المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الحادي والثمانون: التنظيم الديني ‌ ‌مدخل … الفصل الحادي والثمانون التنظيم الديني وكان لنصارى - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٢

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني عشر

- ‌الفصل الرابع والسبعون: الكعبة

- ‌مدخل

- ‌الكسوة:

- ‌المال الحلال:

- ‌بقية محجات العرب:

- ‌المزارات:

- ‌الفصل الخامس والسبعون: الحنفاء

- ‌مدخل

- ‌الاعتكاف:

- ‌الفصل السادس والسبعون: اليهودية بين العرب

- ‌مدخل

- ‌يهود اليمن:

- ‌الفصل السابع والسبعون اليهود والإسلام

- ‌الفصل الثامن والسبعون شعر اليهود

- ‌الفصل التاسع والسبعون: النصرانية بين الجاهليين

- ‌مدخل

- ‌النصرانية في بقية مواضع جزيرة العرب:

- ‌الفصل الثمانون المذاهب النصرانية

- ‌الفصل الحادي والثمانون: التنظيم الديني

- ‌مدخل

- ‌أعياد النصارى:

- ‌الفصل الثاني والثمانون: أثر النصرانية في الجاهليين

- ‌الفصل الثالث والثمانون: المجوس والصابئة

- ‌مدخل

- ‌الصابئة:

- ‌الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح

- ‌مدخل

- ‌طعام الجن:

- ‌الحية:

- ‌الغول:

- ‌ الشيطان

- ‌شق:

- ‌والهاتف والرئي

- ‌الرئي:

- ‌الملائكة:

- ‌السحر:

- ‌الفصل الخامس والثمانون: في أوابد العرب

- ‌مدخل

- ‌العراف:

- ‌الراقي:

- ‌الاستقسام بالأزلام:

- ‌الأحلام:

- ‌الفصل السادس والثمانون: الطيرة

- ‌مدخل

- ‌التثاؤب والعطاس:

- ‌بعض من أنكر الطيرة

- ‌الفأل:

- ‌الفصل السابع والثمانون: من عادات وأساطير الجاهليين

- ‌مدخل

- ‌عقيدتهم في الحيوان:

- ‌فهرس الجزء الثاني عشر

الفصل: ‌ ‌الفصل الحادي والثمانون: التنظيم الديني ‌ ‌مدخل … الفصل الحادي والثمانون التنظيم الديني وكان لنصارى

‌الفصل الحادي والثمانون: التنظيم الديني

‌مدخل

الفصل الحادي والثمانون التنظيم الديني

وكان لنصارى العرب تنظيمهم الخاص بدور العبادة وبالتعليم والإرشاد، وهو تنظيم أخذ من تنظيم الكنيسة العام، ومن التقاليد التي سار عليها آباء الكنيسة منذ أوائل أيام النصرانية حتى صارت قوانين عامة. فللكنيسة درجات ورتب، وللمشرفين عليها منازل وسلالم، وقد اقتبست هذه التنظيمات من الأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشت فيها النصرانية منذ يوم ولادتها، والتي وضعها رؤساؤها لنشر الديانة ولتنظيم شؤون الرعية، حتى صارت الكنيسة وكأنها حكومة من الحكومات الزمنةي، لها رئيس أعلى، وتحته جماعة من الموظفين، لها ملابس خاصة تتناسب مع درجاتهم ومنازلهم في مراتب الحكومة، ولهم معابد وبيوت وأوقاف وسيطرة على أتباعهم، جاوزت أحيانًا سيطرة الحكومات.

ومن الألفاظ التي لها علاقة بالدرجات والرتب الدينية عند النصارى لفظة "البطرك" و"البطريق". وقد وردت لفظة "البطريق" في شعر ينسب إلى "أمية بن أبي الصلت"1.

1 من كل بطريق لبطريق نقى الوجه واضح - تاج العروس "6/ 296"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزءالثاني، القسم الأول "ص191"، تاج العروس "7/ 111""الطبعة الأولى بمصر، مطبعة مصر"، اللسان "10/ 212، 401"، "دار صادر""بيروت 1956"، البستان "11/ 157"، "بيروت 1927"، محيط المحيط "1/ 102" بيروت 1868/"، مروج "2/ 199"، صبح الأعشى "5/ 472"، "القاهرة 1915م"" المطبعة الأميرية".

ص: 214

وقد ذهب علماء اللغة إلى أن "البطرك"، هو مقدم النصارى، وهو في معنى "البطريق" أيضًا. وقالوا أيضًا إن البطريق مقدم جيش الروم. و"البطرك" من أصل يوناني هو "Patriakhis""بثريارخيس"، ومعناه "أبو الآباء"، وذلك لأنه الأب الأول والأعلى للرعية، فهو أب الآباء ورئيس رجال الدين. أما لفظة البطريق، فإنها من أصل لاتيني، هو Patrikios، وهو يعني وظيفة حكومية وتعني درجة "قائد" في المملكة البيزنطية1. فلا علاقة لها إذن بالتنظيم الديني للنصرانية.

وبين البطريق "البطرك" والأسقف منزلة يقال لشاغلها "المطران"، وقد عرف بأنه دون البطرك وفوق الأسقف. وقد وسمه "القلقشندي"، بأنه القاضي الذي يفصل الخصومات بين النصارى2. واللفظة من الألفاظ المعربة عن اليونانية، أخذت من "متروبوليتيس "MitropoIitis" أي مختص بالعاصمة، أو المدينة3. وقد ذكر علماء اللغة أن لفظة "المطران"، ليست بعربية محضة4.

والأسقف من الألفاظ التي تدل على منزلة دينية عند النصارى، وقد وردت في كتب الحديث. وقد ذكر بعض علماء اللغة إنه إنما سمي أسقف النصارى أسقفا لأنه يتخاشع5. واللفظة من الألفاظ المعربة المأخوذة عن اليونانية، فهي "ابسكوبوس" Episkopos" في الإغريقية، وقد نقلت منها إلى السريانية، ثم نقلت منها إلى العربية6. وقد وردت في كتب التواريخ والسير، حيث ورد في شروط الصلح التي عقدها الرسول مع أهل نجران، شرط هو:"لا يغير أسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته".

1 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص190 وما بعدها"، غرائب اللغة "ص255".

2 صبح الأعشى "5/ 472".

3 محيط المحيط "2/ 1987"، غرائب اللغة "ص269".

4 تاج العروس "3/ 546"، "مطر"، النصرانية "191"، البلدان "4/ 122""ديارات الأساقفة".

5 اللسان "11/ 56"، البلدان "4/ 122"، تاج العروس "6/ 141"، صبح الأعشى "5/ 472"، مقدمة ابن خلدون "234"، تأريخ ابن خلدون "27، القسم الأول ص297" اللسان "9/ 156""صادر".

6 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص119"، غرائب اللغة "ص252" محيط المحيط "1/ 970"، البستان "1/ 111"، النهاية في غريب الحديث "4/ 237".

ص: 215

والقس من الألفاظ الشائعة بين النصارى، ولا تزال مستعملة حتى الآن. ويقال لها "قسيس" في الوقت الحاضر أيضًا. وهي من أصل آرامي هو "Gachecho" ومعناه، كاهن وشيخ1. وقد جمعها "أمية بن أبي الصلت" على "قساقسة"2. وذكر بعض علماء اللغة أن "القس والقسيس العالم العابد من رءوس النصارى" وأن "اصل القس تتبع الشي وطلبه بالليل. يقال تقسست أصواتهم بالليل، أي تتبعتها"3. وقد وردت لفظة "قسيسين" في القرآن الكريم: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} 4. ويدل ذلك على أن موقف النصارى تجاه الإسلام كان أكثر مودة من موقف يهود. وقد نسب ذلك إلى القسيسين والرهبان.

وترد لفظة "شماس" في جملة الألفاظ التي لها معان دينية عند نصارى الجاهلية. وهي من الألفاظ الحية التي لا تزال تستعمل في هذا اليوم أيضًا. وتعد من الألفاظ المعربة عن السريانية. وهي "Chamocho" في الأصل، وتعني خادم، ومنها البيعة. فهي إذن ليست من الوظائف الدينية الكبيرة، وإنما هي من المراتب الثانوية في الكنيسة5. وقد ذكر بعض العلماء بأن الشماس يحلق وسط رأسه ويجعل شعره من جوانب رأسه على شكل دائرةن وهو الذي يكون مسؤولا عن الكنيسة، ويكون مساعدا للقسيس في أداء واجباته الدينية، وفي تقديس القداس أيام الآحاد والأعياد. يعمل كل ذلك للتعبد. وليس لأخذ المال والتكسب6.

1 غرائب اللغة "ص201"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص192".

2

لو كان منفلت كانت قساقسة

يحييهم الله في أيديهم الزبر

تاج "4/ 207".

3 تاج العروس "4/ 216"، محيط المحيط "1/ 1221"، تأريخ ابن خلدون "جـ2 قسم 1 ص297".

المفردات، للأصفهاني "ص412"، اللسان "6/ 174""صادر" صبح الأعشى "5/ 472"، مقدمة ابن خلدون "233".

4 المائدة، الآية 85، أسباب النزول "152"، تفسير الطبري "7/ 2".

5 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص193"، غرائب اللغة "ص191".

6 اللسان "6/ 114""صادر محيط المحيط "1/ 1221"، صبح الأعشى "5/ 472"، ابن خلدون "29، القسم الأول، ص297"، البستان "1/ 1259".

ص: 216

وورد في كتاب رسول الله إلى سادة نجران: "لا يغير أسقف عن سقيفاه، ولا راهب عن رهبانية، ولا واقف عن وقفانيته"1. ويظهر من هذا الكتاب أن الواقف منزلة من المنازل الدينية التي كانت في مدينة نجران. والظاهر إنها تعني الواقف على أمور الكنيسة، أي الأمور الغدارية والمالية والمشرف على أوقافها وأملاكها. فهو في الواقع مسؤول إداري، اختصاصه الإشراف على الأمور المتعلقة بسير غدارة الكنيسة وأموالها. إذ لا يعقل أن يكون الواقف بمعنى خادم البيعة الذي يقوم بالخدمة بمعنى التنظيف والأعمال البسيطة الأخرى، إذ لا يعقل النص على مصل هذه الدرجة في كتاب صلح الرسول مع سادة نجران. وقد ذكر بعض علماء اللغة:"الواقف خادم البيعة، لأنه وقف نفسه على خدمتها"2. ولا يعني هذا التفسير بالضرورة الخدمة على النحو المفهوم من الخدمة في الاصطلاح المتعارف. فقد كان الملوك والسادات يلقبون أنفسهم بـ "خادم الكنيسة" و"خادم المعبد"، أي بالمعنى المجازي. ولا يكون خادما صارفا وقته كله في تنظيف الكنيسة وفي القيام بالأعمال التي يقوم بها الخادم الاعتيادي.

وهناك لفظة أخرى لها علاقة بالكنيسة وبالبيعة وبالنواحي الإدارية منها، هي لفظة "الوافه" و"الواقه". وقد عرفوا صاحبها بـ "قيم البيعة التي فيها صليب النصارى"، وفي هذا المعنى أيضًا لفظة "الواهف"، حيث قالوا:"الواهف سادن البيعة التي فيها صليبهم وقيمها، كالوافه وعملها الوهافة"، والوهفية والهفية. والظاهر إنها كلها في الأصل شيء واحد، وإنما اختلف علماء اللغة في ضبظ الكلمة، فوقع من ثم هذا الاختلاف بينهم3. فالوظيفة إذن، هي بمنزلة الخازن القيم على شؤون الصليب، يحفظه من السرقة، ويضعه في خزانة أمينة، فإذا حانت أوقات العبادة وضعه في موضعه. فالصليب ثمين، وفيه ذهب

1 ابن سعد، الطبقات "1/ 358""طبعة صادر"، "لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا وافه من وفاهيته"، النهاية في غريب الحديث "4/ 237"، "واقه من وقاهيته"، البلاذري "فتوح "72"، "صلح نجران"، اللسان "17/ 459"، تاج العروس "9/ 421"، الفائق "2/ 317"، النهاية "4/ 240".

2 تاج "6/ 269"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص193" اللسان "9/ 360"، "صادر".

3 تاج "6/ 373"، "9/ 421"، المخصص "13/ 600"،اللسان "13/ 561" "صادر.

ص: 217

في الغالب، لذلك يكون هدفا للسراق1.

ويلاحظ أن علماء الحديث والتأريخ والسير، ليسوا على اتفاق فيما بينهم في تدوين نص كتاب الصلح الذي أعطاه الرسول لأهل نجران، إذ تراهم يختلفون في ضبط نصه: وفي جملة ما اختلفوا فيه جملة: "ولا واقه من وقاهيته"، فقد كتبوها بصور شتى كما رأيت، كما كتبوا النص بأشكال متباينة، مما يدل على أن الرواة قد اعتمدوا على نسخ متعددة للكتاب، وعلى أن أهل نجران كانوا قد نسخوا منه نسخا، تحرفت نصوصها بالاستنساخ، لعدم تمكن الناسخ من ضبط العبارات ضبطا صحيحا. فلما دون العلماء صورة النص تباينوا في تدوينه، وأوجدوا لهم تفاسير للفظة "واقف" و"وافه"و"واقه"، وهي لفظة واحدة في الأصل، قرأها النساخ ثلاث قراءات، فظهرت وكأنها ألفاظ مختلفة. وحاروا في تعليل المعنى، فقال بعضهم الوافه: قيم البيعة بلغة أهل الجزيرة، وقال بعض آخر بلغة أهل الحيرة، وقال بعض: كلها في معنى واحد2.

وهناك مصطلحات دينية أخرى استعملها النصارى للدلالة على درجات رجال دينهم، مثل "بابا"، وهي كلمة "رومية" وهو أعلى مرجع في نظر النصارى "الكاثوليك"3، و"الجاثليق"، وهو رئيس أساقفة بلد ما، والأعلى مقاما بينهم، وقد أطلقت اللفظة على رئيس نصارى بغداد في العهد العباسي4، وهي من أصل يوناين هو "كاثوليكوس" KathoIikos ومعناه عام5.

والساعي من الألفاظ التي تتناول المنازل والدرجات عند النصارى، وتشمل اليهود أيضًا. ويقصد بها الرئيس المتولي لشؤون اليهود أو النصارى، فلا يصدرون رأيا إلا بعد استشارته، ولا يقضون أمرا دونه. وقد ورد في حديث حذيفة في الأمانة:"إن كان يهوديا أو نصرانيا ليردنه على ساعيه"6.

1 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص194".

2 اللسان "17/ 459"، تاج العروس "9/ 421"، النهاية "4/ 240".

3 صبح الأعشى "5/ 472"، تأريخ ابن خلدون "جـ2 القسم الأول، ص297". مقدمة ابن خلدون "ص234"، غرائب اللغة "ص277".

4 تاج العروس "6/ 305"، صبح الأعشى "5/ 472"، محيط المحيط "1/ 214"، البستان "1/ 309".

5 غرائب اللغة "ص256".

6 تاج العروس "10/ 178""سعى"، اللسان "14/ 387"، محيط المحيط "1/ 960"، النصرانية"192".

ص: 218

ولفظة "بابا" وما بعدها، هي من الألفاظ التي شاع استعمالها في العربية في الإسلام، وليس لدينا ما يفيد استعمالها بين الجاهليين.

وذكر علماء اللغة أن من الألفاظ المعروفة بين النصارى لفظة "العسطوس"، ويراد بها القائم بأمور الدين، وهو رئيس النصارى1.

أما "الراهب"، فهو المتبل المنقطع إلى العبادة، وعمله هو الرهبانية. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الرهبانية غلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة2. وقد ذكرت الرهبانية في القرآن الكريم3، وذكرت في الحديث. وقد نهى عنها الإسلام: "لا رهبانية في الإسلام". وقد ندد القرآن الكريم في كثير من الأحبار والرهبان، فورد:{إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 4. ويظهر من ذلك أن جماعة منهم كانت تتصرف بأموال الناس التي تقدم إلى الأديرة والبيع، فيعيشون منها عيشة مترفة، لا تتفق مع ما ينادون به من التقشف والزهد والعبادة. كما أن منهم من عاش عيشة رفيهة وبطر، فتكبر عن الناس وترفع، حتى جعلوا أتباعهم يحيطونهم بهالة من التقديس والتعظيم، إلى درجة صيرتهم أربابا على هذه الأرض. فتقربوا إليهم وقدسوهم قدسية لا تليق إلا للخالق. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5. ذلك إنهم كانوا يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون ما أحل الله لهم فيحرمونه. "أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه وإذا حرموا شيئًا أحله الله لهم حرموه، فتلك

1 تاج العروس "4/ 192"، اللسان "6/ 141"، محيط المحيط "1/ 1396".

2 المفردات، للأصفهاني "ص203"، اللسان "جـ1/ 437""صادر القاموس "1/ 76"، تاج العروس "1/ 281"، الصحاح، للجوهري "1/ 140".

3 المائدة، الآية 82،التوبة، الآية 31، 34، سورة الحديد، الرقم 57، الآية 27، مجمع البيان "7/ 158"، تفسير الفخر الرازي "12/ 66 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 8 وما بعدها"، النهاية، لابن الأثير "2/ 120".

4 التوبة، الرقم 9، الآية 34، مجمع البيان "10/ 48"، تفسير الطبري "7/ 8 وما بعدها" تفسير الخازن "7/ 233 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 141 وما بعدها"، المقريزي، السلوك من معرفة سير الملوك "1/ 182"، "دار الكتب المصرية "1936"، السيوطي، الدر المنثور "10/ 75".

5 التوبة، الرقم9، الآية 31، جامع البيان "10/ 80"، الكشاف "2/ 31" روح المعاني "10/ 75"، تفسير الخازن "2/ 216".

