المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرسالة السابعة والعشرون - المطلب الحميد في بيان مقاصد التوحيد

[عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المقامات

- ‌مدخل

- ‌المقام الأول:

- ‌المقام الثاني:

- ‌المقام الثالث:

- ‌المقام الرابع:

- ‌المقام الخامس:

- ‌المقام السادس:

- ‌المقام السابع:

- ‌المقام الثامن:

- ‌ المقام التاسع:

- ‌المحجة

- ‌الرد على احمد بن علي بن احمد بن سليمان المرائي

- ‌المراسلات

- ‌مدخل

- ‌الرسالة الأولى

- ‌الرسالة الثانية

- ‌الرسالة الثالة

- ‌الرسالة الرابعة

- ‌الرسالة الخامسة

- ‌الرسالة السادسة

- ‌الرسالة السابعة

- ‌الرسالة الثامنة

- ‌الرسالة التاسعة

- ‌الرسالة العاشرة

- ‌الرسالة الحادية عشر

- ‌الرسالة الثانية عشر

- ‌الرسالة الثالثة عشر

- ‌الرسالة الرابعة عشر

- ‌الرسالة الخامسة عشر

- ‌الرسالة السادسة عشر

- ‌الرسالة السابعة عشر

- ‌الرسالة الثامنة عشر

- ‌الرسالة التاسعة عشر

- ‌الرسالة العشرون

- ‌الرسالة الواحده العشرون

- ‌الرسالة الثانية والعشرون

- ‌الرسالة الثالثة والعشرون

- ‌الرسالة الرابعة والعشرون

- ‌الرسالة الخامسة والعشرون

- ‌الرسالة السادسة والعشرون

- ‌الرسالة السابعة والعشرون

- ‌الرسالة الثامنه والعشرون

- ‌الرسالة التاسعه والعشرون

- ‌الرسالة الثلاثون

- ‌الرسالة الواحدة والثلاثون

- ‌الرسالة الثانية والثلاثون

- ‌الرسالة الثالثة والثلاثون

- ‌الرسالة الرابعة والثلاثون

- ‌الرسالة الخامسة والثلاثون

- ‌الرسالة السادسة والثلاثون

- ‌الرسالة السابعة والثلاثون

- ‌الرسالة الثامنه والثلاثون

- ‌الرسالة التاسعة والثلاثون

- ‌الرسالة الأربعون

- ‌الرسالة الواحدة والأربعون

- ‌الرسالة الثانية والأربعون

- ‌الرسالة الثالثة والأربعون

- ‌الرسالة الرابعة والأربعون

- ‌الرسالة الخامسة والأربعون

- ‌الرسالة السادسة والأربعون

- ‌الرسالة السابعة والأربعون

- ‌الرسالة الثامنة والأربعون

- ‌الرسالة التاسعة والأربعين

- ‌الرسالة الخمسون

- ‌الرسالة الواحده والخمسون

- ‌الرسالة الثانية والخمسون

- ‌الرسالة الثالثة والخمسون

- ‌الرسالة الرابعة والخمسون

- ‌الرسالة الخامسة والخمسون

- ‌الرسالة السادسة والخمسون

- ‌الرسالة السابعة والخمسون

- ‌الرسالة الثامنة والخمسون

الفصل: ‌الرسالة السابعة والعشرون

ويعادي أعداه أهل معصيته وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم1.

1 مجموعة الرسائل والوسائل 2/2.

ص: 211

‌الرسالة السابعة والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

"27"

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أن محمدا عبده ورسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.

