المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌المحجة اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض - المطلب الحميد في بيان مقاصد التوحيد

[عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المقامات

- ‌مدخل

- ‌المقام الأول:

- ‌المقام الثاني:

- ‌المقام الثالث:

- ‌المقام الرابع:

- ‌المقام الخامس:

- ‌المقام السادس:

- ‌المقام السابع:

- ‌المقام الثامن:

- ‌ المقام التاسع:

- ‌المحجة

- ‌الرد على احمد بن علي بن احمد بن سليمان المرائي

- ‌المراسلات

- ‌مدخل

- ‌الرسالة الأولى

- ‌الرسالة الثانية

- ‌الرسالة الثالة

- ‌الرسالة الرابعة

- ‌الرسالة الخامسة

- ‌الرسالة السادسة

- ‌الرسالة السابعة

- ‌الرسالة الثامنة

- ‌الرسالة التاسعة

- ‌الرسالة العاشرة

- ‌الرسالة الحادية عشر

- ‌الرسالة الثانية عشر

- ‌الرسالة الثالثة عشر

- ‌الرسالة الرابعة عشر

- ‌الرسالة الخامسة عشر

- ‌الرسالة السادسة عشر

- ‌الرسالة السابعة عشر

- ‌الرسالة الثامنة عشر

- ‌الرسالة التاسعة عشر

- ‌الرسالة العشرون

- ‌الرسالة الواحده العشرون

- ‌الرسالة الثانية والعشرون

- ‌الرسالة الثالثة والعشرون

- ‌الرسالة الرابعة والعشرون

- ‌الرسالة الخامسة والعشرون

- ‌الرسالة السادسة والعشرون

- ‌الرسالة السابعة والعشرون

- ‌الرسالة الثامنه والعشرون

- ‌الرسالة التاسعه والعشرون

- ‌الرسالة الثلاثون

- ‌الرسالة الواحدة والثلاثون

- ‌الرسالة الثانية والثلاثون

- ‌الرسالة الثالثة والثلاثون

- ‌الرسالة الرابعة والثلاثون

- ‌الرسالة الخامسة والثلاثون

- ‌الرسالة السادسة والثلاثون

- ‌الرسالة السابعة والثلاثون

- ‌الرسالة الثامنه والثلاثون

- ‌الرسالة التاسعة والثلاثون

- ‌الرسالة الأربعون

- ‌الرسالة الواحدة والأربعون

- ‌الرسالة الثانية والأربعون

- ‌الرسالة الثالثة والأربعون

- ‌الرسالة الرابعة والأربعون

- ‌الرسالة الخامسة والأربعون

- ‌الرسالة السادسة والأربعون

- ‌الرسالة السابعة والأربعون

- ‌الرسالة الثامنة والأربعون

- ‌الرسالة التاسعة والأربعين

- ‌الرسالة الخمسون

- ‌الرسالة الواحده والخمسون

- ‌الرسالة الثانية والخمسون

- ‌الرسالة الثالثة والخمسون

- ‌الرسالة الرابعة والخمسون

- ‌الرسالة الخامسة والخمسون

- ‌الرسالة السادسة والخمسون

- ‌الرسالة السابعة والخمسون

- ‌الرسالة الثامنة والخمسون

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌المحجة اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض

بسم الله الرحمن الرحيم

‌المحجة

اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي له ملك السموات والأرض، {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قال الله خطابا له:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} .

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه ومن أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

أما بعد فإني وقفت على جواب للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن وقد سئل عن أبيات من البردة وما فيها من الغلو والشرك العظيم المضاهي لشرك النصارى ونحوهم، ممن صرف خصائص الربوبية والإلهية لغير الله كما هو صريح الأبيات المذكورة في البردة ولا يخفى على من عرف دين الإسلام أنه الشرك الأكبر الذي لا يغفره لمن يتب عنه وأن الجنة عليه حرام وذكره الشيخ في جوابه أن الأبيات المذكورة تضمنت الشرك وصرف خصائص الربوبية والإلهية لغير الله فاعترض عليه جاهل ضال فقال مبرئا لصاحب الأبيات من ذلك الشرك بقوله: حماه الله من ذلك ويكفيه في نفي هذه الشناعة قوله: أول المنظومة.

ص: 35

دع ما أدعت النصارى في نبيهم

واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم".

الجواب: أن هذه التبرئة إنما نشأت عن الجهل وفساد التصور فلو عرف الناظم وهذا المعترض ومن سلك سبيلهما حق الله على عباده وما اختص به من ربوبيته وألوهيته وعرفوا معنى كلام الله وكلام رسوله لما قالوه هم وأمثالهم ممن جهل التوحيد كما قال تعالى: في حق من هذا وصفه: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}

فا لجهل بما بعث الله به رسله قد عم كثيرا من هذه الأمة فظهر فيها ما خبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحرضب لدخلتموه قالوا يارسول الله اليهود والنصارى قال فمن ونحو هذا من الأحاديث وقوله: ويكفيه فى نفي هذه الشناعة قوله: أول المنظومة دع ما ادعته النصارى في نبيهم0البيت

الجواب: أن هذا يزيده شناعة ومقتا لأن هذا تناقض بين وبرهان على أنه لا يعلم ما يقول فلقد وقع فيما وقعت فيه النصارى من الغلو العظيم الذي نهى الله عنه ورسوله ولعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله أو فعل ما يوصل إليه بقوله: لعنة الله على اليهود والنصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله.

وقوله: لما قال له رجل ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده وقال إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل فلقد حذر أمته وأنذرهم عن الشرك ووسائله وما دق منه وجل ودعا الناس

ص: 36

إلى التوحيد ونهاهم عن الشرك وجاهدهم على ذلك حتى أزال الله به الشرك والأوثان من جميع الجزيرة وما حولها من نواحي الشام واليمن وغير ذلك وقد بعث السرايا في هدم الأوثان وإزالتها كما هو مذكور في كتب الحديث والتفسير والسير وكما في حديث أبي الهياج الأسدي الذي في الصحيح قال: قال علي بن ابي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته" وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح لهدم منات وبعث خالد بن الوليد يومئذ لهدم العزى وقطع السمرات التي كانت تعبدها قريش وهذيل وبعث المغيرة بن شعبة لهدم اللات فهدمها وأزال من جزيرة العرب وما حولها جميع الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله والصحابة رضي الله عنهم تعاهدوا هذا الأمر واعتنوا بإزالته أعظم الا عتناء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يقع في أمته من الاختلاف كما في حديث العرباض بن سارية قال: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا". الحديث.

فوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وعظم الاختلاف في أصل الدين بعد القرون المفضلة كما هو معلوم عند العلماء ولو أخذنا نذكر ذلك أو بعضه لخرج بنا عن المقصود من الاختصار فانظر إلى ما وقع اليوم من البناء على القبور والمشاهد وعبادتها فلقد عمت هذه البلية في كثير من البلاد ووقع ما وقع من الشرك وسوء الاعتقاد في أناس ينتسبون إلى العلم.

قال سليمان التميمي لو أخذت بزلة كل عالم لا جتمع فيك الشر كله فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقوله: المطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم"

ص: 37

أقول لا ريب أن المطابقة وقعت منه ولا بد لكنها في المنهي عنه لا في النهي فالذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الاطراء طا بقته الأبيات من قوله:

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

فقد تضمنت غاية الاطراء والغلو الذي وقعت فيه النصارى وأمثالهم فإنه قصر خصائص الالهية والربوبية التي قصرها الله على نفسه وقصرها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرفها لغير الله فإن الدعاء مخ العبادة واللياذ من أنواع العبادة وقد جمع في أبياته الاستعانة والاستغاثة بغير الله والالتجاء والرغبة إلى غير الله فإن غاية ما يقع من المستغيث والمستعين والراغب إنما هو الدعاء واللياذ بالقلب واللسان وهذه هي أنواع العبادة ذكرها الله تعالى في مواضع كثير من كتابه وشكرها لمن قصرها على الله ووعده على ذلك الاجابة والانابة.

كقوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقوله: تعال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} الآية.

فهذا هو الدين الذي بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقول لهم {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} فقصر الدعاء على ربه الذي هو توحيد الالهية وقال: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} إلى آخر الآيات وهذا هو توحيد الربوبية فوحد الله في الهيته وربوبيته وبين للأمة ذلك كما أمره الله تعالى وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} ،

ص: 38

أمره بقصر الرغبة على ربه تعالى، وقال:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} .

ونهى عن الاستعاذة بغيره بقوله تعالى عن مؤمني الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} واحتج الامام أحمد رحمه الله: وغيره على القائلين بخلق القرآن بحديث خولة بنت حكيم مرفوعا من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق الحديث على أن القرآن غير مخلوق إذ لو كان مخلوقا لما جاز أن يستعاذ بمخلوق لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك وأمثال ذلك في القرآن والحديث كثير يظهر بالتدبير.

وأما قول المعترض أن النصارى يقولون أن المسيح ابن الله نعم قاله طائفة وطائفة قالوا هو الله والطائفة الثانية قالوا هو ثالث ثلاثة وبهذه الطرق الثلاثة عبدوا المسيح عليه السلام فأنكر الله عليهم تلك الأقوال في المسيح وأنكر عليهم ما فعلوه من الشرك كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأنكر عليهم عبادتهم للمسيح والأحبار والرهبان.

أما المسيح فعبادتهم له بالتأله وصرف خصائص الالهية من دون الله كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} فأخبر أن الالهية وهي العبادة حق الله لا يشركه فيها أولوا العزم ولا غيرهم يبين ذلك قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وأما عبادتهم للأحبار والرهبان فإنهم أطاعوهم فيما حللوه

ص: 39

لهم من الحرام وتحريم ما حرموه عليهم من الحلال.

ولما قدم عدي ابن حاتم رضي الله عنه عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراره إلى الشام وكان قبل مقدمه على النبي صلى الله عليه وسلم نصرانيا فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما تاى هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال يارسول الله لسنا نعبدهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أليسوا يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه قال بلى قال: فتلك عبادتهم.

ففيه بيان من أشرك مع الله غيره في عبادته وأطاع غير الله في معصيته فقد اتخذه ربا ومعبودا وهذا بين بحمد الله.

فلو تأمل هذا الجاهل المعترض قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} لعلم أن الله تعالى قد أنكر على النصارى قولهم: وفعلهم وعلى كل من عبد مع غيره بأي نوع كان من أنواع العبادة لكن هذا وأمثاله كرهوا التوحيد وألفوا الشرك وأحبوه وأحبوا أهله فترى مآب هذا الداء العضال إلى ما ترى من التخليط والضلال والاستغناء بالجهل ووساوس الشيطان فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ولا شفاء لهذا الداء العظيم إلا بالتجرد عن الهوى والعصبية والاقبال على تدبير الآيات المحكمات في بيان التوحيد الذي بعث الله به المرسلين كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ومثل قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} .

أمره تعالى أن يدعو أهل الكتاب إلى أن يخلصوا العبادة وحده ولا

ص: 40

يشركوا فيها أحدا من خلقه فإنهم كانوا يعبدون أنبياءهم كالمسيح ابن مريم ويعبدون أحبارهم ورهبانهم.

وتأمل قوله: كلمة سواء بيننا وبينكم وهذا هوالتوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جميع من أرسل إليه كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} وقوله: لا نشرك به شيئا يعم كل الشرك دق أو جل كثر أو قل.

قا ل العماد بن كثير في تفسيره هذا الخطاب مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم وقوله: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} ولا وثنا ولا وصنما ولا صليبا ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيئا بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له.

قلت وهذا هو معنى لا اله الا الله ثم قال وهذه دعوة جميع الرسل قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} انتهى المقصود.