ص: 219

كانت ربوبيتهم"1. وكانوا يطيعونهم طاعة عمياء، ويأخذون عنهم، ويقدسونهم، ويقبلون أيديهم ولا يعصون أمرا لهم. وذكر أن "عدي بن حاتم" الطائي، قال لرسول الله لما سمعه يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، "يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم. فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله، فتحلونه! قال: قلت بلى: قال فتلك عبادتهم"2.

ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن من الرهبان من بالغ في الترهيب وفي التزهد، فخصى نفسه ووضع السلاسل في عنقه أو في يديه أو رجليه ليحبس نفسه، وامتنع عن المآكل والأطايب، مكتفيا بقليل من الماء وبشيء من الخبز الخشن، وأن منهم من امتنع عن الكلام وصام معظم أوقاته، وابتعد عن الناس متخذا من الكهوف والجبال والمواضع النائية الخالية أماكن للتأمل والتعبد. وذلك كما يظهر من نهي الرسول عن الرهبة والرهبانية، وحمل الإسلام عليها. لأنها تبعد الناس عما أحل الله وقد عوض الإسلام عنها بالجهاد في سبيل الله3.

ومن عادات الرهبان وتقاليدهم التي وقف عليها أهل الجاهلية، الامتناع عن أكل اللحوم والودك، أبدا أو أمدا، وحبس النفس في الأديرة والصوامع، والكهوف، والاقتصاد على أكل الصعب من الطعام والخشن من الملبس، ولبس السواد والمسوح. وهي عادة انتقلت إلى الأحناف أيضًا وإلى الزهد من الجاهليين الذين نظروا نظرة زهد وتقشف إلى هذه الحياة4. كما كانوا لا يهتمون بشعورهم فكانوا يطلقونها ولا يعتنون بها ولذلك كانت شعروهم شعثا، وعبر عن الراهب

1 تفسير الطبير "10/ 80 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "5/ 142"، تفسير الطبرسي "5/ 22".

2 تفسير الطبري "10/ 80 وما بعدها"، "بولاق".

3 النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير "ص163""2/ 120""المطبعة الخيرية"، اللسان "1/ 437 وما بعدها"، تاج العروس "1/ 280 وما بعدها"، القاموس المحيط "1/ 76"، محيط المحيط "1/ 806" مجمع البيان "7/ 158"، "6/ 176"، جامع البيان "27/ 238"، "10/ 117"، الكشاف، للزمخشري "4/ 69". "2/ 31"، "1/ 43"، روح المعاني "27/ 165"، "10/ 75"، "7/ 3"، الدر المنثور "10/ 75"، صحيح مسلم "8/ 229""كتاب الزهد"، اللسان "1/ 437""صادر".

4 تفسير الطبري "7/ 8""الطبعة الثانية 1957م"، تفسير أبي السعود، "4/ 141 وما بعدها"، تفسير الرازي "12/ 67 وما بعدها".

ص: 220

بالأشعث، لأنه كان يطلق شعر رأسه ولا يحلقه ولا يعتني به1.

ومن الرهبان من ساح في الأرض، فطاف بلاد العرب وأماكن أخرى، وهام على وجهه في البوادي وبين القبائل، لا يهمه ما سيلاقيه من أخطار ومكاره، ومنهم من ابتنى له بناء في الفيافي وفي الأماكن النائية، واحتقر الآبار وحرث البقول، وعاش عيشة جماعية، حيث يعاون بعضهم بعضًا في تمشية أمور الدير الذي يعيشون فيه2. ومنهم من عاش في قلل الجبال، بعيدا عن المارة والناس. قال الشاعر:

لو عاينت رهبان دير في القلل

لانحدر الرهبان يمشي ونزل3

وقد وقف بعض أهل الجاهلية على أخبار هؤلاء الرهبان وعرفوا بعض الشيء عنهم، وبهم تأثر بعض الحنفاء على ما يظهر فأخذوا عنهم عادة التحنث والتعبد والانزواء والانطواء في الكهوف والمغاور والأماكن النائية البعيدة للتنسك والتعبد مبتعدين بذلك عن الناس منصرفين إلى التأمل والتفكر في خلق هذا الكون دون أن يدخلوا النصرانية.

وقد نهى الرسول بعض الصحابة مثل "عثمان بن مظعون"، وهو من النصارى في الأصل من تقليد الرهبان في الإخصاء وفي الامتناع عن الزواج ومن التشدد في أمور أحلها الله للناس4. ويظهر أن هذا التشدد إنما جاء إليه وإلى أمثاله من وقوفهم على حياة الرهبان وعلى رأيهم وفلسفتهم بالنسبة لهذه الحياة. وفي حق هؤلاء نزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ

1 تاج العروس "1/ 638".

2 تفسير الطبري "27/ 124"، روح المعاني "6/ 8 وما بعدها"، تفسير الطبري "7/ 9وما بعدها"، تفسير الخازن "7/ 233 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 141 وما بعدها".

3 تفسير الطبري "7/ 4".

لو أبصرت رهبان دير في الجبل

لانحدر الرهبان يسعى ويصل

تفسير القرطبي، الجامع "6م 258".

4 الدر المنثور "2/ 307"، مجمع البيان في تفسير القرآن "7/ 6 وما بعدها"، تفسير القرطبي "6/ 260 وما بعدها"، مجمع البيان "27/ 158"، "طبعة دار الفكر. بيروت"، الدر المنثور، للسيوطي "2/ 307"، روح المعاني "7/ 3"، "27/ 165".

ص: 221

وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1. وذكر أن الرسول لما سمع بابتعاد "عثمان" من أهله، دعاه، فنهاه عن ذلك. ثم قال: "ما بال أقوم حرموا النساء والطعام والنوم! ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني". فنزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} . يقول لعثمان لا تجب نفسك، فإن هذا هو الاعتداء"2.

وورد في الحديث: "لا صرورة في الإسلام"، والصرورة التبتل وترك النكاح، أي ليس ينبغي لأحد أن يقول لا أتزوج، لأن هذا ليس من أخلاق المسلمين، بل هو من فعل الرهبان. وهو معروف في كلام العرب. ومنه قول النابغة:

لو أنها عرضت لأشمط راهب

عبد الإله صرورة متعبد

يعني الراهب الذي ترك النساء3.

وقد أشير إلى الرهبان في شعر امرئ القيس، إذ أشار فيه إلى منارة الراهب التي يمسي بها يتبتل فيها إلى الله، وعنده مصباح يستنير بنوره4. كما أشار فيه إليه وهو في صومعته يتلو الزبور ونجم الصبح ما طلعا5، دلالة على تهجده وتعبده في وقت يكون الناس فيه نياما. كما أشير إليهم في شعر شعراء جاهليين آخرين مثل "النابغة الذبياني"، الذي أشار إلى ركوع الراهب يدعو ربه فيه ويتوسل إليه6. كما أشار إلى موقف الراهب من رؤية امرأة جميلة، وكيف سيرنو إليها

1 المائدة، الآية 87.

2 تفسير الطبري "7/ 6"، روح المعاني "7/ 7".

3 تاج العروس "3/ 331"، "صور".

4

تضئ الظلام بالعشاء كأنها

منارة ممس راهب متبتل

النصرانية "الجزء الثاني، القسم الأول، ص175".

5

كأنه راهب في رأس صومعة

يتلو الزبور ونجم الصبح ما طلعا

النصرانية "جـ 2، قسم2، ص392".

6 سيبلغ عذراء أو نجاحا من امرئ

إلى ربه رب البرية راكع

دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية""10/ 9"،النصرانية "الجزء الثاني، القسم الثاني "ص394".

ص: 222

حتى وإن كان راهبا اشمط1. وقد أشار إلى "ثوبي راهب الدير" وإلى الحلف بثوبيه2.

وورد في الشعر ما يفيد بانقطاع الرهبان في الأماكن الصعبة القصية مثل قلل الجبال وذراها، حيث لا يأتيهم الناس، فيعيشون في خلوة وانقطاع عن البشر3. ومن الأماكن التي اشتهرت بوجود الرهبان فيها أرض مدين4. ووادي القرى ومنازل تنوخ وصوران وزبد5.

وقد سبح الرهبان ورجال الدين، الله، في الكنائس وفي الأديرة بألحان عذبة جميلة، ورتلوا الزبور والأسفار المقدسة الأخرى. وقد عرف الجاهليون ذلك عنهم، وأشاروا إلى ذلك في شعرهم، وربما كان بعضهم يحضر تلك التراتيل ويستأنس بها على الرغم من وثنيته وعدم اعتقاده بالنصرانية.

ويقال للراهب الزاهد، الذي ربط نفسه عن الدنيا: الربيط. وقيل له: الحبيس. وذكر أن الربيط، هو المتقشف الحكيم6، وأن الحبيس هو الذي حبس نفسه في سبيل الله، فقبعوا في الأديرة وابتعدوا عن الناس. فصاروا كالحبساء7.

1 تفسير القرطبي، "6/ 258".

لو أنها عرضت لاشمط راهب

عبد الإله صرورة متعبد

كرنا لرؤيتها وحسن حديثها

ولخاله رشدا وإن لم يرشد

2 تاج العروس "1/ 281".

3 لو كلمت رهبان دير في القلل

لانحدر الراهب يسعى فنزل

اللسان "1/ 437""صادر"، تاج العروس "1/ 281"، المقريزي، السلوك في معرفة سير الملوك "1/ 182" تفسير الطبري "27/ 158"، "البابي"، الكشاف "2/ 31"، الدر المنثور "6/ 177"، تفسيرالخازن "2/ 216". "4/ 232".

لو أنها عرضت لاشمط راهب

في رأس مشرفة الذرى متبتل

الأغاني "19/ 92""دار الثقافة بيروت"، وقد نسب هذا الشعر إلى ربيعة بن مقروم الصيفي. وقد مر النصف الأول من هذا البيت من شعر نسب إلى النابغة الذبياني في تفسير القرطبي "6/ 258"ز

4 قال جرير:

رهبان مدين، لو رأوك تنزلوا

والعصم، من سعف العقول، الغادر

اللسان "1/ 437""صادر"، تفسير الطبري "7/ 4".

5 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "196 وما بعدها".

6 تاج العروس "5/ 143"، القاموس المحيط "2/ 361"، المقريزي، سير "1/ 182" البلدان "2/ 213""صادر".

7 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "197"، البلدان "2/ 213".

ص: 223

ويقال للراهب: المقدسي. والمقدس الراهب. وصبيان النصارى يتبركون به، ويتمسحون بملابسه تبركا1. كما قيل له: المتعبد، والأعابد2 ونسب إلى "امرئ القيس" هذا البيت:

فأدركنه يأخذن بالساق والنسا

كما شبرق الولدان ثوب المقدسي

ويروي المقدسي، وهو الراهب ينزل من صومعته إلى بيت المقدس، فيمزق الصبيان ثيابه تبركا به3.

وأما "النهامي"، فهو صاحب الدير، أو الراهب في الدير4.

ومن الألفاظ التي شاعت بين النصارى ووصل خبرها إلى الجاهليين، لفظة:"الأبيل"، وقد اتخذوها للدلالة على رئيس النصارى. وذكر بعض أهل الأخبار أنها تعني أيضًا "المسيح". وقد كانوا يعظمون الأبيل فيحلفون به كما يحلفون بالله. وهي من الألفاظ المعربة عن السريانية "ابيلو" AbiIo"، ومعناها في السريانية الزاهد والناسك والراهب. وكانوا يتخذون عادة رؤساءهم من الرهبان المتبتلين5. وقد وردت لفظة "الأبيل" في الشعر الجاهلي، في شعر: الأعشى وفي شعر عدي بن زيد. وورد "أبيل الأبيلين"، وأريد بذلك المسيح6. وذكر أن "الأبيل" هو صاحب الناقوس، والراهب أيضًا7. وأن "الأبيلي"، هو ضارب الناقوس. و"الأيبل"، العصا التي يدق بها الناقوس8. قال الأعشى:

1 اللسان "6/ 169""صادر".

2 اللسان "3/ 272".

3 تاج العروس "6/ 390"، "شبرق".

4 تاج العروس "9/ 88"، نهم"، المخصص "13/ 100".

5 النصرانية، الجزء الثاني: القسم الأول "190"، غرائب اللغة "172".

6 قال ابن عبد الجن، وقيل عمرو بن عبد الحق:

أما ودماء ماثرات تخالها

على قنة العزى أو النسر عندما

وما قدس الرهبان في كل هيكل

أبيل الأبيلين، المسيح بن مريما

لقد ذاق منا عامر يوم لعلع

حساما، إذا ما هز بالكف صمما

اللسان "11/ 6 وما بعدها"، "أبل"، صادر".

7 اللسان "11/ 6 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 199". الأب مرمرجي، معجميات عربية سامية "131 وما بعدها"، شعراء النصرانية، لشيخو "453"، المخصص "13/ 100".

8 ديوان الأعشى "53""المطبعة النموذجية"، 1950م".

ص: 224

وما أيبلي على هيكل

بناه وصلب فيه وصارا

يراوح من صلوات المليك

طورا سجودا وطورا جؤارا

يعني بالجؤارالصياح. إما بالدعاء وإما بالقراءة1.

والساعود من أسماء المسيح وهو من أصل "سوعورو" So ouro، بمعنى زائر. وتطلق اللفظة على من يزور القرى ويطلع على أحوالها وذلك بأمر من الأسقف2. وذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن السريانية، وأن الأصل "ساعورا"، ومعناه متفقد المرضى، وتطلق اللفظة على مقدم النصارى في معرفة علم الطلب3.

ويقال لخادم البيعة: الجلادي4. وذكر أن "الجلذي" الراهب والصانع والخادم في الكنيسة. قال ابن مقبل:

صوت النواقيس فيه ما يفرطه

أيدي الجلاذي جون ما يغضبنا5

و"الكنيس" و"الكنيسة" موضع عبادة اليهود والنصارى، فهما في مقابل "المسجد والجامع" عند المسلمين. والكلمة من الألفاظ المعربة عن الآرامية، وتعني لفظة "Knouchto""كنشتو""كنشت" في السريانية، اجتماع، ومجمع وأطلقت بصورة خاصة على كنيس اليهود6. ولهذا نجد العرب يطلقونها على معبد اليهود كذلك. ويقال في العبرانية للكنيس "كنيستا"، بمعنى محل الصلاة. ونجد الكتب العربية تفرق بين موضع عبادة اليهود وموضع عبادة النصارى، فتطلق "الكنيس" على موضع عبادة اليهود و"الكنيسة" على موضع عبادة الأصنام. وقد ذهب بعض علماء اللغة، إلى أن الكنيسة، هي متعبد اليهود، وأما "البيعة"،

1 تفسير الطبري "14/ 82".

2 غرائب اللغة "187".

3 تاج العروس "3/ 468""الخيرية"، النصرانية، القسم الأول "194"،القاموس "2/ 48".

4 اللسان "5/ 14""المطبعة الأميرية"، "3/ 483""صادر"، تاج العروس "2/ 557".

5 تاج العروس "2/ 557"، "ما يعفينا"، اللسان "3/ 482"، "صادر".

6 غرائب اللغة "ص204"، النصرانية وآدابها، شيخو "2/ 201 وما بعدها"، "الطبعة الثانية بيروت 1933".

ص: 225

فهي متعبد النصارى1. وقد عرف علماء اللغة العرب، إنها من الألفاظ المعربة، فقالوا: وهي معربة، أصلها كنست2.

وقد زوق النصارى كنائسهم، وجملوها، وزينوها بالصور وبالتماثيل، ووضعوا الصلبان على أبوابها وفي داخلها. ووضعوا بها المصابيح لإنارتها في الليل، وكانوا يسرجون فيها السرجن وجعلوا بها النواقيس، لتقرعن فترشد المؤمنين بأوقات الصلوات، ولتشير إليهم بوجود مناسبات دينية، كوفاة، أو ميلاد مولود، أو عرس وأمثال ذلك. ومن الكنائس التي اكتسبت حرمة كبيرة عند النصارى العرب: كنيسة القيامة، وكنيسة نجران، وكنيسة الرصافة. وقد أشير في شعر للنابغة إلى "صليب على الزوراء منصوب"، أي على كنيسة.

والتمثال الشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله، أي من إنسان أو حيوان أو جماد3. وأدخل العلماء الصور في التماثيل. وقد كانت الكنائس مزينة بالتماثيل والصور، تمثل حوادث الكتاب المقدس وحياة المسيح. ونظرا إلى محاربة الإسلام للأصنام، وإلى كل ما يعيد إلى ذاكرة الإنسان عبادة الأصنام والصور، ورد النهي عنها في الإسلام. جاء في الحديث:"أشد الناس عذاب يوم القيامة المصورون"4.

وقد كان الروم يمدون الكنائس والمبشرين بالمال وبالفعلة وبالمساعدات المادية لبناء الكنائس والأديرة. والكنائس والأديرة وإن كانت بيوت تقوى وعبادة، كانت بيوت سياسة ودعوة وتوجيه. ونشر النصرانية مهما كان مذهبها ولونها، مفيد للروم، فالنصراني مهما كان مذهبه لا بد أن يميل إلى إخوانه في العقيدة والدين، ففي انتشار النصرانية فائدة من هذه الناحية كبيرة للبيزنطيين.

وفي العربية لفظة أخرى للكنيسة، إلا أنها لفظة خصصت بكنيسة معينة، هي الكنيسة التي بناها أبرهة بمدينة صنعاء، واللفظة هي:"القليس". وللأخباريين آراء في معناها وفي أصلها، بنيت على طريقتهم الخاصة في إيجاد التفاسير للكلمات القديمة من عربية ومن معربة، التي لا يعرفون من أمرها شيئًا. وهي لذلك

1 تاج العروس "4/ 235".

2 اللسان "6/ 199"، تاج العروس "4/ 235".

3 تاج العروس "8/ 111"، "مثل".

