الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يقض للزوجة إلا بيمينها.
قلت: قوله أولاً: تجوز دون يمين فيما لا يطلع عليه النساء مع إيجابه اليمين في إرخاء الستر يدل على أن إرخاء الستر لا يختص به النساء، وهو خلاف قول اللخمي، ونحوه قول المازري إثر نقله اليمين في مسألة الستر: أشار بعض أشياخي إلى أنه اختلف في هذا الأصل في اليمين فيه مع شهادة امرأتين لأجل إرخاء الستر، وزق الزوجة على الزوج، ولا يحضره غالباً إلا النساء، ويندرج تحت شهادتين بذلك أحكام أخرى، والإحصان، والإحلال، وغيرهما مما يتكلم عليه في موضعه.
قلت: تقدم في مسائل إرخاء الستور أن سبب الخلاف في لزوم يمين الزوجية مع ثبوت إرخاء الستر؛ إنما هو بناء على أن دلالة الحالة العرفية على ثبوت أمر كدلالة شهيدين أو شاهد واحد سواء؛ كان ثبوت إرخاء الستر بشهادة النساء، أو شهادة رجلين، وكذا دلالة الشواهد في البناء، والوصف في اللقطة، ونحو ذلك.
قال ابن الحاجب: الرابعة: ما لا يظهر للرجال؛ كالولادة وعيوب النساء، والاستهلال، والحيض، فيثبت بأمرين، ويثبت الميراث، والنسب له وعليه، فلم يتعرض ابن عبد السلام لشرح قوله:(ويثبت الميراث والنسب له وعليه)، وقرره ابن هارون بقوله: مثل أن تشهد امرأتان بولادة أمة أقر السيد بوطنها، وأنكر الولادة؛ فإن نسب الولد لاحق به، وكذا موارثته إياه له وعليه.
[باب فيما تصير به الأمة أم ولد]
قلت: نحو ما قرر به كلامه، قولها في أواخر أمهات الأولاد: وإن ادعت الأمة أنها ولدت من سيدها، فأنكر؛ لم أحلفه لها إلا إن يقيم رجلين على إقرار السيد بالوطء، وامرأتين على الولادة؛ فتصير أم ولد، ويثبت نسب الولد إن كان معها وتلد، إلا أ، يدعي السيد استبراء بعد الوطء، فيكون ذلك له، هذا نص في جواز شهادتين فيما لا تجوز فيه شهادتين إذا كان لازماً لما تجوز فيه شهادتهن، وتقدم نحوه، وهو في
الموطأ وغيره.
قال ابن الحاجب: (وفي قبولها بأنه ابن فلان قولان).
قال ابن هارون: معناه: إذا كان المقصود من الشهادة استحقاق المال فقط، كما لو شهدتا فيمن مات أن هذا ابنه، لا وارث له في علمها غيره، فقول ابن القاسم، يحلف الولد، ويرث كشاهد له بذلك، ولا يثبت له نسب، وعلى قول أشهب لا يرث شيئاً؛ لأنه إنما يثبت بالنسب، والنسب لا يثبت بشهادتهما.
قلت: قال اللخمي في أوائل ترجمة شهادة النساء: اختلف في شهادتهن في ما ليس بمال، ويستحق به مال، فإن شهد رجل وامرأتان في ميت بنسبه أن هذا ابنه، أو أخوه ولا وارث له ثابت النسب؛ صحت الشهادة على قول ابن القاسم، وثبت له الميراث، ولم يجز على قول أشهب؛ لأنه قال: لا يستحق الميراث إلا بعد ثبوت الأصل بشهادة رجلين، فإن ثبت ذلك، ثم شهد واحد أنه لا يعلم له وارثاً سوى هذا؛ جازت، واستحق المال.
وقال ابن عبد السلام: هذا كلام مشكل، ولعله يرجع إلى الخلاف في الذكورة والأنوثة.
قلت: الأظهر تفسيره بما تقدم للخمي، وإن كان ظاهره مخالفاً لظاهر الوارد في الروايات في آخر سماع أشهب من رسم الأقضية الثالث؛ لأنه لا تجوز شهادة النساء في الأنساب، ومثله في النوادر.
زاد الشيخ عن ابن الماجشون: تجوز في الميراث إن ثبت النسب بغيرهن، كما تجوز في قتل الخطأ إن ثبت الموت بغيرهن، وإذا اختصم في تعدد الولاء لمن ورثوه عنه؛ جاز في ذلك شهادتهن، أو شاهد ويمين، وإن لم يثبت الولاء بغيرهن؛ لم تجز.
ولابن سحنون عنه: يجوز في الوراثة شاهد ويمين وشهادة النساء؛ لأنها على مال؛ لأن النسب يثبت بغيرهن.
ومثله قولها في الشهادات: تجوز شهادتهن في الموارثة إن ثبت النسب بغيرهن؛ لأنها في مال.
وفي السرقة منها: إن شهد رجل وامرأتان على رجل بالسرقة؛ لم يقطع، وضمن قيمة ذلك، ولا يمين على صاحب المتاع.
قال ابن الحاجب: وكذا قتل عبد عمداً، ويثبت المال دون القصاص.
قلت: هذا كنقل الشيخ عن محمد عن ابن القاسم: ويقضى بشاهد ويمين في قتل العبد، ويستحق قيمته من الحر، ورقبة العبد القاتل، إلا أن يفديه سيده بقيمة المقتول، ولا يقتص من العبد بذلك.
الشيخ عن سحنون: كل ما جاز فيه شاهد ويمين؛ جازت فيه شهادة النساء.
اللخمي: ومن الشهادة ما ليس بمال، ويستحق به مال أن يشهد رجل وامرأتان بنكاح بعد موت الزوج أو الزوجة، أو على ميت أن فلاناً أعتقه، أو على نسب أن هذا ابن الميت أو أخوه، فالشهادة على قول ابن القاسم صحيحة، وعلى قول أشهب؛ لا تجوز، وتقدم الكلام في شهادتهن؛ لتقدم موت أحد الوارثين على الآخر.
وقول ابن رشد: تجوز فيه شهادتهن اتفاقاً.
وقال ابن الحاجب: في ثبوت الميراث بذلك قولان لابن القاسم وأشهب.
وقبله ابن عبد السلام وابن هارون، ولا أعرف من نقله عن أشهب نصاً، ولا يبعد إجراؤه على أصله، وأخذه من قول اللخمي: واختلف في شهادتهن على التاريخ على الاختلاف فيما ليس بمال، ويستحق به مال نظر، ويقرب أخذه من قوله فيما يستحق به مال، ومنعه عبد الملك وسحنون، وقالا: كل ما لا يجوز فيه شاهد ويمين، لا تجوز فيه
شهادة النساء.
وفي وصاياها: الأصل: إن شهدت امرأتان مع رجل على موت ميت، فإن لم يكن له زوجة ولا أوصى بعتق ونحوه، وليس إلا قسمة التركة؛ فشهادتهن جائزة، وقال غيره: لا تجوز، وتقدم نحوه في شهادتها، قال غير واحد: إبطاله شهادتهن بالموت إن كان للميت زوجة، أو وصية لفوم؛ ردت في العتق، وجازت في الوصايا لقوم، فإن ضاق الثلث؛ فإنما لهم منه ما فضل عن العتق، وإنما تبطل كلها أن لو شهد لنفسه فيها، وكان بعض من لقيناه يشير إلى ما يفرق به بينهما، وهو أن الوصية بالعتق والمال ارتباطهما في الشهادة بهما ارتباط اتفاقي، كارتباط كون الإنسان ناطقاً بكون الفرس صاهلاً، وكارتباط كون الأخت مع البنت عاصبة بكون الأب مع الولد الذكر غير عاصب، لا لزومي كقولنا: كل ما كان هذا إنساناً كان حيواناً، وكلما كان هذا الحر مالكاً نصاباً من العين لا دين عليه؛ كان مخاطباً بزكاته؛ لصحة تعلق شهادتهن بأحدهما دون الآخر على تقدير وجودهما في الواقع، وارتباط إرث المال، وتنفيذ العتق الموصى به بغير شهادة في الشهادة بالموت؛ ارتباط لزومي؛ إذ لا يصح إيجاب الموت أحدهما دون الآخر على تقدير وجودهما في الواقع بحال، ولا يلزم من صحة التفريق بين مرتبطين ارتباطاً اتفاقياً لعارض صحته في المرتبطين ارتباطاً لزومياً، وإلا لما كان فرق بين اللزومية والاتفاقية؛ ولذا لم يطرد عندهم قياس اقتراني من الاتفاقيات، بخلاف اللزوميات.
قال أبو إبراهيم وأبو الحسن الصغير: يقوم من قولها مثل قول ابن الماجشون في الواضحة في عدل شهد أن فلاناً قتل فلاناً، ونحن في سفر، فمات مقعصاً ودفناه أنه لا قسامة فيه بالشاهد العدل، قال: وإنما تكون القسامة إذا كان الموت معروفاً، أريت لو جعلنا القسامة بشهادته على القتل، فأقسم الولاة، وقتلوا أتعتق أم ولده ومدبرته، ويفرق بينه وبين زوجته بالشاهد الواحد؟ هذا لا يكون.
قال أصبغ: يستأني السلطان في ذلك، فإن جاء ما هو أثبت من هذا؛ وإلا حكم بالقسامة مع الشاهد وبموته، وتعتد زوجته، وتعتق أم ولده، وينكحن، وقيل: يقسم
ولاته، ويقتل قاتله، ولا يموت في زوجته ورقيقه، وهو ضعيف.
قلت: ما أقاماه من قولها؛ يرد بأنه لا يلزم من إلغاء شهادتهن بالموت الموجب إعمالها في عتق، ونحوه إلغاء شهادة العدل بالموت الموجب إعمال شهادته فيما لا تجوز فيه من رفع العصمة والعتق؛ لأن ما أعملت فيه شهادته، وهو الموت هو مما يثبت شهادته؛ فلا يمنع إعماله فيه كونه موجباً لما لا تعمل فيه شهادته؛ لأنه حينئذ كشهادة النساء بما تجوز فيها شهادتهن، وهو يؤدي إلى ما لا يجوز فيه شهادتهن، وهذا كشهادتهن بأداء الكتابة الموجبة للعتق، وبثبوت الدين الموجب لنقض العتق، وإن كان ابن زرقون حكي عن إسماعيل القاضي: أنه لا يرد العتق بما يثبت عليه برجل وامرأتين، ولا شاهد ويمين؛ وإنما يرد بذلك ما يحدث من عتق بعد الحكم بالمال.