من عبد الرحمن بن حسن إلي الأخ عبد اللطيف ابن حامد وفقه الله تعالى لتوحيده وجعله من صالحي عبيده

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته "وبعد" فقد وصل إلينا خطك ومعه نسخة الأسئلة وسرنا ما كنت عليه مستقيما من دين الإسلام الذي إشتدت غربته بين جميع الأنام فأنا أذكر جواب ما سألت عنه على طريق الاختصار والإيجاز "السؤال الأول" عما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل"

فاعلم أن "لا إله إلا الله" هي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام وهي العروة الوثقى وكلمة التقوى وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم الخليل عليه السلام باقية في عقبه لعلهم يرجعون ومعناها نفي الشرك في الالهية عما سوى الله وإفراد الله تعالى بالإلهية. والإلهية هي تأله القلب بأنواع العبادة كالمحبة والخضوع والذل بالدعاء والاستعانة والرجاء والخوف والرغبة والرهبة وغير ذلك من أنواع العبادة التي ذكر الله في كتابه العزيز أمرا وترغيبا للعباد أن يعبدوا بها ربهم وحده وهي إسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة وكل نوع من أنواع العبادة لا يستحق أن يقصد به إلا الله وحده

ص: 211

فمن صرفه لغير الله فقد أشركه في حق الله الذي لا يصلح لغيره وجعل له ندا وقد عمت البلوى بهذا الشرك الأكبر بأرباب القبور والأشجار والأحجار واتخذوا ذلك دينا زعموا أن الله تعالى يحب ذلك ويرضاه وهو الشرك الذي لا يغفره الله كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} وقال تعالى: في معنى هذا التوحيد {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} أي أمر ووصي وهذا معنى لا إله إلا الله فقوله: أن لا تعبدوا هو معنى لا إله في كلمة الإخلاص وقوله: إلا إياه هو معنى الاستثناء في لا إله إلا الله ونظائر هذه الآية في القرآن كثيرة كما سنذكر بعضه وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وهذا النهي عام يتناول كل مدعوا من ملك أو نبي أو غيرهما فإن أحدا نكرة في سياق النهي وهي تعم وأمثال هذه الآية كثير كقوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} وفي حديث معاذ الذي في الصحيحين "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" وفيهما أيضا "من مات وهو يدعوا لله ندا دخل النار".

وإخلاص العبادة لله تعالى هو التوحيد الذي جحده المشركون قديما وحديثا ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه وغيرهم من أحياء العرب "قولوا ل اإله إلا الله تفلحوا" قالوا {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} إلى قوله: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ*مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَاّ اخْتِلَاقٌ} فعرفوا معنى لا إله إلا الله وإنه توحيد العبادة لكن جحدوه كما قال عن قوم هود {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} وقال تعالى: عن مشركي هذه الأمة {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} عرفوا أن المراد من لا إله إلا الله ترك الشرك في العبادة وأن يتركوا عبادة ما سواه مما كانوا يعبدونه من ملك أو نبي أو شجر أو حجر أو غير ذلك.

فإخلاص العبادة لله هو أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل

ص: 212

به كتبه وهو سر الخلق قال تعالى: لنبيه {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فإسلام الوجه هو إخلاص الأعمال الباطنة والظاهرة كلها لله وهذا هو توحيد الإلهية وتوحيد العبادة وتوحيد القصد والإرادة ومن كان كذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى وهي لا إله إلا الله فإن مدلولها نفي الشرك وإنكاره والبراءة منه وإخلاص العبادة لله وحده وهو معنى قول الخليل {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} وهذا هو الإخلاص الذي هو دين الله الذي لم يرض لعباده دينا سواه كما قال تعالى: {بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} والدين هو العبادة وقد فسره أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالدعاء وهو بعض أفراد العبادة كما في السنن من حديث أنس "الدعاء مخ العبادة" وحديث النعمان ابن بشير "الدعاء هو العبادة" أي معظمها وذلك أنه يجمع من أنواع العبادة أمورا سنذكرها إن شاء الله تعالى وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} والدعاء في هذه الآية هو الدعاء بنوعيه دعاء العبادة ودعاء المسألة وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} والحنيف هو الراغب عن الشرك المنكر له وقد فسره ابن القيم رحمه الله: بتفسير شامل لمدلول لاإله إلا الله فقال: الحنيف المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه وهذا التوحيد هو الذي أنكره أعداء الرسل من أولهم إلى آخرهم وقد بين تعالى ضلالهم بالشرك كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ ِلأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وهذا المذكور في هذه الآية هو توحيد الربوبية ومشركو العرب والأمم لم يجحدوه بل أقروا به لله فصار حجة عليهم فيما جحدوه من توحيد الالهية ولهذا قال بعد هذه الآية {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ

ص: 213

دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا بل القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا التوحيد مطابقة وتضمنا والتزاما وهو الدين الذي بعث به المرسلين من أولهم إلى آخرهم كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ} فدلت هذه الآية وما قبلها على أن الله تعالى إنما أدار من عباده أن يخلصوا له العبادة وهي أعمالهم ونهاهم أن يجعلوا له شريكا في عباداتهم وإرادتهم التي لا يستحقها غيره كما تقدم قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} وقال تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ} وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا ِلأَبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} والمراد تطهيره عن الشرك في العبادة ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلَاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} وقد بين الله تعالى في مواضع من القرآن معنى كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" ولم يكل عباده في بيان معناها إلى أحد سواه وهو صراطه المستقيم كما قال "وأن اعبدوني هذا صراط المستقيم" وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ِلأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ*إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ*وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فعبر عن لا إله بقوله: "إنني براء مما تعبدون" وعبر عن معنى إلا الله بقوله: إلا الذي فطرني فتبين أن معني لا إله إلا الله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى كما تقدم وهذا واضح بين لمن جعل الله له بصيرة ولم تتغير فطرته فلا يخفى إلا على من عميت بصيرته بالعوائد الشركية وتقليد من خرج عن الصراط المستقيم من أهل الأهواء والبدع والضلال ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. وقال تعالى: في بيان معناها {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى

ص: 214

كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه} ِ والمعنى أي بعض كان من نبي أو غيره كالمسيح ابن مريم ولعزير ونحوهما وفي قوله: {أَلَاّ نَعْبُدَ} معنى "لا إله" وقوله: إلا الله هو المستثنى في كلمة الإخلاص وهذا التوحيد هو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم من الإنس والجن كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} وقد قال تعالى: في معنى هذه الكلمة عن أصحاب الكهف {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَاّ اللَّهَ} ففي قولهم: وإذ اعتزلتموهم معنى لا إله وقولهم: إلا الله المستثني في كلمة الإخلاص وقال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} إلى قوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} فتقرر بهذه أن الإلهية هي العبادة وأن من صرف منها شيئا من لغير الله قد جعله لله ندا والقرآن كله في تقرير معنى لا إله إلا الله وما تقتضيه وما تستلزمه وذكر ثواب أهل التوحيد وعقاب أهل الشرك ومع هذا البيان الذي ليس فوقه بيان كثر الغلط في المتأخرين من هذه الأمة في معنى هذه الكلمة وسببه تقليد المتكلمين الخائضين فظن بعضهم إن معنى لا إله إلا الله إثبات وجود الله تعالى ولهذا قدروا الخبر المحذوف في لا إله إلا الله إله موجود إلا الله ووجوده تعالى قد أقربه المشركون الجاحدون لمعنى هذه الكلمة وطائفة ظنوا أن معناها قدرته على الاختراع وهذا معلوم بالفطرة وما يشاهد من عظيم مخلوقات الله كخلق السموات والأرضى وما فيها من عجائب المخلوقات وبه إستدل الكليم موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون لما قال: "وما رب العالمين قال رب السموات والأضى وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب الأولين" وفي سورة بني إسرائيل "لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرضى بصائر" ففرعون يعرف الله ولكن جحده مكابرة وعنادا وأما غير فرعون من أعداء الرسل من قومهم ومشركي العرب ونحوهم فاقروا بوجود الله تعالى وربوبيته كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فلم يدخلهم ذلك في