4 تفسير الطبري "22/ 49"، تفسير القرطبي "4/ 273 وما بعدها".

ص: 226

لا تفيدنا شيئًا. والكلمة أعجمية الأصل، عربت، وشاع استعمالها، حتى ظن إنها اسم تلك الكنيسة. أخذت هذه اللفظة من أصل يوناني هو "أكليسيا""EkkIesia"، ومعناه في اليونانية المجمع، أي الكنيسة، فصيروها اسم علم على هذه الكنيسة، ولم يدروا أنها تعني الكنيسة، أي موضع عبادة1.

والصوامع والبيع هما من الألفاظ التي استعملها الجاهليون للدلالة على مواضع العبادة عند النصارى. وقد ذهب العلماء إلى أن البيعة من الألفاظ المعربة2. أخذت من السريانية. وأصل اللفظة في السريانية، هو "بعتو" بمعنى بيضة، وقبة، لأنها كانت قبة في كثير من الكنائس القديمة3. وقد استعملت في الحبشة كذلك ولذلك ذهب بعضهم إلى أنها من الحبشة4. وقال علماء اللغة العرب: الصومعة كل بناء متصمع الرأس، أي متلاصقة، والأصمع اللاصقة إذنه برأسه5. وقد أشير إلى "البيع" في القرآن:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} 6. وقد ذهب بعض علماء اللغة، إلى أن البيعة متعبد اليهود7.

ولكن أغلبهم على أنها متعبد النصارى.

وقد وردت لفظة "بيعة" في نص "أبرهة" الشهير الذي دونه على سد مأرب. ففي هذا النص جملة: "وقدس بعتن"، أي "وقدس البيعة"8.

وذكر أن لفظة "البيعة" قد وردت في شعر ينسب إلى ورقة بن نوفل، حيث زعم إنه قال:

أقول إذا صليت في كل بيعة

تباركت قد أكثرت باسمك داعيا9

1 "القليس"، "القليسة"، اللسان "6/ 180"، "قلس".

Ency II p 144 RacciIta III p 127

2 المعرب "ص81".

3 معجميات "ص109 وما بعدها"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص213"، غرائب اللغة "175".

4 النصرانية "الثاني"، القسم الأول "213"""طبعة ثانية".

5 المفردات "288"، اللسان "8/ 208"، تاج العروس "7/ 411"

6 الحج: الآية 40.

7 تفسير الطبري "15/ 175""البابي"، اللسان "8/ 26""صادر".

8 رجع النص في مجلة المجمع العلمي العراقي "4/ 215".

9 الأغاني "3/ 16".

ص: 227

كما ذكر إنها وردت في كلام أناس من الجاهليين والمخضرمين1.

وقد أشير إلى ورودها في الشعر الجاهلي وفي بعض الأخبار المنسوبة إلى الجاهليين. وردت في شعر منسوب إلى "عبد المسيح بن بقيلة"، وهو كما يظهر من اسمه من النصارى2. ووردت في بيت منسوب إلى لقيط بن معبد3. وفي شعر ينسب إلى الزبرقان بن بدر التميمي4. ولا بد أن تكون هذه الكلمة من الكلمات المألوفة عند الجاهليين المتنصرين، وعند غيرهم ممن كانوا على الوثنية، غير إنهم كانوا على اتصال بالنصارى، ذلك لأنها من الألفاظ الشائعة المعروفة عند النصارى.

وقد كانت البيع منتشرة في المدن وفي القرى والبوادي، وطالما قصدها الأعراب للاحتماء بها من الحر والبرد وللاستعانة برجالها لتزويدهم بما عندهم من ماء أو زاد أو للتنزه بها واحتساء الشراب.

والصومعة من أصل حبشي هو "صومعت" على رأي بعض المستشرقين. وقد خصصت بـ "قلاية" الراهب5. أي مسكن الرهبان. وبهذا المعنى وردت في القرآن. ويقول علماء اللغة، أنها على وزن فوعلة، سميت صومعة، لأنها دقيقة الرأس. وهي صومعة النصارى6. وذكر بعض منهم أن الصومعة كل بناء متصمع الرأس، أي متلاصقة7. وقد سميت صومعة لتلطيف أعلاها8. ويدل ورود هذه اللفظة بصورة الجمع في القرآن الكريم، على وقوف الجاهليين على

1 ابن هشام "935""طبعة ليدن"، تاج العروس "5/ 285"، النصرآنية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص201 وما بعدها".

2

كم تجرعت بدير الجرعة

غصصا كبدي بها منصدعه

من بدور فوق أغصان على

كثب زرن احتسابا بيعه

البلدان "4/ 120""دير الجرعة"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "202 وما بعدها".

3

تامنت فؤادي بذات الخال خرعبة

مرت تريد بذات العذبة البيعا

تاج العروس "5/ 285"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "202".

ابن هشام "1/ 935"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "202".

4

نحن الكرام، فلاحي يعادلنا

منا الكرام، وفينا تنصب البيع

ابن هشام "1/ 935"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "201".

5 معجميات "ص109 وما بعدها"، RaccoIta III P 127

6 اللسان "10/ 76"، معجميات "ص153"، تاج العروس" 7/ 411"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "174، 213".

7 مفردات، الأصفهاني "ص288".

8 اللسان "8/ 208""صادر".

ص: 228

الصوامع ووجوها بينهم1. وقد كان الرهبان قد ابتنوا الصوامع وأقاموا بها للعبادة بعيدين في مختلف أنحاء جزيرة العرب، ومنها الحجاز. وقد وقف الجاهليون عليها، ودخلوا فيها. أما تجارهم ممن قصد بلاد الشام والعراق، فقد رأوا في طريقهم إلى تلك الأرضين، وفي تلك الأرضين بالذات، حيث انتشرت فيها النصرانية صوامع كثيرة. ونجد في كتب الأخبار أمثلة عديدة تشير إلى دخول تجار مكة الصوامع في بلاد الشام وفي وادي القرى، للحصول على ملجأ أو عون.

والقلاية، وهي كالصومعة، يتعبد فيها الرهبان، وهي من الألفاظ المعربة، عربت من أصل يوناني هو "KeIIiyon"، ومعناه غرفة راهب أو ناسك2. ومن هذا الأصل انتقلت اللفظة إلى السريانية فصارت "قليتا"، فانتشرت بين نصارى بلاد الشام بصورة خاصة ثم بقية النصارى، منها دخلت العربية. وقد عرف علماء العربية إنها من الألفاظ المعربة، فقالوا: هي تعريب كلاذة، وهي من بيوت عباداتهم، أي عبادات النصارى. وقد وردت في الحديث، كما ورد ذكرها في صلح عمر مع نصارى الشام، حيث كتبوا له كتابا: إنا لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا قلية3. والظاهر أن النصارى توسعوا في المعنى، فأطلقوها على المنازل التي يسكنها الرهبان، ثم توسعوا فيها فأطلقوها على دور المطارنة والبطارقة، وأصلها بمعنى الأكواخ4.

ولفظة "الدير" شيء من الألفاظ النصرانية الشهيرة المعروفة بين العرب. وهي أكثر اشتهارا من الألفاظ الأخرى التي لها علاقة بمواضع العبادة أو السكن عند النصارى، وذلك لانتشارها ووجودها في مواضع كثيرة من العراق وبلاد الشام وجزيرة العرب، ولمرور التجار وأصحاب القوافل والمارة بها، واضطرارهم إلى الاستعانة بأصحابها وباللجوء إليها في بعض الأحيان. كما كانت محلا ممتازا للشعراء ولأصحاب الذوق واليكف، حيث كانوا يجدون فيها لذة ومتعة تسر العين والقلب، من خضرة ومن ماء بار عذب ومن خمر يبعث فيهم الطبر والخيال، ولذلك

1 سورة الحج، الرقم22، الآية 40، النهاية، لابن الأثير "2/ 120"، تفسير الطبري "15/ 175".

2 غرائب اللغة "ص265"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "ص213".

3 النهاية "3/ 309"، البكري، معجم "2/ 583"، اللسان "20/ 63"، تاج العروس "8/ 86"، "قل".

4 معجميات "ص180 وما بعدها".

ص: 229

أكثر الشعراء في الجاهلية والإسلام من ذكر الأديرة في شعرهم. حتى الشعراء النصارى مثل "عدي بن زيد العبادي"، يترنم في شعره بذكر الدير، لأنه نادم فيه "بني علقما"، وعاطاهم الخمر ممزوجة بماء السماء1.

ولفظة "الدير" هي مثل أكثر الألفاظ النصرانية من الألفاظ المعربة. عربت من أصل سرياني، هو "دير" Dayr "، بمعنى دار، أي بيت الراهب2. ومسكنه، ولا سيما المحصن، ثم خصوا بها مسكن الرهبان3. وقد عرف علماء العربية أن الدير هو مسكن النصارى، يتعبد فيه الرهبان ويسكنون به، وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن الدير يتعبد فيه الرهبان، ولا يكاد يكون في المصر الأعظم، وإنما يكون في الصحاري ورءوس الجبال، فإن كان في المصر الأعظم فإنه كنيسة أو بيعة4 غير أن الأديرة تكون في كل مكان، تكون في القرى وتكون في المدن كما تكون في البوادي وفي رءوس الجبال5.

و"الديراني"، صاحب الدير، وقد ذكر بعض العلماء أن الديراني صاحب الدير الذي يسكنه ويعمره. نسب على غير قياس. ويقال للرجل إذا رأس أصحابه هو رأس الدير6.

ولا تقتصر الأديرة على الرجال، فللراهبات أديرة أيضًا. ويقضي أصحاب الأديرة وقتهم في الزهد والتقشف والعبادة. والقيام بالأعمال اليدوية التي يوكلها رئيس الدير إليهم7. وقد عرف الراهب المعتكف بالدير بـ "الديراني" و"الديرانية"، هي الراهبة8. وقد عرفت أديرة الراهبات بـ "أديرة العذارى" كذلك.

1

نادمت في الدير بني علقما

عاطيتهم مشمولة عندما

كأن ريح المسك من كأسها

إذا مزجناهما بماء السما

البلدان "2/ 639، 680"، "2/ 449""بيروت"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"، المخصص "13/ 100 وما بعدها".

2 غرائب اللغة "ص182".

3 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212".

4 معجم البلدان "2/ 639"، "6/ 639".

5 اللسان "5/ 287"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"ز

6 اللسان "5/ 387"، تاج العروس "3/ 231"ز

7 البلدان "2/ 639"، "4/ 451".

8 النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"، الشعر، لابن قتيبة "229".

ص: 230

وإذ كان لهذه الأديرة حرمة في نفوسهم، فقد كانوا يعقدون فيها عقودهم ويحلفون بها على ما كان يفعله الوثنيون في معابدهم حيث كانوا يقسمون الإيمان ويعاقدون أمام الأوثان، فكان للنصارى في الحيرة دير السوا، وفي هذا الدير كانوا يتناصفون ويحلفون بعضهم لبعض على الحقوق1.

وفي الآرامية لفظة هي "عمرو" Oumro"، وقد صارت "العمر" في العربية. ويراد بها البيعة والكنيسة والدير ودار2. وقد وردت في شعر "المتلمس"، حيث جاء:

ألك السدير وبارق ومبايض ولك الخورنق

والعمر ذو الأحساء واللذات من صاع وديسق3

وعرفت العربية لفظة "الكرح"، و"الأكيراح"، وقد عرفها علماء العربية بقولهم:"الأكيراح: بيوت ومواضع تخرج إليها النصارى في بعض أعيادهم"4. واللفظة من أصل سرياني هو "كرحو" "Kourho"، بمعنى كوخ، ومسكن حبيس، وبيت ناسك وراهب5. وذكر ياقوت الحموي: أن الأكيراح بيوت صغار تسكنها الرهبان الذين لا قلالي لهم"6 وهناك دير اسمه "الأكيراح"، ورد في شعر لأبي نؤاس، ويقع بظاهر الكوفة كثير البساتين والرياحين، وبالقرب منه ديران، يقال لأحدهما دير عبد، وللآخر دير هند7.

والمحراب من الألفاظ التي استعملها النصارى في أمور دينهم كذلك، إذ أطلقوها على صدر كنائسهم. وقد استعملت في الإسلام أيضًا، حيث يشير إلى القبلة، ويؤم الإمام فيه المصلين، وقد ذكر بعض علماء اللغة، أن محاريب

1 البلاذري، فتوح: 292".

2 غرائب اللغة "ص196".

3 البكري، معجم "696"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص213"، تاج العروس "3/ 320".

4 سا دير حنة من ذات الأكيراح

من يصح عنك فإني لست بالصبح

اللسان "3/ 405"، البكري، معجم "4/ 575"، المخصص "13/ 102".

5 غرائب اللغة "ص203"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212،214".

6 البلدان "1/ 345".

7 البلدان "1/ 345".

ص: 231

بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يصلون فيها1. وقد وردت لفظة المحراب في أشعار بعض الجاهليين2. كما وردت في القرآن الكريم3. وفي الشعر الجاهلي4.

وذكر علماء التفسير أن المحراب كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلي فيه: محراب، وذكروا أن المحاريب دون القصور، وأشرف بيوت الدار. قال عدي بن زيد العباد:

كدمى العاج في المحاريب أو كالـ

ـبيض في الروض زهره مستنير5

وذكر علماء العربية لفظة "التامور" التأمور"، في جملة الألفاظ المتعلقة بالرهبان والرهبنة، وقد عرفها بعضهم بأنها صومعة الراهب وناموسه6.

وذكر أن "القوس"، بمعنى الدير والصومعة أو موضع الراهب. أو معبد الراهب7. وذكر أن أصل الكلمة من الفارسية8.

وذكر أن "الغربال"، هو مكان أيضًا من أمكنة الرهبان، وأنه كهيئة الصومعة في هندسة بنائه وارتفاعه، وأنه كان بناء مرتفع. ويظهر أنها من الألفاظ المعربة9.

والإسطوانة، وهي السارية من الألفاظ النصرانية التي وقف عليها الجاهليون. وقد اتخذها العرب بمعنى العمود الذي كان يتعبد فوقه بعض الرهبان المعروفين بالعموديين StyIites. وقد أشير إلى "أسطوان" في شعر نسبوه إلى "ذي الجدن". وفسرت لفظة "الاسطوان" و"الاسطوانة"، بأنها موضع الراهب المرتفع10.

1 النصرانية، الجزء الثاني القسم الأول "174".

2 اللسان "1/ 305"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "174"، اللسان "7/ 17".

3 آل عمران، الآية 37، 39، مريم، الآية 11، ص، الآية 21.

4 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "174".

5 تفسير الطبري "22/ 48" تفسير القرطبي "14/ 271".

6 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"، تاج العروس "3/ 20"، "أمر".

7 اللسان "8/ 69"، معجم البلدان "4/ 200".

8 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول، "ص214".

9 تاج العروس "7/ 416"، البلدان "3/ 525"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "213".

10 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "211"، البلدان "1/ 345"، المخصص "13/ 100 وما بعدها".

ص: 232

و"المنهمة" مسكن النهام، والنهامي، هو الراهب. وأما المنهمة فموضع الراهب1.

ووردت في شعر للأعشى لفظة "الهيكل". إذ قال:

وما أيبلى على هيكل

بناه وصلب فيه وصارا2

ويذكر علماء اللغة، أن الهيكل: بيت النصارى فيه صورة مريم وعيسى، وربما سمي به ديرهم. وأن الهيكل العظيم واستعمل للبناء العظيم، ولكل كبير، ومنه سمي بيت النصارى الهيكل3. واللفظة المعربة، وهي ترد في العبرانية "هيكل" وفي الآرامية "هيكلو". وتعني في اللغتين المعبد الكبير ومعبد الوثنيين4.

وقد كان الرهبان وبقية رجال الدين وكذلك الأديرة والكنائس يستعملون المصابيح. والقناديل للاستضاءة بهما. ويعبر عن المصباح بالسراج كذلك5. وقد تركت مصابيحهم وقناديلهم أثرًا ملحوظا في محلية الشعراء فأشير إليها في شعر "مزرد بن ضرار الذبياني" حيث قيل إنه قال:

كأن شعاع الشمس في حجراتها

مصابيح رهبان زهتها القنادل6

وذكر علماء اللغة أن الزيت الذي له دخان صالح ويوقد في الكنائس، هو "السليط"7.

ولفظ: قنديل من الألفاظ المعربة، أصلها يوناني هو "CandeIa"، أي شمعة8. وقد دخلت إلى العربية قبل الإسلام، عن طريق الاتصال التجاري بين جزيرة العرب وبلاد الشام.

1 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "214".

2 اللسان "6/ 144"، الاضداد "24"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "203"

3 المخصص "13/ 100 وما بعدها"، اللسان "14/ 225"، العقد الثمين "18"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "202".

4 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "202"، غرائب اللغة "209".

5 المفردات، للأصفهاني "ص674".

6 تاج العروس "5/ 158"، اللسان "7/ 320"، "سلط".

8 غرائب اللغة "279".

ص: 233

وكان النصارى العرب يتقربون إلى رجال دينهم ويتبركون بهم ويحترمونهم حتى قيل إن الصبيان منهم كانوا إذا رأوا الراهب ينزل ليذهب إلى بيت المقدس أو غيره خرجوا له فتمسحوا به ولثموا ثيابه، حتى يمزقوا أثيابه. وإلى ذلك أشير كما يقول أهل الأخبار - في شعر امرئ القيس:

فأدركنه يأخذن بالساق والنسا

كما شبرق الولدان ثوب المقدس1

ولبس رجال الدين ملابس خاصة لتميزهم عن غيرهم، غلب عليها السواد. وقد اختصت لفظة "المسح" و"المسوح" بالملابس التي كان يلبسها الزهاد والرهبان.

