الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح
مدخل
…
الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح
للعالم الخفي، وأقصد به عالم الأرواح وكل ما لا تراه العين ويدركه الحس من قوى طيبة أو خبيثة، أثر خطير في عقائد أهل الجاهلية، وفي عقائد الشعوب القديمة، وفي أنفس كثير من الناس حتى اليوم، إذ يشغل ذكل العالم في الواقع جزءًا خطيرًا من الدين ومن حياة الناس عامة. فهناك صلوات وشعائر وأدعية مكتوبة وغير مكتوبة تنلى وتقال وتقرأ للسيطرة على ذلك العالم، وللانتفاع منه، ولتسخيره في سبيل خير الإنسان ومصلحته، ولتجنب أذى النوع الخبيث منه. وإذا تتبعنا هذه الاعتقادات عند الجاهليين، وجدنا إنها قد كونت الجزء الأكبر من عقيدتهم وديانتهم، وإنها والذبائح من الأصول التي ارتكزت عليها ديانات العرب قبل الإسلام.
والواقع أن الاعتقاد بالأرواح يشغل حيزًا كبيرًا من فناء الدين عند الجاهليين، وإن بدا لنا إنه شيء لا علاقة له بالدين. فنحن حين البحث في موضوع العقيدة والدين عند أهل الجاهلية، لا نتحدث بالطبع عن العقيدة والدين بالنسبة إلى معتقداتنا وبالنسبة إلى تفكير الإنسان في القرن العشرين، وإنما نتحدث عن رأي أناس عاشوا قبل الإسلام، وعن جماعة أدركت العشرين، وإنما نتحدث عن رأي أناش عاشوا قبل الإسلام، وعن جماعة أدركت الإسلام، كانت الأرواح في نظرها أكثر أثرًا في حياة الفرد من أثر الآلهة فيه. فتقرب وتوسل إليها أكثر من تقربه وتوسله إلى آلهته التي كان يرى أن بيدها مفتاح سعادته وشقائه. وآية ذلك كثرة الكلمات والمصطلحات الجاهلية المتعلقة بها، وما ورد في القرآن الكريم وفي
الحديث النبوي والأخبار من أثر الجن في نفوس القوم، حتى تصوروهم آلهة وشركاء للأرباب في إدارة دفة هذا الكون.
هذا، ونحن إن ذكرنا الأرواح، فإننا لا نقصد المعنى المفهوم منها في رأينا، بل نقصد هذا المعنى وشيئًا آخر أعم وأوسع منه، معنى يشمل أيضًا بعض الأحجار والأشجار والآبار والكهوف وأمثال ذلك من أشياء تصور أهل الجاهلية إ، ما تكمن فيها قوة خارقة تستطيع التأثير في حياة الناس، فتقربوا إليها بالزيارات والقرابين وبالتضرع والتوسل والأدعية لقدسيتها ولتلك القدرة العجيبة التي فيها، فهي من حيث النفع أو الضرر كالأرواح: لوجود قوى خارقة غير منظورة فيها، هي من الأرواح، فتقرب إليها الإنسان لذلك، لغرض الاستفادة منها أو دفع أذاها.
وطبيعة الأرواح، طبيعة غير مرئية ولا منظورة، هي لطيفة خفية مستورة. إنما يجوز لبعضها الظهور في سورة أشباح، والتجسم على هيأة الأجساد. ثم إنها على طبيعتين: شريرة وخيرة، خبيثة وصالحة. من الطبيعة الأولى الشياطين وبعض أنواع الجن، ومن الطبيعة الثانية الملائكة والشطر الثاني من الجن. وأثر الخبيث من الأرواح أوضح وأكثر في عقلية أهل الجاهلية من أثر الفريق الصالح. وهو شيء منطقي مفهوم، فالإنسان إلى الشر أقرب منه إلى الخير، ذلك أن من طبع الخير عدم إلحاق الأذى بالغير، فلا يخشى منه. أما الشرير، ففي طبعه إلحاق الضرر والأذى بكل واحد، وفي كل لحظة يراها، لذلك التفتت إليه الأنظار حذار منه، وخشية من مكره، وتقربت وتوددت إليه، لا حبا له، ولا تقربا إليه لا، جدير به، بل إنما تملقا وتزلفا لإبعاد شره، وأمن جانبه على نمط ما يفعله الناس تجاه الأقوياء من الأشرار حيث يتقربون إليهم أو يبتعدون عنهم طمعا ورهبة، تمشية لأمور معاشهم، لا حبا لهم وإخلاصا لاستحقاقهم ذلك الحب والاخلاص.
وقد ذكر "الجاحظ" أن الأعراب تجعل الخوافي والمستجنات جنسين. يقولون جن وحن1. وقصد بـ "الخوافي" الأرواح، لأنها لا ترى. وذكر غيره أن "الحن"، حي من الجن، كانوا قبل آدم، يقال منهم الكلاب السود البهم، يقال كلب حتي، أو سفله الجن وضعفاؤهم أو كلابهم، "ومنه حديث
1 الحيوان "6/ 193".
ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، الكلاب من الحن، وهي ضعفة الجن، فإن كان عندكم طعام فألقوا لهن، فإن لهن أنفسا، أي تصيب بأعينها"1. وذكر أن "الحن" خلق بين الجن والإنس2.
وذكر "الجاحظ" أيضًا أن بعض الناس يقسم الجن على قسمين، فيقول: هم جن و"حن" ويجعل "الجن" أضعفها3. وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن "الحن"، هم كلاب الجن وسفلتهم، وشر أنواع الجن4. ويجعلون الجن فوق الجن5.
ويقال للجن الجان، و"الجِنة" كذلك. و"الجان" اسم جمع للجن على رأي بعض علماء اللغة6. وقد ورد في مقابل "الإنس" في القرآن الكريم، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} 7. وصيره اسم أبي الجن بعض العلماء، أي في مقابل آدم أبي البشر8. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن كلمة "الجن" من الكلمات المعربة، وذهب بعض آخر إلى إنها عربية9. وأرى إنها من الكلمات السامية القديمة، لأن الإيمان بالجن من العقائد القديمة المعروفة عند قدماء الساميين وعند غير الساميين كذلك. والجن قوم مستترون، وكلمة "جنون" من هذا الأصل، ومن معاني أصل الكلمة الاستتار.
