلى الله عليه وسلم:
«إلا الإذخر»
(1)
. فهذا تخصيص للعموم.
القسم الثالث: عامٌّ يُراد به الخصوص، كما أخرج الشيخان من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه:«إذا حضرت الصلاة»
(2)
، والمراد الصلوات الخمسة المفروضة.
(1)
أخرجه البخاري (112) ، ومسلم (1355).
(2)
أخرجه البخاري (6008)، ومسلم (674).
القسم الرابع: العام الواردُ على سبب، كالآيات والأحاديث التي جاءت بلفظ العام، وقد وردت على أسبابٍ، كقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ] النور: 2 [، وقوله سبحانه: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ}] المجادلة: 2 [.
الأمر الثاني: قال كثير من الأصوليين المتأخرين: ما من عام إلا وقد خصص، إلا قوله تعالى:«إن الله على كل شيء قدير» ، وقوله سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ] الأنفال: 75 [
…
ونحوَ ذلك، وخالفهم الشاطبي وقال:«لا يوجد عام خُصِّص، بل العمومات إما محفوظة، أو يُراد بها الخصوص»
(1)
.
وذهب ابن تيمية
(2)
، وابن القيم
(3)
، وقبلهما ابن حزم
(4)
أنَّ أكثر العمومات لم تُخصَّص، ووضَّح ذلك شيخ الإسلام بما في سورة الناس. قال:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ] الناس: 1 [: لفظ (الناس) عام لم يُخصَّص، إلى آخر السورة.
وهذا هو الصواب، والردُّ على الشاطبي بحديث:«إلا الإذخر» ، فهو بيِّنٌ في أن هذا العام خُصِّص بعد ثبوت عمومه.
ومبحث العام مبحث مهمٌّ، وفيه مسائل دقيقة تُذكر - إن شاء الله - في شرح (الأصول من علم الأصول).
(1)
الموافقات (4/ 47 - 48).
(2)
مجموع الفتاوى (6/ 442).
(3)
الصواعق المرسلة (2/ 687 - 688).
(4)
الفصل (3/ 35).
قَوْلُهُ: «وتخصيص العموم» .
لمَّا ذكر المصنف بحث العام وألفاظه ذكر بعد ذلك المخصِّصات، واقتصر المصنِّفُ على ذكرِ المخصِّصات المتَّصِلة؛ لأنَّ المتن مختصر.
وينبغي أن يُعلم أن المخصصاتِ نوعان:
النوع الأول: مخصِّصات مُتَّصلة: وهي التي لا تستقلُّ بنفسها.
النوع الثاني: مخصصات منفصلة: وهي التي تستقلُّ بنفسها.
وسيأتي - إن شاء الله - ذِكرُ الأمثلة على المخصِّصات المتَّصلة عند شرح كلام المصنف.
أمَّا المثال على المخصِّصات المنفصلة: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} ] النساء: 11 [، هذا عام في جميع الأولاد، سواء كانوا مسلمين أو كافرين، لكن ثبت في البخاري من حديث أسامة رضي الله عنه مرفوعًا قال صلى الله عليه وسلم:«لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم»
(1)
.
فخصَّص عموم الآية، وهذا التخصيص تخصيص منفصل؛ لأنَّه يمكن أن يَستقلَّ المخصِّصُ بنفسه، وهو حديث:«لا يرث المسلم الكافر» .
(1)
أخرجه البخاري (6764) ، ومسلم (1614).
قَوْلُهُ: «يكون بالشَّرط أو الصِّفة أو نحوهما» .
قوله: «بالشرط» : المراد بالشرط، أي: معناه عند أهل اللغة لا عند الأصوليين، الذي تقدَّم بيانه، وهو أن يُعلَّق شيءٌ بشيء بـ «إنْ وأخواتها» .
ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ] التوبة: 5 [.
وجه الدَّلالة: أنَّ تخلية سبيلهم مخصص بإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة.
وقد ذكر أن معنى الشرط بالمعنى اللغوي لا الأصولي البرماوي
(1)
والمرداوي
(2)
.
قوله: «أو الصفة» : وليس المراد بالصفة المعنى عند النحاة، وإنما المراد كلُّ ما أَشعرَ بمعنى، بحيث يخصِّص بعض أفراد العام، ذكر هذا المرداوي
(3)
.
ويدخل في ذلك الحال والصفة والبدل بالمعنى عند النحاة.
مثال الحال: كقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} ] النساء: 93 [.
(1)
التحبير شرح التحرير (6/ 2619).
