الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع والسبعون اليهود والإسلام
ويتبين من القرآن الكريم، أن اتصال الرسول باليهود اتصالا مباشرًا إنما كان في يثرب. أما في مكة، فلم يكن لليهود فيها شأن يذكر، لذلك لا نجد في الآيات المكية ما نجده في الآيات المدنية، ولا سيما المتأخر منها، من تقريع لليهود وتوبيخ لهم، لوقوفهم موقفا معاديا من الإسلام، واتفاقهم مع المشركين في معارضة الرسول ومقاومته. وقد بدأ اليهود يعارضون الرسول والإسلام، حينما طلب إليهم الدخول في الإسلام والإيمان برسول الله، وحينما تبين لهم أن الأمر سيفلت من أيديهم، وأن الرسول ليس كبقية رجال قريش أو غير قريش سهل الانقياد مطواعا لهم، وأن تعاليم الإسلام ستفسد العرب عليهم، ولا سيما بعد تحريم الربا. والربا مورد مهم كان يدر ربحًا عظيمًا على يهود، لهذا وجدوا مصلحتهم في معارضته ومقاومته وفي الاتفاق وفي الاتفاق مع المشركين عليه.
ويظهر أنه لم يكن لليهود نفوذ كبير ولا جاليات كبيرة في مكة. فلو كان لهم نفوذ فيها أو رأي مسموع، لسمعنا به كما سمعنا بخبرهم في يثرب، ولكان لهم حي خاص بهم، ومكانة بين رجال قريش، كالذي كان عليه يهود يثرب في اتصالهم بالأوس والخزرج، ولأشير إليهم في السور المكية، على نحو ما أشير إليهم في السور المدنية، ثم لما اضطر رجال قريش للذهاب إلى يثرب مرارا، لاستشارتهم في أمر سلوكهم مع المسلمين، ولما جاء سادات يهود يثرب إلى مكة، لتحريض أهلها على مقاومة الرسول، ولعقد حلف معهم عليه.
وقد أمل المسلمون أن يساعد اليهود الإسلام على الوثنة وأن يقفوا منه موقف ود أو حياد، ذلك بأنهم أصحاب كتب منزلة ودين توحيد، والإسلام قريب منهم، وقد اعترف بالأديان السابقة له، ونزه الأنبياء والمرسلين، وهو دين توحيد كذلك. ثم إن الرسول تودد إليهم حين دخوله يثرب، وأمنهم على أموالهم وأنفسهم، وزراهم وطمأنهم، ثم تعاهد معهم في صحائف كتبت لهم، فيها العهد بالوفاء لما اشترط لهم، ما داموا موفين بالوعد وبالعهد وقد طلب إلى جميع المسلمين الوفاء بما جاء فيها، ومنعوا من التجاور والتطاول على من في يثرب من يهود1. وجعل لليهود نصيبا في المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين كما شرط عليهم النفقة معهم الحرب.
ولم تكن علاقات اليهود مع المسلمين سيئة في الأيام الأولى من مجئ الرسول إلى يثرب. رأت جمهرة يهود أن الإسلام دين اعترف بالأنبياء، وأنه دين توحيد وإنه في جملة أحكامه قريب من أحكام ديانتهم وقواعدهم، وأنه يناهض الأوثان، وقد أشاد بفضل بني إسرائيل وبتفوقهم على غيرهم بظهور الأنبياء من بينهم، ثم إن قبلته إلى القدس، وقد تسامح معهم فأباح للمسلمين طعام أهل الكتاب2. وهو دين اعترف بأبوة إبراهيم للعرب، وجعل سنته سنة له. وقد تسامح معهم وحفظ ذممهم، فلم تر في انتشاره بين أهل يثرب ما يضيرهم شيئًا أو يلحق بهم أذى، ولذلك أظهرت استعدادها لعقد حلف سياسي مع ووقوفها موقف ود منه أو موقف حياد على الأقل، على ألا يطلب منها تغيير دينها وتبديله والدخول في الإسلام.
ولما دخل أهل يثرب في الإسلام أفواجا، وتوجه المسلمون إلى اليهود يدعونهم إلى الدخول فيه وإلى مشاركتهم لهم في عقيدتهم باعتبار أنهم أهل دين يقول بالوحي ويؤمن بالتوراة، وبرسالة الرسل، فهم لذلك أولى بقبول هذه الدعوة من الوثنيين، أدركت جمهرتهم أن الإسلام إذا ما استمر على هذا المنوال في المدينة من التوسع والانتشار ومن توجيه دعوته إلى اليهود أيضًا، فسيقضي على عقيدتهم التي ورثوها وهي عقيدة لا تعترف بقيام نبي من غير بني إسرائيل ولا بكتب غير التوراة
1 ابن هشام "3/ 74، 197"، الروض الأنف "2/ 16"، "كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين اليهود".
2 المائدة، الآية 48.
والكتب التي دونها علماؤهم، ثم هم يرون أن النبوة قد ختمت ولن يكون المسيح إلا منهم، فكيف يعتقدون بنبي عربي وهو من الأميين؟
وقد رفض اليهود الدخول في الإسلام، وأبوا تغيير دينهم، ودافعوا عن عقيدتهم وتمسكوا بها، ورفضوا التسليم بما جاء في رسالة الرسول من أن الرسول نبي أرسل للعالمين كافة وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن القرآن كتاب مصدق من الله، وأن أحكامه مؤيدة لما جاء في التوراة ناسخة لبعضها. وقد جادلوا في ذلك، وانبرى أحبارهم للدفاع عن عقيدتهم ولمجادلة من يأتي إليهم من المسلمين لأقناعهم في الدخول في الإسلام. وفي القرآن الكريم صور من جدلهم هذا ومن محاجتهم الرسول في دعوته، كما نجد مثل ذلك في الحديث النبوي وفي كتب السير.
ويتبين من نتائج دراسة صور هذا الجدل والخصام الذي وقع بين اليهود والمسلمين، وهو خصام مهم خطر، أن الخصومة كانت في مرحلتها الأولى رفضا لدعوة الرسول إياهم للدخول في الإسلام، وتمسكا شديدًا بعقيدتهم وبدينهم وبما ورد عندهم من أن النبوة قد بدأت وانتهت في بني إسرائيل، ثم تطورت واشتدت عنفا وقوة لما تبين لهم أن الإسلام يرفض نظريتهم هذه، وأنه قد حرم أمورا ستؤثر في مستقلبهم، وقد ألف بين قلوب أهل يثرب وأوجد منهم كتلة واحدة، وأنه سيحد من سلطانهم لا محالة، وأن ملكهم سيزول، فوسعوا مقاومتهم له، واتصلوا بمن وجدوا فيه حقدا وبغضا للرسول، وبمن تأثر سلطانه بدخول الإسلام في يثرب من أهلها، ثم لما وجدوا أن كل ذلك غير كاف، تراسلوا مع أعداء الرسول في خارج يثرب من قريش، لتوحيد خططهم معهم، ولجملهم على مهاجمة المسلمين في مدينتهم ومعقلهم قبل أن يستفحل أمرهم ويقوى مركزهم، فيعجزون ميعا هم وأهل مكة عن التغلب عليهم والقضاء على الإسلام.
وهكذا بدأت خصومة اليهود للإسلام خصومة فكرية، هم يرفضون الاعتراف بنبوة الرسول، وبأن دعوته موجهة إليهم، ويرفضون نبوة في غير بني إسرائيل، والرسول يدعوهم إلى الإيمان بالله وإلى الدخول في دعوته المبنية على الإيمان بالله رب العالمين، رب العرب وبني إسرائيل والعجم، وعلى الإيمان بنبوته وبنبوة الأنبياء السابقين، ثم تطورت هذه الخصومة إلى معارك وحروب، والحروب كما نعلم تبدأ نزاعا في الآراء والأفكار ثم تتحول إلى صراع ونزاع وقتال.