وقال رحمه الله: في تفسير قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية قال محمد بن اسحاق حدثنا بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال أبو رافع القرضي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام أتريد يا محمد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى ابن مريم فقال رجل من أهل نجران يقال له الرئيس أو ذاك منا يا محمد إليه تدعونا أو كما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر

ص: 41

بعبادة غير الله وما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني أو كما قال صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل في ذلك {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .

قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ما ينبقي لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس أعبدوني من دون الله أي مع الله وإذا كان هذا لا يصح لنبي ولا لمرسل فلأن لا يصح لأحد من الناس بطريق الأولى والأخرى.

ولهذا قال الحسن البصري: لا ينبغي هذا المؤمن أن يأمر الناس بعبادته وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا يعني أهل الكتاب وقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ} أي بعبادة أحد غير الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل {أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي لا يفعل ذلك لأن من دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر والأنبياء إنما يأمرونكم بالايمان وعبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال تعالى: في حق الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} انتهى.

وهو في غاية الوضوح وبيان التوحيد وخصائص الربوبية والالهية ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن وفي السنة من الأحاديث كذلك فإذا كان من المستحيل عقلا وشرعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وجميع الأنبياء والمرسلين أن يأمروا أحدا بعبادتهم فكيف جاز في عقول هؤلاء الجهلة أن يقبلون قول صاحب البردة.

ص: 42

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

وقد أخلص الدعاء الذي هو مخ العبادة واللياذ الذي هو من أنواع العبادة وتضمن إخلاص الرغبة والاستكانة والاستغاثة والالتجاء إلى غير الله وهذه هي معظم العبادة كما أشير إلى ذلك كما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} إلى قوله تعالى: {قوله الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .

وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا الدعاء مخ العبادة رواه الترمذي وقوله:-

إن لم تكن في معادي آخذا بيدي

فضلا والا فقل يا زلة القدم

هذا القول المنافي لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} وقوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} الآية.

وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة وأحب الناس إليه يا فاطمة سليني من ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا.

فتأمل ما بين هذا وبين قول الناظم من التضاد والتباين ثم المصادمة منه لما ذكره الله تعالى وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم وكقوله تعالى لرسوله: {لَيْسَ لَكَ

ص: 43

مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} .

وتأمل ما ذكره العلماء في سبب نزول هذه الآية وأمثال هذه الآية كثير لم ينسخ حكمها ولم يغير ومن ادعى ذلك فقد افترى على الله كذبا وأضل الناس بغير علم وتأمل قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}

وبهذا يعلم أن الناظم قد زلت قدمه اللهم إلا أن يكون قد تاب وأناب قبل الوفاة والله أعلم وأما قوله:

فإن من جودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

فمن المعلوم أن الجواد لا يجود إلا بما يملكه فمقتضى ذلك أن الدنيا والآخرة ليست لله بل لغيره وأن أهل الجنة من الأولين والآخرين لم يدخلهم الجنة الرب الذي خلقهم وخلقها لهم بل أدخلهموها غيره {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} .

وفي الحديث الصحيح لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته وقد قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} فلا شريك لله في ملكه كما لا شريك له في الهيته وربوبيته والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم وهذا أيضا كالذي قبله لا يجوز أن يقال إلا في حق الله تعالى الذي أحاط علمه بكل شيء كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} وقال تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ

ص: 44

مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} والآيات في هذا المعنى كثيرة تفوق الحصر وكل هذه الأمور من خصائص الربوبية والإلهية ألتي بعث الله رسله وأنزل كتبه لبيانها واختصاصها لله سبحانه دون كل من سواه وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} وقوله في آية الكرسي: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} فقد أطلع من شاء من أنبيائه ورسله على ماشاء من الغيب بوحيه إليهم فمن ذلك ما جرى من الأمم السالفة وما جرى عليهم كما قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} وكذلك ما تضمنه الكتاب والسنة من أخبار المعاد والجنة والنار ونحو ذلك أطلع الله عليه رسوله والمؤمنين عرفوه من كتاب الله وسنة رسوله وآمنوا به وأما إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها وما كان منها وما وما لم يكن فذاك إلى الله وحده لا يضاف إلى غيره من خلقه فمن ادعى ذلك لغير الله فقد أعظم الفرية على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فما أجرأ هذا القاتل على الله في سلب حقه وما أعداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن تولاه من المؤمنين والموحدين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية والشرك وما عابه القرآن وذمه ووقع فيه وأقره

ص: 45

ودعا إليه وصوبه وحسنه وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا والبدعة سنة والسنة بدعة ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان. انتهى.

قلت وقد رأينا ذلك والله عيانا من هؤلاء الجهلة الذين ابتلينا بهم في هذه الأزمنة أشربت قلوبهم الشرك والبدع واستحسنوا ذلك وأنكروا التوحيد والسنة وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فضلوا وأضلوا.

وأما قول الناظم فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدا البيت.

فهذا من جهله إذ من المعلوم عند من له أدنى مسكة من عقل أن الاتفاق في الإسم لا ينفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة فأولياء الرسول صلى الله عليه وسلم هم من أتباعه على دينه والعمل بسنته كما دل على ذلك الكتاب والسنة وكما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} إلى قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

وتأمل قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه ويحميه وينصره ويجمع القبائل على نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته من أعدائه وقد قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم:

ص: 46

لقد علموا أن ابننا لا يكذب

لدينا ولا يعني بقول الأباطل

حدبت بنفسي دونه وحميته

ودافعت عنه بالذرى والكلاكل

ولما لم يتبرأ من دين أبيه عبد المطلب ومات على ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرنك لك ما لم أنه عنك أنزل الله سبحانه {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} فلا وسيلة للعبد إلى نيل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالايمان به وبما جاء به من توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له ومحبته واتباعه وتعظيم أمره ونهيه والدعوة إلى ما بعث به من دين الله والنهي عما نهى عنه من الشرك بالله والبدع وإلا فلا فعكس الملحدون الأمر فطلبوا الشفاعة الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه وإنكاره وقتال أهله وإحلال دمائهم وأموالهم وأضافوا إلى ذلك إنكار التوحيد وعداوة من قام به واقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله: من قوله: ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد إلى آخر كلامه.

وأما قول الناظم ولن يضيق رسول الله جاهك بي البيت.

فهذا هو الذي ذكر الله عن المشركين من اتخاذ الشفعاء ليشفعوا لهم ويقربوهم إلى الله زلفى قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} .

فهذا هو دين الله لا يقبل الله من أحد دينا سواه ثم ذكر بعد ذلك دين المشركين فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فتأمل كون الله تعالى كفرهم بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال في آخر هذه السورة: {أَمِ اتَّخَذُوا

ص: 47

مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} قل لله الشفاعة جميعا قلت وقد وقع من هؤلاء من اتخذهم شفعاء بدعائهم وطلبهم ورغبتهم والالتجاء إليهم وهم أموات غافلون عنهم لا يقدرون ولا يسمعون لما طلبوا منهم وأرادوه.

وقد أخبر تعالى أن الشفاعة ملكه لا ينالها من أشرك به غيره وهو الذي له ملك السموات والأرض كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .

فعاملهم الله بنقيض قصدهم من جميع الوجوه وأسجل عليهم بالضلال ولهذه الآية نظائر كثيرة كقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .

فبين أن دعوتهم غير الله شرك بالله وأن المدعو غيره لا يملك شيئا وأنه لا يسمع دعاء الداعي ولا يستجيب وأن المدعو ينكر ذلك الشرك ويتبرأ منه ومن صاحبه يوم القيامة فمن تأمل هذه الآيات انزاحت عنه بتوفيق الله وفتحه جميع الشبهات ومما يشبه هذه الآية في حرمان من أنزل حوائجه بغير الله واتخذه شفيعا من دون الله بتوجيه قلبه وقالبه إليه واعتماده في حصول الشفاعة عليه كما قد تضمنه بيت الناظم قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

ص: 48

فانظر كيف حرمهم الشفاعة لما طلبوها من غير الله وأخبر أن حصولها مستحيل في حقهم في دار العمل من غيره وهذه هي الشفاعة التي نفاها القرآن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} فهذه الشفاعة المنفية هي التي فيها شرك وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن فإنما ثبتت بقيدين عظيمين: إذن الرب تعالى للشفيع ورضاه عن المشفوع له وهو لا يرضى من الأديان الستة المذكورة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} الآية. إلا الإيمان الذي أصله وأساسه التوحيد والإخلاص كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلى قوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} .

وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر شفاعته قال: "وهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا" وقال أبو هريرة رضي الله عنه من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه".

قال شيخ الإسلام في هذا الحديث: فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولا تكون لمن أشرك بالله وقد كشفنا بحمد الله بهذه الآيات المحكمات تلبيس هذا المعترض الملبس ولجاجه وافترائه على الله ورسوله فإن دعوة غير الله ضلال وشرك ينافي التوحيد وأن اتخاذ الشفعاء إنما هو

ص: 49

بدعائهم والالتجاء إليهم وسؤالهم أن يشفعوا للداعي وقد نهى الله عن ذلك وبين أن الشفاعة له فإذا كانت له وحده فلا تطلب إلا ممن هي ملكه فيقول اللهم شفع نبيك في لأنه تعالى هو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن يرضى دينه وهو الإخلاص كما تقدم بيانه وأما قول المعترض أن المعتزلة احتجوا بالآيات التي فيها نفي الشفاعة على أنها لا تقع لأهل الكبائر من الموحدين.

فأقول لاريب أن قولهم: هذا بدعة وضلالة وأنت أيها المجادل في آيات بغير سلطان مع المعتزلة في طرفي نقيض تقول إن الشفاعة ثبت لمن طلبها وسألها من الشفيع فجعلت طلبها موجبا لحصولها والقرآن قد نفى ذلك وأبطله في مواضع كثيرة بحمد الله والحق أنها لا تقع إلا لمن طلبها من الله وحده ورغب إليه فيها وأخلص له العبادة بجميع أنواعها فهذا هو الذي تقع له للشفاعة قبل دخول النار أو بعده أن دخلها بذنوبه وهذا هو الذي يأذن الله للشفعاء أن يشفعوا له بما معه من الا خلاص كما صرحت بذلك الأحاديث والله أعلم.

وقد قدمنا مادل عليه الكتاب والسنة أن ما في القرآن من ذكر الشفاعة نفيا وإثباتا فحق لا اختلاف فيه بين أهل الحق فالشفاعة المنفية إنما هي في حق المشرك الذي اتخذ له شفيعا بطلب الشفاعة منه فيرغب إليه في حصولها كما في البيت المتقدم وهو كفر كما صرح به القرآن.

وأما الشفاعة التي أثبتها الكتاب والسنة فقد ثبتت للمذنبين الموحدين المخلصين وهذا هو الذي تظاهرت عليه النصوص واعتقده أهل السنة والجماعة ودانوا به والحديث الذي أشار إليه المعترض من قوله: أنا لها أنا لها لا ينافي ما تقرر وذلك أن الناس في موقف القيامة إذا فزعوا إلى

ص: 50

الرسل ليشفعوا لهم إلى الله في إراحتهم من كرب ذلك المقام بالحساب وكل نبي ذكر عذره.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: ""فيأتوني فأخر بين يدي الله ساجدا أوكما قال فأحمده فأبمحامد يفتحها علي ثم يقال ارفع رأسك وقل تسمع واسأل تعطه واشفع تشفع قال فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة".