ص: 215

الإسلام لما جحدوا ما دلت عليه لا إله إلا الله من إخلاص العبادة بجميع أفرادها وحده وفي الصحيح "من مات وهو يدعو الله ندا دخل النار" وتقدم فيما تقدم من قول قوم هود " أجئتنا لنعبد الله وحده " دليل على أنهم أقروا بوجوده وربوبيته وأنهم يعبدونه لكنهم أبوا إن يجردوا العبادة وحده دون آلهتهم التي كانوا يعبدونها معه فالخصومة بين الرسل وأممهم ليست في وجود الرب وقدرته على الاختراع فإن الفطر والعقول دلتهم على وجود الرب وأنه رب كل شيء ومليكه وخالق كل شيء والمتصرف في كل شيء وإنما كانت الخصوصة في ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ*إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ*وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}

فالشرك في العبادة هو الذي عمت به البلوى في الناس قديما وحديثا كما قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تأخذ مأخذ القرون وقبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع ولهذا أنكر كثير من أعداء الرسل في هذه الأزمنة وقبلها على من دعاهم إلى إخلاص العبادة الله وحده وجحدوا ما جحدته الأمم المكذبة من التوحيد واقتدوا بمن سلف من أعداء الرسل في مسبتهم من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله ونسبته إلى الخطأ والضلال كما رأينا ذلك في كلام كثير منهم كابن كمال المشهور بالشرك والضلال وقد كمل في جهله وضلاله وأتى في كلامه بأمحل المحال وقد إشتهر عنه بأخبار الثقات أنه يقول: عبد القادر في قبره يسمع ومع سمعه ينفع وما يشعره أنه في قبره الآن رفات كحال الأموات وهذا قول شنيع وشرك فظيع ألا ترى إن الحي الذي قد كملت قوته وصحت حاسة

ص: 216

سمعه وبصره لو ينادى من مسافة فرسخ أو فرسخين لم يمكنه سماع ناداه من ناداه فكيف يسمع ميت من مسافة شهر أو دون ذلك أو أكثر وقد ذهبت قوته وفارقته روحه وبطلت حواسه هذا من أعظم ما تحيله العقول وتنكره الفطر وفي كتاب الله عز وجل ما يبطله قال الله تعالى: {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ*إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فاخبر الخبير جل وعلا أن سماعهم ممتنع واستجابتهم لمن دعاهم ممتنعة فهؤلاء المشركون لما استغرقوا في الشرك ونشأوا عليه أتوا في أقولهم: بالمستحيل ولم يصدقوا الخبير في أخباره وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ*أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فذكر تعالى أنهم أموات دليل على بطلان دعوتهم وكذلك عدم شعورهم يبين تعالى بهذا جهل المشرك وضلاله فأحق عز وجل في كتابه الحق وأبطل الباطل ولو كره المشركون لكن هؤلاء لما عظم شركهم نزلوا الأموات في علم الغيب منزلة علام الغيوب الذي يعلم خائنة إلا عين وما تخفي الصدور وشبهوهم برب العالمين سبحانه وتعالى عما يشركون قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ*وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} وليس عند هؤلاء الملاحدة ما يصدون به العامة عن أدلة الكتاب والسنة التي فيها النهي عن الشرك في العبادة إلا قولهم: قال أحمد بن حجر الهيشمي: قال: فلان وقال فلان: يجوز التوسل بالصالحين ونحو ذلك من العبارات الفاسدة.

فنقول: هذا أمثاله ليس بحجة تنفع عند الله وتخلصهم من عذابه بلى الحجة ما في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه وما أجمع عليه سلف الأمة أئمتها وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: أو كلما جاءنا أجدل من رجل نترك ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله. إذا عرف ذلك فالتوسل يطلق على شيئين فإن كان ابن حجر وأمثاله أرادوا سؤال الله بالرجل الصالح في غيابه أو بعد وفاته فهذا ليس في الشريعة ما يدل على جوازه ولو جاز لما ترك