ولم يتوصل الباحثون حتى الآن إلى رأي ثابت في أصل كلمة "الجن". فمنهم من رأى اسم صنم من أصنام العرب القديمة، ومنهم من رأى أنها من أصل
1 تاج العروس "9/ 185"، "حنن".
2 المصدر نفسه.
3 الحيوان "7/ 177"، "هارون""6/ 193".
4 بلوغ الأرب "2/ 351".
5 قال الأعشى سليم:
فما أنا من جن إذا كنت خائفا
…
ولست من النسناس في عنصر البشر
وقال آخر:
أبيت أهوى في شياطين ترن
…
مختلف نجواهم حن وجن
الحيوان "6/ 193".
6 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، روح المعاني "14/ 34 وما بعدها".
7 الرحمن، الآية 74.
8 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، "والجان: أبو الجن.. كما أن آدم أبو البشر"، اللسان "13/ 95 وما بعدها"، "جنن" Reste S 148
9 Ency.، I، P. 1045، Smith، P. 121، Lane، Laxicon، P. 492
أعجمي، ومنهم من وجد لها صلة بالحبشية1. أما علماء العربية، فرأوا أن معنى الكلمة الأصلي هو الاستتار، وأنها من الاجتنان، ولعدم إمكان رؤية ذلك العالم أطلقت عليه كلمة "الجن"2. وتقابل لفظة "الجن" و"جن" لفظة "Demonw" في الإنكليزية.
ويرى "نولدكه" أن فكرة "الجن" فكرة استوردها العرب من الخارج، بدليل قولهم أن الجنة من عمل الجن، ومن تلبس الجن بالإنسان. وهي في نظره عقيدة قديمة دخلت العرب من جيرانهم الشماليين، فقد كان الإيرانيون يطلقون على المجنون لفظة "ديوانه""Devana"، أي جان. ومن هذه الفكرة دخلت العهد الجديد من الكتاب المقدس. ويأتي "نولدكه" بدليل آخر على إثبات نظريته في أن فكرة الجن فكرة مستوردة من الخارج شيوع قصص بناء جن سليمان مدينة "تدمر" بين الجاهليين، وهو قصص ورد من قصة بناء "سليمان" لـ "تامار" في العهد القديم، وتفسير "تامار" بتدمر عند المفسرين العبرانيين3.
ورأى "روبرتسن سمث" وجوه شبه كبير بين فكرة العرب عن الجن وبين فكرة بعض القبائل البدائية عن الحيوانات. إن رأي الجاهليين في الجن في رأيه يشبه رأي المتوحشين الطوطميين في الحيوانات الوحشية. وفي القصص الذي يرويه البدائيون عن الحيوانات الوحشية وعن أرواحها وإمكان إحداثها الأمراض والأذى بالإنسان شبه بهذا القصص المروي عن الحيوانات الوحشية، مما جعله يتصور أن فكرة الجن عند الجاهليين هي تطور لهذه النظرية القديمة التي تكون عند الطوطميين. انتقلت إليهم من عقيدة سابقة تطورت من عهد عبادة الطوطم. وأن الجن "طوطمية" دون أن يكون لها قوم يشعرون بوجود صلة نسب وقربى بها4.
ولكن من الصعب تصور ظهور فكرة الجن عند عرب الجاهلية برمتها من
1 Ency. Religi، I، p. 669، Noldeke، Moallakat، I، 69، 78، Shorter Ency، p. 91. Ency، I، p. 1045.
2 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، اللسان "13/ 95 وما بعدها"، "جنن".
3 Ency. Religi، I، p. 670.
4 Robertson Smith، Marriage، p. 128.
الطوطمية، لأن هناك أمورا عديدة لا يمكن تفسيرها على وفق هذه النظرية. ولكننا نستطيع أن نقول إنها نوع من أنواع1 الـ"Animism". وقد وجدت عند العبرانيين في عهودهم القديمة، كما كانت عند البابليين وغيرهم.
وإذا سكن الجني مع الناس، قالوا: عامر، والجمع عمار، وإن كان ممن يعرض للصبيان، فهم أرواح، فإن خبث أحدهم وتعرم، فهو شيطان. فإن زاد على ذلك، فهو مارد. فإن زاد على ذلك في القوة، فهو عفريت. فإن طهر الجني ونظف ونقي وصار خيرًا كله فهو ملك. وهم في الجملة جن وخوافي2.
لقد لعب الإيمان بالجن عند بعض الجاهليين دورا فاق الدور الذي لعبته الآلهة في مخيلتهم، فنسبوا إليها أعمالا لم ينسبوها إلى الأرباب، وتقربوا إليها لاسترضائها أكثر من تقربهم إلى الآلهة. إنها عناصر مخيفة راعبة. تؤذي من يؤذيها ويلحق به الأذى والأمراض، ولذلك كان استرضاؤها لازما لأمن تلك الآفات. وهذه العقيدة جعلت الجن في الواقع آلهة، بل أكثر سلطة ونفوذا منها، وصيرت عمل الآلهة سهلا يسيرا تجاه الأعمال التي يقوم بها الجن. ولا زال أثر هذه العقيدة باقيا في نفوس الناس حتى الأيام، مع تقليل أهمية عمل الجن على الإنسان في الإسلام.
وليست هذه العقيدة عقيدة أهل الجاهلية حسب، بل هي عقيدة أكثر من اعتقد بأثر الأرواح في العالم وفي عمل الإنسان، إذ صيرتها آلهة مقرها الأرض، أو آلهة من الدرجة الثانية. والغريب أننا نرى بعض الشعوب تخصص أعمال الآلهة الكبيرة بناحية معينة، وتعتبرها آلهة رئيسية كبرى، بينما تجعل عمل الجن عملا واسعا يشمل كل الأرض والإنسان، أي أن عملها أوسع جدا من عمل تلك الألهة وأهم.
وفي القرآن الكريم أن قريشًا جعلت بين الله وبين الجنة نسبا: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} 3، وإنها جعلت الجن شركاء له:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 4. أي جعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم
1 المصدر نفسه.