وشهادتهن بموت: يوجب عتقاً شهادة بما لا تجوز فيه شهادتهن مع كونه موجباً لما لا تجوز فيه شهادتهن؛ كشهادتهن بعتق يوجب طلاقاً، وهذا كشهادة امرأتين مع رجل بعتق عبد من حلف بالطلاق على عدم عتقه، أ، بعتق أمة تحت عبد، وتقدم لابن رشد على قول ابن القاسم في إجازته شهادتهن في قتل الخطأ مع غيبة البدن: أنها آيلة إلى جواز شهادتهن فيما عدا المال من الموت الذي يقطع العصمة بينه وبين نسائه، ويوجب عتق أمهات أولاده ومدبريه إلى غير ذلك مما لا تجوز شهادتهم فيه، وهو نحو ما زعموه من مساواته مسألة اللوث لمسألة كتاب الوصايا؛ فتأمله، وكون شهادتهن لوثا يأتي في اللوث إن شاء الله تعالى.
قال ابن الحاجب: (ولو أقام شاهداً، فطولب بالتزكية؛ أجيب إلى الحيلولة في المشهور به).
قلت: كذا هو في سائر النسخ شاهداً بالإفراد.
وقال ابن شاس: من أقام شاهدين، وطولب التزكية؛ فله أن يطلب الحيلولة، فيوقف الحيوان والعروض التي تطلب بعينها، ويشهد عليها.
فأما الحيلولة بإقامة مدعيها بشاهدين عدلين؛ فهو نقل غير واحد عن المذهب، وهذا قبل تعديلها حسبما نقله ابن شاس، وهو قولها: وإن كان أقام شاهدين، فكان
القاضي ينظر في تعديلهما، وخاف على المدعي فيه الفساد أمر أميناً فباعه وقبض ثمنه، ووضعه على يدي عدل، ويأتي لابن رشد خلافه.
وفي الحيلولة بإقامته شاهداً واحداً عدلاً: خلاف ابن سهل اختلف في العقلة بشاهد واحد عدل، ففي أحكام ابن زياد قولنا: وجوب العقل بها، وهو في الدور بالإقفال لها، وفي الأرض يمنع حرثها، وقاله عبيد الله بن يحيي، وأيوب بن سليمان، ولابن بطال عن ابن لبابة: لا تجب العقلة إلا بشاهدين، وقال سليمان: هو قول ابن القاسم.
وفي وثائق ابن العطار: لا تجب العقلة بشاهد واحد، ولكنه يمنع المطلوب أن يحدث في العقار بناءً أو بيعاً، أو شبه ذلك بالقول، ولا يخرج عن يده.
ولابن سحنون عنه: إن أقام المدعي شاهداً عدلاً عقل على المدعي عليه ما شهد به الشهود الذين ثبت بعضهم، قال: وسمع عيسى ابن القاسم: من أدعى أصل زيتون وثمرته، وأثبت شاهداً واحداً، وطلب أن يجعل وكيلاً على الثمرة يحوزها في الجنا والقص، وطلب من هي بيده أن يقوم عليها ليبيعها، قال: إن كان الشاهد عدلاً؛ حلف معه المدعي، وأخذ الثمرة، وإن كان الحاكم لا يقضي بالشاهد واليمين؛ نظر إلى ما فيه النماء والفضل في بيعة أو عصره، فوكل به من يثق به.
وفي مسائل ابن زرب: إنما حكم بالعقلة في هذه المسألة خوف فساد الثمرة، وتفويت المطلوب لها، وكذا يوقف كل ما يغاب عليه من عرض، وغيره بشاهد عدل، والأصول لا تعتقل إلا بعدلين وحيازتها إلا أن الشاهد العدل يمنع الحاكم به المطلوب أن يحدث بيعاً أو شيئاً يفوته، فإن أحدث فيه شيئاً بعد تقدمه إليه؛ لم ينفذ.
وقال في موضه آخر: اختلف في توقيف العقار بشاهد عدل؛ فقال بعضهم: العقلة فيه واجبة بذلك، واحتجوا بقول ابن القاسم في مسألة الزيتون، وقال بعضهم: لا تكون إلا بشاهدي عدل، وحيازتهما به جرى القضاء ببلدنا، والحجة فيه أن الغلة للمطلوب حتى يقضي عليه، وضمانها منه قبل ذلك، ولا تكون لطالب إلا إذا كان الضمان منه، ولا يكون منه إلا بشاهدي عدل وحيازتهما، ونزلت المسألة في دار بقرطبة،
فأفتيت فيها بالعقلة بشاهد عدل واحد، وخالفني بعض أصحابنا، وقال: لا تجوز العقلة بشاهد واحد، واحتج بما ذكرته من المقرب، وقال: إنه لم يقل أحد بذلك، وجهل جميع ما قدمناه من قول سحنون وابن زرب.
ولابن رشد في سماع عيسى المتقدم: اختلف في تأويل هذه المسألة، قيل معناها أن المدعي ادعي الأصول والثمرة معاً، كدعواه أنه اشتراها بثمرتها، وأقام على ذلك شاهداً واحداً، وقيل: بل ادعى الأصول فقط، فرأى توقيف الثمرة بشاهد واحد، وهو الآتي عل ما له في آخر رسم العرية بعد هذا فيمن أدعى دابة، وأقام عليها شاهداً واحداً، فماتت قبل القضاء له باليمين مع الشاهد أنه يحلف، وتكون المصيبة فيها منه؛ لأنه إذا رأى الضمان منه بالشاهد الواحد؛ فالتوقيف والغلة تابعان له.
واختلف في الحد يدخل فيه الشيء المستحق في ضمان المستحق، وتكون الغلة له، ويجب التوقيف به على ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنه لا يدخل في ضمانه، ولا تجب له الغلة حتى يقضي له به، وهو الآتي على قول مالك في الغلة التي هي بيده حتى يقضي بها للطالب؛ فعليه لا يجب توقيف الأصل المستحق توقيفاً يحال بينه وبينه، ولا توقيف غلته، وهو قول ابن القاسم في المدونة: إن الربع الذي لا يحول، ولا يزاول، ولا يوقف مثل ما يحول ويزول، وإنما يوقف وقفاً يمنع فيه من الإحداث.
والثاني: أنه يدخل في ضمانه، وتكون له الغلة، ويجب توقيفه، يحال بينه وبينه إذا ثبت له بشاهدين، أو بشاهد وامرأتين، وهو ظاهر قول مالك في الموطأ؛ إذا قال فيه: إن الغلة للمبتاع إلى يوم يثبت الحق، وقول غير ابن القاسم فيها؛ إذ قال: إن التوقيف يجب إذا أثبت المدعي حقه، وكلف المدعي عليه المدفع، وعلى هذا القول جرى عندنا الحكم.
والثالث: أنه يدخل في ضمانه، وتجب له الغلة، والتوقيف بشهادة شاهد واحد، وهو الآتي على قول ابن القاسم في رسم العرية في الضمان حسبما ذكرناه.
قلت: فمتقضى نقله أن على القول الثاني لا يجب التوقيف بمجرد شهادة شهيدي
عدل، وحكى ابن عبد السلام: الاتفاق على التوقيف بشهادة شاهدين.
وأما التوقيف بشهادة شاهد واحد لم تثبت عدالته؛ فنقل ابن الحاجب عن المذهب ثبوته، ولما ذكر ابن عبد السلام الخلاف في التوقيف بشهادة الواحد، قال: وهذا كله في شهادة العدل أو العدلين، وأما من يحتاج إلى تزكية؛ فلا تجب بشهادته حيلولة، وظاهر كلام بعض المتأخرين مثل ظاهر كلام المؤلف في مجهول الحال.
قلت: هو ظاهر بعض ألفاظها فيها ما نصه: قال ابن القاسم: ثم يوقف له العبد؛ لأن مالكاً حين قال: يدفع إليه رأيت الوقف له إذا قال الطالب: أنا آتي ببينتي إذا كان قد أثبت بسماع، أو جاء بشاهد، وظاهر ما تقدم من نقل ابن سهل أن لا وقف بالشاهد الواحد إذا لم تثبت عدالته.
ابن الحاجب إثر قوله: (أجيب إلى الحيلولة في المشهور به) ما نصه: (ولا يمنع من قبض أجرة العقار).
قال ابن عبد السلام: لعله إذا سبق عقد الكراء الخصام، وأما إذا أراد أن يعقد الكراء بعد الشروع في الخصام؛ فلا يبعد ذلك على ظاهر المدونة، وفي كتاب الأحكام خلاف ذلك: أنه يقفل الموضع.
قلت: تقدم نقل ابن سهل عن عبيد الله بن يحيي وغيره: العقل بشاهد عدل، وأنه في الدور بالإقفال، وفي الأرض يمنع حرثها، وظاهره: مطلقاً، كانت أكريت قبل ذلك أم لا؟، وما نسبه لظاهر المدونة من إجازة عقد الكراء بعد الشروع في الخصام هو ظاهر ما عزاه ابن رشد لابن القاسم في المدونة.
ويجب عندي أن يكون ذلك مقيداً بالمدة التي لا يخشي بقاؤها بعد فصل الخصومة كما تقدم في كراء الوصي ربع يتيمه، وهو ظاهر قول ابن شاس: ولمن هو بيده قبض أجرته إلى حيث ما ينفذ القضاء.
اللخمي: روى محمد في العبد أو الجارية يدعيان الحرية، وبينه غائبة، ويريدان أن يمكنا من طلبهما: فليس لهما ذلك إلا أن يأتيا بشبهة بالحق وحميل، وإن أثبتا شاهداً، زادعيا آخر بعيد الغيبة؛ لم يقبل منه، ومكن سيده منه إلا أن يأتي بشاهد آخر، وقال
أيضاً: يحبس ولا يخلي يذهب، ويوكل من يطلب شهوده.
وإن كانت جارية وأثبتت شاهداً؛ وقف السيد عنها، وإن كان مأموناً أمر؛ بلكف عنها، وإن كان غير مأمون؛ وقف، ويضرب له أجل الشهرين ونحوهما.
وقال أصبغ: إن كانت من الوخش؛ فهي كالعبد يخلي سبيلها، تطلب إذا أتت بحميل، وإن كانت رائعة؛ فلا، وأمرت أن توكل، ويجعل لها السلطان محتسباً.
وسمع ابن القاسم في رسم سلف من كتاب الاستحقاق في العبد يدعي الحرية، ويذكر بينة غائبة، والجارية مثل ذلك: لا يقبل قول العبد إلا أن يأتي ببينة، أو أمر يشبه فيه وجه الحق إن أتى بذلك رأيت له ذلك، واستحب في الجارية وقف ربها عنها، وإن كان مأموناً أمر بالكف عنها، وإن كان غير مأمون، وجاءت بأمر قوي في الشهادة؛ رأيت أن توضع في يدي امرأة، ويضرب في ذلك أجل الشهرين والثلاثة مثل الشاهد العدل.