(2)
التحبير شرح التحرير (3/ 1068).
(3)
التحبير شرح التحرير (6/ 2626).
وجه الدَّلالة: أنَّ هذا الجزاء لمن كان حاله عند القتل حالَ متعمِّدٍ، ولولا هذا لكان عامًّا في المتعمِّد وغيره، لكنَّه خصَّص ذلك بالمتعمِّد.
ومثال الصفة عند النحاة: ما في مسلم عن أبي ذر مرفوعًا: «يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه مثل مُؤْخِرةِ الرَّحل: المرأة والحمار والكلب الأسود»
(1)
.
وجه الدَّلالة: أنَّه لولا ذكر الوصف الأسود لكان عامًا في كلِّ كلب، لكن ذكر لون الأسود خَصَّصَه به دون غيره.
أما البدل فمثاله قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ] آل عمران: 97 [، فلولا قوله:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} لصار عامًّا على المستطيع وغيرِ المستطيع، لكنَّ هذا البدل خَصَّصه.
قوله: «أو نحوهما» . أي: كالاستثناء، فالاستثناء تخصيص متصل، كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
…
}] العصر: 2 - 3 [.
وينبغي أن يُتَنَبَّه إلى أنَّ كثيرًا من الأصوليين جعل للاستثناء شروطًا، وهذا مما لا يصح - والله أعلم - وذلك لأنَّ البحث جار في استثناءٍ في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاستثناء متى ما وجد فهو حُجَّة، ولا يُتوقف في الاحتجاج به على النَّظر إلى الشروط التي وضعها النحاة وأهل اللغة.
(1)
صحيح مسلم (510).
والمراد بالاستثناء على معناه عند الفقهاء وهو أعمُّ من معناه عند النحاة، فلو قال قائل: لفلان هذه الدار ولي منها كذا. فهذا استثناء عند الفقهاء دون النحاة. قاله ابن تيمية
(1)
وابن القيم
(2)
.
قَوْلُهُ: «فيعمل بذلك في كلام الشارع» .
وهذا واضح؛ لأنَّ البحث الأصولي بحث في كلام الشارع.
قَوْلُهُ: «وكلام المكلفين» .
وفي هذا نظر - والله أعلم - من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ علم أصول الفقه لا يتعلق بكلام المكلفين، وإنَّما بكلام الشارع.
الوجه الثاني: أنَّ كلام المكلفين راجع إلى أعرافهم لا سيما مع انتشار العجمة، وضعف العلم بلغة العرب، فإذا تخاصموا عند القاضي حَكم بأعرافهم لا بلغة العرب. أفاده ابن تيمية في مواضع من مجموع الفتاوى وغيره
(3)
، وابن القيم
(4)
.
(1)
المسودة (ص 154).
(2)
إعلام الموقعين (4/ 57).
(3)
مجموع الفتاوى (31/ 143).
(4)
إعلام الموقعين (3/ 67).
قَوْلُهُ: «والمطلق من الكلام» .
بدأ ببحث المطلق، وينبغي أن يُعلم أنَّ هناك فرقًا بين المطلق والعام من حيث المعنى والصِّيغة: أما المعنى فإطلاق المطلق إبداليٌّ، وعموم العامّ شموليٌّ.
فإذا قيل: لم أر رجلًا. فهذا عام، وهو شامل لأيِّ رجل، فلم يرَ لا زيدًا ولا عمرًا ولا خالدًا
…
إلخ.
أما إذا قال: رأيتُ رجلًا. فإطلاقُه إبدالي؛ وذلك أنَّه رأى واحدا من الرجال، لكن يحتمل أن يكون زيدًا أو عمرًا أو خالدًا
…
وهكذا.
لذلك يتقيد المطلق بذكر فرد من أفراده؛ لأنَّ إطلاقه إبداليّ، بخلاف العام؛ فإنَّه لا يخصص بذكر فرد من أفراده. هذا من حيث الأصل؛ لأنَّ عمومه شمولي.
أما الصِّيغة: فإنَّه ليس للمطلق إلا صيغة واحدة، وهو النَّكرة في سياق الإثبات، ويُلحقُ بها الأفعال.
أما العام: فقد تقدَّم ذكرُ صِيَغِه.
إذا تبيَّن هذا فإنَّه من الخطأ أصوليًّا على ما استقر عليه الأصوليون أن يقال: هذا لفظ عام يتقيد بكذا، وإنَّما يقال: هذا لفظ عام يُخصص بكذا. ويقال: هذا لفظ مطلق يُقيد بكذا.