2 الحيوان "6/ 190 وما بعدها".
3 الصافات، الآية "158.
4 الأنعام، الآية 100.
اياه، وخرقوا له بنين وبنات، وتخرصوا لله كذاب، فافتعلوا له بنين وبنات جهلا وكذابا1. وورد أن الله تزوج الجن، وأن الملائكة هم بناته من هذا الزواج. "قال كبار قريش: الملائكة بنات الله. فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: بنات سراة الجن"2.
ويفهم من القرآن الكريم أيضًا أن من العرب من كان يعبد الجن: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3. وذكر "ابن الكلبي" أن "بني مليح" من خزاعة رهط طلحة الطلحات، كانوا ممن تعبد الجن من الجاهليين4. ويزعمون أن الجن تتراءى لهم5. وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 6. وذكر أن قبائل من العرب عبدت الجن، أو صنفا من الملائكة يقال لهم الجن. ويقولون هم بنات الله7، فأنزل الله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 8.
وليس لدى المفسرين أو أهل الأخبار علم واضح عن كيفية اعتقاد بعض العرب بألوهية الجن وبمصاهرتها للآلهة أو الإله. وما ورد عن ذلك في القرآن، مجمل. والظاهر أن ذاكرة الإخباريين لم تتمكن من حفظ تفاصيل هذه العقيدة والعقائد المماثلة الأخرى، ولا بد وأن تكون لها أسطورة قديمة، يظهر أنها ماتت قبل الإسلام، أو أن المسلمين تركوا روايتها لمعارضتها للإسلام ولأنها كانت في نظرهم خرافة تتعلق بأصنام، فلم يروا الاهتمام بها، وتركوها، ولولا ورود ذكرها مقتضبا في القرآن، فلربما صرنا في جهل تام بأمر تلك العبادة.
ويرى "نولدكه" أن الجاهليين لم يتعبدوا للجن، ولم يتخذوها آلهة على نحو
1 تفسير الطبري "7/ 197".
2 لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي "2/ 81 وما بعدها"، حاشية على تفسير الجلالين.
3 سبأ، الآية 41.
4 الأصنام "34"، الاشتقاق "276".
5 تفسير القرطبي "14/ 309".
6 الأعراف، الآية "193.
7 تفسير الطبري "15/ 72".
8 الإسراء، الرقم "17،الآية 57.
ما نفهم من معنى الآلهة، وأن "عبد الجن"، وإن دل على التعبد للجن، إلا أن هذه التسمية لا تدل حتما على عبادة للجن1.
وتتألف الجن من عشائر وقبائل، تربط بينها رابطة القربى وصلة الرحم. وهي كعشائر وقبائل جزيرة العرب، تتقاتل فيما بينها، ويغزو بعضها بعضًا. ولها أسماء ذكر بعضًا منها أهل الأخبار، كما أن لها ملوكا وحكاما وسادات قبائل. فهي في حياتها تحيا على شكل نظام حياة الجاهليين. وإذا اعتدى معتد على جان انتقمت قبيلته كلها من المعتدي أو المعتدين. وبين قبائل الجن عصبية شديدة، كعصبية القبيلة عند الجاهليين، وهي تراعي حرمة الجوار، وتحفظ الذمم والعقود وتعقد الأحلاف. فنحن إذن أمام حياة جاهلية مستترة غير منظورة، هي حياة جن جاهليين، ومن الجن "بنو غزوان"2، "بنو "غزوان"3.
وقد تتقاتل طوائف من الجن، فيثير قتالها عواصف الغبار، ولذلك فسر الجاهليون حدوث العواصف والزوابع بفعل الجن. ونجد هذه الفكرة فكرة إحداث الجن للرياح والعواصف في المزامير من أسفار التوراة4.
وهم مثل البشر، فيهم الحضر، أهل القرار، وفيهم المتنقلة وهم أعراب الجن، وفيهم من يسير بالنهار، وفيهم من يسير بالليل، وهم "سراة الجن"، و"السراة". قال الشاعر:
أتوا ناري فقلت منون قالوا
…
سراة الجن، قلت: عموا ظلاما5
وللجن كما للإنس ورؤساء وعظماء، نذكر منهم: الشنقناق والشيصبان. وقد ذكر الأول في شعر "بشار بن برد" وفي شعر لأبي النجم، وفي شعر حسن بن ثابت6. و"دحرش" أبو قبيلة من الجن7.
وعقد الجاهليون أحلافا مع الجن على التعاون والتعاضد، فقد ذكر أن قوما
1 Ency. ReIigI I، p. 670
2 اللسان "5/ 89"، "وبنو غزوان، حي من الجن"، "قرر".
3 تاج العروس "10/ 241"،"عزا".
4 المزمور104، الآية الرابعة Reste،S.151
5 تاج العروس "10/ 174"، "سرى".
6 الحيوان "1/ 308"، "6/ 228، 231"، ثمار القلوب "55".
7 تاج العروس "4/ 310"، "دحرش".
من العرب، كانوا قد تحالفوا مع قوم من الجن من "بني مالك بن أقيش"1.
ويذكر الرواة قصصًا عن الجن مع الإنسان. يذكرون أن "تأبط شرا" رفع كبشا تحت إبطه، وأخذه معه إلى الحي، فصار يبول عليه في الطريق، حتى إذا قرب من مكانه، ثقل عليه، فرمى به، فإذا هو الغول2. ويذكرون أن ابن امرأة من الجن أراد الحج في الجاهلية، فخافت عليه أمه من سفهاء قريش، ولكنه ألح عليها بأن تسمح له بالذهاب. فلما أكمل الطواف، وصار ببعض دور بني سهم، عرض له شاب منهم فقتله، فثارت غيرة شديدة بمكة، ومات من بني سهم خلق كثير قتلهم الجن انتقاما منهم لمقتل الجان، فنهضت بنو سهم وحلفاؤها ومواليها وعبيدها، فركبوا الجبال والشعاب بالثنية، فما تركوا حية ولا عقربا ولا عظاية ولا خنساء ولا شيئًا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه، حتى ضجع الجن، فصاح صائحهم من على أبي قبيس يطلب وساطة قريش بينهم وبين بني سهم الذين قتلوا منهم أضاف ما قتله الجن من بني سهم، قتوسطت قريش، وأنهي النزاع، وتغلب بنو سهم على الجن3.