ومن أشهر سادات يهود الذين وقفوا موقفا معايدا من الرسول، وعارضوه معارضة شديددة، وصمموا على الايقاع به، حيي بن أخطب، وأخواه ياسر بن أخطب وجدي بن أخطب1، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقق، وسلام بن الربيع بن أبي الحقيق، وهو أبو رافع الأعور الذي قتله أصحاب الرسول بخيبر، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الأشرف، والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وكردم بن قيس حليف كعب بن الأشرف، وكل هؤلاء من بني النضير، وعبد الله بن صوري الأعور2، وابن صلوبا، وهما من بني "ثعلبة بن الفطيون"، وزيد بن اللعيث "اللعيب"3، وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان "سبحان"، وعزير بن أبي عزير، وعبد الله بن صيف "ضيف"، وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص، وأشيع، ونعمان بن أضنا "أمنا؟ "، وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي، وشاس بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمرو، وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس، ومحمود بن دحية، ومالك بن الصيف "الضيف"، وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبي رافع، وخالد، وإزار بن أبي إزار "آزر بن أبي وعازر، ورافع بن أبي رافع، وخالد، وإزار بن أبي إزار "آزر بن أبي آزر"، ورافع بن حارثة، ورافع بن حريملة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وكل هؤلاء من يهود بني قينقاع4.
أما الذين حاربوا الإسلام من بني قريظة، فكانوا: الزبير بن باطا بن وهب، وعزال بن شمويل "سموال"، وكعب بن أسد، وهو صاحب عقد بني قريظة الذي نقض عام الأحزاب، وشمويل بن زيد، ونافع بن أبي نافع، وأبو نافع، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن رميلة "زميلة"، وجبل بن أبي قشير، ووهب بن يهوذا.
أما من بقية بطون يهود، فكانوا: لبيد بن أعصم، وهو من يهود بني زريق،
1 "جد بن أخطب"، "جدي بن أخطب"، "حدى بن أخطب"، الروض الأنف "2/ 24".
2 الروض الأنف "2/ 24".
3 "ابن اللعيب"، ابن هشام "2/ 136".
4 ابن هشام "2/ 136 وما بعدها"، الروض الأنف "2/ 24"،"تسمية اليهود الذين نزل فيهم القرآن".
وكنانة بن صورياء "صوريا"، وهو من بني حارثة، وفردم "قردم" بن عمرو، وهو من يهود بن عمرو بن عوف، وسلسلة بن برهام، وهو من يهود بني النجار1.
ويظهر من أقوال علماء التفسير في تفسير لفظة "الطاغوت" الواردة في القرآن الكريم، أن "كعب بن الأشرف"، كان من أبرز سادات اليهود في أيام الرسول2. فقد كانوا يتحاكمون إليه ويأخذون برأيه، وكان المقدم عندهم وعند الأوس والخزرج، حتى أن الأنصار كانوا يتحاكمون إليه.
ونجد في القرآن أمثلة من أسئلة وجهها اليهود إلى الرسول لإحراجه ولإظهار فساد دعوته بزعمهم. سألوه أن يأتي لهم بمعجزة، إذا قالوا له:{إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} 3، فنزل الرد عليهم:{قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4. "نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وفنحاص بن عازورا، وجماعة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: له: أتزعم أن الله أرسلك إلينا، وأنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإذا جئنا به صدقناك، فأنزل الله هذه الآية"5. وسألوه "أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدعيه على صدقة دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة"6.
وسألوه أسئلة عن أشياء مذكورة في التوراة، وسألوه عن أشياء أخرى محرجة عديدة، وأوحوا إلى غيرهم من المشركين بأسئلة مماثلة ليلقوها على الرسول لامتحانه وإحراجه، وقد نزل الوحي بالرد عليهم، وبتأنيبهم على أقوالهم هذه، وبتذكيرهم
1 وتختلف الموارد في ضبط هذه الأسماء، ابن هشام "2/ 137" وما بعدها"، الروض الأنف "2/ 24".
2 تفسير الطبري "5/ 97 وما بعدها".
3 سورة آل عمران، الآية 183.
4 الآية نفسها.
5 تفسير القرطبي "4/ 295"، روح المعاني "4/ 128 وما بعدها" تفسير الطبري "4/ 131 وما بعدها".
6 سورة النساء، الآية 153، تفسير القرطبي "6/ 6"، تفسير الطبري "6/ 6 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 5"، ابن هشام "2/ 198".
بما قام به أجدادهم وأسلافهم في مقام أنبيائهم من عدم التصديق برسالتهم ومن الطعن بهم ومن إصرارهم على عبادة الأوثان والكفر بالتوحيد1.
ووقع جدل بين المسلمين وبين سادات يهود، أثار نزاعا بين الطرفين. دخل أبو بكر "بيت المدارس، فوجد من يهود ناسا كثيرًا قد اجتمع إلى رجل منهم يقال له "فنحاص" كان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر يقال له: أشيع. فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. قال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه، كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك"2. ووقع مثل ذلك في مناسبات أخرى، جعل اليهود يحقدون على المسلمين.
وعمد اليهود إلى استغلال الأحقاد والبغضاء الكمينة التي كانت كامنة في نفوس أهل يثرب من الأوس والخزرج من أيام الجاهلية، فأثاروها، كما استفادوا مما كان بينهم وبين رجال من المسلمين من الحلف والجوار في الجاهلية للاحتماء بهم وللاتقاء بهم مما قد يلحق بهم من أذى في إثارة الفتنة.
وفي عهد "عمر" أمر بإجلاء اليهود ممن لم يكن لديهم عهد من رسول الله. أما من كان له عهد منه، فقد بقي في وطنه وعلى دينه بالشروط التي ذكرت في الصحف. وقد كان في يثرب نفر من اليهود عاشوا فيها في زمن الرسول حتى بعد إجلاء بني النضير وبني قريظة وبعد غزوة خيبر. وقد ورد في رواية أن النبي لما أمر أصحابه بالتهيؤ لغزوة خيبر، شق ذلك على من بقي بالمدينة من يهود3. ولما مرض عبد الله بن أبي، كان اليهود في جملة من التفَّ حول سريره في مرضه الذي هلك فيه، ثم كانوا في جملة من شيعه إلى قبره ومن
1 سورة البقرة، الآية 101، ابن هشام "2/ 167، 171، 201".
2 آل عمران، الآية 181، تفسير الطبري "4/ 129 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "1/ 548"، "طهران".
3 الطبقات، لابن سعد "الجزء الثاني من القسم الأول "ص77".
نثر التراب على رأسه حزنًا على فراقه1. وقد بقيت أسر يهودية في وادي القرى وفي تيماء قرونًا عديدة بعد صدور أمر عمر بالإجلاء، بل ورد أن عددًا منهم عاش في المدينة أيضًا.
وقد كانت اليهودية قانعة بما أوتيت، وبم كسبته من مواطن وتجارة، إن وجدت سبيلا إلى إقناع سادات القبائل والأمراء والملوك بالتهود وبالدخول في دعوتها، فذلك خير وتوفيق. وإن لم تجد في هؤلاء ميلا إلى اليهودية، رضيت منهم باكتساب العطف والحماية ورعايتهم في تحصيل ديونهم والأرباح التي يحصلون عليها من الربا، وبالسماح لهم بالتجارة والبيع والشراء، وهو ما يصبو إليه كل يهودي.
لذلك نستطيع أن نقول أن اليهودية كانت من ناحية التبشير عند ظهور الإسلام جامدة خامدة، لا يهمها نشر الدين بقدر ما تهمها المحافظة على الحياة وعلى المركز الذي وصلت إليه وعلى تجارتها التي تعود عليها بمال غزير. فكانت لهذا لا تهتم بحركة إلا إذا وجدت فيها فائدة لها، ومنفعة ترتجى منها، ولا تحارب رأيا إلا إذا وجدت أنه سيكون خطرًا عليها، فحاربت النصرانية في اليمن لما وجدت الروم يسيرون على سياسة معايدة لليهود، وأن النصرانية مهما كانت كنيستها هي فرع من شجرة واحدة هي الشجرة التي يقدسها الروم، فامتداد أي فرع منها إلى اليمن، كفيل بالحاق الأذى الذي لاقاه إخوانهم من البيزنطيين بهم. وحاربت الإسلام بعد هجرة الرسول إلى المدينة، لما تبين لها إنه يدعو إلى رب العالمين، وإنه لم يكن على ما ظنته حينما سمعت بدعوة الرسول وهو في مكة، من إنه سيخضع لها، أو سيميل إليها، فتستفيد منه على الأقل، فلما وجدت الأمر غير ما ظنت، عندئذ خاصمته وانضمت إلى المشركين في محاربة الإسلام.
