الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التطاول على الحرم، أي على هذا الحمى، بقطع شجره وتحويل أرضه إلى بناء، أو بإبقاء بعض أشجاره في داخل الدور، بقوا ينظرون إلى ذلك الشجر الباقي في البيوت نظرة هيبة وتقدير، باعتبار أنه من بقايا الحرم القديم. وبذلك صغرت مساحة الحرم، وقلت مساحته، حتى اضطر الخليفة "عمر" إلى توسيعه بشراء البيوت التي أقامها الناس عليه وإدخالها في الحرم من جديد، وذلك حين ضيق الناس على الكعبة وألصقوا دورهم بها، فقال:"إن الكعبة بيت الله، ولابد للبيت من فناء، وأنكم دخلتم عليها ولم تدخل عليكم"، فاشترى بعض الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها، ثم اشترى عثمان دورًا أخرى وأغلى في ثمنها1 ثم زاد في المسجد من جاء بعدهما حتى وصل إلى النحو الذي هو عليه الآن.
ولم يكن للحرم في الجاهلية سور، إنما كانت تحدد معالمه وحدوده أنصاب نصبت على أطرافه. لتكون علامة على ابتدائه وانتهائه. أما ما نراه في الوقت الحاضر من وجود سور مرتفع له، أي حائط به غرف، فإنه مما حدث في الإسلام. وذكر أهل الأخبار أن الحرم قد ضرب على حدوده بالمنار القديمة التي بَيَّنَ إبراهيم مشاعرها، وكانت قريش تعرفها في الجاهلية والإسلام، لأنهم كانوا سكان الحرم، ويعلمون أن ما دون المنار إلى مكة من الحرم، وما وراءها ليس من الحرم. فما كان دون المنار، فهو حرم لا يحل صيده ولا يقطع شجره، وما كان وراء المنار، فهو من الحل يحل صيده، إذا لم يكن صائده محرمًا2.
1 الروض الأنف "1/ 129 وما بعدها".
2 تاج العروس "8/ 239"، "حرم"، اللسان "12/ 122"، "حرم".
الكسوة:
وكسوة البيت عادة قديمة، كان يقوم بها الجاهليون. ينسبها الإخباريون إلى "تبع أسعد الحميري"، فيذكرون أنه كساها بالأنطاع، ثم كساها بثياب جدة من عصب اليمن، أغلى ثياب معروفة في تلك الأوقات1. ولا يستبعد أن يكون الإكساء من بقايا المنشأ القديم للبيت، حيث كان خيمة في الأصل. وقد
1 الأزرقي "1/ 165"، الروض الأنف "1/ 24".
ورد في الأخبار أنه كان في موضع البيت خيمة قبل أن تكون الكعبة1. وكذلك كان معبد بني إسرائيل خيمة في الأصل قبل أن يبنى الهيكل.
ويذكرون أن التبع الذي كسا البيت، هو التبع الذي أتى به "مالك بن عجلان" إلى يثرب لطرد اليهود عنها. وذكروا أن ذلك التبع هو "أسعد أبو كرب الحميري"2. وقد كساها الوصايل، ثياب حيرة من عصب اليمن. وكانت الكعبة تكسى بالحبرة والبرود وغيرها من عصب اليمن، تكسى بها ويوضع ما يفضل منها في خزانة الكعبة. فإذا تمزقت الكسوة، تستبدل بكسوة أخرى تؤخذ من الخزانة. تكسى من الداخل والخارج، وتطيب بالحلوق وتبخر بالمجامر3.