ومن أهم العلامات الفارقة التي ميزت معابد النصارى عن معابد اليهود والوثنيين: "الناقوس"، الذي ينصب فوق سطح الكنائس وفي منائرها، للإعلان عن أوقات العبادات ولأداء الفروض الدينية، وهو عند الجاهليين خشية طويلة يقرع عليها بخشبة أخرى قصيرة يطلقون عليها لفظة "الوبيلة" و"الوبيل". وهو في مقابل البوق عند يهود يثرب، إذا أرادوا الإعلان عن موعد العبادة. وقد عرف هذا البوق بين عرب يثرب بـ "القنع" أيضًا2، وبـ"الشبور"3. وقد ذكر علماء اللغة أن الشبور "شيء يتعاطها النصارى بعضهم لبعض كالقربان يتقربون به". وقال بعضهم: هو القربان بعينه، وذكروا أن الشبور شيء ينفخ فيه، فهو البوق عند اليهود، وهو معرب وأصله عبراني4.

وقد وردت كلمة "الناقوس" في الشعر الجاهلي: وردت في بيت للشاعرالمتلمس5،

1 المعاني الكبير "2/ 764".

2 القنع، وورد القبع والقتع والقثع، اللسان "10/ 131"ز

3 عمدة القاري "5/ 102 وما بعدها"، اللسان "8/ 126".

4 اللسان "6/ 59"، تاج العروس "3/ 289"، "شبر"، وقد نقس بالوبيل الناقوس"، تاج العروس "4/ 262 وما بعدها".

5

حنت قلوصي بها والليل مطرق

بعد الهدو وشاقتها النواقيس

ديوان المتلمس "178"، "طبعة فولرس""لايبزك 1903".

ص: 234

وفي شعر للمرقش الأكبر1، وللأعشى2، وللأسود بن يعفر3. وقد أشير في هذه الأبيات إلى قرع النواقيس بعد الهدوء إيذانا بدنو الفجر وحلول وقت الصلاة. وقد كانت هذه النواقيس في القرى وفي الأديرة، يقرعها الرهبان والراهبات والقسيسون4. وقد أدخل بعض علماء اللغة هذه الكلمة في جملة الألفاظ المعربة التي دخلت العربية من أصول أعجمية5. واللفظة من أصل "سرياني" هو "ناقوشا"6.

1

وتسمع تزقاء من البوم حولنا

كما ضربت بعد الهدوء النواقس

المفضليات "564"، النصرانية "207".

2

وكأس كعين الديك باكرت حدها

بفتيان صدق والنواقيس تضرب

تاج العروس "2/ 331"، "حد"، ويروى لعنترة، العقد الثمين في دواوين الشعراء الجاهليين "179"، "طبعة الوردت"، "AhIwardt"، "باريس 1913"، النصرانية "207".

3

وقد سبأت لفتيان ذوي كرم

قبل الصباح ولما تقرع النقس

اللسان "8/ 126"، "نقس"، تاج العروس "4/ 263".

4 النصرانية "207".

5 عمدة القاري "5/ 103"، المعرب "339".

6 Shorter Ency p 436

ص: 235

‌أعياد النصارى:

وقد ذكر أهل الأخبار أسماء أعياد نصرانية ترجع أصول تسميتها في الأكثر إلى لغة بني إرم، ويظهر أن أولئك الإخباريين تعرفوا عليها في الإسلام باختلاطهم وباتصالهم بالنصارى، إذ لم يشيروا إلى ورود أكثرها في الشعر الجاهلي، ومن عادتهم أنهم إذا عرفوا شيئًا كان معروفا عند الجاهليين جاؤوا ببيت أو أبيات يستشهدون بها على ورودها عند الجاهليين.

ومن الأعياد التي ورد فيها شاهد في الشعر الجاهلي، "السباسب"، وهو "يوم السعانين" ،"الشعانين". وقد ورد كلمة السباسب في بيت للنابغة قاله في عيد السعانين عند بني غسان، هو:

ص: 235

رقاق النعال طيب حجزاتهم

يحيون بالريحان يوم السباسب1

و"السعانين" و"الشعانين" من أصل عبراني "هو شعنا". وقد وردت هذه الكلمة في صحيفة صلح "عمر" مع نصارى الشام، وردت معها لفظة أخرى من الألفاظ النصرانية كذلك هي "الباعوث"2، وهي رتبة تقام في اليوم الثاني من عيد الفصح3، وصلاة لثاني عيد الفصح في بعض الطوائف4. وقد ذكرها علماء اللغة في جملة الألفاظ المعربة، والإرمية الأصل، وجعلها بعضهم "الباغوث". وذكروا إنها "استسقاء النصارى"، وأن "عمر" لما صالح نصارى الشام، كتبوا له أن لا نحدث كنيسة ولا قلية ولا نخرج سعانين ولا باعوثا5.

و"خميس الفصح" من أعياد النصارى كذلك. وهو بعد السعانين بثلاثة أيام، وكانوا يتقربون فيه بالذهاب إلى الكنائس والبيع6.

وقد أشير إلى عيد "الفصح" في بيت للأعشى يمدح فيه "هوذة بن علي" لتوسطه لدى الفرس بالإفراج عن مئة أسير من أسرى بني تميم همم الفرس بقتلهم، وذلك لمناسبة يوم الفصح. وقد كان نصارى الجاهلية يحتفلون به، فيوقدون المشاعل، ويعمرون القناديل، ويضيئون الكنائس بالمسارج ويقصدونها للاحتفال بها، حتى قيل للقنديل الذي يعمر لهذا اليوم "قنديل الفصح"7.

1 "والسباسب أيام السعانين. في الحديث أن الله تعالى أبدلكم بيوم السباسب يوم العيد. يوم السباسب عيد النصارى، ويسمونه يوم السعانين"، تاج العروس "1/ 293"، النصرانية "215"، غرائب اللغة "212"، عن "أحد الشعانين" راجع المشرق: السنة الثامنة، الجزء8، السنة 1905م، "ص337 وما بعدها".

2 "أن لا يحدثوا كنيسة ولا قلية، ولا يخرجوا سعانين ولا باعوثا"،"ويوم السعانين عيد للنصارى. وفي حديث: شرط النصارى ولا يخرجوا سعانين. قال ابن الأثير: هو عيد لهم معروف. قبل عيدهم الكبير بأسبوع. وهو سرياني معرب. وقيل: هو جمع واحده سعنون"، اللسان "17/ 71". "سعن" "13/ 209"، "صادر".

3 النصرانية "217".

4 غرائب اللغة "173".

5 اللسان "13/ 209"، تاج العروس "1/ 903"، "بعث"، اللسان" "2/ 118"، "بعث".

6 الأغاني "3/ 32"، النصرانية "216".

7 قال عدي بن زيد العبادي:

بكروا علي بسحرة فصحبتهم

باناة ذي كرم كعقب الحالب

بزجاجة ملء اليدين كأنها

قنديل فصح في كنيسة راهب

الأغاني "9/ 53"، اللسان "3/ 378"، النصرانية "216". وورد في شعر لأوس بن حجر:

عليه كمصباح العزيز يشبه

لفصح ويحشوه الذبال المفتلا

شعراء النصرانية "494"، النصرانية "216".

ص: 236

وقيل لاجتماع النصارى واحتفالهم "الهنزمن"، وذكر أن هذه اللفظة من أصل فارسي هو "هنجمن" أو "أنجمن"، ومنها دخلت إلى السريانية فأطلقت على اجتماع النصارى واحتفالهم وتعييدهم1.

وقد أشار امرؤ القيس في بعض شعره إلى عيد النصارى، ولبس الرهبان فيه ملابس طويلة ذات أذيال2.

وكانت الكنائس والأديرة والأضرحة والمقابر الأماكن التي يقصدها النصارى في أعيادهم. فتكون موضع تجمع ولقاء. كانوا يقصدونها للتقرب إلى الرب وللصلوات له. وللتوسل إليه بأن يمن عليهم ويبارك فيهم. وكانوا يقصدون المقابر إظهارا لشعورهم بأن موتاهم وإن فارقوهم وابتعدوا عنهم، غير أنهم لا زالوا في قلوبهم. وأيام الأعياد من أعز الأيام على الإنسان، لذلك فهي أجدر الأيام بأن تخصص لزيارة بيوت الأرباب، وبيوت الموتى: القبور.

1 قال الأعشى:

إذا كان هنزمن

ورحت مخشما

اللسان "17/ 329"، تاج العروس "9/ 368"، النصرانية "217".

2

فآنست سربا من بعيد كأنه

رواهب عيد في ملاء مهدب

النصرانية "173".

ص: 237

‌الفصل الثاني والثمانون: أثر النصرانية في الجاهليين

وإذا كنا قد حرمنا من الموارد الأصلية التي يجب أن نستعين بها في معرفة أثر النصرانية عند نصارى الجاهلية والجاهليين، فإن في الشعر المنسوب إلى بعض نصارى الجاهلية مثل عدي بن زيد العبادي وإلى بعض الشعراء ممن كان لهم اتصال بالنصارى مثل الأعشى، فائدة في تكوين صورة يتوقف صفاؤها ووضوحها وقربها أو بعدها من الواقع والحق على مقدار قرب ذلك الشاعر من الصدق والصواب والواقع والافتعال.

وعدي بن زيد هو أشهر من وصل إلينا خبره من شعراء النصارى الجاهليين. هو من العباديين، أي من نصارى الحيرة، ولذلك عرف بالعبادي. كان من أسرة اكتسبت نفوذا واسعا ونالت حظًّا كبيرًا عند الفرس وعند ملوك الحيرة، فكان لها أثر خطيرًا في سياسة عرب العراق في ذلك الزمن. ولما كانت السياسة ارتفاعا وهبوطا، سعادة وشقاء، لاقى عدي منها الاثنين: ارتفع حتى بلغ أعلى المنازل، ثم انخفض حتى تلقاه قابض الأرواح وهو في سجنه فقضى عليه بعد أن ترك أثرًا خطيرًا في سياسة الحيرة وفي تقرير مصير الملك فيها. وعدي، على ما يذكر أهل الأخبار، من أهل اليمامة في الأصل: هاجر أحدا أجداده من اليمامة إلى الحيرة بسبب دم أهرقه هناك، فخاف على نفسه من الثأر، ولم يجد محلا أصلح له وآمن مقاما من الحيرة، لوجود "أوس بن قلام" أحد رؤساء بني الحارث بن كعب فيها، وهو من أصحاب الجاه والنفوذ، وبينه وبين أوس

ص: 238

نسب من النساء، وهو من نسب يضمن له الحماية والعيش بسلام، فجاء إلى الحيرة وأقام بها حيث أكرمه أوس وقربه إلى آل لخم، واكتسب منزلة عالية عند ملوك الحيرة، انتقلت من بعده إلى أبنائه الذين كونوا لهم صلات وثيقة مع آل لخم ومع ملوك الفرس، بما كان لهم من علم وذكاء وحسن سياسة، ويذكر الإخباريون أن جد عدي قد تعلم الكتابة في الحيرة، فصار من أكتب الناس فيها، وأنه لذلك انتخب كاتبا لملك الحيرة، واتصل بحكم وظيفته المهمة هذه بدهاقين الفرس، وأنه لما توفي أوصى بابنه زيد والد عدي إلى واحد منهم يعرف بـ "فروخ ماهان" فأخذه هذا إلى بيته، ورباه مع ولده. فتعلم عندهم الفارسية، وحذقها وكتب بها وبرز، وكان قد حذق الكتابة بالعربية كذلك، فأوصله الدهقان إلى كسرى، لعلمه هذا باللغتين ولذكائه، فعينه في وظيفة مهمة لم يكن الفرس يعينون لها أحدا من غيرهم هي وظيفة البريد. وقد مكث في هذه الوظيفة زمانا جعلته يكتسب منزلة محترمة عند عرب الحيرة والفرس.

وعني زيد بتربية ولده عديا: أرسله إلى الكتاب ليتعلم به العربية. فلما برع فيها، أرسله إلى كتاب الفارسية حيث تعلم مع أبناء المرازبة فنون القول والكتابة، ثم تعلم الرماية ولعب الفرس حتى صار من المبرزين فيها. وقد قربه علمه وعقله من آل لخم ومن الفرس حتى وصل إلى مناصب عالية جعلت لقوله أهمية كبيرة حتى في تثبيت ملك ملوك الحيرة.

وقد أرسله "هرمز بن أنو شروان" في سفارة مهمة إلى القيصر "طيباريوس" فأداها على خير وجه. وعاد فأقام أمدا بالشام، ووقف على ما كان فيها من علم ومعالم. وقد زادت هذه الأسفار بالطبع في سعة أفقه وفي ثقاقته. ثم عاد إلى الحيرة. فوجد والده قد توفي بعد أن صار المهيمن الحقيقي على البلاد. وزار كسرى ليقدم إليه هدايا قيصر. وارتفع نجمه في البلاطين. وتزوج هندا بنت الملك النعمان. غير أن تقدمه هذا أوجد له خصومة شديدة من منافسيه "بني مرينا" وهم نصارى مثله ومن أهل الجاه والحسب، فأغرى خصمه ومنافسه العنيد "عدي بن مرينا" قلب النعمان عليه. وكان عدي بن زيد صاحب الفضل في حصول النعمان على تاج. وظل "ابن مزينا" يعمل في الخفاء للقضاء على عدي،

ص: 239

حتى تمكن من ذلك، إذ سجنه النعمان، ثم أمر فاغتيل وهو في السجن1.

وذكر أن "كسرى" جعله كاتبا على ما يجتبى من الغور، وكان هو سبب ملك النعمان بن المنذر2.

والذي يهمنا في هذا الموضع من أمر عدي هو مدى وقوف عدي على النصرانية ومبلغ تسربها في نفسه وفي نفوس أهل الحيرة. أما النواحي الأخرى من حياته، فليس لها محل في هذا المكان. وشعر عدي وأضرابه من العباديين هو سندنا الوحيد الذي نستخرج منه رأينا في النصرانية عند عدي وعند إخوانه العباديين.

والشعر المنسوب إلى عدي أقرب إلى نفوسنا وأسهل علينا فهما من الشعر المنسوب إلى بقية الجاهليين، معانيه وألفاظه حضرية متحررة من الأساليب البدوية التي تميل إلى استعمال الجزل من الكلمات، وهو يخالف مذاهب أولئك الشعراء في كثير من الأمرو. ولهذا "كانت الرواة لا تروي شعر أبي دواد ولا عدي بن زيد لمخالفتهما مذاهب الشعراء"3، و"لأن ألفاظه ليست بنجدية"4. وقد ورد في شعره بعض المعربات مما يدل على أثر الفارسية والإرامية فيه5. وكثير من شعره هو في الزهد، وفي التذمر من هذه الدنيا التي لا تدوم حالها على حال، وفي تذكير الأحياء بنهاية الأموات بالرغم مما أقاموه وشيدوه من أبنية ضخمة وقصور شاهقة. وهذا الشعر يتناسب مع ما يذكره أهل الأخبار عن حياة هذا الشاعر وتألق نجمه وبلوغه أعلى المراتب ثم سقوطه فجأة ودخوله السجن واغتياله فيه. وفي شعره قصائد في القيان وفي الخمر تتحدث عن الحياة التي قضاها قائلها، وهي حياة لذيذة ولكنها لا تدوم بالطبع إلى الأبد، ولا بد لها أن تزول ثم تنتهي بما.

1 المشرق، الجزء الأول، كانون الأول 1944، "ص39 وما بعدها"، شعراء النصرانية "436 وما بعدها"، كارلو كانينو، تاريخ الآداب العربية في الجاهلية حتى عصر بني أمية "ص71"، "القاهرة 1954"،

Ency، I، p. 137، Brockelmann، I، S. 29، Rothstein، S. 109، Noldeke، Geschlchte der Perser und Araber zur Zeit der Sassaniden، s. 512، Islamic Culture، IV، p. 31، ff.

2 نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "140".

3 الأغاني "15/ 93"، "مطبعة التقدم"، "ذكر أخبار أبي دؤاد الأيادي ونسبه"، نالينو "74".

4 ابن قتيبة، الشعر "115".

5 نالينو "74".

ص: 240

يوجب الأسف عليها والألم والتوجع من فنأئها ومن ذهاب تلك الأيام.

أما صميم الديانة والآراء النصرانية الخاصة، وهي ضالتنا في هذا الفصل وهدفنا الذي نقصده، فلا نجد منها في شعره الموثوق بصحته شيئًا كثيرًا. ونحن لا نستطيع بالطبع أن نلوم عديا على ذلك، فعدي كما نعلم رجل شعر وسياسة، وليس برجل دين ولا كهانة فيتعمق في شعره بإيراد تواريخ الأنبياء والأوامر والنواهي الإلهية الواردة في التوراة والإنجيل. ولم يذكر أحد من الإخباريين عنه إنه كان كاهنا أو قسيسا فنأمل منه التطرق في شعره إلى موضوعات اللاهوت والكهنوت. فما نجده في شعره عن النصرانية هو من حاصل المناسبات والظروف، وليس من حاصل بحث متعمد قصد به البحث في الدين من أجل الدين.

ولو كان عدي قد تعرض للنصرانية عنده وبين قومه لأفادنا ولا شك كثيرًا. وما زلنا في الواقع فقراء في ناحية علمنا بمبلغ فهم أهل الحيرة وغير أهل الحيرة من نصارى العرب في الجاهلية لأحكام النصرانية وقواعدها، ومقدار رسوخها في نفوس أولئك النصارى ولا سيما الأعراب منهم. ولكن عذره كما قلت بين واضح، وليس لنا أن نلومه. وما جاء به عن النصرانية في شعره على كل حال مفيد، أفادنا ولا شك. فلنكن قنوعين غير طامعين، مكتفين بما أورده عدي عنها في شعره، ولننظر إلى المستقبل، فهو أملنا الوحيد، فلعله يكشف عن مصادر كتابية مطمورة، يبعثها من قبورها المغمورة بالأتربة المتراكمة، وعندئذ تكون أمام المؤرخ ثروة تغنيه، يستطيع أن يظهرها العشاق للمولعين بمعرفة أحوال الماضين.