ولسنا نجد بين القبائل العربية يهودا وفدوا إليها وأحبارا سكنوا بينها لاقناعها بمختلف الوسائل والطرق للدخول في دين يهود. نعم لم يفعل اليهود هذا كما فعله النصارى، ولهذا انحصرت سكنى اليهود عند ظهور الإسلام في هذه المواضع الخصبة وطرق المواصلات والتجارة البرية والبحرية من جزيرة العرب، وانحصر عملهم في التجارة وفي الربا في الزراعة وفي بعض الصناعات التي تخصصوا بها. وهي أمور جعلت لهم نفوذا عند سادات القبائل والأمراء والملوك.
1 الواقدي "415"، اليهود "177".
وقد كانت لليهود مواضع يتدارس فيها رجال دينهم أحكام شريعتهم، وأيامهم الماضية، وأخبار الرسل والأنبياء، وما جاء في التوراة والمشنا، وغير ذلك. عرفت بين الجاهليين بـ "المدارس" و"بيت المدارس""والمدارش". وأطلق الجاهليون عن الموضع الذي يتعبد اليهود فيه "الكنيس" و"كنيس اليهود" تمييزا لهذه الكنيسة عن "الكنيسة" التي هي لفظة خاصة بموضع عبادة النصارى1.
وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الكنيسة كلمة معربة من "كنشت" وهي لليهود، والبيعة للنصارى. وذهب بعض آخر إلى أنها متعبد الكفار مطلقا2.
وقد أخذ الجاهليون مصطلح "المدارس" من العبرانيين، من لفظة "مدارش" Midrash التي هي من أصل "درش" Darash التي تقابل "درس" في العربية، وتؤدي هذه الكلمة المعنى المفهوم من لفظة "درس" العربية تمام الأداء. ويقصد بالمدارش درس نصوص التوراة وشرحها وتفسيرها وإيضاح الغامض منها وأسرارها وأمثال ذلك، وينهض بذلك المفسر الشارح "درشن" Darshan، ولكل طريقة وأسلوب. وقد نجمت عن هذه الدراسة ثروة أدبية ودينية طائلة للعبرانيين. نتجت من اتباع جملة طرق في الشرح والتفسير، منها "مدارش هلاخه" Midrash HaIachah و"مدراش هاكاده" Midrash Haggaddah، وتختلف هذه في كيفية اتباع طرق العرض والشرح والتفسير3.
ولم يكن المدارس "المدارش" موضع عبادة وصلوات حسب، بل كان إلى ذلك دار ندوة ليهود يجتمعون فيه في أوقات فراغهم لاستئناس بعضهم ببعض وللبحث في شؤونهم، وللبت في القضايا الجسيمة الخطيرة على اختلاف درجاتها. فهو إذن مجمع الأحبار ومجمع الرؤساء والسادات وأصحاب الشرف فيهم، وإليه كان يقصد الجاهليون حين يريدون أمرا من الأمور أو الاستفهام عن شيء يريدون الوقوف عليه، وإليه ذهب الرسول وكبار المسلمين لمحادثة يهود ومجادلتهم فيما
1 اللسان "7/ 382"، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي "2/ 120"، صحيح مسلم "5/ 122"، البخاري "كتاب الجزية والموادعة من أهل الذمة والحرب"، الحديث6، غرائب اللغة "ص213" النهاية "2/ 20"، محيط المحيط "1/ 643"،القاموس "2/ 215".
2 اللسان "8/ 83"، المعرب "81"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الأول "201".
3 Ecny-Brita، 15، p. 458، Moore، Judaism، I، 125، Jew. Ency، VII، p. 538. f.
كان يحدث بينهم من خلاف أو من أمر يريدون البت فيه. ويقال إنهم عرضوا أمام الرسول كتبهم، فكان يقرأها له بعضهم ممن دخل في الإسلام كعبد الله بن سلام أو بعض المسلمين ممن كان له علم وفهم في العبرانية لغة يهود.
قال "ابن عباس": "دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيت المدارس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم ودينه. فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديا. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلموا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم، فأبوا عليه"1. ويظهر أن هذا المدارس كان من بيوت مدارسهم بيثرب.
وعرفت مساجد اليهود، أن المواضع التي كان يصلون بها، بالمحاريب جمع محراب. وقد جاءت الإشارة إليها في بيت شعر منسوب إلى "قيس بن الخطيم"2. أما في النصرانية، فقد خصصت الكلمة بصدر الكنائس، وذلك على ما يفهم من الكلمة في الإسلام3.
وعرف علماء اليهود ورجال دينهم بـ "الأحبار" جمع "الحبر" وبـ "الربانيين" وقد وردت الكلمتان في القرآن الكريم4. وللإسلاميين آراء في أصل "الحبر"، وهم يذكرون أن من معانيها العالم، والرجل الصالح5. واللفظة من الألفاظ المعربة عن العبرانية أصلها "حبر" Haber وجمعها حبريم، Habarim، ومعناها "الرفيق" camrade و associate، وكانت ذات مدلول خاص ومعنى معين. وقد أطلقت في العهد التلمودي على العضوية في جمعية معينة، فأطلقت في العصر الأول والثاني للميلاد على من كان من "الفروشيم"، وهم شيعة يهودية أقسمت على نفسها بمراعاة النصوص الدينية "اللاوية" على نحو ما نزلت وعلى نحو ما يفعله اللاويون.
1 الطبري "7/ 145".
2 Margobiuuth p 73
3 النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني "ص174"ز
4 حبر بالضم وبالكسر، المائدة، الآية 44، 63ن التوبة، الآية 31، 34.
5 تاج العروس "3/ 120"، "حبر"، اللسان "5/ 228"، المفردات، للأصفهاني "ص104".
وللفظة "حبر" أهمية كبيرة عند اليهود، فإنها تشير إلى العلم والمعرفة، وإن كانت لا تصل إلى درجة "رابي""ربي" Rabbi ولا تزال مستعملة عندهم فيمن درس الشريعة اليهودية والعلوم وتقدم فيها وأتقن الأحكام، وقضى بين الناس، غير أنها دون درجة1 Rabbi. فهي في العبرانية بمعنى عالم ولكن دون المعنى المفهوم في العربية عند علماء اللغة الإسلاميين، فهذا المعنى هو في مقابل لفظة Rabbi أي "ربان" لا "حبر".
وقد وردت لفظة "حبر" في شعر للشماخ:
كما خط عبرانية بيمينه
…
بتيماء حبر ثم عرض أسطرا2
أما "الربانيون"، فهم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي، على رأي بعض العلماء الإسلاميين. وقال بعض آخر: الربان العالم الراسخ في العلم والدين، أو العالم العامل المعلم، أو العالي الدرجة في العلم. وفرق بعضهم بين الربانيين وبين الأحبار بأن جعل الأحبار أهل المعرفة بأنباء الأمم وبما كان ويكون، وذهبوا إلى إنها من الألفاظ المعربة العبرانية أو السريانية3. وهي من الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم في أثناء الكلام على علماء يهود4.
ويتبين من القرآن الكريم إنه قد كان للأحبار والربانيين نفوذ عظيم على اليهود، فكانوا يطيعون أوامرهم ويفعلون ما يأمرونهم به، وأن غالبيتهم لم تكن تفقه شيئًا ولا تعرف من أحكام دينها إلا ما يقوله لهم أولئك الأحبار5. وبعض هؤلاء الأحبار هم من المقيمين في جزيرة العرب في المواطن التي أقامت فيها يهود، وبعض منهم كان يأتي إلى يهود العرب من فلسطين: ولا سيما من "طبرية" التي اكتسبت شهرة عظيمة بعد خراب القدس "أورشليم" حيث استقر فيها "السنهدريم" وغدت مركزًا عظيمًا للعلوم عند اليهود، وفيها جمعت "المشنة" "المشنا" Mishna و"الماسورة" الكتاب الذي بين كيفية تحريك كلمات التوراة6.
1 اليهود "ص20"، The UnIversaI Jewish Ency VoI VP 1445
2 تاج العروس "3/ 117"، "حبر".
3 تاج العروس "1/ 260"، "9/ 211"، المعرب، للجواليقي "ص161"، سيرة ابن هشام "1/ 395".
4 المائدة: الآية 44، 63، آل عمران، الآية 79، تفسير الطبري "6/ 251".
5 التوبة، الآية 31.
6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 46".