فتأمل كون هذه الشفاعة لم تقع إلا بعد السجود لله ودعائه وحمده والثناء عليه بما هو أهله وقوله: فيحدلي حدا فيه بيان أن هو الذي يحد له وهذا الذي يقع من الناس يوم القيامة مع الرسل هو من

باب سؤال الحي الحاضر والتوسل إلى الله بدعائه كما كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون رسول

لله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم إذا نابهم شيء كما في حديث الاستسقاء وغيره

ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يفعلون عند قبره شيئا من ذلك البتة ففرق

أصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الأمة وأفضلها بين حالتي الحياة والممات وكانوا

يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه وفي الصلاة والخطب وعند ذكره امتثالا لقوله: صلى الله عليه وسلم لا تجعلوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني أينما كنتم

ولما أردا عمر رضي الله عنه أن ستسقي بالناس أخرج معه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيدعو

فلو جاز أن يتوسل عمر والصحابة بذات النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لما صلح منهم أن

يعدلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس فلما عدلوا عنه إلى العباس علم أن التوسل بالنبي

صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يجوز في دينهم وصار هذا إجماعا منهم

ص: 51

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك فقال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام قال أبو الحسن أما المسألة بغير الله فتكره في قولهم: لأنه لا حق لغير الله عليه وإنما الحق لله على خلقه.

وقال ابن بلدمي في شرح المختار ويكره أن يدعوا الله إلا به فلا يقول أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك لأنه لاحق للمخلوق على الخالق وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه أكره كذا هو عند محمد حرام وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب وجانب التحريم عليه أغلب فإذا قرر الشيطان عنده أن الأقسام على الله به والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجع بقضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله ثم ينقله بعد درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه ويوقد عليه القنديل ويعلق عليه الستور ويبني عليه المسجد ويعبده بالسجود له والطواف وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس لعبادته واتخاذه عيدا ومنسكا وإن ذلك نفع لهم في دنياهم وأخراهم.

قال شيخنا قدس الله روحه وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس قال وهؤلاء من جنس عباد الأصنام وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب يدعوا أحدهم من يعظمه ويتمثل لهم الشيطان أحيانا وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة.

ص: 52

ثم ذكر المرتبة الثانية وهي أن يسأل الله به وقال: وهو بدعة باتفاق المسلمين.

والثالثة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أوأنه أفضل من الدعاء في المساجد فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين وإن كان كثيرا من الناس يفعل ذلك انتهى.

ففرض على كل أحد أن يعلم ما أمره الله به ورسوله من إخلاص العبادة لله وحده فإنه الدين الذي

بعثه به وأن يترك مانهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم من الشر ك فها دونه كما قال تعالى:

َ {لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} الآية وأن لا يدين لله تعالى إلا بما دل له الدليل على أنه من دين الله ولا يكون أمعة يطير مع كل ريح فإن الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم والأمم قبلها قد تنازعوا في ربهم وأسمائه وصفاته وما يجب له على عباده وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .

فيا سعادة من تجرد عن العصبية والهوى والتجأ إلى حصن الكتاب والسنة فإن العلم معرفة الهدى بدليله وما ليس كذلك فجهل وضلال.

وأما قول المعترض فأنظر إلى الشفاعة تجده حكي كفر من قال: مثل هذه الكلمة أي الكلمة التي ذكرها المجيب في معنى قوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} الآيات. ذكر عبارة النسفي في معناها وهي قوله: هو إظهار العبودية وبراءة مما يختص بالربوبية من علم

ص: 53

الغيب أي أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر إلى آخر كلامه إذ من عادة هذا المعترض الجاهل رد الحق والمكابرة في دفعه والغلو المتناهي وإلا فمن المعلوم عند من له معرفة بدين الإسلام أن المجيب إنما أتى في جوابه بتحقيق التوحيد ونفي الشرك بالله وذلك تعظيم لجانب الرسالة.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أمته عن كل ما يؤل بهم إلى الغلو ولما قيل له صلى الله عليه وسلم أنت سيدنا وخيرنا وابن خيرنا قال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله تعالى".

والنبي صلى الله عليه وسلم هو أحق الخلق بالتواضع لله وحده سبحانه وفي الحديث فإنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة وإني لا أثق إلا برحمتك الحديث.

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة يخبر بذلك عن نفسه ويعترف بذلك لربه وهو الصادق المصدوق فإذا قال المسلم مثل هذا في حقه صلى الله عليه وسلم وأخبر بما اخبر به عن نفسه لم يكن منتقصا له بل هذا من تصديقه والإيمان به.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا كان الكلام في سياق توحيد الرب ونفي خصائصه عما سواه لم يجز أن يقال هذا سوء عبارة في حق من دون الله من الأنبياء والملائكة فإن المقام أجل من ذلك وكل ما سوى الله يتلاشى عن تجريد توحيده والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أعظم الناس تقريرا لما يقال على هذا الوجه وإن كان نفسه المسلوب كما في الصحيحين في حديث الإفك لما نزلت براءة عائشة من السماء واخبرها النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 54

بذلك قالت لها أمها إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم قالت والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا إياكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها على هذا الكلام الذي نفت فيه أن تحمد رسول لله صلى الله عليه وسلم وفي رواية بحمد الله لا بحمدك ولم يقل أحد هذا

سوء أدب منها عليه صلى الله عليه وسلم:

وأخرج البيهقي بسنده إلى محمد بن مسلم قال: سمعت حبان صاحب ابن المبارك يقول قلت لبعد

الله بن المبارك قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم بحمد الله لا بحمدك إني لأستعظم هذا فقال عبد الله ولت الحمد أهله وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن الأسود بن سريع أن

النبي صلى الله عليه وسلم أتى بأسير فقال اللهم أتوب إلى محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم

عرف الحق لأهله.

وهذا المعترض وأمثاله ادعوا تعظيم أمرر سول الله صلى الله عليه وسلم بما قد نهى عنه من الغلو والإطراء وهضموا ربوبية الله وتنقصوا الهيته وأتوا بزخارف شيطانية وحاولوا أن يكون حق الله من

العبادة التي خلق لها عباده نهبا بين الأحياء والأموات هذا يصرفه لنبي وهذا لملك وهذا لصالح أو غير هؤلاء ممن اتخذوهم ندادا لله وعبدا الشياطين بما أمروهم به من ذلك الشرك بالله فإن عبادتهم

للملائكة والأنبياء والصالحين إنما تقع في الحقيقة على من زينها لهم من الشياطين وأمرهم بها كما قال تعالى: {يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قالوا لُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ونحو هذه الآية كثير في القرآن.

ولما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله: ما وقع في زمانه من الشرك بالله قال: وهذا هضم للربوبية وتنقص للإلهية وسوء ظن برب

ص: 55

العالمين وذكر أنهم ساووهم بالله في العبادة كما قال تعالى: عنهم وهم في النار {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وأما ما ذكره عن خالد الأزهري فخالد وما خالد أغرك منه كونه شرح التوضيح والأجرومية في النحو وهذا لا يمنع كونه جاهلا الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم كما جهله من هو أعلم وأقدم منه ممن لهم تصانيف في المعقول كالفخر الرازي وأبي معشر البلخي ونحوهما ممن غلط في التوحيد وقد كان خالد هذا يشاهد أهل مصر يعبدون البدوي وغيره فيما أنكر ذلك في شيء من كتبه ولا نقل عنه أحد إنكاره فلو صح ما ذكره خالد من حال الناظم لم يكن جسرا تذاد عنه النصوص من الآيات المحكمات القواطع والأحاديث الواضحات البينات كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم "من مات وهو يدعوا لله ندا دخل النار" وقد استدرج الله أهل الشرك بأمور تقع لهم يظنونها كرامات عقوبة لهم وكثير منها أحوال شيطانية أعانوا بها أولياءهم من الإنس كما قد يقع كثيرا لعباد الأصنام وما أحسن ما قال بعضهم شعرا:-

تخالف الناس فيما رأوا ورووا

وكلهم يدعون الفوز بالظفر

فخذ بقول يكون النص ينصره

أما عن الله أو عن سيد البشر

وقد حاول هذا الجهل المعترض صرف أبيات البردة عما هو صريح فيها ونص في ما دلت عليه من الشرك في الربوبية والإلهية ومشاركة الله في علمه وملكه وهي لا تحتمل أن تصرف عما هي فيه من ذلك الشرك

ص: 56

والغلو فما ظفر هذا المعترض من ذلك بطائل غير أنه وسم نفسه بالجهل والضلال والزور والمحال لوسكت لسلم من الانتصار لهذا من الشرك العظيم الذب وقع فيه. وأما قول المعترض ورد في الحديث "لولا حبيبي محمد ما خلق سمائي ولا أرضي ولا ناري" فهذا من الموضوعات لا أصل له ومن ادعى خلاف ذلك فليذكر من رواه من أهل الكتب المعتمدة في الحديث وأنى له ذلك بل هو من أكاذيب الغلاة الوضاعين.

وقد بين الله تعالى حكمته في خلق السموات والأرض في كثير من سور القرآن كما في الآية التي بعد وهي قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}

ولها نظائر تبين حكمة في خلق السموات والأرض وقوله: وكيف ينكر تصرفه في إعطاء أحد بإذن الله من الدنيا في حياته أوفي الآخرة وبعد وفاته.

أقول هذا كلام من اجترى وافترى وأساء الأدب مع الله وكذب على رسوله ولم يعرف حقيقة الشفاعة ولا عرف تفرد الله بالملك يوم القيامة وهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد

أصحابه أومن بعدهم من أئمة الإسلام أن أحد يتصرف يوم القيامة في ملكه ولو أطلقت هذه العبارة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لادعاها كل لمعبوده من نبي أو صالح أنه يشفع له إذا

دعاه سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ

ص: 57

صَوَاباً} وهذا القول الذي قاله الجاهل قد شافهنا به جاهل مثله بمصر يقول الذي يتصرف الكون سبعة البدوي والإمام الشافعي والشيخ الدسوقي حتى أكمل السبعة من الأموات يقول هذا ولي له

شفاعة وهذا صالح كذلك وقد قال تعالى: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} إلى قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} وأي ظلم أعظم من الشرك بالله ودعوى الشريك له الملك والتصرف وهذا غاية الظلم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: في هذا المعنى قوله تعالى: ِ {قُلِ دْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونا الله ولم يبق إلا الشفاعة التي يظنها المشركون وهي منتفية كما نفاها القرآن وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا ثم يقال ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع وقال له أبو هريرة رضي الله عنه من أسعد الناس بشفاعتك قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولا تكون لمن أشرك بالله":

وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود:

فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ولهذا أثبت الشفاعة

ص: 58

بإذنه في مواضع وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكون الا لأهل التوحيد والاخلاص انتهى

كلامه:

وقال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعا

فقال تعالى: {قُلِ دْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}

فالمشرك انما يتخذ معبودة لما يحصل له به من النفع والنفع لايكون الا ممن فيه خصلة من هذه الأربع أما ما لك لما يريده عابده منه فان لم يكن شريكا له كان معينا وظهيرا فان لم يكن معينا ولاظهيرا كان شفيعا عنده فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى الأدنى فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه فكفى بهذه الآية نور وبرهانا وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك وموادة

لمن عقلها وفي القرآن كثير من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنه في نوع.

قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا فهذا الذي يحول بين القلب وفهم القرآن ولعمر الله ان كان

أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو دونهم وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك إلى أن قال ومن أنواعه أي الشرك طلب الوائج من الموتى والاستعانة بهم والتوجه إليهم وهذا أصل شركة العالم فان الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا لمن استغاث به وسأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله وهذا بجهله بالشافع والمشفوع عنده فانه لا يقدر أن يشفع له

ص: 59

عند الله إلا بإذنه والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن وهو

بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها وهذه الحالة كل مشرك فجمعوا بين الشرك بالمعبود

وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى تنقص بالأموات وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياء التوحيد له بذمهم وعيبهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم يوالونهم عليه وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم قال: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله واتخذ الله وحده وليه والهه ومعبوده فجرد حبه لله وخوفه لله ورجاءه لله وذله لله وتوكله على الله واستعانته بالله والتجاءه إلى الله وأخلص قصده لله متبعا لأمره متطلبا لمرضاته وإذا سأل سأل الله وإذا استعان استعان بالله وإذا عمل عمل لله وبالله ومع الله انتهى.