وقد ورد في قصيدة قيل إنه نظمها في معاتبة النعمان على حبسه بيت فيه قسم برب مكة والصليب:

سعى الأعداء لا يألون شرا

عليك ورب مكة والصليب1

وهذا البيت يدعو إلى التأمل والتفكير، فرجل نصراني يؤمن بعيسى وبالصليب، لا يمكن أن يقسم برب مكة. فمكة كما نعلم مجمع الأصنام والأوثان وكعبة الوثنية في الجاهلية، فكيف يقسم بربها رجل نصراني يرى الأوثان والوثنية رجسًا من عمل الشيطان وكفرًا. بل لو فرضنا أنه أقسم بمكة وبرب مكة على سبيل مجاراة

1 شيخو، شعراء النصرانية "451".

ص: 241

العرب الوثنيين وتقربا إلى الملك النعمان، فليس لدينا دليل مقنع يفيد أن وثني الحيرة كانوا يؤمنون برب مكة. ولم يذكر أحد من أهل الأخبار أن أصنام أولئك الوثنيين كانت بمكة، وأن أهل الحيرة كانوا يزورون مكة ويحجون إلى "رب البيت" في جملة من كان يحج إليه من العرب. ولم يرد في روايات أهل الأخبار أن الملك "النعمان" كان وثنيا مؤمنا بقدسية مكة وأنه حج إليها حتى نذهب إلى الفرض بأن عديا، إنما أقسم بمكة، مجاراة لهذا الملك، بل الوارد فيها أنه كان على دين النصرانية، وإنه كان مؤمنا بهذا الدين، يزور الأديرة ويحضر الصلوات ورجل على هذا النحو من التدين لا يمكن بالطبع أن يحفل بقسم ببيت من بيوت الأصنام. ثم إن مصطلح "رب مكة"، هو مصطلح إسلامي، أخذ من عقيدة التوحيد في الإسلام، فقيل:"رب البيت" ،"رب هذا البيت"1.

لقد اتخذ الأب "شيخو" هذا البيت دليلا على انتشار النصرانية في مكة وعلى تنصر أحياء منها، وعلى أن النصرانية قديمة فيها، بل يكاد يفهم من قوله أن البيت هو في الأصل كنيسة بنيت بعد المسيح بعهد قليل: بناها النصارى الذين جاءوا إلى هذه المدينة وسكنوها، وأن صور الأنبياء وصورة عيسى وأمه مريم التي ذكر الإخباريون أنها كانت مرسومة على جدار الكعبة والتي أمر الرسول بطمسها ومحو معالمها هي دليل على أثر النصرانية في مكة، ولهذا كان النصارى الجاهليون يحجون إليها ويقدسونها، ولهذا السبب أقسم2 عدي بها، وأقسم الأعشى بها كذلك حيث قال:

حلفت بثوبي راهب الدير والتي

بناها قصي والمضاض بن جرهم

وذكر أن من شعر "عدي" هذا البيت:

كلا يمينا الودع لو حدثت

فيكم وقابل قبر الماجد الزارا3

وقد اختلف العلماء في مراده بـ"ذات الودع"، فذهب بعض منهم إلى

1 "فليعبدو رب هذا البيت" سورة قريش، الآية 3.

2 "النصرانية "ص118"، وفي الديوان:

فإني وثوبي راهب اللج والتي

بناها قصي وحده وابن جرهم

ديوان الأعشى "95".

3 تاج العروس "5/ 534"، "وعد".

ص: 242

أن "ذات الودع" الأوثان، أو وثن بعينه، وقيل سفينة نوح، وكان يحلف بها، وكانت العرب تقسم بها، وتقول: بذات الودع. وقيل الكعبة، لأنه كان يعلق الودع في ستورها1.

ولم يرد في شعر عدي شيء ما يتحدث عن عقيدة التثليث، أي الإيمان بالثالوث. وكل ما ورد فيه هو الإشارة إلى عقيدة بوجود رب واحد هو "الله". وهو رب مستجيب مسبح خلاق2. وهذا الرأي إسلامي كما هو معلوم، وقريب من عقيدة الحنفاء.

ووردت في بيت شعر وجهه إلى النعمان كلمة "أبيل"3، وأبيل اسم للمسيح، ويطلق على حبر النصارى أيضًا، ومعناها الناسك والزاهد. وهي من أصل سرياني، من فعل "ابل" بمعنى ناح وبكى على خطاياه، ولذلك قصد بها الناسك والراهب4. وقد دعا الأعشى ضارب الناقوس: الأبيل5.

ونسب لعدي هذا البيت:

وأهبط الله إبليسا وأوعده

نارًا تلهب بالأسعار والشرر6

1 المصدر نفسه

2

فإني قد وكلت اليوم أمري

إلى رب قريب مستجيب

أجل أن الله قد فضلكم

فوق من أحكا صلبا بازار

واذهبي يا أميم إن يشا اللـ

ـه بنفسي من أزم هذا الخناق

أو تكن وجهه فتلك سبيل النـ

ـاس لاتمنع الحتوف الرواقي

ليس شيء على المنون بباق

غير وجه المسيح الخلاق

شعراء النصرانية "452، 454"، النصرانية "194".

4 تاج العروس "7/ 199"، "ابل"، اللسان "13/ 6"، مرمرجي، معجميات عربية سامية "131 وما بعدها".

5 فإني ورب الساجدين عشية

وما صك ناقوس الصلاة أبيلها النصرانية "208".

6 النصرانية "168".

ص: 243

ولم ترد كلمة "إبليس" في شعر منسوب لشاعر جاهلي آخر، إنما وردت كلمة "شيطان" في شعر منسوب إلى أمية بن أبي الصلت.

ونسب إلى عدي هذا البيت:

ناشدتنا بكتاب الله حرمتنا

ولم تكن بكتاب الله تقنع1

ويظهر من دراسة الشعر المنسوب لعدي أنه كان على مذهب القائلين بالقضاء والقدر. فكل كائن خاضع لحكم القدر، يفعل به ما يشاء، ليس في إمكانه رد شيء مقدر كائن عليه. وقد رسخت هذه العقيدة في نفس عدي ولا شك بعد أن زج به في السجن، وأصبح وحيدا لا يدري ما الذي سيصنع به. وهي عقيدة يسلم بها أكثر من يقع في مثل هذه الظروف، لأنها تفرج عن النفس، وتخفف بعض التخفيف عما ينتاب المرء وهو في هذه الحالة من هموم وأحزان. والإيمان بالقدر وبأن الإنسان مسير مجبر، عقيدة لها صلة كبيرة بالظروف الاجتماعية وبالأحوال التي تحيط بالإنسان، وهي ليست من الآراء الدينية الخالصة.

ونسبت لعدي أبيات فيها حكايات من العهد العتيق، مثل هذه الأبيات وهي في مبدأ الخلق:

اسمع حديثا لكي يوما تجاوبه

عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا

أن كيف أبدي إله الخلق نعمته

فينا وعرفنا آياته الأولا

كانت رياحا وماء ذا عراثيه

وظلمة لم يدع فتقا ولا خللا

فأمر الظلمة السوداء فانكشفت

وعزل الماء عما كان قد شغلا

وبسط الأرض بسطا ثم قدرها

تحت السماء سواء مثل ما فعلا

وجعل الشمس مصرا لا خفاء به

بين النهار وبين الليل قد فصلا

قضى لستة أيام خلائقه

وكان آخر شيء صور الرجلا2

دعاه آدم صوتا فاستجاب له

بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا3

1 شعراء النصرانية "472".

2

قضى لستة أيام خليقته

وكان آخرها أن صور الرجلا

الحيوان "4/ 19"، "عبد السلام محمد هارون".

3 البدء والتأريخ "1/ 150 وما بعدها"، النصرانية "254"، وتجد في النص بعض الاختلاف عن النص الذي تجد في كتاب النصرانية، وفي المراجع الأخرى.

ص: 244

وطابع هذا النظم وأسلوبه يفصحان إنه نظم من النوع التعليمي الديني، لا أدري أكان شاعرنا يعترف به وينسب إلى نفسه؟ أما أنا، فلا أرى إنه لشاعر عربي عاش قبل الإسلام.

ونجد في "شعر "عدي" نزعة من نزعات التصوف والتأمل، جاءت إليه من الأوضاع التي أحاطت به، من وشايات، ومن غضب الملك عليه ومن سجن، بعد أن كان السيد المهيمن. حتى صار الدهر عنده حالا بعد حال. لا يدوم صفاؤه لأحد، فلا يركن أحد إليه، ولا يغتر إن وجد نفسه في أعلى عليين، فقد يسقط غدا إلى أسفل سافلين1.

وهناك شاعر آخر اسمه "الملمس بن عبد المسيح" يدل اسم أبيه على أنه كان نصرانيا، غير أن هناك رواية أخرى تذكر أن اسم والده "عبد العزى"2. وعبد العزى من أسماء الوثنيين كما هو معروف. ثم إننا لا نجد في شعره ما يشير إلى آراء وعقائد نصرانية يمكن أن يستنبط منها أن كان نصرانيا. ورجل يحلف في شعره باللات والأنصاب لا يعقل أن يكون نصرانيا3.

أما الأعشى، فهو شاعر عاش في الجاهلية، وأدرك أيام الرسول. ومدحه بقصيدة جميلة مشهورة، جعلت أبا سفيان يحرض قومه على إرضائه خوفًا من أن يسلم ومن أن ينظم شعرا آخر في مدح الرسول وفي ذم قريش، فجعل له مائة من الإبل جمعها من قومه على أن يرجع ويؤجل أمر إسلامه عاما. فرجع إلى بلدته "منفوحة" باليمامة. وكان قد ولد بها، فمات بها بعد حين وعرف قبره بين الناس أمدا.

وكان الأعشى كما يروي أهل الأخبار جوابا في الآفاق، عرف الحيرة ونادم ملوكها، وزار النجاشي في أرضه، وتجول في أرض النبيط وأرض العجم. وتنقل في أرجاء اليمن وفي حضرموت وعمان وبلاد العراق وبلاد الشام ومتع نظره

1 العمدة "1/ 223".

2 VoIIers، Die Gedichte des MutaIammis، Leibzig، 1903، S. 149.

3

أطردتني حذر الهجاء ولا

واللات والأنصاب لا تثل

ديوان المتلمس "171""طبعة "فولرس"، النصرانية "404"

ص: 245

بالآثار القديمة واتخذها عبرة للمعتبرين1. وقد وسعت هذه الأسفار آفاق نظره وعرفته على شعوب متعددة وعلى آراء ومعتقدات متنوعة. ومنها هذه النصرانية التي نبحث فيها.

وقد حمله اختلاطه بالنصارى العرب على الإشارة إلى بعض طقوسهم وأحوال عباداتهم في شعره. وإلى أن يشير إلى قصص معروف بين أهل الكتاب، وارد بينهم، فذكره في شعره. فتراه يتحدث عن حمامة نوح وعن أخبار سليمان وعن جن سليمان وعن المباني القديمة العادية المنسوبة إليه، كما تراه يشير إلى عادة النصارى في الطواف حول الصليب أو تمثال المسيح2. ثم تراه يشير إلى الصليب نصبه الراهب في الهيكل بعد أن زينه بالصور3.

وفي الشعر المنسوب إليه إقرار بإله واحد كريم4، ونهي عن عبادة الأوثان ومن التقرب منها5، وفيه أن الرب يكفي الإنسان ويرعاه ويساعده في حله وفي ترحاله6،

1

وقد طفت للمال آفاقه

عمان فحمص فأوري شلم

أتيت النجاشي في أرضه

وأرض النبيط وأرض العجم

فنجران فالسرو من حمير

فأي مرام له لم أرم

ومن بعد ذاك إلى حضرموت

فأوفيت همي وحينا أهم

ألم ترى الحضر إلا أهله

بنعمي، وهل خالد من نعم

أقام به سابور الجنود

حولين يضرب فيه القدم

فما زاده ربه قوة

ومثل مجاورة لم يقم

ديوان الأعشى "طبعة رودولف كاير"، "ص33 وما بعدها".

قد طفت ما بين بانقيا إلى عدن

وطال في العجم ترحالي وتسياري

ديوان الأعشى "126".

2 قال في مدحه "قيس بن معديكرب الكندي":

تطوف العفاة بأبوابه

كطوف النصارى ببيت الوثن

ديوان الأعشى "19"، اللسان "17/ 334"، "وثن".

3

وما أيبلى على هيكل

بناه وصلب فيه وصارا

ديوان الأعشى "40"، النصرانية "204"، بروكلمان، تاريخ الأدب العربي "1/ 147 وما بعدها".

4

ربي كريم لا يكدر نعمة

فإذا تنوشد في المهارق أنشدا

النصرانية "162".

5

وذا النصب المنصوب لا تسكنه

ولا تعبد الأوثان، والله فاعبدا

النصرانية "159".

6

ولكن ربي كفى غربتي

بحمد الآله فقد بلغن

ديوان الأعشى "17".

ص: 246

وأن الإنسان عبده1. وأن الفناء واقع على كل امرئ، وليس أحد في هذه الدنيا بخالد، ولو كان الخلود لأحد لكان لسليمان2. وفيه حديث عن البعث والحساب يوم الدين.

ونجد في شعره معرفة بنوح وبسفينته، أشار إلى نوح في مدحه إياسا حيث خاطبه بقوله:

جزى الإله إياسا خير نعمته

كما جزى المرى نوحا بعدما شابا

في فلكه إذ تبداها ليصنعها

وظل يجمع ألواحا وأبوابا3

فهل أخذ الأعشى رأيه هذا عن نوح من أهل الجيرة؟ وهل كان في ذلك قاصدا متحدثا مخاطبا رجلا نصرانيا يعرف الحكاية والموضوع؟ أو كان متحدثا عن نوح حديث من يدين به ويعتقد، فهو رأيه ودينه. الواقع أن البت في ذكل أمر لا أراه ممكنا ما لم تتجمع لنا موارد تأريخية كثيرة، ليتمكن المرء من استنتاج رأي واضح في أمثال هذه الموضوعات المعقدة، التي لم تدرس مظانها المدونة، ولم تنتقد حتى الآن.

وقد ذهب "كاسكل""CaskeI" إلى أن "الأعشى" كان نصرانيا. وذهب الأب "شيخو" هذا المذهب أيضًا، وجوز "بروكلمن" تنصره، لكنه ذهب إلى إنه لم يكن متعمقا في النصرانية4. وقد استدل "كاسكل" على نصرانيته من بيتين في ديوانه، ومن بيت آخر ورد في قصيدة أخرى، لا يمكن في الواقع أن يكون دليلا على نصرانية قائلة5.

وذكر إنه كان قدريا، روى روايته "يحيى بن متى" وهو من عباد الحيرة،

1

فأقسم بالذي أنا أعبده

لتصطفقن يوما عليك المآتم

ديوان الأعشى "58".

2

ولو كان شيء خالدا ومعمرا

لكان سليمان البرئ من الدهر

رآه الهي فاصطفاه عبادة

وملكه ما بين ثريا إلى مصر

وسخر من جن الملائكة تسعة

قياما لديه يعملون بلا أجر

ديوان الأعشى "243".

3 شعراء النصرانية "389"، النصرانية "261".

4 تأريخ الأدب العربي لبروكلمن "1/ 147 وما بعدها".

5 انظر البيتين 12-13 من القصيدة رقم 43 بديوانه، والبيت 9 من القصيدة 13 بالديوان، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 147"، "الترجمة العربية".

ص: 247

أنه أخذ مذهبه هذا في القدر من العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك. وقد استشهدوا على قوله هذا في القدر بهذا البيت:

استأثر الله بالوفاء وبالعد

ل وولى الملامة الرجلا1

وقد راجعت شعر "الأعشى"، فلم أتمكن من استنباط شيء منه يدلني على مقدار علمه بالنصرانية وعلى مدى تعمقه أو تعمق غيره من النصارى بدينهم. فما ذكره مما له علاقة بالنصرانية، هو شيء عام، يأتي بخاطر كل شاعر ذكي جواب في الآفاق، له احتكاك واتصال بالنصارى أو بغيرهم، وهو لا يصلح أن يكون دليلا على عقيدة ودين وفهم لذلك الدين.

وفي شعر "الجعدي" كلام عن سفينة نوح، ذكر أنه قال:

يرفع، بالقار والحديد من الـ

ـيجوز، طوالا جذوعها، عما2

والنابغة الجعدي، مخضرم، يقال إنه كان مثل الحنفاء، أنكر الخمر والميسر، وهجر الأزالام والأوثان، وكان ممن فكر في الجاهلية، وأنكر الجمر والسكر، وهجر الأزلام واجتنب الأوثان، وذكر إبراهيم. وقد لقي الرسول، وأسلم وأنشده من شعره. وذكر أنه هو القائل القصيدة التي فيها:

الحمد لله ربي لا شريك له

من لم يقلها فنفسه ظلما

على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل إنها لأمية، لكن صححها حماد الراوية3.

ونجد في شعر آخرين من غير من ذكرت ألفاظا وكلمات كانت معروفة عند النصارى وإشارا إلى عباداتهم وعاداتهم، وردت في شعر "النابغة الذبياني" ولبيد، وامرئ القيس، وأوس بن حجر وآخرين غيرهم ممن طافوا في الأرضين وارتحلوا فوقفوا على بعض أحوال النصارى فأشاروا إليها في شعرهم.

1 الأغاني "8/ 79"، نالينو "17".

2 اللسان "12/ 425"، "عمم".

3 الإصابة "3/ 508""رقم 8641"، أمالي المرتضي "1/ 263 وما بعدها"، المرزباني "321".