قَوْلُهُ: «والمطلق من الكلام يحمل على المقيد في موضع آخر» .
هذه المسألة تسمى بمسألة حمل المطلق على المقيد، وهي مسألة مهمَّة، ولها أحوال أربعة:
الحال الأولى: أن يختلف الحكم والسبب.
وذلك كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ] المائدة: 38 [، مع قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}] المائدة: 6 [، وذلك: أنَّ السَّبب في الآية الأولى: السَّرقة، والحكم: القطع، أما السَّبب في الآية الثانية: التَّطهر، والحكم: الغسل، فإذا كان كذلك فلا يحمل المطلق على المقيد بالإجماع.
الحال الثانية: أن يتفق الحكم والسبب.
وذلك كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} ] البقرة: 196 [. في كفَّارة اليمين، وفي قراءة ابن مسعود قال:«فصيام ثلاثة أيام متتابعات» ، فالحكم فيهما: الصيام، والسَّبب: كفارة اليمين، فيحمل المطلق على المقيد إجماعًا. حكى الإجماع في هذه الحالة والتي قبلها جماعة منهم: إلكيا الطبري الهراسي
(1)
.
الحال الثالثة: أن يتفق الحكم ويختلف السبب.
وذلك كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ] النساء: 92 [في القتل، وقوله:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} في كفارة اليمين.
(1)
البحر المحيط (5/ 9).
الحكم فيهما واحد، وهو أنَّه تحرير رقبة، لكنَّ السَّبب مختلِف، ففي الآية الأولى: السَّبب: القتل، وفي الآية الأخرى: السبب: كفارة يمين، فقد تنازع العلماء على قولين، أصحِّهما لا يحمل المطلق على المقيد؛ لأنَّه لا دليل على ذلك.
تنبيه:
يشترط في عتق الرقبة أن تكون مؤمنة، لا لأجل حمل المطلق على المقيد، وإنَّما لدليل خارجي، وهو ما أخرجه مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه أراد أن يعتق جارية، فأتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألها:«أين الله؟» ، قالت: في السماء، قال:«من أنا؟» قالت: أنت رسول الله، قال:«أعتقها، فإنَّها مؤمنة» .
وجه الدلالة: أنَّه ما أعتقها إلا بعد أن تبين أنَّها مؤمنة، لذلك علل بهذا بقوله:«أعتقها فإنَّها مؤمنة» .
الحال الرابعة: أن يختلف الحكم ويتفق السبب:
وذلك كقوله تعالى في الوضوء: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ] المائدة: 6 [وفي التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}] المائدة: 6 [، فاتفق السبب وهو التطهير، واختلف الحكم، ففي الآية الأولى: الحكم: الغسل، أما الثانية: فالتيمم.
ففي مثل هذا لا يحمل المطلق على المقيد؛ على أصحِّ قولي أهل العلم.
قَوْلُهُ: «إلا إذا تضمَّن ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة» .
أي: يُحمل المطلق على المقيد إلا إذا منع من ذلك مانع كتأخير البيان عن وقت الحاجة.
ويتَّضح هذا بالمثال: ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم سئل لما كان بذي الحليفة ما يلبس المحرم؟ فكان مما أجاب: «فمن لم يجد النَّعلين فليلبس الخفين، وليقطَعْهما حتى يكونا أسفل من الكعبين»
(1)
.
وفي يوم عرفة أخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ومن لم يكن له نعلان فليلبس خفين»
(2)
. ولم يذكر القطع. وأخرج مسلم (1179) نحوه عن جابر رضي الله عنه.
فعلى ما تقدَّم من التَّأصيل ينبغي أن يحمل المطلق على المقيد لاتفاق الحكم والسبب فإنَّ السبب الإحرام، والحكم: لبس الخفين لمن لم يجد النعلين، لكن منع مانع من حمل المطلق على المقيد، وهو أنَّ الذين حضروا في يومِ عرفة أعداد كثيرون وأضعاف الذين حضروا بذي الحليفة لما ذكر القطع، فدلَّ هذا على أنَّ القطع نُسخ، وإلا لبيَّنه صلى الله عليه وسلم في عرفة، ولو كان مرادًا شرعًا ولم يبينه لترتب على ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة. وهذا ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه البخاري (366) ، ومسلم (1177).
(2)
أخرجه البخاري (5853)، ومسلم (1178).
