المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرد على احمد بن علي بن احمد بن سليمان المرائي - المطلب الحميد في بيان مقاصد التوحيد

[عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المقامات

- ‌مدخل

- ‌المقام الأول:

- ‌المقام الثاني:

- ‌المقام الثالث:

- ‌المقام الرابع:

- ‌المقام الخامس:

- ‌المقام السادس:

- ‌المقام السابع:

- ‌المقام الثامن:

- ‌ المقام التاسع:

- ‌المحجة

- ‌الرد على احمد بن علي بن احمد بن سليمان المرائي

- ‌المراسلات

- ‌مدخل

- ‌الرسالة الأولى

- ‌الرسالة الثانية

- ‌الرسالة الثالة

- ‌الرسالة الرابعة

- ‌الرسالة الخامسة

- ‌الرسالة السادسة

- ‌الرسالة السابعة

- ‌الرسالة الثامنة

- ‌الرسالة التاسعة

- ‌الرسالة العاشرة

- ‌الرسالة الحادية عشر

- ‌الرسالة الثانية عشر

- ‌الرسالة الثالثة عشر

- ‌الرسالة الرابعة عشر

- ‌الرسالة الخامسة عشر

- ‌الرسالة السادسة عشر

- ‌الرسالة السابعة عشر

- ‌الرسالة الثامنة عشر

- ‌الرسالة التاسعة عشر

- ‌الرسالة العشرون

- ‌الرسالة الواحده العشرون

- ‌الرسالة الثانية والعشرون

- ‌الرسالة الثالثة والعشرون

- ‌الرسالة الرابعة والعشرون

- ‌الرسالة الخامسة والعشرون

- ‌الرسالة السادسة والعشرون

- ‌الرسالة السابعة والعشرون

- ‌الرسالة الثامنه والعشرون

- ‌الرسالة التاسعه والعشرون

- ‌الرسالة الثلاثون

- ‌الرسالة الواحدة والثلاثون

- ‌الرسالة الثانية والثلاثون

- ‌الرسالة الثالثة والثلاثون

- ‌الرسالة الرابعة والثلاثون

- ‌الرسالة الخامسة والثلاثون

- ‌الرسالة السادسة والثلاثون

- ‌الرسالة السابعة والثلاثون

- ‌الرسالة الثامنه والثلاثون

- ‌الرسالة التاسعة والثلاثون

- ‌الرسالة الأربعون

- ‌الرسالة الواحدة والأربعون

- ‌الرسالة الثانية والأربعون

- ‌الرسالة الثالثة والأربعون

- ‌الرسالة الرابعة والأربعون

- ‌الرسالة الخامسة والأربعون

- ‌الرسالة السادسة والأربعون

- ‌الرسالة السابعة والأربعون

- ‌الرسالة الثامنة والأربعون

- ‌الرسالة التاسعة والأربعين

- ‌الرسالة الخمسون

- ‌الرسالة الواحده والخمسون

- ‌الرسالة الثانية والخمسون

- ‌الرسالة الثالثة والخمسون

- ‌الرسالة الرابعة والخمسون

- ‌الرسالة الخامسة والخمسون

- ‌الرسالة السادسة والخمسون

- ‌الرسالة السابعة والخمسون

- ‌الرسالة الثامنة والخمسون

الفصل: ‌الرد على احمد بن علي بن احمد بن سليمان المرائي

‌الرد على احمد بن علي بن احمد بن سليمان المرائي

بسم الله الرحمن الرحيم1

الحمد لله رب العالمين وبه العون على إبطال زخرف الملحدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند له ولا معين.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وعلى أتباعهم الذين شهدوا لله بالوحدانية ولرسوله بالبلاغ المبين وسلم تسليما.

أما بعد:

فاعلم أيها الطالب للهدى المتباعد عن أسباب الضلال والردى أني رأيت ورقة لبعض الناكبين عن الحق المبين المعرضين عن توحيد رب العالمين2 فإذا هي مفصحة عن ضلال مفتريها معلنة بفساد طوية منشيها ومتلقيها مع تناقضها وبشاعة ما فيها فتارة تراه سائلا مسترشدا وتارة مفتيا مضللا مفندا لا يدري ولا يدري أنه فعزمت على أن أعرض ورقته على بعض أصحابنا الذين لهم ملكة في معرفة العلوم ولهم بصر ناقد وفهم مستقيم في تمييز الصحيح من السقيم لأكتفي بهم في رد ذلك الزيغ والضلال

1 في الأصل: بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخنا عبد الرحمن بن حسن قدس الله روحه.

2 هو أحمد بن علي بن أحمد بن سليمان المرائي كما نص على ذلك المؤلف في آخر الورقة 10/ب من هذه الكتاب.

ص: 101

والكذب المحال1 على طريق التفصيل تارة الا جمال وهذا الرجل وإن كان من أجهل العوام فإنه يحاول عرى الإسلام.

ثم إني عزمت على نقض ما بناه من ذلك [الباطل] 2 على استفراغ وسع واستمهال وذلك أولى من الترك والاهمال.

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

فأخذت في رد قوله: مستعينا بربنا العظيم مستعيذا بالله من شر متبعي خطوات الشيطان الرجيم وحسبنا الله ونعم الوكيل على من صد الناس عن سواء السبيل.

قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق3 أنبأنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله وقال: "هذا سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه" وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [سورة الأنعام: 153] الآية4

قلت: وهنا بلية ينبغي التنبيه عليها قبل الشروع في المقصود وهي: أن الكثير من أهل الأزمنة وقبلها قد غرهم من أنفسهم أمران أحدهما:

أنهم إن أحسنوا القول رأوه كافيا ولو ضيعوا العمل وارتكبوا النقيض وما عرفوا قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "يقولون من خير قول البرية يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"5.

وهذا كثير في الكتاب والسنة يذم ويمقت من يقول ولا يفعل ومن يخالف

1 الأصل: والمحال

2.

زيادة من "ط".

3 سورة الأنعام، الآية:153.

4 محمد بن نصر المروزي في السنة رقم 11، وأخرجه أحمد في المسند 1/465،435 والطبري في التفسير رقم 14168 وأبو نعيم في الحلية 6/263 والحاكم في المستدرك 2/318 وصححه ووافقه الذهبي.

5 أخرجه البخاري في الصحيح رقم 3611 ومسلم في الصحيح رقم 1066 وأحمد في المسند 1/131 من حديث علي.

ص: 102

قوله: فعله كقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] وكقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] وقد ورد ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقره في القلوب وصدقته الأعمال1.

الأمر الثاني: أن الأكثر ظنوا أن انتسابهم إلى الإسلام ونطقهم بالشهادتين عاصم للدم والمال وإن لم يعملوا بمدلول لا إله إلا الله من نفي الشرك وتركه وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى كالدعاء والرجاء والتوكل وغير ذلك ولم يعرفوا معنى قول الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: من الآية3] وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: من الآية5] .

فإن قوله: {مُخْلِصاً} حال من ضمير الفاعل المستتر في قوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ} أي حالة كونك مخلصا له الأعمال الباطنة والظاهرة وكذلك في قوله: {مُخْلِصِينَ} حال من الضمير البارز في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا} أي: حالة كونهم مخلصين له إرادتهم وأعمالهم دون كل من2 سواه ولهذا قال: {حُنَفَاءَ} والحنيف هو: الموحد المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه وهذا هو التوحيد الذي خلقوا له وبعث الله به رسله وأنزل به كتبه.

يقرر ذلك ما أخبر به عن قوم هود لما قال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف: من الآية65] فأجابوا ذلك بقولهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف:70] .

وفي قصة صالح لما قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62] وكما قال قوم شعيب: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] .

1 أخرجه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل رقم 56 من كلام الحسن البصري.

2 "ط": ما.

ص: 103

فلا إله إلا الله ما أشبه حال الأكثرين من هذه الأمة بلك الأمم لما دعوا إلى هذا التوحيد الذي هو أصل دين الإسلام وهو دين الله الذي لا يقبل من أحد دينا سواه وبه أرسل جميع الرسل وأنزل به جميع الكتب كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء:25] وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:3] .

إلى أمثال هذه الآيات وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لقومه قولوا لا إله إلا الله تفلحوا قالوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1 [صّ:5] كما هو مذكور في القرآن العزيز.

فأي دليل أصرح وأوضح وأبين من هذه الأدلة علة أن الرسل من أولهم إلى آخرهم إنما بعثوا بإخلاص العبادة لله تعالى والنهي عن عبادة كل ما سواه وهذا هو التوحيد الذي جحدته الأمم وهو الذي خلق الله له الخليقة من الثقلين كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] قال علي رضي الله عنه – في هذه الآية- إلا لآمرهم أن يوحدون.

وقد عرفت أن هذا هو أصل الدين الذي هو أساس الملة قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43،42] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28،27،26] أي: إلى2 لا إله إلا الله.

والخليل عليه السلام أتى بمضمون هذه الكلمة بقوله: إنني براء مما تعبدون غلا الذي فطرني وأبدى سبحانه وتعالى وأعاد في هذا الكتاب المجيد في النهي عن الشرك

1 أخرجه الطبري في التفسير 23/125 عن ابن عباس وأصله عند أحمد في المسند 3/492، 4/341 من حديث ربيعة بن عباد الديلي.

2 "ط": إلى. ساقطة.

ص: 104

المنافي لهذا التوحيد وأفصح عن كفر فاعله وأسجل عليه بالوعيد الشديد فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6] وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] .

وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214،213] وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] .

وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف: 37] وقوله: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} [غافر: 74،73] وغير ذلك من الآيات.

فأي بيان أوضح من هذا في تعريف الشرك الذي حرمه الله وأخبر أنه لا يغفره وهذا لا يختص بالدعاء بل كل نوع من أنواع العبادة صرفه لغير الله شرك عظيم.

والتحقيق أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء وعبادة. وكلا النوعين لا يجوز1 إلا الله وصرفه لغير الله شرك ما سبق بيانه في الآيات المحكمات كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162] والصلاة هنا: تشمل الصلاة الشرعية واللغوية التي هي الدعاء كما هو مذكور في كتب التفسير.

وفي حديث ابن عباس "وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"2 وفيه معنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

1 "ط": لا يجوز صرفه.

2 قطعة من حديث أخرجه الترمذي في الجامع رقم 2518 وقال هذا حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد في المسند 1/307،303،293. وأفرده الحافظ ابن رجب برسالة قيمة سماها=

نر الاقتباس من مشكات وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس مطبوعة ولدي منه نسخة خطية جيدة كما شرحه ضمن كتابه الحافل جامع العلوم والحكم ص 132.

ص: 105

وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت: 17] وهذا من عطف العام على الخاص وقال تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51]{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56]{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] .

كما قال تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] وتقديم المعمول في هذه الآيات يفيد الحصر أي: غيري وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 3] وقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران: 175] .

وهذه الآيات وما في معناها: تدل على أن الله تعالى إنما أراد من عباده أن يوحدوه بأعمالهم وأن لا يجعلوا له شريكا في العبادة كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] وقال موسى عليه السلام لبني إسرائيل لما عبدوا العجل {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 98] .

وقال تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 4-5] وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4] وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] .

وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] وهذا هو الشرك في الطاعة كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] فذكر في هذه الآية الشرك في الطاعة والشرك في الألوهية وهذا بين من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه1.