ص: 248

ونجد في شعر "الأفوه الأودي"، وهو صلاءة بن عمرو، تسجيلا لأبناء نوح. سجلهم مع سجل أسماءهم من ملوك التابعة ممن دانت لهم الأنام، فنجده يقول:

ولما يعصها سام وحام

ويافث حيثما حلت ولام1

ولا أدري إذا كان هذا البيت من نظم شاعر جاهلي، وهو الأودي، أو من نظم شخص آخر نظمه على لسانه في الإسلام. ولكني لا أستبعد بالطبع أن يكون خبر أولاد نوح الثلاثة. وهم: سام ويافث وحام، قد عرف عند العرب النصارى وعند من كان على احتكاك واتصال بهم.

ونجد في بيت شعر ينسب لأفنون التغلبي ذكرا لولد آدم2. وورود آدم في هذا البيت، إن صح إنه من شعر ذلك الشاعر الجاهلي، دليل على وقوف هذا الشاعر على قصة آدم وانحدار البشر من نسله. ولا يستبعد أن يكون أذن قد وقف عليها باختلاطه ببني قومه تغلب، وقد كان قسم كبير منهم قد دخلوا في النصرانية. ولا يستبعد أيضًا أن يكون بعض الوثنيين قد وقفوا أيضًا على قصة الخلق كما وردت في الديانتين من اختلاطهم بأهل الكتاب واتصال بهم.

وقد وردت، في بيت آخر من قصيدة يقال إنه قالها في رثاء نفسه، لفظة "الله" في شكل يفهم منه إنه كان يدين بالتوحيد، وأن الآجال كلها بيد الله3، وأشار في بيت آخر إلى عاد وإرم ولقمان وجدن4.

وأشير في أشعار بعض الجاهليين إلى تعبد النصارى وصلواتهم سجدا وقياما، وهؤلاء الذين أشير إليهم من الرهبان والناسكين الذين كانوا قد اعتكفوا في الصوامع وفي

1 النصرانية "266"، عن الأفوه الأودي راجع الأغاني "11/ 41 وما بعدها"، ابن قتيبة، الشعر "10"، ديوان الأفوه، "القاهرة 1937"، "تحقيق عبد العزيز الميمني".

2

قد كنت أسبق من جاروا على مهل

من ولد آدم ما لم يخلعوا رسني

المفضليات "524"، النصرانية "261"، شعراء النصرانية "193".

3

لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي

إذا هو لم يجعل له الله واقيا

شعراء النصرانية "193".

4

لو أنني كنت من عاد ومن إرم

ربيت فيهم ومن لقمان أو جدن

شعراء النصرانية "193".

ص: 249

البيع والأديرة النائية يعبدون الله، ويدعون إلى الرب تقربا وخشية1، ومنهم من ترك السجود أثرًا في جباهم. وقد أطلقوا على صلواتهم هذه اسم "الصلاة". وهي من الألفاظ التي أخذها أولئك النصارى من "بني إرم". وعرفت المواضع التي كانوا يسجدون فيها بالمساجد، والمسجد هو الموضع الذي يتعبد فيه2.

وقد كان الركوع من العادات المعروفة عند الأحناف والنصارى3، و"كانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعا إذا لم يعبد الأوثان، ويقولون: ركع إلى الله"4. وأما إحناء الرءوس، فكان للتعظيم، ولذلك حنوا رءوسهم في الكنائس ولرؤسائهم على سبيل الاحترام والتعظيم5. وقد كانوا يبجلون رءوسهم وسادتهم كثيرًا، ولذلك نزل الوحي بتأنيبهم وتقريعهم، إذ جعلهم هذا الاحترام في مصاف الآلهة والأرباب.

وتلحق بالصلاة التسابيح، أي ذكر الله وتقديس اسمه، وقد كان من عادة الرهبان التسبيح بعد الصلاة، ولا سيما في الضحى والعشي6.

1 قال منظور الأسدي:

كأن مهواه على الكلكل

موقع كفي راحب يصلي

في غبش الصبح أو التتلي

الألفاظ، لابن السكيت "412"، النصرانية "177".

وقال البعيث:

على ظهر عادي كأن أرومه

رجال يتلون الصلاة قيام

تاج العروس "10/ 53"، اللسان "18/ 111"، وقال الأعشى:

لها حارس لا يبرح الدهر بيتها

وإن ذبحت صلى عليها وزمزما

ببابل لم تعصر فسالت سلافة

تخالط قنديدا ومسكان مختما

وقال المضرس الأسدي:

وسخال ساجية العيون خواذل

بجماد لينة كالنصارى السجد

النصرانية "177".

2 اللسان "5/ 187"، "سجد".

3 النصرانية "178".

4 "5/ 363":

5 قال النابغي الذبياني:

سيبلغ عذرا أو نجاحا من امرئ

إلى ربه رب البرية راكع

النصرانية "178".

6 قال أمية بن أبي الصلت:

سبحانه ثم سبحانا يعود له

وقبلنا سبح الجودي والجسد

وقال الأعشى:

وسبح على حين العشيات والضحى

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

"2/ 157"، "سبح"، اللسان "3/ 210"، النصرانية "178".

ص: 250

وقد كان رجال الدين، ولا سيما الرهبان منهم، يقومون بالفروض الدينية فرادى وجماعةن فيرتلون المزامير والأدعية بنغمات وألحان شجية. وقد عرف ترتيل القسيسي "الهينم"، وذلك في حالة النغم بخفوت الصوت1. وإذا طرب القس في صوته خفيا قيل لذلك "الزمزمة"2. أما إذا تغنى، فيقال لذلك الشمعلة. وقد قيل للمتغنين في تلادة الزبور "المتشمعل". وورد:"شمعلة اليهود: قراءتهم، إذا اجتمعوا في فهرهم"3. وأما إذا أطلق صوته بالدعاء فيقال لذلك الجأر4. واللحون من الكلمات التي أطلقت على ترتيل أهل الكتاب لكتبهم المقدسة. فقد كانوا يقرؤون التوراة والإنجيل في المحافل باللحن. وقد أشير إلى ذلك في بعض الأحاديث5. أما إذا ردد الشخص نغمات الإنجيل في حلقه، فكانوا يقولون له الترجيع، ومنه قولهم: رجع الإنجيل6.

و"التصبيغ" من الألفاظ التي كانت تدل على معنى خاص عند النصارى، هو التعميد. وقد عرفه الجاهليون. وذكر علماء اللغة أن الصبغة الدين والملة والشريعة والفطرة والختانة. "اختتن إبراهيم، صلوات الله عليه، فهي الصبغة.

1 "الهيمنة: الصوت. وهو شبه قراءة غير بينة". وأنشد لرؤبة:

لم يسمع الركب بها رجع الكلم

إلا وساويس هيانيهم الهنم

وفي حديث إسلام عمر، رضي الله عنه. قال: ما هذه الهينمة؟ قال أبو عبيدة: الهينمة: الكلام الخفي لا يفهم

وفي حديث الطفيل بن عمرو: هينم في المقام. أي قرأ فيه قراءة خفية. وقال الليث:

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

أي فادع الله"، اللسان "16/ 108"، تاج العروس "9/ 111".

2 "قال الجوهري: الزمزمة كلام المجوس عند أكلهم. وفي حديث عمر، رضي الله عنه، كتب إلى أحد عمال في أمر المجوس: وإنههم عن الزمزمة. قال: هو كلام يقولونه عند أكلهم بصوت خفي. وفي حديث قباث بن أشيم: والذي بعثك بالحق ما تحرك به لساني ولا تزمزمت به شفتاي. الزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم"، اللسان "15/ 165".

3 تاج العروس "7/ 399"، "اشمعل".

4 "جأر يجأر جأرا وجؤرا: رفع صوته مع تضرع واسغاثة

وقال ثعلب: هو رفع الصوت إليه بالدعاء. وجأر الرجل إلى الله عز وجل إذا تضرع بالدعاء. وفي الحديث: كأني أنظر إلى موسى له جؤار إلى ربه بالتلبية. ومنه الحديث الآخر: لخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله"، اللسان "5/ 181".

5 النهاية في غريب الحديث "4/ 57"، معجميات "42 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 330"، اللسان "17/ 263".

6 اللسان "9/ 172"، النصرانية "356".

ص: 251

فجرت الصبغة على الختانة. وصبغ الذمي ولده في اليهودية أو النصرانية صبغة قبيح، أدخله فيها"1. و"كانت النصارى تغمس أبناءها في ماء المعمودية ينصرونهم"2. وقد صالح عمر بني تغلب بعدما قطعوا الفرات قاصدين اللحاق بأرض الروم، على ألا يصبغوا صبيا ولا يكرهوه على دينهم، وعلى أن عليهم الصدقة مضعفة3. وعرفوا "المعمودية" بقولهم: "لفظ معمودية معرب معموذيت بالذال المعجمة، ومعناها الطهارة. وهو ماء أصفر للنصارى يقدس بما يتلى عليه من الإنجيل، يغسمون فيه ولهم معتقدين إنه تطير له كالختان لغيرهم"4.

وقد كان نصارى الجاهلية يعمدون أولادهم، يأخذونهم أطفالا إلى الكنائس لتعميدهم على نحو ما يفعل سائر النصارى. وقد قيل له: التغميس والتصبيغ5.

والصوم من الأحكام الدينية المعروفة عند اليهود والنصارى، وقد أشير إليه في شعر لأمية بن أبي الصلت وفي بيت ينسب إلى النمر بن تولب6. وقد عرف أهل الجاهلية أن اليهود كانوا يصومون، وقد أشير إلى صومهم في عاشورا في أثناء الكلام على فرض الصوم على المسلمين بصيامهم شهر رمضان. ولا بد أن يكون للجاهليين علم بصوم النصارى كذلك، وذلك نتيجة لاتصالهم بهم واختلاطهم معهم.

ومن المصطلحات النصرانية "الحواريون"، وقصد بها رسل المسيح. وقد وردت اللفظة في مواضع من القرآن الكريم7. ووردت لفظة "الحواري" في بيت ينسب إلى "ضابئ بن الحارث بن أرطاة البرجمي"8. وقد رجع بعض الباحثين

1 تاج العروس "6/ 19"، "صبغ".

2 المصدر المذكور.

3 "قال الأزهري: وسمعت النصارى غمسهم أولادهم في الماء صبغا، لغمسهم إياهم فيه"، اللسان "10/ 319"، فتوح البلدان "190".

4 تاج العروس "2/ 432"، "عمد".

5 السنن الكبرى "9/ 216"، "ومنه صبغ النصارى أولادهم في ماء لهم. قال الفراء: إنما قيل صبغة لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد المولود جعلوه في ماء لهم كالتطهير. فيقولون هذا تطهير له كالختانة"، اللسان "10/ 320".

6

صدت كما صد عما لا يحل له

ساقي نصارى قبيل الصبح صوام

النصرانية "179".

7 آل عمران، الآية 52، المائدة الآية 114 وما بعدها، الصف، الآية 14.

8

وكر كما كر الحواري يبتغي

إلى الله زلفى أن يكر فيقتلا

المشرق، المجلد 1929 "ص575 وما بعدها"، النصرانية "189".

ص: 252

أصل هذه اللفظة إلى لغة بني إرم ورجعها اللغويون إلى أصل عربي هو "حور"، وذهب آخرون إلى أنها من أصل حبشي1.

والصليب، من أهم المصطلحات المعروفة عند النصارى، لاعتقادهم بصلب المسيح عليه، حتى صار رمزا للنصرانية. وصاروا يعلقونه على أعناقهم تبركا وتيمنا به، وينصبونه فوق منائر كنائسهم وقبابها، ليكون علامة على متعبد النصارى. وقد أقسموا به. وقد عرف المسلمون تمسك النصارى به، واتخاذهم له شعارا، حتى كان بعضهم يرسمه على جبهته، وكانوا يلثمونه ويتمسحوون به تبركا، ويزينون صدورهم به2.

وذكر علماء اللغة "الشبر" على أنه من المصطلحات الشائعة بين النصارى. وهو على حد تعريفهم له: "شيء يتعاطاه النصارى بعضهم لبعض كالقربان، يتقربون به، أو القربان بعينه". وذكروا أيضًا أن "الشبر" الإنجيل والعطية والخير.

ومن ذلك قول عدي:

لم أخنه والذي أعطى الشبر3

ويظهر من كتب الحديث أن أهل الكتاب كانوا يخالفون المشركين في بعض عاداتهم، كالذي ورد عن عبد الله بن عباس من "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحب موافقة أهل الكتاب

1 المشرق، السنة السابعة "1904 "620"، النصرانية "189"، معجميات "139".

2 قال الأخطل:

لما رأونا والصليب طالعا

خلوا لنا راذان والمزارعا

ديوان الأخطل "309". وقال حجار بن أبجر:

هددني عجل وما خلت إنني

خلاة لعجل والصليب لها بعل

الأغاني "13/ 47". وقال الأقيشر:

في قتية جعلوا الصليب الههم

حاشاي أني مسلم معذور

النصرانية "204".

ونسم إلى عبد المطلب بن هاشم قوله:

لا يغلبن صليبهم

ومحالهم، عدوا، محالك

اللسان "11/ 619"، "محل".

3 تاج العروس "3/ 289"، "شبر".

ص: 253

فيما لم يؤمر فيه بشيء. ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه"1. وكالذي ورد من أن أهل الكتاب كانوا يخالفون الجاهليين في كيفية التحية عند ملاقاة أحدهم الآخر، وأن الرسول أقر المصافحة.

وقد أطلقت لفظة "المصاحف" في شعر ينسب إلى امرئ القيس على أسفار النصارى، وهو قوله:"كخط زبرو في مصاحف رهبان"2. والكلمة على رأي بعض علماء الساميات والنصرانيات من أصل حبشي، ومفردها "مصحف"3. وصحف بمعنى كتب. وقد وردت لفظة "صحيفة" في بيت ينسب إلى "لقيط الإيادي"4.

والمجلة من الألفاظ المعروفة بين الجاهليين. وقد اشتهرت في العربية باقترانها باسم "لقمان"، فقيل:"مجلة لقمان"5. وأطلقت عند العبرانيين على أسفار الكتاب المقدس على سبيل التخصيص أحيانًا وعلى باب التعميم في بعض الأحيان6.وقد وردت في شعر للنابغة، هو:

مجلتهم ذات الإله ودينهم

قويم فما يرجون غير العواقب7

وقصد بها كتاب النصارى، فقد مدح به الغساسنة، وهم على دين المسيح.

وقصد بالسفر وبالأسفار الكتاب والكتب من التوراة والإنجيل، وكلمة "سفر" بمعنى كتاب8. وكانت النصارى تقرأ كتبها من المصحف9، وتفسر للمستمعين ما جاء من مشكل.

ولفظة "جهنم" من الألفاظ المعروفة عند اليهود والنصارى. وهي تعني

1 عمدة القاري "17/ 71".

2

أتت حجج بعدي عليه فأصبحت

كخط زبور في مصاحف رهبان

العقد الثمين "161".

3 النصرانية "181".

4

كتاب في الصحيفة من لقيط

إلى من بالجزيرة من إياد

الأغاني "20/ 34"، النصرانية "181".

5 النصرانية "181".

6 معجميات "167 وما بعدها".

7 "محلتهم" في بعض الروايات، ديوان النابغة "8".

8 اللسان "6/ 35"، الاشتقاق "103"، النصرانية "18".

9 النهاية "4/ 136".

ص: 254

الموضع الذي يكون فيه العذاب بعد الحشر، فيخلد فيه أصحاب الآثام والمعصية. واللفظة من أصل عبراني على رأي المستشرقين وعلماء الساميات هو "جحينوم""جهينوم""Gehinnom"، أي "وادي حينوم1""Hinnom". وهو واد يدور حول القدس نحو أربعة كيلو مترات، ويعرف اليوم باسم "وادي الربابي"، وقد كان اليهود الوثنيون يقربون في موضع منه يسمى "توفيث""Topheth"، الصبيان قرابين للإله "ملوخ" MoIech=MoIoch" يقدمونها ذبائح محروقة إكراما له، ثم صار هذا الموضع محلا ترمى فيه أقذار المدينة وجثث الحيوانات، وتحرق هناك لئلا تنتشر منها الأوبئة، وصار الموضع رمزا للجحيم، ومنه أخذت لفظة "جهنه" "Gehenna" التي هي جهنم2، الموضع الذي يعاقب فيه المجرمون بعد الموت. وهو موضع يقع تحت الأرض، واسع جدا، وأكبر حجما من الأرض. يلقى فيه الآثمون جزاء إثمهم في الدنيا ومخالفتهم شريعة الرب فيبقون فيه فيعذبون. وقد اختلف في موضوع أبدية التعذيب وبقاء وجهنم، فمنهم من رأى جهنم خالدة، وأن العذاب أبدي، ومنهم من ذهب إلى أنها ترفع بعد انتهاء التعذيب3.

وقد وردت لفظة جهنم في مواضع متعددة، من شعر أمية بن أبي الصلت، كما ورد فيه وصفها وكيفية التعذيب فيها4. ولمعرفة أصل هذا الشعر: هل هو

1 Ency I P 998 Shorter Ency p 81

2 Hastings p 285

3 متى، الاصحاح الخامس، الآية 29، الاصحاح العاشر، الآية 28،

Hastings p 285

4 "ورد في تأريخ دمشق لابن عساكر "3/ 124": قال عبد الله بن مسلم الدينوري: سئلت هل وجدتم لجهنم ذكرا في الشعر القديم، فقلت: هذا يحتاج إلى تتبع وطلب. وقد أتذكر فلم أذكر إلا شيئًا وجدته في شعر أمية بن أبي الصلت، فإنه قال:

فلا تدنو جهنم من برئ

ولا عدن يطالعها أثيم

إذا شبت ثم وارت

وأعرض عن قوانسها الجحيم

وروي البيت في المخصص "9/ 6":

جهنم لا تبقى بغيا

وعدن لا يطالعها رجيم

وذكر للعديل بن الفرخ "ياقوت "4/ 117" قوله في نار جهنم وجنة الخلد:

أما ترهبان الدار في ابني أبيكما

ولا ترجون الله في جنة الخلد

وقد ورد اسم جهنام في شعر الأعشى. قال "التاج 7/ 372":

دعوت خليلي مسحلا ودعوا له

جهنام جدعا للهجين المذمم

النصرانية "462 وما بعدها".