فرحم الله هذا الإمام وشيخه فلقد بينا للناس حقيقة الشرك وطرقه وما يبطله.

وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" ولم يقل فاسألني واستعن بي بل قصر السؤال والاستعانة على الله الذي لا يستحق سواه كما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فمن صرف ذلك لغير الله فقد عصى الله ورسوله وأشرك بالله.

وللمعترض كلام ركيك لا حاجة لنا إلى ذكر ما فيه وإنما نتتبع من كلامه ما يحتاج إلى رده وإبطاله كجنس ما تقدم.

ص: 60

وأعلم أنه قال لما ذكر قول المجيب أنه لا يجتمع الإيمان بالآيات المحكمات وتلك الأبيات لما بينهما من التنافي والتضاد وقال المعترض أقول يجتمعان بأن يفرد الله بالعبادة ولا يقدح فيه تشفعه بأحباب حبه إليه وكيف يحكم عليه بالضلال بمجرد طلبه الشفاعة ممن هو أهل لها كما في الحديث أنا لها أنا لها ومعلوم أن الضلال ضد الحق.

فالجواب لا يخفى ما في كلامه من التخليط والتلبيس والعصبية المشوبة بالجهل المركب حيث أنه لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

وقد بينا فيما تقدم أن دعوة غير الله ضلال وأن اتخاذ الشفعاء الذين أنكر الله تعالى إنما هو بدعائهم والالتجاء إليهم والرغبة إليهم فيما أراده الراغب منهم من الشفاعة التي لا يقدر عليها إلا الله وذلك ينافي الإسلام والإيمان بلا ريب فإن طلبها من الأموات والغائبين طلب لمما لا يقدر عليه الا الله من غير الله وهو خلاف لما أمر به تعالى وارتكاب لما نهى عنه كما تقدم بيانه في معنى قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآية وقوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره بعد وفاته وبعده عن الداعي لا يحبه الله تعالى ولا يرضاه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وهو التوسل الذي ذكره العلامة ابن القيم وشيخه وصرحا بأنه شرك وللعلامة ابن القيم أبيات في المعنى وهي قوله:-

والشرك فهو توسل مقصود الزلفى من الرب العظيم الشأن

بعبادة المخلوق من حجر ومن

بشر ومن قبر ومن أوثان

والناس في هذا ثلاث طوائف

ما رابع أبدا بذي إمكان

ص: 61

أحدا الطوائف مشرك بالهه

فاذا دعاه دعا الها ثان

هذا وثاني هذه الأقسام ذلك جاحدا يدعو سوى الرحمان

هو جاحد للرب يدعو غيره

شركا وتعطيلا له قدمان

هذا وثالث هذه الأقسام خير

الخلق ذاك خلاصة الانسان

يدعو إله الحق لا يدعو ولا

أحدا سواه قط في الأكوان

يدعوه في الرغاب والرهبات

والحالات من سر ومن إعلان

وقد أنكر الله ذلك الدعاء على من زعم في الرسل والملائكة وذلك كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} .

قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح وأمه وعزيرا أو الملائكة فأنكر الله ذلك وقال هؤلاء عبيدي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي وهؤلاء الذين نزلت هذه الآية في إنكار دعوتهم من أوليائه وأحبابه وقد تقدم أن الدعاء وجميع أنواع العبادة حق الله المحض كما تقدم في الآيات.

والحاصل أن الله تعالى لم يأذن لأحد أن يتخذ شفيعا من دونه يسأله ويرغب إليه ويلتجيء إليه وهذه هي العبادة ومن صرف من ذلك شيئا لغير الله فقد أشرك مع الله غيره كما دلت عليه الآيات المحكمات وهذا ضد أفراد الله بالعبادة وكيف يتصور إفراد الله بالعبادة وقد جعل العبد ملاذا ومفزعا سواه فإن هذا ينافي الأفراد فأين ذهب عقل هذا وفهمه.

قال لشيخ الإسلام رحمه الله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة انتهى.

ص: 62

وقد تبين أن الدعاء مخ العبادة وهو ما يحبه ويأمر به عباده وأن يخلصوه له وقد تقدم من الآيات ما يدل على ضلال من فعل ذلك وكفره.

وبهذا يحصل الجواب عن قول المعترض إن الشفاعة المنفية إنما هي في حق الكفار فنقول فمن اتخذ معبودا سوى الله يرجوه أو يخافه فقد كفر وتأمل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} .

فبين تعالى أن المخلوق لا يصلح أن يدعي من دون الله وأن من دعاه فقد أشرك مع الله غيره في الإلهية والقرآن من أوله إلى آخره يدل على ذلك وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الملحدين محجوبون عن فهم القرآن كما حجبوا عن الإيمان بجهلهم وضلالهم وإعراضهم كما أنزل في كتابه من بيان دينه الذي رضيه لنفسه ورضيه لعباده.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تعالى: وحقيقة التوحيد أن يعبد الله وحده لا يدعى إلا هو ولا يخشى ولا يتقى إلا هو ولا يتوكل إلا عليه ولا يكون الدين إلا له وأن لا يتخذ الملائكة والنبيين أربابا فكيف بالأئمة والشيوخ فإذا جعل الإمام والشيخ كأنه إله يدعى مع غيبته وموته ويستغاث به ويطلب منه الحوائج كأنه مشبه بالله فيخرجون عن حقيقة التوحيد الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله انتهى.

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فلو جاز أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قصر سؤاله

ص: 63

واستعان على الله وحده وابن عباس أحق الناس بأن يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه له منفعة فلو جاز صرف ذلك لغير الله لقال: واسألني واستعن بي بل أتى صلى الله عليه وسلم بمقام الإرشاد وا لإبلاغ والنصح لابن عمه بتجريد إخلاص السؤال ولاستعانة على الله تعالى فأين ذهبت

عقول هؤلاء الضالين عن هذه النصوص والله الستعان0

وقال الشيخ رحمه الله: واعلم أن لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين دعاء العبادة ودعاء

المسألة وكل عابد سائل وكل سائل عابد وأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده وإذا جمع بينهما فإنه يراد بالسائل الذي يطلب لجلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ المسئول والطلب ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر وإن لم يكن هناك صيغة سؤال ولا يتصور أن يخلو داع الله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغبة والرهبة والخوف والطمع انتهى.

فتبين أن أبيات البردة التي قدمنا الكلام عليها تنافي الحق وتناقضه وماذا بعد الحق إلا الضلال.

وقول المعترض لا سيما والناظم على جانب عظيم من الزهد والورع والصلاح بل وله يد في العلوم كما حكى ذلك مترجموه وهذا كله صار هباء منثورا حيث لم يرضوا عنه.

أقول هذه دعوى تحتمل الصدق والكذب والظاهر أنه لا حقيقة لذلك فإنه لا يعرف إلا بهذه المنظومة فلو قدر أن لذلك أصلا فلا ينفعه ذلك مع تلك الأبيات لأن الشرك يحبط الأعمال كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقد صار العمل مع الشرك هباء منثورا قال سفيان بن عيينة احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد

ص: 64

الجاهل فان فتنتهما فتنة لكل مفتون فإن كان للرجل عبادة فقد فتن بأبياته كثير من الجهال وعبادته إن كانت فلا تمنع كونه ضالا كما يرشد إلى ذلك آخر الفاتحة قال سفيان بن عيينة من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى فالواجب علينا أن نبين ما في كلامه مما يسخط الله ورسوله من الشرك والغلو وأما الشخص وأمثاله ممن قد مات فيسعنا السكوت عنه لأنا لا ندري ما آل أمره إليه وما مات عليه وقد عرف أن كلام خالد الأزهري لا حجة فيه وأهل الغلو والشرك ليس عندهم إلا المنامات والأحوال الشيطانية التي يحكيها بعضهم عن بعض كما قال لي بعض علماء مصر أن شيخنا مشى بأصحابه على البحر فقال لا تذكروا غيري وفيهم رجل ذكر الله فسقط في البحر فأخذ بيده الشيخ فقال: ألم أقل لكم لا تذكروا غيري فقلت هذه الحكاية تحتمل أحد أمرين لا ثالث لهما أحدهما أن تكون مكذوبة مثل أكاذيب سدنة الأوثان أو أنها حال شيطانية وأسألك أيها الحاكي لذلك أيكون فيها حجة على جواز دعوة غير الله فأقر وقال لا حجة فيها على ذلك والمقصود بيان أنه ليس عند الغلاة من الحجة على ما زخرفوه أو حرفوه أو كذبوه وما قال الله وقال رسوله فهذا بحمد الله كله عليهم لا لهم وما حرفوه من ذلك رد إلى صحيح معناه الذي دل عليه لفظه مطابقة وتضمنا والتزاما.

قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} وذكر المعترض حكاية يقول: عن غير واحد من العلماء العظام أنه رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والمنظومة تنشد بين يديه إلى قوله: لكن الخصم مانع ذلك كله بقوله: إنهم كفار.

ص: 65

فالجواب: أن يقال ليس هذا وجه المنع وإنما وجهه إنها حكاية مجهولة عن مجهول وهذا جنس إسناد الأكاذيب فلو قيل من هؤلاء العظام وما أسماؤهم وما زمنهم وما طبقتهم لمن يدر عنهم وأخبار المجهولين لا تقبل شهادة ولا رواية يقظة فكيف إذا كانت أحلاما والمعترض كثيرا ما يحكي عن هيا بن بيا ثم قال المعترض على قول المجيب وطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع شرعا وعقلا قال المعترض من أين هذا الامتناع وما دليله من العقل والسمع.

فالجواب: أن يقال معلوم أن دليله من الجهتين لا تعرفه أنت ومن مثلك وإنما معرفتك في اللجاج الذي هو كالعجاج الذي يحوم في الفجاج.

أما دليله من السمع فقد تقدم في آيات سورتي الزمر ويونس وغيرها وقد بسطنا القول في ذلك بما يغني عن إعادته فليرجع إليه.

وأما دليله من العقل فالعقل الصحيح يقضي ويحكم بما يوافق النقل بأن النجاة والسعادة والفلاح وأسباب ذلك كله لا تحصل إلا بالتوجه إلى الله تعالى وحده وإخلاص الدعاء والالتجاء له وإليه لأن الخير كله بيده وهو القادر عليه وأما المخلوق فليس في يده من هذا شيء كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} فتسوية المخلوق بالخالق خلاف العقل كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فالذي له الخلق والأمر والنعم كلها منه وكل مخلوق فقير إليه لا يستغني عنه طرفة عين هو الذي يستحق أن يدعى ويرجى ويرغب إليه ويرهب منه ويتخذ معاذا وملاذا ويتوكل عليه.

ص: 66

وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وقال المفسرون المحققون السلفيون المتبعون في قول الله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون الحوائج إلا منه ولا يرغبون إلا إليه ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.

ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل جماع الايمان ذكره العلماء في تفسيره وليتأمل ما ذكره لله عن صاحب ياسين من قوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فهذا دليل فطري عقلي سمعي وأما قول المعترض أن قول الناظم ومن علومك علم اللوح والقلم أن من بيانية.