ابن رشد: قوله: (لا يقبل قول العبد إلا أ، يأتي ببينة، أو أمر يشبه فيه وجه الحق، فإن أتى بذلك؛ رأيت له ذلك)؛ كلام وقع على غير تحصيل؛ إذ لا يصح أن يقبل قول العبد في دعواه الحرية إلا ببينة عدلة، لا إذا أتى عليه ببينة غير عدلة، أو أمر يشبه فيه وجه الحق، والحكم يفترق في ذلك بين أن يأتي ببينة غير عدلة أو بشاهد عدل، أ، بين أن لا يأتي بمن يشهد له ويشبه قوله، وبين أن لا يأتي بمن يشهد له، ولا يشبه قوله حسبما مصي تحصيله في سماع عبد الملك في الأقضية.
قلت: قال فيه ما نصه: إن أدعت الجارية أو العبد الحرية، فإن سميا لذلك سبباً كالشاهد العدل أو الشهود غير العدول؛ وقف السيد عن الجارية، وأمر بالكف عن وطئها إن كان مأموناً، وإن لم يكن مأموناً؛ وضعت على يدي امرأة، وضرب في ذلك أجل الشهرين والثلاثة، قاله مالك.
وإن سألت أن ترفع مع سيدها لموضع بينتها؛ فلها ذلك إن قرب الموضع، وإن بعد موضعها؛ فقيل ترفع مع سيدها إليه، قاله أصبغ، وقيل: لا يلزم سيدها رفعه إليه، ويقال له: ضع حميلاً يضمنك، واذهب لموضع بينك، وهو ظاهر قول ابن وهب في
سماع يحيى في رسم الأقضية من كتاب الشهادات: وإن لم يأت بحميل؛ طرح في السجن، ووكل من يقوم بأمره، قاله مالك فيما سأله عنه ابن كنانة لابن غانم، ومعناه: إن أدعى إلى ذلك السيد، وقال: أخشى أن يهرب لادعائه الحرية، وإن لم يسبب لذلك سبباً من بينة، ولم يأتيا بسوي الدعوى، فإن ادعيا لذلك وجهاً يشبه ويعرف؛ كادعائهما أنهما من أهل بلد عرف واليه بالتعسف على أهل ذمة ذلك البلد وبيعه لهم، أو ينتسب إلى قوم معروفين، ويأتي على ذلك بأمارة معروفة، وكان موضع بينتها قريباً؛ أخذ الإمام من ربهما حميلاً ألا يخرج بهما ولا يفربها، ويكتب لهما كتاباً لذلك الموضع، فإن جاء جواب كتابه بما يستوجب به الرفع مع سيده، أو الذهاب بحميل يأخذه منهم بقيمته؛ حكم بذلك، وإن لم يكن لما ادعياه وجه يعرف، والموضع بعيد؛ لم يلزم ربهما شيء.
واختلف إن لم يكن لدعواهما وجه، والموضع قريب؛ فقيل: لا يلزم ربهما شيء، وهو دليل قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن كان الذي ذكره العبد قريباً على مسيرة اليوم وشبهه؛ فعسى به إن جاء بأمر يعرف، فلعل هذا يكتب له؛ يريد: يؤخذ من سيده حميل، وقول ابن الماجشون: وقيل: يكتب لهما، ويتخذ على سيدهما حميل أن لا يفوتهما، قاله عيسى في كتاب الجدار، وإن كان لما ادعيا وجه، والموضع بعيد؛ فقيل: لا يلزم السيد شيء، وهو دليل هذه الرواية؛ لأنه لم ير أن يكتب له غلا قرب الموضع، وأتى بأمر يعرف، وقال ابن حبيب عن مطرف وأصبغ: يكتب لهما، ويؤخذ من سيدهما حميل بهما.
والنظر: إن أخذ من العبد حميل بقيمته، فذهب لمحل بينته، فهرب، أو مات بالطريق، أو قتل، أو حدث به عيب، ولم تصح دعواه من شيء ما الحكم في ذلك؟ والذي أراه على ما يوجبه النظر، والقياس أن يضمن الحميل قيمته إن أبق، أو قتل، وما حدث به من عيوب بسبب سفره، ولا شيء عليه مما حدث بغير سبب سفره، ولا في موته إن مات. قال ابن الحاجب: وتحال الأمة، وإن لم تطلب، إلا أ، يكون مأموناً عليها، وقيل:
تحال الرائعة مطلقاً.
ابن عبد السلام: يعني: أن من بيده أمة، فنوزع فيها، وشهد عليه شاهد كما تقدم وينبغي إن كان مكذباً لمن شهد لخصمه؛ أن يحال بينهما.
قلت: فظاهره: أنه حمل المسألة على أن الأمة أدعى مدع ملكها، لا أنها أدعت الحرية، ولا أعرف المسألة إلا من الموازية والعتبية، وهي فيهما في دعوى الحرية حسبما ذكرناه، وهو ظاهر قول ابن الحاجب:(وإن لم تطلب).
ولو كانت الدعوى لمن يدعى ملكها؛ لم تجب الحيلولة إلا بطلبة، هذا تحقيق النقل، وإن كان لا فرق في ذلك بين العتق وغيره.
وفيها: إن كانت الدعوى فيما يفسد من اللحم، ورطب الفواكه، وأقام شاهداً واحداً أو أثبت لطخاً، وقال: لي بينة ما لم يخف الفساد على ذلك الذي أدعى واستؤني، فإن أحضر ما ينتفع به، وإلا خلي بين المدعي عليه، وبين متاعه إن كان هو البائع، ونهي المستري أن يعرض له، وإن كان أقام شاهدين، فكان القاضي ينظر في تعديلهما، وخاف عليه الفساد؛ أمر ببيعه، وأخذ من المشتري الثمن الذي شهدت به البينة؛ قضي للمشتري بالثمن إن كان هو المدعي، وأخذ من المشتري الثمن الذي شهدت به البينة يدفع للبائع، كان أقل أو أكثر، ويقال للبائع: أنت أعلم بما زاد ثمن المشتري الذي جحدته البيع على ثمن سلعتك، وإن لم تزك البينة على الشراء؛ دفع القاضي الثمن للبائع، فإن ضاع الثمن قبل القضاء به لأحدهما؛ كان ممن يقضي به له.
عياض: قوله في توقيف ما يسرع إليه الفساد إذا قال المدعي: عندي شاهد واحد، ولا أحلف معه؛ أنه يؤجله ما لم يخف عليه الفساد، وإلا خلي بين المدعي عليه وبين متاعه.
معنى قوله: (وبل أحلف معه)؛ أي: البتة، ولو أراد: لا أحلف معه الآن؛ لأني أرجو شاهداً آخر، فإن وجدته، وإلا حلفت مع شاهدي؛ بيه حينئذ، ووقف ثمنه إن خشي فساده، وليس هذا بأضعف من شاهدين يطلب تعديلهما، فقد جعله يبيعه هنا،
ونحن على شك من تعديلهما، وهو إن لم يثبت؛ بطل الحق، وشاهد واحد في الأول ثابت بكل حال، والحلف معه ممكن إن لم يجد آخر، ويثبت الحق؛ فحاصله إن لم يقم المدعي إلا لطخاً قاصراً عن شاهد عدل، وعن شهيدين ممكن تعديلهما؛ وقف المدعي فيه ما لم يخش فساده، فإن خشي فساده؛ خلي بينه وبين المدعي عليه، وكذا إن أقام شاهداً عدلاً، وقال: لا أحلف معه بوجه، وإن قال: أحلف معه أو أتي بشاهدين؛ ينظر في تعديلهما بيع ووقف ثمنه حسبما ذكره في الأم.
ومثل ما ذكره عياض عن المذهب ذكر أبو حفص العطار، وزاد: إن كان أتى الطالب بشاهد واحد ولم يزكه، وهو قابل للتزكية؛ فهو كقيام شهيدين؛ ينظر في تزكيتهما، يباع المدعي فيه لخوف فساده، ونقل أبو إبراهيم قول عياض ولم يتعقبه.
وقال ابن الحاجب: (وما يفسد من طعام وغيره، قالوا: يباع وبوقف ثمنه إن كان شاهدان، ويستحلف ويخلي إن كان شاهد)، ف 1 كره ابن هارون فقبله، ولم يزد فيها حرفاً.
وقال ابن عبد السلام: تبرأ المؤلف من هذا القسم بقوله: (قالوا)؛ لأنهم مكنوا من الطعام بيده بعد قيام شاهد عليه، ولم يمكنوه منه إن قام عليه شاهدان؛ بل قالوا: يباع ويوقف ثمنه، ومن المعلوم أن شاهداً واحداً أضعف من شاهدين، قال: فإن قلت: لأجل أنه أضعف منهما؛ أبقوا الطعام بيد المدعي عليه، وألغوا أثر شهادة الشاهد.
قلت: لو كان هذا صحيحاً؛ لزم مثله فيما لا يخشى فساده أن يحلف من هو بيده، ويترك يفعل فيه ما أحب، غير أنه يمكن أن يجاب عن أهل المذهب بأن ما يخشى فساده؛ تعذر القضاء بعينه لمدعيه؛ لما يخشى من فساده قبل ثبوت دعواه، فلم يبق إلا النزاع في ثمنه، فهو إذن كدين على من هو بيده، فيمكن منه بعد أن يحلف؛ ليسقط حق المدعي في تعجيله، ولا يقال: يلزم مثله فيما قام عليه شاهدان؛ لأن حق المدعي فيه أقوى من حق المدعي عليه.
قلت: حاصل كلامه: أن المذهب عنده هو ما نصه ابن الحاجب، وأشار إلى التبري منه، وهو أن الشاهد الواحد فيما يخشى فساده يوجب عدم تمامه حين خوف فساد
المدعى فيه بتسليمه للمدعي عليه دون بيعه، وإن عدم تمام شهادة الشاهدين حينئذ لا يوجب ذلك؛ بل يوجب بيعه، ووقف ثمنه.
ومن تأمل كلام عياض وأبي حفص العطار مراعياً أصول المذهب؛ علم أن ما فهمه الشيخ عن المذهب، وفسر به كلام ابن الحاجب، وما أشار إليه من التبري غير صحيح، وظاهر كلام الشيخ عموم ذلك في الشاهد العدل، والمنظور في عدالته، وظاهر عطف ابن الحاجب الشاهد على الشاهدين أنه منظور في عدالته، وقول ابن عبد السلام في سؤاله وجوابه.
قلت: لو كان هذا صحيحاً؛ لزم فيما لا يخشى فساده واضح رده بأن الحكم المذكور؛ وهو تسليمه للمدعي عليه، أو بيعه ووقف ثمنه؛ معلل في كل الروايات بخوف فساده حين عدم تمام حجة المدعي عدماً لا يوجب تعجيزه، وهذه العلة مفقودة فيما لا يخشى فساده، وقوله: غير أنه يمكن أن يجاب الخ؛ هو بناء على فهمه المذهب بالتفرقة بين الشاهد الواحد والشاهدين، وتقدم رده، وعلى تسليمه يرد جوابه بأن اللازم حينئذ كونه كدين على من هو بيده، وهذا إنما يوجب عدم بيعه عليه لا الزيادة الثابتة في رواية المدونة، وهي قوله: ونهي المشتري أن يتعرض له؛ لأن ظاهرها: أنه لا يعرض له مطلقاً، لا فيعين المدعي فيه، ولا تعلقه بذمته، ولو بقيت دعواه في ثمنه؛ لوقف ثمنه، ولاسيما إن كان المدعي عليه غير ملي ثمنه، وموجب كلام الشيخ بما كتبه عدم وقوفه على كلام عياض، والله أعلم بمن اهتدى.