والجن مثل البشر، يعتدون كذلك، ولا يردعهم من اعتدائهم إلا بالقوة. هذا رجل من "بني سهم" يقص علينا في الإسلام إنه كان بـ "تبالة" يراجع نخلا له، وبين يديه جارية له، فصرعت، فأدرك أن الجن هم الذين صرعوها، فوقف عليها قائلا: يا معشر الجن! أنا رجل من بني سهم، وقد علمتم ما كان بيننا وبينكم في الجاهلية من الحرب وما صرنا إليه من الصلح والعهد والميثاق أن لا يغدر بعضنا ببعض، ولا يعود إلى مكروه صاحبه، فإن وفيتم وفينا، وإن غدرتم عدنا إلى ما تعرفون. فخافت الجن من هذا التهديد، وأفاقت الجارية، ولم يصبها بعد ذلك مكروه4.
وذهب الجاهليون إلى جواز قتل الجن للإنسان. وقد بقي هذا الاعتقاد
1 الطبري "2/ 349"،"دار المعارف".
2 الأغاني "18/ 210 وما بعدها".
3 الأزرقي "2/ 11 وما بعدها"،"المطبعة الماجدية بمكة".
4 الأزرقي "2/ 12 وما بعدها".
في الإسلام. فلما قتل "سعد بن عبادة بن دليم"، زعم أن الجن قتلته1. ولما قتل المغني المعروف "الغريض"، وهو من الموالي، وكان نشأ خياطا ثم أخذ الغناء بمكة عن "ابن سريج"، زعم أن الجن نهته أن يغني لحنه الذي يقول فيه:
تشرب لون الرازقي بياضه
…
أو الزعفران خالط الملك رادعه
فلما لم ينته قتلته الجن في ذلك خنقا2.
وزعم أن الجن خنقت "حرب بن أمية"، وقالت الجن في ذلك شعرا3. وقتلت "مرداس بن أبي عامر"، أبا "عباس بن مرداس"، واستهوت "سنان بن حارثة"، ليستفحلوه، فمات فيهم. واستهووا "طالب بن أبي طالب"، فلم يعثر أهله له على أثر، واستهووا "عمرو بن عدي" اللخمي الملك، ثم ردوه على خاله "جذيمة بن الأبرش"، بعد سنين وسنين. واستهووا "عمار بن الوليد بن المغيرة"، ونفخوا في أحليه؛ فصار مع الوحش4.
ويروي أهل الأخبار أن الجن تتصادق مع الإنسان وتتباغض معه، وقد تقتله، ورووا في ذلك قصصًا، وذكروا أنها قد تتألم لوفاة رجل طيب أو شهير محبوب. وقد تعطف على المحتاجين والمعوزين. وفي جملة ما قالوه عن الجن أن "أبا هالة" كان قد خرج في الجاهلية في عير لقريش يريد الشام، فنزل واديا يقال له:"عز"، وانتبه آخر الليل فإذا شيخ قائم على صخرة، وهو ينشد شعرا في رثاء عبد الله بن جدعان، وكان ذلك الشيخ جان من الجن. وقد ذكر أهل الأخبار محاورة من الشعر قالوا إنها جرت بين "أبي هالة"، وبين ذلك الشيخ
1 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 373"، المعارف 112، الحيوان "6/ 209"، الاشتقاق"456". وسمعوا الهاتف يقول:
قد قتلنا سيد الخزر
…
ج سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين
…
فلم نخط فؤاده
الحيوان "6/ 209"، "هارون"، "1/ 308".
2 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 373"، الأغاني "2/ 136، 143"، الحيوان "6/ 208""، "هارون" الحيوان "1/ 307".
3 الحيوان "1/ 302"، "هارون". وقالت الجن:
وقبر حرب بمكان قفر
…
وليس قرب قبر حرب قبر
الحيوان "6/ 207"، "هارون".
4 الحيوان "6/ 209 وما بعدها"، "هارون"
الجني الذي عين وقت وفاة "عبد الله بن جدعان"، وثبته بالضبط، فكان كما قال1.
وقد يقع الحب بين الجن والإنس. فقد ذكر أن الجنية قد تتبع الرجل تحبه، ويقال لها: تابعة. ومن ذلك قولهم: معه تابعة، أي من الجنن والتابعة جنية تتبع الإنسان. كما يكون للمرأة تابع من الجن، يتبع المرأة يحبها2. وقد يعشق الجني امرأة ويتصادق معها. هذا "منظور" الجني، عشق امرأة اسمها "حبة"، وتصادق معها، فكانت "حبة" تتطبب بما يعلمها منظور3.
وقد يسرق الجن الأطفال والرجال والنساء، وللأخباريين قصص يروونه في ذلك. وينسب فقدان الأشخاص في البوادي إلى الجن في الغالب. غير إنها قد تنفع الناس أيضًا، لأن من الجن من هو طيب النفس، مفيد نافع، ولا سيما إذا ما تقرب إليها الإنسان وأحسن إليها. رأى الشاعر عبيد بن الأبرص حية، فسقاها. فلما ضل جمل له وتاه، نادى هاتف بصوت مسموع سمعه عبيد بن الأبرص مشيرا إلى الموضع الذي ذهب الجمل إليه. فذهب عبيد إلى المكان، وجاء بمجملة4. وكان هذا لهاتف هو صوت الحية التي هي جان من الجن.
وقد يتصاهر الإنسان مع الجن، فقد كان لعمرو بن يربوع بن حنظلة التميمي زوج من الجن: ولكنها لم تبق معه، بل اختفت بعد ذلك عند ظهور البرق5. ونسبت بعض الأسر والقبائل مثل "بني مالك"، و"بني شيصيان"، و"بني يربوع بن حنظلة" وعرفوا ببي السعلاة إلى الجن6. ونسب بعض الإخباريين نسب بلقيس وذي القرنين إلى الجن7. وذكر أيضًا أن زوج "عمرو بن يربوع التميمي" كانت سعلاة، أقامت مع زوجها في "بني تميم": فلما رأت برقا يلمع من شق بلاد السعالي، حنت وطارت إليهم، فقال شاعرهم:
1 الاشتقاق "ص88 وما بعدها".