1 أخرجه الترمذي في الجامع رقم 3094 وحسنه في بعض النسخ، وابن جرير في التفسير رقم 61632 وابن أابي شيبة في المصنف 13/411، وانظر بقية التخريج في كتاب الانتصار

ص: 106

وأما الربوبية فقد أقر بها أكثر المشركين من الأمم أعداء الرسل وهذا مبين في قصص الأنبياء كما في سورة الأعراف وهود والشعراء وغير ذلك.

والخصومة بينهم وبين الأمم إنما هي فيما بعثوا به إليهم: من النهي عن الشرك في العبادة كالمحبة والدعاء والتوكل والرجاء وغير ذلك وعن الشرك في الطاعة وهو إيثار ما عليه الأسلاف والاعتماد على ما قالوه مما يخالف شرع الله وأحكامه.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار" روه البخاري1 ولمسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله"2.

قال شيخنا رحمه الله: تعالى: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا اله إلا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها بل ولا الإقرار بذلك بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع3.

وكلام العلماء في بيان هذا التوحيد وتقريره وبيان ما وقع فيه الأكثر من الشرك وعبادة الأوثان أكثر أن يحصى ونذكر طرفا منه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: في الرسالة السنية لما ذكر الخوارج ومروقهم من الدين فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام ومرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الأزمان قد يمرق أيضا وذلك بأسباب منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77] الآية وعلي رضي الله عنه حرق الغالية فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم وكذلك الغلو

1 البخاري في الصحيح رقم 6683،4497،1238 وأخرجه أحمد في المسند 1/464،462،425،374

2 مسلم في الصحيح رقم 23.

3 كتاب التوحيد الباب الخامس المسألة الخامسة 26 "القسم الأول بمجموعة المؤلفات العقيدة".

ص: 107

في بعض المشايخ بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح ونحوه.

فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان أنصرني أو أغثني أو أرزقني أو أجبرني أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل ليعبدوه وحده لا يجعلوا معه إلها آخر.

والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر وتنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الاسراء: 55 57] وقال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة.

إلى أن قال: وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين وهو1 التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء:25] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" 2 وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم" 3

1 "ط": وهي.

2 أخرجا ابن ماجه في السنن رقم 2131 وأحمد في المسند 1/347،283،214 والبخاري في الأدب المفرد رقم 783 واللفظ له وأخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت رقم 345 والطبراني في الكبير رقم 13005، وانظر بقية التخريج في كتاب فتح المجيد يسر الله نشره.

3 انظر تخريجها في كتاب فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد.

ص: 108

ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور. واتفق العلماء من السلف أهل السنة والجماعة أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره انه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.

كل هذا: لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به ولا يغفر لمن تركه كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه فأعظم آية في القرآن الكريم آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة" 1 وإلإله: هو الذي يألهه القلب له واستعانة به رجاء له ومحبة وخشية وإجلالا انتهى.2

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: تعالى: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وهو ان يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ويغضبون لمنتقصي معبوديهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين.

وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة ويزعمون أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده وهكذا كان عباد الأصنام سواء وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم من الحجر والبشر قال الله تعالى: حاكيا عن أسلاف هؤلاء {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] وما أعز من يتخلص من هذا بل ما أعز من لا يعادي من أنكره.

1 أخرجه أو داود في السنن رقم 3116 وأحمد في المسند 5/233 والحاكم في المستدرك 1/351 وصححه ووافقه الذهبي من حديث معاذ.

2 الوصية الكبرى للحافظ ابن تيمية 35-36-48-56.

ص: 109

والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله وأخبر أن اشفاعة كلها له.

وذكر: قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الاية [سبأ 23،22]

ثم قال والقرآن مملوء من أمثالها ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقص عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية.

وهذا لأنه لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه فوقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية فتنقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا والبدعة سنة والسنة بدعة ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد ويبدع بمتابعةالرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا. والله المستعان.

ثم قال: وأما الأصغر فكيسير الرياء والحلف بغير الله وقوله: هذا من الله ومنك وأنا بالله وبك ومالي إلا الله وأنت وأنا متوكل على الله وعليك ولولا أنت لم يكن كذا وكذا وقد يكون شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده.

قلت: فلما قال وقد يكون أكبر أخذ يبين أنواع الأكبر فقال: ومن أنواعه النذر لغير الله والتوكل على غير الله والعمل لغير الله والإنابة لغير الله والخضوع والذل لغير الله وابتغاء الرزق من غيرهوإضافة نعمه إلى غيره.

ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم وهذا أصل شرك العالم فإن الميت قد أنقطع عمله وهو لايملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا لمن استغاث به أو ساله أن يشفع له عند الله وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده فإن الله تعالى لا يشفع عنده1

إلا بإذنه والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد.

1 "ط": عنده أحد.

ص: 110

فجاء هذا المشرك بسبب بمنع الإذن والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أنترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة1 فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعادات أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص بالأموات وهم قد انتقصوا2 الخالق بالشرك وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم.

ولله در خليله إبراهيم حيث يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36،35] وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله. انتهى.

فرحمة الله ومغفرته ومرضاته على هذا الشيخ ما أحسن بيانه وأوضحه فقد صرح بان هذا هو الشرك الأكبر فبطل ما افتراه عليه المشركون.

وهذا الذي ذكره هو الذي عمت به البلوى في كثير [من] 3 الأمصار في هذه الأعصار وهو الشرك الأكبر والذنب الذي لا يغفر إلا أن يتاب منه قبل الوفاة وقال رحمه في الكافية الشافية شعرا:

والشرك فهو توسل مقصوده

الزلفى من الرب العظيم الشان

بعبادة المخلوق4 من حجر ومن

بشر ومن قبر5 ومن أوثان6

1 أخرجه مسلم في الصحيح رقم 975 من حديث وأخرجه أيضا من حديث عائشة رقم 974 والنسائي في المجتبى 4/91 وأخرجه الترمذي في الجامع رقم 1053 من حديث ابن عباس وأخرجه أحمد في المسند 2/375 من حديث أبي هريرة بألفاظ مختلفة.

2 "ط": تنقصوا.

3 ساقط من الأصل.

4 الأصل: المخلوق أيا كان.

5 الأصل: ومن قبر.

6 الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية 211.

ص: 111

ومنها أيضا1

والشرك فاحذره فشرك ظاهر

ذا القسم ليس بقابل الغفران

وه اتخاذ الند للرحمن أيا

كان من حجر ومن إنسان

يدعوه أو يرجوه ثم يخافه

ويحبه كمحبة الديان2

قال في الاقناع: قال شيخ الإسلام: من دعا على بن أبي طالب فهو كافر ومن شك في كفره فهو كافر.

وقال أيضا: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا3

وقال العلامة في الكافية أيضا:

فتوسط الشفعاء والشركاء

والظهراء أمر بين البطلان

مافيه إلا محض تشبيه لهم

بالله وهو فأقبح البهتان4

وقال بعض شيوخنا5 رحمهم الله تعالى:

نفوس الورى إلا القليل ركونها

إلى الغي لا يلفى لدين حنينها

فسل ربك التثبيت أي موحد

فأنت على السمحاء باد يقينها

وغيرك في بيدا الضلالة سائر

وليس له إلا القبور يدينها

وقال محمد بن اسماعيل الأمير الصنعاني6 رحمه الله: تعالى: الأصل الرابع: أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله خلقهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] وأنه الذي خلق السموات والأرض7 {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ

1 ما بينها ساقط من "ط".

2 المصدر السابق 157.

3 الإقناع لطالب الانتفاع للحجاوي 4/297.

4 الكافية الشافية 213.

5 المؤرخ الأديب النحوي أبوبكر حسين بن غنام الاحسائي ت 1225 هـ عنوان المجد 1/311.

6 الكحلاني المعروف بالأمير من ذرية الحسن رضي الله عنه فقيه محدث. ت 1183. البدر الطالع 2/133.

7 ما بينهما ساقط من "ط".

ص: 112

الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] وبأنه الرازق الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض وأنه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]

قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89] .

وهذا فرعون مع علوه في كفره ودعواه أقبح دعوى ونطقه بالكلمة الشنعاء يقول الله في حقه حاكيا عن موسى عليه السلام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] وقال إبليس: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 14] وقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحشر: 39] وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} [الحجر: 36]

وكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم ولذا تحتج عليهم1الرسل بقولهم: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17] وبقولهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] الآية:2 والمشركون مقرون بذلك لا ينكرونه.

الأصل الخامس: أن العبادة أقصى باب الخضوع والتذلل ولم تستعمل إلا في الخضوع لله لأنه مولي أعظم النعم حقيق3 بأقصى غاية الخضوع كما في الكشاف.

ثم إن رأس العبادة وأساسها التوحيد لله الذي تفيده كلمته – التي إليها دعت جميع الرسل- وهي لا إله إلا الله. والمراد اعتقاد معناها لا مجرد قوله: اباللسان ومعناها: إفراد الله بالعبادة والاهية والنفي والبراءة من كل معبود

1 "ط": ولهذا تحتج الرسل.

2 الآية. ليست في "ط".

3 الأصل: حقيقا. تحريف.

ص: 113

دونه وقد علم الكفار هذا المعنى لأنهم أهل اللسان العربي فقالوا: أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. انتهى1.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تواترت الأحاديث بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله" لكن جاءت مقيدة بالاخلاص واليقين وبموت2 عليها وكلها مقيدة بالقيود الثقال.

وأكثر من يقوله: الا يعرف الإخلاص ولا اليقين وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم وهم أقرب الناس من قول الله تعال حاكيا عن المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] .

وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث فإنه إذا قالها ويقين ومات على ذلك أمتع أن تكون سيئاته راجحة على حسناته بل كانت حسناته راجحة فيحرم على النار لأنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب فإن كمال الإخلاص ويقينه موجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء سواه وأخوف عنده من كل شيء فلا يبقى في قلبه يومئذ إرادة لما حرم الله ولا كراهة لما أمر الله فهذا هو الذي يحرم على النار وإن كان له ذنوب قبل ذلك فهذا الأيمان وهذه التوبة وهذا الإخلاص وهذه المحبة وهذا اليقين والكراهة لا يتركن له ذنبا إلا محي عنه كما يمحو النهار الليل؛

فمن قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر فهذا غير مصر على ذنب أصلا فيغفر له ويحرم على النار.

وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنات لا يقاومها شيء من السيئات فيرجع بها ميزان الحسنات كما في حديث البطاقة؛

وقال رحمه الله: تعالى: وأصل الدين: أن يكون الحب لله والبغض لله والموالاة لله والمعاداة لله والعبادة لله والاستعانة بالله والخوف من الله والرجاء لله والإعطاء لله والمنع لله وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمره أمر

1 تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد 23-25 "ط صبيح 1373هـ".

2 "ط": والموت.

ص: 114

الله1 ونهيه نهي الله ومعاداته معاداة الله وطاعته طاعة لله ومعصيته معصية لله وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضى الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضبه لهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب إذا حصل ما يغضبه لهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له هو السنة فإن قدر أن الذي معه دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم أو يثني عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا لم يكن الله ولم يكن مجاهدا في سبيله قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:4،5] .

