الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقضية العتبية في حكم القاضي على عدوه.
وفي نظر من ولي في أحكام من قبله أسمعة وروايات حصلها ابن رشد في رسم الصبرة من سماع يحيى بأن قال القاضي: العد العالم لا تتصفح أحكامه، ولا ينظر فيها إلا على وجه التوجيه لها إن احتيج إلى النظر إليها لعارض خصومة، أو اختلاف في حد لا على وجه الكشف، والتعقب لها إن سأل ذلك المحكوم عليه، فتنفذ كلها إلا أن يظهر في شيء منها عند النظر إليها على الوجه الجائز أنه خطأ ظاهر لم يختلف فيه، فيرد ذلك، والقاضي الجائر ترد أحكامه دون تصفح، وإن كانت مستقيمة في ظاهرها إلا أن يثبت صحة باطنها.
والقاضي العدل الجاهل تتصفح أحكامه، فما هو صواب أو خطأ فيه خلاف أنفذ، وما هو خطأ لا خلاف فيه رد.
ويختلف في أحكام القضاة الذين لا ترضى أحوالهم، ولا تجوز شهادتهم إن لم يعلموا بالجور في أحكامهم، وفي أحكام أهل البدع والأهواء، فقال ابن القاسم والأخوان: هي كأحكام الجائر لا يمضي منها إلا ما علم صحة باطنة بالبينة العادلة.
وقال أصبغ: كأحكام العدل الجاهل تتصفح، فيمضي منها ما كان صحيحًا في الظاهر.
وحكى الفضل عن ابن الماجشون: أن القاضي الجاهل تتصفح أحكامه كالقاضي الجائر، وهو شذوذ.
[باب في الخطأ الموجب لرد حكم العالم العدل]
والخطأ الموجب لرد حكم العدل العالم: فسره اللخمي بما خالف نص آية أو سنة أو إجماع.
قُلتُ: أو ما ثبت من عمل أهل المدينة؛ لأنه عند مالك مقدم على الحديث الصحيح عنده.
وزاد المازري عن الشافعي: أو قياسًا لا يحتمل إلا معنى واحدًا. قال: والظاهر أنه يشير إلى القياس الجلي الذي لا يشك في صحته.
وللشيخ عن ابن حبيب عن ابن الماجشون: من الخطأ الذي ينقض فيه حكم العدل العالم الحكم باستسعاء العبد لعتق بعضه، وبالشفعة للجار، وتوريث العمة والخالة والمولى الأسفل، وما يشبه ذلك، ولما ذكرها المازري قال: وابن عبد الحكم لا يرى النقض في شيء من هذه المسائل؛ لأن نقلها غير قطعي.
وقول ابن الماجشون بعيد؛ لأن الاستسعاء ورد به حديث ثابت.
الصقلي عن ابن عبد الحكم عن ابن القاسم: من طلق امرأته البتة، فرفعها لمن يراها واحدة، فجعلها واحدة، فزوجها البات قبل زوج، فلمن ولي بعده؛ أن يفرق بينهما، وليس هذا من الاختلاف الذي يقر الحكم به.
وقال ابن عبد الحكم: لا ينقض ذلك كائنًا ما كان ما لم يكن خطأ محضًا.
ابن حبيب: لا يعجبني ما انفرد به ابن عبد الحكم، ولو رفع من قتل رجلًا غيلة لقاض يرى فيه العفو، فأسلمه لأوليائه، فعفوا عنه؛ ففي منع من ولي بعده نقض حكمه قولا ابن القاسم وأشهب.
ولابن رشد في ثالث مسألة من رسم الجواب من سماع عيسى: لا خلاف في نقضه حكم من قبله إن كان خطأ لم يختلف فيه، وغن كان اختلف فيه؛ لم يرده، وقيل: يرده إن كان شاذًا.
وقال ابن الماجشون: يرد، وإن كان الخلاف قويًا مشهورًا إن كان خلاف سنة قائمة وتعقب ابن عبد السلام قول أهل المذهب: لا يتعقب حكم العدل العالم، ولا ينقض منه إلا ما خالف القطع بأن التعقب أعم من النقض نفي، فينتفى النقض، فكان ينقض منها ما خالف القطع.
وأجاب: بأن مرادهم بالنقض المنفي هو نظر ما جهل من أحكامه، والنقض هذا ما علم بظاهره الخطأ، وهذا حسن افتقار التأويل عنه في نازلة نزلت بتونس في نحو عام ست وثلاثين وسبعمائه، وهي مسألة شيخنا ابن عبد الله بن الحباب كان حكم عليه قبل هذه المرة بنحو عشر سنين الشيخ الفقيه أبو إسحاق بن عبد الرفيع في جنة استحقها منه بنو البسطي في عنفوان كمال تمكنهم من دولة السلطان الأمير أبي يحيى: فحكم عليه في بناء أحدث بها بعد خروجها من يد أبي بني البسطي كان أحدثه القائد ابن يعقوب، وكان بناء رفيعًا، فحكم عليه فيه بقيمته منقوضًا مقلوعًا، فلما انتسخ تمكن بني البسطي طلب ابن الحباب أن يجعل له مجلسًا ينظر فيه في الحكم المذكور، فأمر به السلطان، واجتمعوا بدويرة جامع الزيتونة كل من ينطلق عليه اسم فقيه معتبر حينئذ حقيقة أو مجازًا، فلما اجتمعوا ورئس المجلس حينئذ القاضي ابن عبد السلام، وكان اعتذر للسلطان عن الحكم بينهما بأن شهادته تقدمت في الحكم المذكور، فصرف الحكم بينهما لقاضي الأنكحة حينئذ؛ وهو الشيخ أبو محمد الأجمي فقال لأهل المجلس: ما تشهدون به من حال الفقيه أبي إسحاق بن عبد الرفيع هل كان من قضاة العدل والعلم أم لا؟ فقال جلهم: هو من قضاة العدل والعلم، فقال لهم: أشهدوا علي بأني أمضيت حكمه هذا، وكل ذلك بمحضر الشيخ الفقيه ابن عبد السلام، فلم يتعرض له في ذلك لا بسؤال، ولا إنكار، فكان شيخنا ابن الحباب ينكر هذا الحكم أيضًا، ويحتج بما تقدم أن القاضي العدل العالم ينظر في حكمه المعين البين الخطأ، ولا أبين من خطأ الحكم بقيمة
البناء منقوضًا في مذهب مالك ممن علم منه اتباعه وتقليده، وتقدم في الاستحقاق الجواب عن هذا، فتذكره.
قال ابن الحاجب: لا يتعقب أحكام العدل العالم، ولا ينقض منها إلا ما خالف القطع، أو قامت البينة أن له فيه رأيًا، فحكم بغيره سهوًا.
قُلتُ: تعليقه النقض على ما خالف القطع لا أعرفه، وعبارة المازري ما نصه: بالجملة إن تعارضت الأحاديث، وقدم بعضها على بعض بالترجيح الذي لا يصل إألى القطع، ولا يقاربه لم تتعرض الأحكام، وكذا إن تعارضت التأويلات، ولم يرجح بعضها على بعض إلا بالنظر الضعيف لم ينقض، وكذا الأقيسة هذا كشف القاضي عن هذا الأصل.
وقد حكم شريح في ابني عم أحدهما آخ لأم بأنه أولى بالإرث فقال علي رضى الله عنه: ما دليلك على هذا؟ قال: قوله تعالى: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، فرده علي عليه، ونقض حكمه، وهذا قد يحمل على أن عليًا رضى الله عنه حفظ خبرًا عنه صلى الله عليه وسلم بخلاف حكم شريح أو ظاهر خبر كالنص أو قياسًا جليًا، وكذا لما ضاع لعلي رضى الله عنه يوم الجمل درع، فوجدها عند رجل، فترافعا لشريح، فشهد لعلي عبد الله بن جعفر ومولًا لعلي، فرد شريح شهادة مولاه له، فمديده، وأخذ الدرع كالمنكر على شريح وشهادة المولى لمولاه مع جواز شهادة ابن الأخ لعمه، وهو أقرب من المولى فرآه كالمخالف للقياس الجلي.
وحكم عمر رضى الله عنه في الفريضة المشتركة؛ وهي زوج وأم، وأخوة لأم، وإخوة أشقاء بمشاركة الأشقاء الإخوة للأم قالوا له: هب أن أبانا كان حمارًا، وقضى أيضًا بأن لا مشاركة، فقيل له في ذلك، فقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما قضينا، ولم ينقض حكمه بحكمه لما كانت أدلة الحكمين متقاربة، وعلى هذا ينبغي أن يجري جميع الآثار.
قُلتُ: فلم يقصر المازري النص على القطع، فنص ابن الحاجب عليه غير مستند لنص رواية تابعًا لابن شاس متعقب.
وقول ابن الحاجب: أو قامت البينة على أن له فيه رأيًا، فحكم لغيره سهوًا ذكره
ابن محرز وصوره بأن تعلم بينة حضرت حكمه قصده الحكم بشيء، فحكم بغيره وهلًا.
قُلتُ: هذا على القول بصحة الشهادة بالفهم؛ واضح، وعلى القول بلغوها؛ فيه نظر.
وتصويره بإقراره يوجب فيه إشكالًا؛ لأنه إن أقر بذلك في ولايته؛ وجب عليه إشهادة بنقضه بدل إقراره به، وتركه نقضه بعد إقراره؛ كرجوعه عن إقراره، فيبطل، وإن أقر بذلك بعد عزله؛ لم تقبل شهادته على حكم نفيه، فتأمله.
وسمع ابن القاسم قوله في كتابه في قضاء: كان أخاه عاملان، فنظر فيه العامل الثالث، فجاءه رجل يستعين بالكتب إليه، فكتب إليه إن كان من قبلك فالغوه، فأنقذه لصاحبه.
ابن رشد: هذا يدل على أن للفقيه المقبول القول الكتب للحاكم بالفتوى، وإعلامه بما يصنع، وإن لم يسأله الحاكم، وهذا في غير القضاة، وأما القضاة؛ فلا ينبغي الكتب إليهم بما يفعلانه إلا أن يسألوا؛ لأنه يؤدي إلى أنفذ تؤذي.
وقوله: إن كان أمضاه بحق يدل على أنه أمره بالنظر فيما حكم به من قبله، فإن كان بحق أنقذه؛ فعلى هذا حكم حمل الحكام حمل أحكام العمال على الرد حتى يتبين أنها بحق، فتمضي وهو خلاف قولها: ما قضت به ولاة المياه جائز إلا أن يكون جورًا بينًا؛ لأنه يقتضي أنها على الإجارة؛ فلا ينظر فيها، ولا تتعقب، وهذا الاختلاف لإنما يصح في غير العدل في الولاة، فرآها مرة جائزة ما لم يتبين فيها جور، وهو مذهب أصبغ، ورآها مرة مردودة ما لم يتبين فيها الحق، وهو اختيار ابن حبيب قياسًا على الشهادة.
وأما العدل منهم؛ فحكمه محمول على الجواز، ولا يرد منه إلا ما تبين فيه الجور اتفاقًا.
قُلتُ: لازم قوله: أن الاختلاف إنما هو في غير العدل مع قوله: أنها على الإجارة، فلا ينظر فيها أن غير العدل ينظر في أحكامه، وهو خلاف ما حمله في رسم الصبرة من سماع يحيى، فتأمله.
قال: ويحتمل أن يحمل ما في المدونة على العدل، وما في هذا السماع على غير العدل؛ فلا يكون اختلافًا.
والذي أقول: أن ينظر إلى الأمير الذي ولاه، فإن كان عدلًا؛ فهو محمول على العدالة، وإن كان جائزًا؛ فهو يولي غير العدل، حمل على غير العدالة، وإن كان غير عدل، ولا يعرف بالجور في أحكامه، ولا بتوليته غير العدل؛ جرى على الاختلاف في جواز أحكامه.
الشيخ: من خالف على إمام، وتغلب على بعض الكور، وولى قاضيًا فقضى، ثم ظهر عليه؛ فأقضيته ماضية إن كان عدلًا إلا خطأ لا خلاف فيه، وكل قضاء بحق لا يحل فسخه، وقاله أصبغ.
قُلتُ: لم يجعل في قبوله الولاية المخالف على الإمام جرحه خوف تعطيل الأحكام.
قال ابن رشد في السماع المذكور: واختلف شيوخنا في أحكام ولاية الكور مثل القواد، فأمضاها أبو إبراهيم، ولم يجزها اللؤلؤي حتى يجعل له من القيادة، والنظر في أمور الكورة النظر في الأحكام.
واستحسن ابن أبي زمنين إن كان للكورة قاض قد أفرد النظر في الأحكام؛ أن لا يجوز حكم الولاة، وإن لم يكن لها قاض؛ أن يجوز حكمهم؛ لما للناس في ذلك من الرفق، وهو أحسن الأقوال إلا أن تولية القاضي مع القائد دليل على أنه حجر عليه النظر في الأحكام، وإن لم يول معه فيها حكم؛ وجب أن يجوز حكمه؛ كقول مالك في ولاة المياه.
وجزم القاضي بحكم شرعبي على وجه مجرد إعلامه به، وهو فتوى لا حكم، وجزمه به على وجه الأمر به حكم.
وفي شرطه يكون متعلقة تغيير أمر عن حاله أو لا، قولا ابن الماجشون وابن القاسم.
اللخمي: ما هو ترك لما فعل، وإمساك عن الحكم بغير الفاعل؛ كالحنث بالطلاق
قبل النكاح، والعتق قبل الملك، ونكاح المحرم، والحكم بالقسامة، فحكم حاكم بإمضاء النكاح، واستمرار الرق، ثم رفع لمن يرى خلاف ذلك؛ فليحكم به، ولا يمنعه من ذلك ترك الأول، قاله ابن الماجشون، ورأى أن الترك ليس بحكم، وقال ابن القاسم في كتاب النكاح: ذلك حكم، وفسخه الثاني خطأ، وهو أحسن؛ لأن الأول حكم بحلية الزوجة لزوجها، وملك العبد لسيده. قلت: وإجراء قوليهما على قول بقاء الأعراض، وقول جمهور أهل السنة بعدمه تكلف، وإن أشبه ما ذكر المازري من إجراء عد الأرباح حاصلة يوم ملك أصلها أو الشراء، أو يوم حصولها على الكمون، والظهور في مسألة الأعراض، وله نحو هذا في كتاب الوكالات.
اللخمي: وقال محمد: إن حكم القاضي بشاهد ويمين، ثم ولي آخر بعده؛ ففسخه كان للثالث فسخ نقض الثاني، قال: وهذا عظيم أن يرد ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وإن قال الأول: لا أحكم بشاهد ويمين، ثم ولي آخر يرى الحكم بالشاهد واليمين؛ كان له الحكم به؛ يريد: أن الأول من باب الترك، وتقدم قول ابن القاسم أن الترك حكم.
ابن شاس: لو رفع إليه نكاح امرأة زوجت نفسها بغير ولي، فقال: أنا لا أجيزه، ولا أحكم بفسخه؛ فهذا ليس بحكم، ولكنه فتوى، فتتبعه ابن الحاجب. قال ابن عبد السلام: هذا متفق عليه، ونحوه لابن برهان.
قُلتُ: مقتضى جعله فتوى أن لمن ولي بعده أن ينقضه ضرورة أنه لم يحكم به للأول؛ والظاهر أنه لا يجوز للثاني نقضه؛ لأن قول الأول حين رفع إليه لا أجيزه، ولا أفسخه حكم منه بفسخه بأنه مكروه، والكراهة أحد أقسام الشرع الخمسة يجب رعي كل حكم منها ولازمه، وحكم المكروه عدم نقضه بعد وقوعه، ولا سيما على قول ابن القاسم في حكم الحاكم إذا كان متعلقه تركًا، ولما كان حكم الحاكم إنما يتعلق بجزئي لمن لم يكن حكم حاكم ثان بنقيض حكم الأول في جزئي آخر نقضًا لحكمه، وكذا قال المازري: كان أبو بكر يسوي في العطاء من الفيء بين الشريف والمشرف، فلما ولي عمر فاضل بين الناس، فلما ولي علي سوى بينهم، فلم يكن اختلافهم نقضًا لقضاء
بعضهم بعضًا.
قُلتُ: تقدم في الجهاد سؤال ابن رشد في فعلي الشيخين في أهل الردة، فقد كره ابن شاس: إن رفع لقاض رضاع كبير، فحكم بأن رضاع الكبير يحرم، وفسخه نكاحه لذلك، فالقدر الذي ثبت من حكمه هو فسخ النكاح فقط لا تحريمها عليه في المستقبل؛ بل هو باق لتعلق الاجتهاد فيه، وكذا فسخه نكاح، وتحريمها على زوجها الثابت من حكمه فسخه لا تحريمها عليه، وتبعه ابن الحاجب وقبلوه.
قُلتُ: وهو صواب في مسألة المعتدة، وأما في نكاح الكبير فغير صحيح، أو فيه نظر، وبيانه أن علة منع حكم الثاني بخلاف حكم هي كون حكم الثاني رافعًا لمتعلق حكم الأول بالذات، وهذا لأنه دار معه وجودًا وعدمًا.
أما وجودًا: ففي أمثال حكم الحاكم الثاني يكون المبتاع الأول فيما باعه الآمر، والمأمور أحق بالمبيع، ولو قبضه المبتاع الثاني بعد حكم الحاكم الأول بأن قابضه أحق.
وأما عدمًا: ففي جواز حكم عمر وعلي رضى الله عنهما بخلاف ما حكم به من قبلهما في قسم الفيء، وتقرر في أصول الفقه اعتبار الدوران إذا ثبت هذا ونظرنا وجدنا حكم الثاني في حكم الناكح في العدة غير رافع لنفس متعلق حكم الأول؛ لأن متعلق حكمه بالذات الفسخ، والتحريم تابع له؛ فلم توجد علة منع حكم الثاني فيها، ووجدنا حكم الثاني في مسألة رضاع الكبير رافعًا لنفس متعلق حكم الحاكم الأول بالذات، وهو تحريم رضاع الكبير، فسخ نكاحه تابع المتعلق لهذا بالذات لا أنه متعلق حكمه بالذات، فيجب منع حكم الثاني عملًا بالعلة الموجبة لمنعه، فتأمله.
وفيها: أكان مالك يرى للقاضي بقضية تبين له أن غير ما قضى به أصوب أن يرد قضيته، ويقضي بما رأى بعد ذلك، ولو كان ما قضى به مما اختلف فيه؛ قال: إنما قال: إن تبين له أن الحق غير ما قضى به؛ رجع فيه، وإنما لا يرجع فيما قضت به القضاة مما اختلف فيه.
ابن محرز: قال ابن الماجشون وسحنون وغيرهما: لا يجوز له فسخه، وهذا أحسن، وإلا لم يوثق بحكم.
ابن رشد في رسم الجواب من سماع عيسى: إن أرى خلاف ما قضى به باجتهاده؛ فالمشهور إن أرى ما هو أحسن نقضه، ورجع إلى ما رأى ما دام في ولايته، ولو كان قضاه أولًا مما اختلف فيه، وقال ابن عبد الحكم: لم يختلف أصحابنا في ذلك، وأنا لا أراه وقضاؤه؛ كقضاء غيره لا يرجع عما اختلف فيه إلى ما هو أحسن منه حتى يكون خطًأ صراحًا، ولم يعجب ابن حبيب ما انفرد به ابن عبد الحكم، وحمل فضل المدونة على قول ابن عبد الحكم، وحملها غيره على ما أجمع عليه أصحاب مالك سواه، والأمر محتمل على رواية: لا يَرجع بفتح الياء، وعلى رواية: يُرجع بضم الياء؛ لا يحتمل قول ابن عبد الحكم.
وقال ابن سحنون: إنما يرجع في قضائه إذا اختلف فيه إن قضى به وهلًا أو نسيانًا، وهو يرى خلافه، ولو كان رأيه يوم قضى به؛ لم يرجع فيه، وقضى في المستقبل بما رأى، والذي أقوله: أن الخلاف في رجوعه عنه ما دام على قضائه بحاله؛ إنما هو إذا قضى، وهو يراه باجتهاده يوم قضى به، وأنه جار على الخلاف في تصويب المجتهدين، ولو قضى به وهلًا أو نسيانًا؛ فلا يسع الخلاف في أنه لا يصح له الرجوع عنه إلى تقليد آخر، فهي ثلاثة أوجه وجه يرجع فيه، ومقابله اتفاقًا فيهما ومختلف فيه، ولا خلاف في أنه لا يرجع ما دام في ولايته فيما قضى به مما لم يختلف فيه كان اجتهادًا أو وهلًا أو نسيانًا.
المتيطي عن ابن زمنين: من المختصرين من تأول المدونة على أنه ينقض ما حكم به، وإن أصاب قول قائل من العلماء، وتأول بعضهم: لأنه لا ينقض ما وافق فيه قول قائل من العلماء، وهذا أقرب للفظها.
المتيطي: على هذا اختصرها حمديس، وعلى الأول اختصرها الشيخ، ولفظه: إن بان له أنه أخطأ في قضائه نقصه، وإن أصاب قول قائل ابن أبي زمنين أكثر أصحاب مالك على أنه إن قضى بقضية، ثم رأى ما هو أحسن منه؛ فله أن يرجع إلى أحسن ما رأى، وإن كان الأول مما اختلف فيه.
قُلتُ: ظاهر لفظ المدونة: أنه إنما يرجع في حكمه إذا تبين له أن الحق في غير ما قضى به لا فيما تبين له أنه راجح، وظاهر لفظ ابن أبي زمنين وابن رشد: أن له نقض
حكمه الأول إذا تبين له أن ما ظهر له ثانيًا أحسن وأصوب، وهو نص سماع أصبغ قال له: تغيير حكمه الأول إذا رأى أحسن منه، وظاهر لفظ المدونة: أن بقاءه على ولايته ليس شرطًا في نقضه ما حكم به مما فيه اختلاف، وظاهر لفظ ابن رشد: أن بقاءه على ولايته شرط فيه، وهو نص سماع أصبغ.
قال ابن رشد: لا أعلم فيه خلافًا، ولما حكى الصقلي قول المدونة قال: وقال الأخوان: ما دام في ولايته؛ فظاهره: أن التقييد بدوام كونه في ولايته خاص بها، وقال المازري: إن غلب على ظنه أنه أخطأ في اعتقاده الأول، ففي نقضه ذلك ثالثها: إن بقي على ولايته لها، ولسحنون والأخوين: بناء على أن تجدد ولايته بعيده كقاض آخر أولًا.
قُلتُ: الأقوال أربعة فيها لا ينقض الأول إلا إن شاء هو الصواب إلا الأصوب، ولو تجددت ولايته.
الأخوان: هذا بشرط دوام ولايته.
ابن رشد: ينقصه، ولو كان الثاني أصوب بشرط دوامها.
الشيخ عن ابن زيد عن أشهب: ينقضه في الأموال لا في إثبات نكاح أو فسخه.
اللخمي: وعليه لا ينقصه إن كان بإثبات عتق أو ردة أو حد، أو إثبات قتل أو إبطاله؛ ومقتضى جواب سحنون سؤاله شجرة عما سمعه من البينات في ولاية عزل عنها ثم تولي هل يبني على سماعه إياها أم يعيد سماعه إياه ببنائه على ما تحقق منها أن تجدد ولايته كدوامها خلاف قول الأخوين؟ وعلى هذين القولين يتخرج اختلاف الأندلسيين في الحكم الأول؛ كصاحب الشرطة إذا نظر في مسألة، ثم ارتفع لخطة القضاء قبل إكمال نظره فيها في بنائه على ما تقدم نظره واستئنافه فيها فتوى ابن عتاب وغيره.
قال ابن سهل: قال ابن عتاب: بهذا أفتيت أبا علي بن ذكوان حين ارتفع من خطة الشرطية والسوق لخطة القضاء.
قلت له: أفتاه بعضهم بابتداء النظر، وقال لي: قاله من لم يعمل بقوله، ولا اشتغل بخلافه، ووافقني أبو المطرف بن جرح وغيره، وكان ابن القطان لا يستفتي حينئذ
لمحمول أدركه منها على أن تحدد الصفة الحكمية مقرونة بعارض لها يضره؛ كموصوف بها آخر أولًا، والعارض المقارن لها في مسألة سحنون كونها أثر عزلة، وفي مسألة الأندلسيين أخص وصف الخطة التي ارتفع إليها؛ فالأول بناء على أن الجهل بالصفة مانع من العلم بموصوفها دونه، والثاني على عدم مانعيته، فتأمله.
ابن الحاجب: ويجب عليه نقض حكم نفسه فيما ينقض عليه حكم غيره، وفيما له فيه رأي، فحكم بغيره سهوًا.
ابن عبد السلام: ظاهر كلامه بالنقض في الصورتين، والذي قاله سحنون فيما له فيه رأي، فحكم بغيره سهوًا أن له نقضه، ولم يقل يجب عليه نقضه، فتأمله.
قُلتُ: قوله: (ولم يقل يجب عليه) تبع فيه الصقلي.
وفي النوادر في كتاب ابن سحنون عنه: إذا قضى بأمر ليس من رأيه، وهل فيه أو نسي؟ فهذا يرجع فيه، وإن وافق اختلاف الناس، وقد قال عمر بن عبد العزيز: ما من طينة أيسر على فتى من طينة طبيعتها على باطل.
قال سحنون: وإن عزل، ثم رد؛ فإنه يغيره أيضًا.
قُلتُ: وظاهر هذا وجوب نقضه كما نقل ابن الحاجب لا كما نقل الصقلي، وفي تقرر فسخه حكمه بمجرد إشهاده بفسخه، ووقفه على تبيينه موجبه نقلا الشيخ عن ابن الماجشون، وابن نافع مع مطرف قائلًا: إلا أن يقول: تبين لي أن الشهود شهدوا بزور، واتفقوا على وقفه عليه في فسخه حكم غيره، وحكم الحاكم بموجب في الظاهر، وهو في باطنه حرام لا يحله في المعونة، ولو كان ما يملك الحاكم ابتداء كمن أقام على دعواه نكاح امرأة بينة زور، فحكم له بها لا يحل له وطؤها، وهو به زان، وكمن أقامت على دعواها طلاق زوجها إياها ثلاثًا بينة زور، فحكم الحاكم بطلاقها؛ لا يحل لها أن تنكح غيره، وقال أبو حنيفة: حكم الحاكم يحلهما، قال: ومن أقام بينة زور بدعوى نكاح امرأة هي ذان محرم منه في الباطن؛ لم تحل له بحكم الحاكم، وكذا بما ليس له أنه له، وفرق بأن كل موضع لا ولاية له في ابتداء فعله لم ينفذ حكمه إلا في الظاهر دون الباطن، وما لا ولاية له في ابتداء فعله؛ نفذ حكمه فيه ظاهرًا وباطنًا.