فالجوب: أنه ليس كما قال بل هي تبعيضية ثم لو كانت بيانية فها ينفعه والمحذور بحاله وهو أنه يعلم

ما في اللوح المحفوظ وقد صرح المعترض بذلك فقال ولا شك إنه أتي علم الأولين والآخرين وعلم ما كان وما يكون

فالجواب: هذه مضاربه لما هو صريح في كتاب الله وسنة رسوله بأن الإحاطة بما في اللوح المحفوظ علما ليس إلا لله وحده كذلك علم الأولين والآخرين ليس إلا لله وحده إلا ما أطلع الله عليه نبيه في كتابه كما قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فالرجل في عمي عن قول من عمله الله تعالى بشيء من علمه وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ

ص: 67

بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقد تقدم الكلام لهذه الآيات نظائر فإحاطة العلم بالموجودات والمعلومات التي وجدت وأستوجدت لله وحده لم يجعل ذلك لأحد سواه.

وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} فأسند علم وقت الساعة إلى ربه بأمره كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} وأمثال هذه الآيات مما يدل على أن الله تعالى اختص بعلم الغيب كله إلا ما استشناه بقوله: {ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ومن تبعيضية ها هنا بلا نزاع وقد قال الخضر لموسى عليها السلام ما نقص علمي وعمك في جانب علم الله الا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر

فتأمل هذا وتدبر وأما قول المعترض وتأويله لقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} فتأويل فاسد ما قاله غيره ولا يقوله: مسلم من أنه يعلم الغيب بتعليم الله له والمنفي في الآية أن يعلمه بنفسه بدون أن يعلمه الله ذلك فما أجرأ هذا الجاهل على هذا التأويل وما أجهله بالله وبكتابه فيقال في الجواب لا ينفعك هذا التأويل الفاسد إذ لو كان أحد يعلم جميع الغيب بتعليم الله لصدق عليه أن يقال هذا يعلم الغيب كله الذي يعلمه الله فيها بقي على هذا لقصر علم الغيب على الله في هذه الآية معنى وحصل الاشتراك نعوذ بالله من الافتراء على الله وعلى كتابه وصرف ما لم ينزل الله به سلطانا وأما قوله: في قول الناظم إن لم تكن في آخذا بيدي أن الأخذ باليد هي الشفاعة

فالجوب: أن حقيقة هذا القول وصريحة طلب ذلك من غير الله فلو

ص: 68

صح هذا الحمل فالمحذور بحاله لما قد عرفت من الاستغاثة بالأموات والغائبين والاستشفاع بهم في أمر هو من الله ممتنع حصوله من غير الله لكونه تألها وعبادة وقد أبطله القرآن فهذا المعترض الجاهل يدور على منازعة الله في حقه وملكه وشمول علمه والله يجزيه بعلمه وأما قول: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} فقيل المراد بها الخمس المذكورة في سورة لقمان وهذا قبل أن يطلع نبيه عليها وإلا فقد ذكر عامة أهل العلم أنه لم يتوفاه الله تعالى حتى علمه الله كل شيء حتى الخمس.

فالجوب: أنظر إلى هذا المفتري الجاهل البليد كيف اقتفى أثر صاحب الأبيان بجميع ما اختلقه وافتراه وأكثر من الأكاذيب على أهل العلم فان قوله: ذكر عامة أهل أنه لم يتوفاه الله حتى علمه كل شيء حتى الخمس فحاشا أهل العلم الذين يعرفون بأنهم من أهل العلم من هذه المقالة وعامة أهل العلم بل كلهم على خلاف ما ادعاه سلفا وخلفا.

قال أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله: في تفسير الكبير الذي فاق على التفاسير ابتدأ تعالى ذكر الخبر عن علمه بمجيء الساعة فقال تعالى: {إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة} والتي تقوم فيها القيامة لا يعلم ذلك أحد غيره {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} من السماء لا يقدر على ذلك أحد غيره {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الإناث {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} يقول وما تعلم نفس ماذا تعمل في غد {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} يقول وما تعلم نفس حي بأي أرص يكون موتها {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} يقول إن الذي يعلم ذلك كله هو الله دون كل أحد سواه وذكر

ص: 69

سنده عن مجاهد {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد وبلادنا جدبة فاخبرني متى ينزل الغيث وقد علمت متى ولدت فمتى أموت فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى آخر السورة قال: فكان مجاهل يقول من مفاتيح الغيب التي قال الله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} .

وأخرج بسنده عن قتادة {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية خمس من الغيب استأثر الله بهن فلم يطلع علهن ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وبسنده عن عائشة رضي الله عنها من قال إن أحدا يعلم الغيب إلا الله فقد كذب وأعظم الفرية على الله قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وبالسند عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية ثم قال: لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم أحد متى ينزل الغيث إلا الله ولا يعلم أحد متى قيام الساعة إلا الله ولا يعلم أحد ما في الأرحام إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت.

وبسنده عن مسروق عن عائشة قالت: من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية انتهى ما ذكره ابن جرير

وذكر البغوي في تفسير حديث ابن عمر وعائشة المتقدم ثم قال: وقال

ص: 70

الضحاك ومقاتل: مفاتيح الغيب خزائن الأرض وقال عطاء ما غاب عنكم من الثوب وقيل انقضاء الأجل وقيل أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم وقيل ما لم يكن بعد أن يكون أم لا يكون وما لا يكون كيف يكون وانتهى.

قلت ولا يعرف عن أحد من أهل العلم خلاف ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات ونعوذ بالله من مخالفة ما أنزل الله في كتابه وما أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه العلماء فان الله استأثر بعلمه عن خلقه ووصف نفسه بأنه علام الغيوب ونعوذ بالله من حال أهل الافتراء والتكذيب.

وأما قول ولو أن عبارات أهل العلم مثل البيضاوي وأبي السعود والقسطلاني وأمثالهم تجدي إليكم شيئا لذكرناها لكنها تمحى بلفظة واحدة وهي أنهم كلهم كفار فلا نقبل منهم لأحد ومن هذه حاله فلا حيلة به.

فالجوب: أنه ليس للبيضاوي ومن ذكر عبارات تخالف ما قاله السلف والعلماء في معنى الآيات ومعاذ الله أن يقول المجيب إن هؤلاء كفار ولا يوجد عن لأحد من علماء المسلمين أنه كفر أحد قد مات من هذه الأمة فمن ظاهره الإسلام فلو وجد في كلامه زلة من شرك أو بدعة فالواجب التنبيه على ذلك والسكوت عن الشخص لما تقدم من أنا لا ندري ما خاتمته وأما هؤلاء الذين ذكرهم من المفسرين فإنهم من المتأخرين الذين نشأوا في اغتراب من الدين والمتأخرون يغلب عليهم الاعتماد على عبارات أهل الكلام مخالفة لما عليه السلف وأئمة الإسلام من الإرجاء ونفى حكمة الله وتأويل صفات الله وسلب معانيها ما

ص: 71

يقارب ما في كشاف الزمخشري والإرجاء والجبر يقابل ما فيه من نفي القدر وكلاهما في طرفي نقيض وكل واحد خالف ما عليه أهل السنة والجماعة في ذلك ومعلوم أن صاحب الكشاف أقدم من هؤلاء الثلاثة وأرسخ قدما منهم في فنون من العلم ومع هذا فقال شيخ الإسلام البلقيني استخرجت ما في الكشاف من دسائس الاعتزال بالمناقيش وقال أبو حيان وقد مدح الكشاف ما فيه من لطيف المعنى ثم قال:-

ولكنه فيه مجال لناقد

وزلات سوء قد أخذن المخانقا

فيثبت موضوع الأحاديث جاهلا

ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا

وينسب إبداء المعاني لنفسه

ليوهم أغمارا وإن كان سارقا

ويسهب في المعنى الوجيز دلالة

بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا

يقول فيها الله ما ليس قائلا

وكان محبا في المخاطب وامفا

ويشتم أعلام الأئمة ضلة

ولا سيما أن ولجوه المضائقا

إلى أن قال:

لئن لم تدركه من الله رحمة

لسوف يرى للكافرين مرافقا

فإذا كان هذا في تفسير مشهور وصاحبه معروف بالذكاء والفهم فما دونه من المتأخرين أولى بأن لا يتلقى من كلامهم بالقبول إلا ما وافق تفسير السلف وقام عليه الدليل وهذا المعترض من جهله يحسب كل بيضاء شحمةيعظم المفضول من الأشخاص والتصانيف ولا يعرف ما هو الأفضل ولو كان له أدنى مسكة منفهم ومعرفة للعلماء ومصنفاتهم لعلم أن أفضل ما في أيدي الناس من التفاسير هذه الثلاثة التي نقلنا منها تفسير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وتفسير الحسين بن مسعود البغوي وتفسير العماد إسماعيل ابن كثير فهذه أجل التفاسير

ص: 72

ومصنفوها أئمة مشهورون أهل السنة ليسوا بجهمية ولا معتزلة ولا قدرية ولا جبرية ولا مرجئة بحمد الله وأكثر ما في هذه التفاسير الأحاديث الصحيحة وآثار الصحابة وأقوال التابعين وأتباعهم فلا يرغب عنها إلا الجاهلون الناقصون المنقوصون والله المستعان.

والمصنفون في التفسير وغيره غير ما ذكر البيضاوي وأبي السعود البحر لأبي حيان لأنه كثير ما ينقله في تفسيره عن السلف والأئمة وكذلك تفسير الخازن وبالجملة فمن كان من المصنفين أبعد عن تقليد المتكلفين وذكر عباراتهم ويعتمد أقوال السلف فهو الذي ينبغي النظر إليه والرغبة فيه وعلى كل حال فليس في تفسير البيضاوي وأبي السعود وشرح القسطلاني ومواهبه ما ينفع هذا الجاهل المفتري وكل يؤخذ من قوله: ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقول المعترض على قول المجيب علماؤهم شر من تحت أديم السماء فيقال: هل ورد هل ورد هذا الحديث في أهل العراق فهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كفار مجوس أو فيما يأتي فهذه شناعة على غالب علماء الأمة ومنهم الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد وأمثالهم.

فالجواب: أن هذا كلام من لا يعقل ولا يفهم شيئا ولا يفرق بين أهل السنة والجماعة وأهل البدعة والضلالة ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك". رواه البرقاني في صحيحه.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق كما افترقت اليهود والنصارى فاليهود افترقت إحدى وسبعين والنصارى على اثنتين وسبعين وهذه

ص: 73

الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وأول من فارق الجماعة في عهد الصحابة رضي الله عنهم الخوارج قاتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان والقدرية في أيام ابن عمر وابن عباس وأكثر الصحابة موجودون ومن دعاتهم معبد الجهني وغيلان القدري الذي قتله هشام بن عبد الملك وكذلك الغلاة في علي الذي خذ لهم على الأخاديد وحرقهم بالنار ومنهم المختار بن أبي عبيد الذي قتله مصعب بن الزبير ادعى النبوة وتبعه خلق كثير.

ثم ظهرت فتنة الجهمية وأول من أظهرها الجعد بن درهم قتله خالد بن عبد الله القسري والصحابة رضي الله عنهم والتابعون والأئمة متوافرون وقت ظهور مبادي هذه البدع لم يلحقهم من ضلال هذه الفرق شناعة ولا غضاضة لأنهم متمسكون بالكتاب والسنة منكرون لما خالف الحق وصح من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأتي على الناس زمان ولا والذي بعده شر منه" حتى تلقوا ربكم سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم وظهرت بدعة جهم بن صفوان في زمن أبي حنيفة وأنكرها وناظرهم وانتشرت في زمن الإمام أحمد رحمه الله: والفقهاء وأهل الحديث وامتحن الإمام أحمد فتمسك بالحق وصبر وصنف العلماء رحمهم الله المصنفات الكبار في الرد على الجهمية القائلين بخلق القرآن المعطلين لصفات الملك الديان كالإمام أحمد في رده المعروف وابنه عبد الله وعبد العزيز الكناني في كتاب الحيده وأبي بكر الأثرم والخلال وعثمان بن سعيد الدارمي وإمام الأئمة محمد بن خزيمة واللالكائي وأبي عثمان الصابوني وقبلهم وبعدهم ممن لا يحصى وهذا كله إنما هو القرون الثلاثة المفضلة ثم بعدها ظهرت كل بدعة الفلاسفة وبدعة الرافضة وبدعة المعتزلة وبدعة المجبرة

ص: 74

وبدعة أهل الحلول وبدعة أهل الاتحاد وبدعة الباطنية الإسماعيلية وبدعة النصيرية والقرامطة ونحوهم.