ص: 217

الصحابة رضي الله عنهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته إذا قحطوا وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج بالعباس ابن عبد المطلب عام الرمادة بمحضر من السابقين الأولين يستسقون فقال: عمر اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ثم قال إرفع يديك يا عباس فرفع يديه يسأل الله تعالى ولم يسأله بحاه النبي صلى الله عليه وسلم ولا بغيره ولو كان هذا التوسل حقا كانوا إليه أسبق وعليه أحرص فإن كانوا أرادوا بالتوسل دعاء الميت والاستشفاع به فهذا هو شرك المشركين بعينه والأدلة على بطلانه في القرآن كثيرة جدا فمن ذلك قوله تعالى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ*قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فالذي له ملك السموات والأرض هو الذي يأذن في الشفاعة كما قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وهو لا يرضى إلا الإخلاص بالأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره وأنكر تعالى على المشركين اتخاذ الشفعاء فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فبين تعالى في هذه الآية أن هذا هو شرك المشركين وأن الشفاعة ممتنعة في حقهم لما سألوها من غير وجهها وإن هذا شرك نزه نفسه عنه بقوله تعالى {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فهل فوق هذا البيان بيان وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فكفرهم بطلبهم من غيره أن يقربوهم إليه وقد تقدم بعض الأدلة على النهي عن دعوة غير الله والتغليظ في ذلك وأنه في غاية الضلال وأنه شرك بالله وكفر به كما قال {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} فمن أراد النجاة

ص: 218

فعليه بالتمسك بالوحين الذين هما حبل الله وليدع عنه بنيات الطريق كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم الصراط المستقيم وخط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال: "هذه هي السبل وعلى كل سبيل شيطان يدعوا إليه" والحديث في الصحيح وغيره عن عبد الله ابن مسعود وكل من زاغ عن الهدى وعارض أدلة الكتاب والسنة بزخرف أهل الأهواء فهو الشيطان.

فصل

والعاقل إذا تأمل ما عارض به أولئك الدعاة إلى الشرك بالله في عبادته كابن كمال وغيره دعاء الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له فالعاقل يعلم أن معارضتهم له قد اشتملت على أمور كثيرة منها.

"الأمر الأول" أنهم أنكروا ما جاءت به الرسل من توحيد العبادة وما نزلت فيه الكتب الإلهية من هذا التوحيد فهم في الحقيقة إنما عابوا الرسل والكتب المنزلة عليهم من عند الله.

"الأمر الثاني" تضمنت معارضتهم قبول الشرك الأكبر ونصرته وهو الذي أرسل الله رسله وأنزل كتبه بالنهي عنه وقد خالفوا جميع الرسل والكتب فهم في الحقيقة قد أنكروا على من دان بهذا التوحيد ودعا إليه من الأولين والآخرين.

"الأمر الثالث" وقد تضمنت معارضتهم أيضا مسبة من دعا إلى التوحيد وأنكر الشرك أسوة بأعداء الرسل كقوم نوح إذ قالوا {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وقال قوم هود {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ} وقول من قال من مشركي العرب للنبي محمد صلى الله عليه وسلم {إِنْ هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} فالظلم والزور في كلام هؤلاء المنكرين للتوحيد أمر ظاهر يعرفه كل عاقل منصف فقد تناولت مسبتهم كل من دعا إلى الإسلام وعمل به من الأولين والآخرين كما أن من كذب رسولا فيما جاء به من الحق فقد كذب

ص: 219

المرسلين كما ذكره الله تعالى في قصص الأنبياء فمن أنكر ما جاءت به الرسل فهو عدو لهم.

"الأمر الرابع" وتضمنت معارضتهم أيضا الكذب والإفك والبهتان وزخرف القول في ذلك أسوة أعداء الرسل الذين قال الله فيهم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} فهذه حال كل داعية إلى الشرك بالله في عبادته من الأولين والآخرين فإذا تأمل اللبيب ما زخرفوه وأتوا به من الفشر والأكاذيب وجدها كما قال تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}