2 اللسان "8/ 29"، تبع".
3 تاج العروس "1/ 198"، "حب".
4 الأساطير العربية "79"، Reste، 154 ff.
5 الحماسة "1/ 561"، "طبعة فرايتاغ"، بلوغ الأرب "2/ 340"، الحيوان "1/ 185 وما بعدها، 188"، "هارون". Reste، S 154.
6 الأساطير العربية "75".
7 بلوغ الأرب "2/ 349"، الحيوان "1/ 180 وما بعدها".
رأى برقا فأوضع فوق بكر
…
فلا بك ما أسأل وما أغاما1
وفي ذلك قال "علباء بن أرقم":
يا قاتل الله بني السعلاة
…
عمرو بن يربوع شرار النات2
وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع زواج الإنس بالجن وبالعكس، أي زواج الجن بالإنس. وتعرض لقول من قال إن "بلقيس" كانت من امرأة جنية. وذكر آراء الناس في هذا الزواج المختلط، الذي شك في إمكان انجاب نسل منه. وقال:"وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية والقحطانية، ونقرؤه في كتب السيرة، قص به القصاص، وسمروا به عند الملوك"3. وقد كان لأهل اليمن قصص وأساطير، بدليل ما نلاحظه من أن معظم رواة القصص القديم كانوا من أهل اليمن في صدر الإسلام. ويظهر أنهم حذقوا به وتفوقوا به على بقية العرب الذين نسميهم العدنانيين بسبب دخول كثير منهم في اليهودية وفي النصرانية وشرائهم الكتب، وفيها قصص من قصص أهل الكتاب والأساطير القديمة، فمزوجوه مع ما كان لهم من قصص وثني قديم.
وقد أطلق "الجاحظ" على قول الناس بزواج الإنس بالجن وبالعكس "الزواج المركب"، وأشار إلى قول الشاعر علباء بن أرقم:
يا قاتل الله بني السعلاة
…
عمرا وقابوسا شرار النات
إنه الدليل على أن السعلاة تلد الناس. هذا سوى ما قالوا في الشق وواق واق ودوال باي وفي الناس والنسناس4.
وذكر أيضًا أن أعراب بني مرة تزعم أن الجن استهوت سنانا بي أبي حارثة المري، وهو والد هرم بن سنان، لتستفحله إذ كان منجبًا، وكان سنان قد
1 الحيوان "1/ 186"، "هارون"، "6/ 197".
2 الحيوان "6/ 161"، اللسان "2/ 407"، نوادر أبي زيد "104، 147"، المخصص "3/ 26""13/ 283"، الأمالي، للقالي "2/ 68"، محاضرات الراغب "2/ 281"، الخصائص "451"، الفصول والغايات "210".
3 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 371".
4 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 374"، الحيوان "1/ 189". "هارون".
هام على وجهه1.
وقد وجه الإنسان جميع مواهبه منذ أقدم أيامه لتسخير عالم الأرواح، وجعله في خدمته وتحت تصرفه، أو لتحويله بحسب رغباته، وتجنب ضرره وأذاه. قام بذلك رجال الدين خاصة، ورجال الدين بحكم اتصالهم بالآلهة وبالعالم غير المنظور، هم خلفاء الآلهة على وجه الأرض، وألسنة الأرواح الناطقة بين الناس. فكانوا حكاما ورجال دين وسحرة وأطباء وعلماء، كما قام بذلك المنجمون والسحرة والكهان وغيرهم ممن تكهن وتحدث عن الغيب، وأظهر أن في قدرته التأثير على حياة الإنسان ونفعه وضره بالاستعانة بعالم الأرواح وبما عنده من قدرات خارقة في إمكانها اختراق حجب الأسرار والتحكم في العالم الخفي لتحويله إلى صالح إنسان إلى إلى الاضرار به.
وليس الجاهليون بدعا في هذه الأمور، بل كان غيرهم من الشعوب كالعبرانيين والبابليين والأغريق والرومان والمصريين والهنود وكل الشعوب الأخرى تعتقد بذلك. ولها رجال ادعوا العلم.
وقد كان الجاهليون يعلقون الحلي والجلاجل على "اللديغ"، يفعلون ذلك لاعتقادهم إنه يفيق بذلك، فلا تنام، ولو نام، سرى السم في جسمه، فمات. وذهب بعضهم إلى أن تعليق الحلي على اللديغ يبرئه من أمله. أما إذا علق الرصاص عليه، أو حلي به، فإنه يموت2.
وتقوم الجن بأعمالها بشكل غير منظور في الغالب، لأنها أرواح. وهي قد تحذر الإنسان أو ترشده إلى شيء يريده بصوت جمهوري مسموع، يقال له: الهاتف، دون أن يرى الشخص أو الأشخاص صاحب ذلك الصوت. وهي تنبئ عن المستقبل كما تتحدث عن الماضي3. وقد ذكر "الجاحظ" أن "الأعراب وأشباه الأعراب لا يتحاشون عن الإيمان بالهاتف، بلد يتعجبون ممن رد ذلك". ثم قال: "قالو: ولنقل الجن الأخبار علم الناس بوفاة الملوك، والأمور المهمة، كما تسامعوا بموت المنصور بالبصرة وفي اليوم الذي توفي فيه بقرب مكة. وهذا الباب أيضًا كثير"4.
1 المصدر نفسه "ص375"، الحيوان "7/ 24"، الميداني "1/ 202".
2 بلوغ الأرب "2/ 304".
3 الحيوان "6/ 202".
4 الحيوان "6/ 202 وما بعدها".