فإن قلت: هل يتخرج مما وقع في بعض التعاليق عن ابن الماجشون، وجماعة من أصحاب مالك، وحكاه المازري: أنه وقع في المذهب أن من ابتاع عبدًا؛ ردت شهادته بعتقه لا يعتق عليه، ولو بقي على إقراره، مثل قول الحنفي والجامع بينهما اعتبار حكم الحاكم الصحيح بظاهره الباطل بباطنه، فعدم إيجاب العتق على الشاهد به مع إقراره إنما هو لاعتبار حكم الحاكم الصحيح بظاهره الباطل بباطنه؛ فيلزم مثله في مسألة بينة الزور في مسألة الحنفي.
قُلتُ: يرد بمنع كون الحكم في مسألة العتق باطلًا في الباطن، بل هو صحيح فيه؛ لأنه لا يرد شهادته لفسقه، والحكم برد شهادة الفاسق حق، ولو شهد بحق، وليس القول بعدم وجوب العتق على الشاهد المردودة شهادته بموجب كون الحكم المذكور متعلقًا بباطل في باطن الأمر، وإنما لم يجب عتقه عليه عند قائله؛ لأن متعلق شهادته، وإقراره إنما هو إنشاء ربه عتقه وهو يكذبه لا أنه حر؛ بل كونه حرًا لازم لماهية إعتاقه ربه، فلما لم يثبت ماهية إعتاقه ربه؛ لم يثبت لازمها، وهو حريته، فلم يحكم عليه بها هذا تقرير وجهه، ولما حكى المازري هذا القول قال: قد يسبق للنفس أنه شبه قول الحنفي، ولعلنا أن نبسط المسألة إن شاء الله.
ابن شاس: إنما القضاء إظهار لحكم الشرع لا اختراع له، فلا يحل للمالكي شفعة الجوار إن قضى بها الحنفي، وتبعه ابن الحاجب.
قال ابن عبد السلام: هكذا قالوا، وليس بالبين؛ لأن ما تقدم الظاهر فيه مخالف للباطن، ولو علم القاضي كذب البينة ما حكم بها إجماعًا، وفي هذه الصورة الباطن؛ كالظاهر، وما قلناه هو ظاهر كلام السيوري في بعض مسائله.
قُلتُ: ظاهر قوله: هكذا قالوا مع عزوه ما ظهر له من خلاف ذلك للسيوري؛ أن المذهب ما قاله ابن الحاجب، وليس كذلك؛ بل مقتضى المذهب خلافه.
قال المازري في ائتمام الشافعي بالمالكي وعكسه: الإجماع على صحته، واعتذر عن قول أشهب: أن من صلى خلف من لا يرى الوضوء من القبلة؛ يعيد.
وفي كتاب الزكاة منها: إن لم يبلغ حظ كل واحد من الخليطين ما فيه الزكاة، وفي
اجتماعهما ما فيه الزكاة؛ فلا زكاة عليهما، فإن تعدى الساعي، فأخذ من غنمهما شاة من غنم أحدهما ترادا فيه على عدد غنمهما.
قُلتُ: فتحليله لمن أخذت الشاة من غنمه الرجوع على خليطه بمنابه منها نص في صحة عمل المحكوم عليه بلازم ما حكم به الحاكم المخالف لمذهب المحكوم عليه، فأجرى إذا كان نفس ما حكم به له، ولا سيما على القول بأن كل مجتهد مصيب واتباع.
ابن الحاجب: لابن شاس في ذلك قصور، ولا أعلم لابن شاس مستندًا فيما نقله إلا اتباعه الغزالي في وجيزه قال ما نصه: ولا يحل للشافعي شفعة الجوار إن قضى له الحنفي، ولا يمنعه القاضي من الطلب اعتمادًا على اعتقاد قضاء نفسه، وهذا لا يجوز له؛ لأنه انتصب للنقل عن المذهب، فلا ينسب إليه ما ليس منه؛ ولذا يقول المازري في مسائل يذكرها للشافعي أو لغيره، ولا يحفظ فيه لأهل المذهب نصًا الجاري على مذهبنا كذا، أو كفعل ابن بشير في العاقل العاجز عن مطلق الإيماء لا نص فيه عندنا، وذكر قول الشافعي حسبما تقدم في كتاب الصلاة.
اللخمي: إن أشكل الحكم على القاضي؛ وقف وحسن أن يدعوهما للصلح.
الشيخ: قال سحنون في جوابه لحبيب: إذا كان في أمر الخصمين شبهة وإشكال؛ فلا بأس أن يأمرهما بالصلح.
اللخمي: روى محمد: قال مالك في بعض المسائل: لو اصطلحا، واختلف إن كان مجتهدًا في صحة تقليده غيره، وأن يقلده أحسن؛ لأنه فيما أشكل عليه كعامي بعد أن يسأله عن دليله، فإن أشكل عليه قلده، وإن بان له لغوه؛ لم يقلده، ويتقرر الإلأشكال من ثلاثة أوجه: عدم وجدان أصل النازلة في كتاب ولا سنة، والثاني: أن يشك هل هي من أصل كذا أم لا؟ والثالث: أن يجد بها أصلان بالسوية دون ترجيح، ويختلف في هذا القسم هل حكمه الوقف أو التخيير في الحكم بأيهما شاء قياسًا على تعارض الحديثين دون تاريخ؟ قيل: الحكم الوقف، وقيل: المفتي مخير بأيهما شاء، وقيل غير ذلك، والوقف أحسن.
قُلتُ: ظاهر قوله: أن الخلاف المذكور؛ إنما هو مذكور في تعارض الحديثين،
وخرج عليهما القياسين، وفي كتب الأصول - المحصول وغيره -: الخلاف مذكور نصًا في القياسين في تحصيل السراج ما نصه حكم تعادل الأمارتين عند القاضي أبي بكر وأبي علي، وأبي هاشم التخيير.
وعرف بعض الفقهاء التساقط والأمارة عرفًا: كل ما أنتج الظن، وحكم الحاكم بعلمه في غير التعديل والتجريح.
قال اللخمي: لا يحكم بما علمه قبل ولايته، ولا بعدها في غير مجلسه ولا فيه قبل أن يتحاكما ويجلسا للحكومة؛ كسماعه إقرار أحدهما للآخر، فلما تقدما للحكومة؛ أنكر وهو فيه شاهد، وفي حكمه بما علمه من إقرارها في مجلس حكومتهما قولان؛ سحنون مع عبد الملك، وابن القاسم مع مالك، ولما عزا أبو عمر الأول للشافعي وجمهور الفقهاء قال: واستحب مالك أن يحضره شاهدان، ولم يبح في شهادتيهما مدفعًا، وذلك دليل على أن ذلك عنده استحباب.
ولابن رشد في سماع عيسى: حكمه بما أقر عنده بعد ولايته؛ لا يجوز الحكم به اتفاقًا من العلماء، فإن فصل فسحه هو من ولي بعده، وما أقر به غيره بعد ولايته في غير مجلس قضائه؛ لا يجوز حكمه به اتفاقًا في المذهب في غير الحدود، ومطلقًا في الحدود، وأجازه أهل العراق في غيرها، وروي عنهم: يقضي في الحدود بعلمه كغيرها، وهو بعيد، فإن قضى بما علمه بعد ولايته في غير مجلس حكمه؛ ففي فسخه غيره بعده، وقصر فسخه عليه قولا أشهب، والمشهور: وما أقر به أحد الخصمين في مجلس قضائه، ثم جحده؛ فالإختلاف فيه موجود في المذهب، وقال محمد: لا اختلاف فيه بين أصحاب مالك.
ابن الماجشون: الذي عليه قضاتنا بالمدينة وعلماؤنا، ولا أعلم مالكًا.
قال غيره: أنه يقضي عليه بما أقر به عنده، وقاله مطرف، وأصبغ، وسحنون.
ابن رشد: وهو دليل قوله صلى الله عليه وسلم، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، ولم يقل صلى الله عليه وسلم
على ما ثبت عندي من قوله، ومشهور المذهب أنه لا يقضي عليه إذا جحد، وهو قوله في هذا السماع.
الباجي: إن حكم بما علمه في مجلس قضائه؛ فقال ابن القصار: لا ينقض حكمه عند بعض أصحابنا قال: وعندي أنه ينقض.
ابن زرقون في الموازية: إن حكم بما علمه قبل ولايته؛ نقضه غيره، ولو حكم بما علمه في مجلس قضائه، ثم ولي غيره؛ لم ينقضه، وينقضه ما دام قاضيًا في الوجهين، وقاله أصبغ.
قال ابن الحاجب: لا يحكم بالتخمين؛ لأنه فسق وجور.
قُلتُ: في الصحاح: التخمين: الحدس وكثيرًا ما رأيت بعضهم يحكم في النازلة، وهو لا يستند في حكمه لنقل يذكره بحال لما استقرئ من حاله إذا روجع في بعض أحكامه، لم يذكره مستندًا من نص رواية ولا قول لبعض أهل المذهب، ولا قياس عليه.
ابن الحاجب: ولا يحكم عليه بعلمه مطلقًا إلا أن يكون بعد الشروع في المحاكمة فقولان، فلو حكم بعلمه في غيره؛ ففي فسخه قولان، وأما ما أقر به في مجلس الخصومة فحكم به؛ فلا ينقض، وقبله ابن عبد السلام وابن هارون، وظاهره: أنه لو حكم بما علمه قبل ولايته؛ ففي نقضه القولان، وظاهر ما تقدم لابن رشد: أنه يفسخه هو ومن بعده دون خلاف في ذلك.
قُلتُ: ولا يبعد إعمال ظاهر نقل ابن الحاجب؛ لأن ظاهر نقل ابن رشد؛ إنما هو على قوله: مات علمه قبل ولايته؛ لا يجوز حكمه به اتفاقًا من العلماء، وهو خلاف نقل أبي عمر قال: جاء من طرق أن رجلًا من بني مخزوم استعدى عمر على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حدًا في موضع كذا، فقال عمر: إني لأعلم الناس بذلك ربما لعبت أنا وأنت فيه، ونحن غلمان، فإذا قدمت مكة، فأتني بأبي سفيان، فلما تقدم مكة أتاه
المخزومي بأبي سفيان فقال له عمر: انهض بنا لموضع كذا، فنهضوا، فنظر عمر، فقال يا أبا سفيان: خذ هذا الحجر من هنا وضعه هنا، فقال: والله لا أفعل، فقال: والله لتفعلن، فقال: لا أفعل، فعلاه عمر بالدرة، وقال: خذه لا أم لك وضعه ههنا، فإنك ما علمت تحريم الظلم، فأخذ أبو سفيان الحجر ووضعه حيث قال عمر، ثم استقبل عمر القبلة، فقال: اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه، وأذللته بالإسلام، فاستقبل أبو سفيان القبلة فقال: اللهم لك الحمد إذ لم تمتنى ختى جعلت في قلبي من الإسلام ما ذللت به لعمر، فقضى عمر بما علمه قبل ولايته، وإلى هذا ذهب أبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وأبو ثور سواء عنده علمه قبل ولايته أو بعده في مصره أو غير مصره.
قال أبو حنيفة: علمه قبل ولايته، أو رآه في غير مصره؛ لا يقضي بعلمه فيه، وهو فيه شاهد، وما علمه بعد ولايته، أو رآه بمصره؛ قضى فيه بعلمه، واتفق أبو حنيفة وأصحابه أنه لا يقضي بعلمه في الحدود.
وقال الشافعي وأبو ثور: يقضي في الحدود وغيرها بعلمه، قلت: استدلال أبي عمر على القضاء بما علمه قبل ولايته بفعل عمر يرد بأنه إنما قضى به بعد رؤيته فهو قضاء بعلمه المستصحب إلى وقت الحكم، فهو حكم بما علمه في ولايته، فتأمله.
المازري: في حكمه بما علمه مطلقًا ثالثها: بما علمه بعد ولايته غير حد، ورابعها: هذا ولو علمه قبل ولايته، وخامسها: بما علمه غير حد في مجلس قضائه لأحد قولي الشافعي ومالك مع الأوزاعي، والشعبي، وجماعة، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، وسحنون مع عبد الملك، وعلى المشهور أنه لا يحكم عليه بما أقر به في مجلس حكومته في صحة شهادته علته أنه عند غيره، سماع عيسى ابن القاسم، ونقل ابن رشد نقل محمد أحد قولي ابن القاسم.
اللخمي: إن حكم على الخصم بإقراره، ولم ينكر حتى حكم عليه، ثم أنكر بعد الحكم، وقال: ما كنت أقررت بشيء؛ لم ينظر إلى إنكاره هذا مشهور المذهب.
وقال ابن الجلاب: إن ذكر الحاكم أنه حكم بأمر، وأنكر المحكوم عليه؛ لم يقبل
قول الحاكم إلا ببينة، وهو أشبه في قضاة اليوم؛ لضعف عدالتهم.
المازري من الحكمة والمصلحة منع القاضي الحكم بعلمه خوف كونه غير عدل، فيقول: علمت فيما لا علم له به، وعتلى هذا التعليل؛ لا يقبل قوله: ثبت عندي كذا إألا أن يسمي البينة، وقد ركب ابن القصار هذا وقال: لا يقبل منه حتى يسمي البينة، وكذا قال ابن الجلاب، فذكر ما نقله اللخمي عنه قال: وقال: أصبغ في الواضحة: إن أنكر المحكوم عليه أنه خاصم عند القاضي، وأعذر إليه، فحكم عليه قبل قول القاضي أنه فعله؛ ابن الجلاب: إن أنكر أنه أقر بعد الحكم؛ لم يفده على المشهور، وفي الجلاب: إن ذكر الحاكم أنه حكم، فأنكر المحكوم عليه؛ لم يقبل إلا ببينة على حكمه.
ابن عبد السلام: إنما فسر المؤلف الشاذ بقول ابن الجلاب؛ لأن كلامه ليس نصًا في مخالفته القول المشهور؛ لأن مسألة المشهور ما خالف الخصم في أن القاضي حكم عليه؛ إنما خالف في سببه القاضي بقول: حكمت عليك بعد إقراره، والخصم يدعي جوره أو سهوه، ويقول: حكم علي، ولم أقر.
وفي مسألة الجلاب: القاضي يقول: حكمت عليه، والخصم يقول: ما حكم علي، ولو عرضت مسألة المشهور على الجلاب؛ لاحتمل أن يوافق المشهور لإقرار الخصم فيها أن القاضي حكم عليه.
قُلتُ: هذا يدل على فهمه مسألة الجلاب على أن قبول قول القاضي إنما يتوقف على البينة بقضائه بذ لك فقط، ودليل قول المازري المتقدم: أنه متوقف على إثباته البينة التي حكم بها تسميتها لا البينة بمجرد حكمه، وهو مقتضى جعل اللخمي قول الجلاب خلاف المشهور؛ لأن المسألة التي جعل حكمها هو المشهور؛ إنما هو فيها قبول قول القاضي في إسناده حكمه الذي أنفذه لموجبه الشرعي، وهو إقرار الخصم المستمر لوقت نفوذ الحكم عليه، وجعل قول الجلاب خلافه، ولا يتقرر كونه خلافه إلا بما فسر به المازري من أنه موقوف على ثبوت ما استند إليه حكمه شرعًا بتسميته وهو البينة، وذلك بخلاف ما فسر به الشيخ فتأمله، ثم قال اللخمي: إن أنكر المحكوم عليه أنه خاصم عند هذا القاضي، وقال القاضي: خاصمت وأعذرت إليك وعجزت،
فحكمت إليك؛ فقال أصبغ: القول قول القاضي، وقال ابن الجلاب: لا يقبل قوله إلا ببينة، وإن كان مضمون الحكم وقفًا على رجل؛ لم يقبل قوله على المحكوم عليه إلا ببينة؛ لأنه في هذا دافع عن نفسه، وقاله أصبغ في الواضحة، وفرق بين هذا وبين كون الحكم بين متنازعين، ولو حكم بغرم رجل مائة دينار لآخر ببينة معينة، فقالت: إنما شهدنا بها للمحكوم عليه على المحكوم له، والقاضي متيقن ما حكم به؛ ففي مضي حكمه ونقضه فيما بين المحكوم عليه، والحاكم يغرمه ذلك قولا ابن تالقاسم وسحنون قائلًا: ولا يرجع على الشهود بشيء، ومحمد قائلًا ويغرم المائة للمحكوم عليه، ولا يرجع على الشهود، وعليه ينبغي إن كان الحاكم فقيرًا؛ نزع المال من المحكوم له للمحكوم عليه إن رقع ذلك لحاكم غير الأول، وظاهر نقل اللخمي: أن القاضي إنما يغرم مائة واحدة، ولما نقل المازري عن محمد ما تقدم قال: ولم يكتف محمد بإغرامه المائة التي حكم بدفعها لمن صارت له فقط؛ بل أغرمه مائة أخرى هي المشهود بها للمحكوم عليه على المحكوم له، ولو قال القاضي: أشك في ىذلك؛ نقض حكمه بين الخصمين، ورجع لما تقوله البينة الآن، وغرم المحكوم له ما يبين.
قُلتُ: ذكر الشيخ عن ابن القاسم نحو ما تقدم، وقيده بكونه عدلًا.
اللخمي: لو أنكر الحاكم والمحكوم عليه الحكم وقال: ما حكمت بهذا، فشهدت بينة بحكمه له؛ وجب تنفيذه.
قُلتُ: وحكاه الشيخ عن ابن القاسم وابن وهب.
وفي التلقين: إن بنى الحاكم حكمًا حكم به، فإن شهد عنده عدلان؛ أنفذ شهادتهما.
المازري: هذا خلاف مذهب مالك خلاف مذهب أبي حنيفة والشافعي، ولم يذكر عن المذهب خلافًا فيه.
وفي جامع العتبية: قال مالك: قدم بالهرمزان، وجهينة على عمر، فأراد قتلهما، فكلمهما، فاستعجما عليه، فقال: لا بأس عليكما، ثم أراد قتلهما، فقالا: ليس لك ذلك قد قلت: لا بأس عليكما.
ابن شد: الهرمزان: سيد دستر حصره أبو موسى في قلعة له حتى نزل على حكم
عمر، فقال: انتهيا به لعمر، قال له عمر: تكلم، قال: كلام حي أو ميت؟! قال: تكلم فلا بأس، قال: إنا وإياكم معاشر العرب ما خلا الله بيننا وبينكم كنا ونقتلكم، فلما كان الله معكم؛ لم يكن لنا بكم يدان، قال عمر: ما تقول يا أنس؟ قلت: يا أمير المؤمنين تركت بعده عدده كثيرًا، وشوكة إن قتله أيس القوم من الحياة، ويكون أشد لشوكتهم. فقال: أستحيي قاتل البراء بن مالك، ومجزأة بن ثور، فلما خفت أن يقتله قلت: ليس إلى قتله من سبيل، قد قلت له: تكلم؛ فلا بأس، فقال: لتأتين بمن يشهد له غيرك، فشهد الزبير معي، فأمسك عمر عنه، فأسلم وفرض له.
قُلتُ: وهذا حجة لمالك.
قال ابن شاس بعد نقله كلام التلقين: وحكى الشيخ أبو محمد رواية: أنه لا يلتفت إلى البينة بذلك، ولا يحكم بها.
قُلتُ: لم أجد هذا في النوادر؛ بل نقيضه حسبما تقدم، وعدم ذكرها.
المازري واللخمي وابن رشد: وعدم وجدانها في النوادر يوجب منها في النفس شيئًا، ولما ذكر لي أن في بعض نسخ ابن شاس: الشيخ أبو عمر نظرت في كتابه الكافي، فذكر فيه الرواية معزوة لمالك وأصحابه قال: وقول من قال: لا يجيبه إلى ذلك، ولا يسمع من بينته أولًا؛ لأنها تشهد عنده على عقده ما لم يعلمه من نفسه.
قُلتُ: ما تقدم عن عمر رضى الله عنه يرده وروايات الأمهات واضحة بوجوب تسوية القاضي بين الخصمين في مجلسهما بين يديه، والنظر إليهما، والسماع منهما، ورفع صوته عليهما.
قال الشيخ عن أشهب: إلا من نظر إليه إغلاظًا عليه للردة إذا كان بحيث لو صدر ذلك من الآخر؛ فعل به مثله.
المازري: لو كان الخصمان مسلمًا وذميًا، ففي تسويتهما في مجلسهما كمسلمين، وجعل المسلبم أرفع قولان.
قُلتُ: لم يذكر الشيخ غير الأول معزوًا لأصبغ، والروايات مطلقة في وجوب التسوية بين مطلق الخصمين، وذكر اللخمي القولين، وقال: أرى أن يتقدم المسلم
الذمي بيسير، وقال: قال أشهب: للقاضي أن يشد على عضد أحدهما إن رأى ضعفه عن صاحبه وخوفه منه؛ ليبسط أمله، ورجاءه في العدل، ويلقنه حجة عمي عنها إنما يمنع تلقين أحدهما الفجور.
قُلتُ: زاد الشيخ في المجموعة، وكتاب ابن سحنون: لا ينبغي أن يشد على عضد أحدهما، ولا يلقنه حجة.
الشيخ: لأشهب في المجموعة: إن جلس الخصمان بين يديه؛ فلا بأس أن يقول: ما لكما، أو ما خصومتكما، أو يسكت ليبتدآه، فإن تكلم المدعي؛ أسكت الآخر حتى يسمع حجة المدعي، ثم يسكته، ويستنطق الآخر منهم حجة كل واحد منهما، ولا يبتدئ أحدهما فيقول: ما تقول: أو مالك إلا أن يكون علم أنه المدعي، ولا بأس أن يقول: أيكم المدعي؟ فإن قال أحدهما: أنا، وسكت الآخر؛ فلا بأس أن يسأله عن دعواه، وأحب إلي أن لا يسأله حتى يقو خصمه بذلك، وإن قال كل منهما للآخر: هذا المدعي أقامهما عنه حتى يأتيه أحدهما، فيكون هو الطالب، وقاله أصبغ ابن عبد الحكم: إن ادعى كل منهما أنه المدعي، فإن كان أحدهما جلب الآخر؛ فالجالب المدعي، وإن لم يدر الجالب؛ بدأ بأيهما شاء، وإن كان أحدهما ضعيفًا، فأحب إلي أن يبدأ بالآخر.
اللخمي: إن صرفهما لدعوى كل منهما أنه الطالب، فأبى أحدهما الانصراف؛ بدأ به، وإن بقي كل منهما متعلقًا بالآخر؛ أقرع بينهما، وإن كان لكل منهما على الآخر طلب وتشاحا في الابتداء؛ أقرع بينهما، وقيل: الحاكم بالخيار، واستحب ابن عبد الحكم أن يبتدئ بالنظر لأضعفهما.
الشيخ لابن سحنون عنه: كان إذا سمع الدعوى والإنكار؛ أمر كاتبه بكتبهما؛ ثم عرض ما كتب عليهما؛ فإن وافقا عليه؛ أقره، وإن كان شيئًا غيره، ثم سأل البينة عن شهادتها، فإن خالفت الدعوي؛ لم يأمر بكتبها وأخرجهم، وإن وافقتها؛ كتبها.
ولأصبغ: إذا أقر أحدهما بما للآخر فيه نفع؛ فلا بأس أن ينبهه القاضي بقوله: هذا لك فيه نفع، هات قرطاسك أكتب لك فيه، ولا ينبغي له ترك ذلك، ويجب جواب دعوى أحد الشركاء في حق بادئه أو غيره على غريم طلبه، وإن لم يطلبه باقيهم إن لم
يقوموا لطلبه معه، ولو حضر مع شركائه أو بعضهم لمخاصمته؛ فللمدعي عليه ترك مخاصمتهم مفترقين حتى يقدموا لخصومته واحدًا فقط.
وقول ابن المناصف: إذا كان لجماعة حق واحد على رجل؛ فإما وكلوا كلهم واحدًا على خصومته، أو خاصموه مجتمعين، ولا يتعاورون عليه واحدًا بعد واحد إطلاقه وهم، أما ألأول؛ فلقولها في الولاء لمن ورث حقًا في دار الخصومة فيه: ولا يقضي له إلا بحظه، ولجواب ابن رشد بقوله في سؤال عياض له لمن قام من أصحاب جنات: لهم حق في ماء الخصومة في حقه، ومكنه الحاكم من ذلك، وإن لم يقم بقية أصحابه معه.
وأما الثاني؛ فلجوابه عن ورثة قام بعضهم بقوله: من حق المطلوب اجتماع الورثة في مخاصمته، أو توكيل واحد عنهم لسماع ابن القاسم في الأقضية في ورثة ادعوا منزلًا بيد رجل يوكلون من يخاصمه، لا يتعاورونه هذا يومًا وهذا يومًا، وإذا ذكر المدعي دعواه؛ فمقتضى المذهب أمر القاضي خصمه بجوابه إن استحقت الدعوى جوابًا، وإلا فلا؛ كقول المدعي: هذا أخبرني البارحة أنه رأى هلال الشهر، أو سمع من يعرف للقطة، ولا يتوقف أمره بالجواب على طلب المدعي لذلك بوضوح دلالة حالة التداعي عليه.
المازري: إن لم يكن من المدعي أكثر من الدعوى، فإن قال للقاضي: لي عند هذا ألف درهم؛ فللشافعية في هذا وجهان: أحدهما: ليس للقاضي طلب المدعى عليه بجواب؛ لعدم تصريح المدعي بذلك، وذكر أن أخوين بالبصرة كانا يتوكلان على أبواب القضاة، ولهما فقه، فلما ولي عيسى بن أبان قضاء البصرة، وهو ممن عاصر الشافعي، أراد الأخوان أن يعلماه مكانهما من العلم، فأتياه، فقال له أحدهما: لي عند هذا كذا وكذا، فقال عيسى للآخر أجبه، فقال المدعى عليه: ومن أذن لك ان تستدعي جوابي، وقال المدعي: لم آذن لك في ذلك، فوجم عيسى بن أبان فقالا له: إنما أردنا ان نعلمك مكاننا من العلم، وعرفاه بأنفسهما، وعنده مناقشة لا طائل تحتها؛ لأن الحال شاهدة بذلك، وهو ظاهر مذاهب العلماء.
قُلتُ: وظاهر قول المازري: ومن نقل عنه توجه دعوى المدعي بإيجاب جوابه
خصمه بمجرد قوله: لي عند هذا ألف درهم، وليس كذلك، بل لا بد من بيانه ما به تقررت له عليه من سلف أو معاوضة، أو بت عطية أو عدة بها؛ لجواز كونها بأمر لا يوجب وجوبها عليه، كعدة أو عطية من مال أجنبي ونحو ذلك، وحق المدعي المقرأن لا بينة له إن أنكر خصمه دعواه الجائز إقراره تحليفه إياه.