"الأمر الخامس" معارضة أولئك للآيات المحكمات البينات التي هي في غاية البيان والبرهان وبيان ما ينافي التوحيد من الشرك والتنديد عارضوا بقول أناس من المتأخرين لا يجوز الاعتماد عليهم في أصول الدين فيقولون قال ابن حجر الهيثمي: قال البيضاوي: قال فلان: ولا ريب أن الزمخشري وأمثاله من المعطلة أعلم من هؤلاء وأدري في فنون العلم لكنهم أخطؤا كخطأ هؤلاء وفي تفسير الزمخشري من دسائس الاعتزال ما لا يخفى وليسوا بأعلم منه وعلى كل حال فليسوا بحجة يعارض بها نصوص الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة وأئمتها من الدين الحنيف الذي هو ملة إبراهيم الخليل عليه السلام ودين الرسل الذي قال الله تعالى: فيه {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} فأولئك المعارضون للحق بمن ذكرنا وأمثالهم فيهم شبه بمن قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ*قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} وهذا على تقدير أنهم أصابوا في النقل عنهم ولعلهم أخطئوا وكذبوا عليهم والله أعلم.

والأدلة بالإجماع ثلاثة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.

ص: 220

وأما القياس الصحيح فعند بعض العلماء حجة إذا لم يخالف كتابا ولا سنة فإن خالف نصا أو ظاهرا لم يكن حجة وهذا هو الذي أجمع عليه العلماء سلفا وخلفا وتفصيل ذلك في كتب أصول الفقه وأما قوله: صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "وكفر بما يعبد من دون الله" فهذا شرط عظيم لا يصح قول لا إله إلا الله معصوم الدم والمال لأن هذا هو معنى لا إله إلا الله فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دل عليه من ترك الشرك والبراءة منه وممن فعله فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله وتبرأ منه وعادى من فعل ذلك صار مسلما معصوم الدم والمال وهذا معنى قول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقد قيدت لا إله إلا الله في الأحاديث الصحيحة بقيود ثقال لا بد من الإتيان بجميعها قولا واعتقادا وعملا فمن ذلك حديث عتبان الذي في الصحيح "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" وفي أحاديث أخر "صدقا من قلبه مستيقنا بها قلبه –غير شاك" فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود إذا اجتمعت له مع العلم بمعناها ومضمونها كما قال تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقال تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} فمعناها يقبل الزيادة لقوة العلم وصلاح العمل فلا بد من العلم بحقيقة معنى هذه الكلمة علما ينافي الجهل بخلاف من يقوله: اوهو لا يعرف معناها ولا بد من اليقين المنافي للشك فيما دلت عليه من التوحيد ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك فإن كثيرا من الناس يقوله: اوهو يشرك في العبادة وينكر معناها ويعادي من اعتقده وعمل به ولا بد من الصدق المنافي للكذب بخلاف حال المنافق الذي يقوله: امن ير صدق كما قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ولا بد من القبول المنافي للرد بخلاف من يقوله: اولا يعمل بها ولا بد من المحبة لما دلت عليه من التوحيد والإخلاص وغير ذلك والفرح بذلك المنافي لخلاف هذين الأمرين ولا بد من الانقياد بالعمل بها وما دلت عليه مطابقة وتضمنا والتزاما وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا سواه وأنت

ص: 221

أيها الرجل ترى كثيرا ممن يدعي العلم والفهم قد عكس مدلول لا إله إلا الله كابن كمال ونحوه من الطواغيت فيثبتون ما نفته لا إله إلا الله من الشرك في العبادة ويعتقدون ذلك الشرك دينا وينكر ما دلت عليه من الإخلاص ويشتم أهله وقد قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}

وهذا النوع من الناس الذين قد فتنوا وافتتنوا يستجهلون أهل الإسلام ويستهزؤون بهم أسوة من سلف من أعداء الرسل وقد قال الله تعالى: في أمثال هؤلاء {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}

وأما ما سألن عنه من حديث "خذ من القرآن ما شئت لما شئت" فهذا ليس بحديث ولا يصح أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأما حديث ويش الذي يغبأ يا رسول الله قال: الذي ما كان فلا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا كيف وقد قال تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} فسماها غائبة مع وجودها في السماء والأرضى.