وقال رحمه الله: تعالى: في منهاج السنة – لما ذكر كلام صاحب المنازل2 وأن التوحيد عنده على ثلاثة أوجه: الأول توحيد العامة وهو شهادة أن لا إله إلا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، هذا هو توحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم وعليه نصبت القبلة وبه وجبت الذمة وبه حقنت الدماء والأموال وانفصلت دار الإسلام من دار الكفر هذا كلام صاحب المنازل وذكر بعده3 الوجهين وذكر شيخ الإسلام ما فيها من الشطح والبدعة ثم قال شيخ الإسلام-: أما التوحيد الأول الذي ذكره فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وبه بعث الله الأولين والآخرين من الرسل قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] .

1 أمر الله. ليست في "ط".

2 أبو إسماعيل، عبد الله بن محمد بن علي الهروي حافظ ت 481. تذكرة الحافظ 3/1183، وقد شرح العلامة ابن القيم كتاب منازل السائرين هذا في كتاب مدارج السالكين.

3 "ط": بعد.

ص: 115

وقد أخبر الله تعالى عن كل من الرسل مثل نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقوله: م: اعبد الله مالكم من إله غيره وهذا أول دعوة الرسل وآخرها قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل" وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضا: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" وقال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" 1 والقرآن كله مملوء من تحقيق هذا التوحيد والدعوة إليه وتعليق النجاة والفلاح وأقصى2 السعادة في الآخرة به.

ومعلوم أن الناس متفاضلون في تحقيقه وحقيقته إخلاص الدين كله لله والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء وهو أن تثبت إلهية الحق في قلبك وتنفي إلهية ما سواه فتجمع بين النفي والإثبات فتقول: لا إله إلا الله فالنفي هو الفناء والاثبات هو البقاء وحقيقته: أن تفني بعبادته عن عبادة ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه بموالاته عن موالاة ما سواه وبسؤاله عن سؤال ماسواه وبالاستعاذة به عن الاستعاذة بما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه وبالتفويض إليه عن التفويض إلى ما سواه وبالإنابة إليه عن الإنابة إلى ما سواه وبالتحاكم إليه عن التحاكم إلى ماسواه وبالتخاصم إليه عن التخاصم إلى ماسواه3.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: إذا قام يصلي من الليل بعد التكبير "اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أ، ت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق. اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك

1 ينظر في تخريجها فتح المجيد.

2 المنهاج: واقتضاء.

3 فتحكيم القوانين الوضعية بأي صورة كانت: نوع من أنواع الشرك الناقض لمعاني كلمة التوحيد واعتداء سافر على حاكمية الله وتطاول مخذول على خصائص الألوهية. فضلا عن اشتمالها على الظلم الفادح وقصورها الذي هو شأن كل عمل بشري.

ص: 116

خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" 1.

[و] 2 قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 64-66] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 161- 164] .

وهذا التوحيد كثير في القرآن وهو أول الدين وآخره وباطن الدين وظاهره وذروة سنام هذا الدين3 لأولي العزم من الرسل ثم للخليلين محمد وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم.

فقدت ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: "إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا" 4 وأفضل الرسل بعد محمد إبراهيم كما ثبت في الصحيح عنه أنه قال عن خير البرية: "إنه إبراهيم"5

وهو الإمام الذي جعله الله إماما وجعله أمة والأمة القدوة الذي يقتدى به فإنه حقق هذا التوحيد وهو الحنيفية ملة قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا

1 البخاري في الصحيح رقم 7499،7442،7385،6317،1120 ومسلم في الصحيح رقم 769 وأخرجه أحمد في المسند 1/308،298 من حديث ابن عباس.

2 إضافة من المنهاج.

3 المنهاج: التوحيد.

4 ينظر تخريجه في فتح المجيد.

5 أخرجه مسلم في الصحيح رقم 2369 وأحمد في المسند 3/184،178 من حديث أنس.

ص: 117

وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة: 4-6]

وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26-28] وقال عن إبراهيم أنه قال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام: 78-80] انتهى1

وقال: ومحبة الله وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح النفس وهو عبادة الله وحده لا شريك له – فلا صلاح للنفس إلا في ذلك وبدونه تكون فاسدة-وهو2 دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]

وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31،30] فالغاية الحميدة التي بها كمال بني آدم وسعادتهم ونجاتهم عبادة الله وحده وهي حقيقة لا إله إلا الله.

وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص لم يكن من أهل النجاة والسعادة كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]

فمن آمن بأن الله رب كل شيء وخالقه ولم يعبد الله وحده- بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه وأخشى عنده منكل ما سواه وأرجى عنده من كل ما سواه – بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقين3 في الحب- بحيث يحبه كما يحب الله ويخشاه كما يخشى الله ويرجوه كما يرجو الله ويدعوه كما يدعو

1 منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية 5/346-351.

2 "ط": وهذا هو.

3 "ط": المخلوقات.

ص: 118

الله- فهو مشرك الشرك الذي لا يغفره الله ولو كان مع ذلك عفيفا في طعامه ونكاحه وكان حليما شجاعا. انتهى.

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: – بعد ذكره الشرك ي الربوبية- النوع الثاني: أهل الإشراك بالله في إلهيته وهم1 المقرون بأنه وحده رب كل شيء ومليكه وخالقه وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين ورب السموات السبع ورب العرش العظيم وهم مع هذا يعبدون غيره ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم وهم الذين اتخذوا من دونه أندادا. فهؤلاء لم يوفوا2 {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حقه وإن كان لهم نصيب من نعبدك لكن ليس لهم نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} المتضمن معنى لا نعبد إلا إياك حبا وخوفا ورجاء وطاعة وتعظيما فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تحقيق3 لهذا التوحيد وإبطال للشرك في الالهية كما أن {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تحقيق لتوحيد الربوبية وإبطال للشرك به وكذلك قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فإنهم أهل التوحيد وهم أهل تحقيق4 {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وأما أهل الاشراك فهم أهل الغضب والضلال.

فإن هذا الانقسام ضروري بحسب انقسامهم في معرفة الحق والعمل به: إلى عالم به عامل بموجبه وهم أهل النعمة وعالم به معاند له وهم أهل الغضب وجاهل به وهم الضالون. وهذا الانقسام إنما نشا بعد إرسال الرسل فلولا الرسل لكانوا أمة واحدة فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون هذه الرسالة. انتهى.

والمقصود من هذه المقدمة: العلم بأن التوحيد الذي بعث الله به رسوله5 غريب في الناس جدا وأكثرهم لا يعرف حقيقته ولا يعرف الشرك الأكبر المنافي له وغاية ما عندهم هو أن يعرف أن الله تعالى ربه وخالقه وخالق جميع المخلوقات ورازقها والمتصرف فيهم.

وقد عرفت مما سلف أن أكثر الأمم – من أعداء الرسل – يعرفون ذلك.

1 "ط": وهم. ساقطة.

2 "ط": يعرفوا. تحريف.

3 الأصل: تحقيقا. تحريف.

4 الأصل: التحقيق.

5 "ط": رسله.

ص: 119

ويقرون به كما أقر به كفار قريش لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهذا مقرر في القرآن أتم تقرير.

وأما توحيد الألهية- الذي هو مضمون لا إله إلا الله الذي دل عليه القرآن من أوله إلى آخره-: فالأكثر لا يعرفونه مع أن سور القرآن الكريم مشحونة ببيانه كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14] الآية وقوله:1

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] وقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3:2] وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: من الآية5] الآية وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: من الآية13] وقوله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:54] وقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:2627] الآية، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] .

إلى أمثال ذلك مما لا يحصي في القرآن كثرة في بيان هذا التوحيد وما ينافيه من الشرك بالله الذي هو أعظم ذنب عصى الله به كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] .

فإذا تأملت القرآن وجدت الله2 قد احتج على المشركين فيما جحدوه من توحيد الألهية بما أقروابه من توحيد الربوبية كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}

1 "ط": وقوله. ساقط.

2 "ط": وجدته.

ص: 120

[يونس: 31] وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 84] الآيات. فإذا أقروا أن الله رب كل شيء ومليكه وأنه المتصرف في جميع خلقه لزمهم أن يعبدوه1 وحده فإن الإقرار بهذا التوحيد يستلزم الإقرار بالنوع الآخر ولا بد منهما جميعا.

وأما الثالث من أنواع التوحيد: فهو أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به2 رسوله على ما يليق بجلال الله إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل فإن صفات الرب تعالى وأسماءه3 تدل على كمال الرب تعالى وتنفي عن الله ما نفى عن نفسه ونفى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من كل ما ينافي كمال حياته وقوميته وكمال غناه كما نزهه الله نفسه ونزهه4 عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال: ِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص] .

وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "أن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام" الحديث5 ونحو هذا – مما نزه الله عنه نفسه ونزهه الله عنه رسوله صلى الله عليه وسلم6- كثير في الكتاب والسنة فالمهديون المؤمنون يثبتون ما أثبته الله ورسوله من معاني أسمائه وصفاته على ما يليق بجلاله وينفون عنه مشابهة المخلوقين وسمات المحدثين وينفون عنه ما نفى عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من كل ما لا يليق به والله أعلم.

فما أعز من يعرف حقيقة التوحيد بل ما أعز من لا يعادي من عرفه ودعا إليه فلقد عم الجهل بالتوحيد حتى نسب أهله إلى الابتداع ونسب من أنكره إلى الاتباع.

وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: – لما ذكر حديث "بدأ

1 الأصل: لزمه أن يعبده.

2 "ط": به. ساقطة.

3 الأصل: وأسمائه. تحريف.

4 "ط": ونزهه. تحريف.

5 ما بينهما معلق في هامش الأصل وعليه كلمة صح.

6 قطعة من حديث أخرجه مسلم في الصحيح رقم 179 وابن ماجة في السنن رقم 183 وأحمد في المسند 4/405،401،395 وابن خزيمة في كتاب التوحيد رقم 101،100،32،28 وابن منده في كتاب الإيمان رقم 775-779 من حديث أبي موسى.

ص: 121

الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" 1 بل الإسلام الحق – الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه – اليوم أشد غربة منه أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة.

فالإسلام الحقيقي فينا غريب جدا وأهله غرباء بين الناس وكيف تكون فرقة واحدة بين فرق – لهم اتباع ورياسات ومناصب وولايات – لا يقوم لها سوق إلا في مخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟! فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم وما عليه من الشبهات – التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم – والشهوات – التي هي [غاية] 2 مقاصدهم وإرادتهم.

فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أو هواء هم وأعجب كل منهم برأيه فإذا أردت معرفة الإعراض عن الدين تعلما وعملا فتأمل ما هم عليه فالله المستعان.

واعلم يأمن له عقل ونور يمشي به في الناس أني تأملت الورقة التي قدمت الإشارة إليها- وهي لأحمد3 بن علي المرائي – فإذا هو قد حشاها بالرعونات والحماقات التي هي من نتائج الجهل الصميم والعقل غير المستقيم فإذا نظر فيها العاقل علم أنها لا تصدر إلا من جاهل معجب بنفسه لإقامته بين جهلة العوام فإن أكثرهم لا يميز بين الصحيح من السقيم من الكلام.