وأما أهل السنة والجماعة فيردون بدعة كل طائفة من هؤلاء الطوائف بحمد الله فالأئمة متمسكون بالحق في كل زمان ومكان والبلد الواحد من هذه الأمصار يجتمع فيها أهل السنة وأهل البدعة وهؤلاء يناظرون هؤلاء ويناضلونهم بالحجج والبراهين وظهر معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

وقال صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيكون غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" وفي رواية "يصلحون ما أفسد الناس".

وقد صنف العلماء رحمهم الله في بيان الاثنتين والسبعين فرقة عدة مصنفات وبينوا ما تنتحله كل فرقة من بدعتها المخالفة لما عليه أهل الفرقة الناجية وليس على الفرقة الناجية شناعة ولا نقص في مخالفة هذه الفرق كلها وإنما ظهر فضل هذه الفرقة بتمسكها بالحق وصبرها على مخالفة هذه الفرق الكثيرة والاحتجاج بالحق ونصرته وما ظهر فضل الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد ومن قبلهما من الأئمة ومن بعدهما إلا بتمسكهم بالحق ونصرته وردهم الباطل وما ضر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وأصحابه حين أجلب عليهم أهل البدع وآذوهم بل أظهر الله بهم السنة وجعل لهم لسان صدق في الأمة وكذلك من قبلهم ومن بعدهم كشيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: لما

ص: 75

دعا إلى التوحيد وبين أدلته وبين الشرك وما يبطله وفيه قال الإمام العلامة الأديب أبوبكر حسن بن غنام رحمه الله: تعالى:-

وعاد به نهج الغواية طامسا

وقد كان مسلوكا به الناس ترتع

وجرت به نجد ذيول افتخارها

وحق لها بالأمعي ترفع

فآثاره فيها سوام سوافر

وأنواره فيها تضيء وتسطع

فهذا المعترض لو تصور وعقل لتبين له أن ما احتج به ينقلب حجة عليه وقول المعترض وإن كان قد ورد في حق أهل الحرمين فهذا ظاهر البطلان إذ هي مهبط الوحي ومنبع الإيمان ولو قيل إن هذا الحديث وأمثاله ورد في ذم نجد وأهلها فقد ورد في ذمهم أحاديث كثيرة شهيرة منها قوله: صلى الله عليه وسلم: "لا يزالون في شر من كذابهم إلى يوم القيامة".

فالجواب: أن نقول الأحاديث التي وردت في غربة الدين وحدوث البدع وظهورها لا تختص بمكة والمدينة ولا غيرهما من البلاد والغالب أن كل بلد لا تخلوا من بقايا متمسكين بالسنة فلا معنى لقوله: وإن كان قد ورد في حق أهل الحرمين والواقع يشهد لما قلنا وقد حدث في الحرمين في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم بل وفي وقت الخلفاء الراشدين ما هو معروف عند أهل العلم مشهور في السير والتاريخ وأول ذلك مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم وقعت الحرة المشهورة ومقتل ابن الزبير في مكة وما جرى في خلال ذلك من الفتن وصارت الغلبة في الحرمين وغيرها لأهل الأهواء فإذا كان هذا وقع في خي رالقرون فما ظنك فيما بعد حين اشتدت غربة الإسلام وعاد المنكر معروفا والمعروف منكرا فنشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير وأما قوله: إذ هي مهبط الوحي ومنبع الإيمان.

ص: 76

فالجواب أن نقول مهبط الوحي في الحقيقة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} فهذا محل الوحي ومستقره وقوله: ومنبع الإيمان الإيمان ينزل به الوحي من السماء لا ينبع من الأرض ومحله قلوب المؤمنين وهذه السورة المكية في القرآن معلومة التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر من في مكة المشركون وفيها ذمهم والرد عليهم كقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} وقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ونحو هذه الآيات كما في فصلت والمدثر وغيرها.

ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وأهل الشرك لم يزالوا بها ومنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخولها بالوحي وقاتلوهم ببدر وأحد والخندق وهم كانوا آخر العرب دخولا في الإسلام حاشا من جاهر وكل هذا بعد نزول الوحي ونحن بحمد الله لا ننكر فضل الحرمين بل ننكر على من أنكره ولكن نقول الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس المرء علمه وعمله فالمحل الفاضل قد يجتمع فيه المسلم والكافر وأهل الحق وأهل الباطل كما تقدم فأهل الحق يزدادون بالعمل الصالح في محل الفضل لكثرة ثوابه وأهل الباطل لا يزيدهم ذلك إلا شرا تعظم فيه سيئاتهم كما قال تعالى: في حرم مكة {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فإذا كان هذا الوعيد في الإرادة فعمل السوء أعظم فالمعول عليه هو الإيمان والعمل الصالح ومحله قلب المؤمن والناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشر وقوله: ولو قيل إن هذا الحديث ورد في ذم نجد وأهلها إلى آخره.

ص: 77

فأقول الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال لا على المحل والأحاديث التي وردت في ذم نجد كقوله: صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في يمننا اللهم بارك لنا في شامنا" قالوا وفي نجدنا قال: "هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان" قيل إنه أراد نجد العراق لأن في بعض ألفاظه ذكر المشرق والعراق شرقي المدينة والواقع يشهد له لا نجد الحجاز ذكره العلماء في شرح هذا الحديث فقد جرى في العراق من الملاحم والفتن ما لم يجر في نجد الحجاز يعرف ذلك من له اطلاع على السير والتاريخ كخروج الخوارج بها الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكمقتل الحسين وفتنة ابن الأشعث وفتنة المختار وقد ادعى النبوة وقتال بني أمية لمصعب بن الزبير وقتله وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتال وسفك الدماء وغير ذلك مما يطول عهده وعلى كل حال فالذم يكون في حال دون حال ووقت دون وقت بحسب حال الساكن لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل وإن كانت الأماكن تتفاضل وقد تقع المداولة فيها فإن الله يداول بين خلقه حتى في البقاع فمحل معصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر وبالعكس وأما قول المعترض منها قوله: صلى الله عليه وسلم: "لا يزالون في شر من كذبهم".

فالجواب: أن هذا من جملة كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهله بالعلم لا يميز بين الحديث وغيره وهذا الكلام ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في نفر من بني حنيفة سكنوا الكوفة في ولاية ابن مسعود عليها وكانوا في مسجد من مساجدها فسمع منهم كلمة تشعر بتصديق مسيلمة فأخذهم عبد الله بن مسعود وقتل كبيرهم ابن النواح وقال في الباقين لا يزالون في بلية من كذابهم يعني ذلك النفر فلا يذم نجد بنفر أحدوثا حدثا في العراق وقد أفنى الله كل من حضر مسيلمة في القرن

ص: 78

الأول ولم يبق بنجد من يصدق مسيلمة الكذاب بل من كن في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم بند يكفرون مسيلمة ويكذبونه فلم يبق بنجد من فتنة مسيلمة لا عين ولا أثر فلو ذم نجد بمسيلمة بعد زواله وزوال من يصدقه لذم اليمن بخروج الأسود العنسي ودعواه النبوة وما ضر المدينة سكن اليهود فيها وقد صارت مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معقل الإسلام وما ذمت مكة بتكذيب أهلها الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة عداوتهم له بل هي أحب أرض الله إليه فإذا كان الأمر كذلك فأرض اليمامة لم تعص الله وإنما ضرت المعصية ساكنيها بتصديقهم كذابهم وما طالت مدتهم على ذلك الكفر بحمد الله فطهر الله تلك البلاد منهم ومن سلم منهم من القتل دخل في الإسلام فصارت بلادهم بلاد إسلام بنيت فيها المساجد وأقيمت الشرائع وعبد الله فيها في عهد الصحابة رضي الله عنهم وبعدهم ونفر كثير منهم مع خالد بن الوليد لقتال العجم فقاتلوا مع المسلمين فنالت تلك البلاد من الفضل ما نال غيرها من بلاد أهل الإسلام على أنها تفضل على كثير من البلاد بالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال وهو بمكة لأصحابه: "أرأيت دار هجرتكم" فوصفها ثم قال: فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو يثرب ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق وكفى بهذا فضلا لليمامة وشرفا لها على غيرها فإن ذهاب وهله صلى الله عليه وسلم في رؤياه إليها لا بد أن يكون له أثر في الخير يظهر فظهر ذلك الفضل بحمد الله في القرن الثاني عشر فقام الداعي يدعو الناس إلى ما دعت إليه الرسل من أفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه وإقامة الفرائض والعمل بالواجبات والنهي عن مواقعة المحرمات وظهر فيها الإسلام أعظم من ظهوره في غيرها في هذه الأزمان ولولا ذلك ما سب هؤلاء نجد واليمامة بمسيلمة.

ص: 79

إذا عرف ذلك فليعلم أن مسيلمة وبنو حنيفة إنما كفروا بجحودهم بعض آية من كتاب الله جهلا أوعنادا وهذا المعترض وأمثاله جحدوا حقيقة ما بعث الله رسله من التوحيد الذي دلت عليه الآيات المحكمات التي تفوت الحصر وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه من الغلو والشرك فجوزوا أن يدعى مع الله غيره وقد نهى الله ورسوله عن ذلك في أكثر سور القرآن وجوزوا أن يستعان بغير الله وقد نهى الله ورسوله عن ذلك وجوزوا الالتجاء إلى الغائبين والأموات والرغبة إليهم وقد نهى الله ورسوله عن ذلك أشد النهي وجعلوا لله شريكا في ملكه وربوبيته كما جعلوا له شريكا في إلهيته وجعلوا له شريكا في إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها وقد قال تعالى: مبينا لما اختص به من شمول علمه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} إلى قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} الآيات.

وهذه الأصول كلها في الفاتحة يبين الله تعالى أنه هو المختص بذلك دون كل من سواه ففي قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} اختصاص الله بالحمد لكماله في ربوبيته والهيته وملكه وشمول علمه وقدرته وكماله في ذاته وصفاته {رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو ربهم وخالقهم ورازقهم ومليكهم والمتصرف فيهم بحكمته ومشيئته ليس ذلك إلا له {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه تفرده بالمالك كقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه قصر العبادة عليه تعالى بجميع أفرادها وكذلك الاستعانة وفي إياك نستعين أيضا توحيد الربوبية.

ص: 80

وهذه الأصول أيضا في {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، فهو ربهم ورازقهم والمتصرف فيهم والمدبر لهم، {مَلِكِ النَّاسِ} هو الذي له الملك كما في الحديث الوارد في الأذكار، لا اله الله وحده لا شريك له، الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، قوله:{إِلَهِ النَّاسِ} ، هو مألوههم ومعبود هم لا معبود لهم سواه، فأهل الايمان خصوه بالآلهية، وأهل الشرك جعلوا له شريكا يؤلهونه بالعبادة، كالدعاء والاستعانة والاستغاثة والالتجاء والرغبة والتعلق عليه ونحو ذلك.