"وأما في المسئلة الربعة" فيمن يعرف التوحيد ويعتقده ويقرأ في التفسير كتفسير البغوي ونحوه فلا بأس أن يحدث بما سمعه وحفظه من العلم ولو لم يقرأ في النحو.

فمن المعلوم أن كثيرا من العلماء من المحدثين والفقهاء إنما كان دأبهم طلب ما هو الأهم والنحو إنما يراد لغيره فيأخذ الرجل منه ما يصلح لسانه فانشر ما علمت من العلم خصوصا علم التوحيد الذي هو الآيات المحكات كالشمس في نحر الظهيرة لمن رغب فيه وأحبه وأقبل عليه وقد عرفت أن كتمان العلم مذموم بالكتاب والسنة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ

ص: 222

الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَاّعِنُونَ}

وقد ارشد الله تعالى عباده إلى تدبر كتابه وذم من لم يتدبره وقد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وأخبر عن جن نصيبين أنهم لما سمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن بوادي نخلة منصرف من الطائف ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا ادعى الله وآمنوا به " الآية وأخبر تعالى عنهم في سورة الجن أنهم أنكروا الشرك الذي كان يفعله الإنس مع الجن من الاستعاذة بهم إذا نزلوا واديا وأخبر تعالى عن هدهد سليمان أنه أنكر الشرك وهو طائر من جملة الطير قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ*إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ*وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ*أَلَاّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية فحديث الهدهد سليمان عليه السلام بما ورآهم يفعلونه من السجود ليغر الله والسجود نوع من أنواع العبادة فليت أكثر الناس عرفوا من الشرك ما عرفوا الهدهد فأنكروا وعرفوا الإخلاص فالتزموه بالله التوفيق فسبحانه من غرس التوحيد في قلب من شاء من خلقه وأضل من شاء عنه بعلمه وحكمته وعدله.

وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو فرض باليد واللسان والقلب مع القدرة فأما فرضه باليد واللسان فإنه من فروض الكفايات إذا قام به طائفة سقط عن الباقين وإن تركوه كلهم أثموا وأما القلب فلا يسقط عنه بحال قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} وقال في حق من تركته: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} وفي الحديث الصحيح "من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك

ص: 223

أضعف الإيمان" وفي رواية وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.

وأما ما ذكرت بعد ذلك من الأسئلة في مخالطة المشركين وأهل البدع فإن كان لك قدرة على الهجرة عنهم وجبت عليك لما فيها من حفظ الدين ومفارقة المشركين والبعد عنهم وأما من كان من المستضعفين الذين لا قدرة لهم على الهجرة عنهم وجبت عليك لما فيها من حفظ الدين ومفارقة المشركين والبعد عنهم وأما من كان من المستضعفين الذين لا قدرة لهم على الهجرة فعليه أن يعتزلهم ما استطاع ويظهر دينه ويصبر على أذاهم فقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} الآية والله المستعان.

وأما السؤال عن قوله تعالى {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} فالآية نزلت في شأن عمار بن ياسر لما عذبه مشركوا مكة وحبسوه في بئر ميمون وأكرهوه على كلمة كفر فقالها تخلصا من عذابهم فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "فإن عادوا فعد" وهذا قبل وجوب الهجرة فأنزل الله هذه الآية.

وأما حديث "أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين لا تراءى ناراهما" فهذا في حق من له القدرة على البعد عنهم وأما من لا يمكنه البعد عنهم بحيث لا يقدر على ذلك بوجه من الوجوه فلا.

وأما حديث "من أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع فاؤلئك هم الهالكون" فقد تقدم بيان ذلك في معنى حديث "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" فالانكار يجب مع الاستطاعة والكراهة هي أضعف الإيمان وأما الرضا بالمنكر والمتابعة عليه فهو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح.

والله أعلم ونسأل الله تعالى الثبات على الإيمان وأن لا يزيغ قلوبنا عنه بعد إذ هدانا إليه وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين آمين1

1 مجموعة الرسائل والمسائل 2/15.

ص: 224