وقد ذكر أهل الحجاز أسماء عدد من رجال يهود ممن أدركوا الإسلام، ذكر عنهم إنهم كانوا أحبارا، وإنهم كانوا أصحاب علم بالتوراة وبكتب الأنبياء وفي مقدمة من ذكروا، عبد الله بن صورى الأعور، قالوا: إنه لم يكن بالحجاز في زمانه من كان أعلم بالتوراة منه، وإنه كان من بني ثعلبة بن الفطيون. ويقولون: إن الفطيون كلمة تقال لمن يلي أمر اليهود وملكهم، كما أن النجاشي تقال لمن يلي ملك الحبشة1.
وذكر "القلقشندي" أن المشهور من ألقاب أرباب الوظائف عند اليهود ثلاثة ألقاب: الأول الرئيس، وهو القائم فيهم مقام البطرك في النصارى، والثاني الحزان، وهو فيهم بمثابة الخطيب يصعد المنبر ويعظهم، والثالث الشيلحصبور، وهو الإمام الذي يصلي بهم2.
وقد أطلق القرآن الكريم على أسفار اليهود، أي كتبهم المقدسة "التوراة"3. وعرفت بهذه التسمية في الحديث وفي كتب التفسير، وصارت علمًا لها في الإسلام. كذلك أطلقت هذه اللفظة على معابد اليهود، ولم يعرف ورودها في الشعر الجاهلي خلا بيتا ينسب إلى شاعر جاهلي يهودي اسمه "سماك"4.
ولعلماء اللغة الإسلاميين آراء في أصل كلمة "التوراة"، حتى ذهب بعضهم إلى أنها عربية، ولكن ذوي أكثريتهم ترى أنها عبرانية، لأن لغة موسى كانت العبرانية، وبهذه اللغة نزلت التوراة5. ثم هم يختلفون في تعيين حدود التوراة، فيرى بعضهم أنها خمسة أسفار، ويرى بعض آخر أنها أكثر من ذلك، وأنها تشمل الزبور ونبوة أشعياء وسائر النبوات، لا يستثنى إلا الأناجيل6.
1 ابن هشام "2/ 136""محمد محيي الدين عبد الحميد".
2 صبح الأعشى "5/ 474".
3 آل عمران الآية 3، 48، 50، 65، 93، المائدة، 46 وما بعدها، 49، الصف، الآية6، الفتح، الآية 29، الجمعة، الآية5.
4 Ency IV p 706
5 اللسان "20/ 365 وما بعدها" ورى"، تاج العروس "10/ 389"، القراءون والربانون "179"، المفردات، للأصفهاني "ص74".
Uni Jew Ency 10 p 267 katsh p191
6 صبح الأعشى "13/ 254 وما بعدها" Katsh 191.
وليس في القرآن الكريم تحديد لأسفار التوراة، ولكن اقتران اسم موسى بها في بعض الموارد منه يشير إلى أن المراد بها ما يقال له بـ "الأسفار الخمسة" Pentateuch عند الغربيين. وهذه الأسفار الخمسة هي الأسفار المنزلة المكتوبة التي نزلت على موسى على رأي قدماء العبرانيين. ثم توسعوا في مدلول اللفظة فيما بعد، فأطلقوها على جميع الأسفار التي يقال لها العهد القديم. وأطلقتها بعض الفرق على غيرها من الأسفار مثل الأنبياء "نبيم" Nebiim، والكتب "كتوبيم1" Kettubim.
وقد أورد القرآن في مخاطبة يهود وتقريعهم قصصًا عن الأنبياء والمرسلين والأمم القديمة، منه ما هو مذكور عندهم في الأسفار الخمسة، ومنه ما هو وارد عندهم في "الهكاده" وفي "المشنه". ولما كان في احتكاك الإسلام بيهود كان لأول مرة في منطقة يثرب، صارت معظم الإشارات الواردة في القرآن الكريم إلى التوراة في السورة المدنية لمخاطبة الوحي لهم، وتوجيه الكلام مباشرة إليهم، ولم ترد تلك التسمية في الآيات المكية إلا في موضع واحد هو في سورة الأعراف2.
والمراد من "الكتاب" الذي أنزل على موسى، والمذكور في مواضع من القرآن الكريم التوراة، أي هذه الأسفار الخمسة التي نتحدث عنها3. وهو تعبير قرآني لا نستطيع أن نقول إنه كان من مصطلحات الجاهليين، كما أننا لا نستطيع نفي ذلك، إذ يجوز أن يكون الجاهليون قد أطلقوه على تلك الأسفار، أو على العهد القديم كله، بمعنى هذه الأسفار وبقية ما ورد فيها من أخبار الأيام والملوك والأنبياء.
وقد ورد في الأخبار عن "أبي هريرة"، أنه "كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله" 4.
1 Uni-Jew. Ency.، 10، P. 688، Katsh.، P. 191.f
2 الأعراف: الآية 157 Ency IV p 706
3 "ولقد آتينا موسى الكتاب"، البقرة، الآية 78، ورح المعاني "1/ 316"، تفسير الطبرسي "1/ 15"،المفردات للأصفاني" 437"
4 "كتاب تفسير القرآن"، سورة البقرة: 2رقم 11، البخاري "3/ 198""طبعة ليدن".
وقصد بعبارة أهل الكتاب، اليهود، لأنهم أصحاب كتاب موسى، وبينهم كان نزوله، ولذلك عرفوا به. ويظهر من خبر أبي هريرة هذا ومن أخبار أخرى في هذا المعنى أن اليهود كانوا يقرءون على المسلمين كتبهم وهي بالعبرانية، ثم يفسرونها لهم بالعربية، وذلك في أيام حياة الرسول.
أما الزبور والزبر فقد وردتا في القرآن الكريم. ويراد بـ"الزبر" في بعض الآيات مثل: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} الكتب المنزلة القديمة1. وقد وردت الكلمتان في بعض الشعر المنسوب إلى الجاهليين كامرئ القيس2 والمرقش الأكبر3 وأمية بن أبي الصلت4. وذكر علماء اللغة أن معنى "زبر" كتب ونقش. ويرى بعض المستشرقين احتمال. كونها من الكلمات العربية الجنوبية. ويرى بعض آخر أنها من أصل "مزمور" Mazmor العبراني. و"مزمور" Mazmor في اللهجة السريانية، و"مزمور" Mazmur في الحبشية. أخذت الكلمة وأجري عليها بعض التغيير حتى صارت على هذا الشكل5.
وقد وردت لفظة "الزبور" مفردة في موضعين من القرآن الكريم، في سورة النساء6 وفي سورة الأنبياء7. أما في الموضع الأول، فقد ورد فيه: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} ، ومعنى هذا أن زبورا أو كتابا من الكتب المنزلة نزل على داود. أما الموضع الثاني. فقد أشير فيه إلى "زبور" معرفة بأداة التعريف
1 الشعراء: الآية 196.
2
أتت حجج بعدي عليها فأصبحت
…
كخط زبور في مصاحف رهبان
وينسب إليه أيضًا هذا البيت:
لمن طلل أبصرته فشجاني
…
كخط زبور في عسيب يماني
شرح ديوان أمرئ القيس، تأليف السندوبي "ص184"، قصيدة رقم 86، النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص184".
3
وكذاك لا خير ولا
…
شيء على أحد بدائم
قد خط ذلك في الزبو
…
ر الأوليات القدائم
اللسان "3/ 16"، النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص184".
4
وأبرزوا بصعيد مستوى جرز
…
وأنزل العرش والميزان والزبر
كتاب البدء "2/ 146"، النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني "ص184".
5 اللسان "4/ 314 وما بعدها". Ency IV p 1184
6 الآية 163.
7 الآية 105.
"ال": {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} . ولكن لم يضف إلى اسم نبي من الأنبياء، كما رأينا في الموضع السابق. وقد فسر بعض المفسرين كلمة "الزبور" في الموضع بمعنى الكتاب وكتب الله المنزلة، أي على التعميم لا التخصيص1.
ويراد بالزبور ما يقال له "المزامير" في الترجمات العربية للتوراة، PsaIms في الإنكليزية، من أصل PsaImos اليونانية التي هي ترجمة لفظة "مزمور" Mizmor العبرانية، ومعناها المدائح والأناشيد. وهي أناشيد شعرية ترنم في حمد الإله وتمجيده، ولذلك قيل لهذه المزامير "تحليم" tehiIIim في العبرانية. و tiIIim على سبيل الاختصار، و tiIIim في لهجة بني إرم2.