فلو كان ما أبداه من أساجيعه من وراء كفاية ومن علم ودراية لكان أحرى بمراجعة الصواب والرجوع عما أخطأه فيه من الخطاب وقد قال بعضهم شعرا:

ولو كان هذا من وراء كفاية

لهان ولكن من وراء تخلف

فأعجب لقوله: أما بعد فيقول العبد المسترشد للعلم والعمل لا للمراء والجدل.

فالجواب: تأمل أيها المنصف ما بعد هذا من كلامه تجده مناقضا لما قال مشتملا على المراء والجدال كحال أمثاله من أهل الأهواء ويخبط على أثرهم

1 أخرجه مسلم في الصحيح رقم 145،. وانظر بقية التخريج في كتاب سبيل النجاة 25.

2 إضافة من "ط".

3 الأصل و "ط": لحمد. وهو تحريف.

ص: 122

خبط عشواء وقد تضمنت رسالته من الأحبولات للجهال والتلبيس على من عقولهم: كعقول الأطفال فمن ذلك:

أنه أكثر الحط على من يقول على الله بلا علم ولا شك أن ذلك من أكبر الذنوب وأعظم المثالب والعيوب ولكنه اتزر بما عابه من ذلك وارتدى ف آخر مقاله والابتداء وهكذا حال من لا علم لديه ولا دراية له تنسب إليه فتراه يعيب أمرا وهو يتقلب فيه فتارة يظهره وتارة يخفيه وكل إناء ينضح بالذي فيه. فتأمل ما يأتيك1 من جوابه تجد2 عجبا.

ثم إنه قال: والمسألة المشار إليها والمسؤول عنها هي التي غصت بها الحناجر وأسبلت على الخدود دموع المحاجر وهي قول الجهال الطغام: من أقام ببلد قد استولى عليها العساكر ولا عنها يهاجر فهو كافر.

فالجواب: أن هذا قول مختلق ولا نعلم قائلا به على الإطلاق كما زعم صاحب الورقة وهذا من بهرجه وزبرجه3 وتهويله. أسوة أمثاله ممن يفتري على المسلمين ويقولهم: ما لا يقولون4 ليدفع بهذا عن نفسه الشناعة. وليس بنافعه شيئا بل هو عين الضرر عليه لأنه تشبث بما لا يجدي. وليس عند أهل الأهواء إلا التلبيس والشكوى لما تلطخوا به من العيوب والأسوى إذ ليس معهم حق يعتمد عليه ولا برهان لهم تطمئن نفوسهم إليه فترى أحدهم ضيق الصدر والبال لأن بضاعته إنما حقيقتها الشكوك والخيال. بخلاف صاحب الحق فإن مه من البصيرة والعلم واليقين ما يدفع الشك والالباس ويهون عليه مؤنة المعارضين من الناس.

وأكبر هم المؤمن ما بينه وبين ربه يرجو رحمته ويخاف عقوبة ذنبه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] الآية.

1 "ط": سيأتيك.

2 "ط":ترى.

3 البهرج: الباطل الرديء، والزبرج: السحاب الرقيق الذي لا غناء فيه.

4 "ط": ما لم يقولوا.

ص: 123

يسير إلى الله بين مشاهدة منة الله عليه ومطالعة عيب نفسه "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي"1.

وأما الفاجر فقلبه خال من خشية الله آمن من مكر الله يمضي في الغلة والمعاصي قدما قدما.

فيا حجبا من صاحب هذه الورقة مالذي يؤمنه [و] 2 قد تلطخ بما تلطخ به والمعاصي بريد الكفر وكان الواجب عليه أن يغص من العبرات ويسيل الدموع في الخلوات والجلوات على مافرط فيه من الطاعات ووقع منه من المفرطات فاهتمامه من نفسه لنفسه أولى من الاهتمام بما قيل أو يقال فلو صح عن أحد لكان فيه إجمال ويتطرق إليه الاحتمال. على أنه لس من قبيل المحال الذي لا ينسب إلا إلى الطغام والجهال.

فأين الأسباب المؤمنة لهذا المسكين من أن يقع في زيغ الزائغين وطريقه3 الأئمة المضلين فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين" 4

وأما شتمه لخواص المسلمين5 من أهل الهجرة والدين وتسميتهم بالجهال الطغام فهو دليل على إعجابه بنفسه ورضاه بعلمه وذلك من أكبر الذنوب وأعظم العيوب فإنه من تدبر القرآن وتفكر فيما قصه الله تعالى عن أهل الكتاب وأمثالهم من أهل الفهم والرأي – وأنهم تركوا الحق الذي بعث الله به رسوله بعد ظهوره واختاروا لأنفسهم أسباب الردى

1 قطعة من حديث أخرجه البخاري في الصحيح رقم 6323،6306 والترمذي في الجامع رقم 3390 والنسائي في المجتبى 8/279 وأحمد في المسند 4/125،122 والطبراني في كتاب الدعاء رقم 312-316 من حديث شداد بن أوس.

2 إضافة يقتضيها السياق.

3 "ط": وطريق.

4 أخرجه أبو داود في السنن رقم 4252 والترمذي في الجامع رقم 2230 وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة في السنن رقم 40 وأحمد في المسند 5/284،278 والدارمي في السنن رقم 215 عن ثوبان وأصل حديثه عند مسلم في الصحيح رقم 2889، وأخرجه أحمد في المسند 6/441 والدارمي في السنن رقم 217 من حديث أبي الدرداء وأخرجه أحمد في المسند 1/42 من حديث عمر وأخرجه 4/123 من حديث شداد بن أوس وأخرجه 5/145 من حديث أبي ذر بالفاظ متقاربة.

5 "ط": المسلمين. ساقطة.

ص: 124

والهلاك ولم ينفعهم الله بعلمهم ولا برأيهم وفهمهم – خاف على نفسه من أن يزيغ كما زاغوا وأن يضل كما ضلوا وهذا إنما يحصل بتوفيق الله ورحمته لعبده.

وصاحب هذا الكلام قد نسي ما وقع منه من المداهنة والموادة لأرباب البغي والعدوان على أهل الإسلام والإيمان والصد عن سبيل الله فأعظم بها من ذنوب ومثالب وعيوب. وما ذكرناه من الواقع من كثير من أعيان أهل نجد لا يمتري فيه من في قلبه أدنى حياة.

وظاهر حال هذا1 المعترض: أنه لما جهل حقيقة هذا الذنب العظيم عدة من نوع2 الواجب أو الجائز أو المكروه وكلامه في ورقته يدور على هذه الثلاثة فلذلك استوحش مما أنس به المسلمون وأنس بما استوحش منه العارفون فلو تصور الواقع منه لسالت على الخد منه دموع المحاجر وغصت من مخافة الوعيد تلك الحناجر كما دل على عظيم ذلك الذنب الكثير من الآيات والأحاديث والبينات.

واعلم أن هذا المغرور لما كذبته ظنونه التي قعدت به عن واجب الهجرة والجهاد وتبين أنه أخطأ سبيل الهدى والسداد وعلم أن المسلمين قد ميزوه بحاله وقبيح فعاله بادر إلى التشكي والتهويل والتباكي والعويل وحاول قلب الحقائق فاستهجن الصدق والمعروف واستحسن الباطل لكونه عنده هو المألوف. فأعظم بها عقوبة أطفأت نور العقل وأعمت البصيرة فصاحبها في ظلمات الجهل والريب. ولما قال رجل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هلكت إن لم آمر بالمعروف وأنه عن المنكر فقال ابن مسعود رضي الله عنه هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف وينكر المنكر3 قال بعض السلف: أنتم تخافون الذنب وأنا أخاف الكفر يا ربنا نسألك الثبات على الإيمان.

ومما [يجب أن] 4 يعلم: أن الله تعالى فرض على عباده الهجرة عند ظهور الظلم والمعاصي حفظا للدين وصيانة لنفوس المؤمنين عن شهود

1 "ط": هذا. ساقطة.

2 "ط": أنواع.

3 أخرجه ابن ابي شيبة في المصنف 15/174 وأبو نعيم في الحلية 1/135.

4 إضافة من "ط".

ص: 125

المنكرات ومخالطة أهل المعاصي والسيئات وليتميز أهل الطاعات والأيمان عن طائفة الفساد والعدوان وليقوم علم الجهاد الذي به صلاح البلاد والعباد ولولا الهجرة لما قام الدين ولا عبد رب العالمين ومن المحال أن تحصل البراءة من الشرك والظلم والفساد بدونها.

ومن لوازم ترك الهجرة غالبا: مشاهدة المنكرات ومداهنة أرباب المعاصي والسيئات1 وموادتهم وانشرح الصدر لهم فإن الشر يتداعى ويجر بعضه بعضا فلا يرضون عمن هو بين أظهرهم بدون هذه الأمور ولا بد لهم2 من رضاهم والمبادرة في هواهم.

ثم إنه قال قولا ينبيئ من له أدنى معرفة أن هذا لا يصدر إلا ممن هو غريق في الجهالة قد عرى من المعقول والمنقول وذلك قوله: إن الله قدم حرمة ابن آدم على حرمته وأباحه ما حرم عليه من أكل الميتة إذا خاف على نفسه الضرر.

ووجه خطئه وجهله: أنه جعل ذلك أصلا قاس عليه ترك الهجرة وفي زعمه أنه اضطر إلى تركها كما اضطر إلى الأكل من الميتة من خاف على نفسه التلف. فأقول: لا يخفى ما في هذا القياس من الفساد وذلك من وجوه:

منها: أنه في مصادمة نصوص الكتاب والسنة التي دلت على وجوب الهجرة على من له قدرة عليها وإن كان يتوقع بها القتل والموت كما أنه لا يترك الجهاد خوفا من القتل كما قال تعالى: كما قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195] .

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58] فلم يجعل الله تعالى هذه الأمور التي قد تقع للمهاجر عذرا عن الهجرة لأن الهلاك في الهجرة والجهاد هو السلامة فإنه شهادة والشهداء {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ

1 ما بينها معلق في هامش الأصل وعليه كلمة صح. وهو انتقال نظر.

2 "ط": لهم. ساقطة.

ص: 126

بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170،169] وقد يحصل للمهاجر ما يحبه من حسن العاقبة في الدنيا مع ما يرجو1 في الآخرة كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} الآية [النساء: 100] .

ونظير تبك الهجرة خوفا من الفقر أو القتل مداهنة أهل المعاصي خوفا من أذاهم وقد قال تعالى: في حقهم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10] .

وهذا الذي جعل فتنة الناس كعذاب الله قد يدعى أن الضرورة دعته إلى ذلك لو كانت عذرا وقد علمت أن ترك الهجرة عرضة لذهاب الدين وذهاب الدين هو هلاك النفس السرمدي {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15] هذا في تركهم الهجرة.

وأما الهجرة فن الغالب على أهلها السلامة والعز والتمكين كما جرى ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه سلفا وخلفا وبها يحصل الجهاد وتعلو كلمة الله ويعمل في الأرض بطاعة الله.

ومصالح الهجرة في الدنيا أكثر من أن تحصر كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} [النحل: 41] فبطل هذا القياس من وجهين:

الأول: أنه في2 مصادمة النصوص الثابتة والقياس في مصادمة النص فاسد الاعتبار عند العلماء قديما وحديثا فإن القياس إنما يصار إليه عند الضرورة إليه إذا عدم النص ولم يوجد للحكم دليل في الكتاب والسنة لا نصا ولا ظاهرا فحينئذ يجوز عند بعض العلماء لدعاء الضرورة إليه وله شروط ومفسدات وله أنواع أربعة لا يعرفها هذا المعترض وأنى له بمعرفة الصحيح منها والسقيم والجائز والممتنع مع قصر الباع وعدم المحصول والاطلاع.