المازري: الأصل أن القاضي لا يستحلفه إلا بإذن المدعي إلا أن تدل قرينة الحال على أنه أراد من القاضي ذلك، وذكر عن بعض القضاة: أن رجلًا ادعى على رجل ثلاثين دينارًا، فأنكر المدعى عليه، فاستحلفه القاضي، فقال الطالب: لم آذن في هذه اليمين، ولم أرض بها؛ فلا بد أن تعاد اليمين، وامر القاضي غلامه أن يدفع عن المطلوب من ماله ثلاثين دينارًا كراهة أن يكلفه إعادة اليمين قضى عليه بها.
وفي الشهادات منها: وإن حلف المطلوب، ثم وجد الطالب بينة، فإن لم يكن علم بها؛ قضى بها، وإن استحلفه بعد علمه بها تاركًا لها، وهي حاضرة أو غائبة؛ فلا حق له، وإن قدمت بينته، وإن قال الطالب للقاضي بينتي غائبة، فأحلفه لي، فإن قدمت؛ قمت بها، فإن كانت بعيدة، وخاف القاضي تطاول الأمر، وذهاب الغريم؛ أحلفه له، وله القيام ببينته إذا قدمت، وإن قربت غيبتها كاليومين والثلاثة لم يحلفه إلا على إسقاطها، وظاهر قوله: إن لم يكن علم بها؛ قضى له بها دون يمينه أنه ما علم بها.
وقال الصقلي عن ابن الماجشون: كانت بينته حاضرة أو غائبة بعد حلفه ما علم بها، ولو وجد شاهدًا واحدًا، فقال الأخوان وابن عبد الحكم وأصبغ: لا يحلف معه، ولا يقضى لع إلا بشاهدين.
قُلتُ: ما ذكره عن ابن الماجشون من قوله: بعد حلفه ما علم بها ذكره ابن فتوح وغيره غير معزو لابن الماجشون كأنه المذهب.
قال ابن عات: تكون يمينه معتبرة القبول للبينة إلا ان يكون في الخصام تطويل ابن فتوح من الحزم للمدعى عليه إذا دعي اليمين؛ أن يلتزم المدعى عليه أنه أسقط بينته علمها أو جهلها، فإن عقد عليه هذا؛ لم تسمع بينته.
وسمع القرينان من كتاب الديات: من قضى من له عليه دينار ديناره ببينة، ثم
تقاضاه منه بعد شهر، فقال له: قضيتكه وأشهدت عليك بذلك فلانًا وفلانًا، فأنكره، فقال: أتحلف، قال: نعم، فحلف وقضاه؛ فله القيام عليه بالشاهدين.
ابن رشد مثله في الموازية من رواية ابن عبد الحكم، وفي الثمانية للأخوين، وزاد ابن الماجشون: أنه آثم إلجائه إلى يمين باطلة، وبينته حاضرة يعلبمها.
وفي الواضحة للأخوين مثل المدونة: لا قيام له، ولا يدخل هذا الخلاف في الصلح، وذكر الصقلي استحسان بعض القرويين ما في المدونة: إن كان أمر البنات يطول عند القضاة؛ فالأقوال به ثلاثة.
ابن فتوح: إنما يكون له أن يحلفه، وبينته غائبة على أنه يقوم بها بعد حلفه أنه ببلد بعيد، ويسمي البينة، قلت: ويعين الموضع خوف أنم يعتقد فيما ليس بعيدًا أنه بعيد والخوف في المفاذة يصير القريب بعيدًا.
ابن فتوح: من ادعى على رجل بحقوق عددها، وقال بعضها: لا بينة له به، وله على بعضها بينة غائبة، وطلب حلفه على ما لا بينة له عليه به، وبناه على ما له عليه البينة؛ لم يكن له أن يحلفه على ما لا بينة له عليه إلا إن التزم أنه إن عجز عن بينة ما قال أن له عليه بينة؛ لم يحلفه عليه، وإلا أخر تحليفه لوقت إقامته تلك، فإن أقامها، وإلا جمع دعاوزيه، وحلفه على جميعها.
وسمع ابن القاسم: من طلب رجلًا بمائة دينار، وقال المدين: إنما علي مائة، وقال الطالب: ضاع ذكر حقي بالمائتين، ونسيت شهوده فصالحه على ما يبين دعواهما، ثم وجد كتابه بشهوده، فإن عرف هذا من قوله؛ فله القيام بذكر حقه، ويغرمه بقيته.
ابن رشد: يريد: بقوله عرف أنه كان قبل الصلح له ذكر حق ضاع، ودليله أنه إن لم يعرف ذلك من قوله؛ فلا قيام له؛ كقول مالك في كتاب الجدار: إن صالحه جاهلًا بينته؛ فلا شيء له، خلاف قولها في الصلح: من صالح جاهلًا ببينته؛ فله القيام ببقية حقه إن وجد بينة، ويحتمل أن يكون معنى قوله هنا رجع ببقية حقه دون يمين، وإن لم يعرف قوله ذلك؛ لم يرجع إلا بعد يمينه أنه إنما صالحه وكتابه قد ضاع، ولا يعرف شهوده؛ فلا يكون ما في السماع مخالفًا لما في المدونة، وفرق في كتاب الجدار بين
المسألتين، فيتحصل فيها ثلاثة: عدم رجوعه بوجود ذكر حقه، ولا بعثوره على بينة لم يكن علمها، ورجوعه في الوجهين، ورجوعه بوجوده ذكر الحق لا بعثوره على البينة.
أول مسألة من أقضيتها: قال مالك: وجه حكم القضاء إذا أدلى الخصمان بحجتهما، ىوفهم عنهما أن يقول لهما: أبقيت لكما حجة، فإن قالا: لا وقع الحكم، فإن أراد بعد ذلك نقض ذلك؛ لم يقبل منهما إلا أن يأتيا بأمر له وجه.
ابن القاسم: مثل أن يأتي شاهد عند من لا يرى الشاهد واليمين، وقال الخصم: لا أعلم لي شاهدًا آخر، فحكم عليه، ثم قدر على شاهد آخر؛ قضى لهذا الآخر.
عياض: مراد يفهم عنهما تحققه ما سمعه منهما دون احتمال، لا أنه فهم من معرض كلامهما، ولحن خطابهما، ليس هذا مما تقام الأحكام به.
وقد قال أشهب وسحنون وغيرهما: لا يقضي حتى لا يشك أنه قد فهم؛ فإمات أن يظن أن قد فهم، ويخاف ألا يكون فهم؛ فلا يقضي به، قلت: هذا خلاف ظاهر قول ابن محرز.
قوله: وفهم القاضي عنهما؛ لعل فهمه عنها يقوم مقام ما سمعه منهما؛ لأنه حمله على أنه يجتزئ بمجرد فهمه، وذلك عندي جار على الاختلاف في صحة الشهادة بأوله.
قال ابن رشد في رسم الطلاق من سماع القرينين في التخيير والتمليك في إعمال الشهادة بما يظهر من قصد المشهود عليه وإرادته ثالثها: وبت الشاهد شهادته بذلك بسماع القرينين مع سماع أصبغ ابن القاسم، وسماعه يحيى وأصبغ: وترك الشهادة بها أيام،
قضى ابن عبد السلام بتونس في مال معتبر نحو ألف دينار ذهبًا أمكيرية، فحكم بما فيها.
عياض: قوله (أبقيت لكما حجة قبل)؛ صوابه أن يقول للمحكوم عليه، وعليه اختصرها الشيخ ومن تبعه: فهو الذي يعذر له لا للمحكوم له، وقيل: صوابه بما فيها أن المطلوب إذا ذكر حجة، سئل الطالب عن جوابها، كأنه أبقي لكما كلام أسمعه منكما.
عياض: وأوجه ما فيه عندي: أن الحكم يتوجه مرة على الطالب، ومرة على المطلوب، فيقول لهما: ذلك على الانفراد، فصح اختصار ذلك في لفظ واحد.
اللخمي: اختلف إذا لم يثبت على المدعي عليه بتلك الدعوى شيء هل يكتب له بذلك حكم؟ فقال عبد الملك: من ادعى شسيئًا، وعجز عن تزكية بينة له، فقال المطلوب للقاضي: احكم بعجزه؛ لئلا يقوم بها على ثانية؛ ليس ذلك على الاقاضي، وقال مطرف: عليه ذلك، واختلف إن أتى بعد ذلك من يزكيها، أو بينة عدلة بعد ذلك، فأصل مالك وابن القاسم: أنها تقبل، وقال مطرف: لا تقبل إلا في العتق والطلاق والنسب.
وسمع يحيى ابن القاسم في كتاب الشهادات: إذا قضى القاضي لرجل، وسجل له، وأشهد له عليه، ثم قام المحكوم عليه بينة تجريح بعض من حكم به؛ قبل يمينه إن رأى له وجهًا، كقوله: جهلت سوء حالهم حتى ذكر لي، وظهر أنه غير ملد، ومن ولي بعد القاضي في ذلك مثله إن كان ادعاه عند الأول، وإن كان لم يقم به عند الأول.
ابن رشد: تمكينه من التجريح بعد التسجيل عليه إن كان له وجه كقولها: وسكت عن جواب إن قام بذلك عند من ولي بعد الأول، ولم يقم به عنده وفيه ثالثها: لا يمكنه منه القاضي المسجل، ويمكنه من ولي بعده هذا في المطلوب، وفي الطالب رابعها: قول ابن الماجشون: الفرق بين أن يعجزه في أول قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجز بعد أن وجب على المطلوب عمل، ثم رجع على الطالب، وهذا الاختلاف؛ إنما هو إن عجزه القاضي بإقراره بالعجز، ولو عجزه بعد التلوم والإعذار، وهو يدعي أن له حجة؛ لم يقبل منه ما أتى به من حجة بعد ذلك؛ لأن ذلك قد رد من قوله قبل نفوذ الحكم عليه.
وسمع أصبغ ابن القاسم: من ادعى على نكاح امرأة أنكرته بينة بعيدة؛ لم ينتظر إلا في بينة قريبة، ولا يضر ذلك بالمرأة، ويرى الإمام لما ادعاه وجهًا، فإن عجزه، ثم أتى ببينته، فقد مضى الحكم نكحت المرأة أم لا؟.
ابن رشد: لا يقبل منه بينة بعد التعجيز خلاف سماع أصبغ من كتاب الصدقات وظاهر المدونة؛ إذ لم يفرق فيها بين تعجيز الطالب أو المطلوب، ثم ذكر ما تقدم.
المازري: إن سجل القاضي بحكمه لطالبه؛ ففي قبول ما يأتي به المطلوب مما يبطل ذلك الحكم ثالثها: عند ذلك القاضي لا غيره.
لها ولسحنون ومحمد: وتجري الثلاثة في عجز الطالب والإعذرًا سؤال الحاكم من توجه عليه موجب حكم هل له ما يسقطه؟ قال غير واحد: واللفظ لابن فتوح: لا ينبغي للقاضي تنفيذ حكم على أحد حتى يعذر إليه، قلت: ظاهره: ولو فيما شهد به على الخصم من إقرار بمحضر الحاكم.
ولابن رشد في رسم الجواب من سماع عيسى من الأقضية: يحكم عليه بتلك البينة دون إعذار، قاله ابن العطار، وفي ذلك اختلاف.
قُلتُ: قال ابن سهل: لا يعذر فيها لعلمه بها، وقطعه بتحقيقها.
قال أبو إبراهيم التجيبي: وسقوط الإعذار في ذلك إجماع من المتقدمين والمتأخرين، وكذا ذكره ابن العطار، وأنكره ابن الفخار وقال: في ذلك اختلاف قد قال معنى لا يحكم بعلمه، ولا بما يقر به عنده، فإذا هذ اكهذا؛ فكيف يقضي بالبينة دون إعذار، فقد تبين الإعذار فيهما أنهما غير عدلين.
قال ابن سهل: وهو القياس الصحيح لمن قال: لا يقضي بعلمه، ولا سيما بما سمعه في مجلس حكمه، وبما قاله أبو إبراهيم وابن العطار؛ جرى العمل.
وذكر ابن سهل في مسألة أبي الخير الزنديق الملقب لزندقته بأبي الشر: أنه شهد عليه بأنواع كثيرة من الزندقة الواضحة عدد كثير ثبتت عدالة نحو عشرين منهم، وأكثر من ضعفهم استظهار، فأفتى قاضي الجماعة منذر بن سعيد، وإسحاق بن إبراهيم، وصاحب صلاة الجماعة أحمد بن مطرف وغيرهم بقتله دون إعذار له، وأشار بعض من حضر من أهل العلم بأن يعذر إليه، فأخذ الناظر في أمره بالقول بعدم الإعذار، وإذا طلب قاض عزل بجرحة ثبتت عليه، فقال ابن الحاج في نوازله: لا يعذر له؛ لأنه طلب لخطة القضاء، وطلبها جرحة، فقال: إنما طلبتها لدفع معرة سقوط شهادتي، ولدرء الجرحة عني لا لطلب القضاء؛ احتمل أن يجاب بالإعذار له، فيسمى له شهود تجريحه إن جرحهم؛ سقط جرحه، وأن لا يجيب إلى ذلك؛ لأنه حق للمسلمين لا لمعين، وقبول
تجريح السر؛ يمنع تسمية شهود تجريحه، فيسقط الإعذار، كما لو علم القاضي جرحه بغير واسطة، وأفتى الفقيه المشاور أبو الوليد هشام بن أحمد عرف بابن العواد بعدم الإعذار إليه قال: والقول به باطل، وتغيير لسنة الإسلام.
قُلتُ: ومقتضى تعليل ابن مغيث منع حكم الحاكم بعلمه يتعذر الإعذار فيه؛ لأنه لا يعذر في نفسه مع الإقرار على حكمه بعلمه في الجرح سقوط الإعذار فيه، فأفتى ابن رشد في نوازله إن عزل وصيًا من ولاه بأمر رآه باجتهاده؛ فليس عليه أن يعلمه به، وإن عزله لجرحة؛ ثبتت عنده، فطلبه أن يعذر إليه في ذلك، ووجد بخط الفقيه أبي القاسم بن البراء أحد قضاة تونس في أواسط القرن السابع: وجدت بخط ابن زيدان أن أهل الجزيرة الخضراء شكوا سوء حال قاضيهم ابن عبد الخالق لأمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، فرد أمره لقاضي سبتة ابن منصور فقال: سألت عنه سرًا؛ فصح عنه أنه لا يصلح للقضاء، فقال له المعزول: عرفني بمن صح عندك لعله عدو لي، فأبى تعريفه، فأفتى فقهاء قرطبة بلزوم تعريفه بمن ثبتت جرحته، وقال أبو الوليد بن رشد: لا يلزم تعريفه بمن ثبت تحريحه، واحتج بأن هذا ليس من باب الأحكام التي يعزل فيها بالتعديل والتجريح؛ بل يكفي في العزل للشكوى؛ كفعل عمر في سعد بن أبي وقاص قال: ولهذا المعزول أن يزكي نفسه؛ لتقبل شهادته، ولا يكون عزله جرحة؛ إذ القضاء حق للمسلمين؛ ولذا لا يمكن من الإعذار، فذكر ذلك للقاضي ابن أحمد فقال: لا يصح الاحتجاج بقضية سعد؛ لأن ذلك إنما هو للأمراء العام نظرهم في ذلك وغيرهم، ودليله أن من عزل منهم؛ قوسم بعضهم فيما بأيديهم، والقاضي ليس له ذلك، ومال إلى الإعذار للقاضي من أجل جرحته، وإذا ظن أن من أعذر إليه لجهل؛ ما يسقط عنه خصمه نبهه الحاكم عليه.
وفي السرقة منها: إذا زكيت البينة، والمطلوب بجهل التجريح من جهة الرجال، وضعفة النساء؛ أخبره القاضي بما له من ذلك، وبينة له لعل بينه وبينه عداوة، أو شركة مما لا يعلمه المعزولون، فإن كان مثله لا يجهل التجريح؛ لم يدعه إليه، وليس كرد اليمين؛ لأن الحكم لا يتم إلا بردها.
قُلتُ: كذا الواقع في أكثر نسخ المدونة: أو شركة من الشركة، وفي بعضها: أو شر من الشرورة، وفهم هذه الرواية إن ثبتت واضح، وفي الرواية الأولى إشكال؛ لأن شهادة الشريك على شريكه جائزة، فقال بعضهم: معناه: إذا شهد أحد المتفاوضين لصاحبه، ورد بأن ظاهر اللفظ أن الشركة المذكورة هي بين الشاهد والمشهود عليه لا بين الشاهد والطالب، واجاب أبو موسى المومتاني من فقهاء فاس بأن معنى المسألة أن أحد الشركاء شهد على شريكه في ربع بينهما أنه باع حظه منه، فترد شهادته بتهمته على الشفعة، وكذا إن كان عبد بين اثنين أعتق أحدهما حظه منه وهو عديم، وشهد عليه شريكه أنه مديان لفلان بدين يرد عتقه؛ لأنه يتهم رد عتقه؛ لأنه يغيب عليه العبد، وكذا إن شهد عليه أنه ملي؛ لأنه يتهم في أن يقوم عليه.
وسمع القرينان: لا يقوم الحاكم لمن شهدت عليه بينة: عدلت دونك فجرح؛ لأنه توهين للبينة.
ابن نافع: أرى أن يقوله له.
ابن رشد: هذا الواجب عند مالك أن يقول له: إن كان عندك ما تسقط به شهادتهم، فأت به، وفي تمكين المطلوب من فسخه بما شاهد به عليه مطلقًا، أو إن كان فيما يشكل، ويحتاج المطلوب فيه إلى تدبر وتأمل نقلا المازري عن القاضي أبي طالب، والشيخ المازري، وعليه العمل، فإن ادعى المحكوم عليه أنه يأتي ببينته على ما له به نفع؛ أجل لها.
سمع القرينان: من أقام بينة على ملكه منزلًا بيد رجل، فسئل من بيده المنزل عن حجته، فيذكر حجة، لو قامت بها بينة؛ كان أولى بالمنزل من مدعيه، وسأل ضرب الأجل لإثباته بالبينة على ذلك، فأجل الأجل الواسع الشهرين والثلاثة، فيمضي الأجل، ولم يذكر شيئًا، ويحضر غيبة شهوده، وتفرقهم أيضرب له أجل آخر أم يقضي عليه؟ قال: أما الرجل المأمون الذي لا يتهم على المدعي بباطل، ولا يتقوله، فيزيده في الأجل، وأما الملد الذي يرى أنه يريد الإضرار بخصمه؛ فلا يمكن من ذلك إلا أن يذكر أمرًا يقارب شأنه، ثم يختبر كذبه في مثله.
ابن رشد: ضرب الأجل للمحكوم عليه فيما يدعيه من بينة مصروف لاجتهاد الحاكم بحسب ما يظهر له من حال المضروب له الأجل، والأصل فيه قول عمر في كتبه لأبي موسى الأشعري من قوله: واجعل لمن ادعى حقًا غائبًا أو بينةً أمرًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة؛ أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية، والذي مضى عليه عمل الحكام في التأجيل في الأصول ثلاثون يومًا تضرب له عشرة أيام، ثم عشرة أيام، ثم يتلوم له بعشرة، أو ثمانية، ثم ثمانية، ثمانية، ثم يتلوم له بستة، أو خمسة عشر يومًا، ثم ثمانية، ثم أربعة، ثم يتلوم له تتمة ثلاثين يومًا، أو يضرب له أجلًا قاطعًا من ثلاثين يومًا يدخل فيه التلوم والآجال كل ذلك مضى من فعل القضاة، وهذا مع حضور بينة في البلد، وإن كانت غائبة عن البلد فأكثر من ذلك على ما تضمنه هذ االسماع من اجتهاد الحاكم، قلت: ذكر ابن فتوح نحو هذا، وقال بتفريق الآجال جرى العمل، وعليه ثبتت السجلات، وليس يضرب لمن ذهب لاستدفاع يمين واجبة عليه مثل الآجال المذكورة، وإنما يؤجل في ذلك إذا زعم أن عنده ما يدفع عنه اليمين الأجل القريب ثلاثة ونحوها؛ لأن قوله هذا محمول على اللدد، والآجال في الديون والحقوق دونها في الخصام في العقار والأصول، وتختلف الآجال في الأصول باختلاف أحوال المضروب لهم.
اللخمي: ويقدم القاضي الخصوم الأول فالأول، إلا المسافر أو ما يخشى فوته، وإن تعذر معرفة الأول؛ كتب أسماؤهم في بطائق، وخلطت، فمن يخرج اسمه؛ بدئ به، وذلك كالقرعة بينهم.
وزاد المازري: إذا وجب تبدئة الأسبق، فقال أصحاب الشافعي: إنما يقدم الأسبق في خصام واحد لا في سائر مطالبه، وهذا مما ينظر فيه إن سبق بخصمين؛ قدم في خصومته فيهما معًا، وإن كان مما لا يطول، ولا يضر بالجماعة الذين بعده.
قُلتُ: ظاهره: أن هذا غير مخصوص لأصحابنا.
وفي النوادر عن أصبغ: إذا قضى بين الخصمين في أمر اختصما فيه، ثم أخذا في حجة أخرى في خصومة أخرى، فإن كان بين يديه غيرهما؛ لم يسمع منهما حتى يفرغ ممن بين يديه إلا أن يكون شيء لا ضرر فيه لمن حضره؛ فلا بأس أن يسمع منهما.
الشيخ عن سحنون: الغرباء وأهل المصر سواء إلا أن يقدم الغرباء باجتهاده فيما لا يدخل على أهل المصر ضرر، وقاله أشهب، وزاد: وأرى أن يبدأ بالغرباء كل يوم ما لم يكثروا، فلا يبدأ بهم.
ابن حبيب عن الأخوين: من شأن القضاة تقديم الغرباء، وتعجيل سراحهم.
قال سحنون: ولا يقدم رجل؛ لفضل منزلته وسلطانه.
ولابن سحنون عنه: إن كثروا؛ كتب أسماؤهم في بطائق أو غيرها، ثم ألقوها، ثم يدعو بهم على ذلك.
سحنون: ويقدم النساء على حدة، والرجال على حدة.
أشهب: إن رأى أن يبدأ بالنساء في كل يوم أو بالرجال؛ فذلك له على اجتهاده؛ إما لكثرة الرجال على النساء، أو لكثرتهن على الرجال، ولا يقدم الرجال والنساء مختلطين، وإن رأى أن يجعل للنساء يومًا معلومًا أو يمين؛ فعل.
ابن عبد الحكم: أحب أن يفرد للنساء يومًا، وإن احتاج لكشف وجه امرأة؛ لتعرف، أو ليشهد شهودًا عليها؛ كشفه بين أيدي العدول، ويأمر بتنحية غيرهم، ويفرق بين الرجال والنساء في المجالس، ويجعل للنصارى يومًا أو وقتًا من بعض الأيام بقدر قلتهم وكثرتهم، يجلس لهم في غير المسجد.
المازري: إن كان الحكم بين رجل وامرأة؛ أبعد عن المرأة من لا خصام بينها وبينه من الرجال.
قُلتُ: وينبغي أن يبعد عنها خصمها، وفي إبعاده عنها أقصى ما يمكن أن يسمع كل منهما حجة صاحبه، وأقصى أو ما يسمع الحاكم منهما، ويذكر لكل منهما قول صاحبه نظر، والأول أقرب؛ لسرعة الحكم بينهما.
قال: وإن كانت شابة لها جمال، ويخاف إن تكلمت أدى سماع كلامها إلى شغف بها؛ أمرت أن توكل من ينوب عنها، وإن احتيج إلى أن يبعث إليها بدارها من تؤمن ناحيته لسنه ودينه وورعه من تكلف الحكومة في أمرها فعل، وقد حضرت العامرية فعل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقرت بالزنا فرجمها، وقال في المرأة الأخرى: "واغد يا أنيس على
امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" فلم يأمر بإحضارها.
الشيخ عن أصبغ: إن كان في أعوان القاضي ثقة؛ ولاه تقديم الخصومة إليه على منازلهم، فإن لم يكن؛ فهو نفسه.
قال ابن شاس: وكذلك يفعل المفتي والمدرس عند التزاحم.
قُلتُ: لا أعرف هذا نصًا لأهل المذهب إنما قاله الغزالي في الوجيز، وتخريجهما على حكم تراجم الخصوم واضح، وكذا على سماع عيسى ابن القاسم: أحب في الصانع الخياط يدفع إليه الناس ثيابهم واحدًا بعد واحد أن يبدءوا بالأول فالأول، ولم أسمع فيه شيئًا، ولعله أن يكون واسعًا إن كان الشيء الخفيف الرقعة وأشباهها.
ابن رشد: جعل الاختيار تقديم الأول فالأول دون إيجاب عليه إن لم يجب عليه عمله في يوم بعينه، وكذا قال الأخوان: لا بأس أن يقدم الصانع من أحب ما لم يقصد مطلًا، وكذا يقولان في الرحى.
ولسحنون: لا يقدم صاحب الرحى أحدًا على من أتى قبله إن كان سنة البلد الطحن على الدولة، وإن تحاكموا؛ قضى بينهم بسنة بلدهم، وليس قول سحنون بخلاف لقول غيره؛ لأن العرفل كالشرط.
قُلتُ: وجرت عادة مدرسي تونس في الأكثر تقديم قراءة التفسير على الحديث، وتقديم الحديث على الفقه.
وسمع ابن القاسم وقال: إشهاد الحاكم بحكمه يوجبه حقًا للمحكوم له، ولو مات القاضي، او عزل، او مات المحكوم عليه أو له قبل حوز المحكوم؛ له ما حكم له به.
ابن رشد: اتفاقًا.
المازري: ويكتب الحاكم لمن حكم له بما حكم به، وبكل حجة له من تعديل
وتجريح، وموجب حكمه؛ ليكون به حجة على المحكوم عليه إن نازعه، ويكتب بما حكم به الحاضر على غائب أبهم المكتوب له أو عينه.
وسمع عيسى ابن القاسم: من ثبت حقه عند قاض؛ فله أن يكتب له بذلك كتاباً إلي أي قضاة الآفاق كان لا يسمي فيه قاضياً بعينه، ولا بلداً بعينه.
ابن رُشْد: هو كما قال: اتفاقاً.
قُلتُ: قال ابن المناصف: ما لم يحجر عليه الإمام ذلك حين توليته إياه.