والجن وإن كانت من الأرواح، أي أنها غير منظورة، إلا أن في استطاعتها أن تتجسم متى شاءت. فتظهر على هيئة جسم من الأجسام. إذ أن للجن قدرة على التشكل بالشكل الذي تريده، تظهر في صورة حيوان أو في صورة إنسان أو غير ذلك. ومن هنا نجد قصص مصاهرة الإنسان للجن، وظهور نسل وأسر من هذا الزواج. وفي استطاعتها أيضًا تغيير الشكل الذي ظهرت به بشكل آخر حيث تشاء1. كما ورد ذلك في قصة الشاعر "تأبط شرا" والكبش الذي حمله، بينما هو جني. ومن هنا تختلف طبيعتها عن طبيعة البشر والحيوان.
وقد تتمثل الجن في صور حيوانات مشعرة، أي ذات شعر كثيف. فالجن عند الشعوب السامية ذات شعر كثيف، لذلك قيل لها "سعريم""Sa،hirim" في العبرانية. وهي تختار الأماكن الموحشة المقفرة في الظلام، مثل رهبان الليل "ليليت" LiIith"، وتذهب مع الحيوانات التي تنفر من الإنسان مثل النعامة2.
وفي الأساطير الجاهلية أن البقر إذا أوردت "فلم ترد، ضربوا الثور ليقتحم الماء، فتقتحم البقر بعده، ويقولون إن الجن تصد البقر عن الماء، وأن الشيطان يركب قرني الثور"3. وقد ذكرت هذه الأسطورة في أشعار جاهلية، يظهر من نقدها ودراستها إنها من آثار العقائد الجاهلية في الجن. وقد اتخذت مثلا لمن ينزل عليه يركب قرني الثور، هو الذي جعلهم يتصورون أن الثور يتقدم البقر في شرب الماء، ذلك لأن الشيطان ركب قرنيه، فلا يخشى الثور إذن من الجن، والشيطان أخبث أنواع الجن وأذكاها. فتخافه الجن، وتفسخ المجال للبقر في ورود الماء. أما ضرب الثور لتوجيهه إلى الماء، فلأجل أن الشيطان ركب قرنيه، فبضربه وبتقدمه الشيطان نحو الماء فتخافه الجن وتفزع منه، وتسمح للبقر بورود الماء، ولهذا ضرب، ليستفيد بذلك غيره4.
1 Robertson Smith، Lectures on the Religion of the Semite، p. 120.
2 Robertson، p. 120، B.C. Thompson، Semitic Magic، London، 19089، p. 57.
3 قال الأعشى:
لكالثور والجني يضرب وجهه
…
وما ذنبه إن عافت الماء باقر
ولغيره:
إني وقتلى سليكا حين أعقله
…
كالثور يضرب لما عافت البقر
4 بلوغ الأرب "2/ 303 وما بعدها".
وأهم مواطن الجن في نظر الجاهليين، هي المواضع الموحشة، والأماكن المقفرة التي لا تطرق إلا نادرا والمحلات التي لا تلائم الصحة، والمقابر والأماكن المظلمة والمهجورة. ففي مثل هذه المواطن تنزل الجن، وتفضل الإقامة بها، وسبب ذلك، هو أن الإنسان يخشى هذه المواضع، ويحس بشيء من الخوف والوحشة من الدخول إليها، فقد يتعرض فيها إلى التهلكة، فأوحى هذا الأحساس إليه أنها "مسكونة"، وأن سكانها هم الجن. وأنهم قد يتعرضون له بسوء إن لم يعرف كيف يسلك سلوكان طيبا معها، ولذلك صار يتحاشى ولوج هذه المواضع، لا سيما في الليالي المظلمة، وإذا دخلها مضطرا، تخيل الأشباح والأرواح وهي تلعب به كيف تشاء، وتحوم حوله. ومن هنا ظهر عنده القصص المروي عن مواطن الجن.
وسكنت الجن المواضع المظلمة والفجوات العميقة فيها وباطن الأرض، ولذلك قيل لها: ساكنوا الأرض. كما سكنت المقابر1. والمقابر هي من المواضع الرئيسية المهمة المأهولة بالجن. ولذلك يخشى كثير من الناس ارتيادها ليلا. وهي لا بد أن تكون على هذه الصفة، فهي مواطن الموتى، وأرواح الموتى تطوف على القبور، والموت نفسه شيء مخيف، والجن أنفسها أرواح مخيفة، فهل يوجد موضع أنسب من هذا الوضع لسكن الجن؟
وتزعم الأعراب أن الجن سكنت "وبار". وحمتها من كل من أرادها؛ وهي بلاد من أخصب بلاد العرب، وأكثرها شجرا، وأطيبها ثمرا، وأكثرها حبا وعنبا. فإن دنا إنسان من تلك البلاد، متعمدا أو غالطا، حثوا في وجهه التراب، فإن أبى الرجوع خبلوه، وربما قتلوه. فليس في تلك البلاد إلا الجن، والإبل الحوشية2.
وقد زعم أن "يبرين" من مواطن الجن. وكانت في الأصل مواضع عاد. فلما هلكت، سكنتها قبائل الجن. وقد روى أهل الأخبار قصصًا عنها وعن اتصالها بالإنسان. وزعم بعض منهم أن "النسناس"، هم قوم من الجن3.
1 Reste S 151
2 الحيوان "6/ 215 وما بعدها".
3 تاج العروس "4/ 257"، "نس".
وقد ورد مثل هذه الأقوال عن مواضع أخرى كانت عامرة آهلة، ثم أقفرت، مثل الحجر موضع ديار ثمود1، مما يدل على أن من اعتقادات العرب قبل الإسلام هو أن المواضع التي تصيبها الكوارث تكون بعد هلال أصحابها مواطن للجن. ونجد مثل هذه الأساطير عند العبرانيين وعند غيرهم من الشعوب2.
وأشير في شعر "لبيد" إلى "جن البدي". قيل: "والبدي: البادية، أو موضع بعينه" وقيل واد لبني عامر3. وأشار "النابعة" إلى "جنة البقار". وذكر أن البقار واد، أو رملة، أو جبل، سكنته الجن، فنسبت إليه4. وأشير إلى "جنة عبقر" في شعر "زهير" و"لبيد" و"حاتم"5. وعبقر أرض بالبادية كثيرة الجن، وذكر بعضهم إنها باليمن6، قال لبيد:
ومن فاد من إخوانهم وبنيهم
…
كهول وشبان كجنة عبقر
وقال بعض العلماء: عبقر قرية الجن فيما زعموا، فكلما رأوا شيئًا فانقا غريبا مما يصعب عمله ويدق أو شيئًا عظيمًا في نفسه نسبوه إليها. ولهذا قالوا: العبقري للسيد الكامل من كل شيء، وللذكي الممتاز7.