وقد "قال أبو هريرة: الزبور ما أنزل على داود، من بعد الذكر من بعد التوراة"3. وذكر بعض العلماء أن الزبور خص بالكتاب المنزل على داود4. وقد ذهب الشعبي إلى أن الزبور، الكتاب المنزل على داود، أما الذكر فما نزل على موسى. وذهب آخرون مذاهب أخرى في تفسير المراد من الزبور ومن الذكر. ولكن الرأي الغالب أن المراد من الزبور، مزامير داود. وذلك لنص القرآن على ذلك.
وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود اختلاف بين بني إسرائيل في فهم كتاب الله وتفسيره، وأنهم انقسموا لذلك شيعا وأحزابا. ولا يستبعد أن يكون هذا الاختلاف شاملا ليهود الحجاز أيضًا، كأن يكون أحبارهم قد ساروا في اتجاهات مختلفة في التفاسير وفي شرح الأحكام وكان أصحابهم يتعصبون لهم ويتحزبون، وعلى نمط الأعراب في عصبيتهم لقبائلهم، وفي اتباع أقوال ساداتهم دون تعقل وتفكير. أما مواضع الاختلاف ومواطن الفرقة التي كانت تفرق فيما بينهم، فلا نعرف اليوم من أمرها شيئًا، لأنها لم تدون ولم تذكر، ولم يشر القرآن إليها، ولكنها على كل لا تخرج ولا شك عما نعرفه من خلاف في أوجه النظر في المسائل المعروفة حتى اليوم في أمور الفروع.
1 تفسير الجلالين "2/ 33".
2 Uni Jew Ency 9p 13
3 اللسان "4/ 315""صادر".
4 المفردات "ص210".
ونحن لا نستطيع أن نتصور أن سواد يهود الجاهلية كانوا على علم بالكتابة وبالقراءة ثم بأحوال دينهم وأموره. وفي القرآن الكريم أن هذا السواد كان جاهلا ليس له علم ولا خبر بأمور دينه وشريعته، وأنه مقلد تابع لما تقوله له أحباره وربانيوه. فكل ما كانوا يقولونه له، كانوا يرونه حقًّا وعلمًا1. مع أن من بين أولئك من كان دجالا ليس على درجة من دراية وعلم، ومن كان ينطق بالباطل ولا يخشى الكذب، لينال بذلك كسبا ومالا، وأنه كان لهؤلاء على أتباعهم ومقلديهم سلطان عظيم.
وقد تعرض "ابن خلدون" لموضوع علم اليهود العرب وثقافتهم، فقال:"إذا تشوقت العرب إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم. وهم أهل التوراة من اليهود، ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك"2. فغالبية يهود جزيرة العرب في الجاهلية، هم في مستوى، يعد، دون مستوى يهود البلاد الأخرى، بسبب تبديهم وانقطاعهم عن غيرهم من اليهود.
وقد كانت لليهود مدارس تدارسوا فيها أحكام شريعتهم، وكان لهم أحبار وحاخامون علموهم أمور دينهم. ذكر أهل الأخبار إنهم كانوا يكتبون بالعبرانية أو بالسريانية، وذلك لاختلاف أهل الأخبار في تعيين تلك اللغة، وعدم تمكنهم من التمييز بينهما. وفي كتب الأخبار والتواريخ إشارات إلى اتصال بعض رجال مكة ويثرب باليهود والاستفسار منهم عن أمور الرسل والأنبياء والماضيين وعن بعض الأحكام. وفيها قصص إسرائيل وجد له سبيلا إلى العربية، يرويه القصاصون عن الرسل والأنبياء، وأساطير لا يشك في كونها إسرائيلية الأصل. كما نجد ألفاظا
1 "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني. وإن هم إلا يظنون"، البقرة، الآية 87، تفسير القرطبي، الجامع "1/ 296 وما بعدها".
2 ابن خلدون "1/ 439".
عبرانية لا شك في أصلها وجدت لها سبيلا إلى عربية الجاهليين بسبب اتصال اليهود بهم، واستعمالهم إياها، فتأثر بهم الجاهليون وأخذوها منهم واستعملوها أيضًا فصارت من المعربات.
وينسب إلى الشاعر "الأسود بن يعفر" بيت شعر هو:
سطور يهوديين في مهرقيهما
…
مجيدين من تيماء أو أهل مدين1
وإذا صحت نسبة هذا البيت إليه، يكون قد تعرف على يهوديين اثنين، وجدهما يجيدان الكتابة، وقد كتبا على المهارق. ولم يكن الشاعر على علم أكيد بموطنهما، فلم يدر إذا كانا من أهل تيماء أو من أهل مدين.
ولتعبير "مجيدين" أهمية خاصة، إذ يشير إلى تمييزه بين الكتابة الجيدة والكتابة الرديئة، وإلى وجود مصطلح "مجيد" عند الجاهليين، يطلقونه كما نطلقه اليوم على من يجيد الكتابة ويتقنها.
ولما كانت اللغة العبرانية لغة الدين عند العبرانيين، وبها نزل الوحي على موسى، فلا بد أن يكون لعلمائهم ورجال دينهم في جزيرة العرب علم بتلك اللغة وفقه بها. ولكن هذا لا يعني ضرورة كونهم كعلماء طبرية أو قيصرية في فلسطين أو بعض المواضع التي اشتهرت بعلمائها في التلمود بالعراق، ولست أستبعد أن يكون لهم علم بلغة بني إرم أيضًا، لأن هذه اللغة كما نعلم كانت لغة العلم والثقافة قبل الميلاد وبعده، وبها كتبت كتب عدة من التلمودين، ثم إنها انتشرت بين سواد الناس حتى صارت لغة سواد يهود يتكلمون بها ولو برطانة وبلهجة خاصة هي اللهجة التي يمتاز بها سواد اليهود في كل قطر يعيشون فيه.
أما سواد يهود جزيرة العرب في الجاهلية: فلا أظن أنهم كانوا يتلكمون العبرانية أو لغة بني إرم، إنما أرى أنهم كانوا يتكلمون لهجة من هذه اللهجات العربية. أعني لهجة العرب الذين كانوا يعيشون بينهم وينزلون بين أظهرهم، ولم يرد في الأخبار ما يفيد أنهم كانوا يتحادثون بالعبرانية، بل الذي ورد أن عامتهم لم تكن تعرف تلك اللغة، وأن الخاصة منهم والمزاولين لحرفة الكتابة
1 ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التأريخية، "ص82".
والسحر كانوا يعرفونها ويكتبون بها، وبها يعوذون أنفسهم وغيرهم من الناس، وكانوا يفسرون التوراة والتلمود والكتب المقدسة لسواد الناس من العبرانية إلى العربية، لأنهم لم يكونوا يعرفون العبرانية، لا سيما وقد كان بينهم عرب متهودة.
ولم يظهر في يهود جزيرة العرب من حاز على شهرة في العلم والفقه والتأليف والخطابة على نحو ما ظهر بين يهود العراق أو فلسطين أو مصر، وإلا لاشتهر أمره وذاع خبره، كما ذاع خبر علماء يهود بابل وفلسطين ومصر. ولا يمكن أن تكون عزلتهم عن بقية يهود الأقطار المذكورة سببا كافيا في تعليل عدم شيوع اسم أحد من هؤلاء، إن قضية عزلتهم عن بقية إخوانهم في الدين، هي نفسها تحتاج إلى سند يثبت وجود تلك العزلة. فمواضعهم في أعالي الحجاز، على اتصال ببلاد الشام، وهي لا تبعد كثيرًا عن مساكن إخوانهم في فلسطين. ثم إنهم كانوا على اتصال مستمر بهم بالتجارة، وقد كانوا يشترون حاصل بلاد الشام من خمور وحبوب وما شاكل ذلك، وينقلونه إلى يثرب، يذهبون إليها للتعامل والاتجار، فكيف يكون يهود جزيرة العرب في معزل عن غيرهم مع وجود الأسفار والتجارة لا سيما أن أحبار "طبرية" كانوا يأتون إلى يهود اليمن ليلقنوهم أمور الدين، ولا يستبعد أن يكون من بين أولئك الأحبار من ذهب إلى يهود يثرب أو خيبر أو تيماء.