الوجه الثاني: عدم الجامع ووجود الفارق فإن الحكمة في إباحة تناول

1 "ط": يرجوه.

2 "ط": في. ساقطة.

ص: 127

لقمة من الميتة إذا اضطر إليها قد أبيحت له في تلك الحال لأن الأكل واحب صيانة للنفس عن الهلاك طاعة لله مطلوب لما يفضي إليه ذلك من التقوي على أداء الفرائض والطاعات.

قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى: ومن المحرمات ما يباح عند الضرورة كالدم والميتة فهذه في حال الإباحة ليست محرمة أضلا وليس له أن يعقد تحريمها حينئذ وإنما تنازع العلماء هل السبب الحاظر لها موجود وقت الضرورة وأبيحت للمعارض الراجع أو السبب الحاظر زائل وهذا مبني على مسألة تخصيص العلة فمن قال إن العلة تخصيص يقول: إن علة الحظر قائمة ولكن تخلف حكمها المانع ومن قال: إن علة التحريم لا توجد مع عدم التحريم والنزاع لفظي.

وقال رحمه الله تعالى: فإن الأكل والشرب وأحب حتى لو اضطر إلى الميتة وجب عليه الأكل عند عامة العلماء لأن العبادات1 لا تؤدى إلا بهذ وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. انتهى.

قلت: وهذا موجود في الهجرة وأولى لأن العبادات2 لا تؤدى إلا بها ولا يقوم الدين والعمل به إلا بالهجرة فبالهجرة يحفظ المرء دينه ويتمكن من العمل به ويعادي ويوالي فيه وغير ذلك من المصالح الدينية التي تفوت [الحصر] فلو احتجنا إلى القياس لكان هذا من القياس الأولى عكس ما عند صاحب الورق فإن ضرورة العبد إلى الهجرة فوق كل ضرورته ولو كان فيها تلف النفس والمال والعبد3 مضطر إليها عند الحاجة إليها أعظم من ضرورته إلى الطعام والشراب.

ثم اعلم أنه من كبير جهله أنه4 أخذ يقيس ما وجب فعله على فعل ما يجب فعله فقاس الترك على الفعل وقاس المحرم على الواجب وهذا أفسد شيء وأبعده عن القياس فالعكس والحالة هذه أشبه بالقياس صورة ومعنى فتأمله فإنه يطلعك على جهل هذا الرجل

1 "ط": العبادة.

2 إضافة من "ط".

3 "ط": فالعبد.

4 "ط": أنه. ساقطة.

ص: 128

فالعارف يلتمس له العذر حيث أنه جاهل ولولا جهله لكانت هذه فرية منه عظيمة على دين الله.

ومن المعلوم عند من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة أن الهجرة من أعظم فرائض الدين وهي أصل وقاعدة من قواعد الإسلام التي ينبني عليها الكثير من الأحكام ومن جهله أنه لم يميز الضرورة والضرر كما قد عرفت في1 كلامه الذي أسفلته.

ومن المعلوم عند من له بصيرة ودين أن الهجرة لا ضرورة فيها ولا ضرر فدعواه الضرورة ممنوعة من أصلها فغاية ما في الهجرة: بأن فيها مشقة في المبادئ على النفس من جهة مفارقة المألوف من الوطن أو المال أو غيرها من الأصناف الثمانية المذكورة في أول سورة براءة2.

وهذا شأن الشرائع كالجهاد فإن فيه مشقة كما قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] الآية؛ وقال تعالى: ََ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216] .

ولم يعذر الله تعالى أناسا3 تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك4 بما فيها من المشقة حتى قال الله تعالى: فيهم شر ما قال لأحد فقال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:95] .

ومن المعلوم أنه ليس في ترك الجهاد من المفاسد في الدين ما في ترك الهجرة بل المفاسد التي في ترك الجهاد موجودة في ترك الهجرة وأكثر منها كما لا يخفى على ذوي البصائر والفهم وكان من ثمرتها ومصالحها:

قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: تعالى: والشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فهي تأمر بما يترجح مصلحته وإن

1 "ط": من.

2 سورة التوبة الآيتان: 23، 24.

3 "ط": ناسا.

4 في رجب سنة تسع من الهجرة، وهي آخر غزاة عزاها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وكان خروجه في عام جدب وفي حر شديد. الدّر في اختصار المغازي 28.

ص: 129

كان فيه مفسدة مرجوحة كالجهاد؛ وتنهى عن ما ترجحت مفسدته وإن كان فيه مصلحة مرجوحة كتناول المحرمات من الخمر وغيره؛ ولهذا أمرنا الله أن نأخذ بأحسن ما أنزل إلينا من ربنا والأحسن إما واجب أو مستحب قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: من الآية55] فأمر باتباع الأحسن والأخذ به [14\أ] ؛قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:17؛18] فاقتضى أن غيرهم لم يهده انتهى.

وتأمل ما وقع فيه التاركون للهجرة من سواء الحال في الدين والدينا فيالها من عبرة ما أبينها لمن اعتبر والحمد لله الذي أنقذ من شاء من عباده من المهالك برحمته وأهلك من بعدله {يَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [لأنفال: \42] .

فإذا عرفت ذلك؛ فأقول عجبا لهذا المفتري المغرور كيف تجسر على الخوض في أحكام الله ودينه بضرب الأمثال والأقيسة الفاسدة وهو لا يعرف القياس وشروطه والمقبول منه والمردود بل ولا يعرف أنواعه كقياس الأولى والعلة والدلالة والشبه والمخالفة ولا يعرف مفسدات القياس عند العلماء ولا من يجوز منه ذلك ممن لا يجوز منه ومن يجوز من العلماء عند الضرورة ومن لا يجوز منهم مطلقا ومن أنكره من علماء السلف كجعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهما فإن أنكره على أبي حنيفة رحمه الله تعالى: كما هو هو معروف عنه عند العلماء يروونه عن ابن شبرمة أنه قال لأبي حنيفة: اتق الله ولا تقس فإنا نفق غدا نحن ومن خالفنا بين يدي الله تعالى؛ فنقول: قال الله قال رسول الله وتقول: أنت وأصحابك رأينا وقسنا فيفعل الله بنا وبك ما شاء وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا تقيسوا الدين لا يقاس وأول من قاس إبليس الديلمي وقال ابن سيرين: القياس شر وأول من قاس إبليس وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وقال الأمام أحمد رحمه

ص: 130

الله تعالى: أكثر ما يخطى الناس من جهة التأويل والقياس.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: إنما المتبع في إثبات أحكام الله كتاب الله [14/ب] وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل السابقين الأولين لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاث نصا أو استنباطا بحال وأما الأقيسة الفاسدة فإنها أكثر ما عند أهل الضلال وأل من قاس إبليس

وقال: إن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير انتهى كلامه رحمه الله: تعالى".

والمقصود: أن يعلم المسلم أن بذل النفس في طاعة الله ومرضاته أمر مطلوب للرب تعالى من عبده ليكون الدين كله لله فمن رغب بنفسه عن ذلك وآثر مرادها وراحتها وشهوتها على مراد ربه وإقامة دينه وطلب مرضاته فقد عرض نفسه لمقت الله وعقابه وحرم نفسه ما حصل للمؤمنين المتقين من جزيل ثوابه فلا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه ومن وجد خير فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

ثم إن هذا المغرور المسكين؛ قال: وأباحه الكفر إذا أكره عليه؛ قال عزمن قال: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: \106] نزلت في عمار بن ياسر أخذه المشركون فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال "كيف تجد قلبك" قال: مطمئنا بالأيمان.

فالجواب: وبالله التوفيق أن نقول: لا يخفى أن هذا الرجل ادعى لنفسه أمرا لا وجود له ولا حقيقة واستدل بدليل هو في الحقيقة عليه لا له؛ وذكر أمرا مجملا مبهما تشبيها على العامة ليلبس عليهم أمر دينهم وفي ضمنه أنه أقر على نفسه بما صدر منه مما لا يحبه الله ويرضاه؛ وغير أنه اعتذر عن نفسه بالإكراه:

ومن له أدنى مسكة من عقل وتمييز يعلم أنه لا عذر لهذا الرجل فيما قد صدر منه؛ فإن دعواه الإكراه ممنوعة: لأنه إن كان على الإقامة عندهم فهذا باطل قطعا؛ لأنهم لم يحبسوه ولم يجعلوا على كل نقب من نقوب القرية حرسا يمنعه الخروج منها؛ ولا جعلوا على طرقاتها رصدا‘ والمناهل:

ص: 131

قريبة وفيها القبائل‘ والفرار بالدين واجب فأين الإكراه؟!

هذا وقد حصل منه من الإقبال والإدبار والتصدر والافتخار [15\أ] ما هو معلوم عند من يعرف هذا الشخص بالاضطرار فأين حال هذا وأمثاله من حال عمار؟!

رضي الله عن عمار؛ فإنه تبرا من المشركين وسبهم‘ وسب دينهم ومعبوداتهم‘فلذلك تصدروا له ولأهله بالعداوة الشديدة وما ثم قرية ولا قبيلة على الإسلام فجعلوا يضربون أشد الضرب ويعذبونه أشد العذاب وحبسوه في بئر ميمون وقتلوا أباه وأمه وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم يقول: "صبروا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة" ومع هذا وغيره لم يقع منه إلا القول دون الفعل‘ وأنتم سارعتم بلا إكراه‘ وقلتم وفعلتم تقربا إليهم واختيارا من غير أن يكون منهم طلب لما فعلتموه فما طلبوا منكم ذلك ولا امتنعتم ولا أكرهتم عليه فأين أنتم وعمار فهو وأنتم في طرفي نقض شعر:

سارت مشرقة وسرت مغربا

شتان بين مشرق ومغرب

وفي الصحيحين عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا: ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا قال: فجلس محمرا وجهه ثم قال: "والله إن من كان قبلكم ليؤخذ الرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دينه ويقعد الرجل فتحفر له الحفرة فيوضع المنشار على رأسه فيشق باثنين ما يصرفه عن دبه" الحديث:

وبعد ما وقع بعمار وأهله من المشركين ما قوع أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة؛ لما اشتد بهم أذى المشركين‘ فهاجروا وفيهم عمار رضي الله عنه‘ ثم إنه رجع هو وبعض المهاجرين فهاجروا إلى المدين وفي تلك الأحوال:

ص: 132

لم يطمئن أحد منهم إلى المشركين ولا داهنهم بدينه واستمروا على عداوتهم والبراءة منهم حتى هاجروا إلى المدينة وقصتهم في السير وكتب الحديث والمغازي مشهورة:

فأين القلب المطمئن بالإيمان وهو يرغب إلى أولئك الأشرار ويتعرض لما بأيديهم1 من حطام الدنيا ويتودد إليهم بأساجيع المدح كسجع الكهان ويقول: اكتبوا لي كذا اجعلوا لي كذا!! ونحو ذلك من صيغ الطلب كما في المكاتبات المشحونة2 بالمديح والدعوات والتعظيمات والمجازفات الموشحة بنظم الأبيات فسبحان من لا يخفى عليه خافية من أقوال خلقه وأعمالهم؛ وفي الحديث: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"3.

