الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس والسبعون: اليهودية بين العرب
مدخل
…
الفصل السادس والسبعون اليهودية بين العرب
والحديث عن اليهودية بين العرب، وعن وجود يهود في أنحاء من جزيرتهم، لا يمكن أن يكون حديثا تأريخيا مبنيا على العلم إذا ارتفعنا به إلى الميلاد وإلى ما قبل الميلاد. ولا يعني كلامي هذا عدم وصول يهود إلى جزيرة العرب، وعدم إقامتهم في أماكن منها. فهذا كلام لا يمكن أن يقال، ولا يمكن قبوله. إنما أريد أن أقول أننا لا نملك نصوصا تأريخية تخولنا أن نتحدث عن اليهود في جزيرة العرب قبل الميلاد حديثا علميا، بأن نعين المواضع التي نزلوا فيها، والأماكن التي وصولا إليها، وما فعلوه هناك، وفي أي عهد كان ذلك، ومن قادهم إلى تلك الأنحاء، ومن استقبلهم استقبالا حسنا، أو استقبلهم استقبالا سيئًا من الجاهليين؟
وقد عرف اليهود عند الجاهليين، وورد ذكرهم في الشعر الجاهلي. ولا بد من وقوف الجاهليين على أحوالهم، لأنهم كانوا كما سنرى يسكنون في مواضع عديدة معروفة تقع ما بين فلسطين ويثرب، كما سكنوا في اليمن وفي اليمامة وي العروض. وكان تجار منهم يقيمون في مكة وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب للاتجار وإقراض المال بربا فاحش للمحتاجين إليه.
ومعارفنا عن يهود جزيرة العرب مستمدة من الموارد الإسلامية. والسبب في ورود خبرهم في هذه الموارد، هو اصطدامهم بالإسلام، ومقاومتهم له حينما دعاهم الرسول إلى الدخول فيه، فنزل فيهم الوحي، وأشير إليهم في الحديث،
وذكروا في كتب التفسير والسير والتواريخ والأدب. ومن هنا تجمعت معارفنا عن يهود الجاهلية. ولهذا تجد الحديث عن يهود الجاهلية لا يرتقي كثيرًا عن عصر النبوة، ولا يبتعد عنه ولكني لا أستبعد احتمال تغير الحال، إذا ما عثر المنقبون في المستقبل على كتابات جاهلية قد تكون مطمورة في الوقت الحاضر في باطن التربة، يكون لها صلة بيهود جزيرة العرب، أو إذا ما عثر على مؤلفات ووثائق مكتوبة عبرانية أو غير عبرانية قد تكون مجهولة عن ذوي العلم في الوقت الحاضر، تكون لها صلة وعلاقة بأمر يهود جزيرة العرب قبل الإسلام.
وقد وردت لفظة "يهود" معرفة في القرآن الكريم. أي على هذا الشكل: "اليهود". وردت في مواضع من سورة البقرة1. ومن سورة المائدة2 ومن سورة التوبة3. وكلها سورة مدنية. ولم ترد في سورة من السور المكية. كما وردت لفظة "يهوديا" في سورة آل عمران، وردت في شرح ديانة "إبراهي":{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} 4. وهي من السور المدنية كذلك.
وعبر القرآن الكريم عن اليهود وعن معتنقي اليهودية بـ {الذين هادوا} 5، وبـ {من كان هودا} 6 و {كونوا هودا} 7 و {كانوا هودا} 8. وسورتي الأنعام والنحل من السور المكية. وبناء على ذلك تكون جملة "الذين هادوا" قد نزلت قبل نزول لفظة "اليهود" في القرآن الكريم.
وقد عبر عن العبرانيين عامة ب"بني إسرائيل" في القرآن الكريم. عبر عنهم في سورة مكية وفي سورة مدنية. ويلاحظ أن ورود هذا التعبير في القرآن الكريم، هو أكثر بكثير من ورود لفظة "اليهود" فيه.
1 البقرة: الآية 113، 120.
2 المائدة، الآية 18، 51، 64،82.
3 التوبة، الآية30.
4 آل عمران، الآية 67ز
5 البقرة، الآية 62،النساء، الآية 46، 160،المائدة الآية 41، 44، 69
الأنعام الآية 146، النحل، الآية 188، الحج، الآية 17، الجمعة، الآية 9.
6 البقرة، الآية 111.
7 البقرة، الآية 135.
8 البقرة، الآية 140.
ولما كانت فلسطين امتدادا طبيعيا للحجاز، كان من الطبيعي اتصال سكانها بالحجاز، واتصال سكان الحجاز بفلسطين، وذهاب جاليات يهودية إلى العربية الغربية، للاتجار وللإقامة هناك، خاصة بعد فتوح الدول الكبرى لفلسطين واستيلائها عليها، وهجرة اليهود إلى الخارج. فكانت العربية الغربية لاتصالها بفلسطين من الأماكن الملائمة المناسبة لهجرة اليهود إليها، وإقامتهم فيها، ولا سيما عند مواضع المياه وفي الأرضين الخصبة الغامرة، غير إننا لا نستطيع، كما قلت، التحدث عن هجرة اليهد هذه إلى هذه الأنحاء حديثا علميا معززا بالكتابات وبالتواريخ.
ولم يترك يهود جزيرة العرب لهم أثرًا مكتوبا يتحدث عن ماضيهم فيها. وكل ما عثر عليه منهم، نصوص معدودة، وجدت في اليمن، لا تفصح بشيء ذي بال عن اليهود واليهودية. كذلك لم يصل إلينا أن أحدا من المؤلفين والكتبة العبرانيين ذكر شيئًا عن يهود الجاهلية. وليس لنا من تأريخ اليهود في جزيرة العرب إلا ما جاء في القرآن الكريم وفي الحديث وكتب التفسير والأخبار والسير. فمادتنا عن تأريخ اليهودية في العربية، لا ترتقي إلى عهد بعيد عن الإسلام.
لقد ذهب بعض المؤرخين المحدثين إلى أن اليهود كانوا في جملة من كان في جيش "نبونيد" يوم جاء إلى تيماء. فأقاموا بها وبمواضع أخرى من الحجاز بلغت "يثر". وأن هؤلاء اليهود أقاموا منذ ذلك الحين في تلك الأماكن واستوطنوا وادي القرى وأماكن أخرى إلى مجئ الإسلام. غير أن "نبونيد" لم يشر في أخباره المدونة إلى وجود اليهود في جيشه وإلى إسكانه لهم في هذه الأرضين كما أننا لم نعثر على كتابات تتحدث عن هذا العهد أو عن العند الذي سبقه أو الذي جاء من بعده، لذلك فإننا لا نستطيع أن نعزز هذا الكلام بنصوص وكتابات. وإن كنا لا نريد نفي احتمال مجئ اليهود إلى هذه الديار في عهد "نبونيد"، أو في عهد "بخت نصر"، أو قبل العهدين.
نعم، لقد عثر على عدد من الكتابات النبطية في الحجر وفي مواضع أخرى من أرض النبط وردت فيها أسماء عبرانية تشير إلى أن أصحابها من يهود، ويعود بعضها إلى القرن الأول للميلاد، ويعود بعض آخر إلى ما بعد ذلك مثل الكتابة التي يعود عهدها إلى سنة 307 ميلادية، وصاحبها رجل اسمه "يحيى بر شمعون" أي "يحيى بن شمعون"1. غير أن هذه الكتابات شخصية، ولا تفصح بشيء
1 Islamic culture، vol، III، No. 2، April 1929، Judaeo-Arabic Relations in Pre-Islames Times، By Josef Horovity، P. 170.
ذي بال عن عقيدة أصحابهان ولا عن تأريخهم في هذين الأرضين.
وقد ذهب اليهود إلى العربية الشرقية، ذهبوا إليها من العراق، فسكنوا في مواضع من سواحل الخليج، وتاجروا مع أهل هذه البلاد ومع باطن الجزيرة. وقد ساعدتهم بعض الحكومات على الذهاب إليها. وقد كانت ليهود العراق تجارات مع أهل الخليج، كما يفهم ذلك من مواضع من التلمود.
ويتبين من روايات المؤرخ اليهودي "يوسفوس فلافيوس Iosephos Fiavius أن اليهودية كانت قد وجدت لها سبيلا بين العرب. وأن بعض ملوك مملكة "حدياب" Adiabene كانوا قد دخلوا فيها1. ويذكر المؤرخ "سوزومين" Souzomenos أن اليهود كانوا ينظرون إلى العرب الساكنين شرق الحد العربي Iimes Arabicus على أنهم من نسل إسماعيل، وأنهم كانوا يرون أنهم من نسل إسماعيل وإبراهيم، فهم من ذوي رحمهم، ولهم بهم صلة قربى. وكانوا يرجون لذلك دخلوهم في دينهم، واعتناقهم دين إبراهيم جد اليهود والعرب. وقد عملوا على تهويد أولئك العرب2.