ابن شاس: تقبل شهادة الأصم في الأفعال، وهو نحو قول المازري عن المذهب: تجوز شهادة البصير فيما يصح أن يعلمه البصير.
وفي الزاهي لابن شعبان: شهادة الأخرس جائزة إذا عرفت إشارته، يكرر عليه حتى يستيقن، وإن كان يكتب؛ فالاختيار أن يكتب.
قلت: وقبول شهادته كصحة عقد نكاحه، وثبوت طلاقه وقذفه وكلاهما فيها.
وشهادة الأعمى بما تيقنه بما هو مسموع فيها مع غيرها؛ قبولها، وهو نص سماع ابن القاسم احتجاج مالك بقوله: وكان ابن أن مكتوم أعمى إماماً مؤذناً على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مالك: وكذا رجل يشهد على المرأة من وراء الستر، وعرفها وعرف صوتها، وأثبتها قبل ذلك، وكان الناس يدخلون على أزواجه صلى الله عليه وسلم بعد موته وبينهم وبينهن حجاب يسمعون منهن ويتحدثون عنهن.
ابن رشد: مثله في اللعان منها، وهو مما لا اختلاف فيه في المذهب، وما احتج به مالك صحيح لا خروج لأحد عنه.
وقال ربيعة: لو لم تجز شهادته ما جاز له وطء أمته، ولا زوجته.
قال المغيرة: سواء ولد أعمى أو لا، ونحوه للمازري.
وقال المتيطي في فصل صفة من يستحق القضاء ما نصه: واختلف في استقضاء الأعمى، فقال مالك في موضع: لا يجوز أن يستقضي، وفي الأحكام السلطانية جواز قضائه، والمشهور عن مالك جواز قضائه، وحكي أبو عبيد من رواية ابن أبي مريم عن مالك منع شهادته، كذا وقع في غير نسخة منع شهادته التي هي قسيمة الرواية لا منع قضائه المتكلم فيه، وفي النفس من هذا النقل شيء؛ لأن المتيطي لما تعرض لذكر شهادته لم يحك إلا جوازها، واستدلال مالك على ذلك.
وفي الأقضية منها: وإذا عرف الشاهد خطه في كتاب فيه شهادته؛ فلا يشهد حتى يذكر الشهادة ويوقن بها، ولكن يؤديها كما علم، ثم لا تنفع الطالب.
ابن رشد في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من الشهادات: وأما شهادة الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة، فقال مالك: أول زمانه يشهد إن كان الكتاب نقياً، ولا يجد فيه ما يريبه، ثم رجع فقال: لا يشهد، وإن عرف خطه حتى يذكر الشهادة أو بعضها أو ما يدله على حقيقتها، وينفي التهمة عنها؛ فأخذ بالأول عامة أصحابه الأخوان، والمغيرة وابن أبي حازم وابن دينار وابن وهب، واختاره ابن حبيب وسحنون في نوازله.
قال مطرف: وعليه جماعة الناس، قال مع ابن الماجشون: وليقم بالشهادة تامة بأن يقول ما فيه حق، وإن لم يحفظ مما في الكتاب عدداً ولا مقعداً، ولا يعلم السلطان بأنه لم يعرف عين خطه، فإن أعلمه بذلك، وأنه لم يسترب في شيء لزم الحاكم ردها.
وروى ابن وهب أنه إن قال: هذا كتابي، ولا أنكر الشهادة أنه يحكم بها، وأخذ ابن القاسم وأصبغ بقول مالك الثاني لا يشهد، وإن عرف خطه حتى يذكر الشهادة، واختلف على هذا الفول، ففيها يؤديها كما علم، ولا تنفع، وهذا يدل على تصويب المجتهدين.
وقال محمد: لا يؤديها؛ وهو القياس على القول بأن المجتهد قد يخطئ الحق عند الله، وإن لم يقصر في اجتهاده، واختلف كيف يؤديها؛ فقيل: يقول: هذه شهادتي بخط يدي، ولا أذكرها.
وفي رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب أنه يقول: أرى كتاباً، وأظنه إياه، ولست أذكر شهادتي، ولا متى كتبتها، وعلى معنى هذا الاختلاف اختلافهم في الشهادة على خط المقر، ثم قال: حاصل المذهب فيها خمسة؛ الأول: جوازها والحكم بها، والثاني: لغوها، فلا يؤديها، والثالث: غير جائزة إلا أ، هـ يؤديها، ولا يحكم بها، والرابع: إن كانت في كاغد؛ لم يجز له أن يشهد، وإن كانت في رق؛ جاز له إن يشهد؛ يريد: إن كانت الشهادة في بطن الرق لا على ظهره؛ لأن البشر في ظهر الرق أخفى منه بخطه إلا لشهادة؛ لم يجز، حكي هذين القولين ابن حارث، ولسحنون في نوازله جميع أصحاب مالك يجيزونها إن كان هو خط الكتاب، وكتب شهادته، وهذه التفرقة استحسان؛ والقياس أ، لا فرق بين كون كل الكتاب بخطه، أو شهادته فقط على المعنى الذي ذكرناه في الخط هل هو رسم يدرك بحاسة البصر أم لا؟
قلت: يرد حكمه بعدم التفرقة بأن يكون الكتاب بخطه من نفي الشكوك في كون شهادته بخطه ما ليس بمجرد كون الشهادة فقط بخطه؛ لأن محاكاة الكاتب خط غيره في القليل تحصل له، ولا تحصل له في الكثير، والعلم بذلك كالضرورة، وأول لفظ المازري يدل على موافقته.
ابن رشد: في عدم التفرقة، وآخره يدل على ما قلناه من التفرقة، ووجه آخر: وهو التحيل بإلصاق محل شهادة الشاهد بمكتوب غير ما شهد به، وأخبرنا شيخنا أبو عبد
الله بن سلمة في هذا المعنى عن بعض مشاهير عدول تونس، وهو أبو عبد الله بن الفواد، كانت له دراية بفقه الوثيقة وكتبها، وكان يدرس العربية، ومع ذلك وقفه عن الشهادة القاضي أبو عبد الله بن يعقوب، وارتحل إلى المشرف، ثم قدم، فدخل عليه، واعتذر له عن ما نسب إليه من سبب وقفه، فأجابه القاضي ابن يعقوب على ما أخبرني شيخنا أبو عبد الله بن الحباب بما لا يمكن كتبه، فأيس منه، وارتحل ثانية إلى المشرق، ثم قدم بعد انصراف ابن يعقوب، فأعيد لشهادته، وكان أحد شهود الديوان في أوائل هذا القرن الثامن، وولي مدة يسيرة قضاء الأنكحة بتونس أنه أتاه طالب بوثيقة بمال له بال على رجل أنكره، وأنكر الشهادة عليه، فطلب منه رفع شهادته في الوثيقة، فنظرها، فتحقق أن شهادته بخطه، وتذكر موطنها، وأنه شهد على ذلك الرجل، وكان ممن لا يجهل، فلم يذكر ذلك، وعرضت له حيرة بتعارض حالتي تيقنه خطه، وتيقنه عدم تقدم شهادته على الرجل المذكور، فكانت الوثيقة بيده، وهو يتأمل، ويتذكر في بيته، فعرضت له حاجة أخرجته من بيته، وهي في يده، فأتفق أن نظرها ويده بها مرفوعة أعلا وجهه وهو في ضوء الشمس، فوقع بصره على شبهة في كاغد الوثيقة، فتأمله لضوء الشمس؛ فوجد محل شهادته في الكاغد ألصق إلصاقاً خفياً بكاتب كتب فيه ذكر الحق على المطلوب، فانكشف غمه، وفطن دافع الوثيقة له ففر، وكانت القضاة ببلدنا ينفون من ظهر عليه الضرب على الخطوط بعد تأديبه بحسب اجتهادهم إلى بلاد المشرق، فبعث فقهاء المشرق إليهم بالتعقب ليهم في ذلك، وقالوا: أنتم في فعلكم هذا كمن أراح نفسه من معتد في محله بإرساله على غيره من المسلمين، فأجابوهم بأن النفي لا قدرة له على الضرب على خطوط من وصل إليهم؛ لعدم ممارسته خطوطهم.
قلت: وعزو ابن رشد القول الرابع لابن حارث لم أجده بنصه؛ بل نصه: وقول خامس: أنه إن كان كاغداً أو قرطاساً؛ لم تجز، وقال عقب ذكره رواية ابن وهب: إنه إن عرف خطه؛ فليشهد، وجميع هذا على أن الشاهد ممن يعرف المشهود عليه بالعين والاسم قبل تاريخ الكتاب معرفة صحيحة، ويعرف من نفسه التثبت في إيقاع الشهادة، ثم ذكر تلقيه الخمسة الأقوال من بعض من ذاكره من المالكيين، وتفرقة ابن رشد بين
باطن الرق وظاهره بأنها في ظاهره أخفى الأظهر عكسه؛ فتأمله، وحمله ابن زرقون على ظاهره دون تفرقة، قال ما نصه: وحكي ابن حارث قولاً رابعاً: إن كان في كاغد؛ لم يجز أن يشهد بها، وإن كان في رق؛ جاز.
وقال الباجي: قال ابن نافع: إن لم يعرف عدد المال، عرف الإمام بذلك، وما أراه ينفعه، وروى ابن وهب في العتيبه: يقضي بشهادته، وإن لم يشهد عنده على عدد المال.
وروى ابن القاسم: إن لم يعرف عدد المال؛ ردت شهادته، وإن ذكر أنه أشهد مع معرفة خطه، وهذا الخلاف عندي إنما هو فيمن يقضى بشهادته، وأن ذكر أنه شهد مع معرفة قيد شهادته باسترعاء على معرفته بمال وغيره ثم نسي، ولأبي زيد عن ابن القاسم إن عرف خطه، وأثبت من أشهده إلا أنه لا يذكر أنها التي في هذا الكتاب لا يشهد حتى يذكر ما في الكتاب جرفاً جرفاً، وهذا يدل على أنه عقد استرعاء، وأما ما أشهد فيه من العقود، فقد تقدم أنه لا يلزمه تصفحه ولا قراءته، ولا يتصفح منه إلا موضع التقييد؛ ولذا يشهد على الحكام بالسجلات المطولة، ولا تقرأ، وإذا لم تلزمه قراءته حين تقييد الشهادة؛ لا يلزمه ذلك حين الأداء أولى.