ونذكر أيضا طرفا مما يتعلق بمعنى الآية: قال العماذ بن كثير في تفسيره أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتصبر وشرح صدره بالكفر واطمأن به أنه قد غضب عليهم؛ لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة؛ فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا، وطبع على قلوبهم فهم لا يعقلون شيئا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ولا أغنت عنهم شيئا فهم غافلون عما يراد بهم.

وأما قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها على ما قاله بضرب وأذى وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه: نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه حين عذبه المشركون فواقهم على ذلك مستنكرها وروى بن جرير بسنده قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف تجد قلبك" قال: مطمئنا بالإيمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن عادوا فعد"4.

1 "ط": في أيديهم.

2 "ط": الموشحة.

3 أخرجه مسلم في الصحيح رقم 2564 وابن ماجه في السنن رقم 4195 وأحمد في المسند 2/539،285

4 تفسير القرآن العظيم 4/524.

ص: 133

وقال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه رضي الله عنهم – وكانوا أهل بيت إسلام – إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة فيمر بهم رسول الله صلى لله عليه وسلم فيقول فيما بلغني "صبرا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة" فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام.

قال وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم قال نعم والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضرر الذي به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة افتداء منهم مما يبلغون من جهدهم1.

قال العماد بن كثير2 والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله كما ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله ابن حذافة السهمي – أحد الصحابة- أنه أسرته الروم فجاؤوا به إلى عند ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك بنتي فقال: لو أعطتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب عن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت فقال إذا أقتلك. قال: أنت وذاك. قال: فأمر به فصلب وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه3 دين النصرانية فأبى ثم أمر به فأنزل ثم أمر بقدر- وفي رواية ببقرة من نحاس- فأحميت وجاءوا بأسير من المسلمين فألفاه وهو ينظر فإذا هو عظام يلوح وعرض عليه فأبى فأمر4 به أن يلقى فيها فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى. فطمع فيه ودعاه فقال: إني5 إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذا القدر الساعة في الله

فأحببت أن يكون [لي] 6 بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله.

1 السيرة لابن هشام 1/279.

2 كتب في هامش الأصل مانص: قف رحمك الله وتدبر.

3 الأصل و "ط": على. والمثبت من التفسير.

4 "ط": ثم أمر.

5 "ط": إني. ساقطة.

6 إضافة من التفسير.

ص: 134

وفي بعض الروايات: أنه سجنه ومنعه1 الطعام والشراب أياما ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقر به ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل فقال: أما إنه قد حل لي ولكن لم أكن لأشتمك بي فقال الملك فقبل رأسه فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حق على كل مسلم أن يقبل راس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما2.

قال العماد رحمه الله: تعالى: وكما كان بلال رضي الله عنه يأبى على المشركين ذلك وهم يفعلونه به الأفاعيل حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أحد أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغلظ لكم منها لقتلها. رضي الله عنه وأرضاه.

وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري رضي الله عنه لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول: نعم فيقول: أتشهد أني رسول الله فيقول: لا أسمع فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك.3

قلت: فهذه حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لقوا من المشركين من شدة الأذى فأين هذا من حال هؤلاء المفتونين الذين سارعوا إلى الباطل وأوضعوا فيه وأقبلوا وأدبروا وتوددوا وداهنوا وركنوا وعظموا ومدحوا؟!! فكانوا أشبه بما قال الله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً} [الأحزاب:14] نسأل الله تعالى الثبات على الإسلام وتعوذ به من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.

ومن المعلوم أن الذين أسلموا وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به لولا أنهم تبرءوا من الشرك وأهله وبادؤا4 المشركين بسبب دينهم وعيب آلهتهم لما

1 "ط": ومنع منه.

2 تفسير القرآن العظيم 4/526.

3 المصدر السابق 4/525.

4 "ط": وبادروا.

ص: 135

تصدوا لهم بأنواع الأذى وذلك لأنهم أعلم الأمة بالحنيفية وأعلمهم1 بالتوحيد كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]

ثم إنه قال في رسالة فمن شرح بالكفر صدره وارتد وطابت نفسه بالكفر فهو الكافر:

فالجواب أن يقال تعداده هذه الثلاث تدل على جهلة بنواقض الإسلام لأن كل واحدة من هذه الثلاث يكفر صاحبها وبين هذه الثلاث تلازم فمن شرح صدرا فقد ارتد وطالبت نفسه بالكفر ومن طابت نفسه بالكفر فقد ارتد وشرح بالكفر صدرا فحظ هذا الرجل التنطع بالكلام من غير تصور للمعنى:

ثم إن آخر هذه الآية يرشد إلى أن الذي أوقعهم في انشراح الصدر بالكفر هو إيثار الدنيا على الآخرة فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل:107] فإذا استحب الوطن أو المال أو الأزواج أو العشيرة أو المساكن أو التجارة أو غير ذلك من أمور الدنيا وترك لأجل ذلك ما وجب عليه من الهجرة والجهاد فقد تناوله هذا الوعيد كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا2 حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] .

قال المفسرون في قوله تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176] أي: مال إلى الدنيا وزهرتها وآثرها على طاعة الله ومرضاته.3

فإذا كان هذا هو الواقع من هؤلاء فما هذا القلب الذي اطمأن بالإيمان مع وجود ما ينافي ذلك من إيثار الدنيا والطمأنينة إليها والرغبة فيها

1 "ط": واعلم.

2 "ط": إلى آخر الآية.

3 ينظر تفسير الحافظ بن كثير 3/510.

ص: 136

وترك ما أوجب الله تعالى عليه لأجلها.

ومن ادعى ما ليس فيه كذبته شواهد الامتحان قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]

ثم إنه قال وما أجلسه في بلده إلا حماية لنفسه وماله وولده.

فالجواب أن نقول هذا هو الحذر الأكبر والذنب الأعظم الذي ثبت الوعيد عليه في آية براءة فلو كان لهذا فقه أو معرفة لما اعتذر عن نفسه بأشياء لم يعذر الله بها أحدا من خلقه لفو أحب الله على ما سواه لما آثر محبة النفس والمال والولد عليه.

وقد ثبت في رواية أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة فمنهم من يتعلق به أهله وولده يقولون: ننشدك بالله ألا تضيعنا. فيرق عليهم ويدع الهجرة فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1 إذا عرفت ذلك فلا يخفى أن أهل نجد في هذه الحادثة صاروا أصنافا.

فالصنف الأول: دخلوا تحت حكم هذه الآية لما ابتلوا بالعدو أخلدوا إلى الأرض ورضوا بالمقام معهم وتحت أمرهم فتركوا ما وجب عليهم من الفرار بدينهم ومفارقة عدوهم إيثارا لدنياهم وأحبوا المقام وداهنوا أولئك الأقوام وخدموهم وأعانوهم وتقربوا إليهم بما لم يحبه الله ولا يرضاه بلا قسر ولا إكراه:

الصنف الثاني: وهم أشد نقضوا عهد الإسلام واستجلبوا العدو إلى الأوطان وآووهم وظاهروهم ونصروهم ونابذوا المسلمين المهاجرين بالشتم والسب وألبوا العدو عليهم وصارت مسبة من هاجر هي ديدنهم2 وسفهوا المسلمين واستصلحوا بزعمهم حالهم ظنا منهم أنه لا طاقة لأحد بهذا أو أن أمرهم سيستقر في جميع البلاد النجدية فضل سعيهم وخابت آمالهم والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون:

1 ذكره الواحدي في أسباب النزول 164.

2 "ط": دينهم.

ص: 137

الصنف الثالث: حصل منهم إقامة بين أظهرهم ولم يتبين منهم ما تبين1 من الصنفين وهؤلاء قسمان: مستطيع للهجرة وغير مستطيع والله أعلم بحالهم:

وهؤلاء لم يظهر2 في العلانية ما يستدل به على السريرة بل ربما ظهر منهم كراهة الباطل والفساد والمعاصي وهم على خطر والله أسأل أن يمن على الجميع بالتوبة النصوح:

الصنف الرابع: أناس نفروا في الابتداء وجاهدوا وصبروا لكنهم بعد ذلك لم يستقيموا على ذلك وحصل لم فتنة صاروا فيها فرقا فعسى الله أن يتداركهم برحمته وأن يتوب عليهم إنه هو التوب الرحيم:

وأما الصنف الخامس: فهم3 الذين ثبتوا ولم يمكنوا منهم عدوا وصبروا على ركوب الأهوال في جميع الأحوال نسأل الله لنا ولهم الثبات على الإسلام والاستقامة على الإيمان والفضل الله تعالى على من ثبت واستقام وصبر على أذى الخلق في طاعة الحق وبالله التوفيق:

ووجدت لعالم الحجاز ومفتيهم الإمام محمد بن أحمد الحفظي4 فصلا نافعا فيما وقع من الفتنة بالحجاز بعد وقعة بسل5 المعروفة وما جرى في تلك المدة من الافتتان عن الدين وذكر: أن الله أطفأ نار المفسدين وأطلع نور الموحدين ولكنه قد حصل في تلك المدة الماضية أمور عظام هي أكبر الذنوب وأعظم الآثام قد بلغ الشيطان فيها مراده ممن كان يدعي الإسلام.

منها: أن منهم من كره6 ما أنزل الله في كتابه من شرائع الدين ومنهم من

1 "ط": يتبين.

2 "ط":يظهروا.

3 "ط"ك فمنهم.

4 محمد بن أحمد بن عبد القادر بن بكري بن محمد العجلي فقيه داعية أديب مؤرخ ت 1237 الأعلام للزركلي 6/17.

5 "ط": سبل. تحريف. وهو واد خصب من أودية الطائف لا يزال يحمل هذا الاسم إلى اليوم التقت فيه جيوش الدولة السعودية الأولى مع جموع البائس المخذول محمد علي"باشا" غير أنه بسبب التنفاس الذي نشب بين عبد الله وفيصل إبني سعود على القيادة لم يستطع قواتهما الصمود فانهزمت لاتلوي على شيء. ينظر المقامات للمؤلف "الدرر السنية 9/224" وعنوان المجد لابن بشر 1/370

6.

"ط": كرم. تحريف.