ويظهر من مواضع من التلمود أن نفرا من العرب دخلوا في اليهودية، وأنهم جاءوا إلى الأحبار، فتهودوا أمامهم3. وفي هذه المرويات "التلمودية"، تأييد لروايات أهل الأخبار التي تذكر أن اليهودية كانت في حمير، وبني كنانة، وبني الحارث بن كعب، وكندة4، وغسان. وذكر "اليعقوبي" أن ممن تهود من العرب "اليمن بأسرها. كان تبع حمل حبرين من أحبار يهود إلى اليمن. فأبطل الأوثان، وتهود من باليمن، وتهود قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم من جذام"6.
وقد ذكر علماء التفسير في تفسيرهم الآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ
1 Die Araber، II، S. 65. ff.
2 Sozomenos، 6 38 10-13، 299، 17، Die Araber، II، S. 74.
3 Y bamot، 16، Abooda Zara 27a، Die Araber، II، S 74.
4 المعارف "621"، الأعلاق النفيسة "217".
5 البدء والتأريخ "4/ 31".
6 اليعقوبي "1/ 226 وما بعدها".
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1، أنها نزلت في الأنصار. كانت المرأة المقلات في الجاهلة تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده فتهود قوم منهم. فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام. أو أنهم لما بقوا على يهوديتهم، وأمر اليهود بالجلاء، وفيهم منهم، شق على آبائهم ترك أبنائهم يذهبون مع اليهود، فقالوا: "يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم.. فسكت عنهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}
…
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد خير أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم"2. وذكر العلماء أيضا أن ناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني قريظة وغيرهم من يهود، فتهودوا، وأن من الأنصار من رأي في الجاهلية أن اليهودية أفضل الأديان، فهودوا أولادهم، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، أرادوا إكراه أبنائهم الذين تهودوا على الدخول فيه، فنزل الوحي بالآية المذكورة3. فقد كان إذن بين يهود جزيرة العرب، عرب دخلوا في دين يهود.
وذكر أهل الأخبار أن "جبل بن جوال بن صفوان" الثعلبي، من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، كان يهوديا فأسلم، فهو عربي، يظهر أنه أو أهله قبله قد تهودوا، فكان على دين يهود، وعاش مع "بني قريظة"، حتى اعتنق الإسلام4. وذكروا أسماء آخرين كانوا من متهودة الجاهليين.
ويرى بعض المؤرخين اليهود أن يهود جزيرة العرب كانوا في معزل عن بقية أبناء دينهم وانفصال، وأن اليهود الآخرين لم يكونوا يرون أن يهود العربية مثلهم في العقيدة، بل رأوا أنهم لم يكونوا يهودًا، لأنهم لم يحافظوا على الشرائع الموسوية ولم يخضعوا لأحكام التلمود5. ولهذا لم يرد عن يهود جزيرة العرب شيء في أخبار المؤلفين العبرانيين.
وعندي أن عدم ورود شيء عن يهود الحجاز في أخبار المؤلفين العبرانيين
1 البقرة، رقم 2، آية 256.
2 تفسير الطبري "3/ 10 وما بعدها.
3 تفسير الطبري "3/ 10 وما بعدها"، تفسير القرطبي "3/ 280، وما بعدها".
4 الإصابة "1/ 223 وما بعدها""رقم 1071".
5 إسرائيل ولفنسون: تأريخ اليهود في بلاد العرب "ص13"، "القاهرة 1927".
لا يمكن أن يكون دليلا على عزلة يهود الحجاز عن بقية اليهود. فقد أهمل غيرهم أيضًا ولم يشر إليهم، لأن التأليف الفكري عند العبرانيين كانا قد تركزا في هذه العهود على المستوطنات اليهودية في العراق وعلى فلسطين، وعلى "طبريا" بصورة خاصة، ولم تشتهر الجاليات اليهودية التي انتشرت في مواضع أخرى بالتأليف، فكان من الطبيعي أن تنحصر أخبار اليهود في هذا العهد في هذين القطرين. ولهذا لم يشر إلى يهود الحجاز وإلى يهود بقية جزيرة العرب. ثم إن الحجاز على اتصال بفلسطين، وفلسطين جزء من الحجاز متمم له جغرافيا، وهو متصل بفلسطين منذ القدم، وفلسطين منفذه التجاري، وميناء "غزة" من المواضع التي كان يقصدها تجار الحجاز للاتجار، والحركة مستمرة دوما بين فلسطين والحجاز، وقد كان تجار اليهود من أهل الحجاز يتاجرون مع بلاد الشام وفي وجملتها أرض فلسطين، وإلا يكون بين اليهودين اتصال. أما من ناحية الآراء الدينية والاعتقادية، فقد يكون بين اليهودين بعض الاختلاف، فقد وقع اختلاف في الآراء بين أحبار يهود العراق وبين أحبار يهود فلسطين، فلا يستبعد إذن رأي من يقول بوجود اختلاف في وجهة نظر يهود فلسطين بالنسبة ليهود الحجاز، إذ قد يكون بوجود اختلاف في وجهة نظر يهود فلسطين بالنسبة ليهود الحجاز، إذ قد يكون بوجود اختلاف في وجهة جزيرة العرب قد تأثروا بالعرب الذين نزلوا بينهم فاضطروا إلى التخفيف من التمسك بشعائر دينهم، لا سيما وأن من بين يهود جزيرة العرب يهود متهودون، كانوا في الأصل من أدوم ومن النبط ومن العرب، دخلوا في اليهودية لعوامل متعددة، فلم يكونوا لذلك على سنة اليهود الأصيلين في المحافظة على شريعتهم محافظة شديدة تامة.
وقد انتشر اليهود جماعات استقرت في مواضع المياه والعيون من وادي القرى وتيماء وخيبر إلى يثرب، فبنوا فيها الآطام لحماية أنفسهم وأرضهم وزرعهم من اعتداء الأعراب عليهم. وقد أمنوا على أنفسهم بالاتفاق مع رؤساء القبائل الساكنة في جوارهم على دفع إتاوة لهم، وعلى تقديم الهدايا إليهم لاسترضائهم. وكان من شأنهم أيضًا التفريق بين الرؤساء وإثارة الشحناء بين القبائل حتى لا تصفوا الأحوال فيما بينها وتلتئهم ولئلا يكون اتفاقها والتئامها خطرًا يتهدد اليهود.
وليس الذي يرويه أهل الأخبار عن إرسال موسى جيشًا إلى الحجار، واستقرار ذلك الجيش في يثرب بعد فتكه بالعماليق وبعد وفاة موسى، ثم ما يذكرونه عن
هجرة داود مع سبط يهوذا إلى خيبر وتملكه هناك ثم عودته إلى إسرائيل1 وأمثال هذا إلا قصصًا من النوع الذي ألفنا قراءته في كتب أهل الأخبار، لا أستبعد أن يكون مصدره يهود تلك المنطقة أو من أسلم منهم، لإثبات أنهم ذوو نسب وحسب في هذه الأرضين قديم، وأنهم كانوا ذوي بأس شديد، وأن تاريخهم في هذه البقعة يمتد إلى أيام الأنبياء وابتداء إسرائيل، وأنهم لذلك الصفوة المختارة من العبرانيين.
وقد زعم أهل الأخبار، أن العمالقة كانوا أصحاب عز وبغي شديد، وكانوا ينزلون الحجاز في جملة ما نزلوا من أماكن في أيام موسى، وكان منهم: بنو هف وبنو سعد وبنو الأزرق وبنو مطروق. وملكهم إذ ذاك رجل منهم اسمه "الأرقم"، ينزل ما بين تيماء وفدك. وكان سكان يثرب من العمالقة وكذلك سكان بقية القرى. فلما تغلب عليه العبرانيون انتزعوا منهم مساكنهم، وأقاموا في مواطنهم في الحجاز2.
وقد أخذ أهل الأخبار ما رووه عن دخول اليهود إلى يثرب في أيام موسى، وما ذكروه عن إرساله جيشًا إلى هذه المنطقة، ثم ما رووه عن سكنهم القديم في أطراف المدينة وفي أعالي الحجاز، من سفر "صموئيل الأول" من التوراة3. وقد حسب أهل الأخبار العمالقة من سكان يثرب القدماء، ومن سكان أعالي الحجاز، فزعموا أن تلك الحروب قد وقعت في هذه المنطقة، وأن اليهود قد سنوها لذلك منذ أيام موسى. وقد أخذ الإخباريون رواياتهم هذه من اليهود، وممن دخل منهم في الإسلام4.