ذكر هذا المثال الإمام أحمد، ونقله ابن القيم في بدائع الفوائد وأقرَّه، وذكره ابن تيمية في شرح العمدة.
قَوْلُهُ: «والمجمل والمشتبه يحمل على المحكم الواضح المبين في موضع آخر، ويجب العمل بالظاهر» .
ذكر المصنف المُجْمَل والظاهر، والمجمل والظاهر يجتمعان في شيءٍ، ويفترقان في شيءٍ: يجتمعان في أنَّهما يحتملان أكثر من معنى، ويفترقان في أنَّ معنى المجمل يُعرَف بمرجِّحٍ خارجي، أما معنى الظاهر يُعرَف بنفسه وذاته.
ومن أمثلة المجمل: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ] البقرة: 228 [، قال الإمام أحمد: ذهب كبار الصحابة إلى أن المراد بـ «القرء» : الحيض، وقد ثبت هذا عن عمر رضي الله عنه، فعرِف معنى القرء بمرجح خارجي، وهو قول عمر، وهو الخليفة الراشد، فلفظ «القروء» مجملٌ، وفتوى عمر مبيِّنٌ.
ومثال الظاهر: قال تعالى في ذكر أصناف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ] التوبة: 60 [، فقوله:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، فيه قولان للأولين:
القول الأول: أنَّه الجهاد.
الثاني: أنَّه الجهاد والحج.
وفي المسألة قولٌ ثالثٌ محدَثٌ، وهو أنَّه في كلِّ أبواب البر والخير.
قال ابن قدامة: «سبيل الله عند الإطلاق إنَّما ينصرف إلى الجهاد، فإنَّ كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله»
(1)
.
فإذًا حمْل معنى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} على الجهاد من باب الظاهر، ولم يُعرَف معناه بمرجِّح خارجي، وإنَّما بذاته.
قوله: «يُحمَل على المحكَم» . فدلَّ هذا على أنَّه لا يُعمَل بالمجمل إلى أن يتَّضِح معناه.
ولما قال: «يجب العمل بالظاهر» . دلَّ هذا على أنَّ الأصل العمل به إلَّا إذا دلَّ الدليل على خلافِ ذلك.
لذلك قال: «ولا يُعدَل عنه إلا لدليل» . فمعرفة الظاهر والمجمل وأمثلتهما مهمٌّ، لا سيما الظاهر، وأختِم بمثالٍ يتعلق بالظاهر ثم بتنبيهٍ: لفظ «التطهير» في الكتاب والسنَّة جاء بمعان ثلاثة:
المعنى الأول: إزالة النَّجاسة.
المعنى الثاني: رفع الحدث، وأمثلتهما كثيرةٌ.
المعنى الثالث: التنظيف: أي بما يكون لغير النَّجاسة.
(1)
المغني (6/ 483 - 484).
ومن ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي عن عائشة، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:«السِّواك مطهرةٌ للفم»
(1)
. لكن أكثر ما يطلق على المعنين الأولين، ويترتب على هذا بيان خطأ قول المالكية: أنَّ لعاب الكلب طاهرٌ، وحملوا حديث أبي هريرة رضي الله عنه في مسلم (279): «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب
…
إلخ» على التطهير بمعنى التنظيف، لا بمعنى إزالة النجاسة.
والردُّ عليهم أن يقال: إنَّ حمل التطهير بما يقابل النجاسة هو الظاهر؛ لأنَّه أكثر استعمالًا، بخلاف حمله على معنى التنظيف.
تنبيه:
كان السَّلف رحمهم الله يُجمِلون ويُطلِقون لفظ المجمل على العام، والمطلق، والظاهر، والمجمل بمعناه الخاص عند الأصوليين، كما كان يفعل ذلك أحمد، وإسحاق، وأبو عبيد وغيرهم، ذكر هذا ابن تيمية في كتابه الإيمان الكبير
(2)
.
أمَّا المتأخرون فاستقرَّ اصطلاحهم على ما تقدَّم ذكره من الاصطلاحات، وهذا التفريق مهمٌّ؛ لأنَّه تترتب عليه مسائل، لكن الأولين لمَّا كانوا أكثر علما، وأفهم بالمعاني ما احتاجوا إلى هذا، بخلاف المتأخرين، لما قَلَّ علمهم وفهمهم، كانوا في حاجةٍ ماسَّةٍ لهذا - والله أعلم -.
(1)
مسند أحمد (41/ 405 طبعة الرسالة)، وسنن النسائي (5).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 391 - 392).