ص: 138

طعن في ذلك وأبعض الإسلام والمسلمين ومنهم من ظاهر ووالى على طمس أعلام الموحدين وأرادوا إحياء أضدادها من أعمال الجاهلية وأفعال المشركين ومنهم من استهزأ بالله وآياته ورسوله والمؤمنين ومنهم من رضي بذلك وعزم عليه وأعان بنفسه أو ماله أو لسانه:

وقد ورد الوعيد الشديد فيمن أعان ولو بشطر كلمة في قتل مسلم1 فكيف الإعانة على حرب الإسلام والمسلمين ومنهم من تخلق واتصف2 بأخلاق المنافقين وأبرز ما كان يكنه من الداء الدفين ومنهم من أشاع الكذب والأراجيف بقوة العدو وضعف أهل الإيمان فارحا بذلك شامتا بالمسلمين ومنهم من ظن بالله السوء بأنه أدال العدو واضمحل ما كان من النصر والتمكين ومنهم من نقض بيعته ونكث صفقته واستبدل الرخيص بالثمين:

وهذه الأمور كلها جرت بغير إكراه ولا تعيين وكل واحدة منها تخدش في وجه إيمان فاعلها وتفت في عضد إسلام عاملها وهي من المعاند ردة عن الإسلام وإما نفاق في الدين وذكر الأدلة من القرآن

ثم3 قال: فالإنسان أعرف بنجاسته وطهارته وأخبر بمعصيته وطاعته وكفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبربك عليك رقيبا ولعلك أن تقول: هولت الأمر فأقول بل الأمر أكبر مما حسبت وأكثر مما سمعت {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] وذكر الأدلة على ذلك:

ثم قال: وفي السنن أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حكم بكفر أهل مسجد الكوفة4 قال واحد: إنما مسيلمة على حق فيما قال وسكت

1 أخرجه ابن ماجة في السنن رقم 2649، قال البوصيري في مصباح الزجاج 2/334: هذا إسناد ضعيف وابن أبي عاصم في كتاب الديات 23 والبيهقي في السنن الكبرى 8/22 والديلمي في مسند الفردوس رقم 5822 من حديث أبي هريرة وأخرجه أبو نعيم في الحلية 5/24 وأخبار أصبهان 1/264،152 وابن عساكر في التاريخ كما في الكنز 15/31 من حديث ابن عمر وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/298: فيه عبد الله بن خراش ضعفه البخاري وجماعة ووثقه ابن معين وقال: ربما أخطأ وبقية رجاله وثقات من حديث ابن عباس.

2 "ط": من اتصف أو تخلق.

3 "ط": ثم. ساقطة.

4 "ط": في الكوفة.

ص: 139

الباقون فأفتى بكفرهم جميعا.

فلا يأمن الإنسان أن يكون قد صدر منه كلمة كفر أو سمعها وسكت عليها ونحو ذلك فالحذر الحذر أيها العاقلون والتوبة التوبة أيها الغافلون فإن الفتنة حصلت في أصل الدين لا في فروعه ولا الدنيا فيجب أن يكون العشيرة والأزواج والأموال والتجارة والمساكن وقاية للدين وفداء عنه ولا تجعل الدين فداء عنها ووقاية لها.

قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]

فتفطن لها وتأملها فإن الله أوجب أن يكون الله ورسوله والجهاد أحب من تلك الثمانية كلها فضلا عن واحدة منها أو أكثر أو شيء دونها مما هو أحقر1 فليكن الدين عندك أغلى الأشياء وأولادها انتهى المقصود من كلامه:

رحم الله تعالى هذا الإمام ما أبصر والحمد لله الذي جعل في كل زمان من يقول الحق ويرشد إلى الهدى والصدق وتندفع بعمله حجج المبطلين وتلبيس الجاهلين المفتونين.

فيا لها نعمة2 لا يستطيع من وفق لها أن يقوم بشكرها فما ذاك إلا بتوفيق الله وفضله وإحسانه

وأما هذا المغرور المسكين وأمثاله فإنهم خاضوا في غمرات الافتتان وأ طمأنت قلوبهم إلى أهل الظلم والعدوان وأكثروا التردد إليهم3 والمسير إليهم طوعا واختيارا وتعرضوا لما في أيديهم من حطام الدنيا سرا وجهارا فأبن القلب المطمئن بالإيمان إذا كان مدعيه يجري مع الهوى في كل ميدان.

فما أشبه حال هذا وأمثاله بالضرب الثاني من الضروب الأربعة الذين ذكرهم العلامة ابن القيم رحمه الله: وهم الذين لهم أوفر نصيب من قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ

1 "ط": أحق.

2 "ط": من نعمة.

3 "ط": عليهم.

ص: 140

بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188] يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة ويحبون أن يحمدوا بإتباع السنة والإخلاص وهذا يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والعبادة عن الصراط المستقيم فإنهم يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الاتباع والإخلاص والعلم فهم أهل الغضب والضلال.

وأما قول المعترض المفتري- في وصف نفسه في تلك الحالة- أنه هاجر للمنا هي عامل بالأوامر فهذا1 في غاية التناقص والمكابرة فقد أقر قبل ذلك بأنه كان في إقامته معهم صابرا على ما ينو به منهم من المهاون والخسائر؟

فإذا كان في عدادهم وفي سوادهم وطاعتهم ومعونتهم بالمال فلا ريب أن هذا كله من المناهي فهو في أوامر أولئك الخلق لا في رضي الإله الحق وكلامه يناقض بعضه بعضا فإن العامل بأوامر الله الهاجر لمناهيه لا تكون حاله كذلك من موالاة الباطل والركون إليه ومظاهرة أهله وتعظيمهم والتذلل لهم والخضوع بين أيديهم وكل هذه الأمور قد أسجل الله في كتابه على فاعلها بالوعيد الشديد وسلب الإيمان وحبوط الأعمال والله المستعان.

فلو ترك هؤلاء المراء والجدل2 وأحجموا عن هذه الترهات وتابوا وأنابوا إلى عالم السر والخفيات3 لكان خيرا لهم:

وأما قوله: فذاك عندنا المسلم المهاجر!!!

فأقول: ألا تعجبون يا إخواني من هذا المسكين وأيم الله لا يقول هذا من له أدني4 مسكة من عقل يدعي الهجرة ويقصرها على من تركها رأسا أين ذهب عقله عن قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} [الحج: 58] وقوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء: 100] وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ

1 الأصل: وهذا.

2 "ط": والجدال.

3 "ط": والخفايات.

4 "ط": أدنى. ساقطة.

ص: 141

ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 56،57] إلى غير ذلك من الآيات المعرفة بالهجرة وثوابها وأنها الانتقال من الأوطان والمساكن ومفارقة الأهلين والإخوان في طاعة الله ومرضاته فالمهاجر من1 هجر أهل الكفر والمعاصي بمفارقتهم والانتقال عنهم إلى محل لا يرى فيه منكرا ولا يسمع فيه باطلا تحيزا بدينه كما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة وعليه المسلمون قاطبة.

فما أشبه هذا الرجل في صرف الهجرة عن حقيقتها الشرعية بالباطنية الملاحدة2 في تأويلهم الشريعة على غير حقائقها التي أرداها الله من العباد.

قال العماد ابن كثير - في الآية الأولى-: يخبر تعالى عمن خرج مهاجرا في سيبل الله ابتغاء مرضاته وترك الأوطان والأهلين والخلان وفارق بلاده في الله ورسوله ونصرة دين الله {ثُمَّ قُتِلُوا} أي: في الجهاد {أَوْ مَاتُوا} حتف أنفهم3 من غير قتال فقد حصلوا على الأجر الجزيل والثناء الجميل كما قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] .4

ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هاجروا عن مكة وهي أفضل البلاد وأحبها إلى الله ولحقوا بالمدينة امتثالا لأمر الله وطلبا لمرضاته وعداوة لأعدائه وقد قال الله تعالى: فيمن لم يهاجر معهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] ولم يشمل هذا الوعيد إلا من ترك الهجرة لعدم الاستطاعة فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ً} [النساء:97 99] وما سموا مهاجرين وإن كان معذورين ويقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [النساء:؛75] .

فسبحان الله ما أسرع هذا الرجل إلى الخطأ والخطل وإن كان لا يعذر

1 "ط": من. ساقطة.

2 كالأسماعيلية والنصيرية والبهرة والدروز وما تفرع عنهم من الفرق الضالة. ينظر فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية 35/145 وما بعدها.

3 "ط": أنوفهم.

4 تفسير الحافظ ابن كثير 5/443.

ص: 142

بالإقامة إلا من جمع هذين الوصفين فما عذر أمريء صبر على المهاون والخسائر ومشاهدة المعاصي والكبائر وهو على مفارقة ذلك كله قادر وما عذره في الصبر على ترك ما وجب عليه وفعل ما حرمه الله تعالى:

لكن هؤلاء فرحوا بما عندهم من المحال وقنعوا بما ألفوه من الخيال وتركب من هذا إيثار ما عندهم على ما سواه وقد يحمل ذلك على أن يأمر بالباطل ويرتضيه ومن لم يأمر به منهم لم ينه عنه بل يقره ولا ينفيه وقد يرجح أهل الشرك والمعاصي على الموحدين:

وهذا مما يبتلى به أهل الأهواء والمعافى من عافاه من إيثار أمر دنياه على أخراه وهذا هو الواقع من بعض هؤلاء وقد ذكر أثمتنا من أهل السنة رحمهم الله تعالى أنه وقع من أناس في زمانهم وقبله لا يبلغ هؤلاء وقد ذكر أئمتنا من أهل السنة رحمهم الله تعالى أنه واقع من أناس في زمانهم وقبله لا يبلغ هؤلاء معشار ما عندهم من الفهم والعلم ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل ولقد أحسن من قال:

يقضى على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

والبصير لا يغتر باستحسان هؤلاء وأمثالهم ما ركبوه وزينوه من باطلهمولا بتركهم الحق واستهجانهم له ولأهله فإن الله تعالى ميز الخلق بإرادتهم1 وأعمالهم وأقوالهم وبين الصادق من الكاذب وتدبر كتاب الله وتفكر في آياته وحججه وبيناته ولقد أحسن من قال شعرا:

فالحق شمس والعيون نواظر

لا تختفى2 إلا على العميان3

وأما قوله: ومن كفر مسلما فهو الكافر.

فالجواب: أنه ما من أحد إلا وهو يدعي الإسلام لنفسه ولكل قول حقيقة وقد ذكر شيخنا رحمه الله تعالى: تعريفا جامعا لأصل الإسلام قال: وأصل دين الإسلام وقاعدته أمران: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والتحريض على ذلك والموالاة فيه وتفكير من تركه. الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة

1 "ط": بإرادتهم.

2 "ط": لكنها تخفى.

3 الكفاية الشافية في الإنتصار للفرقة الناجية 252.

ص: 143

الله والتغليظ في ذلك والمعاداة فيه وتفكير من فعله والمخالف في ذلك أنواع0

فأشدهم مخالفة من خالف في الجميع ومنهم من عبد الله وحده ولم ينكر الشرك ومنهم من أشرك ولم ينكر التوحيد ومنهم من أنكر الشرك ولم يعاد أهله ومنهم من عاداهم ولم يكفرهم ومنهم من لم يجب التوحيد ولم يبغضه ومنهم من أنكره ولم يعاد أهله ومنهم من عاداهم ولم يكفرهم ومنهم من كفرهم وزعم أنه مسبة للصالحين ومنهم من لم يبغض الشرك ولم يحبه ومنهم من لم يعرف الشرك ولم ينكره ومنهم وهو أشد الأنواع خطرا من عمل بالتوحيد ولم يعف قدره فلم يبغض من تركه ولم يكفرهم ومنهم من ترك الشرك وكرهه وأنكره ولم يعرف قدراه فلم يعاد أهله ولم يكفرهم وكل هؤلاء قد خالفوا ما جاءت به الأنبياء من دين الله انتهى كلامه رحمه الله تعالى:

فيقال لهذا المسكين: تفطن في نفسك هل أنت داخل في هذه الأنواع فإن كنت فيها فما أسلمت1 حتى يثبت لك الإسلام.

ويقال أيضا من هذا الذي كفرك وواجهك بالتكفير فإن ثبت من شخص معروف فينظر: هل وافق الحكم المحل أم2 لا فإن وافقه فلا اعتراض على من حكم بالدليل.