ويرى بعض الإخباريين أن ابتداء أمر اليهود في الحجاز ونزولهم وادي القرى وخيبر وتيماء ويثرب إنما كان في أيام "بخت نصر"، فلما جاء "بخت نصر"
1 الأغاني "19/ 94 وما بعدها"، "أخبار أوس ونسب اليهود بيثرب وأخبارهم"، ابن خلدون "2/ 88"، "2/ 594"، "دار الكتاب اللبناني، بيروت 1956"، أبو الفداء "1/ 123"، ابن الأثير، الكامل "1/ 401 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 594""بيروت 1956"، ابن هشام "2/ 17".
2 الأغاني "19/ 94"، ابن هشام "2/ 17".
3 صموئيل الأول: الاصحاح الخامش عشر، الآية 5 وما بعد.
4 NoIdeke BeItrage S 52
إلى فلسطين، هرب قسم منهم إلى هذه المواضع واستقروا بها إلى مجيء الإسلام1. وليس في هذا الخبر ما يحملنا على استعباده، فهروب اليهود إلى أعالي الحجاز ودخولهم الحجاز أمر سهل يسير، فالأرض واحدة وهي متصلة والطرق مفتوحة مطروقة، ولا يوجد أي مانع يمنع اليهود أو غير اليهود من دخول الحجاز. لا سيما وأن اليهود كانوا خائفين فارين بأنفسهم من الرعب، فهم يبحثون عن أقرب ملجأ إليهم يحميهم من فتلك ملك بابل بهم. وأقرب مكان مأمون إليهم هو الحجاز.
أما ما ورد في روايات أهل الأخبار عن هجرة بعض اليهود إلى أطراف يثرب وأعالي الحجاز على أثر ظهور الروم على بلاد الشام وفتكهم بالعبرانيين وتنكيلهم بهم مما اضطر ذلك بعضهم إلى الفرار إلى تلك الأنحاء الآمنة البعيدة عن مجالات الروم، فإنه يستند إلى أساس تاريخي صحيح2. فالذي نعرفه أن فتح الرومان لفلسطين أدى على هجرة عدد كبير من اليهود إلى الخارج، فلا يستبعد أن يكون أجداد يهود الحجاز من نسل أولئك المهاجرين.
وكان يقيم "بـ "مقنا" عند ظهور الإسلام قوم من اليهود اسمهم "بنو جنبة"، وقد كتب إليهم الرسول وإلى أهل "مقنا" يدعوهم إلى الإسلام، أو إلى دفع الجزية3. وكتب إلى قوم من يهود اسمهم "بنو غاديا"4، وإلى قوم آخرين اسمهم "بنو عريض"5.
ومن هؤلاء المهاجرين على رأي الإخباريين بنو قريظة وبنو النضير وبنو بهدل. ساروا إلى الجنوب في اتجاه يثرب، فلما بلغوا موضع الغابة، وجدوه وبيا، فكرهوا الإقامة فيه، وبعثوا رائدا أمروه أن يلتمس لهم منزلا طيبا، وأرضا عذبة، حتى إذا بلغ "العالية"، وهي بطحان ومهزور واديان من حرة على تلاع أرض عذبة. بها مياه وعيون غزيرة، رجع إليهم بأمرها، وأخبرهم بما
1 الأغاني "19/ 94"، ابن خلدون "2/ 594""دار الكتاب"، أبو الفداء "1/ 123".
"الكامل""1/ 401" Rdony Die IsraeIiten zu Mekka S 135
2 ابن خلدون "2/ 594""بيروت 1956".
3 ابن سعد "طبقات "1/ 276".
4 ابن سعد "طبقات""1/ 278".
5 ابن سعد طبقات "1/ 279".
رآه منها، فقر رأيهم على الإقامة فيها. فنزل بنو النضير ومن معهم على بطحان، ونزلت قريظة وبهدل ومن معهم على مهزور، فكانت لهم تلاعة وما سقى من بعاث سموات1.
وسكن اليهود يثرب. سكنها منهم بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو القصيص وبنو ماسلة، سكن هؤلاء المدينة وأطرافها، وكان يسكن معهم من غير بني إسرائيل بطون من العرب، منهم: بنو الحرمان حي من اليمن، وبنو مرثد حي من بلي، وبنو نيف وهم من بلي أيضًا، وبنو معاوية حي من بني سليم ثم من بني الحرث بن بهثة، وبنو الشظية حي من غسان. وظل اليهود أصحاب يثرب وسادتها، حتى جاء الأوس والخزرج، فنزلوها واستغلوا الخلافات التي كانت قد وقعت بين اليهود، فتغلبوا عليهم، وسيطروا على المدينة، وقسموها فيما بينهم، فلم يبق من يومئذ عليها سلطان2.
وتذكر روايات أهل الأخبار أن مجئ الأوس والخزرج إلى يثرب كان بعد حادث سيل العرم. جاءوا إليها لفقر حالهم، والتماسا لوطن صالح جديد، وأنهم حينما نزلوها لم يكن لهم حول ولا قوة. ولذلك قنعوا بالذي حصلوا عليه من أرض ضعيفة موات، ومن رزق شحيح. أما المال والثروة والملك والجاه، فلليهود. بقوا على ذلك أمدا حتى إذا ما ذهب مالك بن العجلان، وهو منهم، إلى أبي جبيلة الغساني رئيس غسان يومئذ، ونزل عند، شكا لأمير غسان سوء حال قومه وما هم عليه من بؤس وضنك. فوعده أبو جبيلة أن يأتي على رأس جيش من قومه لمساعدته، على أن يقوم بعد عودته ببناء حائر عظيم، يعلن أنه بناه لاستقبال الأمير فيه، وأن يطلب من اليهود الخروج لاستقباله والتشرف بزيارته في ذلك الحائر، فإن فعلوه، فتل بهم وأبادهم. فلما تم البناء، ووصل الأمير في الأجل الموقوت، ودخل المدعوون رؤساء اليهود الحائر، فتكت عساكر أبي جبيلة بهم أهلكتهم، وتمت الغلبة من يومئذ للأوس والخزرج، وعاد
1 الأغاني "19/ 94 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 594"، تأريخ أبو الفداء "1/ 123""مطبعة التقدم".
2 الأغاني "19/ 95"، الكامل، لابن الأثير "1/ 401".
أبو جبيلة إلى مقر مكله1.
غير أن اليهود ظلوا مع هذه الغلبة يتهاترون مع الأوس والخزرج ويعترضونهم ويتناوبونهم، فعمد مالك بن العجلان إلى الحيلة، فتظاهر أنه يريد الصلح معهم، وإنه عزم على تسوية العداوات وطمس الحزازات، وإنه لذلك يدعو رؤساءهم إلى طعام، ليتفاوضوا مع سادات قومه في أمر الصلح. فلما حضر رؤساء يهود، فتك بعشرات منهم ممن استجاب لدعوته، وفر أحدهم ليخبر قومه بما حدث، وحذر أصحابه الذين بقو، فلم يأت منهم أحد.
"فلما قتل مالك من يهود من قتل، ذلوا، وقل امتناهم، وخافوا خوفًا شديدًا، وجعلوا كلما هاجمهم أحد من الأوس والخزرج بشيء يكرهونه لم يمش بعضهم لبعض كما كانوا يفعلون قبل ذلك، ولكن يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم، فيقول: إنما نحن جيرانكم ومواليكم، فكان كل قوم من يهود لجئوا إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بهم" ومنذ ذلك الزمن لم يبق لليهود على هذه الأرضين سلطان2.
وورد في رواية أخرى أن "مالك بن عجلان"، كان من الخزرج، وكان سيد قومه يومئذ، وكان على اليهود رجل منهم اسمه "الفطيون" ملك عليهم، واستبد بأمر الناس، وكان يهوديا ومن بني ثعلبة، وكان أمر سوء فاجرا، قرر ألا تدخل امرأة على زوجها إلا بعد دخولها عليه. فاغتاظ مالك من فعل الفطيون ومن استذلاله للعرب، ولما كان زفاف أخته لزوجها، وكان لا بد من ادخالها على "الفطيون" أولا ليستمتع بها، كبر ذلك عليه، فدخل معها في زي امرأة، فلما أراد "الفطيون" الخلو بها، وثب مالك عليه وعلاه بسيفه وقتله، وخلص قومه منه، وفر عندئذ إلى أبي جبيلة ملك غسان3.
وتذكر هذه الرواية أن "جبيلة" لم يكن من غسان، بل كان من الخزرج، وكان عظيمًا ذا منزلة كبيرة في الناس، حتى صار ملكا على الغساسنة، ويرجح
1 الأغاني "19/ 97 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 596"، أبوالفداء "1/ 123"، الكامل "1/ 401".