قلت في نوازل سحنون: روى ابن وهب: من عرف خط يده في شهادة؛ ذكر حق، ولم يثبت عدد المال إن استيقن أنه خط يده، وكان لا يثبت عدد المال؛ فليشهد عليه، ويقضي به القاضي، وإن لم يشهد عنده على عدة المال.
ابن رشد: قوله: يشهد إذا استيقن أنه خط يده، وإن لم يثبت عنده المال خلاف سماع أبي زيد: أنه لا يشهد، وإن استيقن خطه، وذكر أن فلاناً أشهده في أمر دار حتى يذكر شهادته، وتيقنها حفاً بحرف، وهذا الاختلاف إنما هو إن وضع شهادته على معرفته في عقد استرعاء، أو أشهده أحد على نفسه بمال، أو شهادة فيها مال، وحق غير مال، فقيد شهادته بخط يده بما أشهد عليه واستحفظ، فلما دعي لأداء الشهادة عرف خط يده واستيقنه، ولم يذكر الشهادة؛ لنسيانه لها بعد ذكره إياها، فوجه القول بأنه يشهد تيقنه صحة الشهادة؛ لمعرفته خط يده، وأنه لم يضع شهادته وقت وضعه إلا وهو عالم بها، ووجه القول: أنه لا يشهد بها؛ أنه غير ذاكر لها وقت أدائها، وأما ما شهد عليه
الشاهد من عقود البياعات والإقرارات؛ فليس على الشاهد أن يقرأها، ولا يحفظ ما فيها، وحسبه أن يتصفح منها عقد الإشهاد، فيجوز له أن يؤدي شهادته على ما أشهد عليه، وإن لم يعرف ما في الكتاب، ولا عدد المال إذا عرف المشهدين له على أنفسهم.
قال ابن دحون: فإن عرف الشاهد عين المشهود عليه، ولم يعرف عين المشهود له؛ فلا يشهد غلا أن يبين، وإن لم يعرفهما معاً؛ فلا يشهد.
قال ابن رشد: وكذا إذا عرف المشهود له، ولم يعرف المشهود عليه؛ لا يشهد البتة.
قلت: قوله مع الباجي وغيره: إنه لا يلزم الشاهد قراءة كل الوثيقة خلاف عمل محققي شيوخنا على لزوم قراءتها؛ خوف أن يكون في الوثيقة عقد فاسد، أو مشروط فيه ما يفسده، وما ظنه الشاهد صحيحاً، وهو غير تام؛ كهبته لابنه الصغير دار سكناه ونحو ذلك، أو ما فيه تلبيس على حكام المسلمين، قال بعض من لقيناه: إلا أن يعلم الشاهد بقارئن الأحوال أن ما يشهد به قد برمه والتزمه؛ فلا تلزم قراءتها؛ لأنه أمر قد وقع، فيشهد به؛ لينفذ فيه حكم الله سبحانه، وأدب ملبسه، وتقدم من هذا شيء في آخر الأقضية، وتقدم إجراء القولين في رفعها مع عدم الحكم بها على كون كل مجتهد مصيب أو لا.
وقال اللخمي: منع مرة رفعها؛ خوف أن يقضي بها؛ فيكون معيناً على ما لا يراه صواباً، وقال مرة: يرفعها؛ للاختلاف فيها، ولأنه لا يجوز أن يحكم بذلك على المشهود له؛ لأنه لم يستفته ولم يحكمه، ومثله من حلف بالطلاق، وكان في حنثه اختلاف فسأل الزوج والحكم عند المفتي أن لا حنث عليه؛ جاز له على القول الأول أن يفتيه بجواز الإصابة، وعلى القول الآخر لا يجوز له ذلك إلا أن يجتمع الزوجان على تقليده، وإلا كان حكماً على الزوجة وهي لم تقلده، وكذا لو استفت الزوجة من يرى حتثه؛ جاز له أن يفتيها على القول الأول بالهروب منه، ولا يجوز ذلك على القول الآخر، إلا أن يكون اختلافاً شاذاً منافياً للأصول؛ فيجوز له دون رضي الآخر.
قلت: تخريجه عدم الفتوى بعدم الحنث؛ لتعلقها بآخر لم تستفته على القول بلزوم الرفع؛ لأن عدمه متعلق بمن لم يستفته؛ يرد بجواز كونه لذلك مع رجاء حكم الحاكم
له بالمشهود به لاستلزام الرفع؛ نظر الحاكم في ذلك، وعدم استلزام الفتوى بعدم الحنث نظر مفت آخر، فتأمله، قال: ورواية الأخوين في الشهادة على معرفة خطه أحسن، ومحمل قول مالك على ما كانوا عليه من الحفظ كان كثير منهم لا كتب له، قال مالك: حدثني ابن شهاب بأربعين حديثاً حفظتها إلا ثلاثة أحاديث، فسألته أن يعيدها علي فأبى، قلت له: أما كان يعاد عليك الحديث؟ قال: لا، ولو وكل الناس إلى حفظ الشهادات؛ لم يؤد أحد شهادة، وتعطلت الحقوق، والضرب على الخط نادر.
قلت: قوله: (ولو وكل الناس
…
الخ)؛ يدل على أن حفظهم الأحاديث المذكور عدها؛ إنما كان بالمعنى لا باللفظ، وإلا لما صح استدلاله به ذكر الشاهد شهادته.
وسمع ابن القاسم: الشهادة على خط رجل بحق عليه؛ كالشهادة بإقرار به.
ابن رشد: سواء كتب شهادته على نفسه في ذكر الحق، أو كتب ذكر الحق على نفسه بيده، فقال: لفلان على كذا وكذا، ولم يكتب شهادته، والشهادة على خط المقر؛ كالشهادة على إقراره.
قلت: قول ابن رشد: (سواء كتب شهادته على نفسه
…
) إلى قوله: (ولم يكتب شهادته) خلاف ما حكي ابن عات في طرره.
قال في المجالس: إن كتب الوثيقة بخطه وشهادته فيها؛ نفذت؛ لأنه قليل ما يضرب على جميع ذلك، وإن لم يذكر شهادته فيها لم تقبل؛ لأنه ربما كتب، ثم لم يتم الأمر، وإن قال: لفلان عندي، أو قبلي بخط يده؛ قضي عليه، وإن كتب لفلان على فلان إلى آخر الوثيقة وشهادته فيها؛ لم تجز إلا ببينة سواه؛ لأنه أخرجها مخرج الوثائق، وجرت مجرى الحقوق، ولم تجز الشهادة فيها على خطه.
قال ابن رشد: وإن شهد على خطه شاهد واحد؛ كانت مع شهادته اليمين، لم يختلف فيها قول مالك، ولا أحد من أصحابه، إلا ما روي عن ابن عبد الحكم: أنه لا تجوز على الخط، مجملاً لم يخص موضعاً دون موضع، ونزلت أيام ابن لبابة، فأفتى فيها كل معاصريه بإعمالها، وقال هو: لا تجوز، وحكاه عن رواية ابن نافع، وفي المبسوطة لابن نافع، وروايته: إنها جائزة؛ كالمعلوم من مذهب مالك خلاف ما حكى ابن لبابة،
فأرى حكايته غلطاً، وإنما اختلف إذا كتب شهادته في ذكر حق على أبيه، ثم مات أبوه، وهو وارثه، فطلبه رب الحق بذكر الحق على أبيه، فأقر بالشهادة، وزعم أنه كتبها على غير حق، وأنكرها، فشهد على خطه، ففي القضاء عليه بذلك الحق قولا ابن حبيب مع أصبغ، ومطرف وابن الماجشون؛ بناء على اعتبار مآلها أو ابتدائها.
قلت: في تمسك ابن لبابة برواية ابن نافع غير معزوة لكتاب، وتغليطه ابن رشد نظر؛ لشهرة محل نقل الخلاف في ذلك في الجلاب من أنكر ما ادعى عليه، فشهد على خطه دون لفظه؛ ففي الحكم عليه بالشهادة على خطه روايتان، وعلى الحكم بها، ففي كونه مع يمينه أو دونها روايتان، وإن شهد شاهد واحد على خطه؛ ففي الحكم بشهادته مع يمينه، ولغو الحكم بها روايتان.
المازري: تعقب نقل الجلاب بالافتقار في ذلك إلى اليمين؛ لأن مذهب فقهاء الأمصار: أنه لا يستحلف طالب الحق مع إقامته شاهدين به، خلاف قول ابن أبي ليلى، وعلي رضي الله عنه، ثم ذكر جواب بعض أشياخه بما حاصله أن القولين بناء على أن الشهادة على خطه؛ دليل على إقراره؛ فلا يفتقر ليمين، أو كنقل شهادة من شاهد على إقراره؛ لأن خطه دليل على إقراره× فلا يفتقر ليمين، أو كنقل شهادة من شاهد على إقراره؛ لأن خطه دليل إقراره، فصار كشاهد على إقراره، فيفتقر مع ثبوت النقل عنه إلى اليمين، وعليهما يتقرر قبول شاهد واحد على خطه ولغوه للغو نقل واحد عن واحد.
المتيطي: روى أشهب: أن الخط يضرب عليه، وقول ابن القاسم في معرفة الخط ومعرفة الشهود له؛ كمعرفة الشهود للثياب والدواب، وسائر الأشياء، قال بعض الشيوخ: وهذا يدل على أن الشهادة على الخط إنما تكون على القطع.
وفي كتاب القراوي: إنها في ذلك إنما تكون على العلم.
قلت: مغايرته بين القطع والعلم يدل على أن مراده بالعلم الظن، قال: ولم يزل ابن لبابة على منع الشهادة على الخط إلى أن توفي، وحكي بعض الثقات عنه أنه قال: أول شيء أحدث من جهة الخط قتل عثمان، وقول ابن لبابة قاله قبله الأخوان، ذكره عنهما
يحيى بن إسحاق في مبسوطته.
قلت: هذا خلاف تغليط ابن رشد ابن لبابة المتقدم، وما نسبه لحكاية بعض الثقات هو نقل ابن سهل عن ابن الماجشون في غير الواضحة: الشهادة على الخط باطلة، وما قتل عثمان بن عفان إلا على الخط، وما رمي به عنه، وكتب عليه.
وعلى معروف المذهب في الشهادة على خط المقر قال المازري: نزل سؤال منذ نيف ولخمسين سنة، وشيوخ أهل الفتوى متوافرون، وهو أن رجلين غريبين ادعى أحدهما على صاحبه بمال جليل، فأنكره، فأخرج المدعي كتاباً فيه إقرار المدعى عليه، فأنكر كونه خطه، ولم يوجد من يشهد عليه، فطلب المدعي كتبه، فأفتى شيخنا عبد الحميد بأنه لا يجبر على ذلك.