ابن رُشْد: يقول: كتابي لمن ورد عليه من القضاة بأي بلد كان، فيجب على كل من ورد عليه القضاء به، وكذا إن كتب إلي قاضي موضوع، فوجد ذلك القاضي مات أو عزل، وولي غيره؛ وجب عليه العمل به اتفاقاً، ولو كتب إلي قاضي بلد بعينه لظنه غريمه بذلك البلد، فألقاه ببلد آخر، فرفع الكتاب إلي قاضي ذلك البلد، فقال أَصْبَغ عن ابن القاسم: لا يعمل به، وقال أَصْبَغ: معناه: أنه لا يعرف بذلك البلد، ولو ثبت المدعي بينته في ذلك البلد أنه الرجل الذي حكم عليه القاضي الكاتب؛ أنفذه هذا.
ابن رُشْد: معنى قول أَصْبَغ: أن من تمام الصفة أن يقول فيه الساكن ببلد كذا، أو الملتزم في صنعة كذا: لا يوجد بذلك البلد، أو في تلك الصنعة بتلك الصفة، والنسبة والتسمية سواه، فيلزمه إذا رفع الكتاب إلي قاضي بغير ذلك البلد، لم يدر احد لعل صاحبه في بلد المكتوب إليه، فوجب أن لا يحكم له على من وافقت صفته من أصل بلده الصفة المذكورة في الكتاب حني يثبت عنده أنه هو بعينه، وهو بين صحيح، وظاهر قول ابن القاسم: أنه لا ينظر له بحال؛ لأن الذي كتب إليه حي.
وفيها: أن مات القاضي المكتوب إليه أو عزل، ووصل الكتاب لمن ولي بعده؛ أنقذه من وصل إليه، وإن كان إنما كتب إلي غيره أخذه منه غير واحد تعيين القاضي المكتوب إليه.
المازري: اختار بعض الشيوخ عدم تسمية المكتوب إليه؛ للخروج من الخلاف؛ لأن أبا حنيفة يقول: تعيينه يوجب عدم تنفيذ من ولي بعده ما كتب به للأول؛ لأنه جعل الكتب إلي المكتوب إليه؛ كالوكالة من الكاتب للمكتوب إليه، والوكيل إذا مات أو
عزل؛ لم يقم غيره مقامه، وزاد في آخر كتاب الرجم في المدونة: وكذا أن مات القاضي الكاتب أو عزل.
وسمع عيسى ابن القاسم: إذا كتب قاض بما ثبت عنده من حق في مال أو نسب أو ارث وشبه ذلك أيقول في كتبه: أتاني فلان ببينه عدلت عندي، وقبلت شهادتهما، أو لا يسميها؟ قال: نعم هو قضاء القضاة.
العتبي: قيل: ينبغي أن يسميها في الحكم على الغائب؛ ليتمكن من دفع شهادتهم.
ابن رُشْد: عدم تسميتهم في الكتاب صحيح؛ إذ لا نظر للمكتوب إليه في عدالتهم إلا أنه يجب عليه أن يضع أسماءهم في ديوانه؛ إذ من حق المحكوم عليه إذا قضى عليه المكتوب إليه أن يذهب للقاضي الكاتب، فيعذر إليه في البينة التي ثبت عنده بها ذلك الحق الذي خاطب به إن جرحهم، وأبطل شهادتهم رجع فيما حكم به عليه هذا إن لم يثبت عنده ما خاطب به في عقد، فإن ثبت ذلك عنده في عقد؛ فالحكم أن يدرج إليه ذلك العقد في كتابه، وبه جرى العمل، فيأخذ المحكوم عليه أو نسخته يذهب به للقاضي الكاتب؛ ليطلب البينة عن نفسه فيما حكم به عليه.
وقول العتبي: قيل: ينبغي أن يسمي إلي أخر قول: وقع في بعض الروايات، وسياقاته في هذه المسألة غلط؛ إذ ليس فيها أن البينة لا تسمى في الحكم على الغائب؛ لأن كتب القاضي إلي قاض بما ثبت عنده على رجل في بلد المكتوب إليه ليس بحكم على غائب، وهى مسالة أخرى، والحكم فيها ما ذكرته بلا خلاف، والحكم على الغائب لابد من تسمية البينة فيه على القول بإرجاء الحجة له؛ ليتمكن من الطعن في البينة، وهو مشهور المذهب المعلوم من قول ابن القاسم وروايته، فإن لم يسم البينة فيه؛ فسخت القضية، قال أَصْبَغ، وهو صحيح على أن الحجة ترجى له، والحكم على الحاضر لا يفتقر لتسمية البينة فيه؛ إذ قد اعذر فيها للمحكوم عليه، وتسميتهم أحسن، قال أَصْبَغ، وبه مضى العمل.
قال ابن أبي زمنين: الذي عليه الحكم تسمية البينة هذا في الحاضر، وإما الغائب والصغير؛ فلابد من تسميتها.
ولسحنون في المجموعة: أن تسميتها في الحكم على الغائب لا يلزم، وإن كان أحسن، وقوله هذا إنما يأتي على قول ابن الماجشون: أن الغائب لا ترجى له حجة، ولا مخرج له فيما حكم به عليه بجرحة البينة إلا أن يكون الشهود نصارى أو عبيد أو مولى عليهم.
وعن سحنون: ترك تسمية الشهود في الحكم على الغائب أفضل؛ لأنه قد يحكم بشهادتهم، وهو عدول، ثم يحدث فيهم أحوال صحية توجب جرحتهم، فإذا عزل ذلك القاضي، أو مات؛ ادعى المحكوم عليه أن القاضي جار عليه، وقيل: غير عدول، وهذا على أن الغائب لا ترجى له حجة واستحسان.
أَصْبَغ: الذي جرى به العمل من تسمية الشهود في الحكم على الحاضر معناه على القول بأنه يعجز، ولا تسمع منه بينة بعد الحكم مراعاة للقول بأنه لا يعجز ولا يسمع منه ما يأتي به من بينة لم يعلم بها نحو قول مالك فيمن عرف خطه في الكتاب، ولم يذكر الشهادة أنه يؤديها ولا تنفع، وعلى القول: كل بينته تسمع بعد الحكم عليه؛ فلابد من تسمية البينة.
المازري: إذا كتب القاضي بما ثبت عنده من شهادة البينه اتفاقاً، ثم قال: إن لم يسمهم، وابرم القضية، والحكم على الغائب؛ فالمشهور عدم نفوذ حكمه، ووقع في المذهب رواية بنفوذه، وهى مطرحة عند القضاة المالكية.
وسمع عيسى ابن القاسم: لا اعرف من قضاء احد أنه كتب إلي قاض تسميته من يخرج عنده، ولا سمعت به.
ابن رُشْد: معناه: أنه ليس للقاضي أن يكتب في حكمة على الغائب إذا خاطب به قاضي موضعه، وقد شهدت له بينة، فجرحت مثل أن يثبت رجل ديناراً على رجل ميت أحد ورثته غائب، فقال الحاضر: قضاه الميت حقه، وإقام على ذلك بينة، فجرحها المدعى، فقضى له القاضي بحقه بعد يمينه أنه ما قضاه، ويكتب له إلي موضع الوارث الغائب بتسمية من يجرح عنده من الشهود إن كانوا جرحوا عنده؛ لأن الشهود إذا جرحوا؛ لا يعمل فيهم التعديل؛ لأن شهادة الجرح اعمل، وإذا عزل الشهود؛ أعمل
فيهم الجرح؛ فلذا يجب كتب أسماء الذين عدلوا، ويجب كتب أسماء المجرحين لهم؛ لأنه بتسميتهم يجد سبيلاً إلى تجريحهم، فيسقط الجرحة عن شهوده.
ولابن محرز عن ابن عبدوس: إن رد القاضي شهادة من شهدوا للمدعي بجرحة ثبتت عنده بينة، فليشهد للمدعي عليه بأنه رد شهادتهم، ولو أنما جهلهم، أو علم جرحتهم؛ فلم يحكم بشهادتهم، فلمن جاء بعده النظر في شهادتهم، فإن صحوا؛ حكم بها.
وفيها مع سماع ابن القاسم: إن مات القاضي المكتوب له كتاباً من قاض آخر؛ فعلى من ولي بعده إنقاذ الكتاب.
ابن رشد: اتفاقاً إذا ثبت الكتاب عنده بشاهدين أنه كتابه، قال ابن القاسم، وابن الماجشون، وقال أشهب: لا تجوز شهادتهما أنه كتابه حتى يشهد أنه أشهدهما عليه، ولا يكفي فيه الشاهد الواحد، ولا الشهادة على أنه بخط القاضي، ولأن الختم ختمه، وهذا في الكتب التي تأتي من كورة لكوره، ومن مثل المدينة لمكة، وما جاء من أعراض المدينة إلى قاضيها من كتاب بغير بينة قبلة بمعرفة الخط، وبمعرفة الخط، وبالشاهد الواحد إذا لم يكن صاحب القضية لقرب المسافة، واستدراك ما يخشى من التعدي، قاله ابن جنيب، وقاله ابن كنانة، وابن نافع في الحقوق اليسيرة خلاف ظاهر قول ابن حبيب، وكان يعمل فيما مضى كتاب القاضي بمعرفة الخط والختم دون بينة حتى حدث اتهام الناس، فأحدثت الشهادة على كتاب الأقضية في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب الوصايا: أول من أحدثه أمير المؤمنين وأهل بيته قلت: قال في كتاب لوصايا قوله: أمير المؤمنين وأهل بيته؛ يريد: به بني العباس، وقال في البخاري: أول من قال البينة على كتاب القاضي ابن أبي ليلى، وسوار بن عبد الله العنبري، والأصل أن قول القاضي به مقبول فيما أخبر أنه ثبت عنده، أو قضى به ينفذ ما أشهد به من ذلك على نفسه ما لم يعزل فيما كتب به من ذلك إلى قاض غيره؛ وجب على المكتب إليه تنفيذه؛ لأنه في كتبه بمعني المخبر لا بمعني الشاهد.
وسمع أصيغ ابن القاسم في القاضي يشهد على قضائه وهو معزول أو غير معزول
ويرفعه إلى إمام غيره شهادته لا تقبل ولا يجوز ذلك القضاء إلا بشهيدين عليه غيره وقال أصبغ ابن رشد في هذه المسألة معني حقي هو أن قول القاضي قبل عزله وهو على قضائه حكمت لفلان بكذا لا يصدق فيه إن كان بمعني الشهادة مثل قول أحد المتخاصمين عند قاض حكم لي قاضي بلد كذا وكذا أو ثبت لي عنده كذا فيسأله البينة على ذلك فيأتيه من عنده بكتاب أني حكمت لفلان على فلان بكذا أو ثبت عندي له عليه كذا فهذا لا يجوز لأنه على هذا الوجه شاهد ولو أتى الرجل ابتداء للقاضي فقال له خاطب لي قاضي بلد كذا بما ثبت لي عندك على فلان أو بما حكمت لي به عليه فخاطبه بذلك لجاز لأنه مخبر لا شاهد كما يجوز قوله وينفذ فيما يسجل به على نفسه ويشهد به من الأحكام ما دام على قضائه وللأخوين وأصبغ في القضية الواضحة ما يعارض هذا السماع وذكرناه في سماع ابن القاسم.
قلت: ذكر فيه ما نصه سماع أصبغ هو معني ما ذكر ابن حبيب عن الأخوين وابن وهب وأصبغ من أن القاضي لا يمكن المشهود له من أن يعدل شهوده عند قاضي بلد من البلدان، فيكتب إليه بعدالتهم إلا أن يكتب هو إلى ذلك القاضي إذا كتب بعدالة شاهد من أهل عمله للقاضي الذي شهد عنده الشاهد؛ جاز، وإن كان المشهود له سأله ذلك، فكتب له به ابتداء دون أن يكتب إليه القاضي الذي شهد عنده الشاهد يسأله عنه، وحكاه أيضا عن الأخوين وأصبغ، وهو بعيد، وإذا كتب إليه يسأله عمن شهد عنده؛ اكتفي في جوابه بمعرفة الخط دون البنية على الكتاب، قال ابن حبيب ما لم يكن فيما سأله عنه، فكتب إليه فيه قضيه قاطعة، والقياس أن لا يكتفي في شيء من ذلك بمعرفة الخط إلا فيما قرب من أعراض المدينة، وفي نوازل سحنون: لا يثبت كتاب قاض لقاض في الزنا إلا بأربعة شهداء على أنه كتابه كالشهادة على الزنا.
ابن رشد: هذا على رواية مطرف في الشهادة على الشهادة في الزنا: لا تجوز إلا بأربعة على كل واحد من الأربعة اجتمعوا على الشهادة على جميعهم أو افترقوا، وعلى قول ابن القاسم؛ يجوز أن يشهد على شهادته اثنان، وهو قول ابن الماجشون: يجوز في
كتاب القاضي في الزنا شاهدان، وهو القياس والنظر.
قال ابن راشد في أول مسألة من رسم جاع، فباع امرأته من سماع عيسى من كتاب الشهادات بعد أن ذكر أن حكم الحاكم يثبت بالشهد واليمين: لا يثبت كتاب القاضي بالشاهد واليمين اتفاقا.
قلت: وتحمل الشهادة على كتاب القاضي بقراءته على الشهود، وقراءتهم إياه عليه واضحة، وإلا ففيه خلاف.
الباجي: قال القاضي: اختلف قول مالك فيمن دفع إلى شهود كتابا مطويا، وقال: اشهدوا على بما فيه، أو كتب الحكام كتابا إلى حاكم وختمه، وأشهد الشهود به، ولم يقرأه عليهم، فقال الشهادة جائزة، وقال أيضا: لا يشهدوا به إلا أن يقرأه عند تحمل الشهادة، واحتج إسماعيل للقاضي للجواز بأنه ? دفع كتابا إلى عبد الله بن جحش، وأمر بأن يسير ليلتين، ثم يقرأ الكتاب تتبع ما فيه.
ابن الحاجب: لو قال: أشهدكما على أن ما في كتابي أو حكمي فروايتان، ومثله لو أقر مثله.
ابن عبد السلام: قوله: (ومثله لو أقر بمثله)؛ ظاهره: أن فيه الروايتين المذكورتين، والصحيح قبول هذه البنية، وإنما يحفظ الخلاف في المذهب بالكراهة في شهادة الشاهد، كذلك في الوصايا؛ لاحتمال أن يكون فيها جور، وحكى القاضي روايتين فيمن دفع لشهود كتابا مطويا، وقال: اشهدوا على بما فيه، قلت: قوله: إنما الخلاف في شهادة الشاهد، كذلك في الوصايا يرد بمتقدم نقل القاضي الروايتين مطلقا في الوصايا وغيرها، وما حكاه عن المذهب من الكراهة في الشهادة كذلك في الوصايا لا أعرفه، والمنصوص في أول كتاب الوصايا من المدونة.
وفي العتبية: الجواز؛ وإنما أعرف المذهب الكراهة في ذلك لغير أهل المذهب.
قال ابن رشد في ثاني مسألة من رسم الأقضية من سماع القرينين في كتاب الوصايا: وذكر البخاري عن الحسن وأبي قلابة: أنهما كرها أن يشهد على وصية حتى يعلم ما فيها؛ لأنه لا يدري لعل فيها جورا، وكذا يستحب للعالم إذا أشهداه المتعاملان على أنفسهما في كتاب ذكر الحق فيما تعاملا فيه أن لا يكتب شهادته فيه إذا أشهداه على أنفسهما بما تضمنه، وأقرا عنده بمعرفة ما فيه حتى يقرأه؛ لئلا تكون المعاملة بينهما في ذلك فاسدة.
قلت: فإنما عزا للمذهب الاستحباب مطلقا لا في الوصايا ولا في غيرها، وإلا أن يؤول بأن نقبض المستحب مكروه، وليس بصواب.
وقال المازري في الجواب الثاني عشر في أواخر كتاب الأقضية ما نصه: وأشار المتأخرون من الأشياخ إلى إكرام الشاهد إذا أريد منه اتباع خطه في وثيقة أن يقرأ موضع العقد في الوثيقة، أو يقرأ عليه حتى ما شهد به؛ لئلا تشتمل الوثيقة على ما لا تجوز الشهادة به.
قلت: فهذا، وإن خالف ما تقدم لابن رشد، لم يفرق فيه بين الوصايا وغيرها، وتمامه في فصل تحمل الشهادة.
وفيها مع غيرها: شرط المحكوم فيه بما في كتاب قاض كتب بموجب الحكم فيه اشتمال الكتاب على صفة خاصة، مميزة موصوفها عن غيره، مطابقة لصفة المحكوم فيه.
في اللقطة منها: إذا أتى رجل لقاض بكتاب من قاض يذكر فيه أن شهد عندي أن فلانا صاحب كتابي هذا إليك ذهب منه عبد صفته كذا لحلاه ووصفه في الكتاب، وعند هذا القاضي آبق محبوس على هذه الصفة؛ فليقبل كتاب القاضي، والبنية التي شهدت فيه على الصفة، ويدفع إليه العبد.
وسمع عيسى ابن القاسم في الأقضية: إن كتب قاض لقاض في رجل بصفته واسمه وكسبه في حق عليه، فيجد القاضي رجلين في ذلك البلد متفقين في الاسم والصفة أيأخذ صاحب الكتب من ذكر أنه منهم؟ قال: لا خيار له، ولا شيء حتى يثبت أنه أحدهما، أو لا يكون في ذلك البلد غيره كذلك، فحينئذ يستوجب عليه حقه إلا أن يكون له حجة.
ابن رشد: هو كما قال اتفاقا، فإن سأل ممن ادعي عليه منهم أنه هو حميلا حتى يأتي بالبينة.
فقال ابن القاسم في المدنية: لا يقضي عليه بحميل.
وقال الأخوان وأصبغ: تعدى عليه به إن لم تؤمن غيبته، ولم يكن من أهل الوفاء والملاءة، وإن وجد بالبلد رجل واحد على تلك الصفة؛ كشف القاضي عن الأمر، فإن لم يذكر بالبلد غيره على تلك الصفة، أعداه عليه، وإن وجد به سواه؛ لم يكن له على واحد منهما سبيل إلا أن يثبت على أحدهما أنه هو، وإن ترك القاضي ما يؤمر به من الكشف عن ذلك، فقيل: لا يؤخذ بالحق حتى يثبت الطالب أن ليس بالبلد من هو على تلك الصفة سواه، وهو دليل سماع زونان ابن وهب، والشهادة في هذا لا تكون إلا على العلم، وقيل: يؤخذ به إلا آت يثبت هو أن بالبلد من هو على تلك الصفة، وهو ظاهر قول أشهب في سماع زونان، ورواية عيسى عن ابن القاسم في المدنية، ويأتي هناك بقية الكلام.
قلت: الأول بناء: على المتمسك باستصحاب حال ما ثبت حتى يثبت رافعه؛ لأن الأصل عدم توجه الطلب على المدعي عيلة أنه المكتوب فيه، والثاني: بناء على المتمسك بأن الأصل عدم الاشتراك، واستصحاب حال العدم في مماثله؛ لأن الأصل في المحدثات العدم، وما وجد به من بقية الكلام هو قوله في سماع زونان قول ابن وهب: أن القاضي يكتب للطالب بما أثبت عنده من صفة عبده الآبق، كما له يكتب له في الدين له على الغائب باسمه ونسبه وصفته، والشهادة بذلك على الصفة؛ كالشهادة على العين يحكم بها المكتوب إليه هو قول مالك وكل أصحابه إلا ابن كنانة فإنه في المدينة لم يجز في
شيء من ذلك الشهادة على الصفة، وأجازها ابن دينار في الدين دون الآبق، والفرق عنده بينهما أن الآبق لا يعرف موضعه، ومن تمام الصفة ذكر الموضع؛ ليستبحث هل في ذلك الموضع على تلك الصفة سواه أم لا؟ ولا تمم الشهادة حتى يقولوا: أنهم يعرفونه في يديه ملكا له لم يزل ملكه عنه في علمهم حتى أنشده آبقا، ثم يحلفه القاضي أنه ما باع، ولا وهب، ولا تصدق، ثم يكتب له كتابا باستحقاقه البعد صفته كذا وكذا، فإن لم يكن حلقه؛ لم يقض له به المكتوب إليه حتى يكتب لقاضي بلده، فيحلفه ويأتيه بذلك كتابه، فإذا وصل بالكتاب لقاضي الموضع الذي به العبد، فإن وجده قد حبسه بما ثبت عنده أنه آبق أو غير محبوس، إلا أنه يقر بالإباق، وينكر أن مدعيه سيده، ولا يسمي سيدا؛ فلا خلاف أن القاضي يحكم له به، ويدفعه له على قول من يجيز الشهادة على الصفة، وعلى قول من لا يجيزها؛ لأنه لو ادعاه ووصفه دون بينة؛ لأعطاه إياه بعد التلوم واليمين؛ لأنه كلقطة، وعلى ما في الآبق من المدونة في الأمتعة المسروقة.
وإن قال العبد: أنا لفلان رجل غير مدعيه حاضر أو غائب، فإن قال الحاضر: لا حق لي فيه؛ دفع لطالبه، وإن ادعاه طلب بالبينة إن أتى بها؛ كان أحق به وإن لم يأت ببينة؛ قضي به للطالب، وإن كان غائبا؛ كتب السلطان لذلك الموضع، فإن كان كما قال، وإلا أسلم إليه العبد، وإن أقر العبد للذي لحقه أنه عبده، وادعى عليه أنه أعتقه، فكما قال في السماع: إن كانت له بينة بحريته؛ أعتقه، وأبطل كتاب المستحق، وإلا دفع إليه عبده، وإن ادعى الحري.
فقال في السماع: إن المكتوب إليه الذي هو بين ظهرانيه ينظر له في حجته وبينته، ولا يلجئه لغيره، ووجه العمل في ذلك أن ينظر، فإن كان واقعا بالبلد، ليس من أهله معروفا بالحرية من أصله، وليس في البلد من يشبهه في صفته وجنسه واسمه، سئل المخرج مما كتب عليه من رق هذا، فإن أتى بمخرج بأن يثبت أنه حر من حر من أصله، أو أنه أعتقه من كان له ملكا؛ بطل عنه الكتاب، وإن لم يأت بشيء؛ دفع إلي هذا عبدا إلا أن يكون في البلد من يشبهه في صفته وجنسه واسمه؛ فلا ينتفع بالكتاب حتى تشهد البينة أنه هو بعينه، مثل هذا حكي ابن حبيب عن مطرف وأصبغ خلاف قول ابن
القاسم؛ لأن قوله ما حكاه الفضل أن الشهادة على الصفة لا تتم إلا بذكر الموضع، والآبق لا يعرف له موضع، وقوله: إن المكتوب إليه يكشف هل في ذلك البلد من هو على تلك الصفة، والاسم سواه في الآبق، والدين صحيح لا اختلاف في أمره يفعل هذا كما يؤمر بالسؤال والكشف عن أحوال الشهود عنده، فإن لم يفعل؛ كان على المشهود له عنده أن يعدل عند شهوده الذين شهدوا له، فإن لم يكشف هو عن ذلك، فذكر ما تقدم من قولي أشهب مع ابن القاسم وابن وهب.
وقول ابن شاس: إن كان أحد المشتركين في الصفة قد مات؛ لم يستحف عليه الحي منهما ما في الكتاب حتى تشهد البينة أنه الذي استحق عليه إلا أن يطول زمان الميت، ويعلم أنه ليس المراد بالشهادة لبعده، فيلزم الحي صواب، وكذا نقلته من ذلك البلد لآخر قال: ويثبت أنه حكم القاضي بالمشافهة، كما إذا كانا قاضيين لبلدة واحدة، أو يتناديا من طرفي ولا يتهما؛ فهو أقوى من الشهادة.
وتبعه ابن الحاجب، وقبله ابن عبد السلام، وابن هارون، ولا أعرف من جزم به من أهل المذهب؛ وإنما تبعا في ذلك الغزالي، قال في الوجيز: ولو شافه القاضي الآخر؛ لم يكشف؛ لأن السامع أو المسمع لا به، وأن يكون في غير محل ولايته؛ فلا يصح سماعه ولا إسماعه إلا إذا جوزنا قاضيين ببلدة واحدة، أو تناديا من طرفي ولايتهما؛ فذلك أقوى من الشهادة، وتقدم تعقب هذا بأنه لا يجوز لفقيه عزو منصوص أقوال مذهب لمذهب آخر إلا ببيان إجرائها على أصول المذهب المعزو إليه، كما يفعله المازري في غير ما مسألة، وقال في هذه المسألة ما نصه: لا شك أن ذكر القاضي ثبوت شهادة عنده على غائب ليس بقضية محضة، ولا نقل محض؛ بل هو مثبت بالأمرين؛ فينظر أولهما به، ولا يتفرع على هذا أن قاضيين لو قضيا بمدينة على أن كل واحد منهما ينفذ ما ثبت عنده، فأخبر أحدهما الآخر أنه ثبت عنده شهادة فلان وفلان لرجلين بالبلد، وقضى ثبوتهما فإن قلنا: إنه كنقل شهادة؛ فلا يكتفي بهذا القاضي المخاطب بأنهم شهدوا عند الآخر؛ لأن المنقول عنهم حضور، وإن قلنا: إنهم كقضية؛ فالقاضي الثاني ينفذ ما قاله الأول، وهذا قد يقال فيه أيضا: إذا جعلنا قول القاضي واحدا، وإن كان كالنقل تكتفي
به لحرمة القضاء، فكذا يصح نقله، وإن كان من نقل عنه حاضرا، وهذا مما ينظر فيه.
فإن قلت: مقتضى قول المازري: وإن قلنا: إنه كقضية؛ فالقاضي الثاني ينفذ ما قاله الأول يصحح ما نقله ابن شاس عن المذهب.
قلت: لا دلالة فيه على صحة ذلك؛ لأنه إنما ذكره على تقدير تولية قاضيين بموضع واحد، وقد تقرر أن لزومية الشيء الشيء لا تدل على صحة الملزوم، وقد تقدم في شرط وحدة القاضي ما يدل على أن مقتضى المذهب شرط وحدته وجدته، فتذكره وقول ابن الحاجب تابعا لابن شاس لو كان المسمع في غير محل ولايته؛ لم يسمع واضح عزوه للمذهب؛ لأن حلوله بغير محل ولايته؛ يسقط حكم ولايته، فصار قوله ذلك كقوله بعد عزلته.
ابن سهل عن ابن عبد الحكم: إن حج قاض، فحل بغير محل ولايته؛ فليس له أن يسمع فيه بينة على من في عمله، ولا ينظر في بينة أحد، ولا أن يكتب بما شهد عنده إلى قاض آخر، ولا أن يشهد على كتابه بذلك بذلك إلى أحد، وله أن يسأل عن حال بينة؛ شهدت عنده.