2 الأغاني "19/ 95 وما بعدها"، ابن الأثير الكامل "1/ 401 وما بعدها".
3 ابن الأثير، الكامل "1/ 401"، وفي بعض الكتب "القطيون" بحرف القاف، وهو تحريف، المحبر "113" جمهرة أشعار العرب "243"، "القاهرة 1926م".
رواتها أنه لم يكن ملكا على آل غسان، بل كان مقربا عند ملكهم، عظيم الحظوة لديه. ودليلهم على ذلك عدم اعتراف الغساسنة بوجود ملك عليهم اسمه "عبيد بن سالم بن مالك بن سالم"، وهو اسم "أبو جبيلة" المذكور. ويذكرون أن "الرمق بن زيد الخزرجي" مدحه بشعر قاله فيه1.
وتذكر رواية أن الفطيون اسم عبراني، واسمه "عامر بن عامر بن ثعلبة بن حارثه"، وكان تملك بيثرب. فلما قتل خرج مالك بن العجلان، حتى قدم على "أبي جبيلة" ملك غسان، فأعلمه غلبة يهود على يثرب فعله بهم، فقدم "أبو جبيلة" ملك غسان، فأعلمه غلبة يهود على يثرب وفعله بهم، فقدم "أبو جبيلة" يثرب، ثم صنع طعاما، ومكن الأوس والخزرج ممن دعاهم إلى الطعام من قتل مائة من أشراف اليهود، فقويت الأوس والخزرج عليهم2.
وجاء في رواية أخرى، أن "مالك بن العجلان"، إنما فر إلى "تبع"، بعد قتله "الفطيون" فاستصرخه على اليهود، فجاء حتى قتل ثلثمائة وخمسين رجلا غيلة من سادات يهود بـ "ذى حرض"، ولما أدبهم رجع إلى أرضه اليمن3.
أما مالك بن العجلان، فقد صوره اليهود شيطانا ملعونا، وصوروه في بيعهم وكنائسهم ليلعنوه كما دخلوا ورأوه، وذكروه في شعرهم في أقبح هجاء قالوه4.
وقد كان بين يهو يثرب قو يقال لهم "بني الفطيون" بقوا حتى جاء الرسول إلى يثرب. فأجلاهم في السنة الثالثة من الهجرة5. وذكر "ابن دريد" أن بعضًا من "بني الفطيون" الذين هم من نسل "الفطيون" ملك يثرب، قد شهد "بدرا" واستشهد بعضهم بوم اليمامة. وذكر أن نسب "الفطيون" في غسان. أن من ولد الغطيون: "أبو المقشعر" واسمه "أسيد بن عبد الله"6.
1 ابن الأثير، الكامل "1/ 401 وما بعدها".
2 نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "136 وما بعدها".
3 البدء والتأريخ "3/ 179".
4 الأغاني "19/ 69"، الاشتقاق "ص270".
Graetz، Geschichte der Juden، V، S. 431، Hirschfeld، Essai de I'histoire des Juives de Medine، in Revue Etudes Juives، VII، 1883، p. 173، Caussin de Perceval، Essai، II، p. 652، Wellhausen، Skizze، IV، S. 33، Nallino، Reccolta، III، p. 111
5 المحبر "112".
6 الاشتقاق "2/ 249"، "وستنفلد".
وقد فسر أهل الأخبار كلمة "الفطيون" بـ"مالك"، وقالوا إنها تقابل "النجاشي" عند الحبشة، و"خاقان" عند الترك. وذكروا أسماء نفر ممن كانوا يلقبون بالفطيون1.
ويفهم من روايات الإخباريين أن يهود الحجاز كانوا قبائل وعشائر وبطونا، منهم: بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، وبنو عكرمة، وبنو محمر، وبنو زعورا، وبنو زيد، وبنو الشظية، وبنو جشم، وبنو بهدل، وبنو عوف، وبنو القصيص "العصيص"، وبنو ثعلبة2. غير أنهم لم يكونوا أعرابا، أي بدوا يتنقلون من مكان إلى مكان، بل كانوا حضرا استقروا في الأماكن التي نزلوا فيها، ومارسوا مهن أهل المدر، كل جماعة مستقلة تحمل اسما من تلك الأسماء التي ذكرها الإخباريون.
وقد عرف بنو قريظة وبنو النضير من بين اليهود بـ "الكاهنين"، نسبوا ذلك إلى جدهم الذي يقال له "الكاهن". و"الكاهن" هو الكاهن بن هارون بن عمران على زعم بعض أهل الأخبار3. فهم على هذه النسبة من أصل رفيع ومن نسب حسيب، يميزهم عن بقية طوائف يهود ولهذا كانوا يفتخرون بنسبهم هذا، ويرون لهم السيادة والشرف على من سواهم من إخوانهم في الدين.
ويرى "نولدكه" احتمال كون بني النضير وبني قريظة من طبقة الكهان في الأصل: هاجروا من فلسطين على أثر الحوادث التي وقعت فيها، فسكنوا في هذه الديار. وهناك جملة عشائر وأسر يهودية تفتخر بإلحاق نسبها بالكاهن هارون شقيق موسى النبي4.
كذلك يرجع "أوليري" كأمثاله من المستشرقين أصل بني قريظة وبني النضير إلى اليهود، ويرى أنهم غادروا ديارهم وجاءوا إلى هذه المنطقة في الفترة الواقعة ما بين خراب الهيكل في عام 70 للميلاد وتنكيل "هدريان" باليهود في عام 132 للميلاد5.
1 الاشتقاق "2/ 259".
2 الأغاني "19/ 95 وما بعدها"، سيرة ابن هشام "2/ 147 وما بعدها".
NoIdike BeItage
3 الأغاني "19/ 95"، تاج العروس "5/ 259""قرظ".
Margoliouth، p. 59، Graetz، History of the Jews، III، p. 56.
4 Noldeke، Bitrage، S. 55.
5 O'beary، p. 173.
ويرجع بعض بقية يهود جزيرة العرب نسبهم إلى الكاهنين وإلى الكاهنين وإلى الأسباط العشرة كذلك، فيدعون إنهم من تلك الأسباط المفقودة، وإنهم من نسل قدماء اليهود1.
وقد كانت منازل بني النضير حينما غزاهم الرسول في وادي بطحان وبموضع البويرة2. ووادي بطحان، هو أحد أودية يثرب الثلاثة، هي: العقيق وبطحان وقناة، وهو واد فيه مياه غزيرة وعيون، اتخذ به اليهود الحدائق والآطام. وقد كان غزاهم الرسول بعد ستة أشهر من غزوة أحد، فأحرق نخلهم وقطع زرعهم وشجرهم لتطاولهم على المسلمين. ومن ساداتهم: حي بن أخطب، وأخوه ياسر بن اخطب، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع، وهو أبو رافع الأعور، والربيع بن أبي الحقيق3. وعمرو بن جحاش.
ومن بني النضير، كعب بن الأشرف، وكان معاصرا للرسول، وكان صاحب لسان ونفوذ. أبوه من طئ على رواية، ومن بني النضير على رواية أخرى. أما أمه فهي من بني النضير بإجماع الرواة. توفي أبوه -على رأي من يقول إنه من طئ- وهو صغير، فحملته أمه إلى أخواله، فنشأ فيهم، وقال الشعر عندهم، وساد. ولما جاء الرسول إلى يثرب، كان كعب فيمن ناصب الرسول العداء فعلا وقولا، فهجا الرسول، وهجا أصحابه، وظل هذا شأنه بالرغم من محاولة المسلمين استصلاحه واسترضاءه، حتى جنى عليه لسانه، فأهدر النبي دمه، فذهب إليه نفر من المسلمين، فاقتحموا داره وقتلوه. وقد كانت له مناقضات مع حسان بن ثابت وغيره في الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج4.
1 Nallino، Raccolta، III، p. 99، Friedlander، The Jews of Arabia and the Rechabites، in Jews Quarteriy Review، 1910-1911.p. 254
2 بالضم ثم السكون، وقيل بفح أوله وكسر ثانيه وبفتح أوله وسكون ثانية، البلدان "2/ 216"، "1/ 512 وما بعدها"، "السعادة".
3 البلدان "2/ 310 وما بعدها"، البكري، معجم "1/ 285""طبعة مصطفى السقا""بويرة" شرح ديوان حسان، للبرقوقي "ص193 وما بعدها، الطبري "2/ 224"، "الاستقامة" فتوح البلدان، للبلاذري "1/ 32"، "1932م"،
"القاهرة".