والمواضع المذكورة هي المواضع المفضلة المختارة لسكنى الجن. غير أن مواطن الجن غير محدودة ولا معينة، إنها تسكن كل موضع ومكان، حتى بيوت الناس لا تخلو منها، بل حتى البحار والسماء لا تخلو منها كذلك، فدولتها إذن على هذا الوصف أوسع من دولة الإنسان. وعلى من سكنت الجن بيته ألا يمسها بأذى ولا يلحق بها أي سوء، وأن يقوم بترضيتها بالبخور وبما شاكل ذلك مما تحبه الجن، وإلا أساءت إليه، وجعلت بيته مؤذيا شؤما، لا يرى من يسكن فيه أي خير.
1 Reste، S. 150
2 Robertson، p. 120
3 الحيوان "6/ 189"، "هارون".
4 الحيوان "6/ 189"، اللسان "6/ 47"، "12/ 330".
5 الحيوان "6/ 189"، اللسان "6/ 209"، البلدان "6/ 113"، ثمار القلوب "188".
6 تاج العروس "3/ 379"، "عبقر"، اللسان "4/ 53
7 تاج العروس "/ 379"، "عبقر".
وكان الرجل في الجاهلية إذا اطرف دارا ذبح فيها ذبيحة، يتقي بها أذى الجن، لاعتقادهم أن في كل دار جنا يقيمون بها فلترضيتهم وللتقرب إليهم، يذبحون ذبيحة عرفت عندهم بـ "ذبائن الجن"1. ولا تزال عادة الناس ذبح ذبيحة عند الابتداء ببناء دار، وعند الانتقال إليها. وكانوا أيضًا يذبحون ذبيحة عند استخراجهم عينا، أو شرائهم دارا، أو بنياتهم بنيانا، مخافة أن تصيبهم الجن، فأضيفت الذبائح إليهم لذلك. وقد نهى النبي عن ذبائح الجن2.
وكان في اعتقادهم أن الأماكن المذكورة مليئة بالجن، لذلك كانوا يستجيرون برجال من الجن في أسفارهم، إذا نزلوا منازلهم، يقولون: نعوذ بأعز أهل هذا المكان، أو إني أعوذ بكبير هذا الوادي. وإلى ذلك أشير في القرآ الكريم:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 3. روي عن "حجاج بن علاط السلمي"، "إنه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخوف موحش، فقال له الركب: قم خذ لنفسك أمانا ولأصحابك، فجعل يطوف بالركب ويقول:
أعيذ نفسي وأعيذ صحبي
…
من كل جني بهذا النقب
حتى أأوب سالما وركبي4
فوصل وركبه سالما إلى مكة دون أن يمسه أو أن يمس من كان معه من الركب أحد بسوء5.
وروي أن الرجل منهم كان إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل عمد إلى واد ذي شجر فأناخ راحلته في قرارته وهي القاع المستديرة وعقلها وخط عليها خطا ثم قال: "أعوذ بصاحب هذا الوادي. وربما قال بعظيم هذا الوادي"6. قال أحدهم:
1 اللسان "13/ 213"، "سكن".
2 اللسان "2/ 437"، "ذبح".
3 سورة الجن، رقم 72، الآية 6، تفسير الطبري "29/ 67 وما بعدها".
4 الروض الأنف "1/ 136".
5 الروض الأنف "1/ 136"، الإصابة "1/ 312"، "1622".
6 بلوغ الأرب "2/ 325".
قد بت ضيفا لعظيم الوادي
…
المانعي من سطوة الأعادي
راحلتي في جاره وزادي
وقالوا إنهم كانوا في الجاهلية إذا نزلوا منزلا يقولون: نعوذ بأعز أهل هذا المكان. يقولون ذلك عند نزولهم واديا في الغالب إذ نجد الرواة يكررون عبارة: "كانوا إذا نزلوا الوادي، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي"، أو "بعزيز هذا الوادي"2. ويظهر أنهم تخوفوا من الوديان خاصة، لما قد يقع فيها من مهالك، فنسبوا ذلك إلى فعل الجن.
وقال آخر يستجير بجن "عالج" ويتوسل إليهم ألا يرهقوه بغوي هائج، إذ يقول:
يا جن أجزاء اللوى من عالج
…
عاذ بكم ساري الظلام الدالج
لا ترهقوه بغوي هائج
وقال آخر:
أعوذ من شر البلاد البيد
…
بسيد معظم مجيد
أصبح يأوي بلوى زرود
…
ذي عزة وكاهل شديد
وقد استعاذ رجل منهم ومعه ولد، فأكله الأسد فقال:
قد استعذنا بعظيم الوادي
…
من شر ما فيه من الأعادي
فلم يجرنا من هزبر عادي3
وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يرون أن الجن تعزف في المفاوز بالليل. والعزف والعزيف صوت الجن، وهو جرس يسمع بالمفاوز. وهو صوت يسمع بالليل كالطبل. وروي عن "ابن عباس" قوله:"كانت الجن تعزف بالليل كله بين الصفا والمروة"4. وقد اشتهر موضع "العزاف"، وقيل "ابرق
1 بلوغ الأرب "2/ 326".
2 تفسير الطبري "29/ 68 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "2/ 326".
4 تاج العروس "6/ 197"، "عزف".
العزاف" بأنه موضع يسمع به عزيف الجن1.
وقد مون القصص الإسرائيلي أهل الجاهلية بشيء مما كان ينقصهم من أساطير الجن، وتوسع وزاد هذا القصص في الإسلام، حتى تولد منه هذا الذي نجده مدونا عن أخبار الجن في المؤلفات الإسلامية.