فالقضية على ما يظهر، ليست قضية عزلة يهود جزيرة العرب عن بقية يهود وانفصالهم بذلك ثقافيا وعلميا عن بني دينهم انفصالا يؤثر في مستواهم الثقافي والعلمي، فيجعلهم دون غيرهم من إخوانهم في العلم والثقافة، إنما يظهر أن هنالك جملة عوامل حالت دون نبوغ أحد فيهم. فيهود جزيرة العرب مهما قيل عنهم وعن رقيهم وارتفاع مستواهم عن مستوى من كان في جوارهم، لم يكونوا في ثقافتهم وفي مستواهم الاجتماعي أرقى من الفلاحين وسكان القرى وما إليها في العراق أو فلسطين أو مصر، كما أن حالتهم المادية لم تكن على مستوى عال بحيث يمكن أن تقاس بالأحوال المادية التي كان عليها اليهود الآخرين في الأرضين المشار إليها، أو أصحاب تلك الأرضين من غير يهود. ثم إن عددهم مهما قيل فيه، لم يكن كبيرا. وقد راينا أن رجالهم المحاربين لم يكونوا يتجاوزون كلهم في الحجاز كله بضعة آلاف، وفي مثل هذا العدد والظروف والأحوال لا يمكن بالطبع أن تتوفر الإمكانيات المساعدة على البحث والتتبع والتعمق في العلم.
وقد عرف يهود يثرب بمعرفتهم السحر والاتقاء منه، وبعلمهم بالتعاويذ، فكان المشركون يلجؤون إليهم إذا احتاجوا إلى السحر أو إذا اعترضتهم مشكلات يرون أنها لا تحل إلا بقراءة التعاويذ عليها. وقد ذكر المفسرون أن اليهود عملوا السحر للنبي، علمه رجل اسمه "لبيد بن الأعصم" أو بناته وهو من يهود يثرب1.
وقد أشير إلى سحر اليهود في الحديث2.
وقد لجأ العرب إلى اليهود يأخذون منهم الرقى والتعاويذ. فقد ورد في الأخبار "أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: ارقيها بكتاب الله. يعني: بالتوراة والإنجيل
…
"3.
وقد حافظ يهود جزيرة العرب على حرمة السبت، ويوم السبت من الأيام المقدسة التي يجب مراعاة حرمتها مراعاة تامة، فلا يجوز ليهودي الاشتغال فيه، والقيام ببعض الأعمال. ومن خالف حرمة هذا اليوم ودنسه بالاشتغال فيه يكون قد ارتكب جرمًا عظيمًا.
وقد وردت إشارات إلى يوم السبت في مواضع من القرآن الكريم، في معرض الكلام على بني إسرائيل، وأشير في بعضها إلى أخذ موسى العهد منهم بوجوب مراعاة حرمة هذا اليوم، وإلى نقضهم له وعدم مراعاتهم جميعًا لهذا العهد، وإلى أنهم اعتدوا فيه4. وفي هذه الإشارات دلالة على أن من اليهود عامة من خالف حرمة هذا اليوم، فلم ينفذ ما ورد في أحكام شريعته عنه. ولكن هذا عام غير خاص بيهود العرب الجاهليين، وإنما يشير إلى خروج بعض بني إسرائيل على أحكام دينهم وعدم مراعاتهم لها، وهذا اليوم من أقدس الأيام في نظرهم.
1 تفسير الطبير "31/ 226"، تفسير الطبرسي "5/ 568"، روح المعاني "30/ 282"،
2 البخاري: باب سحر، عمدة القاري "21/ 279 وما بعدها"، "الحديث رقم 77 وما بعده".
3 عمدة القاري "21/ 262".
4 الأعراف: الآية 162، النحل: الآية 124، البقرة: الآية 65، النساء: الآية 46، 153، أو الثناء الألوسي، روح المعاني "1/ 256 وما بعدها"، اللسان "2/ 37""صادر" محيط المحيط "3/ 9121 وما بعدها" الطبري، تفسير "9/ 65"، الطبرسي، مجمع البيان "1/ 129 وما بعدها"، الزمخشري، الكشاف "1/ 218" الطبرسي "5/ 391""طهران" الطبرين تفسيير "14/ 124"، الكشاف "2/ 178".
وقد وقف العرب الذين كانوا على اتصال باليهود على بعض أحكام دينهم مثل: الرجم بالنسبة للزنا، واعتزال النساء في المحيض. فذكر العلماء أن حكم الإسلام في الحيض "اقتصاد بين إفراط اليهود الآخذين في ذلك بإخراجهن من البيوت، وتفريط النصارى. فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض"1، ومثل الدعاء إلى الصلاة عند اليهود بالنفخ في "الشبور"2، وذلك كما تحدثت عنه في موضع، ومثل صوم "عاشوراء" وأعيادهم، ومثل الصلاة وأوقاتهم عندهم.
واستعمل يهود يثرب "القرن" في معابدهم، لإعلان صلواتهم وأعيادهم وإعلان احتفالاتهم والحوادث المهمة التي قد تقع لهم. وقد كانوا يستعملون آلتين، يقال لأحداهما الـ "شوفار" Shophar ومعناها القر، ويقال للأخرى القرن، وتصنع من القرون كذلك. ولذلك اختلط الأمر بينهما. والظاهر أنهما كانتا تختلفان في نوع قرون الحيوانات التي تتخذان منها3.
وقد اختلف يهود جزيرة العرب عن الجاهليين في الأمور التي حرمتها شريعتهم عليهم في مثل المأكولات، كما اختلفوا عنهم في عبادتهم وفي اعتقادهم بوجود إله واحد، هو "إله إسرائيل"، وفي أمور عقائدية أخرى، واختلفوا عنهم في بعض العادات والمظاهر الخارجية، فكان اليهود مثلا يسدلون شعورهم، أما المشركون فكانوا يفرقون رءوسهم. ورد عن ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم، يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه"4. ولا يستبعد اختلافهم عنهم في لبس بعض الملابس التي لم تكن مألوفة عند الجاهليين.
وقد ظهر بين اليهود شعراء، نظموا الشعر بالعربية وعلى طريقة العرب في نظم الشعر. منهم السموأل المشهور، و"كعب بن الأشرف" وسماك اليهودي، وسأتكلم عنهم في أثناء حديثي عن الشعر.
1 إرشاد الساري "1/ 340"، "كتاب الحيض".
2 إرشاد الساري "2/ وما بعدها""كتاب الآذان".
3 AreIig Ency VoI III p 1599
4 عمدة القاري "17/ 71".
لم يسلم من يهود في أيام الرسول غير عدد قليل من المتبينين منهم. مثل: عبد الله بن سلام، ولم يتعاون معه غير عدد قليل منهم مثل يامين بن عمير بن كعب النضري، ويامين بن يامين الإسرائيلين ومخيريق، وكان رجلا غنيا صاحب نخيل، وهو أحد بني ثعلبة بن الفطيون، حث قومه على مساعدة الرسول ومعاونته في غزوة أحد. وكان الرسول قد طلب مساعدتهم لوجود صحيفة بينه وبينهم. فلما اعتذروا له بالسبت، خالفهم مخيريق قائلا لهم: لا سبت لكم، وقاتل معه حتى قتل، فقال الرسول: مخيريق خير اليهود. وقد وصف بالعلم، وذكر إنه كان حبرا عالما فيهم1. آمن بالرسول وجعل ما له له، وهو سبعة حوائط فجعلها الرسول صدقة2.
أما عبد الله بن سلام، فكان يدعي، وهو في يهوديته، الحصين بن سلام بن الحارث. وسلام اسم والده. فلما أسلم سماه رسول الله "عبد الله"، وهو من بني قينقاع، أسلم والرسول في مكة لم يهاجر بعد، وذلك في رواية من الروايات. وأسلم بعد الهجرة على أكثر الروايات. ذكر إنه كان شريفا في قومه، سيدا، صاحب نسب وحسب، وإنه كان حبرا عالما. فلما أسلم، نبذه قومه، وتحدثوا فيه3. وقد نزلت فيه بضع آيات4.
أما أنه كان حبرا من الأحبار، عالما في شريعتهم، فلا يمكن البت فيه، فقد جرت عادة أهل الأخبار على إطلاق كلمة "الحبر" على نفر ممن أسلم من يهود في أيام الرسول، كما أطلقت على نفر ممن أسلم بعده، مثل كعب الذي عرف بكعب الأحبار. ولا يمكن في نظري البت في درجات علم أمثال هؤلاء وفي مقدار فهمهم للتوراة ولكتب يهود إلا بجمع ما نسب إليهم من قول، ودراسته. عندئذ نستطيع أن نحكم على علمهم إن كان لهم علم بأحكام ديانة يهود وبالعالم وبما كان يتدارسه علماء ذلك العهد. ورأيي أن هذه الدرجات إنما منحها لهم
1 ابن هشام "2/ 140"، "3/ 38"، "محمد محيي الدين عبد الحميد".