وقد سبق لي أن تحدثت عن "التبع أسعد"، وذكرت ما قاله رواة الأخبار عنه، وما جاء عنه في نصوص المسند. وكان قد علق في ذاكرة أهل الأخبار أشياء عنه وعن بعض من جاء بعده، زوقت ونمقت. على طريقتهم في رواية أكثر أخبار اليمن. ولعل ما ذكروه عن إكسائه البيت، هو من مصنوعاتهم التي وضعوها في الإسلام ليجعلوا لأهل اليمن فضلًا على الكعبة، فضل يسبق فضل العدنانيين عليها، وقد رأينا أنهم أوجدوا لهم جملة أنبياء نسبوهم إلى قحطان، ووضعوا أشياء أخرى كثيرة، في إظهار فضل القحطانيين على الإسماعيليين المتعربين يوم فات الحكم من قحطان وصار في أهل مكة في الإسلام. فكان النزاع القحطاني العدناني المعروف.
ولو جارينا أهل الأخبار، وأخذنا بروايتهم في أن التبع "أسعد أبو كرب الحميري"، كان أول من كسا الكعبة، نكون قد رجعنا بمبدأ تاريخ إكساء الكعبة إلى نهاية القرن الرابع وأوائل القرن الخامس للميلاد. وقد سبق أن تحدثت عن هذا الملك في الجزء الثاني من هذا الكتاب4.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن كسوة الكعبة لم تكن كسوة واحدة، ولا من نسيج واحد، بل كانت أنطاعًا، أي أبسطة من أدم، وحبرة وبرودًا، وغيرها من عصب اليمن. وهي برود يمنية يعصب غزلها ثم يصبغ وينسج، فيأتي
1 الأزرقي "1/ 6""ذكر هبوط آدم إلى الأرض".
2 البلدان "4/ 463".
3 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 173 وما بعدها".
4 "ص 569 فما بعدها".
موشى، وقيل هي برود مخططة1. وذكر أن النبي كساها الثياب اليمانية، وأن عمر وعثمان كسواها بالقباطي2.
وذكر أن أول من كسا البيت الحرير "نتيلة بنت جناب بن كليب" وهي من "بني عامر" المعروف بالضحيان، وكان من ملوك ربيعة. وكان العباس بن عبد المطلب ابنها، قد ضاع وهو صغير، فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فكسته، فهي أول من كساه ذلك3. وقيل أول من كسا البيت الديباج خالد بن جعفر بن كلاب. أخذ لطيمة من البر وأخذ فيها أنماطًا فعلقها على الكعبة4.
وروي أنهم كانوا يكسون الكعبة يوم "عاشوراء"، وذكر أن "بني هاشم" كانوا يكسونها يوم التروية بالديباج، لتظهر في أحسن حال، ويراها الناس على ذلك. أما إذا حل يوم عاشوراء، فأنهم يعلقون الأزار عليها. وورد أنهم كانوا يكسون الكعبة بالديباج يوم التروية، فيعلق عليها القميص ولا يخاط، حتى إذا ما انصرف الناس من "منى" خيط وترك الإزار، ثم تكسي بالقباطي يوم عاشوراء، ويعلق عليها الإزار، ويوصل الديباج5.
ولا نستبعد احتمال كون يوم "عاشوراء" من الأيام التي كانت لها حرمة وقدسية عند أهل الجاهلية، وإن كنا نجهل كل شيء عنه وعن سبب احتفال أهل مكة به، وصومهم فيه. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى احتمال تأثر قريش بعاشوراء اليهود، كأن يكون أحد سادة مكة قد أخذ ذلك اليوم عنهم فعظمه، فأخذه أهل مكة عنه وجعلوه سنة لهم. غير أن من الجائز ألا يكون لهذا اليوم صلة بعاشوراء اليهود، وإنما كان من تقاليد أهل مكة القديمة المعروفة عند غيرهم أيضًا، ولا صلة له بيود يهود6.
ويظهر أنهم كانوا يضعون الأكسية الجديدة فوق الأكسية القديمة، فلا يرفعونها
1 اللسان "1/ 604"، "عصب".
2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 173 وما بعدها".
3 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507"، كتاب نسب قريش "18"، الروض الأنف "1/ 77".
4 الروض الأنف "1/ 77".
5 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 173 وما بعدها".
6 Shorter Ency.، P. 47