4 الأغاني "19/ 106 وما بعدها"، المحبر "ص117،282،390"، ديوان حسان "ص46""طبعة هرشفلد، شرح ديوان حسان "ص272 وما بعدها" "للبرقوقي"، الكامل، لابن الأثير "2/ 99"، الطبري "2/ 177"، معجم الشعراء، للمرزباني "343"، ابن خلدون "2/ 757"، ابن هشام "2/ 548"، البداية والنهاية "4/ 74".
وكان قد ذهب إلى مكة، فحرض قريشًا على الرسول، ولما عاد إلى موضعه، ألب المشركين من أهل يثرب عليه. ومرثا قتلى القليب، فقتله المسلمون كما ذكرت1.
وكانت لبني قريظة حصون، يتحصنون بها وقت الخطر، ولهم آبار، ومنهم "محمد بن كعب القرظي"2. والزبير بن باطان بن وهب، وعزال بن شمويل، وكعب بن أسد، وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة.
وكان بنو قينقاع أول اليهود الذين ناصبوا الرسول العداء، وكانوا يسكنون في أحياء يثرب، وكانوا أغنياء على غير وفاق ووئام مع بقية أبناء قومهم قريظة وبني النضير. وقد اشتركوا في يوم بعاث: ووقعت بينهم وبين بني النضير وبني قريظة معارك فتك فيها ببني قينقاع، وأصيبوا بخسائر كبيرة اضطرتهم على ما يظهر إلى الالتجاء إلى يثرب والإقامة فيها في حي واحد من المدينة3.
ويرى "أوليري" احتمال كون بني قينقاع من أصل عربي متهود، أو من بني أدوم4.
وقد تكون بعض القبائل اليهودية التي ذكر أسماءها الإخباريون قبائل يهودية حقًّا، أي من الجماعات اليهودية التي هاجرت من فلسطين في أيام القيصر "طيطوس" Titus" أو "هدريان" Hadrian، أو قبل أيامهما، أو بعدها. ولكن بعضًا آخر منها، لم يكن من أصل يهودي، إنما كانت قبائل عربية دخلت في دين يهود، ولا سيما القبائل المسماة بأسماء عربية أصيلة. ولبعض هذه
1 التنبية "243"، والمصادر المذكورة، السيرة الحلبية "2/ 94 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 401 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 608"، ابن عساكر "1/ 40"، البداية والنهاية "4/ 74 وما بعدها".
2 تاج العروس "5/ 259"، "قرظ"، البداية والنهاية "4/ 116" الأغاني "19/ 94"، فتوح البلدان، للبلاذري "1/ 23، 35"، الطبري "2/ 245"، "الاستقامة"، السيرة الحلبية "2/ 145 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 777".
3 البداية والنهاية "4/ 3"، الطبري "2/ 172"، "الاستقامة" البدء والتأريخ "4/ 195"، البلدان "7/ 199"، ولفنسون "128 وما بعدها" السيرة الحلبية "2/ 2 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 608".
4 Obeary 173 f
101
الأسماء، صلة بالوثنية تشعر أنها كانت على الوثنية قبل دخولها في دين يهود1. والظاهر إنها تهودت إما بتأثير التبشير، وإما باختلاطها ودخولها في عشائر يهودية جاورتها فتأثرت بديانتها. وقد ذكر البكري إن "بني حشنة بن عكارمة"، وهم من بليّ قتلوا نفرًا من بني الربعة، ثم لحقوا بتيماء "فأبت يهود أن يدخلوهم حصنهم وهم على غير دينهم، فتهودوا، فأدخلوهم المدينة، فكانوا معهم زمانًا، ثم خرج نفر إلى المدينة، فأظهر الله الإسلام، وبقية من أولادهم بها"2. وهنالك بطون أخرى عربية الأصل كانت على دين يهود3.
وقد اشتهر يهود خيبر من بين سائر يهود الحجاز بشجاعتهم. وخيبر موضع غزير المياه كثيره، وقد عرف واشتهر بزراعته وبكثرة ما به من نخيل. وعند إجلاء اليهود عن خيبر، تفرقوا فذهب بعض منهم إلى العراق، وبعض آخر إلى الشام، وبعض منهم إلى مصر. وقد بقوا في كل هذه المواضع متعصبين لوطنهم القديم خيبر، ينادون بشعارهم الذي كانوا ينادون به قبل الإسلام، وهو:"يا آل خيبر"4.
وقد اشتهرت "خيبر" وعرفت بالحمى. حتى نسبت إليها، فقيل لها حمى" خيبرية". وكان من أساطيرهم إذ ذاك، أن من أراد دخولها فعليه بالتعشير ليتخلص منها. وكان من أوبداهم فيما يزعمون أن الرجل إذا ورد أرض وباء ووضع يده خلف أذنه، فنهق عشر نهقات نهيق الحمار، ثم دخلها أمن من الوباء5.
وزعم أن يهود خيبر هم من نسل "ركاب" المذكور في التوراة6، وأن "يونادب" Jonadab "جندب" ابنه: تبدى مع أبنائه ومن اتبعه، وعاش
1 Margoilouth، p. 60، Noldeke، Beitrage، S. 52، Wustenfeld، Geschichte von Medina، S. 28.
2 البكري "1/ 29""طبعة السقا"، IsIamic III VoI 2 p 177
3 NoIdk BeItrage S 55
4 المشرق: السنة السادسة والثلاثون، 1938 "ص152 وما بعدها.
5 قال عروة بن الورد:
وإني وإن عشرت من خشية الردى
…
نهاق حمار إنني لجزوع
6 الملوك الثاني: الاصحاح العاشر، الآية 15-28 Hastings 784
عيشة تقشف وزهد وخشونة، وأن نسلهم هاجر بعد خراب الهيكل الاول إلى الحجاز حتى بلغوا خيبر، فاستقروا بها، واشتغلوا بزراعة النخيل والحبوب، وأنهم أقاموا فيها قلاعا وحصونا تحميهم من غارات الأعراب عليهم. ذكر بعض الإخباريين أنها ولاية من سبعة حصون، منها: حصن ناعم، والقموص حصن ابن أبي الحقيق وهو أقواها وأعزها وقد أقيم على مرتفع من الأرض حماه وعزز دفاعه، وحصن الشق، وحصن النطاة، وحصن السلالم، وحصن وجده، وحصن الوطيح، وحصن الكتيبة "الكثيبة". وقد أخرجوا منها وأجلوا عنها زمان عمر الخطاب1.
وقد زعم بعض الإخباريين إن خيبر لفظة عبرانية، وأن معناها الحصن في عربيتنا2. وزعم بعض آخر إنها نسبة إلى رجل اسمه "خيبر بن فاتية بن مهلاييل"، سميت خيبر باسمه، لأنه كان أول من نزلها3. وذهب "وايل" WeiI، إلى أن اللفظة لفظة عبرانية، وهي بمعنى مجموعة مستوطنات4، أما "دوزي"، فقد أخذ بالرواية العربية، فزعم أن "خيبر"، كناية عن جماعة من اليهود هاجرت في أيام السبي من فلسطين إلى هذا الموضع، وهي من نسل "شفطيا بن مهللئيل" من "بني فارص"5. وأن "فاتيه"، هو تحريف "شفطيا" Shaftja المذكور في سفر "نحميا" من أسفار التوراة، وهو ابن "مهللئيل"، الذي هو "مهلاييل" عند أهل الأخبار. وزعم أن زمان هجرة هذه الجماعة يتناسب تمامًا مع الرواية القائلة أن هجرة اليهود إلى جزيرة العرب كانت في أيام "بخت نصر"6.
وذهب المستشرقون أن كلمة "خيبر"، كلمة عبرانية الأصل "خيبر" Kheber"
1 البلدان "3/ 495 وما بعدها"، البكري، معجم "1/ 521" تاج العروس "3/ 168"، "خبر"، اد المعاد "2/ 133"، تاريخ الإسلام "1/ 294 وما بعدها".
Graetz، III، p. 56، Ency، II، p. 869، Caetani، Annali، II، I، 8-33.
2 أبو الفداء، "ص89"، البلدان "3/ 495"، البكري، معجم "2/ 521 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 168"، "خبر"
3 R Dozy Mekka S 136
4 Mohammed der Propht S 185
5 نحميا، الاصحاح الحادي عشر، الآية 4 وما بعدها.
6 R Dozy Mekka S136 f
ومعناها الطائفة والجماعة1. وذهب بعضهم إلى أن معناها الحصن والمعسكر2. وهي من أقدم المواضع التي لجأ إليها اليهود في الحجاز.
ومن الصعب تعيين الزمن الذي هاجر فيه اليهود إلى هذا الموضع. لقد رجع بعضهم ذلك إلى أيام هجوم الرومان على فلسطين. غير أن من الجائز أن تكون هجرتهم إليها قد وقعت قبل ذلك، من الجائز أن تكون في أثناء السبي واستيلاء البابليين على القدس، وقد يجوز أن يكون قوم منهم قد جاءوا مع "نبونيد" ملك بابل إلى تيماء حين اتخذ "تيماء" عاصمة له. فهاجر قسم منهم إلى خيبر وإلى نواح أخرى من الحجاز3.