Graetz VoI III p75
2 البلاذري، فتوح "24"، الإصابة "3/ 373"، "رقم 7852"، "من بني النضر
…
ويقال إنه من بني قينقاع، ويقال من بني الفطيون".
3 ابن هشام، سيرة "2/ 137"، أسد الغابة "3/ 176"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 270 وما بعدها" الروض الأنف "2/ 25".
4 تهذيب الأسماء "1/ 271"، الإصابة "3/ 116"، "2/ 212"، "رقم 4725". "1939م".
بعض ذوي القلوب الطيبة من المسلمين الأولين، لما رأوه فيهم، ولما سمعوه منهم من أقوال نسبوها إلى الأنبياء والعلماء وإلى كتب الله القديمة، ولم يكن لهم بطبيعة الحال علم بها، لعدم وقوفهم على ما كان يتداوله الأخبار، فعجبوا من علمهم هذا، ومن إحاطتهم بأحوال الماضين، فعد وهم أحبارا لهم في قومهم علم ورأي. وقد تساهل بعضهم في ذلك لظنه أن في منح هؤلاء أمثال هذه النعوت مما يفيد الإسلام، إذ يعني هذا تقدير أولئك الأحبار أصحاب العلم الأول له، وأن تقديرهم هذا شهادة مزكية له. وقد يكون لهم نصيب أيضًا في منحهم هذه الدرجة لأنفسهم للتباهي وللتصدر بذلك بين المسلمين.
وقد نسب أهل الأخبار أقوالا لابن سلام، تجد بعضها في كتب التفسير والحديث، وتجد بعضها في كتب السير والأخبار. لبعضها طابع إسرائيل، فهو من القصص المعروفة بالإسرائيليات، ولبعضها طابع الأقاصيص. قد يكون "ابن سلام" صاحبها ومرجعها، وقد يكون غيره قد نسبها إليه1.
وقد كان له ابنان، هما يوسف ومحمد، رويا عنه الحديث2. وقد كنى باسم ولده يوسف، فعرف بأبي يوسف3. ويعد يوسف من الصحابة، وله حديث عن الرسول، ويقال إن الرسول هو الذي سماه يوسف، وقيل ليست له صحبة. وقد روى عن جماعة من الصحابة4.
وقد أسلم يامين بن يامين الإسرائيلي، على أثر إسلام عبد الله بن سلام5.
وأما يامين بن عمير بن كعب، أبو كعب، أو كعب النضري، فهو من بني النضير. وقد ساعد اثنين من فقراء أصحاب رسول الله على تجهيزهما بشيء من التمر ليتمكنا بذلك من الالتحاق بالجيش الذي سار في السنة التاسعة من الهجرة لغزوة تبوك6. أسلم فأحرز ماله من بني النضير، ولم يحرز ماله من بني النضير غيره وغير أبي سعيد بن عمرو بن وهب، فأحرزا أموالهما. وذكر أن النبي قال
1 Ency، I، p. 30-31، Gaetani، Annali، I، p. 413، Harovitz، in ZDMG، IV، 524.
2 أسد الغابة "3/ 176".
3 تهذيب الأسماء واللغات "1/ 271".
4 تهذيب الأسماء "2/ 166".
5 الإصابة "6/ 333"، "3/ 612"،"رقم "9214".
6 الطبري "3/ 143"، "حوادث السنة التاسعة"، الإصابة "6/ 333"، "القاهرة 1907م"، "3/ 611"، "رقم "92123".
ليامين: ألم تر إلى ابن عمك عمرو بن جحاش وما هم به من قتلي؟ وكان أراد أن يلقى على النبي رحى فيقتله. فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله.
وكان فيمن أسلم من بني قريظة "كعب بن سليم القرظي"، وهو من سبيهم في الإسلام، ويعد في الصحابة، ولكن لا تعرف له رواية. وهو والد محمد بن كعب القرظي المعروف بروايته عن أحداث يهود مع النبي، وعن بعض أخبار بني إسرائيل1. وله روايات في حديث الرسول، وتوفي ما بين سنة ثمان ومئة وسنة عشرين ومئة. وقد عده علماء الحديث في طبقة الثقات الورعين2.
وفيمن أسلم من يهود بني قريظة رفاعة القرظي، وهو رفاعة بن سموأل "سموال"، وقيل: رفاعة بن رفاعة القرظي من بني قريظة، وهو خال صفية زوجة النبي، لأن أمها برة بنت سموأل "سموال"، أما أبوها، فهو "حيي بن أخطب" من رؤساء يهود، وكان من كبار المعارضين له، وهو من بني النضير3.
ويعد "زيد بن سعية""سعنة" في طبقة الصحابة، ويقال إنه كان أحد أحبار اليهود الذين أسلموا، وإنه كان أكثرهم علما ومالا، وقد شهد مع النبي مشاهد كثيرة، وتوفي في غزة تبوك مقبلا إلى المدينة4.
ويعد "عطية القرظي" من الصحابة كذلك، كان صغيرا حين غزا النبي بني قريظة، ولذلك لم يقتل، فأسلم، وصحب النبي5.
ولم يظهر من يهود اليمن في الإسلام ممن عرفوا برواية الإسرائيليات سوى رجلين، هما: كعب الأحبار، ووهب بن منبه. فأما كعب الأحبار، فقد أدرك زمن الرسول، غير أنه لم يره، ولم يدخل في الإسلام إلا في أيام أبي بكر أو عمر. وهو أبو إسحاق كعب بن ماتع بن هينوع "هيسوع"، وقد عرف
1 تهذيب الأسماء "2/ 676"، أسد الغابة "4/ 242".
2 الطبري "3/ 44"، "السنة الخامسة"، تهذيب الأسماء "1/ 90".
3 الإصابة "1/ 504""رقم 2668"، تهذيب الأسماء "1/ 171 وما بعدها، 191"، "2/ 348 وما بعدها".
4 تهذيب الأسماء "1/ 204"، الإصابة "3/ 28"، "1/ 548"، "رقم 2904"، "التجارية 1939م"، "واستشهد في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر".
5 تهذيب الأسماء "1/ 235"، الإصابة "2/ 479"، "رقم 5581".
بين المسلمين بكعب الأحبار وبكعب الحبر من باب التعظيم والتقدير لعلمه. وقد أتاه هذا اللقب من علمه بالشريعة وبكتب الأنبياء وبأخبار الماضين، وهو علم لا نستطيع أن نحكم على درجته ومقدار بعده أو قربه من العلم الذي كان منتشرا بين أحبار ذلك العهد ما لم نقف على الأقوال الصحيحة التي صدرت عن ذلك الحبر. أما هذا المروي عنه والمذكور في تفسير الطبري وفي تأريخه وفي كتب من كان يعني بجمع القصص ولا سيما قصص الرسل والأنبياء فليس في استطاعتنا التصديق بأنه كله صادر من فم كعب، إذ يجوز أن يكون من رواية أناس آخرين ثم حمل على كعب.
ولم ينسب أحد إلى كعب مؤلفا، وكل ما نسب إليه فهو مما ورد عنه بالمشافهة والسماع. وهو بين صحيح يمكن أن يكون قد صدر عنه، وبين مشكوك في أمره وضع عليه، وفيه ما هو إسرائيلي صحيح، أي إنه مما هو وارد في التوراة أو في التلمود أو في الكتب الإسرائيلية الأخرى وفيه ما هو قصص إسرائيلي نصراني، وما هو محض افتعال وخلط. وبالجملة، إن هذا الوارد عنه يصلح أن يكون موضوعا لدراسة، لمعرفة أصوله وموارده والمنابع التي أخذت منه. وعندئذ يمكن الحكم على درجة أصله ونسبه في علم بني إسرائيل، وإمكان صدوره من كعب أو من غيره، ومقدار علم كعب ووقوفه على الإسرائيليات.
وأما وهب بن منبه، فيعد من التابعين، ويعد مرجعا مهما في القصص الإسرائيلي. ويقال إنه حصل على علمه من كتب الأولين، وإن أخا له كان يذهب إلى الشام للتجارة فيشتري له الكتب ليطالعها، وإنه كان على علم غزير بأحوال الماضين، وكان ملما بجملة لغات1. وإذ كان وهب من المتأخرين وكان نشاطه في الحركة الفكرية في الإسلام لا في الجاهلية، لم نجعل له في هذا الموضع مكانا، إنما مكانه في الأجزاء المتعلقة بتاريخ الإسلام.