وفي كتاب منهاج القضاة لابن حبيب عن أصبغ: أن يبعث الإمام القاضي لبعض الأمصار في شيء من أمر العامة فحل به؛ فله أن يسمع فيه بينة بحق على غائب في عمله، ويسأل من قام بها تعديلها، وله أن يسأل قاضي ذلك المصر عنهم، ويحتذي بما أخبر به من عدالتهم؛ لأنهم من عمله، ولو اجتمع الخصمان عنده بذلك المصر للمخاطبة عنده، وما يختصمان فيه في بلد القاضي الغائب عن نظره؛ لم ينظر بينهما إلا أن يتراضيا عليه؛ كتراضيهما بمن يحكم بينهما، وبعض جواب أصبغ بخلاف ما تقدم لابن عبد الحكم، وسألت ابن عتاب عن قاض جعل بغير بلده، وقد ثبت عنده ببلده حق لرجل، فطلب منه أن يخاطب به قاضي موضع المطلوب قال: لا
يجوز له ذلك، فإن فعل؛ بطل خطابه، ثم قال: ولا يبعد أن ينفذه، قلت له: فإن كان الحق الثابت عنده ببلده على من هو بموضع اختلاله، فأعلم قاضي الموضع بذلك مشافهة بما ثبت عنده؛ أيكون كمخاطبته بذلك؟ قال: ليس مثله، قلت: وما في الفرق؟ قال: هو في إخباره هنا بما كان
ثبت عنده طالب فضول ما ادعاه لذلك، قلت: ما يمنع من إخباره به، ويشهد عنده بذلك، وينفذه كما يشهد بما يجري في مجلسه من إقرار وإنكار ويقضي به، قال: ليس مثله، ولكن إن أشهد هذا القاضي المخبر بذلك شاهدين في منزله، وشهدا بذلك عند قاضي ذلك الموضع؛ نفذ وجاز.
قال ابن سهل: رأيت فقهاء طليطلة يجيزون إخبار القاضي المجتاز بذلك البلد قاضي البلد، وينفذ ويرونه كمخاطبته إياه.
قلت: ففي لغو مخاطبة قاض حل بغير محل ولايته يكتب لآخر بما ثبت عنده في محله، ولغو سماعه به بينة على من في عمله وصحتهما ثالثهما: إن دفع كتبه؛ لم يبعد أن ينفذ، لابن عبد الحكم مع أول جواب ابن عتاب، ولابن حبيب عن أصبغ، ولثاني جواب ابن عتاب، وفي لغو مشافهته بذلك في غير محل قاضيه وأعماله جواب ابن عتاب قائلا: لو أشهد على نفسه بذلك في غير محله بينة؛ شهدت به عند قاضي ذلك الموضع وجب إنفاذه، وسماع ابن سهل: فتوى أهل طليطلة بجوازه، وإنفاذه كمخاطبته بذلك.
المازري: إن طلب من في ولاية قاضي قاضية، وهو بغير محل ولايته أن يكشف له عن عدالة بينة له هي بمحل ولاية قاضيه؛ جاز ذلك، وإن سأله التسجيل له بذلك؛ لم يجز، وإن سأله سماع بينة له فقط، ففي جوازه قولا أصبغ، وابن عبد الحكم قائلا: لو كتب قاضي مكة لقاضي مصر، ثم ورد قاضي مصر مكة؛ لم يكن له أن يسمع البينة على كتاب قاضي مكة الذي كتبه له، وهو بمصر.
قال ابن الحاجب: ولو كان السامع؛ فهي شهادة؛ يريد: حل في غير محل ولايته.
ابن عبد السلام: ظاهره: لو طلب منه أن يروي ما سمعه من هذا القاضي لقاض ثالث؛ كان له ذلك، فيحكم بقوله مع يمين الطالب أو مع شاهد آخر، وفي هذا الأصل قولان هل يكتفي في الشهادة بذلك، أو لابد من السماع من القاضي؟
قوله: أشهد علي بكذا، ولو قيل: لا يشهد في هذه الصورة من غير خلاف؛ لما كان بعيدا؛ فإنما ذلك الخلاف إنما هو إذا أشهد القاضي شهيدين على نفسه، وحضر مجلسه اثنان غيرهما؛ فهل لهذين أن يشهدا بما أشهد به الأولين؟ في ذلك قولان، وفي هذه
الصورة لم يقصد القاضي المسمع الإشهاد بوجه؛ إنما قصد إعلام قاض آخر مشافهة، ولم يتم الحكم بها، فتأمل.
قلت: قوله في هذا الأصل قولان؛ يرده بأن القولين إنما هما في كتاب القاضي حسبما تقدم لابن رشد، والقول أشد من الكتاب؛ لأن من طلق زوجته نطقا؛ لزومه من غير توقفه على شيء، ولو كتب به؛ لم يلزمه بمجرد كتبه حتى يخرجه عازما حسبما تقدم، ولو سلم كونه مثله؛ لا يشهد من غير خلاف إلى آخره؛ يرد بأن الشاهد من السامعين لم يقصد إسماعهما بوجه، والقاضي السامع قصد القاضي الذي أسمعه إسماعا قطعا، وقوله: إن القاضي المسمع؛ إنما قصد إعلام قاض آخر مشافهة، ولم يتم الحكم؛ يرد بأنه إنما لم يتم الحكم بها من حيث استقلال سماعهما، ولا يلزم منه عدم الحكم بها مع انضمام شاهد آخر بها، وثبوت حكم الحاكم بشاهد ويمين، يأتي إن شاء الله تعالى في فصله.
وقول ابن الحاجب: لو اقتصر الأول على سماع البينة، وأشهد بذلك وجب على المنتهي إلية الإتمام، هو نقل ابن رشد في سماع ابن القاسم: يجب على المكتوب إليه أو من ولي بعده أن يصل بنظره بما ثبت عند الكاتب، إن كتب بثبوت شهادتهم فقط؛ لم يأمر بإعادة شهادتهم، ونظر في تعديلهم، وإن كتب بتعديلهم أو بقبوله إياهم أعذر للمشهور عليه، وإن كتبه بأنه أعذر له، فعجز عن الدفع؛ أمضى الحكم عليه.
قلت: ظاهر قوله: بيني على قبوله إياهم أنه ينبي عليه مطلقا، ولو كان مذهب الكاتب حمل المستور الحال على العدالة، ومذهب المكتوب إليه حمله على غير العدالة، وفي هذا الأصل اختلاف.
قال ابن المناصف: لو كتب قاض بحكمه بشيء فيه اختلاف، ورأى المكتوب إليه فيه بخلاف حكم الحاكم الذي كتب به؛ ففي وجوب إنفاذه إياه قول أشهب في المجموعة، وقول سحنون: لا ينبغي له أن يجيزه، ولا أن ينفذه.
قلت: فهم الخلاف من هذا اللفظ واضح، وفي فهمه من لفظ النوادر إشكال فيها ما نصه: قال أشهب في المجموعة: إن كتب قاض لقاض بأمر فيه اختلاف، والمكتوب
إليه لا يرى ذلك الرأي، فإن كتب له أنه حكم بما في كتابه وأنفذه؛ جاز وأنفذه هذا، وإن لم يكن؛ قطع بحكم، إنما كتب بما ثبت عنده للخصم، فلا يعمل هذا برأي الذي كتب، وليعمل فيه برأيه.
وقال سحنون: إن كتب إليه برأيه، فرأى خلافه؛ فلا ينفذه؛ لأن ذلك لم ينفذ شيئا يقتضي أن عدم إثبات الثاني إنما هو فيما لم ينفذه الأول، وقول أشهب إنما هو فيما أنفذه الأول، فلا يكون خلافا لقول سحنون.
قال ابن عبد السلام: ولا يكون قول القاضي ثبت عندي كذا حكما منه بمقتضي ما ثبت عنده، فإن ذلك أعلم منه، وإنما أوجب هذا البيان أن بعض من ينتمي إلى علم الأصول من أهل القير وإن غلط في ذلك، فألف الإمام المازري جزءاً في الرد عليه، وجلب فيه نصوص المذهب، والمسألة جلية لا تحتاج إلى بيان.
قلت: نقلت للشيخ حين قراءة هذه المسألة قول المازري: اختلف العلماء في اقتصار القاضي على تسمية بينة ثبتت عدالتها عنده هل ذلك كنقل شهادة عن شهادة، أو كالقضية المنفذة؟ فمن رآه كالقضية المنفذة تناقض في تفريقه بين أن يحكم القاضي، أو يسمع بينة عليه، ويحكم بثبوتها عنده؛ لأن حكمها بثبوتها عنده يمنع القاضي الآخر من الاجتهاد في ثبوتها، وكذا من أجرى ذلك مجرى نقل الشهادة عن الشهادة تناقض؛ لأن القاضي واحد، وإذا كان قوله: ثبت عندي بشهادة فلان وفلان نقلاً، فنقل واحد شهادة شهود لا يعول عليه؛ لكنهم جعلوا حرمة القضاء ومنصبه يصير القاضي، وإن كان هو واحدا، وكذا نقله عن شهود شهدوا عنده بخلاف ناقل عن شهود ليس له أن يقضي بشهادتهم، ولا شك أن ذكر القاضي بثبوت شهادة عنده على غائب ليس بقضية محضة، ولا نقل محض؛ بل هو مشوب بالأمرين، فينظر أولاهما به، فيسد إليه: فقال لي: نقلك عن المازري: أن قول القاضي ثبت عندي أنه كالقضية المنفذة عند بعضهم؛ بعيد، فإنه ألف جزءاً خطأ فيه من زعم أن قول القاضي: ثبت عندي حكم، فوقفته بعد انقضاء مجلس الدرس على قول المازري المتقدم، فدخل منزله، وأخرج إلى الجزء الذي ذكره
المازري، وأنا أذكر لبابه مختصراً، فإنه يتفيهق فيه بخطابات أدبية لا تحتاج لذكرها هنا، قال: حدث سؤال أفتيت فيه أنا وجميع من يستفتى بالمهدية بجواب واحد، وعلى أن ما خالفه باطل فاسد، فطعن بعض من نشأ هنا ممن ينسب للفقه أنه خفي شأنه، وأخمل زمانه، فأراد أن يعلم إخوانه بمخالفته إيانا محله ومكانه، ولا بد من ذكر السؤال بنصه، وإيضاح مكنونة وكشفه، وهو أن بعض القضاة أنفذ كتابا لقاض ذكر فيه: وثبت لدي أن فلاناً وفلاناً اشتريا من فلان في عقد واحد كذا وكذا سهما بثمن سماه، ثم ذكر بعد ذكر هذا: وما يتعلق به، فسألني الحامل لهذا الكتاب إنهاء جميع ذلك للقاضي ليفعل فيه موجبه، فاتفق رأي الجماعة الذي استرشدوا فيه على أنه لا يوجب نقل ملك البائع، فتتعلق به الأحكام التابعة لنقل الملك من الشفعة وغيرها، وعن تعلق الشفعة، وقع الكلام والدليل على أن هذا الكتاب لا يوجب على الشريك أخذ الشفعة أو تركها؛ أنه لا تجب إلا بعد انتقال الملك؛ لأن بيع الخيار لا حب فيه الشفعة ما لم يبيت، والملك قد انتقل فيه على أحد القولين عندنا، والملك لا يثبت انتقاله إلا إذا اعترف به المتعاقدان، أو حكم به عليهما عند الإنكار، وهذا الكتاب لم يذكر فيه اعتراف البائع بالبيع، ولا صرح من بعثه بأنه حكم بالبيع وقضى به؛ بل أورد لفظاُ محتملاً للحكم، ولما سواه، ولا تلزم القضاء والأحكام بلفظ فيه إشكال وإيهام، وهذا مما لا يختلف فيه أحد من ذوي الأفهام، واللفظ الذي أشرنا إليه بالاحتمال هو قول القاضي: وثبت عندي أن فلانا اشتري من فلان، وقوله: ثبت عندي لفظ يتردد بين ثبوت حكم وقضيته، وبين استماع لما أثبته من بينة زكية دون اتباع حكم، وإبرام قضية، فإن تعسف متعسف، ورأى أن الثبوت نص في القضايا والأحكام؛ قيل له: إنما يتحاكم في هذا لأهل اللسان وأرباب البيان، ووجدنا أهل اللسان يقولون: ثبت عندنا موت الخليفة، وخصب أرض كذا، وثبت عندنا ظلم فلان وعداوته إلى غير ذلك مما علموه بالخبر عنه، وتلقوه بالقبول من أفواه العدول مما لا يصح أن ينتصب له الحكام، وتطلب فيه القضايا والأحكام، وعلة الأمر أن المعني بالثبوت لغة حصول الأمر وتحققه، ولهذا حد بعض المتكلمين العلم بأنه إثبات المعلوم على ما هو به، وإن كان هذا الحد مرغوباً عنه عندنا، والروايات
مسطورة بصحة ما قلناه.
قال أشهب: إذا كتب قاض إلى قاض بأمر مختلف فيه، والمكتوب إليه لا يرى ذلك الرأي، فإن كتب إليه أنه حكم بما في كتابه وأنفذه؛ جاز ذلك وأنفذه هذا، وإن لم يكن قطع فيه الحكم، وإنما ينبغي له أن يعمل برأي الكاتب، ومثله لابن حبيب عن الأخوين.
وفي الموازية: يجب إنقاذ ما في كتاب القاضي إن كان فيه أني قضيت لفلان على فلان، وإن لم يكن في الكتاب الفراغ من الحكم؛ فعلى المكتوب إليه أن يتم الحكم، ولا يستأنفه حكم بما ثبت عنده للحكم؛ فلا.
قلت: مسألة النزاع بين المازري ومنازعه مبنية على تحقيق أمرين: أحدهما: أن فاعل ثبت في كتب القاضي لقاض آخر بلفظ ثبت كذا عندي هل هي بمنزلة المقضي به عنده أم لا؟ والحق أنه يختلف فيه على قولين: الأول: أنه ليس كالمقتضي به، وظاهر قول ابن رشد حيث قال فيما قدمناه عنه في مسألة تسمية القاضي في كتابه: من شهد عنده ما نصه؛ لأن كتاب القاضي إلى القاضي بما ثبت عنده على رجل في بلد المكتوب إليه ليس بحكم على غائب، والثاني: أنه كالمقتضي به، وهو ظاهر فهم ابن رشد المذهب حيث قال: إن كتب بثبوت شهادة البينة فقط؛ لم يأمر بإعادة شهادتهم، وإن كتب بتعديلهم أو بقبوله إياهم إلى آخر كلامه المتقدم، ولفظ المازري الذي نقلناه عنه من شرح التلقين نص في أنه مختلف فيه بين العلماء، ولم يصرح فيه عن المذهب بشيء، ونقل الشيخ عن أشهب: يقتضي أنه ليس كالأمر المقتضب به، الأمر الثاني: هو أن مسمى اشترى هل يقتضي ثبوت ملك المشتري مفعول اشترى وهو المشترى أم لا؟ فالمزري ومن ذكر أنه وافقه على فتواه من فقهاء المهدية يقول: إنه لا يقتضي ملكه، وخصمه يقول: يقتضي ملكه، قلت: وهذا هو مقتضى ألفاظ المدونة عندي منها قوله الزكاة الأول: من اشترى بمال حل حوله، ولم يزكه خادماً، فماتت؛ فعليه الزكاة.
وفي الجهاد: ومن اشترى من المغنم أم ولد رجل أو ابتاعها من حربي؛ فعلى سيدها أن يعطيه جميع ثمنها.
وفي كتاب الشفعة: من ابتاع شقصاً بثمن إلى أجل؛ فللشفيع أخذه ما أخذه بالثمن إلى ذلك الأجل إلى غير ذلك مما لا يعد كثرة، فعلى هذا منضما للقول أن ثبت كالمقتضي به يكون الصواب فتوى منازع.
المازري: وإلا فلا، وبالجملة؛ فليس قول منازع المازري بالذي يحسن أن ينشد في الرد عليه قول المتنبي.
وليس يصح في الإفهام شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
فإن المازري في الجزء المذكور أغلظ في الكلام على منازعه، وانشد البيت المذكور ولا تباعة.
قال اين عبد السلام: والمسألة جليلة لا تحتاج إلى بيان، ومن أنصف وحقق ما قلناه من لفظ المازري؛ علم أن نقل ابن عبد السلام عن منازع المازري أنه قال قول القاضي الكاتب: ثبت عندي كذا حكم منه بمقتضى ما ثبت عنده أنه ليس كذلك؛ لأن هذا اللفظ يقتضي أن منازع المازري بقول: قول القاضي الكاتب ثبت عندي شراء فلان نصف الديار الفلانية المشتركة بين فلان وفلان، وملكه إياه حكم منه بالشفعة فيها؛ لأنه مقتضى ما ثبت عنده، وليس كذلك إنما زعم الحكم بثبوت الملك فقط حسبما تقدم فتأمله، ولما كانت نصوص الروايات واضحة بلغو ثبوت كتاب القاضي بمجرد الشهادة على خطه.
قال ابن المناصف: اتفق أهل عصرنا في البلاد التي ينتهي إليها أمرنا على قبول كتب القضاة في الأحكام والحقوق بمجرد معرفة خط القاضي دون إشهاده على ذلك، ولا حاكم معروف، ولا يستطيع أحد فيما أظن على صرفهم عنه مع أني لا أعلم خلافاً في مذهب مالك أن كتاب القاضي لا يجوز بمجرد معرفة خطه؛ بل قولهم القاضي يجد في ديوانه حكماً بخطه، وهو لا يذكر أنه حكم به أنه لا يجوز له إنقاذه إلا أن يشهد عنده بذلك الحكم شاهدان، وكذا إن وجده من ولي بعده، وثبت أنه خط الأول؛ فإنه لا يعمل به، ولا يتخرج القول بعمله بما يتيقنه من خطه دون ذكر حكمه به من الخلاف في الشاهد بتيقن خطه بالشهادة بالحق، ولا يذكر موطنها لعذر الشاهد إذا ما عمله هو
مقدور كسبه، والقاضي كان قادراً على إشهاده على حكمه، ثم وجه عمل الناس بأن الخط الحاصل بأنه كتاب القاضي الباعث به حصوله بالشهادة على خطه منضماً للشهود، وهو القول بجواز الشهادة على خط الغير حسبما تقدم في المذهب يوجب كون هذا الظن كالظن الناشئ عن ثبوته ببينة على أنه كتابه لضرورة دفع مشقة مجيء البينة مع الكتاب مع انتشار الخطة في بلد.
قلت: فإن قيل: تدفع المشقة بإشهاد القاضي على كتابه بينة تشهد على خطها في بلد المكتوب إليه، كما يفعله كثير من أهل الزمان لنكتة تذكر بعد.
قلت: ثبوته بالشهادة على خط القاضي أقوى من ثبوته بالشهادة على خط البينة بشهادتها على القاضي؛ لأن ثبوته بالشهادة على خط القاضي ما له توقفه على مجرد الشهادة على الخط، وثبوته بالشهادة على خط البينة ما له توقفه الشهادة على الخط مع شهادة البينة على القاضي، وما توقف على أمر واحد فقط أقوى مما يتوقف عليه مع غيره؛ لتطرق احتمال وهن ذلك الغير كاحتمال فسق البينة، أو رقها في نفس الأمر.
قال: وإذا ثبت وجه العمل بذلك، فإن ثبت خط القاضي ببينة عادلة عارفة بالخطوط؛ وجب العمل به، وإن لم تقم ببينة بذلك، والقاضي المكتوب إليه يعرف خط القاضي الكاتب إليه؛ فجائز عندي قبوله بمعرفة خطه، وقبول سحنون كتب أمناء بلا بينة يدل على ذلك، وليس ذلك من باب قضاء القاضي بعلمه الذي لا يجوز القضاء به، لأن ورود كتب القاضي عليه بذلك الحق؛ كقيام بينة عنده بذلك، فقبوله الكتاب بما عرف من خطه كقبوله بينة بما عرف من عدالتها، ويحتمل أن يقال: لابد من الشهادة عنده على خطه.
قلت: نحوه قول ابن سهل: إن أتى بخبر على شهيدي كتاب القاضي، وإن لم يكن تعديلاً بيناً، أو زكى أحدهما، أو توسم فيهما صلاح، وخطه وختمه يعرفه المكتوب إليه؛ استحسن إنقاذه لعمل صدر الأمة بإجازة الخاتم، ومنه: أن محمد بن شماخ قاضي غافق خاطب قاضي قرطبة محمد بن الليث بخطاب أدرج فيه كتاب عيسى بن عتبة فقيه مكناسة، وعقد استرعاء بملك بغل بعث فيه ثبت استحقاقه عند
ابن عتبة على عين
البغل وعين مستحقه، وفي الكتاب ثبت عندي كتاب ابن عتبة يستحلف قاضي الحوف، ولم يسم من استحلفه، ولا ابن عتبة ولا أن ثبوته عنده كان على عين البغل ومستحقه، فأفتى ابن عتاب، وابن العطار وابن مالك بإعمال خطاب ابن شماخ؛ لفضله وعلمه، وإنما جرى بين يديه محمول على الكمال، ولعافية ابن عتبة، وفي اتفاقهم على هذا الوجوب عجب وفيه من الضعف ما فيه، وكانوا يختلفون فيما هو أوضح من هذا.
ابن المناصف: ويجب على القاضي الذي ثبت عنده كتاب قاض إليه في حق تأخر الحكم فيه أن يشهد على نفسه بثبوت ذلك الكتاب عنده الذي قبله بمعرفته خطه؛ لأنه إن لم يفعل ذلك، واتفق أن مات، أو عزل، وقد مات الذي كتب له أو عزل، وخلف مكان المكتوب له قاض آخر ألها صاحب الحق لإثبات ذلك الكتاب عنده بشهود على القاضي الذي كتبه في حين ولايته أنه كتابه؛ إذ لا يكتفي في ذلك بمعرفة سماع نطقه بذلك، والسماع منه ذلك؛ إنما يعتبر مادام في ولايته، وأما بعد عزله؛ فلا لقولها مع غيرها: أن مات القاضي أو عزل، وفي ديوانه شهادة البينات وعدالتها؛ لم ينظر فيها من ولي بعده، ولم يجزه إلا أن تقوم عليه بينة، وإن قال المعزول؛ قد شهدت به البينة عندي؛ لم يقبل قوله، ولا يكون شاهداً بذلك، وغلط في هذا النوع اليوم جماعة من الطلب، وجرى بيننا وبينهم فيه نزاع كثير؛ لأنهم حملوا ما وقع لمالك وغيره في قبول كتب القضاة ماتوا، أو عزلوا على إطلاقه، وتوهموا ذلك في مثل ما عهدوه، ووقع التساهل فيه من ترك إشهاد القضاة على كتبهم، والاجتزاء بمعرفة الخط.
قلت: ونزلت هذه المسألة في عام خمسين وسبعمائة من هذا القرن الثامن وقت نزول الطاعون الأعظم أيام أمير المؤمنين أبي الحسن المريني في خطاب ورد من مدينة فاس لتونس، فوصل خطاب قاضي فاس، وقد تقرر علم موته بتونس، فطرح خطابه، فشكي من وصل به إلى أمير المؤمنين، فسأل إمامه ومفتيه شيخنا عبد الله السطي، وكان إماماً حافظاً، فأفتى بإعمال خطابه، واحتج بنحو بما ذكره ابن المناصف عن من نازعه، فوقفه أصحابنا على كلام ابن المناصف هذا، فرجع إليه، وظهر أنه لم يكن له شهود.
قال ابن المناصف: وتجوز خطابات الإمام، وقضاة بعضهم لبعض، ولو ولي بعض
قضاة الإمام قضاه في عمله لبعد المحل عنه، صح مخاطبته إياهم، ومخاطبتهم إياه، ومخاطبة بعضهم بعضاً إن أذن لهم في ذلك، وإن قصرهم على مخاطبته؛ لم تج مخاطبه بعضهم بعضاً؛ لأنهم وكلاء، فلا يتعدوا ما حده لهم، ولا ينبغي أن يخاطبهم قاضي إقليم غير الذي ولا هم، ولا يخاطبونه هم إلا أن يكون ذلك بإذن من ولاهم، وإن كان تقديم القاضي قضاته بإذن الإمام الذي ولاه؛ جازت خطاباتهم مطلقاً فيما بينهم وبين غيرهم.
قلت: للشيخ عن سحنون في رجل من بعد كور تونس أراد أن يثبت بكورته حقاً له على رجل بمصر؛ ليكتب له به قاضي كورته قال: لا يكتب قضاة الكور إلى قضاة البلدان، وليكتب قاضي تونس إلى قاضي القيروان، فيكون هو الذي يكتب إلى قاضي مصر، ولا يجوز كتب ولاة الكور، وولاة المياه إلى قاضي بلد آخر، وأنكر ما روي عن مالك من ضرب ولاة المياه أجل المفقود؛ لأنه لا يكون إلا بعد الكتب إلى البلدان، وولاة المياه لا يجوز كتبهم إلى البلدان.
قلت: فيقوم منه جواز كتبهم إلى البلدان، وشرط قبول خطاب القاضي صحة ولايته ممن تصح توليته وجه احترازاً من مخاطبة قضاة أهل الرجل كقاضي مسلمي بلسانية وطر طوشة وقو صرة عندنا، ونحو ذلك.
قال ابن المناصف: وشأن قضاة وقتنا رسم الخطاب أسفل وثيقة ذكر الحق، وقد يكون في ظهر الصحيفة، أو أحد عرضيها إن عجز أسفلها، وربما كان في ورقة ملصقة بالوثيقة إن تعذر الموضع، واستحب أن يبدأ باسم الله الرحمن الرحيم، واستخف قضاة زماننا ترك ذلك في صدور مخاطبات الوثائق، وأراه لاكتفائهم بالاستفتاح الواقع في صدر العقد، وإعادة ذلك أولى؛ لأنه ابتداء فصل غير الأول.
قلت: وهذا كما ذكر هو عمل أكثر الناس في ابتداء كتب الوثائق؛ وذكر بعض المؤرخين أن وثيقة وقعت بيد بعض القضاة غير مصدرة ببسملة ولا تصلية، فطرحها وقال: أنى كتبت هذه أكتبت ببلد كذا، فعين بعض بلاد الكفر، فقيل له: إنها بخط ابن مجاهد، فرفعها وقبلها.