وأقدم إشارة كتابية ورد فيها اسم خيبر، نص: حران اللجاة، ويرجع تأريخه إلى سنة مئة وستين من الأندقطية الأولى، وتقابل سنة 568 للميلاد، وقد ورد فيه: بعد مفسد خيبر بعم"4. أي بعد خرب خيبر بعام. وهو يشير إلى غزو لهذا الموضع أنزل به خسائر كبيرية، ولأهميته وفداحته في نفوس أهله أرخوا بوقوعه. ويعود النص المذكور المدون باليونانية والعربية إلى "شرحيل بن ظلمو" "شراحيل بن ظالم"، وقد دونه لمناسبة بنائه "مرطولا"، فأرخ بتاريخ خيبر المذكور. وهو يشير إلى غزوة قام بها أحد أمراء غسان على خيبر5.
وقد وجدت كتابات بحروف المسند وكتابات نبطية في خيبر، هي أقدم عهدا من نص "حران اللجاة"، يفهم منها بوجود سكن في هذه الأرضين يعود بعضه إلى ما قبل الميلاد، ولم تكشف تربة خيبر حتى الآن، وكل ما عثر من عاديات فيها هو من النوع الذي وجد ظاهرا على سطح الأرض، وليس بمستبعد أن يعثر على كتابات قد تكشف عن تأريخ هذه البقية.
ولما بلغ أهل تيماء ما حدث لإخوانهم في خيبر ووادي القرى، وفدك، قبلوا
1 Charles Cutler Torrey، The Jewish Foundations of Islam، New York، 1933، p. 13.
2 Ency II p 879
3 Torret P 17 MuIIer Der IsIam IS 36 ff
4 جواد علي العرب قبل الإسلام "1/ 195 وما بعدها".
5 المصدر المتقدم، المعارف "313"، ولفنسون، السامية "192".
الجزية، وصالحوا الرسول في سنة تسع للهجرة، فضمن بذلك لهم حرية بقائهم في دينهم، وعلى تيماء كان يشرف حصن السموأل "الأبلق الفرد". وقد نعتت تيماء في بعض الأشعار بتيماء اليهود1.
وتيماء من المواضع القديمة. وقد مر الحديث عنها في أماكن من هذا الكتاب. وقد سبق أن قلت بأن الملك "نبونيد" قد أقام فيها، حيث اتخذها عاصمة له، وهي في موقع حسن، وملتقى طرق هامة يسلكها التجار، وقد استبد بها اليهود فأقاموا بها وجعلوها من أهم مستوطناتهم في الحجاز. استغلوا أرضها فزرعوها، واستنبطوا الماء من الآبار بالإضافة إلى واحتها ذات المياه العذبة الغزيرة التي كان لها الفضل في تكوين هذا الموضع وإعماره. وقد ذكرت في شعر "امرئ القيس"، وفيها كان حصن السموأل بن عادياء المذكور في قصص امرئ القيس الشاعر.
ويرى بعض المستشرقين أن "شمعون التيماني" Simeon of TemanIte المذكور في التلمود والمدراش، هو من أهل "تيماء"2. ولا يستبعد أن يكون من بين أهل هذه المدينة من حصل على شهرة في العلم بفقه اليهود وبأحوال دينهم. فإن مركزها وموقعها يجعل من السهل على سكانها الوصول إلى فلسطين وبقية بلاد الشام وأخذ العلم من علماء تلك البلاد.
وقد عثر الرحالة "أويتنك" Euting" على كتابة مدونة بقلم بني إرم تعود إلى عهد كان الفرس قد استولوا فيه على هذا المكان، تتحدث عن أهمية تيماء ورقيها في هذا العهد3. ولا يستبعد العثور على كتابات عديدة إذا ما قام العلماء بالتنقيب عنها في باطن الأرض، فإن موضعا مثل هذا الموضع لا بد أن يكون غنيا بالكتابات والآثار. وقد وجد "أويتنك" آثار معبد قديم، وآثار مواضع عتيقة أخرى ترجع إلى ما قبل الإسلام4. ووجد "جوسن" Jaussen" و"سافينه" Savignac آثار مقابر على تلال من النوع الذي يطلق عليه الآثاريون اسم
1 البلدان "2/ 442""تيماء"، فتوح البلدان "1/ 29".
2 Mishna Yadayim، I، 3، Yebamoth، 4، 13، Tosephta Berachoth، 4، 24، Sanhedr، 12، 3، Besa، 2، 19، Bab. Talmud، Zebachim، 32 b. Baba Gamma، 90، b. Besa، 21a Tarrey، pp. 26 Margoliouth، p. 68.
3 Ency، IV. P. 622.
4 Euting، Tagebuch Einer Reise in innerarabien، II، 148. 199.
"تمولي" TumuIi ومرقاة مدرجة تؤدي إلى بناء مربع لعله معبد من معابد القوم بني على هذا التل1.
ولا توجد اليوم بقية للأبلق الفرد، الذي افتخر السموأل وآل السموأل به، وكذلك يهود تيماء. وليس بمستبعد أن يكون ذلك الحصن من بقايا قصر "نبونيد" أو من بقايا قصور رجاله، أو من بقايا أبنية غيره ممن نزل هذا المكان. وقد يكون بناء أقامه السموأل وبناه بحجر تلك الأبنية القديمة. وقد أكسب قصر السموأل هذا الموضع شهرة، وأكسبه خبر وفاء السموأل شهرة كذلك على النحو المذكور في كتب الأدب والأخبار2.
وفدك موضع آخر من المواضع الذي غلب عليه اليهود. وسكانه مثل أغلب يهود الحجاز مزارعون عاشوا على الزراعة كما اشتغلوا بالتجارة وببعض الحرف التي تخصص فيها اليهود مثل الصياغة والحدادة والنجارة3. والموضع من المواضع القديمة التي يعود عهدها إلى ما قبل الإسلام، وقد ذكره الملك "نبونيذ" في جملة المواضع التي زارها والتي خضعت لحكمه في الحجاز. وكان رئيس فدك عند ظهور الإسلام وهجرة الرسول إلى يثرب يوشع بن نون4.
ووادي القرى، هو من من المواضع التي غصت باليهود، فكان أكثر أهله منهم. وقد كان يهوده من المزارعين5، وقد حفروا به الآبار، وتحالفوا مع الأعراب، وعاشوا معهم متحالفين. يعملون بالزرع. وقد غزاهم الرسول مرجعه من خيبر سنة سبع للهجرة، على أثر إصابة "مدعم الأسود" مولى الرسول بسهم غارب قتله. وهو مولى مولد من "حسمي"، كان أهداه "رفاعة بن زيد الجذامي" أو "فروة بن عمرو الجذامي" إلى الرسول6.
1 Jaussen and Savignac، Mission Archeologique، II، pp. 133، 163.
2 أبو الفداء، تقويم البلدان "86"، البكري، معجم "1/ 329"، البلدان "2/ 67"، اللسان "12/ 76""صادر"، ابن حوقل، صورة الأرض "30"، ابن خلدون "2/ 574"، دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية""6/ 130".
3 البكري، معجم "1/ 327"، تقويم البلدان "78".
4 الطبري "3/ 98" حوادث السنة السابعة" ابن الأثير "2/ 93"، "ذكر فدك"، البلاذري، فتوح "36 وما بعدها"، NaIIino RaccoIta I 198 III 97
5 زاد المعاد "2/ 146".
6 الطبري "3/ 16"، "ذكر غزوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وادي القرى" الإصابة "3/ 374"، "رقم 7858".
وكان من بين أهل مقنا وأيلة في أيام الرسول قوم من اليهود كذلك، وكذلك أهل بقية القرى الواقعة في أعالي الحجاز وعلى ساحل البحر، وقد صالحوا الرسول على الجزية، وبذلك ضمنوا لهم البقاء في هذا الأنحاء1. ومن هؤلاء اليهود "بنو جنبة"، وهم يهود بـ"مقنا"2، و"بنو غاديا"3، و"بنو عريض"4.
وكان بالطائف قوم من اليهود طردوا من اليمن ويثرب، فجاءوا إليها، ولم تكن قد أسلمت بعد، فأقاموا بها للتجارة. فلما صالح أهل الطائف الرسول -على أن يسلموا ويقرهم على ما في أيديهم من أموالهم وركازهم، واشترط عليهم ألا يربوا ولا يشربوا الخمر وكانوا أصحاب ربا- وضعت الجزية على يهودها، وبقوا فيها، ومن بعضهم ابتاع معاوية أمواله بالطائف5.