وفي {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، براءة النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك والمشركين، {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الى قوله:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ، فهذا هو التوحيد العملي وأساسه البراءة من الشرك والمشركين باطناًَ وظاهراً

وفي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، توحيد العلم والعمل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، يعني هو الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير ولا ثد ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ في الاثبات، الا على الله عز وجل، لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله، وقوله:{اللَّهُ الصَّمَدُ} ، قال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه، يعني الذين يصمد الخلائق اليه في حوائجهم ومسائلهم.

قلت: وفيه توحيد الربويبة وتوحيد الآلهية، وقال الأعمش عن شقيق عن أبي وائل، الصمد السيد الذي قد انتهى سؤدده، وقال الحسن أيضا: الصمد الحي القيوم الذي لا زوال له، وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد، كأن جعل ما بعده تفسيرا له، وقال سفيان بن منصور عن مجاهد: الصمد المصمت الذي لا جوف له، قال أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة: وكل هذا صحيحة وهي صفات ربنا عز وجل، وقال

ص: 81

مجاهد: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} يعني لا صاحبه له وهذا كما قال تعالى: {بدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو مالك كل شيء وخالقه فكيف يكون له من خلقه نظير يسامته أو قريب يدانيه تعالى وتقدس وتنزه

قلت: فتدبر هذه السورة وما فيها من التوحيد الآلهية والربوبية وتنزيه الله عن الشريك والشبيه والنظير وما فيها من مجامع صفات كماله ونعوت جلاله ومن له بعض تصور يدرك هذا بتوفيق الله َ {مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}

وأما قول المعترض المجيب ونوع الشرك جرى في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أقول هذه البردة متقدمة على زمن شيخ الإسلام ومع لم ينقل عنه فيها كلمة واحدة

فالجواب: تقدم البردة على زمن شيخ الإسلام إن كان كذلك فماذا يجدي عليه وما الحجة منه على جواز الشرك وأيضا فشهادته هذه على شيخ الإسلام غير محصورة فلا تقبل، وهو لم يطلع إلا على النزر اليسير من كلام الإسلام، ولم يفهم معنى ما اطلع عليه، وهو في شق وشيخ الإسلام في شق، وليس في كلام شيخ الإسلام إلا ما هو حجة على هذا المعترض، لكنه يتعلق في باطله بمثل خيط العنكبوت، فان كان يقنعه كلام شيخ الإسلام رحمه الله، المؤيد بالبرهان فقد تقدم من كلامه ما يكفي ويشفي في تميز الحق من الباطل، وكلامه رحمه الله: في أكثر كتبه يبين هذا الشرك وينكره ويرده، كما رد على البكري حين جوز الاستغاثة بغير الله ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل وفهم أن كلام صاحب البردة داخل تحت

ص: 82

كلام شيخ الإسلام في الرد عليه والإنكار، وأنا أورد هنا جوابا لشيخ والإسلام عن سؤال من سأله عن نوع الشرك وبعض أفراده، فأتى بجواب عام شامل كاف واف.

قال السائل: ما قول علماء المسلمين فيمن يستنجد بأهل القبور ويطلب منهم إزالة الألم، ويقول يا سيدي أنا في حسبك وفيمن يسلم القبر، ويمرغ وجهه عليه ويقول قضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ ونحو ذلك.

الجواب: الحمد الله رب العالمين، الدين بعث الله به وسله وأنزل به كتبه وهو عبادة الله وحده لا شريك له واستعانته والتوكل عليه ودعاءه بجلب المنافع ودفع المضار، كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الآيات وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآيات.

قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيز أو الملائكة، قال تعالى:"هؤلاء الذين تدعون عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي".

فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة فكيف بمن دونهم قال تعال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاء} الآية؛ وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فبين سبحانه أنه من دعا من دون الله من جميع المخلوقات الملائكة والبشر وغيرهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه وأنه ليس له شريك في

ص: 83

ملكه له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأنه ليس له عون كما يكون للملك أعوان وظهراء وان الشفعاء لا يشفعون عنده إلا لمن ارتضى فنفى بذلك وجوه الشرك وذلك أن من دعي من دونه إما أن يكون مالكا وإما أن لا يكون مالكا وإذا لم يكن مالكا فإما أن يكون شريكا وإما أن يكون شريكا وإذا لم يكن شريكا فإنا أن يكون معاونا وإما أن يكون سائلا طالبا فإما الربع فلا يكون إلا من بعد إذنه كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وكما قال تعال: {وكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}

وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .

فبين سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كان كافرا فكيف بمن اتخذ من دونهم من المشائخ وغيرهم أربابا فلا يجوز أن يقول لملك ولا لنبي ولا لشيخ سواء كان حيا أم ميتا اغفر ذنبي وانصرني على عدوي أو اشف مريضي أو ما أشبه ذلك ومن سأل ذلك مخلوقا كائنا من كان فهو مشرك بربه من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التي يصورونها على صورهم ون جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه.

قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي

ص: 84

وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} والآية الثانية وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}

وإن قال أنا أسأله لأنه أقرب مني إلى الله ليشفع لي لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم ولذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.

وقد قال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} إلى قوله: {تُرْجَعُونَ} وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .

فبين الفرق بينه وبين خلقه فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشافع فيقضي حاجته إما رغبة وإما رهبة وإما حياء وإما غير ذلك فالله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما يشاء وشفاعة الشافع عن إذنه والأمر كله لله فالرغبة يجب أن تكون إليه كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} والرهبة تكون منه قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وقد أمرنا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء وجعل ذلك من أسباب إجابة دعئنا.

وقول كثير من الضلال هذا أقرب إلى الله مني وأنا بعيد منه لا يمكن

ص: 85

أن ندعوه إلا بهذه الواسطة ونحو ذلك هو من قول المشركين والله تعالى يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وقد روي أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت الآية.

وقد أمر الله العباد كلهم بالصلاة ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

ثم يقال لهذا المشرك أنت إذا دعوت هذا فإن كنت تظن أ، هـ أعلم بحالك أو يقدر على سؤالك أو أرحم بك من ربك فهذا جهل وضلال وكفر وإن كنت تعلم أن الله تعالى أعلم وأقدر وأرحم فلماذا عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك وأعلى منزلة عند الله منك فهذا حق أريد به باطل فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة فإن معناه أن يثيبه ويعطيه ليس معناه أنك إذا دعوته كان الله عند قضاء حاجتك أعظم مما يقضيه إذا دعوته أنت فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء فالنبي والصالح لا يعين على ما يكره الله ولا يسعى فيما يبغضك إليه وإن لم يكن كذلك فالله أولى بالرجمة والقبول منه فإن قلت هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجب إذا دعوته أنا.

فهذا القسم الثاني وهو أن يطلب منه الفعل ولا يدعونه ولكن يطلب أن يدعو له كما يقال للحي أدع لي وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء فهذا مشروع في الحي وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول ادع لنا وأسال لنا ربك ونحو ذلك ولم يفعل هذا أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر به أحد من

ص: 86

الأئمة ولا ورد في ذلك حديث بل الذي ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا زمن عمر استسقى بالعباس رضي الله عنهما فقال: إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون فلم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: يا رسول الله أدع الله لنا أو استسقي لنا ونحن نشكوا إليك ما أصابنا ونحو هذا ولم يقله أحد من الصحابة قط بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان بل كانوا إذا جاءوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه ثم إذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر بل ينحرون فيستقبلون القبلة ويدعون الله وحده لا شريك له كما كانوا يدعونه في سائر البقاع.

وفي الموطأ وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

وفي السنن أيضا أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني". وفي الصحيح أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره لكن خشي أن يتخذ مسجدا.

وفي سنن أبي داود عنه أنه قال: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج".

ولهذا قال العلماء لا يجوز بناء المساجد على القبور وقالوا إنه لا يجوز أن ينذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر لا من دارهم ولا زيت ولا شمع ولا حيوان ولا غير ذلك كله نذر معصية ولم يقل أحد من أئمة المسلمين أن الصلاة في المساجد مستحبة ولا الدعاء هناك أفضل بل

ص: 87

اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد وفي البيوت أفضل من الصلاة عند قبر لا قبر نبي ولا صالح سواء سميت مشاهد أم لا وقد شرع الله ذلك في المساجد دون المشاهد

قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} ولم يقل في المشاهد وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .

وذكر البخاري في صحيحه والطبري وغيره في تفاسيرهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} وقالوا هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الأمد فتخذوا تماثيلهم أصناما فالعكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها هو أصل الشرك وعبادة الأوثان.

ولهذا اتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين فإنه لا يتمسح به ولا يقبله وليس في الدين ما شرع تقبيله إلا الحجر الأسود.

وقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.

ولهذا لا يسن أن يقبل الرجل ركني البيت الذين يليان الحجر ولا يستلمهما ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين انتهى.

ص: 88

وقال رحمه الله: في الرد على البكري بعد كلام له سبق لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعائه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله ومن الذي قال إنك إذ استغثت بميت أو غائب من البشر نبيا كان أو غير نبي كان ذلك سببا في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله ومن الذي شرع ذلك وأمر به ومن الذي فعل من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين

إحداهما أن هذه أسباب الحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله والثانية أن هذه أسباب مشروعة لا يحرم فعلها فإنه ليس كلما كان سببا كونيا يجوز تعاطيه إلى أن قال وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقا وأمرا فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله شرع لخلقه أن يسألوا ميتا أو غائبا وأن يستغيثوا به سواء كان ذلك عنده قبره أم لم يكن عند قبره بل نقول سؤال الميت والغائب نبيا كان أو غير نبي من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين فان أحدا منهم ما كان يقول اذا نزلت به شدة أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان أنا في حبستك أو أقض حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها بل ولا أقسم بمخلوق على الله أصلا ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا قبور غير الأنبياء ولا الصلاة عندها وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه وذكروا أن هذا من البدع

ص: 89

التي لم يفعلها وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر "معروف" الترياق المجرب وقول بعضهم فلان يدعى عند قبره وقول بعض الشيوخ اذا دعت حاجة فاستغث بي أو قال استغث عند قبري ونحو ذلك فان هذا قد وقع فيه كثير من التأخرين وأتباعهم ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام بعد القرون المفضلة وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثة في الإسلام والسفر إليها محدثة في الإسلام لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجد.

وثبت في الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس "أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجدا ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني أنهاكم عن ذلك" وقد تقدم أن عمر لما أجدبوا استسقى بالعباس فقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك نبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون فلم يذهبوا إلى القبر ولا توسلوا بميت ولا غائب بل توسلوا بالعباس وكان توسلهم به توسلا بدعائه كالإمام مع المأموم وهذا متعذر بموته.

فأما قول القائل عن ميت من الأنبياء والصالحين اللهم إني أسألك بفلان أو بجاه أو بحرمة فلان فهذا لم ينقل لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا التابعين وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز فكيف يقول القائل للميت أنا استغيث بك واستجيرك وأنا في حسبك أو سل الله لي ونحو ذلك

فتين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة لو قدر أن له تأثيرا فكيف

ص: 90

إذا لم يكن له تأثير صالح وذلك إن من الناس الذين يستغيثون بغائب أو ميت من تتمثل له الشياطين وربما كانت على صورة ذلك الغائب وربما كلمته وربما قضت له أحيانا بعض حوائجه كما تفعل شياطين الأصنام فان أحدا من الأنبياء والصالحين لم يبعد في حياته إذا هو ينهى عن ذلك وأما بعد الموت فهو لا ينهى فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثنا بعبد.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا" إلى آخره وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد".

وقال غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} الآية إن هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ولهذا المعنى لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد. انتهى.