ص: 255

من شعر أمية حقًّا، أو من شعر آخرين وضعوه على لسانه، لا بد من دراسته ومقارنته بما جاء في الإسلام عن وصف جهنم وكيفية التعذيب فيها. وهناك رواية تنفي ورود لفظة جهنم في أي شعر جاهلي خلا هذا الشعر المنسوب إلى أمية بن أبي الصلت، ويلاحظ أنه ذكر "عدن" مع جهنم.

ولم أجد في أشعار الجاهليين ذكرا للإنجيل، إلا في الشعر المنسوب إلى "عدي بن زيد العبادي"1. وربما في شعر عدد قليل آخر من الجاهليين، لم أقف عليه. غير أن عدم ورود اللفظة كثيرًا في هذا الشعر، لا يدل على عدم معرفة الجاهليين لها، ودليلنا على ذلك ورودها ف مواضع من القرآن الكريم. وورودها فيه دليل على وقوف الجاهليين عليها واستعمالهم إياها، وأصلها من اليونانية، وقد وقف العرب عليها من السريانية أو من الحبشية2. وقد ذكرت فيما سبق أن نفرا من أهل الكتاب كانوا قد أقاموا بمكة وكانوا يقرأون التوراة والإنجيل بألسنتهم، فلا يستبعد إذن وقوف بعض الجاهليين، ولا سيما المثقفين منهم وأصحاب التجارات الذين كانوا يقصدون الحيرة وبلاد الشام ونجران للتجارة وكان لهم اتصال وثيق بنصارى هذه الأرضين على الإنجيل وعلى الكتب الأخرى التي كان يستعملها رجال الكنيسة لإفهام الناس أمورالدين.

ويظهر من بعض روايات الإخباريين أن بعض أهل الجاهلية كانوا قد اطلعوا على التوراة والإنجيل، وأنهم وقفوا على ترجمات عربية للكتابين. أو أن هذا الفريق كان قد عرب بنفسه الكتابين كلا أو بعضًا، ووقف على ما كان عند أهل الكتاب من كتب في الدين. فذكروا مثلا أن "ورقة بن نوفل""كان يكتب الكتاب العبراني، ويكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب": وقالوا: "وكان امرؤ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب"3. وذكروا مثل ذلك عن "أمية بن أبي الصلت"، فقالوا إنه كان قد قرأ الكتب المقدسة4، وقالوا مثل ذلك عن عدد من الأحناف.

1

وأوتينا الملك والإنجيل نقرؤه

نشفي بحكمته أحلامنا عللا

الحيوان "4/ 64"، النصرانية "185".

2 اللسان "13/ 171"،النصرانية "185" Shorter Ency p 168

3 راجع ما كتبته عنه في فصل الأحناف Spenger Leben I S128

4 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "176".

ص: 256

وإذا كانت هذه الروايات صحيحة، فإنها تدل على أن الجاهليين كانوا قد وقفوا على ترجمة العهدين. ويرى بعض المستشرقين احتمال ترجمة العرب للكتاب المقدس قبل الإسلام وعند ظهوره، ترجمة من اليونانية على الأرجح. وقد استندوا في ذلك إلى خبر ذكره "ابن العبري""Barkebraeus" يفيد أن البطريق "المنوفيزيتي" المدعو "يوحنا""Monophysite Patriarch Johannes" كان قد ترجم الكتاب المقدس إلى أمير عربي اسمه "عمرو بن سعد"، وذلك بين سنتي "631"،"640" للميلاد، وإلى أخبار تفيد أن بعض رجال الدين في العراق كانوا قد ترجموه إلى العربية وذلك قبيل الإسلام وعند ظهوره1.

ولا يستبعد وجود ترجمات للكتاب المقدس في الحيرة، لما عرف عنها من تقدم في الثقافة وفي التعليم، ولوجود النصارى المتعلمين فيها بكثرة. وقد وجد المسلمون فيها حينما دخلوها عددا من الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة وتدوين الأناجيل، وقد برز نفر منهم، وظهروا في علوم اللاهوت، وتولوا مناصب عالية في سلك الكهنوت في مواضع أخرى من العراق، فلا غرابة إذا ما قام هؤلاء بتفسير الأناجيل وشرحها للناس للوقوف عليها. وقد لا يستبعد تدوينهم لتفاسيرها أو لترجمتها، لتكون في متناول الأيدي، ولا سيما بالنسبة إلى طلاب العلم المبتدئين. وقد لا يستبعد أيضًا توزيع بعض هذه الترجمات والتفاسير إلى مواضع أخرى لقراءتها على الوثنيين وعلى النصارى للتبشير2.

ونجد في كتب الإخباريين وفي كتب قصص الأنبياء وفي الفصول المدونة عن الماضين قصصًا وأمثلة وكلاما يرجع أصله إلى بعض أسفاره التوراة أو إلى الأناجيل، غير أننا لا نستطيع أن نؤكد أن هذا المدون قد نقل عن الجاهليين، وأن أهل الجاهلية كانوا يعرفونه، وإنه ليس مما قصه أهل الكتاب أو مسلمة أهل الكتاب مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه على المسلمين، فدخل بينهم. ثم إن القصص أكثره من "التلمود"، "المشنا" والكتب غير القانونية، روي بشكل فيه بعد في بعض الأحيان عن هذا المدون المعروف، وهو يفيدنا من هذه الناحية كثيرًا في الحكم على مدى معرفة العرب بعلم أهل الكتاب.

1 Sprenger I S 131

2 Ency II p 504

ص: 257

وللأسماء أهمية كبيرة في تعيين مبلغ أثر اليهودية والنصرانية في الجاهليين. وإذا كانت أسماء الوثنيين قد ساعدت "ولهوزن" في الكشف عن أسماء أصنام وأوثان لم ترد في كتاب الأصنام لابن الكلبي ولا في كتب الإخباريين الأخرى، وساعدت في الكشف عن مدى تغلغل الوثنية في نفوس أهل الجاهلية، فإن للأسماء اليهودية أو الأسماء النصرانية التي تسمى بها أهل الجاهلية والتي وصل خبرها إلينا أهمية كبيرة في الافصاح عن مدى تأثر الجاهليين بالديانتين. وليس من اللازم أن تكون هذه الأسماء أسماء أناس كانوا على دين يهود، أو على دين النصرانية، فالأسماء وإن كان لها ارتباط في الغالب بأديان حامليها غير أنها لا تكون دائمًا دليلا على دين أصحابها، فللبيئة ولبعض العادات والاعتقادات دخل في اختيار الأسماء. وعلى ذلك فإن ما سنذكره من أسماء لا نذكرها على أن أصحابها كانوا يهودا أو نصارى حتما، وإنما نذكرها على سبيل الإشارة إلى أن بعض الجاهليين كانوا يحملون أسماء هي في الغالب من أسماء اليهود والنصارى.

وفي طليعة هذه الأسماء التي يجب أن نذكرها، الأسماء الواردة في التوراة والإنجيل، فهي أسماء عبرانية ونصرانية معروفة، وبها تسمى. كثير من اليهود والنصارى. ودخولها بين الجاهليين العرب دليل على وجود بعض تلك المسميات بينهم، وتسمى أهل الجاهلية بتلك الأسماء.

ومن جملة تلك الأسماء: آدم وقد دعي به آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. قتل في الجاهلية، وهو الذي وضع النبي دمه يوم فتح مكة. وقد جاء "ابن دريد" بتفسير لهذه التسمية فذكر أنها من الأدمة أو بمعنى الطويل القامة ذي العنق الناصع، ولم يشر إلى وجود علاقة لها باسم آدم أبي البشر1. غير أني لا أستبعد احتمال أخذها من التسميات التي كانت بين اليهود أو النصارى عند الجاهليين. غير أننا لا نعرف من أمثال هذه التسميات غير عدد قليل محدود بحيث لا يمكن أن نتخذها قاعدة لبناء حكم عليها في ورود هذه التسمية عند الجاهليين.

وأكثر من هذه التسمية شيوعا اسم "إبراهيم"، ومن جملة من تسمى بها: إبراهيم جد عدي بن زيد بن حمان بن زيد بن أيوب من بني امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم. فولد أيوب إبراهيم وسلم وثعلبة وزيد. منهم عدي بن زيد

1 الاشتقاق "44"،النصرانية "228".

ص: 258

ابن حمان بن زيد بن أيوب بن مجروف الشاعر. ومنهم مقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيوب، الذي نسب إليه قصر مقاتل. وقال ابن الكلبي: لا أعرف في الجاهلية من العرب أيوب وإبراهيم غير هذين، وإنما سميا بهذين الإسمين للنصرانية1.

وممن سمي بإبراهيم: الحارث بن كتيف النبهاني، وهو شاعر قديمن وإبراهيم الأشهلي، وإبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي القرشي، وابو رافع إبراهيم القبطي، وهو من موالي الرسول، وإبراهيم بن عباد الأوسي، وإبراهيم بن قيس بن حجر بن معديكرب الكندي، وإبراهيم النجار وهو الذي صنع المنبر لرسول الله. وأكثر هؤلاء هم من الذين عاصروا الرسول وكانوا من صحابته2. ويجب ألا ننسى أن الرسول سمى ابنه توفي صغيرا في حياته إبراهيم3.

وعرف من الصحابة رجل اسمه "إسحاق الغنوي"4، وعرف ثلاثة صحابيين باسم "إسماعيل"5. وأما "أيوب"، فقد عرف به "أيوب بن مجروف" جد عدي بن زيد العبادي، وأيوب بن مكرز، كما تكنى به أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري من الصحابة، وهو الذي نزل عليه الرسول يوم مقدمه إلى يثرب مهاجرا من مكة6.

واسم "داود" من الأسماء التي وردت في جملة أسماء ملوك بني سليح، فذكر منهم "داود اللثق"7. وأظن أن لفظة "دؤاد" التي كني بها الشاعر الجاهلي أبو دؤاد الإيادي هي من داود8، وإن ذهب المفسرون فيها مذهبا آخر فقالوا أنها من الدود والدوادة والدودة وأمثال ذلك9. وعرف شاعر آخر باسم

1 تاج العروس "1/ 151"، "أوب"، النصرانية "229".

2 أسد الغابة "1/ 40 وما بعدها"، الإصابة "1/ 25 وما بعدها"، النصرانية "329".

3 ابن هشام "1/ 206".

4 أسد الغابة "1/ 68"، الإصابة "1/ 47"، "رقم 49"، النصرانية "229".

5 أسدالغابة "1/ 79"، الإصابة "1/ 55 وما بعدها"، النصرانية "230".

6 ابن هشام "2/ 66، 125، 144، 150، 305"، "3/ 347، 392"، الاشتقاق "266".

7 الاشتقاق "319"، النصرانية "532".

8 النصرانية "232".

9 الاشتقاق "104".

ص: 259

داود بن حمل الهمداني1، ومن الأنصار رجل اسمه داود بن بلال2 وصحابي اسمه داود بن سلمة الأنصاري3.

وقد عرف داود في الشعر بنسجه الدروع حتى ضربت بدروعه عندهم المثل. وهي في نظرهم دروع قوية ممتازة، صنعها من الحديد الذي كان يلين بين يديه4. وقد تكرر ورود ذلك في أشعار جملة شعراء، مما يدل على أنها كانت معروفة بين الجاهليين مشهورة. هذا ولا بد أن يكون لذلك أصل بعيد ظهر من قصص بني إسرائيل عن داود وعن ملكه وحروبه وتغلبه على خصومه. هذا القصص الذي جعل من داود رجلا لا يستطاع عليه بفضل الحديد الذي لان بين يديه، فصار دروعا لا تمضي فيه سيوف المقاتلين.

1 النصرانية "232".

2 أسد الغابة "2/ 129"، الإصابة "1/ 463"، "رقم 2287و228"، الإصابة "4/ 169"، "988".

3 الإصابة "1/ 463".

4 قال طرفة:

وهم ما هم إذا ما لبسوا

نسج داود لباس محتضر

النصرانية "272"، شعراء النصرانية "309"، ديوان طرفة "58".

وقال حصين بن الحمام المري:

صفائح بصرى أخلصتها قيونها

ومطردا من نسج داود بهما

الحماسة لأبي تمام "189"، النصرانية "273".

وقال حسيل بن سجيع الضبي:

وبيضاء من نسج ابن داود تثرة

تخيرتها يوم اللقاء ملابسا

الحماسة لأبي تمام "284"، النصرانية "273".

وللبيد:

ونزعن من داود أحسن صنعه

ولقد يكون بقوة ونعيم

صنع الحديد لحفظه أسراده

لينال طول العيش غير سروم

ديوان لبيد "83"، "طبعة الخالدي"، النصرانية "273".

وللأعشى:

ومن نسج داود يجدي بها

على أثر العيس عيرا فعير

النصرانية "273"، شعراء النصرانية "388".

ولسلامة بن جندل:

مداخلة من نسج داوو شكلها

كحب الجنا من أبلم متفرق

وله أيضًا:

من نسج داود وآل محرق

غال غرائبهن في الآفاق

النصرانية "273".

ص: 260

ولم يخل شعر الأعشى من اسم داود، فورد في مناسبة التحدث عن حوادث الزمان واعتداء الدهر على الإنسان، وتبدل الأيام، كما في موضع آخر في كلامه على الدروع1. أما عبيد الأبرص، فقد ذكره في أثناء كلامه على طول العمر2.

وعرف "سليمان" في أبيات للنابغة قالها في مدح النعمان ملك الحيرة بتسخيره الجن لبناء تدمر3. وعرف بمثل ذلك وببنائه الأبنية الفخمة وبسعة ملكه في شعر شعراء آخرين4. وإذا كان ما نسب إلى أولئك الشعراء صحيحا، كان رأيهم هذا في سليمان بتأثير ما كان يقصه أهل الكتاب على الجاهليين من قصص وارد في العهد الجديد، في سفر الملوك الثالث وأخبار الأيام الثاني عن ملكه وعجيب أبنيته5.

وقد ورد اسم سليمان علما لجملة رجال عاشوا في الجاهلية وفي أيام الرسول، فهناك حاكم من حكام العرب المعروفين في الجاهلية اسمه "سليمان بن نوفل"6.

1

ومر الليالي كل وقت وساعة

يزعزعن ملكا أو يباعدن دانيا

وردن على داود حتى أبدنه

وكان يغادي العيش أخضر صافيا

الحماسة، للبحتري "90"، النصرانية "272".

2

وطلبت ذا القرنين حتى فاتني

ركضا وكدت أن أرى داؤودا

خزانة الأدب "1/ 323"، النصرانية "272".

3

ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه

ولا أحاشي من الأقوام من أحد

إلا سليمان، إذا قال الإله له:

قم في البرية فاحددها عن الفند

وخيس الجن إني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصفاح والعمد

فمن أطاعك فاخضعه بطاعته

كما أطاعك وأدلله على الرشد

ومن عصاك فعاقبه معاقبة

تنهى الظلوم ولا تعقد على أحد

العقد الثمين "7"، شعراء النصرانية "663"، النصرانية "274".

4 قال الأعشى:

فلو كان حيا خالدا ومعمرا

لكان سليمان البري من الدهر

براه الهي واصطفاه عبادة

وملكه ما بين سرفي إلى مصر

وسخر من جن الملاك شيعة

قياما لديه يعملون بلا أجر

البدء والتأريخ "3/ 108"، النصرانية "274"، وله أيضا:

فذاك سليمان الذي سخرت له

مع الإنس والجن الرياح المراخيا

الحماسة، للبحتري "86 وما بعدها"، النصرانية "275".

5 النصرانية "273".

6 اليعقوبي "1/ 299"، النصرانية "232".

ص: 261

وهناك جملة من الصحابة عرفوا بسليمان1. ومن هذه اللفظة نشأت الأسماء: سلمان وسلام، وسليم، كما يتبين ذلك من أبيات للأسود بن يعقر2 والخطيئة3 والنابغة4. وعرف بسلمان رجل من نصارى بني عجل اسمه سلمان العجلي.

وهناك طائفة لأسماء نصرانية خالصة تسمى بها نفر من الجاهليين قبل الإسلام، مثل: عبد المسيح، وعبد ياسوع، وعبد يسوع، وعبد يشوع، وايشوع، وأبجر، وقد عرف بأبجر عدد من ملوك الرها، كما عرف بها أبجر بن جابر سيد بين عجل، وأفريم، وبولس وجرحس، وجريج، ورومان، ورومانوس، وسرجس، وسمعان، وشمعون، ونسطاس، وحنين، و"حنيناء"و"يحنة"5. ومن أسماء النساء: مارية، ومريم، وحنة6،ومن بين هذه الأسماء ما كانت خاصة بطبقة الموالي الذين جلبوا من الخارج وبيعوا في أسواق النخاسة، فحافظوا على أسمائهم القديمة التي تشير إلى أصولهم في النصرانية.

ونرى ورود "عبد المسيح" بين أسماء أهل الحيرة بصورة خاصة، ورد علما لأناس معروفين جدا بينهم، وكانوا عليهم زعماء، مثل عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة، وكان في جملة من خرج لملاقاة خالد بن الوليد

1 مثل سليمان بن الحارث، الاشتقاق "2/ 318" وسليمان الليثي بن أكيمة، وسليمان بن أبي حتمة القرشي، وسليمان بن صرد الخزاعي، وسليمان بن عمرو بن حديدة، وسليمان بن مسهر، وسليمان بن هاشم بن عتبة القرشي، أسد الغابة "2/ 350 وما بعدها"، الإصابة "2/ 128 وما بعدها"، النصرانية "232"، تاج العروس "8/ 344".