ويظهر إنه لم تكن لليهود جاليات كبيرة في جنوب المدينة حتى اليمن، لعدم إشارة أهل الأخبار إليهم، وإن كنت لا أستبعد وجود أفراد وأسر منهم في مكة وفي عدن وفي المدن التي اشتهرت بالتجارة كبعض موانئ البحر الأحمر وموانئ سواحل العربية الجنوبية. غير أن وجودهم في هذه المواضع، لم يكن له أثر واضح مهم، فلم يتجاوز محيط التجارة والاتجار.
وقد ذهب بعض المستشرقين، استنادًا إلى دراسة أسماء يهود الحجاز عند ظهور الإسلام، إلى أن أولئك اليهود لم يكونوا يهودا حقًّا، بل كانوا عربا متهودين، تهودوا بتأثير الدعاة اليهود6. ولكن الاستدلال من دراسة الأسماء على أصول الناس، لا يمكن أن يكون حجة للحكم على أصولهم وأجناسهم. فالفرس والروم والهنود وغيرهم ممن دخل في الإسلام، تسموا بأسماء عربية، وبعضها أسماء عربية خالصة. وتسمياتهم هذه لا تعني أن من تسمى بها كان عربي الأصل. ثم إن كثيرًا من اليهود في الغرب وفي أمريكا وفي البلاد العربية والإسلامية، سموا أنفسهم بأسماء غير عبرانية، ولكنهم كانوا وما زالوا على دين يهود،
1 البلدان "8/ 128""مقنا"، البلاذري، فتوح "66"، زاد المعاد "2/ 117"، الطبري "2/ 232 وما بعدها".
2 ابن سعد، طبقات "1/ 276".
3 ابن سعد، طبقات "1/ 279".
4 ابن سعد "طبقات""1/ 279".
5 البلاذري، فتوح "63".
6 W CaskeI Das attarabIsche koningreich Lihyan S 19
فالأسماء وحدها لا تكفي في إعطاء رأي علمي في تعيين الأصول والأجناس، ولا سيما في المواضع الكائنة على طرق التجارة والمواصلات وفي الأماكن التي يكثر فيها الاختلاط.
وللمستشرق "ونكلر" رأي في هذا الموضوع، خلاصته: أن أولئك اليهود لو كانوا يهودا حقًّا هاجروا من فلسطين إلى هذه المواضع، لكانت حالتهم وأوضاعهم ومستواهم الاجتماعي على خلاف ما كان عليه هؤلاء اليهود. كانت حالتهم أرقى وأرفع من الحالة التي كانوا عليها، إذ لا يعقل، على رأيه، وصول جماعة إلى ذلك المستوى الاجتماعي الذي كان عليه يهود جزيرة العرب لو كانوا من بلاد مستواها الثقافي والمدني أرقى من مستوى من هو دونهم كثيرًا في شؤون الحياة. ومستوى الحياة في جميع نواحيها، فلسطين، أرقى وأرفع من مستواها في الأماكن التي وجد فيها اليهود من بلاد العرب. فهم على رأيه عرب متهودون، لا يهود مهاجرون1.
غير أن هنالك من يؤاخذ ونكلر على هذا الرأي، لأن رأيه لا يمكن أن ينطبق على من ترك دياره وهاجر، واستقر في موطن جديد لأمد طويل، لأن الأوضاع المحيطة بالوطن الجديد سرعان ما تؤثر في المهاجرين، ولا سيما إذا كانوا جماعات صغيرة أو جماعات ليست ذات بأس شديد، فتجعلها تنصاع للمحيط الذي نزلت به بعض الإنصياع، فتفقد بعض خصائصها، لتكتسب خصائص المجتمع الجديد. ثم إن اليهود الذين نزلوا في الحجاز، كانوا يختلفون مع ذلك عمن كان في جوارهم أو بينهم، إذ كانوا يشتغلون بالزراعة ويمتهنون بعض المهن التي يأنفها العربي الأصيل، كما أنهم يشتغلون بالزراعة ويمتهنون بعض المهن التي يأنفها العربي الأصيل، كما أنهم كانوا لا يرغبون في القتال، ولا يميلون إلى الغزو والحروب، ولم يشتركوا إلا اضطرارا وإلا بإلحاح المصالح الضرورية فيها، وهم يختلفون في هذه الناحية من الأعراب2.
ويلاحظ أن يهود الجاهلية لم يحافظوا على يهوديتهم وعلى خصائصهم التي يمتازون بها ويحافظون عليها محافظة شديدة، كما حافظوا عليها في الأقطار الأخرى. فأكثر أسماء القبائل والبطون والأشخاص، هي أسماء عربية، والشعر المنسوب إلى شعراء منهم، تحمل الطابع العربي، والفكر العربي، وفي حياتهم الاجتماعية والسياسية
1 winkIer Mett Var Asai Ges VI S 222
2 MargoIiouth P62
لم يكونوا يختلفون كبيرا عن العرب، فهم في أكثر أمورهم كالعرب فيما سوى الدين1. ولعل هذا بسبب تأثير العرب المتهودة عليهم، وكثرتهم بالنسبة إلى من كان من أصل يهودي، مما سبب تأثيرهم، وهم ذوو أكثرية، في اليهود الأصيلين الذين أثروا فيهم فأدخلوهم في دينهم، فأثروا هم فيهم، وطبعوهم بطابع عربي.
وقد عاش اليهود في جزيرة العرب معيشة أهلها، فلبسوا لبساهم، وتصاهروا معهم، فتزوج اليهود عربيات، وتزوج العرب يهوديات، ولعل كون بعض يهود من أصل عربي، هو الذي ساعد على تحطيم القيود التي تحول بين زواج اليهود بالعربيات وبالعكس. والفرق الوحيد الذي كان بين العرب واليهود عند ظهور الإسلام هو الاختلاف في الدين. وقد تمتع اليهود بحرية واسعة لم يحصلوا عليها في أي بلد آخر من البلاد التي كانوا بها في ذلك العهد2.
ومن الأسماء قد تكون من أصل عبراني "زعورا"، وهم اسم عبراني متأثر بلهجة بني إرم، "يساف"، وقد يكون من "يوسف"، و"نبتل" وقد يكون من "نفتالي" NaftaeIi، وأسماء أخرى لم تتمكن من المحافظة على أصلها العبراني، فتأثرت بخواص اللسان العربي. وليس بين أسماء البطون اليهودية الأحد عشر، التي كانت في الحجاز في أيام ظهور الإسلام، اسم تظهر عليه الملامح العبرانية غير الاسم الذي ذكرته وهو "زعوراء"3.
وكانت يثرب عند هجرة الرسول إليها، في أيدي أصحابها الأوس والخزرج، لهم السيطرة والسلطان، ولليهود آطامهم وقلاعهم في خيبر وفي تيماء وفي بعض قرى وادي القرى وفي أعالي الحجاز، يتاجرون، ويزرعون، ويقرضون الأموال بالربا الفاحش للأعراب، ويحترفون بعض الحرف مثل الصياغة، وهي حرفة اشتهروا بها منذ القديم، ويعقدون الأسواق ليقصدها الأعراب للامتياز.
ولكن اليهود مع ما كان لهم من قلاع وآطام وقرى عاشوا فيها متكتلين مستقلين لم يتمكنوا من بسط نفوذهم وسلطانهم على الأرضين التي أنشئوا مستوطناتهم
1 NoIdeke Beirage S55 f
2 Graetz III p58 f 60
3 Margoliouth، P. 60، Nallino، Raccolta، III، P. 104، H. Hirschfeld، Essal Sur I'histoire des Juifs de Medine، in Revue des Etudes Juifs، X، 1885. P. 11. f.
فيها، ولم يتمكنوا من إنشاء ممالك وحكومات يحكمها حكام يهود، بل كانوا مستقلين في حماية سادات القبائل، يؤدون لهم إتاوة في كل عام مقابل حمايتهم لهم ودفاعهم عنهم ومنع الأعراب من التعدي عليهم. وقد لجئوا إلى عقد المحالفات معهم، فكان لك زعيم يهودي حليف من الأعراب ومن رؤساء العرب المتحضرين.