وأخرج ابن أبي شيبه عن الزبير أنه رأى قوما يمسحون المقام فقال: "لم تؤمروا بهذا إنما أمرتم بالصلاة عنده" وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ولقد تكلفت هذه الأمة أشياء ما تكلفته الأمم قبلها.

فإن كان المعترض يستدل بكلام شيخ الإسلام فهذا صريح كلامه المؤيد بالأدلة والبراهين وكلام العلماء كمثل كلام الشيخ في هذا المعنى كثير جدا ولو ذكرناه لطال الجوب وأما قول المعترض بل مدح الصر صري وثنى عليه بقوله: قال الفقيه الصالح يحي بن يوسف الصرصري في نظمه المشهور.

فالجوب: أن هذا من جملة أكاذيب المعترض على شيخ الإسلام وغيره.

ص: 91

وقد كذب على الإقناع والشفا وليس في الكتابين إلا ما يبطل قوله: وفي الحديث إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت وإلا فكلام شيخ الإسلام في رد ما يقوله: الصر صري وإنكاره موجود بحمد الله قال رحمه الله: في رده على ابن البكري بعد وجهين ذكرهما.

الثالث: أنه أدرج سؤاله في الاستغاثة به وهذا جائز في حياته لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات وهذا ما علمته ينقل عن أحد العلماء ولكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري ففي شعره قطعة وكمحمد بن النعمان وهؤلاء لهم دين وصلاح لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام وليس معهم دليل شرعي ولا نقل عن عالم مرضي بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه وأكثرهم من يأتي إلى قبر الشيخ يدعوه ويدعو به ويدعو عنده وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب الله أو سنة رسوله أو قول عن الصحابة والأئمة وليس عندهم إلا قول طائفة أخرى قبر معروف ترياق مجرب والدعاء عند قبر الشيخ مجاب ونحو ذلك ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض تلك الحوائج وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين أو الكواكب والأوثان فإن الشياطين كثيرا ما تتمثل لهم فيرونها وأ، ها قد تخاطب أحدهم ولا يراها ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا لطال المقال وكلما كان القوم أعظم جهلا وضلالا كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال أو لباس أو غير ذلك وهو لا يرى أحدا أتاه به فيحسب ذلك كراهة وإنما

ص: 92

هو من الشيطان وسببه شركه بالله وخروجه عن طاعة الله ورسوله إلى طاعة الشيطان فأضلتهم الشياطين بذلك كما كانت تضل عباد الأصنام انتهى ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله: من إنكاره ما في شعر الصرصري وغيره من هذه الأمور الشركية وبين أسبابها.

وأما قول المعترض وفيه توسل عظيم إن لم يزد على قول صاحب البردة لم ينقص عنه.

فالجواب: إن هذا من عدم بصيرته وكبير جهله فإن من له أدنى معرفة وفهم يعلم أن بين قول صاحب البردة وقول الصرصري في أبياته تفاوتا بعيدا فقد نبهنا على ما يقتضيه كلام صاحب البردة من قصر الهية والربوبية والملك وشمول العلم على عبد شرفه الله بعبوديته ورسالته ودعوة الخلق إلى عبادته وحده وجهاد الناس على ذلك وبلغ الأمة ما أنزله الله تعالى عليه في الآيات المحكمات في تجريد التوحيد والنهي عن الشرك ووسائله كما قدمنا الإشارة إليه.

وأما الصرصري ففي كلامه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به بلا قصر ولا حصر للاستغاثة والاستعانة في جانب المخلوق وقد أنكره شيخ الإسلام رحمه الله: وذكر أنه لا دليل من كتاب ولا سنة عليه ولا قال به أحد من الصحابة والتابعين والأئمة.

وقد بين رحمه الله: أن استغاثة الحي بالحي إنما هي بدعائه وشفاعته وأما الميت والغائب فلا يجوز أن يستغاث به وكذلك الحي فيما لا يقدر عليه إلا الله وإن أهل الإشراك ليس معهم إلا الجهل والهوى وعوائد نشأوا عليها بلا برهان وقد عرفت أن هذا المعترض لم يأت إلا بشبهات واهية وحكايات سفسطائية أو منامات تضليلية كما قال كعب بن زهير.

ص: 93

فلا يغرنك ما منت وما وعدت

إن الأماني والأحلام تضليل

وليس مع هؤلاء المشركين إلا دعوى مجردة محشوة بالأكاذيب وليس معهم بحمد الله دليل من كتاب أو سنة أو قول واحد من سلف الأمة وأئمتها وقد جئناهم بأدلة الكتاب والسنة

وما عليه الصحابة والأئمة ولو استقصينا ذكر الأدلة وبسط القول لاحتمل مجلدا ضخما.

وسبب الفتنة بقصائد هؤلاء المتأخرين كقصائد البوصيري والبرعي واختيارها على قصائد شعراء الصحابة كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير وغيرهم من شعراء الصحابة رضي الله عنهم وفيها من شواهد اللغة والبلاغة مالم يدرك هؤلاء المتأخرون منه عشر المعشار وما ذاك ألا لأن قصائد هؤلاء المتأخرين تجاوزوا فيها الحد إلى ما يكرهه الله ورسوله فزينها الشيطان في نفوس الجهال والضلال فمالت إليها نفوسهم عن قصائد الصحابة التي ليس فيها إلا الحق والصدق وما قصروا فيها جهدهم عما يصلح أن يمدح به رسوله صلى الله عليه وسلم وتحروا فيها ما يريه وتجنبوا ما يسخطه صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه من الغلوا فما أشبه هؤلاء بقول أبي الوفا ابن عقيل وهو في القرن الخامس لما صعبت التكاليف على الجهال الطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذا لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم.

قال وهم عندي كفار بهذه الأوضاع إلى آخره ومما يتعين أن نختم به هذا الجواب.

فصل: ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله: ونفعنا بعلومه قال بعد أن ذكر زيارة الموحدين للقبور وأن مقصودها ثلاثة أشياء.

ص: 94

أحدها تذكير الآخرة والاعتبار والاتعاذ الثاني الإحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده فيتناساه فإذا زاره أو أهدى إليه هدية من دعاء أو صدقة ازداد بذلك سروره وفرحه ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائرين أن يدعو لأهل القبور بالمغفرة والرحمة وسؤال العافية فقط.

ولم يشرع أن يدعوهم ولا يدعو بهم ولا يصلي عندهم.

الثالث إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ من عباد الأصنام قالوا الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا يزال تأتيه الألطاف من الله وتفيض على روحه الخيرات فإذا علق الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافيه والماء على الجسم المقابل له.

قالوا فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده كله وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره وكلما كان جمع القلب والهمة عليه أعظم كان أقرب إلى الانتفاع به وقد ذكر هذه الزيارة ابن سينا والفارابي وغيرهما وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها وهذا بعينه هو الذي أوجد لعباد القبور اتخاذها أعيادا وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج وبناء المساجد عليها وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية وسد الذرائع المفضية إليه فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق وهذا الذي ذكره هؤلاء في زيارة القبور والشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله قالوا فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه إليه وعكف.

ص: 95

بقلبه عليه صار وبينه اتصال يفيض عليه نصيب مما يحصل له من الله وشبهوا ذلك بمن يخدم إذا جاه وحظوة وقرب من السلطان وهو شديد التعلق به مما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والأفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم وأباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم وأوجب لهم النار والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من رد على أهله وإبطال مذهبهم.

قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض وهو الله وحده وهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه وأمره بعد شفاعة سبحانه إلى نفسه وهي إرادته من نفسه أن برحم عبده وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم وهي التي {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} .

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .

وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} .

وأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه بل إذا أراد سبحانه

ص: 96

رحمته بعبده أذن هو لمن يشفع فيه كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِ} قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .

فالشفاعة بإذنه ليس شفاعة من دونه ولا الشافع شفيع من دونه بل يشفع بإذنه والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المأمور فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك فإنه لا شريك له أثبتها شفاعة البعد المأمور الذي يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى بأذن ويقول اشفع فلان ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذي جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه وهم الذين ارتضى الله سبحانه.

قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} فأخبر أنه لا تحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضى قول المشفوع له وإذنه للشافع فأما المشرك فإنه لا يرضاه ولا يرضى قوله: فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين رضاه عن المشفوع له وأذنه للشافع فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.

وسر ذلك أن الأمر كله لله وحده فليس لا حد معه من الأمر شيء وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقربون وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئا إلا من بعد أذنه لهم ولا سيما يوم لا تملك لنفس شيئا فهم مملوكون مربوبون أفعالهم مقيدة بأمره وأذنه فإذا أشركهم به المشرك واتخذهم شفعاء من دونه ظنا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له ويمتنع عليه فإن هذا محال ممتنع يشبه قياس الرب سبحانه على الملوك والكبراء حيث يتخذ الرجل

ص: 97

من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج.

وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي والفرق بينهما هو الفرق بين الخالق والمخلوق والرب والمربوب والسيد والعبد والمالك والمملوك والغني والفقير والذي لا حاجة به إلى أحد قط والمحتاج من كل وجه إلى غيره فالشفعاء عند المخلوقين هم شركائهم فإن قيام مصالحهم بهم وهم أعوانهم وأنصارهم الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم على الكره والرضا.

فأما الذي غناه من لوازم ذاته وكل ما سواه فقير إليه لذاته وكل من في السموات والأرض عبيد له مقهورون لقهره مصرفون بمشيئته لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته والهيته مثقال ذرة.

قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال في سيدة آي القرآن أية الكرسي: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .

وقال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فأخبر أن ملكه السموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده وأن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه فإنه ليس بشريك بل مملوك محض

ص: 98

بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض.

فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يفعلها بعضهم مع بعض ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة عند الناس ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بإذنه وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه فإنه الذي أذن والذي قبل والذي رضي عن المشفوع والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله: فمتخذ الشفيع لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه ومتخذ الرب وحده ألهه ومعبوده ومحبوبه ومرجوه ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده ويطلب رضاه ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع له.

قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

فبين سبحانه أن متخذي الشفعاء مشركون وأن الشفاعة لا تحصل بإتخاذهم.

وسر الفرق بين الشفاعتين أن شفاعة المخلوق للمخلوق وسؤاله للمشفوع عنده لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده لا خلقا ولا أمرا ولا أذنا بل هو سبب محرك له من خارج كسائر الأسباب وهذا السبب المحرك قد يكون عند ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض فيقبل شفاعة الشافع وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها وقد يتعارض عنده الأمران فيبقى مترددا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد وبين

ص: 99

الشفاعة التي تقتضي القبول فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه وتعالى فإنه لم يخلق شفاعة الشافع ويأذن له فيها ويحبها منه ويرضى عن الشافع لم يكن أن توجد والشافع لا يشفع عند مجرد امتثال أمره وطاعته له فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر فإن أحدا من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله وخلقه.

فالرب تعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره وهو في الحقيقة شريكه ولو كان مملوكه وعبده فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله من النفع والنصر والمعاونة وغير ذلك كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله من رزق أو نصر أو غيره فكل منها محتاج إلى الآخر ومن وفقه الله لفهم هذا الموضع تبين له حقيقة التوحيد والشرك والفرق بين ما أثبت الله من الشفاعة وما نفاه وأبطله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله وبما عليه الشرك والبدع اليوم علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف أبعد مما بين المشرق والمغرب وأنهم على شيء والسلف على شيء كما قيل:

سارت مشرقة وسرت مغربا

شتان بين مشرق ومغرب

والأمر والله أعظم مما ذكرنا انتهى وبه كمل الجواب والحمد لله الذي هدانا لدينه الذي رضيه لعباده وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا جزيلا وفيا وافرا

ص: 100