وتخبر الجن الإنسان تقع في مواضع بعيدة، وهو لا يعلم عنها شيئًا. فلما "هبط نباش بن زرارة بن وقدان"، زوج "خدييجة بنت خويلد" قبل النبي، واديا يقال له "عز"، انتبه في آخر الليل، فإذا شيخ قائم على صخرة، وهو يقول:
ألا هلك السيال غيث بني فهر
…
وذو العز والباع القديم وذو الفخر
فقال له نباش:
ألا أيها الناعي أخا الجود والفخر
…
من المرء تنعاه لها من بني فهر
وبقيا يقولان الأبيات، حتى أخبره الشيخ بوفاة "عبد الله بن جدعان" في وقت حدده وضبطه له. فلما وصل مكة، علم بوفاته على نحو ما أخبره به ذلك الشيخ. وهو جني من الجن، ينظم الشعر، وقد رثى "ابن جدعان"2.
ونجد في شعر الشعراء الجاهليين أمثال "أمية بي أبي الصلت" و"الأعشى" إشارات إلى الجن. وهم من أهل الجاهلية الذين كان لهم اتصال بأهل الكتاب وبكتبهم، وقد زعم أن بعضًا منهم كان قد قرأ تلك الكتب ووقف على العبرانية أو السريانية. ولهذا ورد في شعرهم شيء من قصص أهل الكتاب. وفي جملته ما ذكرته من إشاراتهم إلى الجن. وتراهم يربطون بينها وبين "سليمان". أخذوا ذلك ولا شك من الأساطير العبرانية، التي صيرت الجن في خدمة "سليمان".
نجد الأعشى يقول:
وسخر من جن الملائك تسعة
…
قياما لديه يعملون محاربا
1 تاج العروس "6/ 197، 287"، "برق".
2 الاشتقاق "88 وما بعدها".
قصد بذلك "سليمان"1. ونجد أن في جملة ما نسب عمله إلى جن سليمان بعض المواضع مثل تدمر وقصر غمدان.
وقال النابغة الذبياني:
إلا سليمان إذ قال الإله له
…
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
…
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
فمن عصاك فاقبه معاقبة
…
تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد2
وفي هذا الشعر إن صح أنه من نظم النابغة حقًّا، دلالة على تأثر الشاعر بالأسطورة اليهودية عن "تامار"، وعن جن سليما.
ونسبوا السيوف المأثورة إلى جن وشياطين "سليمان". ونسبوا إليه وإليهم أشياء عديدة أخرى3.
وقد ادعى إناس من الجاهليين إنهم كانوا يرون الغيلان والجن، ويسمعون عزيف الجان، أي صوت الجن. وقد بالغ الأعراب في ذلك، وأغربوا في قصص الجان، لما كانوا يتوهمونه من ظهور الأشباح لهم في تجوالهم بالفيافي المقفرة الخالية، فتصوروه جنا وغولا وسعالى، وبالغوا في ذلك أيضًا، لما وجدوه في أهل الحضر ولا سيما في الإسلام من ميل إلى سماع قصص الجان والسعالى والغول4. وقالوا إنهم ربما نزلوا بجمع كثير، ورأوا خياما، وقبابا، وناسا، ثم إذا بهم يفقدونهم من ساعتهم، وذلك لأنهم من الجن5.
ونسبوا إلى الجن إحداث كثير من الأمور غير الطبيعية، مثل الأمراض والأوبئة والصرع والاستهواء والجنون خاصة. فالجنون هو تلبس الجن بالإنسان ودخولهم جسمه. لذلك ربطوا بين الجن والجنون. ويرى "نولدكه" أن فكرة أن الجنو من عمل الجن، عقيدة قديمة وجدت عند غير العرب كذلك. فقد كان الإيرانيون
1 تاج العروس "9/ 165"، "جن".
وسخر من جن الملائك تسعة
…
قياما لديه يعملون بلا أجر
اللسان "13/ 97"، "جنن".
2 الحيوان "6/ 223".
3 الحيوان "6/ 178".
4 الحيوان "6/ 172" وما بعدها، 182".
5 الحيوان "6/ 200"، "هارون".
يطلقون على المجنو لفظة "ديوانه""Devana"، أي الذي به "ديو""Dev" من الأصل "ديوه""Daiva"، ومعناها "Demon" أي جان. ومن هذه الفكرة دخلت في العهد الجيد من الكتاب المقدس. ومن الفارسية دخلت "ديوان" Daiwan" في الإرمية بينما دخلت إلى الفارسية كلمة "شدها" Shedha" من أصل "شدهان""Shedhan" الإرمي واستعملت في مقابل "Deo" أي جان و"شيده""Shedh" في الإرمية الجان1.
وهم يزعمون أن الجن إذا عشقت إنسانا صرعته، ويكون ذلك على طريق العشق والهوى، وشهوة النكاح. وأن الشيطان يعشق المرأ’، وأن نصرته إليها من طريق العجب بها أشد عليها من حمى أيام، وأن عين الجان أشد من عين الإنسان2.
والعرب تزعم أن الطاعون من الجن، ويسمون الطاعون رماح الجن. قال الأسدي للحارث الملك الغساني:
لعمرك ما خشيت على أبي
…
رماح بني مقيدة الحمار
ولكني خشيت على أبي
…
رماح الجن أو إياك حار3
وللجن حوار مع الإنس وكلام نجده منثورا كما نجده منظوما في شعر ينسب إلى الشعراء الجاهليين. ويروي الإخباريون شعرا ينسبونه إلى "جذع بن سنان" ورد فيه وصف ملاقاته للجن ومحاورته معها ودعوته إياها إلى الطعام وامتاعها عن الأكل، كما رووا شعرا لغيره يصف ملاقاة بين الجن وبين أصحاب هذا الشعر4. وهو قصص لم يبخل على الجن فأعطاها شعرا من هذا الشعر الجاهلي الفصيح! وقد سخر "الخيتعور" أحد "بني الشيصبان" من الجن من الأشعار التي جمعها "المرزباني" "المتوفى سنة 384هـ"، من شعر الشعراء الجن، فما هذا الذي جمعه إلا قطعه من شعرهم، وهل يعرف البشر من النظم كما يعرف الجن.
1 Ency. ReIig، I، p. 670
2 الحيوان "6/ 217 وما بعدها".
3 الحيوان "6/ 219".
4 بلوغ الأرب "2/ 350 وما بعدها".