وإن لم يوافق الحكم المحل قلنا جواب ثان عن قولك من كفر مسلما فهو الكافر فيقال لك [صحح] 3 نسبة هذا القول إلى قائل معروف يحتج بقوله: ويكفينا في قبوله إذا كان له وجود في دواوين الإسلام التي صنفها الحفاظ من أهل الحديث فإن لم تجد له أصلا بهذا اللفظ فكيف تحكيه جازما به وما كان كذلك فلا ينهض الاحتجاج به.

نعم قد ثبت في الصحيح عن أبي ذر "ومن: دعا رجلا بالكفر أو قال عدو وليس كذلك إلا حار عليه" 4

فليتأمل قوله: [وليس كذلك] ومعنى قوله: "حار عليه".

1 الأصل: سلمت.

2 "ط": أو.

3 ساقط من الأصل.

4 أخرجه مسلم في الصحيح رقم 61 وأحمد في المسند 5/166.

ص: 144

أي: رجع قال الله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] قال العلماء وهذا وعبد شديد إذا لم يكن خصومهم كذلك.

والكلام إنما هو على أفعال وأقول تناقض الإسلام فإن للإسلام نواقض مذكورة في كتب الفقه لأرباب المذاهب الأربعة وغيرهم فمن وقع في شيء منها حكموا بردته إلا أن يتوب ويراجع الحق فإن تاب توبة نصوحا وهي التي استكملت شروط التوبة له1 فان الله تعالى يقبل توبة التائبين إذا صحت منهم وظهر منهم2 من صالح الأقوال والأعمال والأحوال ما يدل على ذلك كما قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:146] .

فإذا حصلت هذه الأمور الأربعة ظاهر وباطنا فدلت الآية على أن هذا3 لا يكون مقدما على أحد من المسلمين ولا يتولى شيئا من أعماهم ولو صحت توبته بشروطها المذكورة في الآية.

وأما من لم يعرف له توبة صحيحة فالواجب أن يعامل معاملة أمثاله من المنافقين بالإعراض عنه وجهاده على ما يقع منه لأن الله تعالى ميز عباده بالفتن كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] .

وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة:16] وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] .

وهذا الضرب من الناس ينبغي أن ينزلوا منازلهم التي أنزلهم الله كما قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] فإذا كانوا قد أتوا شيئا من المكفرات قولا أو عملا أو ارتكبوا بدعة ولم يتوبوا توبة نصوحا فيجب على كل مسلم أن يبغضهم على ذلك كما ورد في الحديث "أوثق عرى:

1 "ط": له ساقطة.

2 "ط": منهم. ساقطة.

3 "ط": أنه.

ص: 145

الإيمان الحب في الله والبغض في الله " 1 فمن لم يحب أهل التوحيد والإيمان ويبغض أهل البدع والضلال فقد نقض أوثق عرى الإسلام.

وقد جاءت الأحاديث والآثار بالتحذير من أهل البدع والترغيب في هجرهم والبعد عنهم

فمن ذلك ما روى اللالكائي في [كتاب] 2 السنة عن الفضيل بن عياض من أتاه رجل فدله على مبتدع فقد غش الإسلام فاحذروا الدخول على أصحاب البدع فإنهم يصدون عن الحق3.

وقال أيضا لا تجلس مع صاحب بدعة فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة ومن أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه وصاحب البدعة لا تأمنه على دينك ولا تشاوره فيأمرك ولا تجلس إليه فمن جلس إلى صاحب بدعة أورثه العمى4:

وأخرج اللالكائي عن عطاء الخراساني قال ما يكاد الله أن يأذن لصاحب بدعة بتوبة5 وأمثال هذا كثير عن السلف والأئمة فلو تتبعناه لطال الجواب.

إذا عرف ذلك فلو قدر أن رجلا من المسلمين قال في أناس قد تلطخوا بأمور قد نص العلماء على أنها كفر مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة غيرة لله وكراهة لما يكره الله من تلك الأعمال فغير جائز لأحد أن يقول في حقهم ومن كفر مسلما فهو كافر.

على أنا لا يعلم أن أحدا من المسلمين كفر بعينه اللهم إلا أن يحكي أفعالهم فظن السامع لذلك أنه كفرهم

1 أخرجه أحمد في المسند 4/286 وابن أبي شيبة في كتاب الإيمان رقم 110 والطيالسي في المسند رقم 747 وانظر بقية التخريج في كتاب عرى الإيمان للشيخ سليمان بن عبد الله 27

2 إضافة من "ط".

3 شرح أصول اعتقاد أهل السنة رقم 261.

4 المصدر السابق رقم 262.

5 المصدر السابق رقم 283.

ص: 146

وأما الحديث الذي ذكرناه فقد تأوله العلماء بما هو مفروف كأمثاله من أحاديث هذا الباب كحديث "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 1 وأيضا فهو مقيد بقوله: [وليس كذلك] .

ولا يخف ما جرى من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كقوله: م2 في مالك بن الدخشم: ِإنه منافق لا يحب الله ورسوله فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم بل قال "آلا تراه قال لا إله إلا الله" فقال الله ورسوله اعلم فإنا نرى وجهه ونصيحته للمنافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" 3 وقد قال بعض العلماء إن ذلك الرجل كان من أهل بدر.

ومن المعلوم أن الخوارج طعنوا على ولاة الأمر وكفروا عليا ومن قاتل معه من الصحابة وغيرهم وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم والبشارة لمن قاتلهم كما هو معروف ثابت في الصحيحين والسنن والمسانيد.

ولما قيل لعلى أكفار هم فقال من الكفر فروا فلو ذكرنا الأحاديث الواردة في الخوارج لطال الجواب

وكلام العلماء على الحديث المتقدم ذكره قال النووي في شرح مسلم ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه هذا مما عده بعض العلماء من المشكلات فإن مذهب أهل الحق لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا وفي تأويل الحديث أوجه أجدها أنه محمول على المستحل والثاني معناه رجعت عليه معصيته والثالث أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين وهذا ضعيف لأن الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون المحققون أن الخوارج لا يكفرون والرابع أنه يؤول إلى الكفر لأن المعاصي بريد الكفر انتهى ملخصا4:

فانظر إلى ما حكاه النووي رحمه الله: من أن الصحيح الذي قاله

1 أخرجه البخاري في الصحاح رقم 7076،6044،48، ومسلم في الصحيح رقم 64 وأحمد في المسند 1/433،411،385،176 من حديث ابن مسعود.

2 "ط": كقوله.

3 ينظر تخريجه في كتاب أوثق عرى الإيمان 64.

4 المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 2/49.

ص: 147

الأكثرون المحققون أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم وحسبك بهذا الإمام فمن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم عرف الخطأ من الصواب لكن من أعظم الآفات عدم العلم وفساد القصد وهما آفة الأكثرين وفساد الدين نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.

فما الذي حمل هذا المسكين على التمويه على جهلة الناس وتشكيكهم في أمر دينهم والإلباس؟!!

فمن ذلك قوله: في آخر ورقته فرحم الله امرءا قال الله الحق وبه فالحق أحق أن يتبع.

فالجواب أن يقال تأمل ما تقدم من الجواب فإن الحق بحمد الله فيه ظاهر فإن كان طالب حق وجد وإلا فقد قامت عليه الحجة وانزاحت الشبهة عمن أراد البيان ووفق لفهم العلم والإيمان والله المستعان

فعسى الله أن يمنع عنه موانع الهداية وأسباب الضلالة والغواية فإن هذا الرجل قد قال بمقالة الخوارج وهو لا يدري وذلك في قوله: ومن كفر مسلما فهو الكافر.

وبيانه فيما أسلفناه من كلام النووي رحمه الله: من أن مذهب السنة والجماعة عدم التكفير بالذنوب وهذا قد حكم بالكفر على مرتكب هذا الذنب فلو قدر أن أحد قال في حق مسلم صحيح الإسلام أنه كافر فأهل السنة لا يكفرونه بذلك لأن ذنب من الذنوب وقد عرفت تأويلهم للحد وأن الأخذ بالظواهر المخالفة لأصول السنة وما عليه الصحابة والتابعون وعلماء الأمة هو رأي الخوارج كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: شعرا:

من لي بشبه خوارج قد كفروا

بالذنب تأويلا بلا حسبان1

ولهم نصوص قصروا في فهمها

فأتوا من التقصير في العرفان2

هم خالفوا نصا لنص مثله

لم يفهموا التوفيق بالإحسان

1 في الكفاية: بلا إحسان.

2 الكافية الشافية 103.

ص: 148

لكنكم خالفتم المنصوص.

بالشبه1 التي هي فكرة الإنسان2.

والمقصود بيان حال صاحب الورقة وأنه قال بقوله: الخوارج المخالف لما عليه أهل السنة والجماعة فكفر المسلمين بدعوى ادعاها لعلة اختلقها أو تلقاها ممن لا يعتمد عليه ولا يعول في الأخبار عليه.

وقد تقدم قوله: في الهجرة أنه3 من لزم وطنه مع ما يقع فيه من الظلم والفساد أنه هو المهاجر الصابر وقد عرفت أنه عكس الحقيقة وخالف الكتاب والسنة والفطرة السليمة والعقول الصحيحة وأنكر ما هو معصوم من الدين بالضرورة.

وقوله: المشار إليه يشبه قول الباطنية الإسماعيلية الملا حدة4 الذين تأولوا شرائع الدين على غير حقائقها وقولهم: يتضمن تعطيل الشرائع وهم من أضر المبتدعة على دين الإسلام.

هذا ونحن نعلم أنه قد وقع فيما فيه عن جهالة فلو عرف حقيقة طرق5 المبتدعة لعلم أن اقتفاء آثارهم من أعظم المطاعن عليه لكنه يقال في حق مثله شعرا:

إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

ومن عجيب أمر هذا الرجل وأمثاله ممن انتصب للتدريس بلا علم وأفتى من غير إجازة ولا فهم أن منهم من يصرح بتكفير أهل لا إله إلا الله علما وعملا ودعوة وجهادا بكونهم يكفرون عباد الأوثان وهم يقولون لا إله إلا الله وهذا منهم في غاية التناقض والفساد ومخالفة الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهذا شر من قول الخوارج كما لا يخفى على أولي البصائر

1 في الكافية: للشبه.

2 الكافية الشافية 104.

3 "ط": أن.

4 من أخبث الطوائف وأشدها بعدا عن الإسلام ولا زال لهم – مع الأسف الشديد- بقايا في الهند ومصر والشام وجنوب الجزيرة!!

5 "ط": حال.

ص: 149

وقد أشرت فيما تقدم إلى حاله وأنه لا يدري ما يقول ولا يدري أنه يدري1 فلو سكت لكان يسعنا السكوت عنه.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم2.

1 الأصل: ما يقول وأنه لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.

2 كتب الأصل بعد ذلك ما نصه: وقع في الفراغ من نسخة هذه الرسالة العظيمة – في إزاحة ما وقع من تلك الشبهة الوخيمة- في14 شعبان/ رمضان سنة 1314 بقلم الفقير إلى الله عبده: عبد العزيز بن فوزان غفر الله ولوالديه ومشايخه وإخوانه المسلمين وثبته على دين الإسلام منضما في سلك أوليائه وأنصاره حتى يلاقي الحمام. وصلى الله على خاتم الأنبياء والمرسلين وقائد الغر المحجلين نبينا محمد وعلى آله وصبه أجمعين. اهـ

ص: 150