قال: وكيفية الكتب: أن يكتب أعلم بصحة الرسم المقيد فوق هذا على ما يحب الشيخ الفقيه الأجل أبا فلان بن فلان أدام الله توفيقه وتسديده وليه في الله تعالى، ومؤثره فلان بن فلان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وذكره تأريخ المخاطبة أحسن وأحوط؛ لاحتمال كون القاضي الكاتب عزل، ولم يبلغه العلم بعزلته، فخاطبه على القول بسقوط فعل الوكيل بنفس عزله ساقط، وعلى القول بعدم سقوطه عامل، ولأن البينة التي خاطب بقبولها، وثبوت الحق ما انتقلت أحوالهم بعد ذلك إلى جرحة لم تكن، فإذا تأخر العمل بذلك الخطاب، ثم أعذر لمن ثبت عليه ذلك الحق، ولم يكن بتاريخ أمكنه إبطاله بإثبات جرحة البينة الآن، ولا يمكنه ذلك مع ذكر التاريخ والسلامة وقت الأداء، والقبول في الجرحة الحادثة؛ وإنما قدموا في التخاطب مفعول أعلم، وهو اسم المكتوب إليه على الفاعل الكاتب يراد بالمكتوب إليه.
قلت: الذي استقر عليه عمل القضاة بإفريقية عدم تسمية القاضي المكتوب إليه، وغالب أمرهم إن كان الذي كتب الإعلام هو قاضي الجماعة بتونس؛ فإنه لا يكتب آخر خطابه، والسلام على من يقف عليه، ورحمة الله وبركاته، وإن كان الكاتب غيره كتب في إعلامه لفظ السلام إلى أخره، وذكر لي بعض من يوثق به أنه كان ورد خطاب من قاضي بجاية إلى تونس، والقاضي بها حينئذ أبو إسحاق بن عبد الرفيع، ولم يكن فيه لفظ السلام، فتوقف في قبوله.
قال ابن المناصف: وإن شاء جعل فعل الإعلام حالاً، وكتب أعلم بضم الهمزة وكسر اللام، ورفع آخر الفعل؛ ثم يقول بعد ذكر اسم المكتوب إليه: وكتب فلان بن فلان، وإن شاء كتب استقل العقد المقيد فوق، أو صح الرسم أو ثبت الحق، وما أشبهه مما يدل على هذا المعنى، فإن كان في طرته؛ قال المرتسم: هذا في عوضه أو بطرته اليمنى، أو القيد خطابي هذا يمنة منه، ونحوه، فإن كان التقييد بورقة ملصقة بالعقد المخاطب عليه؛ فلابد أن يزيد في الخطاب البينة على ذلك الحق، فيقول بصحة العقد المرتسم في الورقة
العليا المتصلة بهذه المتضمن لفلان قبل فلان كذا، أو المتضمن توكيل فلان فلاناً على كذا، ونحوه مما يعين الحق المكتوب فيه خوف أن يلصق بورقة الخطاب ورقة بحق غير الحق الذي به وقع الخطاب، وإن اشتملت الوثيقة على عقود كثيرة؛ صح جميعها عنده نص على ذلك في خطاب واحد، فيقول: أعلمت الشيخ الفقيه القاضي أبا فلان بصحة الرسوم الثلاثة أو الأربعة المقيدة أو الرسمين المقيدين فوق كتابي هذا أو بمقلوبة، وإن صح بعضها دون جميعها؛ نبه على ما صح منها؛ إما بالمقيد أول هذا الصفح، أو الموالي لكتابي هذا، ويعينه تعييناً يرفع الإشكال، فيذكر الحق بعينه، وإن لم يكن في العقد المخاطب عليه إلا شاهد واحد، أو كان فيه شهود؛ لم يقبل منهم إلا واحداً خاطب فيه من غير أن يذكر صفح الرسم، وإلا استقل، ولا يثبت بمن يقول: أعلم الشيخ الفقيه أبا فلان بقبول شهادة فلان ابن فلان المسمى عقب ذكر الحق المقيد فوق هذا فيما شهد به من ذلك على ما يجب، وشبه هذه العبارة، وهذه إنما هو في الحقوق المالية، فيحلف صاحبها مع الشاهد، ويستحق حقه.
وأما الوكالات والحدود: وما لا يثبت بشاهد ويمين؛ فليس للمخاطبة فيه على الشاهد الواحد وجه إلا إن رجا أن يضاف إليه في غير ذلك الموضع شاهد آخر، فإن أحلفه القاضي الكاتب، وثبتت يمينه عنده بشهيدي عدل كما يجب، خاطب القاضي: أعلم الشيخ الفقيه القاضي أبا فلان بصحة الرسم المقيد فوق هذا بشهادة فلان بن فلان، ويمين صاحبه على الحق المشهود له فلان على صحة ما شهد له به من ذلك وثبوته عندي، كما يجب بعد سؤاله الإذن مني في يمينه المذكور، ورأيت إباحة ذلك له، وكتب فلان بن فلان، فإن كان الخطاب بقبوله خطاباً وصل إليه؛ كتب أعلم الشيخ أبا فلان بقول الخطاب الثابت عنده المرتسم فوق هذا، أو يمينه أو يسرته أو بمقلوبة، وإذا لم يكتب القاضي تحت العقد خطاباً يصرح فيه بالإعلام بصحة ذلك العقد عنده، واقتصر على أن كتب صح الرسم عندي، أو ثبت أو استقل، وكتب فلان بن فلان؛ فذلك لغو غير جائز قبوله بمجرد الخط.
وقول ابن الحاجب: ويجب قبول ما يراد عليه عن الحاكم في المال والقصاص،
والعفو والعقوبات وغيرها إن كان أعلاه.
وقولها في كتاب الأقضية والقذف: يجوز كتب القضاة إلى القضاة في القصاص والحدود وغيرها؛ لجواز الشهادة على ذلك، وقوله: إن كان أهلاً هو نقل الشيخ عن المجموعة: إن ثبت عند المكتوب إليه أن من كتب إليه مستحق القضاء في فهمه، ومعرفته، ودينه وورعه غير مخدوع قبل كتابه.
قال ابن سحنون عنه عن أشهب: وإن كان غير عدل؛ لم يقبله، ولو كتب إليه العدل إن أبنى ثبتت له عندي ببينة بكذا؛ لم يقبله، وهو كالشاهد له، فإن أجازه؛ لم يفسخه من ولي بعده.
وقال سحنون: يكاتب غير العدل بإنقاذه الأمر، ولا يقبل كتابه.
قال أشهب: لا يقبل كتاب غير العدل إلا ما كان في أمر لا يشك في صحته.
قلت: هو قولها في كتاب الرجم: هو إن دعاك إمام جائز إلى قطع يد رجل في سرقة أو قتل في حرابة، أو رجم في زنا وأنت لا تعلم صحة ما قضى به إلا بقوله؛ فلا تجب إلا أن تعلم صحة ما أنفذ، وعدالة البينة، فعليك طاعته؛ لئلا تضيع الحدود.
الشيخ لابن حبيب عن أصبغ: إن جاءه بكتاب قاض لا يعرفه بعدالة ولا سخطه، فإن كان من قضاة الأمصار الجامعة؛ كالمدينة، ومكة، والعراق، والشام، ومصر، وقيروان، والأندلس؛ فلينفذه، وإن لم يعرفه، ويحمل مثل هؤلاء على الصحة، وأما قضاة الكور الصغار لا ينفذه حتى يسأل عنه.
قال: وإن كتب القاضي إلى الأمير الذي ولاه، وهو معه في المصر، وذكر له القصة والشهادة، فإن أنفذه الأمير نفذ، وينبغي له إنقاذه قاله بعض كبار المدنيين.
وقال غيره: لا يجوز.
قلت: في عدم إجازته نظر.
قال ابن عبد السلام في تفسير كلام ابن الحاجب: قيل في المذهب: إن الدماء والحدود لا تثبت إلا بشهادة من يعلم القاضي عدالته من الشهود، ولا يثبت بمن يحتاج إلى تزكيته من الشهود خلاف المشهور.
قلت: لا أعرف هذا القول على الوجه الذي ذكره أنه عام في الدماء والحدود، وإنما ذكره ابن زرقون في الدماء فقط.
قال في ترجمة الشهادات ما نصه: ذكر ابن عبد الغفور في وثائقه: أن التعديل يجوز في كل شيء من الدماء وغيرها؛ وهو قول مالك في كتاب الديات من المدونة.
وقال أحمد بن عبد الملك: لا تكون عدالة في الدماء، ولم يصحب هذا القول عمل.
قلت: فلم يذكر الحدود بوجه، ويدخل في قولها، وغيرها كتبه بما ثبت عنده من مخاطبة غيره غيره.
سمع عبد الملك بن الحسن بن وهب: الشأن أن يقبل القاضي ما كتب به له غيره من القضاة، ويحكم به إن كان الحكم عنده، أو يكتب به إلى غيره هكذا، وإن كثر، وهو شأن الإسلام لا يختلف فيه أهل العلم، وقال أشهب.
ابن رشد: لا خلاف في وجوب إعمال القاضي ما خاطبه به غيره من القضاة، ويحكم به إن كان الحكم عنده، أو يكتب إلى غيره سواء كتب الكاتب له بما ثبت عنده من حق، أو بما خاطبه به غيره، وإن كثرت المخاطبات في ذلك من قاض لقاض، وليس لمن ثبت عنده الخطاب بثبوت حق لرجل على رجل أن يكلف ذا الحق البينة عنده بمحضر خصمه؛ بل يقضي عليه بحقه إلا أنه يقول له: إن كان لك مدفع فيمن شهد على الكتاب فادفع، فإن أتى بما سقط به شهادتهم؛ لم يحكم عليه، وإن ادعى المدفع في البلد الذي كتب فيه الكتاب بثبوت الحق قيل: له أد هاهنا ما ثبت عليك وأمض، فإن دفعت شهادة من شهد لخصمك؛ رجعت بما حكم به عليك.
قلت: في اختصار الواضحة: قال ابن حبيب: قال ابن الماجشون: العمل عندنا أن يسمع القاضي بينة الحاضر، ويدفع شهادتهم، وإن لم يحضر خصمه، فإن حضر علمه بمن شهد عليه بأسمائهم ومساكنهم، فإن كان له مدفع، وإلا لزمه القضاء، وإن سأله أن تعيد البينة شهادتهم بمحضره؛ لم يجبه لذلك، ولو سأله الخصم أن لا يسمع بينة خصمه
في غيبته، فإن خشي عليه القاضي في ذلك دلسة أو استرابة، ورأى اجتماعهم أجمع للفضل، وأبرأ من الدخل؛ فليجيبه، وإن أمن من هذا؛ لم يجبه، فإن أجابه من غير شيء خافه؛ فليضمه لاختلاف الناس فيه.
قال بعض العراقيين: لا يكون إيقاع الشهادات إلا بمحضر المشهود عليه، وقال له مطرف وأصبغ مثله، وعلم بلدنا على ما أعلمتك.
قال فضل: سحنون: لا يرى إيقاع الشهادة إلا بمحضر الخصم إلا أن تكون غيبة الخصم بعيدة، ونقله ابن سهل دون زيادة فضل عن سحنون، وقال في الموازية: إن كان قريباً أحضر؛ ليشهدوا عليه، أو بمحضر وكيله، فقد يذكرهم أمراً ينفعه، فإن لم يفعل؛ جاز، ولمحمد بن عبد الحكم نحوه.
قلت: ففي وقف أداء الشهادة على غائب غير بعيد الغيبة لا دلسة عليه فيها ثالثها: يستحب لسحنون وابن الماجشون والموازية مع ابن عبد الحكم، ورابعها: الثاني إن تبين تعمد المطلوب تغيبه عن الطالب فتوى ابن لبابة وابن غالب وابن وليد مع غيرهم.
ابن سهل: وشاهدت العمل دفع القاضي للمشهود عليه نسخ جميع ذلك، ويعلم له على من قبل، أو لا يكتب له في النسخ سواهم، وإن تشاحا في القرطاس الذي يكتب فيه النسخ للإعذار؛ ففيه بين الشيوخ نزاع سألت عنه ابن عتاب، فقال لي اختلف فيه الحكام والفقهاء، وأراه على الطالب، وسمعت ذكره عن ابن دحون، وأفتى ابن القطان أنه على من يعذر عليه، وهو أحب إلى.
ابن الحاجب: قال ابن الماجشون: العمل عندنا أن تسمع البينة حضر الخصم، أو لم يحضر، ولم يراها سحنون إلا بمحضره إلا أن تكون غيبة بعيدة.
قال ابن عبد السلام: ما ذكر ابن الماجشون هو مذهب المدونة.
زاد ابن هارون: هو مذهب المدونة، ولو كان حاضر البلد.
قلت: مقتضى عزوه ابن سهل وابن شاس وابن الحاجب لابن الماجشون عدم ظهور دلالة لفظ المدونة عليه ونصها: قلت: إن أقمت بينة على غائب، فقدم بعدما أوقعت البينة عليه أيأمر القاضي بإعادة البينة في قول مالك؟ قال: قال مالك: يقضي
على الغائب، فلما قاله رأيت أن لا يعيد البينة، وهذا رأيي.
قلت: فلم يحك ابن القاسم عن مالك نص سماع البينة على الغائب إنما أخذه من قوله بالحكم عليه، والحكم على الغائب؛ إنما هو الغائب عن الحكم البلد حسبما يأتي إن شاء الله تعالى؛ إنما أخذه من قوله بالحكم عليه؛ ولذا صح جمع النقل عن سحنون بأنه لا يسمع البينة على الغائب، ويجيز الحكم عليه.
قال ابن رشد في نوازله: سحنون يجيز الحكم على الغائب في العروض والأصول، وذكر الشيخ قول ابن الماجشون من المجموعة بزيادة: إلا أن يكون الشهود لا يعرفون المشهود عليه إلا بشخصه، فلا بد من حضوره، وقاله ابن القاسم وأشهب، ثم ذكر قول سحنون وقيده بكون المشهود عليه حاضراً، أو قريب الغيبة، وإن ثبت بعد غيبته سمع في غيبته ملكه أو استحقاقه إن كان حاضر بلد الخصومة، فشرط البينة حضوره.
في النوادر لسحنون: من ادعى دابة وأحضر بينة والحاكم بالمسجد، والدابة على بابه، أيشهدون عليها وهي خارج المسجد؟ قال: يشهدون عليها حيث يراها الحاكم، كما يشهدون على النصراني، وهو لا يدخل المسجد، وسأل حبيب سحنونا عن من اعترف دابة بيد رجل، فأمره الحاكم بإحضارها، فأحضر دابة، فقال المدعي: ليست هذه التي اعترفت، وأتى بشاهد عدل أن الدابة التي اعترفت في يده غير هذه فقال: يغلظ عليه الحاكم بالحبس وغيره حتى يظهر الدابة، فإن لم يذك الشهادة؛ أغلظ عليه بدون ذلك، وإن كان غائباً عنها، وليس معيناً بنفسه؛ بل بالإضافة وهو الدين، فالاعتبار في الإشهاد به مع غيبة تخصيص المدين بما يعينه.
تقدم لابن رشد في سماع عبد الملك: يكتب القاضي بما ثبت عنده من صفة الآبق كما يكتب في الدين على الغائب باسمه ونسبه وصفته، فيقوم الشهادة فيه على الصفة مقام الشهادة على العين. هذا قول مالك وجميع أصحابه إلا ابن كنانة؛ لم يجز في شيء من ذلك الشهادة على الصفة، وأجازها ابن دينار في الدين لا في الآبق.
قلت: فظاهره: أن ابن كنانة لم يجزه في الدين.
المازري يقضي بالبينة المتعلقة بصفة المحكوم به إن كان ربعاً لا من صفته تخليته
بمحله ومكانه، وهو لا ينتقل، وفي الحكم بها في غيره من حيوان وشبهه قولان، على الأول: ينفذ القاضي المكتوب إليه بتلك البينة الحكم على المشهود عليه بها، وعلى الثاني: يحكم له بأخذ المدعى فيه بصفة قيمته؛ ليذهب به لمحل البينة؛ لتشهد على عينه عند القاضي، فيحكم له به، ويسترجع قيمته ابن الحاجب، ويحكم بالدين وغيره مما يتميز غائباً بالصفة كالعبد.
ابن عبد السلام: يعني ما يحكم به إن لم يقبل التمييز قبل الحكم به لم يطلب تمييزه؛ إذ لا معنى لطلب ما يتعذر حصوله، وقال ابن هارون، وفي قولهما تعقب؛ لأنه يلزم أحد أمرين؛ أما عدم سماع البينة في الدين الغائب من هو عليه، أو سماعها به مع عدم تعينه؛ لأنه إن كان الواقع أن المذهب عدم سماع البينة؛ لزم الأمر الأول، وإن كان الواقع أن المذهب سماعها به مع قولها: إنه لا يقبل التعيين؛ لزم الأمر الثاني، ومعروف المذهب ثبوت سماع البينة، والحق سماعها به معيناً بتعين من أضيف إليه، وهو المدين ولا يمكن تقرر قولهما إلا على ما نقله ابن رشد عن ابن كنانة من منع سماع البينة بالدين على غائب، ولم يذكراه، ولا ألما به، فتأمله.
وقال المازري: إن كان المحكوم به مما لا يتميز أصلاً؛ ذكرت البينة قيمته تقول غصبه حريرًا قيمته كذا، أو طعامًا قيمته كذا.
قلت: هذا فيما يتعلق بالذمة، وأما إن لم يتعلق بالذمة؛ فظاهر كلام ابن رشد أن المكيل والموزون لا تصح البينة به بعد غيبته؛ لتعذر معرفته بعد حضوره، فتمتنع الشهادة به غائبًا على الصفة، وتمام هذا المعنى في مسائل الاستحقاق، وإن كان غائبًا معيناً في نفسه كالعبد والفرس، فإن كانت البينة بما لا يستحق لا من يدع مدع ملكه، ولا مدعيا حرية نفسه؛ سمعته في غيبته بكمال صفته الموجبة تعيينه عند شاهدين اتفاقا، فإن لم يكن عبدا آبقا، وإن كان ففي سماعها: ومنعه قولها مع جل أصحاب مالك وابن رشد عن ابن دينار مع ابن كنانة، وإن كانت بما يستحق من يدع مدع ملكه أو مدعيا حرية نفسه؛ ففي سماعها به، ومنعه قولان لاختصار الواضحة لفضل عن سحنون
قائلاً: لا أعلم خلافه لأحد من أصحابنا غير ابن كنانة وفضل عن ابن دينار معه.
وللشيخ عن ابن القاسم في المجموعة: لو ادعى عبداً بيد رجل، والعبد غائب، فيقيم فيه البينة، أو كان حيونا أو متاعا بعينه أقام فيه ببينة؛ قبلت إذا وصفوا ذلك وعرفوه وحلوه، ويقضي له به قال: ولو شهدت ببينة على غائب بأنه سرق، فقدم، وغاب الشهود، أو حضروا؛ حكم عليه؛ وليس عليه إعادتها إذا استأصل تمام الشهادة.
والخصومة في معين دارا أو غيرها في كونها ببلد المدعي فيه، أو ببلد المدعى عليه، ولو كان بغير بلد المدعي فيه ثالثهما: هذا أو حيث اجتماعهما، ولو بغير بلد المدعي فيه لاختصار الواضحة عن ابن الماجشون مع فضل عن سحنون وابن كنانة، ومطرف
وأصبغ قائلاً: كل من تعلق بخصم في حق؛ فله مخاصمته حيث تعلق به إن كان به أمين يحكم أو قاض، ولو كان الحق بغير موضع اجتماعهما.
ابن حبيب: أقول به فيما يتعلق بالذمة من دين وحق لا في العقار، وعلى الأول:
قال ابن الماجشون: إن ادعى مكي دارا بمكة لمدني، سمع قاضي مكة ببينة مدعيها، وضرب لرب الدار أجلاً، فإن جاء بمخرج، وإلا وكل من يخاصم عنه، وعلى الثاني:
قال مطرف: إن شاء المدعي؛ أثبت عند قاضي مكة دعواه؛ ليكتب له بذلك لقاضي المدينة، أو وكل وكيلاً يخاصم له بالمدينة.
قلت: وعلى نقل المازري عن المذهب أن من أثبت دينا على غائب أحلفه قاضي بلده يمين الاستبراء
، وحكم له بدينه على الغائب يكون رابعاً: إن الحكم ببلد الطالب، وإن لم يكن المحكوم فيه به.
قال فضل: قول ابن القاسم كمطرف بقوله في كتاب القسم في الرجل يرث الدار فيغيب، فيأتي رجل يدعيها: لا يحكم على الغائب إلا أن يكون بعيد الغيبة بحيث لا يقدر المدعي له يمضي إليه.
قلت: في أحكام ابن سهل ما نصه في أحكام ابن زياد: وكشف القاضي وفقه الله
فقال: إذا تداعى الخصمان مالا غائبا في غير بلدي هل لي أنظر بينهما؟
فقلت: بإجماع إن شاء الله إن ذلك يجب على القاضي، وإنما يتوقف عن النظر فيما يكون في غير بلده الذي لم يتعاقد الخصمان عنده لغيبة أحدهما، ثم ذكر ابن سهل عن
عيسى بن دينار مثل قول مطرف، وإن ابن بشر حكم به، وكتب به إلى قضائه، وذكر بعض ما قدمناه عن فضل، وما ذكره من الإجماع على نظر القاضي بين الخصمين فيما تداعياه غائباً عن بلد القاضي من الأموال خلاف ما تقدم لابن حبيب.
قلت: ومثل ما أخذوه من كتاب القسم يقوم من قولها في الشفعة: وإن كان الدار بغير البلد الذي هما فيه؛ فهو كالحاضر مع الدار فيما نقطع إليه الشفعة، ولا حجة للشفيع؛ إذ لا ينفذ حتى يقضيها لجواز النقد في الربع الغائب، ويقول ثاني عتقها: من ادعي بيد رجل عبداً أو عرضاً، وذلك كله غائب، وأتى ببينة تشهد أن ذلك له، فإن وصفته وعرفته وحلفه؛ سمعت البينة، وقضيت له بها.
والقضاء على الغائب: سمع ابن القاسم فيه: قال مالك: أما الدين؛ فإنه يقضي عليه فيه، وأما كل شيء فيه حجج؛ فلا يقضي عليه.
قال سحنون: والدين يكون فيه الحجج.
ابن رشد: مذهب مالك: إن قربت بينته؛ كمن على ثلاثة أميال كتب إليه، وأعذر إليه في كل حق؛ إما وكل أو قدم، فإن لم يفعل حكم عليه في الدين وسع عليه ماله من أصل وغيره، وفي استحقاق العروض والحيوان، والأصول، وكل الأشياء من طلاق وعتق وغيره، ولم ترج له حجة في شيء، وإن بعدت غيبته، وانقطعت كالعدوة من الأندلس، ومكة من إفريقية، والمدينة من الأندلس وخراسان؛ حكم عليه في كل شيء من حيوان، وعرض ودين، والرباع والأصول، ورجيت حجته في ذلك.
زاد في أجوبته: هذا التحديد في القرب والبعد؛ إنما هو مع أمن الطريق، وكونها مسلوكة، وإن لم يكن كذلك؛ حكم عليه، وإن قربت غيبته، ومن خلف البحر في الجواز القريب المأمون؛ كاليوم الواحد المتصل إلا في الأمد الذي يمنع فيه ركوبه، فالقريب فيه في حكم البعيد.
قال في البيان: والغائب في هذا السماع هو ذو مسيرة عشرة أيام وشبهها؛ لأن هذه
الغيبة هي التي يقضي فيها عليه عنده في الدين والحيوان والعروض دون الرباع والأصول التي تكون فيها الحجج، ومثله سماع أصبغ ابن القاسم، وترجى الحجة عند مالك له، فإن جرح البينة التي حكم عليه بها بإسفاه أو عدوه؛ رجع فيما حكم به عليه من حيوان أو عرض، وفيما قضي عنه من دين، ولا يرد ما بيع عليه فيه.
وقال سحنون بقول ابن الماجشون: أنه يقضي عليه في هذه الغيبة في الرباع وغيرها، ولا يرجع في شيء من ذلك عندهما بتجريح البينة التي حكم عليه بها بعداوة أو أسفاه إلا أن يظهر أنهم عبيد، أو غير مسلمين، أو مولى عليهم، فيرجع فيما قضى به عليه، ولا يرد ما بيع عليه لقضاء ذلك الدين؛ لأنه بيع بشبهة، فعلى قولهما؛ يوكل للغائب وكيل يحتج عنه ويعذر إليه، ولا ترجى له حجة.
المازري: في الحكم على الغائب في العقار قولان، ثم قال: ومقدار المسافة التي يحكم فيها على الغائب مصروفة إلى الاجتهاد، ووقع لسحنون الإعذار لمن بصقلية، ووقع في رواية أخرى: يحكم على الغائب، ولو قربت غيبته إلا أن يقرب جداً.
قلت عن سحنون: الإعذار لمن بصقلية؛ يعني من القيروان، قاله في النوادر، ونقله في رواية أخرى يحكم على الغائب، ولو قربت غيبته يوهم أنها عن مالك أو سحنون لقوله أخرى بعدما نقله عنه، ويوهم أنها مطلقة، وهي في النوادر عن أصبغ في غير العقار.
ابن حارث: اتفقوا في إجازة الحكم على الغائب في الديون والعروض، واختلفوا في الرباع؛ فروي ابن القاسم: لا يحكم على غائب في الرباع.
قال ابن حبيب: فأعلمت ابن الماجشون برواية ابن القاسم فأنكرها وقال: لا يقول هذا مالك، وما هو مذهبه، ولا مذهب أصحابه، وذكر عن أصبغ: أنه يحكم عليه في الربع في الغيبة البعيدة المنقطعة.
قلت: ظاهرة: أنها عنده ثلاثة أقوال، وظاهره: ما تقدم لابن رشد أن الخلاف في الحكم عليه في الربع؛ إنما هو في استحقاقه فقط لا في بيعه عليه في دين في دين ثبت عليه، وهو مقتضى قول غير واحد في بيع أصوله في نفقة زوجته، وتقدم الخلاف بين الشيوخ في
بيعها في نفقة أبويه، وظاهر نقل المازري وابن حارث: أن الخلاف فيه مطلقًا، وعزو ابن عبد السلام: الخلاف في بيع ربعه في الدين للعتبية لا أعرفه، ولا أشار إليه ابن رشد بوجه؛ بل قال في أول مسألة من رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب المديان ما نصه: لا خلاف في وجوب بيع مال الغائب لغرمائه، كما لو كان حاضرًا.
قلت: ولا خلاف في بيعه في دينه لو كان حاضرًا وفي قسمها.
قلت: لو أن دارًا بيد غائب ادعى رجل أنه وارثها مع الغائب، أيقبل القاضي منه البينة أم لا؟ قال: لا أحفظه عن مالك إلا أني سمعت من يذكر عنه في هذا: أن الدور لا يقضى على أهلها فيها، وهو عيب وهو رأيي.