هذه قصة يهود جزيرة العرب قبل الإسلام، قصة لا تستند إلى مؤلفات تأريخية كتبت في تلك الأيام، ولا إلى نصوص جاهلية عربية أو أعجمية لها علاقة بيهود كتبت في ذلك العهد، ولكن تستند، في أكثر ما حكيناه إلى موارد إسلامية، ذكرتهم وأشارت إليهم لمناسبة ما وقع بينهم وبين الرسول من خلاف، وقد ورد
1 لي مقال عنه في مجلة المجمع العلمي العراقي، الجزء الأول والثاني منها.
شيء كثير بحقهم في القرآن الكريم وفي الحديث وفي الأخبار ولا سيما أخبار الغزوات، يتعلق معظمه بأمر الخصومة التي وقعت بينهم وبين النبي عند قدومه يثرب، فهو لا صلة له لذلك إلا بما له علاقة بهذه الناحية. وما ورد عنهم إذن هو من مورد واحد وطرف واحد. أما الطرف الثاني من أصحاب العلاقة بهذا التأريخ والشأ، وأعني بهم اليهود، فلا صوت لهم فيه، ولا رأي. فلم تصل إلينا منهم كتابة ما عنهم في علاقتهم بالإسلام. كذلك لم تصل إلينا كتابة أو رواية أو خبر عن أولئك اليهود في الموارد التأريخية التي دونها غيرهم من مؤرخي يهود وكتابهم عن علاقة يهود جزيرة العرب بالإسلام، وعن اجلاء يهود الحجاز من مواضعهم إلى بلاد الشام، لا في العربية ولا في العبرانية ولا في بقية اللغات، مع ما لهذا الحادث من خطر في تأريخ اليهود في جزيرة العرب. ولعل الأيام تكشف لنا عن موارد في العبرانية أو في لغة بني إرم تذكر أحوال يهود جزيرة العرب قبيل الإسلام وعند ظهوره، وتكشف عن آثار يهود في المواضع التي كانوا يسكنونها في الحجاز، فتبت في أمور كثيرة عن حياة هؤلاء. وليس احتمال عثورنا على مثل هذه الآثار ببعيد، فلا بد أن يعثر على حجر من الحجارة المكتوبة التي توضع فوق القبور، فتعرف منه ما لغة الكتابة التي كان يستعملها أولئك اليهود، أهي العبرانية، أو العربية، أو لغة بني إرم، أو أبجدية من الأبجديات المشتقة من القلم المسند؟ وقد يعثر على نصوص أطول من هذه النصوص التي توضع على القبور، تكشف النقاب عن أمور أخرى مهمة تفيدنا في معرفة أحوال اليهود ببلاد العرب قبل الإسلام.
وما دمنا لا نملك نصوصا يهودية جاهلية، ولا نصوصا عربية جاهلية تتعرض ليهود، فليس في وسعنا إذن أن نتحدث باطمئنان عن أثر اليهود في الجاهليين أو أثر الجاهليين في اليهود. لقد تحدث عدد من المستشرقين عن أثر اليهود في الجاهليين، فزعموا أن اليهود أثرًا عميقًا فيهم، فالختان مثلا هو أثر من آثار يهود في العرب. وشعائر الحج عند الوثنيين أكثرها هي من إسرائيل، فالطواف حول البيت يرجع أصله إلى بني إسرائيل، ذلك أن قدماءهم كانا يطوفون حول خيمة الإله "يهوه" إله إسرائيل، ومنهم تعلمه الجاهليون واتبعوه في طوافهم بالبيت. والإجازة بعرفة يهودية كذلك، لأن الذي كان يجيز الحجاج بعرفة فيأمر الحج بالرمي بعد أن يلاحظ الشمس وقت الغروب يعرف بـ "صوفة"، وصوفة
تسمية عبرانية لها علاقة وصلة بهذه الوظيفة مراقبة غروب الشمس وتثبيت وقته، فالإجازة إذن عبرانية الأصل. و"منى" صنم من أصنام إسرائيل، ووادي منى على اسم هذا الصنم الإسرائيلي، وأسماء أيام الأسبوع هي تسميات أخذت من يهود، ولفظة "المدينة" التي تطلق على يثرب، أطلقها اليهود، على هذا الموضع قبل الإسلام، وقد أخذوها من الإرمية، لتميز هذا المكان عن "وادي القرى". وأشياء أخرى عديدة من هذا القبيل1.
وقد غالى بعض اليهود في تقدير يهود جزيرة العرب، فذهب إلى أن أولئك اليهود جلهم إن لم يكونوا كلهم كانوا يحسنون قراءة الكتاب المقدس، بدليل إطلاق القرآن الكريم عليهم "أهل الكتاب". وقد فاته أن عبارة "أهل الكتاب" لا تعني أهل الكتابة، بمعنى أنهم كانوا أصحاب علم بالكتابة، وإنما المراد من ذلك أهل كتاب منزل سماوي. ويدخل في ذلك النصارى أيضًا لوجود كتاب سماوي لديهم كذلك هو الإنجيل. وقد رأيت أن القرآن الكريم قد وصف بعض الأحبار بالعلم. كما رمى أكثرهم بالجهل. أما السواد الأعظم منهم، فقد جعلهم عامة تتبع أقوال رجالها، فلا علم لها ولا معرفة بأمور الماضين أو الحاضرين.
وأنا لا أريد هنا أن أجادل في نفي هذه الأمور، أو إثباتها، فأخذ الشعوب واقتباسها بعضها عن بعض، من القضايا التي لا يمكن أن ينكرها إلا المعاندون الجاهلون المتعصبون. وقد رأيت أن ابن الكلبي وغيره من قدامى الإخباريين قد أشاروا إلى أن أصل بعض الأصنام عند العرب هو من الشمال، استورد في مناسبات أشاروا إليها، كما أن التنقيبات الأثرية قد أثبتت وجود صلات فكرية بين جزيرة العرب وبين العالم الخارجي، وأن ما يزعمه القائلون بعزلة الجاهليين عن بقية العالم هو هراء لا يستند إلى دليل. ولكني في هذه الأمور من الحذرين. أكره الجزم بشيء من غير برهان قاطع ودليل محسوس. فلكلام أهل الأخبار، أكثره مما لا يمكن الاعتماد عليه، وقد رأينا طبيعة أكثره ونوعه. ثم إن الكثير مما له علاقة بيهود وبالدين هو مما أخذ من أهل الكتاب في سلام أو من أفواه مسلمة أهل الكتاب. فهو متأخر عن الجاهلية، فلا يمكن أن يشمل الجاهليين من أهل الكتاب ومن وثنيين. وعلينا الآن التمييز بين هذا الذي أدخل بين العرب بعد أيام الجاهلية
1 اليهود "78 وما بعدها" Graetz VoI p 60
وبين ذلك الذي كان معروفا عند الجاهليين وقد ورد عنهم، وذلك لنتمكن من أبداء راي في هذه القضايا المعقدة.
ثم إن العرب كانوا شعبا ساميا، كاليهود في اصطلاح العلماء وتشترك البطون السامية في كثير من أصول التفكير والعقيدة، ومعنى هذا أن ما نجده عند يهود قد يكون عند العرب وعند غيرهم ممن يدخلهم المستشرقون في هذه الزمرة. فلم كل شيء ليهود، ونحكم على أن الجاهليين قد أخذوه منهم، ولا نقول إن هذا من ذلك التراث القديم الموروث؟ أنا لا أقول ذلك متأثرًا بدافع من العصبية، إنما أقول ذلك لأني أدين بفكرة هي أن الاستعجال في إصدار الأحكام بغير دليل خطأ فاحش لا يجوز لإنسان بإنسانيته أن يوقع نفسه فيه.
هذا ولا بد بالطبع من أن يتأثر الجاهليون المجاورون لليهود بعض التأثر بهم، بأن يأخذوا منهم بعض الأشياء ويتعلموا منهم بعض الأشياء التي تنقصهم والتي هم في حاجة ماسة إليها. فذلك أمر لا بد منه. كما ولا بد وأن يكون اليهود قد أقتبسوا من جيرانهم العرب، وعملوا على محاكاتهم في حياتهم الاجتماعية، لا سيما وبينهم يهود من أصول عربية.