وأفتى شيخنا أبو الحسن اللخمي: أنه يجبر على ذلك، وعلى أن يطول في ذلك تطويلاً لا يمكن فيه أن يستعمل خطا غير خطه، ثم اجتمعت بعد ذلك بالشيخ أبي الحسن، وأخذ معي في إنكار ما أفتى به صاحبه الشيخ أبو محمد عبد الحميد، فقلت له: احتج هذا بأن هذا كإلزام المدعي عليه ببينة بقيمها لخصمه عليه، وهذا لا يلزمه، فأنكر على هذا، وقال: إن البينة لو أتى بها المدعي عليه: شهدت علي بالزور؛ فلا يلزمه أن يسعى فيما يعتقد بطلانه، والذي يكتب خطه؛ ليعلم أن ما ادعى المدعي إلا حقا.
قلت: الأظهر ما قاله الشيخ عبد الحميد، ومقتضى قوله وظاهر سياقه.
المازري: إنه لو شهدت بينة عدلة على مكتوب بشيء ما لا يحق المدعي أنه بخط المدعي عليه، وهو مماثل لخط الكتاب الذي قام به المدعي أنه يثبت لذلك للمدعي دعواه.
وفيه نظر؛ لأنه لا يحصل للشاهد المدرك الممائثلة بين الخطين ظن كون الخط الذي قام به المدعي أنه خط المدعي عليه بمجرد إدراكه المماثلة مرة واحدة، ولا يحصل إدراك كون الخط خط فلان إلا بتكرار رؤية وضعه أو سماع مفيد للعلم بأنه خطه حسبما أذكره في الشهادة على خط الغائب إن شاء الله تعالى.
وسمع أشهب: من كتب لها زوجها بطلاقها مع من لا شهادة له، فوجدت من يشهد أن هذا خط زوجها، فقال: إن وجدت من يشهد لها على ذلك نفعها.
ابن رشد: مثله في مختصر ابن عبد الحكم، ولابن حبيب عن الأخوين وأصبغ: أن الشهادة على الخط لا تجوز في طلاق، ولا عتق، ولا نكاح، ولا حد، ولا في كتاب قاض بالحكم، ولا تجوز إلا فيما هو مال خاصة، وما لا تجوز فيه شهادة النساء، ولا الشاهد واليمين لا تجوز فيه الشهادة على الخط، وحيث يجوز هذا يجوز هذا، فكان يمضي لنا عند من أدركنا من الشيوخ أن ما ذكره ابن حبيب عن من ذكر، وهو مذهب مالك لا خلاف فيه، وأن معنى ما في السماع، ومختصر ابن عبد الحكم: نفعها ذلك أنه لا يكون لها شبهة توجب لها اليمين على الزوج أنه ما طلق.
والذي أقوله: إن معنى ما حكاه ابن حبيب عن من ذكر؛ إنما هو أن الشهادة لا تجوز على خط الشاهد في طلاق، ولا عتق، ولا نكاح أنه لا تجوز على خط الشاهد أنه طلق، أو أعتق، أو أنكح؛ بل هي جائزة على خطه بذلك، كما تجوز على خطه بالإقرار بالمال، وذلك بين من قوله، ولا تجوز إلا فيما كان مالاً من الأموال إلى آخره.
قوله: فالصواب أن يحمل قول مالك: (نفعها ذلك) على ظاهره من الحكم لها بطلاقه إذا شهد على خطه عدلان، وذلك إذا كان الخط بإقراره على نفسه أنه طلق زوجته مثل أن يكتب لرجل يعلمه أنه طلق زوجته، أو لزوجته بذلك على هذا الوجه، وإن كان الكتاب إنما هو بطلاقة إياها ابتداء؛ فلا يحكم عليه به إلا أن يقر أنه كتبه مجمعاً على الطلاق، وفي قبول قوله أنه كتب غيره مجمع على الطلاق بعد أن أنكر أن يكون كتبه اختلاف ابن زرقون.
حكي ابن سهل في أحكامه أن ابن الطلاع قال: الأصل من قول مالك وأكثر أصحابه جواز الشهادة على الخط في الحقوق، والطلاق، والأحباس وغيرها، إلا أن الذي جرى به عمل الشيوخ أن تجوز في الأحباس، وما يتعلق بها، ثم ذكر ما ذكره ابن رشد عن ابن حبيب، وما كان يمضي لابن رشد عند من أدرك من الشيوخ، ونقل اختيار ابن رشد بلفظ: وعندي أن كلام ابن حبيب إنما هو في الشهادة على خط الشاهد،
لا خط المقر؛ بل هي جائزة على خطه أنه طلق، أو أ'تق، أو نكح إلى آخر ما تقدم من كلامه.
قلت: ظاهر قوله: (وعندي أنه اختص بذلك دون غيره من الشيوخ، وما أضافه لنفسه) هو ظاهر فهم الباجي قبله، قال ما نصه: قال مطرف وابن الماجشون: إنما تجوز الشهادة على خط الشاهد في الأموال خاصة حيث اليمين مع الشاهد، وقاله أصبغ، قال: وأما الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب؛ فلم يختلف في الأمهات المشهور قول مالك في إجازتها وإعمالها، وروي عنه أنها لا تجوز، وقاله محمد محتجاً بأنها كالشهادة على شهادته إذا سمعها منه، ولم يشهده عليها؛ إذ قد يكتب شهادته بما لا يتقلد شهادته بها، وأما إذا دعي إليها استراب فيها.
قلت: ظاهر قوله في الأمهات المشهور: أن المشهور إعمالها.
وقال الباجي: مشهور قول مالك: لا تجوز الشهادة على خط الشاهد رواه محمد واختاره.
وروى ابن القاسم، وابن وهب في العتيبة والموازية إجازتها، وقاله سحنون.
وقال أصبغ: هي قوية في الحكم.
زاد المتيطي عنه: ولا يعجل في الحكم بها في غيبته وليثبت.
اللخمي: الشهادة على خط الشاهد لغيبته أو موته صحيحة على الصحيح من القولين؛ لأنها ضرورة.
وقال الازري: قياس محمد الشهادة على خط الشاهد على سماعه يذكر شهادته، لا شك أن الشهادة على خطه أقوى من شهادة السماع التي أشار إليها؛ لكون الشاهد يسترسل في ذكر شهادته إذا لم يعلم أنه يقضى به، ولم يأذن في النقل عنها فإذا أذن في النقل عنه؛ لم يصح استرساله، وكذا من كتب خطه للتوثق به للمشهود له على المشهود عليه، والقولان في الشهادة على الخط؛ كالقوانين في صحة نقل الشهادة إذا سمعها الناقل من الشاهد، وهو يؤديها إلى القاضي دون إذنه في النقل عنه.
قلت: لا يلزم من لغوها في النقل لغوها في الخط للضرورة حسبما أشار
إليه اللخمي.
وقول المازري: إذا أضاف الشهود لكتب شهادتهم الإذن في النقل عنهم استقل الحكم بالنقل عنهم تعويلاً على خطوطهم، ولم يذكر خلاف عندنا في هذا.
ظاهره: أن نفي الخلاف راجع للنقل لا للشهادة على الخط، وقول ابن عبد السلام عن بعضهم لو كتب مع ذلك الإذن في النقل عنه ما اختلف في قبول الشهادة على الشهادة إن أراد به، المازري: فليس هذا مدلول لفظه، فتأمله.
ابن رشد: قول ابن زرب: لا تجوز الشهادة على خط الشاهد حتى يعرف أم المشهور على خطه كان يعرف من أشهده معرفة العين؛ صحيح لا ينبغي أن يختلف فيه؛ لما تساهل الناس فيه من وصع شهاداتهم على من لا يعرفون.
قلت: وعزو ابن الحاجب هذا الكلام للباجي وهم؛ لعدم وجدانه له، وثبوته لابن رشد.
قال: واختلف في حد الغيبة التي تجوز فيها الشهادة على خط الشاهد عند مجيزها.
فقال: ابن الماجشون: حد ذلك ما تقضي فيه الصلاة.
ابن سحنون عنه: الغيبة البعيدة، ولم يحد قدرها.
ولابن مزين عن أصبغ: هو مثل إفريقية من مصر، ومكة من العراق، ونحو ذلك، والذي جرى به العمل عندنا على ما اختاره الشيوخ إجازتها في الأحباس، وشبهها مما هو حق لله، وليس بحد.
ابن رشد: فالشهادة على الخط ثلاثة: شهادة على خط المقر، وهي أقواها، ويليها الشهادة على خط الشاهد، ويليها الشهادة على خط نفسه، وهي أضعفها، من لم يجزها على أقواها؛ لم يجزها على الباقيين، ومن أجازها على أضعفها؛ أجازها على الجميع، ففي صحتها في الجميع، ثالثها: على خط المقر فقط، ورابعها: وعلى خط الشاهد.
قال ابن الحاجب: وأما الثالث: فقال: إن لم يكن محو ولا ريبة؛ فليشهد.
قال مطرف: ثم رجع فقال: لا يشهد حتى يذكر بعضها.
ابن عبد السلام: ظاهره: أنه إن عرف خطه، وذكر بعض ما فيه أنه يشهد ولا
يختلف في ذلك، وظاهر المدونة، وهو المشهور عندهم: أنه يؤديها ولا تنفع.
قلت: ما ذكره ابن الحاجب هو نص نقل النوادر عن ابن كنانة.
قال في المجموعة: إن ذكرت بعض ما في الكتاب، ولم نذكر بعضاً، وفي الكتاب شهادتك، ولا محو فيه، ولا ما تستريبه، فاشهد بكل ما فيه.
وعن ابن حبيب: روى مطرف: إن عرف خطه، ولم يذكر من الشهادة شيئاً، ولا محو في الكتاب، ولا ريبة شهد به، ثم رجع فقال: لا يشهد، وإن عرف خطه حتى يذكر الشهادة أو بعضها.
قلت: فظاهره: أنه إن ذكر بعضها لم يختلف قوله في الشهادة به، ولفظ المدونة هو ما نصه.
قلت: إن ذكر أنه هو خط الكتاب، ولم يذكر الشهادة قال: قال مالك: فلا يشهد بها حتى يستيقنها ويذكرها، ولكن يؤديها.
قلت: أتنفعه إن أداها كذلك؟ قال: لا.
قلت: ففي لفظها احتمال لصورة ذكر بعضها دون بعض.
وقول ابن عبد السلام: المشهور عندهم أنه يؤديها ولا تنفع خلاف نقل ابن رشد.
قال في رسم الشجرة: قال مالك: أول زمانه في شهادة الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة أنه يشهد إن كان الكتاب نقياً لا محو فيه ولا ريبة، ثم قال: لا يشهد، وإن عرف خطه حتى يذكر الشهادة أو بعضها، أو ما يدله على حقيقتها، وينفي التهمة عنه فيها.
قلت: فظاهره: أن ذكر بعضها كاف في ذكرها.