قال ابن القاسم: إلا أ، تكون غيبة تطول، فينظر في ذلك السلطان مثل من يغيب إلى الأندلس أو طنجة يقيم في ذلك الزمان الطويل، فأرى أن يقضي له السلطان به، واختصرها أبو سعيد سؤالًا وجوابًا؛ لعدم مطابقة الجواب السؤال، وهذا لأن لفظ السؤال؛ إنما دل على السؤال عن سماع البينة على الغائب حال غيبته فيما ادعي عليه، فأجابه عنه بعدم الحكم عليه، وسماع البينة عليه ليس نفس الحكم عليه، ولا أخص منه بحيث يستلزم نفيه نفيها؛ بل هي أخص منه مطلقًا، ومن وجه باعتبار وجودها لا باعتبار صدق أحدهما على الآخر؛ لأنهما بهذا الاعتبار متباينان.
قال ابن الحاجب: إثر ما تقدم من سماع البينة في غيبة الخصم، وخلاف سحنون في ذلك ما نصه: ويحكم بالدين وغيره مما يتميز غالبًا بالصفة؛ كالعبد والفرس، وقيل: ما لم يدع الحرية، أو يدعيه ذو يد، فحمله ابن عبد السلام على سماع البينة بذلك حال غيبة المشهود عليه لا على الحكم عليه بذلك؛ لأنه قال في قول ابن الحاجب: وفي العقار ثالثها: في الغيبة البعيدة ما نصه: هذا يوهم أنه فرع من المسألة التي فوقه، وليس كذلك، فغن المسألة السابقة معروضة في المحكوم به هل يشترط حضور لتشهد البينة على عينه ويشبه ذلك أو لا؟ وهذه المسألة إنما المراد بها هل يشترط حضور المحكوم عليه ليستو في حجته أو لا؟
وقال ابن هارون: معناه: أ، المحكوم به إن كان غائبًا هل يعتمد على الصفة في
القضاء به أم لا؟ في ذلك الدين، والأمر فيه، واضح؛ إذ لا يتأتى إلا أن يكون موصوفًا.
ومنها: العبد والأمة والفرس ونحوها مما يتميز بالصفة فهذا قال ابن القاسم وسحنون: يحكم فيه بالصفة إن كان غائبًا.
وقال ابن كنانة: إنما ذلك إذا كان العبد لا يدعي حرية، ولا يدعي حائزه ملكه، والأول مذهب المدونة.
قال في كتاب اللقطة فيمن استحقت من يده أمه: أن له يذهب بها إن كان أمينًا، أو يستأجر أمنيًا إلى بلد البائع؛ لتشهد البينة على عينها، ويضع قيمتها، ويكتب له إلى قاضي ذلك الموضع؛ ليرجع بالثمن على البائع، قيل: فإن قال البائع: أقم البينة أن هذه الأمة هي التي حكم عليك بها، قال: لا يلزمه ذلك؛ بل بكفيه أن تكون صفتها موافقة لما في كتاب القاضي إن ثبت بالشهادة، فإن قلت: إذا كان الحكم بالصفة عنده جائزًا، فلم أجاز للمستحق منه الذهاب بها إلى بلد البائع؛ لتشهد البينة على عينها، وكان يجب على أصله أن يقضي له على بائعه برد الثمن إذا شهدت له البينة أن الأمة التى باع له موافقة لما في كتاب القاضي من الصفة.
قلت: يحتمل إنما جوز له الذهاب بها لبلد البائع؛ لأن قاضيه قد يكون ممن لا يرى الحكم بالصفة.
قلت: حمل ابن عبد السلام كلام ابن الحاجب: ويحكم بالدين وغيره إلى قوله: أو يدعيه ذو يد على سماع البينة بذلك حال غيبته خلاف، حمله ابن هارون على القضاء بذلك حال غيبته، فما حمله عليه ابن عبد السلام هو ثابت في نفس الأمر؛ لأن الخلاف في سماع البينة بالشيء حال غيبته باعتبار صفته ثابت حسبما تقدم إلا أنه بعيد من لفظ ابن الحاجب؛ ولهذا اضطر ابن عبد السلام إلى قوله في قول ابن الحاجب: وفي العقر ثالثها: إلى آخر هذا يوهم أنه فرع من فروع المسألة، وليس كذلك، وما ذكره غير لازم؛ بل قول ابن الحاجب؛ إنما هو في الحكم بالشيء المشهود به باعتبار صفته لغيبته إذا ثبتت تلك الشهادة بخطاب قاض بها لصحة سماعها عنده لقاض آخر المشهود به حاضر عنده، وفي حكمه بهذه البينة حال حضور المشهود به، ومطابقته الصفة التي
كتب بها القاضي من شهادة البينة بها، وحضور المشهود عليه مطلقًا، ولو في الربع ومنعه ثالثها: إلا في الآبق؛ لأن من تمام البينة بها بعض صفته محله، وهو فيه متعذر، ورابعها: إلا من يدعي الحرية، أو ما كان بيد حائز يدعي ملكه ريعًا كان أو غيره، لفضل عن ابن القاسم مع أشهب وابن رشد عن جميع أصحاب مالك إلا ابن كنانة وابن دينار، وله عن ابن كنانة، وابن دينار، ولفضل عنه.
وإذا ثبت هذا، والمحكوم عليه حاضر؛ استقام حمل كلام ابن الحاجب على الحكم به، والمحكوم عليه غائب؛ لأن كل ما حكم به على الحاضر؛ استأجر ذكر الخلاف في الحكم به، والمحكوم عليه غائب، ولما تقرر في كلامهم في الحكم على الغائب انقسامه إلى حكم عليه في غير الربع، وإلى حكم عليه في الربع، وجب حمل كلام ابن الحاجب على القسمين، وامتنع حماه على غير ذلك؛ لصلاحيته لهما دون غيرهما.
وقول ابن هارون معناه: أن المحكوم به إذا كان غائبًا هل يعتمد على الصفة في القضاء به أم لا؟ إلى قوله قال ابن القاسم وسحنون: يحكم فيه بالصفة، وهو مذهب المدونة ظاهره أو نصه: أن قول ابن القاسم وسحنون والمدونة: أن القاضي يقضي بالشهادة المتعلقة بالشيء حال غيبته باعتبار صفة حال غيبة المقضي به عن القاضي الحاكم به، وحال غيبة المقضي عليه مثل أن يدعى رجل بتونس آبقًا بالقيروان، أو عبدًا بيد رجل بها، ويقيم عند قاضي تونس بينة به باعتبار وصفه الآبق، وباعتبار صفة العبد الكائن بيد الرجل، وباعتبار اسمه ونسبه وصفته، فعلى المشهور في هذه المسألة؛ يسمع منه قاضي تونس بينته بذلك، ويكتب له بسماعها وعدالتها لقاضي القيروان، فإن ذهب به، وأثبته عنده، ووجد الآبق، قد قلت: واستقر بالإسكندرية، ووجد الرجل والعبد بيده، انتقلا إلى الإسكندرية؛ فالواجب على ظاهر أكثر الروايات، وأقوال المذهب: أن قاضي القيروان يكتب بما ثبت عنده من كتاب قاضي تونس إلى قاضي الإسكندرية، ولا يحكم لحامل الكتاب بما كتب له به قاضي تونس، وعلى ما فسر به ابن هارون كلام ابن الحاجب يقضي قاضي القيروان لحامل الكتاب، وينفذ الحكم له النص قولة: إن المحكوم به إذا كان غائبًا، فقول ابن القاسم وسحنون: أنه يحكم فيه بالصفة، فإن قلت: إنما
تضمن كلامه الحكم بذلك حال غيبة المحكوم به فقط لا في حال غيبته وغيبة المحكوم عليه، والحكم بالشيء الغائب حضور المحكوم عليه جائز حسب ما تقدم في أن المعتبر في الحكم محل المحكوم عليه والمحكوم له.
قلت: بل نص قوله: يقتضي أنه يحكم بالشيء الغائب حال غيبة المحكوم عليه لقوله، فمن ذلك الدين والأمر فيه واضح، قلت: والحكم بالدين إلغاء ملزوم لغيبة المحكوم عليه، فتأمله إلا أنه يأتي للمتيطي ما ظاهره صحة الحكم مع غيبة المحكوم به، وعليه بقيد كونه من أهل بلد الحاكم، ويأتي للمازري النص بالحكم بذلك دون قيد.
المتيطي: أول نظر القاضي في الحكم على الغائب تكليفه طالبه بإثبات غيبته ومحله ليعلم قرب غيبته من بعدها، فإن قربت غيبته؛ أعذر إليه حسبما ذكره في المدونة وغيرها.
قلت: نحوه نقل النوادر عن أصبغ: إن قال الطالب: غيبة خصم بعيدة يستحق أن يقضي عليه عند القاضي البينة على ذلك.
المتيطي: إن بعدت غيبته، وهو من أهل مصره؛ خرج عنه مسافرًا غير منتقل بحل، وأمضى الحكم عليه دون أعذار، وإن كان من غير أهل بلده الذي استقضى عليهم؛ لم يسجل عليه، فإن ذلك ليس إليه؛ إنما له أن يقيد شهادة البينة عليه، ويسميها، ثم يشهد على كتاب ذلك من يشهد بذلك عند قاضي البلد الذي به المدعى عليه.
وفي أسئلة الشيخ أبي عمرو وأبي بكر ابن عبد الرحمن: أن الحكم على الغائب الذي يعمل على غير عمل الحاكم عليه؛ جائز إن كان للغائب في موضع الحاكم ما يحكم عليه فيه؛ لأنه يحكم في شيء تحت حكم، وفي بلده الذي ولي النظر فيه؛ وإنما الذي لا يجوز حكمه عليه لو كان المحكوم عليه لا مال له ببلد الحاكم.
قلت: ظاهر ما نقله عن الشيخين: أنه خلاف ما ذكره قبل جوابهما، فيحتمل أنه الحكم على الغائب الذي هو من عمل القاضي حال غيبته مع غيبة المحكوم به عن محل القاضي، أو منع الحكم على الغائب الذي ليس من عمل القاضي، وإن كان المحكوم به حاضرًا ببلد القاضي مع المحكوم له، وقول ابن هارون، فإن قلت: إذا كان الحكم
بالصفة جائزًا؛ فلم أجاز للمستحق منه الذهاب بها إلى بلد البائع؛ لتشهد البينة على عينها، ويجب على أصله أن يقضي له على أصله برد الثمن إذا شهدت له البينة أن الأمة التي باع له موافقة لما في كتاب القاضي من الصفة إلى آخره جوابه عن هذا السؤال يرد جوابه بان ظاهر أقوال متقدمي أهل المذهب ومتأخريهم، وجواب نهاية المستحق من إسعافه بخروجه بالمستحق منه إلى بلد بائعه بشروط مقدرة في آخر مسائل الاستحقاق حسبما تقدم ليس لاحتمال كون المكتوب إليه ممن لا يرى الحكم بالصفة بأنهم ذكروا الكتاب والحكم بخروجه به بين قضاة الأندلس وكورها حسبما ذكره ابن سهل وابن رشد وغيرهما، والمعلوم من حال عامتهم الحكم بالصفة والجواب عن توهم السؤال المذكور أن وجوب إسعافه بالخروج به؛ إنما هو لتحصيله موجب رجوعه على بائعه منه بثمنه؛ لأنه يجب له الرجوع عليه لمجرد بينة الاستحقاق؛ لأنها لا تتضمن كون المستحق من يده اشترى المستحق، ولا تعيين من باعه له، فواجب حينئذ على المستحق منه إقامة البينة بأن ما استحق منه أنه ابتاعه من فلان الذي طلبه بثمنه، والبينة بابتياعه منه مع حضور المستحق متيسرة غير متعسرة؛ لأن الإنسان إذا رأى عين المبيع عرفه، وأمكن أن يشهد بأنه نفسه، فلو لم يحكم له منه ممن طلب ثمنه منه، وإن كان غائبًا وافتقر إلى البينة بأنه ابتاعه من الذي طلبه بثمنه لعسر عليه إقامة البينة بذلك؛ لجواز ذهول من حضر معه على شرائه لمن طلبه بثمنه عن صفته الخاصة؛ لغيبته عنه، وعدم ضبطه صفته حين الشيء، أو هو لو حضر علم أنه المشترى والمتصف يجد علم هذا من نفسه، فلو لم يحكم له بخروجه به لبلد بائعه؛ أدى إلى ضرره بذهاب ثمنه، وشرط الحكم على الغائب بقضاء دين عليه مع البينة به يمينه على بقاء دينه عليه إلى حين الحكم له ذلك.
قال ابن رشد في نوازله: هذه اليمين لا نص على وجودها؛ لعدم الدعوى بما يوجبها إلا أن أهل العلم رأوها على سبيل الاستحسان احتياطًا للغائب، وحفظاً على ماله للشك في بقاء الدين عليه أو سقوطه عنه.
قلت: وسمع عيسى ابن القاسم: من أثبت حقًا على غائب عند قاض، ويريد
الخروج في ذلك، ويوكل أيستحلفه؟ قال: يستحلفه في الوجهين أنه ما أقتضى، ولا أحال ولا قبضه بوجه من الوجه، ثن يكتب له بوكالته: إن وكل، وثبت عنده، وقاله أصبغ عن ابن القاسم.
ابن رشد: قيل: ليس على الإمام أن يستحلفه في الوجهين خروج أو وكل، ويكتب له دون يمين؛ لأنه يقول للإمام: لعله لا يدعي علي أنه قضاني منه شيئًا، وهو ظاهر ما في رسم حمل صبيًا من سماع عيسى من كتاب البضائع، ونوازل أصبغ منه، قلت: وصفة لفظ يمينه ما تقدم في السماع.
وفي الوثائق المجموعة: يحلف حيث يجب الحلف قائمًا مستقبل القبلة بالله الذي لا إله إلا هو ما اقتضيت من فلان ابن فلان الغائب شيئًا من الدين ثبت لى عينه عند فلان ابن فلان صاحب أحكام كذا، ولا قبضت شيئًا عنه، ولا استحلت به على أحد، ولا أحلت به أحدًا عليه، ولا وهبته له، ولا شيئًا منه، ولا قدمت أحدًا يقبضه منه، وإنه لباق عليه إلى يميني هذا.
(؟؟؟؟؟؟؟؟)، ولو كان في وثيقة دين الطالب أنه مصدق في الاقتضاء بخلاف الحاضر على القول بإعماله فيه، وسقوطهما عنه لشرطه ثالثها: يحلف علي على غير الاقتضاء من الهبة، وأنه لم يأخذ عوضًا ولا غيره مما يحلف عليه، لابن عات عن ابن العطار موجهًا قول محمد: الغائب على الحياة إن ثبت موته في ذلك الوقت؛ كان لوراثة الحجة، وإن قدم وادعى أمرًا؛ كان له، ولمحمد بن عمر محتجًا له بأنه لو كان حاضرًا ربما أقام بينة بالدفع، ولعله ميت في ذلك الوقت، ولصاحب الانقضاء من الباجي.
المتيطي: في إعمال تصديق رب الدين في اقتضاء دينه دون يمين يلزمه في دعوى القضاء، ولو كان غير مأمون ثالثها: إن كان مأمونًا، ولو كان التصديق بعدم تمام صفقة المعاملة طوعًا لا شرطًا فيها، ففي تقرر الخلاف فيه كما لو كان شرطًا فيها، ولزوم الوفاء به اتفاقً نقلا ابن عات عن أبي عمر أحمد بن عبد الملك، وأحمد بن عبد الله.
قلت: الأظهر أن قرب طوعه من العقد؛ فالأول وإن بعد عنه فالثاني.
ابن فتوح عن محمد بن احمد: لا يجوز شرط إسقاط اليمن في السلف؛ لأنه سلف جر نفعًا، فإن شرط، فهو لغو، فإن كان السلف إلى أجل؛ انفسخ
وذكر ابن شاس في صفة يمينه: أ، القاضي يحلفه بعد البينة على عدم الإبراء والاستيفاء، والاعتياض، والإحالة والاحتيال، والتوكيل على الاقتضاء من جميع الحق، ولا في بعضه، ولا يجب التعرض في اليمين؛ لصدق الشهود
وقال الشيخ أبو إسحاق: يقول في آخر يمينه: وإنه لحق ثابت عليه إلى يومه ذلك
واختصره ابن الحاجب معبرًا عن قول ابن شعبان، وإنه عليه إلى الآن، وهو أنص من قوله: إلى يومه، ولفظ ابن شعبان في الزاهي كنقل ابن شاس
وقوله: إلى يومه، ولفظ ابن شعبان في الزاهي كنقل ابن شاس
وقول ابن فتوح والمتيطي: وإنه الباقي عليه إلى يميني هذه، ففي لغو زيادة إنه باق عليه، ولزومها بيوم حلفه أو إلى الآن ثالثها: لوقت يمينه لسماع عيسى مع نقل ابن شاس عن معروف المذهب، وابن شعبان، ونقل ابن الحاجب، وقبل ابن عبد السلام غمز بعضهم زيادة الموثقين وغيرهم: أنه لم يسقط عنه من الدين شيئًا بضعف توجه دعوى الهبة على أحد القولين، وكذا فضل الإبراء الذي ذكره المؤلف، ويرد الأول بمنع، فنفذ توجه دعوى الهبة على أحد بالقولين، وبكذا فضل بالإبراء
قال الباجي في ترجمة ما يجوز من العطية: من ادعى على رجل بعينه، فظاهر المذهب أ، لا يمين على المدعى عليه
وقال ابن الجلاب: عليه اليمين، إن نكل؛ حلف المدعي، وأخذ بها، وأما ما كان في الذمة، كمن عليه دين يدعي على ربه أنه وهبه له؛ فالظاهر أن عليه اليمين، ويحتمل أن تقسم قسمة أخرى إن كانت الهبة لغير يد الموهوب؛ فلا يمين على الواهب، وإن كانت بيد الموهوب؛ فعليه اليمين كانت معينة، أو في الذمة، ويصحح هذا التقسيم أن من استحق عرضًا بيد رجل؛ لم يحكم له حتى يحلف أنه ما باع ولا وهب
وقوله: وكذا فضل الإبراء الذي ذكره؛ يرد بأن إيجابهم هذه اليمين؛ لكمال الاحتياط للغائب يوجب أن تكون ألفاظها الدالة على نفي ما يتوهم أنه سقط للدين تدل على ذلك نصًا لا تضمنًا ولا التزامًا.
وفي "نوازل ابن رشد": لو حلف الطالب هذه اليمين، وتأخر اقتضاؤه مدة طويلة لجمع مال الغائب، أو بيع عقاره؛ إذ تقرير الدعاوى في هذه المدة ممكن، وفرض حجج المحكوم عليه مانعة؛ كحاله أولى من احتمال سقوط الدين، كما لو كان المدين حاضرًا، وادعى ذلك على الطالب، فأحلفه، ثم تأخر تنفيذ القضاء؛ لطول بيع ربعه، ثم ادعى على الطالب مثل ذلك؛ فإنه يحلف له ثانية، ولو كان الدين نجومًا، فحلف عند أولها أيحلف عند النجم أم لا؟ كمن حلف مع شاهد له بحق، ثم ظهر له أن له في شهادته حقًا آخر ما ينفع فيه الشاهد واليمين، فإنه لا يحلف ثانية، فأجاب بأن الصواب أن لا تعاد عليه اليمين؛ إذ لو أعيدت عليه؛ لاحتمال ما ذكرت؛ لوجب أن تعاد عليه لو حلف، وجاء ليقبض حقه؛ لاحتمال وصوله إلى حقه في رجوعه من محل حلفه لدار القاضي ولا حقًا ببطلانه.
قلت: لا يلزم من لغو احتمال وصوله إلى حقه مدة رجوعه من محل حلفه لدار القاضي لغو احتمال وصوله إلى حقه مدة رجوعه من محل حلفه لدار القاضي لغو احتمال وصوله إلى حقه في المدة التي وصفها السائل، وعبر عنها بالطول؛ لأن احتماله مع الطول أقوى منه مع القصر، وقد أشار هو إلى هذا المعنى في الدين المنجم حسبما تذكره.
قال ابن رشد: ولا يشبه هذا إذا كان حاضرًا، فادعى عليه أنه قد قضاه بعد ذلك أو وهبه إياه؛ لأن اليمين عليه واجبة هنا بنص قوله صلى الله عليه وسلم:((البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر)) بخلاف اليمين للغائب لا نص على وجوبها، كما تقدم، ولو تأخر القضاء بعد يمينه إلى أن جاء الغائب، فأقام معه مدة، ثم غاب لوجب أن لا يقضى حقه حتى يحلف ثانية؛ لأن اللفظ هنا حاصل كما كان أول مدة، والدين المنجم لا يجب عليه أن يحلف عند كل نجم منه إلا أن يقدم الغائب في خلاله، أو تبعد النجوم بحيث يمكن أنه بعد قبضه النجم الأول مضى، فاقتضى النجم الثاني، أو وكل من اقتضاه، ولا خلاف في عدم حلفه ثانية إذا حلف مع شاهد له بحق وذكرها.
ابن عات: وقال السائل له: عياض: قال ابن عات: وهذا يقتضي أن اليمين تكون قبل بيع ربع الغائب.
قال المازري في الجواب الثالث: إذا سمع القاضي البينة على الغائب بحق عليه، والراد إلزام القضية فيه؛ فلا بد أن يستحلف الطالب أنه ما قضاه شيئًا من هذا الحق، ولا أسقطه حسبما مر، واختلف العلماء في كون هذا الاستحلاف احتياطًا للغائب أو واجبًا على القاضي لا يصح الحكم إلا به، فإن لم يستحلفه، فإن الحكم إذا بلغ الغائب؛ مكن من القدح فيه، فإن أدعى أنه قضى هذا الحق؛ فهي مسألة فيها إشكال وقف فيها حذاق العلماء، وعندنا فيها قولان: أحدهما: لا يلزم المحكوم عليه تسليم الحق حتى يستحلف له طالبه، فيعود من قدم بالحكم حتى يتممه باستحلاف القاضي الطالب؛ لأن القاضي يبرم القضية بقول في حكمه: أوجبت على فلان الغائب هذا الحق، وقضيت عليه به، وهذا لفظ يقتضي القطع بأنه ثابت عليه، ومع تجويز دعوى القضاء لا يتأتى القطع به، وقيل: يلزمه دفع الحق به، وينصرف لطلب يمين الطالب، وهذا إذا أثبت الحق منه على الغائب مستحقه، ولو أثبت وكيل المستحق؛ لم يطلب بهذه اليمين، ويرجى أمرها إلى أن يدعيها الغائب إذا ورد الحكم عليه.
قلت: كذا وقع هذا اللفظ للمازري، وتلقاه ابن عبد السلام بالقبول، وفيه تناف؛ لأن قوله أو لا؟ لم يطلب بهذه اليمين، ويرجى أمرها يقتضي أنه لا ينفذ الحكم عليه؛ لأن قوله: إذا ورد الحكم عليه يقتضي عدم تقدم نفوذه عليه، فتأمله منصفًا، ثم قال متصلًا بكلامه السابق: وأما الميت والصبي والمجنون؛ فإنهم لا يقضي عليهم بالديون إلا بعد استحلاف الطالب لهم؛ لكون الميت يستحيل منه أن يدعي قضاء الدين، وكذا الصبي والمجنون ما دام كل منهما بصفته.
قلت: مقتضى كلام المازري: أن من أقام بينة بدين على غائب عند قاضي بلد الطالب أن القاضي يقضي له بدينه على الغائب، ويحكم له به، ويقوم منه أن المعتبر في القضاء محل الطالب، وإن لم يكن به المحكوم به، ولا المحكوم عليه، وتقدم الخلاف في ذلك، ونحو مقتضى كلام المازري نقل الشيخ في النوادر عن ابن القاسم ما نصه: يسمع البينة على الغائب بالقتل، ويقضي عليه وهو على حجته إذا قدم، ولا تعاد البينة.
وعن سحنون: قد يحكم على الغائب بالقتل ويقضي عليه، وهو على حجته إذا
قدم، ولا تعاد البينة.
وعن سحنون: قد يحكم على الغائب بأنه قتل ببينة فلانًا خطًأ؛ فإنه يقضي على العاقلة بالدية لأوليائه، والعاقلة غائبة.
وظاهر سماع عيسى ابن القاسم: أنه يسمع بينته بدينه على الغائب، ولا يقضي له؛ لأنه سئل عن من ثبت له حق على غائب عند القاضي؛ ويريد الخروج في ذلك، أو يوكل أستحلفه، قال: يستحلفه خرج، أو وكل أنه ما اقتضى، ولا أحاله، ولا قبضه بوجه من الوجوه، ثم يكتب له، وقال أصبغ عن ابن القاسم.
ابن رشد: قيل: ليس على الإمام أن يستحلفه خرج أو وكل، ويكتب له دون يمين؛ لأنه يقول للإمام: لا تحلفني، فلعله لا يدعي على أنه قضاني شيئًا منه، وهو ظاهر ما في رسم حمل صبيًا من سماع عيسى من كتاب البضائع، وما في نوازل أصبغ عنه: فإن كتب لوكيله على هذا القول، ولم يستحلفه، فطلب الغريم، فادعى أنه دفع لموكله دينه أو بعضه، فإن قربت غيبته على مسيرة يومين ونحوهما أخر حتى يذهب إليه؛ فيحلف، وإن بعدت غيبته؛ لم يؤخر، وقضي عليه بالدين، وهو نص محمد بن عبد الحكم، ومعنى قول ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب البضائع فيمن وكل رجلًا على طلب عبد له في بلد آخر، فيقيم البينة أنه لمن وكله أن الإمام لا يقضي له حتى يحلف الموكل ما باع ولا وهب، فإن قرب أمر أن يأتي به، فيحلف، وإن بعد؛ كتب لإمام بلده الذي ثبت عنده توكيله، فأمره أن يحلفه، فإن أتاه جواب كتابه أنه أحلفه؛ قضى به لوكيله، ولا يقضي لوكيله بالدين حتى يكتب إليه، فيحلفه في موضعه الذي هو فيه، وفرق بعض المتأخرين بين المسألتين بأن اليمين في مسألة العبد من تمام الشهادة، فهى يمين يوجبها الحكم.
وفي مسألة الدين: ليس اليمين من تمام الشهادة، ولا مما يوجبه الحكم، وحمل ابن أبي زيد المسألتين بعضهما على بعض، وهو بين من قول أصبغ.
لابن حبيب: حكي عنه في مسألة العبد: أنه يقضي به الوكيل في غيبة الموكل إن بعدت، ففي وقف القضاء على حلف ثالثها: في العبد لا في الدين.