وقد كان اليهود يخضعون في نظامهم السياسي والاجتماعي لرؤسائهم وساداتهم، يدفعون لهم ما هو مفروض عليهم أداؤه في كل سنة، وهؤلاء السادة هم أصحاب الآطام والحصون والأرض. ولمن يشتغل في الأرض تسديد ما عليه لصاحبها في مقابل استغلاله لها. وقد اعتنوا عناية خاصة بزراعة النخيل. وعرفت القطعة من الأرض المزروعة نخلا عندهم بالصورين" "الصور"1، ولما كانت الأرضون المزروعة واسعة، كانت خارج الآطام والحصون، يحميها حراسها والمشتغلون بها أيام ثمرتها. وأما في أيام الغزو والحروب، فقد كانت معرضة لهجوم المهاجمين. وهذا ما كان يعرض أعظم غلة لليهود للخطر، ولهذا شق عليهم كثيرًا، وانهارت مقاومتهم حين أمر الرسول بقطع النخل وتحريقه، وأخذوا يلتمسون منه وقف ذلك.
ويتولى الأحبار الأمور الدينية وتنفيذ الأحكام والنظر فيما يحدث بين الناس من خصومات. يقيمون لهم الصلوات وبقية شعائر دينهم، ويعلمونهم في بيوت المدارس.
وقد أدى التنافس بين سادات يهود إلى نشوب معارك بينهم في الجاهلية. وقد أشار إليها القرآن الكريم وأنبهم على ذلك. واضطرت بنو قينقاع بسبب ذلك وبضغط بني النضير وبني قريظة إلى الالتجاء إلى أحياء يثرب وإلى محالفة الخزرج، وفي مقابل ذلك تحالفت بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس، فصاروا فرقتين: فرقة مع الخزرج، وفرقة مع الأوس.
وفي تأنيب يهود، لتخاصمهم وتنابذهم وإخراجهم بعضهم بعضًا من ديارهم وأسر بعضهم بعضًا وافتداء الأسرى كالذي وقع بين بني قينقاع وبني النضير، نزل الوحي: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ
1 الروض الأنف "2/ 194"، ابن هشام "2/ 195"، "حاشية على الروض"، "الصورة: أصل النخل"، "الصورة: النخلة"، تاج العروس "3/ 343"، "صور".
مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1 أَنَّبَهُم لأنهم فعلوا فعل المشركين والأعراب، مع أنهم أهل دين واحد وكتاب. أما المشركون فلا لوم عليهم، لأنهم لم يكونوا على دين، وليس لهم كتاب يأمرهم وينهاهم.
وفي المعارك والخصومات التي تقع بين يهود، كانوا يؤدون الدية. وهي على ما يظهر من روايات أهل الأخبار مختلفة، وغير متكافئة. فكان بنو النضير يؤدون الدية كاملة لشرفهم في يهود، أما بنو قريظة، فكانوا يؤدون نصف الدية. وفي خلاف في أداء الدية وقع بينهم، التجئوا إلى الرسول للحكم بينهم، فذكروا له هذا الاختلاف، فحكم بالدية متساوية. وفي هذا الحكم نزلت الآية:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2. ذكر علماء التفسير عن "ابن عباس" أنه قال: "كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي، صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} النفس بالنفس ونزلت أفحكم الجاهلية يبغون"3.
وذكر علماء التفسير في تفسيرهم للآيات المتقدمة، أن أحبار اليهود لم يكونوا يحكمون بالحق فيما بين الناس، كانوا يحابون ويتحزبون ويحكمون بالباطل ويأكلون "السحت" أي الرشا، جزاء حكمهم بالباطل. وكانوا يتساهلون في تطبيق أحكام
1 البقرة: الآية 84 وما بعدها، روح المعاني "1/ 309"، ابن هشام "2/ 23""حاشية على الروض".
2 المائدة، الآية 42.
3 تفسير القرطبي، الجامع "6/ 187"، تفسير الطبري "6/ 157".
الشريعة مع الشريف لشرفه، ويتشددون مع الدنيء لدناءته وفقر حاله، ولا يراعون التساوي في أخذ النيات. "كان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي وحموا وجه الشريف وحملوه على البعير، أو جعلوا وجهه من قبل ذنب البعير. وإذا زنى الدنيء بالشريفة، رجموه".
وكان هذا شأنهم "إلى أن زنى شاب منهم ذو شرف، فقال بعضهم لبعض لا يدعكم قومه ترجمونه، ولكن اجلدوه ومثلوا به، فجلدوه وحملوه على حمار أكاف وجعلوا وجهه مستقبل ذنب الحمار. إلى أن زنى آخر وضيع ليس له شرف، فقالوا ارجموه. ثم قالوا فكيف لم
ترجموا الذي قبله، ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا"، واختلفوا فذهب فريق منهم إلى الرسول، فحكم بينهم بما جاء بحكم التوراة1.
وذكر أن "حيي بن أخطب" كان قد حكم أن للنضري ديتان وللقرظي دية، لأنه كان من النضير2.
وذكر أهل الأخبار إنه كان لليهود حكام يحكمون بينهم، ويقيمون حدودهم عليهم. فلما جاء الرسول إلى يثرب، صار اليهود يعترضون على عدالة حكم بعضهم، ولا يرضون بتنفيذ أحكامهم عليهم. فكان الحكام أو هم يذهبون إلى الرسول لكي يحكم بينهم
فيما هم فيه مختلفون وفق شريعتهم3.
وكان جل اعتماد اليهود في هذه المنطقة عند ظهور الإسلام على التجارة، ومعاطاة الربا والزرع، وبعض الصناعة: كالصياغة، وتربية الماشية والدجاج، وصيد الأسماك في أعالي الحجاز على ساحل البحر الأحمر. واشتهروا بالاتجار بالبلح وبالبر والشعير والخمر، وكانوا يجلبون الخمر من بلاد الشام. وكانوا يبيعون بالرهن، يرهن المشترون بعض أمتعتهم عندهم ليستدينوا منهم ما يحتاجون إليه. وقد ورد أن الرسول رهن درعًا له عند يهودي من أهل يثرب في مقابل شعير كان به حاجة شديدة إليه4.
ومن الصناعات التي اشتغل بها اليهود، النسيج وهو من اختصاص نسائهم على
1 تفسير الطبري "6/ 157".
2 تفسير الطبري "6/ 157".
3 تفسير القرطبي، الجامع "6/ 187".
4 البخاري "2/ 16، 45"، فتوح البلدان "60"، ولفنسون "ص18".
IsIamic CuIture 1929 III No 2 p 187
الأكثر، والصياغة وقد اختص بها بنو قينقاع، والحدادة، وهي صناعة يأنف منها العرب ويزدرونها ويرونها من الحرف الممقوتة الحقيرة.
ولم يكن من مصلحة اليهود، وهم أهل زرع وضرع ومال وتجارة وأرض ثابتة وقصور وآطام، أن يشتركوا في الحروب أو يشجعوا وقوعها في ديارهم وفي جوارهم، بل كان من مصلحتهم أن يعم الاستقرار البلاد التي يقيمون فيها، ليعيشوا عيشة هنيئة، وليبيعوا ما عندهم من الأعراب وليشتروا منهم ما عندهم من سلع وليقبضوا أموالهم منهم والأرباح التي استحقت على تلك الأموال.
وفي النزاع الذي يقع بين القبائل، لم يكن من مصلحتهم تأييد حزب على حزب، خوفًا من الوقوع في أخطاء تجر عليهم أخطارا ومهالك هم في غنى عنها وفي مأمن من شرها. ثم إنهم بتحزبهم لطرف يغضبون الطرف الآخر، فيضمر عندئذ شرًّا لهم، فيخسرون بذلك مشتريًا وبائعًا. وهم أناس أصحاب سوق وتجارة. غير أن الظروف كانت تكرههم في بعض الأحيان على الاشتراك في الحرب، وعلى إثارة الحرب أيضًا متى وجدوا في إثارتها فائدة لهم ومصلحة ترتجى كأن ينهكوا العدو بحرب مع عدو آخر بإيقاع الفتنة وإشعال النيران، كما أوقعوا بين الأوس والخزرج، لإضعاف الطرفين معًا، حتى لا تبقى لهم قوة تهددهم وتكون خطرًا عليهم.
وفي يوم بعاث استعان الأوس ببني قريظة والنضير، فبلغ ذلك الخزرج فأرسلوا إليهم يحذرونهم من سوء عاقبة الاشتراك في هذا النزاع، فتوقفوا، غير أنهم عادوا فعاونوا الأوس، وانضم إليهم بنو النبيت، فلما كسب الأوس الحرب، كسب بنو قريظة والنضير والنبيت غنائم من الخزرج، وخرجوا في هذا اليوم منتصرين بانتصار الأوس1.
ويذكر أهل السير والأخبار: أن يهود يثرب كانوا إذا تضايقوا من الأوس والخزرج هددوهم بقرب ظهور نبي يستعلون به عليهم. ففي رواية عن بعض الصحابة إنهم قالوا: "كنا قد علوناهم في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون لنا: إن نبيا يبعث الآن نتبعه، قد أطل زمانه،
1 ابن هشام "3/ 94"، اليهود "ص62 وما بعدها".