قال ابن عبد السلام بعد ذكره الخلاف في البعد المبيح: الشهادة على الخط، وجرت العادة عندنا أن اختلاف عمل القضاة، وإن قرب ما بينهما كالبعد؛ لأن حال الشاهد تعلم عند قاضيه، ولا تعلم عند غيره، وفيه مع ذلك ضعف، فإن الشاهد على الخط؛ كالناقل عن من خطه، ولا بد أن يعدل الناقل من نقل عنه، أو تكون عدالته معلومة عند القاضي.
قلت: مقتضى تعليله ما زعمه من الضعف بما ذكره أن هذه العادة عندهم كانت الشهادة فيها على الخط، لا يفتقر فيها إلى ثبوت عدالة ذي الخط، وهذا شيء لا أعرفه، ولا سمعت به عن عادة جرت في إفريقية بوجه، فالله أعلم بما أراد.
والذي أعرفه وشاهدته أن خط شاهد عمالة إن وقع بعمالة أخرى، فإن كان ذو الخط كائناً فيها؛ لم يرفع على خطه، ورفع هو نفسه وإن كان غائباً بعمالته؛ رفع عليه على ظاهر قول سحنون في اعتبار مشقة الحضور دون تحديد بقدر، ثم القاضي المرفوع عنده إن كان ذو الخط عنده مقبولاً؛ قبله، وإلا طلب تزكيته.
وفتوى شيخنا ابن عبد السلام بأن شرط الشهادة على الخط حضوره، ولا يصح عليه غيبته صواب، وهو ظاهر تسجيلات الموثقين.
المتيطي وغيره: اشتراط التحويز في الشهادة باستحقاق الدور والأرضين، ولا تقبل الشهادة على الخط إلا من الفطن العارف بالخطوط وممارستها، ولا يشترط فيه أن يكون قد أدرك ذا الخط، وحضرت يوماً بعض من قدمه القاضي ابن قداح للشهادة بتونس، وهو أبو العباس ابن قليلو، وقد ناول القاضي ابن عبد السلام وثيقة؛ ليرفع فيها على خط شاهد فيها مات، فقال له القاضي ابن عبد السلام: إنك لم تدرك هذا الشاهد الذي أردت أن تشهد على خطه، ورد عليه الوثيقة، ومنعه من الرفع على الخط فيها، وأنا جالس عنده، فلما انصرف ابن قليلو قال لي: إنما لم أقبل شهادته على الخط فيها؛ لأنه ليس من أهل المعرفة بالخطوط، وليس عدم إدراك الرافع على الخط كاتبه بمانع من الشهادة على خطه إذا كان الشاهد عارفاً بالخطوط، فإنا نعرف كثيراً من خطوط من لم ندركه؛ كخط الشلوبين، وابن عصفور، وابن السيد ونحوهم؛ لتكرر خطوطهم علينا مع تلقينا من غير واحد من الشيوخ أنها خطوطهم، وذكر المتيطي في كيفية الشهادة على خط الغائب أن الشهود يعرفون أنه كان يرسم العدالة والقبول في تاريخ الشهادة وبعدها إلى أن توفي، قاله مالك خوف أن تكون شهادته قد سقطت لجرحة، أو أن غير مقبول الشهادة، وإن زيد في التقييد ممن يعرف أن الشاهد المذكور كان يعرف المشهود عليه بعينه واسمه إن لم يكن في عقد الإشهاد معرفته بالعين
والاسم؛ كان أكمل، وهذه نكتة حسنة قل من يعرفها أو يهتدي إليها.
قلت: قوله: (إلى أن توفي) قيل: إن الصواب إلى حين الشهادة على خطه؛ لجواز ثبوت تجريحه بعد موته ممن أعذر له في شهادة، ورد بأن ثبوت جرحته بعد موته يثبتها عليه قبل موته، فاستمرار عدالته إلى موته تنفي ما ينتفي بقوله إلى حين الشهادة على خطه.
وقول ابن الحاج: قول بعض قضاة إفريقية لابد من زيادة، وأنه وضعها في حين عدالته؛ لجواز أن نقول: لو حضر وضعها فاسقاً؛ فلا أقوم بها غير بين؛ لوجوب رد شهادة من لم تعلم عدالته.
وظاهر قول المتيطي: أن تضمين الشاهد على الخط أن ذا الخط كان يعرف المشهود عليه شرط كمال لا شرط إجزاء، وظاهر نقل ابن فتوح أنه شرط إجزاء.
قال ما نصه: إن نقص من الوثيقة معرفة عين المشهود عليه فيها؛ كان الأمر مشكلاً، فمن أجاز الشهادة على الخط؛ احتاج إلى تضمين الشهود على الخط أن المشهود على خطه كان يعرف المشهد على نفسه، أو يشهد بذلك غير من شهد على خطه، وفي سماع أشهب قيل لمالك: أيشهد الرجل على من لا يعرف؟ قال: أحب إلى أن لا يقعل، والناس يشهدون بكون بعضهم يعرف، وفي ذلك بعض السعة.
ابن رشد: إن أشهد الرجل على نفسه جماعة يعرفه بعضهم، فلمن لا يعرفه منهم أن يضع شهادته عليه، وهو من ذلك في سعة لأمنه لمعرفة بعضهم أن يتسمى باسم غيره، وإن لم يعرفه أحد منهم؛ كره لهم أن يضعوا شهادتهم عليه خوف أن يتسمى باسم غيره، فيقر أنه باع داره من فلان، ثم يشهد على خطوطهم بعد موتهم، فتجوز شهادتهم، قاله الأخوان، فإن كتب شهادته على من لا يعرفه بالعين والاسم؛ لم يصح أن يشهد بها إلا على عينه، وكل هذا لا اختلاف فيه، فإن علم أنه لا يقف على عين المشهود له إذا غاب عنه؛ فشهادته لا نفع فيها، وإنما تسامح العلماء والخيار في وضع شهاداتهم على من لا يعرفونه بعين ولا اسم، سياسة في نفع العامة؛ ولئلا ينتبهون على؛ وهي شهادة من أوقع شهادته على من لا يعرف، فيجترئون على جحد الحقوق المنعقدة عليهم إذا علموا
أن الشهادة عليهم لا تصح إذا أنكروا، ففي جهلهم بالحقيقة في ذلك صلاح عظيم وتحصين للحقوق.
ولابن القاسم في المجموعة: من دعي ليشهد على امرأة لا يعرفها، ويشهد عنده رجلان أنها فلانة تشهد.
قال في سماع حسين بن عاصم في بعض الروايات: لا يشهد إلا على شهادتهما.
وقال ابن نافع: يشهد، ورواه ابن رشد الذي أقوله إن كان المشهود له أتاه بالشاهدين؛ ليشهد له عليهما بشهادتهما عنده أنها فلانة؛ فلا يشهد إلا على شهادتهما، وإن كان هو سأل الشاهدين فأخبراه أنها فلانة؛ فليشهد عليها، وكذا لو سأل عن ذلك رجلاً واحداً يثق به أو امرأة؛ جاز له أن يشهد، ولو أتاه المشهود له بجماعة من لفيف النساء يشهدوا عنده أنها فلانة؛ جاز له أن يشهد إذا وقع العلم بشهادتهن.
قلت: قوله: (إن أشهد على نفسه جماعة)؛ يعرفه بعضهم، فلمن لم يعرفه منهم أن يضع شهادته عليه؛ ظاهره: أنه يشهد عليه، ولا يذكر معرفة ولا تعريفاً، وجرى العمل عندنا في هذا النوع أنه يذكر في الشهادة عليه ما نصه، وبمعرفته بالموجب وهي زيادة حسنة، وظاهر قول ابن رشد ولفظ السماع؛ أنه لا يشترط فيمن عرفه من الجمع بلوغ عدده ما يحصل العلم به؛ بل ظاهره: إن عرف منه اثنان أو واحد؛ كفى في ذلك، والأظهر تقييده بما يفيد العلم به بكثرة أو قرائن أو الظن القوي.
وفي أحكام ابن جدير: قال أصبغ بن سعيد: شهدت محمد بن عمر بن لبابة يكتب شهادته على أقوام مجهولين لا يعرفهم، وفي الوثيقة من يعرفهم بأعيانهم وأسمائهم، فقلت له: كيف تكتب هذا، وأنت لا تعرف القوم؟ فقال: قد يتناصفون بينهم بالحقوق إذا رأوا شهاداتنا في كتابهم، فإن اضطروا إليها؛ لم نشهد إلا فيما نعلم، وقال به سعيد بن أحمد ابن عبد ربه: وهو مذهب أبي عمر الإشبيلي، ويحتج بقول ابن لبابة، ثم ذكر عن الأخوين، وابن عبد الحكم مثل ما تقدم في السماع.
قال: وروى ابن القاسم، وابن نافع في المبسوطة فيمن دعي إلى الشهادة على امرأة وهو لا يعرفها: إنه شهد عنده عدلان أنها فلانة؛ فليشهد عليها.
قال ابن القاسم: هذا باطل، ولا يشهد عليه إلا وهو يعرفها بغير تعريفهم.
وقال ابن الماجشون: الذي قاله ابن القاسم هو الباطل، وكيف يعف النساء إلا بمثل هذا؟
وسمع ابن القاسم في كتاب النكاح في الرجل عنده المرأة لا يعرفها غيره كابنة أخيه يريد أن يزوجها كيف يشهد عليها؟ قال: يدخل عليها من لا تحتشم منه، فيشهد على رؤيتها.
قال عيسى: قال لي ابن القاسم: قال مالك: وإن لم يعرفها الشهيدان.
ابن رشد: إن لم يوجد من يعرفها؛ فلا بد أن يشهد على رؤيتها من لا تحتشم منه، فتسفر لهم عن وجهها يثبتوا عليها؛ ليشهدوا علي عينها إن أنكرت أنها التي أشهدتهم، فإن وجد من العدول من يعرفها؛ لم ينبغي لمن لم يعرفها أن يشهد عليها، فإن شهد عليها مع وجود من يعرفها أو دونه؛ لم ينبغي لهم أن يشهدوا على شهادتهم عليها بالرضا بالنكاح؛ لاحتمال أنها لم تكن هي التي أشهدتهم، فيموتوا، ويشهد على شهادتهم، فيلزم نكاحاً لم يرضي به؛ لأن شهادتهم على شهادتهم بذلك، كشهادتهم به عليها عند حاكم، والحقوق بخلاف ذالك.