لابن كنانة في المجموعة مع ابن القاسم في المدينة: يحلف الوكيل على العلم، وحينئذ يقضي له.
قلت: ظاهره: في العبد والدين، وإنما ذكره في النوادر عن ابن كنانة دون ابن القاسم، وذكره في الدين لا اللعبد فقال: يحلف الوكيل أنه ما علم أنه قبض منه شيئًا.
ابن رشد: وأما في الغيبة القريبة؛ فلا يقضي له في المسألتين حتى يحلف اتفاقًا.
قال ابن الحاجب في الحكم على الغائب ما نصه: وذلك إذا كان غائبًا عن البلد أو متواريًا أو متعذرًا.
قلت: ظاهره: أنه يحكم عليه في مجرد الغيبة، وقد تقدم أن قريب الغيبة كالحاضر، وتحديد القرب والبعد.
وقوله: أو متواريًا؛ ظاهره: ولو لم يعذر إليه في تواريه، وهو تابع في ذلك لابن شاس.
قال ابن شاس: قاله سحنون: لا تسمع البينة دون حضور الخصم إلا أن يتوارى أو يتعذر؛ فيقضي عليه كالغائب.
قلت: قوله: فيقضي عليه كالغائب؛ لم أجده في النوادر لسحنون، ولا لغيره، وما ذكره عن سحنون نصه في الواضحة: سحنون: لا يرى إيقاع البينة إلا بمحضر الخصم إلا أن يكون غائبًا غيبة بعيدة، ولم يذكر ما نقله ابن شاس من قوله: إى أن يتوارى، وكذا له في النوادر.
وتواري الخصم عن خصمه، وهو معه في بلده كثير نزوله، وما سمعت ولا شاهدت أحدًا من القضاة حكم عليه كالغائب.
قال ابن فتوح: من ذكر لقاض أن خصمه غيب وجهه داخل دار؛ ليبطل عليه حقه، وسأل الحاكم أن يسمر عليه باب الدار؛ ليخرج لمحاكمته؛ لزمه أن يثبت أن غريمه يسكن بالدار التي أراد تسميرها، وليس عليه إثبات ملكه لها، فإن أثبت أنه ساكن فيها سمرها؛ سكنها بكراء أو عزو.
قلت: فظاهره: أنه لا يحكم على المتواري بالبلد، وفي ترجمه ما يحتمل عليه القاضي
في إنفاذ الحكم إن أراد الأعذار للمطلوب؛ لم يمكنه ذلك، كتغيبه بموضع يمنع فيه من الخروج أنه ثبت عند القاضي أنه بذلك الموضع؛ فعليه أن يستعين بالسلطان بان يبعث إلى الخصم من يخرجه إلى حيث ينتصف منه، وقال بعضهم: إن امتنع بموضع أمر السلطان بتثقيف ذلك الموضع إن لم يوصل إليه، وضيق عليه حتى يخرج، وإذا خرج؛ عوقب على امتناعه، فإن طال أمره، وأضر ذلك برب الحق أمر بالدخول عليه بهدم أو غيره، وإن بلم يمتنع الدخول عليه إلا أنه مختلف بالموضع الذي هو به أمر السلطان من يثق به من أهل السماع بان يعزل النساء إلى ناحية، ويفتش الموضع الذي يطمع أنه فيه، فإن أعيا السلطان أمره، ولم يجده؛ سمع بينة الطالب، وقضى له عليه، وكذا المرأة، وكيف يصح ما نقله ابن شاس عن سحنون من الحكم على من توارى على نقله الشيخ وغيره عنه: أنه لا يحكم قاضي القيروان على من بصقلية حتى يكتب إليه، ويعذر غليه إلا أن يفرق بتعذر الأعذار إليه، وقد يؤخذ ما نقله عن سحنون من نقل الشيخ عن أصبغ ما نصه: يقضي على الغائب، ولو قربت غيبته إلا أن يقرب جدًا بحيث يبلغه الكتاب بغير ضرر على الغرماء، فيكتب إليه يعلمه بما ثبت عنده، ويأمره أن يقدم، فإن لم يقدم؛ باع عليه، وقضى غرماءه، فإن قدم وجاء بما يزيل عنه الحق؛ مضى البيع، وأتبع بالثمن من أخذه.
وفي سماع أشهب: كتب مالك إلى ابن غانم: وسألت عمن أوقع عندك البينة على رجل حاضر في أرض بيده، فهرب بعد وقوع البينة عليه، فأرى إن كان خاصمه عندك، ووقعت عليه البينة بما يحق له الأرض، ثم هرب أن يقضي لمدعيها.
ابن رشد: إن هرب بعد استيفاء حجته فرارًا من القضاء عليه؛ حكم على وعجزه، ولا قيام له إن قدم بحجة كما لو قضي عليه وهو حاضر، ولو تغيب قبل أن يستوفي حجته؛ فالواجب في ذلك أن يتلوم له، فإن لم يخرج وتمادى على مغيبه وإخفائه؛ قضى عليه.
وقول ابن الحاجب: وقال ابن عبد الحكم: إن كان له بالبلد مال أو حميل أو وكيل وإلا نقلت الشهادة هو نقل الشيخ عنه ما نصه قال: لا يجوز للقاضي أن يحكم على
غائب عن البلد الذي ولي الحكم بين أهله، ولا مال له بها إنما يحكم على رجل حاضر البلد، أو على مال له بذلك البلد أو حميل أو وكيل، وغير ذلك ليس له أن يحكم عليه؛ لأنه لم يول الحكم بين جميع الناس؛ إنما ولي على أهل البلد خاصة، ولكن تنقل الشهادات إلى غيره من القضاة.
قلت: ظاهره: لو كان غائبًا عن بلد القاضي بموضع للقاضي ولاية عليه أنه يحكم عليه لا بقيد ما ذكره.
وقد تقدم ما اشرنا إليه من اختلاف نقل المازري عن المذهب: أن القاضي يحكم على الغائب بالحق عليه، وإن لم يكن له ببلد الحاكم مال ولا غيره، خلاف ظاهر سماع عيسى ابن القاسم، فعلى طريقة المازري؛ يكون قول ابن عبد الحكم خلافًا، وعلى ظاهر سماع عيسى لا يكون خلافًا.
ابن عبد السلام: ما شرطه من حضور الوكيل لا يظهر له كبير فائدة؛ لأنه إن كان للمدعي عند الوكيل مال؛ فالمال وحده كاف، وإن لم يكن؛ فلا معنى لنزاعه معه إلا أن يكون الوكيل مفوضًا إليه يلزمه الموكل إقراره.
قلت: يرد بأنه قد يكون الوكيل لا مال له تحت يده لموكله المذكور ببلد القاضي، وتحت يده له مال بيد آخر، وقد يكون للطالب بينة بحقه؛ فلا يفتقر؛ لكونه مفوضًا إليه؛ ليلزم إقراره، والفائدة: تنجيز حكم الحاكم له بحقه.
وفي سماع أشهب: سألته عن من مات، وترك زوجه بيدها ماله ورباعه، وله أخ غائب، فقام ابنه وأراد أن يثبت أن كل المال الذي بيدها لعمله ليس لها منه شيء قال: وأنا وارث ألبي، ولا وكالة له من قبله، ويقول: أنا اثبته لا تدفعوه لي، ودعوه بيد غيري أو يقوم بذلك أجنبي عن الغائب، فقال: أرى ذلك للابن، ولا يدفع له المال، ويوضع على يد عدل، وأما غير الابن؛ فلا أدري ما هذا.
ابن رشد: وكذا الأب فيما ادعاه لابنه وقع ذلك في الجدار.
وفي الواضحة ذلك في الأب أوضح منه في الابن: ولم يجز ذلك لمن سواهما من القرابة على ماله قفي الرسم الذي بعد هذا.
وفي رسم الكبش من سماع يحيى غير أنه زاد فيه: أنه يمكن من إيقاع البينة، وإثبات الحق لا أكثر، فليس ما في رسم الكبش بمخالف لما في هذا السماع، وحمله بعض أهل النظر على خلافه غير صحيح، فإذا ثبت ذلك للغائب، وضع له بيد عدل، فإن جاء وادعاه أخذه بغير يمين ربعًا؛ كان أو غيره، كما لو كان حاضرًا، فنازعته زوجته، فأقام بينة عليه بخلاف ما يدعيه، وهو بيد غيره لا يستحقه إلا بعد يمينه أنه ما باع، ولا وهب حاش الأصول على اختلاف فيها، فإن أقر أنه لا حق له في ذلك رد للمرأة إلا أن يكون مدينًا بما يستغرق ماله، وإن كان قبل قدومه، ورث عنه، وإن أقام غرماؤه فيه؛ قبل قدومه أعدوا فيه، وقضى لهم فيه، ففي قصر القيام عنه دون توكيل منه على ابنه وأبيه وعمومته فيهما، وفي الأجانب ثالثها: يمكنون من إقامة البينة لا الخصومة، ورابعها: لا يمكن واحد منهما، وخامسها: يمكن منهما الأب والابن فقط، ويمكن غيرهما، والأجنبي في العبد والدابة والثوب؛ لفوتها، وتغيرها لا فيما سوى من ذلك من دين وغيره لهذا السماع مع سماع يحيى وسحنون قائلًا: يوكل القاضي من يقوم للغائب بحقه، وأول رواية لا يقوم عن غائب أحد بغير وكالة، فإنه فيما طال من الزمان، ودرس فيه العلم مع أحد قولي ابن الماجشون وغيرهما، والأخوين وابن حبيب عن مطرف، وعلى القول بالقيام عنه في كونه في قريب الغيبة وبعيدها، وقصره على قريبها قولان لظاهر هذا السماع مع أبي زيد عن ابن الماجشون وسحنون مع ابن حبيب عن رواية مطرف قال: ولو لم يقم القائم على الغريم بحق الغائب إلا شاهدًا واحدًا؛ حلف الغريم، وبرئ إلى قدوم الغائب إن قدم حلف مع شاهده، وأخذ حقه، وإن نكل؛ فلا شيء به، وإن نكل الغريم عن الحلف؛ نزع منه الحق، ووقف للغائب إن قدم أخذه دون يمين كصغير أو سفيه قام له بحق شاهد واحد، قال: ولو كان المطلوب مقرًا بالدين ترك، ولم يعرض له قريب غيبته الب أو بعدت، وقول مطرف هذا في الدين هو نحو قول سحنون فمن غاب في سفره، وترك ماله أو عقاره بيد أحد لا يعرض له السلطان: ولو لم يتركه بيد أحد، فأخذه رجل انتزعه القاضي منه، ووكل عليه، ولا يمكن أهل العداء من عداهم.
وقال ابن كنانة: ذلك إلى اجتهاد السلطان.
ابن رشد: إنما لا يعرض السلطان لمن غاب، وترك ماله بيد رجل أو دينًا له قبله، وإن سافر كما يسافر الناس، وإن طالت غيبته، وانقطع خبره؛ فالسلطان ينظر له، ويحوز عليه ماله على ما وقع في كتاب طلاق السنة من المدونة.
وقول سحنون: إذا لم يكن المال بيده بخلافه أن السلطان ينتزعه منه، ويوكل عليه هو على أصله أن الأجنبي يمكن من المخاصمة عن الغائب دون توكل.
قلت: في جعله قول سحنون خلافًا لما ذكره ابن رشد نظر؛ لأن سحنونا إنما قال: ينتزعه السلطان ممن علم أنه وضع يده عليه عداء.
ابن فتوح: ما ثبت للغائب من عقار بيد من يدعيه لنفسه، لا ينتزعه منه، ولا يقطع ما أحدث عليه من عيب أو اطلاع؛ إنما يشهد على ثبوت ذلك فقط؛ لأنه إذا قدم قد يقر المقدم عليه، أو يرضى بما أحدث عليه، ولو أقر من بيده العقار أنه للغائب؛ أخرجه السلطان من يده، ووقفه بيد غيره، ويقطع الضرر عن ملك الغائب إن أقر عليه من قيم عليه بإحداثه عليه في مغيبه.
وفي ثاني نكاحها: يباع على الغائب عروضه في نفقة زوجته، وكذا إن كان للزوج ودائع وديون؛ قرض لها فيها نفقتها، ومن جحد ممن له عليه دين؛ فللمرأة خصومته وإقامة البينة عليه، وكذا من له على الغائب دين؛ له ذلك.
المتيطي: إن سأل المحكوم له على الغائب تنفيذ حقه من مال قاض بيد رجل ووديعة للغائب، فإن أقر من ذلك بيده أنه للغائب؛ حكم له به هذا القول المعمول به، وحكمى ابن اللباد عن سحنون: أنه لا يقضي دينه من المال المستودع، ونحوه في كتابه لابنه في أجوبته لشرحبيل، وقال ابن عبد الحكم، وابن المواز، وابن سحنون في هذا الأصل ذكره الشيخ عنهم في نوادره وأبو عمر: إن هذا هو القياس؛ إذ لو حضرها الغائب، وأنكرها لم يكن للغرماء إليها سبيل، ولأنه يقول: ليست لي، ولا للمقر، وهي لغيرنا، فإقراره مقبول ما دام قائم الوجه.
قلت: انظر قوله: ما دام قائم الوجه؛ ظاهره: أنه إن أفلس؛ لم يقبل قوله، ومقتضى
الأصول أنه إن ثبت أنه أودع المال؛ فلأمر كما قال، وإن لم يثبت إلا بقول من بيده؛ قبل قوله ولو فلس؛ لأنه لم يثبت له بعد.
المتيطي: إن اتسع نظر القاضي، وأقطار مصره متباينة؛ لم يرفع الخصم إلى مصره إلا فيما قرب من الأميال اليسيرة؛ لأن ما بعد يشق على الناس، ويقدم في الجهات البعيدة حكامًا هذا مشهور المذهب، ومنعه ابن عبد الحكم إلا بإذن الإمام.
ابن فتوح: إن سأل طالب القاضي أن يرفع مطلوبة لمجلس القاضي، فينبغي للقاضي إن كان قريبًا أن يأمر غلامه الذي له الأجرة من بيت المال بالمسير عنه، فإن لم يكن له في بيت المال أجرة.
قال أحمد بن سعيد: يدفع له القاضي طابعًا يرفع به خصمه، فإن لم يرفع؛ جعل القاضي من رزقه للأعوان جعلًا؛ إذ رفع المطلوب ممن يلزمه، فإن لم يفعل القاضي ذلك؛ فأحسن الوجوه أن يستأجر الطالب عونًا يأتيه بالمطلوب إلا أن يتبين أن المطلوب ألد بالطالب، ودعاه للقاضي فأبي، أو منعه حقًا يقر به ويمطله فيه، فيغرم المطلوب أجرة العون لا الطالب.
وقال محمد بن عمر: لا نعلم ذنبًا يوجب استباحة مال مؤمن إلا الكفر وحده.
قلت: القول الأول: هو قول ابن العطار: فتعقبه عليه ابن النجار؛ وهو محمد بن عمر، وقال: قول ابن العطار خطأ، وترد تخطئته بأن الظلم الذي لا يوجب استباحة مال الظالم هو الظلم الذي لا يؤدي إلى إتلاف مال على المظلوم، وأما إن أدى إليه؛ فلا يبعد إغرامه، كما قالوا فيمن منع آلة تذكية عمن اضطر إليها حتى مات: ما افتقر إلى تذكيته بها.
ابن فتوح: قال محمد بن أحمد: فغن ثبت عند القاضي تغيب المطلوب؛ طبع عليه باب مسكنه بعد أن يعين المسكن ثقاة جيرانه عند ثقاة القاضي، وهو خير من التسمير عليه، فإن رأى التسمير لا الطمع؛ فليثبت عنده أنها دار المطلوب، ويخرج ما في المسكن من حيوان، وقيل: إن تبين للقاضي لدى المطلوب؛ حكم عليه.
المتيطي: وإن لم يتفق في بعض الجهات البعيدة تقديم حاكم؛ فلا يرفع من فيه إلى
المصر إلا بشبهة قوية كشاهد عدل.
قال في مسائل حبيب: لا شخصًا لا شاهد عدل؛ أن له عليه حقًا، ولا يقبل قول المطلوب في ذلك، وإن كان عنده عدلًا، وكان سحنون يؤدب الخصم إذا رفع خصمه إليه بعير طابع يدفعه إليه.
وقال في موضع آخر: إن جاء الطالب وبه جرح؛ فهي شبهة توجب الدفع.
ابن زمنين: من سير حكام العدل: أن يرفع الطالب طالبًا يرتفع به المطلوب إن كان بمصر الحاكم، وعلى أميال يسيرة، وإن رأى أن يرسل فيه من أعوانه فعل، وإن بعد؛ كتب برفعه.
قلت: ظاهرة: وإن لم يأت بشبهة.
قال: ولأصبع في الواضحة: إن استعدى الخصم للقاضي على خصمه النائي، وسأله أن يكتب له فيه كتب إلى أهل العدل أن أجمعوهما للتناصف، فإن أبيا، فانظروا في أمرهما، فإن رأيتم للمدعي وجهًا لحقه؛ لم يرد به تعنيته، فارفعوه لنا معه، وإلا فلا ترفعوه، ولهذا إن كان بحيث لا مؤنة في القدوم على المدعى عليه، ولا على الشهود، وإن بعد المكان من موضع القاضي؛ فلا يكتب برفعه، وليكتب لمن يثق بفهمه ودينه من أهل ذلك الموضع أن ينظر في جميع أمرها، ويسمع بينتهما، ثم اكتب لنا بما ثبت عندك، ورأيته لننظر فيه، فإن في ذلك، وخاطبه بما ثبت عنده، فإن رأى أن يكتب له بإنفاذ الحكم؛ فعل، وإن رأى رفعهما إليه لإنفاذ ما ثبت عند المكتوب إليه؛ فعل، ولا يشخص البينات.
قال سحنون: فإن عصى المدعي عليه، ولد أمر بعقل ضياعه، وسد بابه ليضطر به بذلك إلى الارتفاع.
قلت: انظر هذا مع نقل ابن شاس عنه المتقدم: أنه يحكم عليه بمجرد تواريه.
الشيخ عن ابن عبد الحكم: من استعدى الحاكم على من معه بالمصر، أو قريبًا منه؛ أعطاه طابعًا في حملته أو رسولًا، وإن بعد من المصر؛ لم يجلبه إلا أن يشهد عليه شاهد، فإن ثبت عنده، كتب لمن يثق به من أمنائه؛ إما الصفة، وإلا فليرتفع معه، والقريب من
المدينة كمن يأتي، ثم يرجع يبيت في منزله، والطريق آمنة يرفع بالدعوى كمن بالمصر.
المازري: يبعد عن المرأة في خصامها من لا خصومة بينه وبينها، وإن كانت شابة لها جمال بخلاف إن تكلمت، فسمع كلامها أن يشغف بها، أمرت أن توكل من ينوب عنها، ولا حق للخصم في إحضارها مجلس القاضي، وإن احتيج إلى أن أبعث إليها بدارها تخاطب من وراء ستر من يبعثه القاضي إليها ممن يؤمن لشيخوخته، ودينه، وورعه، وتكلفه الحكومة في أمرها؛ فعل ذلك، وقد حضرت الغامدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقرت بالزنا، فأمر برجمها، وقال في امرأة الأخرى: واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت؛ فارجمها، فلم يأمر بإحضارها، وسماع ذلك منها شفاها، ويمكن أن يكون فرق بين المرأتين وكما أشرنا إليه من كون التي بعث إليها لا يحسن خطابها بملأ من الناس.
وقول ابن الحاجب: ولا يلزم من يزري بها مجلس الحاكم أن تحضر لتحلف، ولو كانت تتصرف، ويبعث الحاكم من يحلفها، فإن كان فيما له بال؛ ففي المسجد ليلاً هو اختصار قول ابن شاس: المخدرة لا تحضر مجلس الحكم في اليسير؛ بل يبعث الحاكم إليها من يحلفها؛ والمخدرة هي: من يزري بمثلها حضور مجالس الحكام، وإن كانت تتصرف، وتخرج إلى غير ذلك، وما له بال فيه إلى المسجد ليلاً.
ابن عبد السلام: تحلف فيما لا بال له حيث ذكر المؤلف، ولو كان أزيد مع ربع دينار، وشرطه ذلك لمن يزري بها حضور مجلس القاضي، وهذا يظهر إن كان حلفها بمجلسه، وإن كان بناحية عن مجلسه؛ فربما لم يزر بها.
قلت: ظاهر قبول نقله عن المذهب قصر حلف المرأة في بيتها على التي يزري بها حضر مجلس الحاكم، وظاهر نقل المتقدمين خلافه، وأنه عام في مطلق المرأة أبقيد؛ كونها ليست كالرجل، وكونها ليست كالرجل هي أعم من المخدرة المذكورة.
قال الشيخ: روى ابن القاسم: تخرج فيما له بال، فمن كانت تخرج نهارًا؛ أخرجت نهارًا وإلا أخرجت بالليل، وقال في كتاب محمد مثله.
قلت: محمد أفي ربع دينار؟ قال: لا إلا في الشيء الكثير الذي له بال، من هي
كالرجل تخرج تحلف بالنهار بالمسجد الجامع في ربع دينار.
وفي الواضحة: تسوية الرجل بالمرأة مطلقًا في خروجها للحلف بمحله في ربع دينار فصاعدًا، ما قصر عنه يحلف الرجل فيه حيث قضى عليه باليمين إن لم يكن بالمسجد؛ قال: وتحلف المرأة في بيتها، ويجزئ القاضي في ذلك بعث واحد لتحليفها.
قال المازري: وقد قال القاضي عبد الوهاب في التي هي من أهل الصون والقدر يبعث القاضي من يستحلفها؛ لأن المدعي إنما حقه في حلفها لا في ابتذالها، وهتك حرمتها، وابن شاس في عبارته تابع للغزالي لا لما ذكرناه من ألفاظ أهل المذهب.
قال الغزالي في الوجيز: المخدرة لا تحضر في مجلس الحكم؛ بل يبعث إليها القاضي من يحلفها، وفي وجه آخر: يلزمها الحضور، قيل: المخدرة التي لا تخرج أصلاً إلا لضرورة، وقيل: هي التي لا تخرج للعزاء والزيارة إلا نادرًا، وما وقعت لأحد من أهل المذهب على اعتبار لفظ المخدرة إلا ما وقع للمازري ما نصه: المشهور اعتبارا ربع دينار في المرأة كالرجل، وقيل: لا تستحلف إلا في الكثير مما باله بال، وأشار بعض العلماء إلى تردد في سقوط تحليف المخدرة في المسجد، فانظر هذا مع جزم ابن الحاجب وابن شاس في نسبة سقوطه لمذهب، وإن قيد ذلك بالسيارة.
قلت: ففي كون حلف المرأة في بيتها بكن المحلف فيه ليس ذا بال دون اعتبار حالها، أو بكونها من أهل القدر والصون دون اعتبار الأول ثالثها: بالأول، وكونها ممن يزري بها حضور مجلس القاضي.
للمازري عن تقابل المشهور مع الشيخ عن ابن القاسم مع محمد قائلاً: من هي كالرجل، والمارزي عن المذهب وابن الحاجب، وابن شاس عنه.
قال ابن عبد السلام: إلغاء المؤلف تصرفها لنفسها في جوابها، ولم يره سببًا في حلفها في الجامع، والذي مشى عليه العمل أن تخرج نهارًا في جوابها تحلف في الجامع نهارًا، ومن لا تخرج نهارًا؛ في بيتها، أو في الجامع ليلاً، وقاله بعض الأندلسيين.
قلت: قوله: ومن لا تخرج نهارًا في بيتها، أو في الجامع ليلاً؛ ظاهرة: أنها مخيرة فيهما
ولا أعرفه؛ بل قول الشيخ عن ابن سحنون عنه أنه قال في امرأتين ادعى عليهما في أرض، أو دور، ممن لا تخرج، فأمر أن يخرجا بالليل للجامع، فسألناه أن يحلفهما في أقرب المساجد منهما لمشقة خرجهما للجامع، فأجاب كذلك: وتمامها في فصل محل الحلف.
قال ابن الحاجب تابعًا لابن شاس: إن مست يتيمًا حاجة، وله رباع في ولاية أخرى كتب بحاجته، وقضي ببيع أقلها؛ ردًا عليه، وتنفيذه لثمنه.
قلت: كذا وجدته في غير نسخة بلفظ كتب بحاجته، وقضي ببيع أقلها؛ ظاهرة: أن القاضي يكتب، ويقضي ببيع الربع، وهذا الظاهر واضح البطلان، وعمود ضمير قضي على غير ما يعود عليه ضمير كتب تفكيك، وفي قراءتها على ما لم يسم فاعله إجمال، ولفظ ابن شاس جار على الأصول؛ لأنه عبر بقوله: يكتب إلا الغير؛ لعمله بحال الطفل وحاجته، ويقتضي منه بيع ماله إلى آخره بلفظ يقتضي لا بلفظ قضي، وهذا الفرع بعينه، وشخصه لا أعرفه من غير ابن شاس إلا لابن حبيب عن أصبغ: ولا يجب انحصار الحكم في ذلك؛ بل للقاضي أن يقدم نائبًا من بحجوره ببلده يخرج، أو يركل من يخرج كالوصي على يتيمه مع يبيع من ربع المحجور ما ذكر على الصفة المذكورة، والأول أرجح؛ لأنه لا يتقرر البيع بموت القاضي المكتوب إليه لأن من يلي بعده مثله بخلاف موت الوكيل.
وزاد في الواضحة: لو مات ببلد قاض من ترك به مالاً، ذكر أن ارثه ببلد آخر لحق على قاضي بلد الميت إن كان الوارث ببلد بعيد جدًا بعثه المال لقاضي بلد الوارث؛ ليفعل فيه واجب، وإن لم يبعد جدًا حبسه، وكتب له بالقصة ليسأل عن ورائه، فيعلمه بذلك ليفعل واجب إرثه فيأخذه، فإن القاضي، وأرسل المال؛ لم يضمنه إن ضاع.
وللشيخ عن أصبغ عن ابن القاسم: إن ادعى على صبي لا وصي له بشيء قلبه أو في يديه؛ لم يوكل له وكيل يدافع عنه.
أصبغ: وأرى أن يوكل له وكيلاً يتولى من النظر له ما يتولاه وصية في ماله ونفسه
والذب عنه، وإنما يكره أن يوكل عليه وكيلاً لهذه الخصومة وحدها؛ لم يعزله.
قلت: قال فضل في اختصار الواضحة: إثر ذكره ما تقدم عن أصبغ قول ابن الماجشون في ديوانه كقول أصبغ حرفًا بحرف.
قلت: قوله: قبله؛ يريد بجناية منه لا بمعاملة؛ لأنها لا تتعلق به.