قال مالك: لا يشهد الرجل على من لا يعرف، ومثله لأصبغ في الخمسة قال: وأما الحقوق من البيوع، والوكالات، والهبات، ونحو ذلك؛ فلا يشهد عليه في شيء من ذلك، إلا من يعرفها بعينها واسمها ونسبها، والفرق بين النكاح وغيره من الحقوق؛ أنه يغشى، وإن لم يشهدوا على شهادتهم في الحقوق أن يموتوا، فيشهد على خطوطهم، فتلزم بطلاً لم تشهد به على نفسها، وعلى ما جرى به العمل عندنا من أنه لا يقضى بالشهادة على الخط إلا في الأحباس، وما جرى مجراها، فيستوي النكاح وغيره من الحقوق، ولا يكون على الرجل حرج في وضع شهادته على من لا يعرف في الحقوق، كما يضعها عليه في النكاح إذا لم يشهد على شهادته بذلك، وقد استجاز ذلك العلماء قديماً، وإن قيد في عقد إشهاد الوثيقة معرفة العين والاسم لما في ذلك من تحصين العقود دوماً عند أداء الشهادة؛ فلا يحل للشاهد أن يشهد بإجماع إلا على من يثبت عليه، ويعرف أنه.
هو الذي أشهده دون شك في ذلك لا ارتياب.
وفي طرر ابن عات: زمن ومن الاستغناء: عن ابن أيوب: وإذا كتب الرجل ذكر حق على من لا يعرف الشهود؛ فالأحسن أن يكتب نعته وصفته، ويشه الشهود على الصفة حيي أو مات أو غاب.
قال: وقد قال بعضهم: يكتب اسمه وقريته ومسكنه، ويجتزئ بذلك.
قال: والأول، أحسن: لأنه قد يتسمى الرجل بغير اسمه وغير مسكنه وموضعه.
قلت: والذي عليه العمل عندنا أنه إن عين الشاهد من عرفه بالمشهود عليه؛ فإنها شهادة ساقطة، وصارت كالنقل همن عرفه؛ ولذا يحترز بعضهم، فيكتب، وممن عرفه فلان.
وفي أول ترجمة من النوادر من الشهادات في المجموعة قال ابن كنانة: من شهد في صبي صغير يبيعه، ثم استحق بملك أو حرية، فقام مبتاعه بعهدته، وكتاب شرائه، فشهدوا أن الكتاب حق، ولم يعرفوا العبد الآن؛ لأنه كبر؛ فلا يقضي له بالثمن حتى يقطعوا أن هذا هو العبد المبيع في الكتاب.
وفي ترجمة الشهود في الزنا أو غيره هل يكشفهم الحكم؟ قال ابن القاسم في العتبية والموازية والمجموعة: من اعترف دابة أو رأساً هل تجمع له دواب أو رقيق، وتدخل فيها، ويكلف الشهود إخراجها؟ قال ليس ذلك على احد في شيء، وذلك خطأ، ولاكن إن كاونوا عدولاً؛ قبلت شهادتهم.
محمد عن أصبغ: وكذا النساء إن شهد عليهن، ولابن سحنون عنه: لو شهدوا على امرأة بنكاح، أو براءة، وسأل الخصم إدخالها في نساء ليخرجوها، وقالا: شهدنا عليها عن معرفتنا بعينها ونسبها، ولا ندري هل نعرفها اليوم، وقد تغيرت حالها، أو قالوا: لا نتكلف ذلك فلا بد من ان يخرجوا عينها اليوم، وقد تغيرت عن حالها، قيل لهم: إن شككتم، وقد ايقنتم أنها بنت فلان، وليس لفلان إلا بنت واحدة من حين شهد عليها إلى اليوم؛ جازت الشهادة، وإن قالت البينة: أشهدتنا وهي متنقبة، وكذلك نعرفها، ولا نعرفها بغير نقاب، فهم أعلم بما تقلدوا إن كانوا
عدولاً وعينوها، كما ذكر قطع بشهادتهم.
وسأل حبيب سحنونا عن امرأة انكرت دعوى رجل عليها، فأقام عليها بينة، قالوا: اشهدتنا على نفسها، وهي متنقبة بكذا وكذا، ولا نعرفها إلا متنقبة، وإن كشفت وحهها؛ لم نعرفها.
قال: هم أعلم بما تقلدوا إن كانوا عدولاً، فقالوا: عرفناها، ونشهد عليها، ونقطع بشهادتهم.
ومن المجموعة: قال ابن كنانة: من شهد على امرأة بإقرار أو بيع، ثم قاموا بها، وشهدوا إلا انهم لم يعرفوها بعينها، وعرفوا الاسم والنسب الآن، وقالوا: إن كانت فلانة بنت فلان؛ فقد أشهدتنا، قال: إن شهد غيرهم أنها فلانة بنت فلان مع شهادة هؤلاء الذين شهدوا على الحق والنسب والاسم؛ فليحلف رب الحق ويثبت حقه.
قال سحنون في كتابه ابنه: أو يعرف أنه ليس لفلان ابنة غيرها.
قال ابن عيد السلام: جرت عادة شهود بلدنا أنهم يكتبون المعرفة، أو ما يقوم مقامها عندهو من التعريف، وإذ لم يكتبوا شيئاً من ذلك؛ دل على أن المشهود عليه عندهم معروف؛ ولهذا يعدون كتب المعرفة في الشهادة على الرؤساء من الجفاء.
قلت: ليس في عزوه تمام الشهادة العرية عن زكر المعرفة، والتعريف لشهود بلدنا حجة تامة، ويظهر من أقوال من تقدم في ذلك اختلاف تقدم.
المتيطي: إن تضمين الشهداء على خط غيرهم أن المشهود على خطه، كان يعرف من يشهد عليه بعينه واسمه شرط كمال لا شرط إجزاء، وهذا يقتضي أن ترك الشاهد ذكر المعرفة والتعريف لا يقدح في شهادته.
ومثله نقل ابن سهل في ترجمة من لم يعرف من الشهود إلا واحداً في أول كتابه ما نصه: قال عبيد الله بن يحيى، ومحمد لبابة، ومحمد بن يحيى، ويحيى بن عبد العزيز في شهادة رجلين شهداء على شهادة عبد الرحمن: أن فلانة ابنة فلان أشهدتني، ولم يذكر في شهادته أنه عرفها بالعين والاسم والنسب؛ أن الشهادة تامة.
وقوله: (أشهدتني)؛ معرفة لا محالة، وتقدم لابن فتوح: أن التضمين المذكور في
الشهادة على الخط أنه شرط إجزاء؛ وهذا يقتضي أن ترك الشاهد ذكر المعرفة والتعريف، يبطل شهادته ويؤيده قوله: وإذا اشهد الشهداء على شهادتهم في وثيقة، سقط من عقدها معرفة الشهود لعين من أشهدهم، فهو خلاف الشهادة على معرفة الخطوط وذلك تام؛ لأن من أشهد على شهادته يحمل على أنه لم يشهد على شهادته، إلا وقد عرف المشهد، وروى ذلك بعض أهل العلم.
فإن قلت: تفرقته بين المشهد على شهادته، وبين الشهادة على الخط ترد ما تقدم من التمسك بمسألة ابن سهل؛ لأنها شهادة مشهد على شهادته.
قلت: التمسك بمسألة ابن سهل هو من حيث تعليل قائلها بقوله، وقوله: أشهدتني معرفة لا محالة، فلم يعلل ذلك بما علله ابن فتوح، وهو كونه أشهد على شهادته، والأظهر أن الشاهد إن كان معلوم الضبط والتحفظ؛ قبلت شهادته، وغن لم يذكر معرفة ولا تعريفاً، وإلا ردت إلا أن تكون على مشهور معرفة.
قال ابن الحاجب تابعاً لابن شاس: وإذا شهدت بينة على امرأة زعمت أنها بنت زيد؛ فلا يسجل على بنت زيد.
قلت: هذا الفرع لا أعرفه نصا في شيء من أمهات مذهبنا؛ وإنما وجدته نصا للغزالي في وجيزة قال: إذا قامت البينة على عين امرأة بدين، وزعمت أنها بنت زيد؛ فليس للقاضي أن يسجل على بنت زيد، وإن أقرت بالنسب، ولا إن أقامت بينة على أنها بنت زيد بغير تقدمٍ ودعوى، لا تسمع على الصحيح
؛ لكن على القاضي أن ينصب من يدعي على بنت زيد، وتنكر هي أنها بنت زيد، فيقام عليها البينة بالنسب، ثم إذا ثبت؛ سجل وتجوز هذه الحيلة للحاجة.
قلت: فاقتصر ابن شاس على نقل أول هذا الكلام؛ لجربه على أصل مذهبنا في أنه لا بد من معرفة الشاهد بنسب المشهود عليه أو التعريف.
وفي الواضح عن الأخوين: ينبغي إذا سجل الحاكم حكمه إن يسمي الشهود، ولا يضره ترك تسميتهم إن كانا مأمونا، ولابد من تسمية من قضي له، ومن قضي عليه، فإن كانا معروفين؛ اجتزئ بالتسمية، وإن مجهولين؛ زاد التحلية والصفة، وذكر
أنسابهما ومتجرهما ومسكنهما.
وقال أصبغ: إن لم يسمع الشهود؛ فأحب إلي أن يبدله حتى يسميهم، فإن لم يفعل حتى مات أو عزل؛ مضى ذلك ونفذ، إلا أن يكون حكماً على غائب.
قال: لما قدم وقيم عليه بالقضية لو علمت البينة جرحتها، فهذا ترد عنه القضية، ويؤمر بابتداء الخصومة.
وفي شرط شهادة غير السماع بقطع الشاهد بالعلم بالمشهود فيه مطلقاً وصحتها بالظن القوي فيما يعسر العلم به عادة طريقان: الأولى في المقدمات لا تصح شهادة بشيء إلا بعلمه، والقطع بمعرفته لا بما يغلب على الظن معرفته.
قال: العلم ما يحصل بمجرد العقل فقط منه ضروري كعلم الإنسان حال نفسه من صحته وسقمه، وإيمانه وكفره، ويصبح بذلك شهادته على نفسه، وبالعقل مع أحد الحواس الخمس: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، والثالث: الخبر المتواتر، ومنه نظري؛ كشهادة خزيمة بن ثابت له صلى الله عليه وسلم أنه اشترى الفرس من الأعرابي، ولم يحضر شراءه مستنداً في ذلك للدليل الظاهر والبرهان الساطع، فإن قلت: حمله شهادة خزيمة على هذا الاعتبار، وجعلها مثالا لأصل عام خلاف قول الأصوليين: إنها خاصة لا يقاس عليها حسبها ذكر الآمدي وابن الحاجب في شروط الأصل في القياس.
قلت: جعل الأصوليين كونها خاصة هو من حيث الحكم لها، بحكم شهادة شهيدين لا من حيث الحكم لها بأنها شهادة شرعية.
قال: وكذا الشهادة بما علم من الأخبار المتواترة جائزة؛ كالولاء والنسب والموت، وولاية القاضي وعزله، وضرر الزوجين، وشبهه إذا حصل العلم بهذه الأمور والقطع بها.
الثانية للمازري، قال في قبول شهادة الشاهد بزوجية رجل امرأة برؤيته: حوزه