2

ودعا بمحكمة أمين سكها

من نسج داود أبي سلام

تاج العروس "8/ 344".

3

فيه الرماح وفيه كل سابغة

جدلاء محكمة من نسج سلام

النصرانية "232".

4

وكل صموت نثلة تبعية

ونسج سليم كل قضاء ذائل

ديوان النابغة "99"، النصرانية "233"، "أراد نسج داود، فجعله سليمان ثم غير الاسم، فقال سلام وسليم. ومثل ذلك في أشعارهم كثير. قال ابن بري: وقالوا في سليمان اسم النبي، صلى الله عليه وسلم: سليم وسلام فغيروه ضرورة"، اللسان "15/ 192 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 344".

5 البكري: معجم "4/ 580"، تاج العروس "9/ 186".

6 النصرانية "239"، وقد أورد قائمة بالأسماء النصرانية، وأورد أمثلة لمن تسمى بها قبل الإسلام من الجاهليين، الكبري، معجم "4/ 578"، "دير حنة".

ص: 262

للاتفاق معه على شروط الصلح1. وعادة جعل المرء نفسه عبدا لإله أو لشخص مقدس، كما في هذه التسمية، لم تكن من العادات الخاصة بالنصارى، فقد رأينا أن أكثر الجاهلين كانوا يجعلون أنفسهم عبدا لإله من الآله، ثم يتخذون ذلك تسمية لهم، مثل عبد العزى، وعبد يغوث، وعبد ود، وأمثال ذلك. فلما كانت النصرانية، تبرأ من تنصر من اسم الآلهة الوثنية، وأحلوا محلها اسم المسيح.

وكان اسم والد حنظلة صاحب دير حنظة الذي بأرض بني علقمة بالحيرة "عبد المسيح"، ويذكر الإخباريون أنهم وجدوا على صدر الدير كتابة مكتوبة بالرصاص على ساج محفور:"بني هذا الهيكل المقدس، محبة لولاية الحق والأمانة، حنظلة بن عبد المسيح، يكون مع بقاء الدنيا تقديسه، وكما يذكر أولياؤه بالعصمة، يكون ذكر الخاطئ حنظلة"2.

غير أن هذه الأسماء اليهودية الأصل أو النصرانية قليلة الاستعمال، فلم تكن مستعملة بنطاق واسع. وأكثر من تسمى بها، هم من الموالي والأرقاء، أو من العرب الذين كانوا على أطراف العراق وبلاد الشام، وممن تأثر بالمؤثرات الثقافية الأعجمية، أو ممن كان على يهودية أو نصرانية، فتسمى بأسماء محببة أو مباركة في هاتين الديانتين.

وأهل نجران، هم الذين كانوا يجادلون الرسول في طبيعة المسيح، فلم يكن بمكة أو بيثرب قوم منهم يستطيعون مجادلته في أمور الدين. وقد ذكر بعض المفسرين أن أهل نجران كانوا أعظم قوم من النصارى جادلوا الرسول في عيسى. جاءوا إلى الرسول، فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسى. تزعم إنه عبد الله. فقال: أجل إنه عبد الله. قالوا: فهل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به، ثم خرجوا من عنده غاضبين. وقالوا إن كنت صاقدا، فأرنا عبدا يحيي الموتى ويبرئ الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، فلما عادوا قال رسول الله:"مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون"3.

1 البلاذري، فتوح "252"، المعمرون، للسجستاني "38"، "طبعة كولدتزيهر". المشرق، السنة السابعة عشرة، "1914"، "ص132"، البلدان "2/ 677".

2 البكري، معجم "2/ 572"، "دير حنظلة".

3 تفسير الطبري "3/ 207 وما بعدها.

ص: 263

وقد جادل بعض النصارى رسول الله في أمور الدين، ثم أسلموا. ونظرا لقلة عددهم بيثرب، لم يقاوموه هنا كما قاومه اليهود.

وطبيعي أن يتأثر نصارى الجاهلية بلغة بني إرم، فيستعملوا المصطلحات التي كانت شائعة في الكنيسة، وهي مصطلحات إرمية الأصل في الغالب: فقد كانت لغة بني إرم لغة العلم والدين عند النصارى الشرقيين. بها يقيمون طقوسهم الدينية، ومنها يترجمون الأناجيل إلى أتباعهم النصارى العرب، فدخلت بذلك إلى العربية ألفاظ إرمية ذات معان خاصة. ومنها الألفاظ التي تكلمنا عنها وألفاظ أخرى عديدة لم نتطرق إليها، لعدم وجود صلة لها بهذا الموضوع، وخشية الإطالة والخروج على صلب الموضوع. وهناك مصطلحات يونانية ولاتينية وحبشية، لها صلة بالدين والمجتمع دخلت العربية أيضًا عن طريق النصرانية، ظهر أثرها في نصارى بلاد الشام والعربية الغربية خاصة، بتأثير الاحتكاك المباشر والتبشير.

وقد عني بعض الباحثين بجمع المصطلحات الدينية المعروفة عند أهل الكتاب في الجاهلية والتي أقرها الإسلام على نحو ما كانت تعرف به، أو أعطاها معنى خاصًّا، ومن بينها عدد كبير ورد في القرآن الكريم1. ولما كانت غالبية العرب على الوثنية، وهي ديانة بسيطة قليلة الشعائر بالنبة إلى اليهودية والنصرانية، لذلك كانت هذه المصطلحات شائعة معروفة بين أهل الكتاب من الجاهليين، وقد نقلوها من اللغات الدينية التي كتب بها علماء أهل الكتاب، فهي في الغالب من أصل سرياني أو عبراني أو يوناني أو حبشي.

وقد جمع الأب "شيخو" في كتابه: "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية" الألفاظ الخاصة بأهل الكتاب من الأبيات الواردة في دواوين شعراء الجاهلية وفي كتب الأدب، وهي أبيات منها ما أجمع الرواة وأهل الأخبار على نسبتها إلى أولئك الشعراء، ومنها ما ورد عند بعض الرواة والإخباريين ولم يرد في دواوين أولئك الشعراء، ليجعل من تلك الألفاظ دليلا على أثر النصرانية في الجاهليين، وعلى مدى تغلغلها بينهم. وهو حكم لا يمكن أن يكون سليما، إلا بعد ثبوت صحة نسبة تلك الأبيات إلى الجاهليين.

1 Noldeke، Neue Beitrage zur Semit. Sparad، s. 1. ff، J. Horovitz، Jewish Proper Names and Derivatives in Koran، 145، R. Bell، The Grigin of Islam in Its Christian Environment، London، 1926.

ص: 264

وقد كان للنصرانية أثر مهم في نشر الكتابة العربية، المأخوذة عن الإرمية، بين الجاهليين، الكتابة التي تولد منها قلمنا الذي نكتب به في الوقت الحاضر. وقد وجد المسلمون في فتحهم للعراق مدارس عديدة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، كما أن تجار مكة ويثرب الذين كانوا يقصدون الشام والعراق وجدوا الضرورة تحتم عليهم تعلم هذا الخط، فتعلموه. ولما نزل الوحي كتب كتابه به، فصار قلم المسلمين. كما سأتحدث عن ذلك في موضوع الخط عند الجاهليين.

ولم يترك رجال الدين من النصارى العرب لنا أثر كتابيا بنبئ عن مدى اشتغالهم في علم اللاهوت وفي العلوم الأخرى، غير أن هذا لا يعني أن النصارى العرب لم يخرجوا علماء دين منهم، ولم يعطوا النصرانية رجلا منهم يخدمها ويقف حياته الروحية عليها، ففي قوائم أسماء من حضروا المجامع الدينية التي عقدت للنظر في الأمور الجدلية وفي القضايا التي تخص مبادئ الدين أسماء رجال تنبئ أنهم كانوا عربا، وقد دونت في محاضر تلك المجالس أسماء المواضع التي مثلوها من بلاد العرب، كما أن بين رجال الدين الكبار الذين نبغوا في العراق من كان أصله من الحيرة، وإذ كانت غالبية سكان هذا المدينة من العرب، فلا يستبعد أن يكون من بين هؤلاء العلماء النصارى الحيريين من كل من أصل عربي.

لقد كانت النصرانية عاملا مهما بالطبع في إدخال الآراء الإغريقية والسريانية إلى نصارى العرب، فقد كانت الكنيسة مضطرة إلىدراسة الإغريقية ولغة بني إرم، لما للغتين من قدسية خاصة نشأت من صلتهما بالأناجيل. وقد كان أثر الإرمية أهم في الكنيسة الشرقية من الإغريقية، لكونها لغة الثقافة في الهلال الخصيب في ذلك العهد. ولهذا وجدنا معظم التعابير والمصطلحات الدينية عند نصارى الشرق هي من هذه اللغة، ومنها أخذها النصارى العرب، فصارت عربية. وقد كان السريان قد نقلوا بعض مؤلفات اليونان واللاتين إلى لغتهم، ولا أستبعد نقلهم بعض تلك المؤلفات، ولا سيما الدينية منها، من هذه اللغة إلى اللغة العربية، وذلك قبل الإسلام، أو ترجمتها ترجمة شفوية لطلاب العلم من العرب ممن كانوا لا يفقهون لغة بني إرم، أو لا يلمون بها إلماما صحيحا. وإذ كانت هذه اللغة لغة مقدسة لغة بني إرم، أو لا يلمون بها إلماما صحيحا. وإذ كانت هذه اللغة لغة مقدسة ولغة الكنيسة الرسمية، وكان أكثر رجال الدين من بني إرم، فقد كانت هذه اللغة المقررة في الكنيسة، بها يدرس ويتباحث رجال الدين وإن كانوا عربا، على نحو ما يفعله رجال الدين المسلمين الأعاجم الذين يدرسون العربية بعلومها المختلفة

ص: 265

ليتفقهوا بذلك في الدين، والعربية هي لغة الدين الإسلامي، وكما يفعل رجال الدين الكاثوليك أيضًا في دراستهم اللاتينية وتبحرهم بها لأن الاتينية هي لغة النصرانية عند الكاثوليك.

وكان للنصرانية أثر آخر في نصارى عر الجاهلية، هو أثرها فيهم من ناحية الفن، إذ أدخلت النصرانية بين العرب فنا جديدا في البناء، هو بناء الكنائس والأديرة والمذابح والمحاريب والزخرفة، كما أدخلت النحت والتصوير المتأثرين بالنزعة النصرانية، ولدخول أكثر هذه الأشياء لأول مرة بين الجاهليين، استعملت مسمياتها الأصلية اليونانية أو الآرامية في اللغة العربية، بعد أن صقلت وهذبت، حتى اكتسبت ثوبا يلائم الذوق العربي في النطق. وستكشف الحفريات في المستقبل عن مدى تأثر النصارى العرب الجاهليين بالفن النصراني المقتبس عن الروم أو عن بني إرم والأحباش.

ص: 266

‌الفصل الثالث والثمانون: المجوس والصابئة

‌مدخل

الفصل الثال والثمانون المجوس والصابئة

يقصد الإخباريون بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة: الخير والشر، فيزعمون أن الخير من فعل النور وأن الشر من فعل الظلمة1. وهم يعلمون أن المجوس من الفرس وأنهم عبدة النيران.

وفي القرآن الكريم ذكر للمجوس. وقد ورد ذكرهم في موضع واحد منه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 2. وفي ذكرهم في القرآن الكريم دليل كاف على معرفة أهل الحجاز بهم، ووقوفهم عليهم. وكيف لا يكون لهم علم بهم ووقوف عليهم، وقد كان لأهل مكة اتصال وثيق بالحيرة كما كان لأهل الحجاز اتصال باليمن؟ وقد كان المهيمن على اليمن الفرس عند ظهور الإسلام، حيث طردوا الأحباش وأخذوا محلهم، وقد كان هؤلاء الفرس على المجوسية، ثم إنه كان في حضرموت وفي العربية الشرقية أناس منهم أقاموا هناك. وقد كان وكلاء الأكاسرة على هذه الأماكن منهم، وهم على دين

1 النهاية "4/ 85"، اللسان "8/ 98""مجس"، تاج العروس "4/ 345""مجس"، الملل والنحل "2/ 57"، الحيوان "1/ 190"، "4/ 59، 479، 481"، المسعويد، مرج "1/ 252، 253،273"، "بيروت"، عمدة القاري "15/ 78".

2 الحج، الآية 17، عمدة القاري "15// 78 وما بعدها" الطبرسي، مجمع البيان "13/ 88 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 8"، تفسير الطبري "6/ 201"، روح المعاني "6/ 179"، تاج العروس "4/ 245". "مجس".

ص: 267

المجوسية. وقد أشير إلى وجودهم في أخبار الفتوح، حيث دفع الجزية من أبي منهم الدخول في الإسلام. والظاهر أن هؤلاء كانوا مقيمين فيها من أمد طويل بدليل ورود جملة في أخبار الفتوح تفيد ذلك، وهي:"وأسلم معهما جميع العرب وبعض العجم. فأما أهل الأرض من المجوس واليهود والنصارى، فإنهم صالحوا العلاء"1.

ويروي أهل الحديث حديثين يذكرون أن الرسول قالهما هما: "كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يمجسانه"، أي يعلمانه دين المجوسية. وحديث "القدرية مجوس هذه الأمة"2. وفي هذين الحديثين ذكر للمجوس. ولعلماء الحديث كلام عليهما. ولا سيما على الحديث الثاني، وفيه تعريض بالقدرية، أسلاف المعتزلة.

وكلمة "مجوس" من الكلمات المعربة، عربت عن لفظة "مغوس""Maghos" الفارسية التي تعني "عابد النار"3. وهي من الألفاظ التي دخلت إلى اليونانية كذلك، حيث وردت لفظة "Magi" فيها. وهي جمع "مجوس""Magus"4. وقد دخلت إلى لغة "بني إرم" أيضًا. ولا ندري اليوم على وجه صحيح من أي طريق دخلت لفظة "مجوسي" و"مجوس" إلى العربية، عن الفرس أنفسهم، أو عن اليونانية أو عن طريق لغة "بين إرم"5!

وقد عرف علماء اللغة بأن لفظة "مجوس" من الألفاظ المعربة. وقد ذهبوا إلى إنها معربة عن الفارسية القديمة. ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في أصل اللفظة وفي بيان معناها، وذهبوا في ذلك مذاهب6، وبعض هذه التفسيرات والتأويلات مفتعل يدل على عدم وقوف أصحابها على جلية الموضوع.

1 البلدان "2/ 74"، "ومن أبي فعلية الجزية. فصالحهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أن على المجوس الجزية"، "وأخذ الجزية من المجوس"، الطبري "3/ 29".

2 اللسان "6/ 213 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 345"، اللسان "8/ 98""مجس""طبعة بولاق".

3 غرائب اللغة "ص269".

4 Hastings p 565

5 Shorter Ency of IsIam p 98 Ency III p 97

6 اللسان "8/ 98""طبعة بولاق"، محيط المحيط "2/ 250"، تاج العروس "4/ 345""مجس"، الحيوان، للجاحظ "5/ 69""عبد السلام هارون"، المعرب، للجواليقي "320".

ص: 268

ويريد الإخباريون بالمجوسية عبادة النار. وإذا صح ما ورد في شطر بيت منسوب إلى الشاعر الجاهلي "التوأم اليشكري" المعاصر لامرئ القيس، هو:"كنار مجوس تستعر استعارا"1، فإن فيه دلالة على أن هذا الشاعر هو وامرأ القيس كانا على علم بنار المجوس، وإنها كانت تستعر دائمًا، وربما كانا على علم ببعض تعاليمها أيضًا.

وفي أخبار أهل الأخبار ما يفيد بعض العرب، فورد أن "المزدكية والمجوسية في تميم"2. وورد أن "زرارة بن عدس" وابنه "حاجب بن زرارة"، وهما من سادات تميم كانا قد اعتنقا المجوسية، واعتنقها أيضًا "الأقرع بن حابس" و"أبو الأسود"، جد "وكيع بن حسان"3. وقيل إن أشتاتا من العرب عبدت النار، سرى إليها ذلك من الفرس والمجوس4.

وكان مجوس اليمن، من الفرس الذين أرسلهم كسرى لطرد الحبش من اليمن، فهم وأبناؤهم كانوا على هذا الدين، دين الإمبراطورية الفارسية، ولما ظهر الإسلام، نبذ هؤلاء المجوسية واعتنقوا الإسلام5.

وأما مجوس عمان وبقية أنحاء العربية الجنوبية، فقد كانوا من الفرس كذلك: من تجار ومن مقيمين من بقية الفرس الذين كانوا قد استولوا على هذه الأرضين. وعند ظهور الإسلام لم يكن لهم نفوذ سياسي، فقد كان سادات القبائل قد كونوا مشيخات فيها، واستقلت في إدارة شئونها، غير أن المجوس بقوا فيها، وعند دخول أهلها في الإسلام، ودخول البلاد في دين الله، دفع بعض أولئك المجوس الجزية، ودخل الباقون في الإسلام. شأنهم في ذلك شأن اليهود والنصارى المقيمين في هذه الأرضين.

وأما مجوس البحرين، فقد كانوا أكثر عددا وأكبر نفوذا من إخوانهم في عمان، لقرب هذه الأرضين من إمبراطورية الساسانيين، ولهجة الفرس من السواحل المقابلة ومن طريق الأبلة الساحلي، وقد عثر المنقبون على قبور عديدة

1 اللسان "6/ 213 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 245"، "مجس".

2 البدء والتأريخ "4/ 31".

3 المعارف "266""الصاوي"، البدء والتأريخ "4/ 31"، الأعلاق النفيسة "217".

4 بلوغ الأرب "2/ 233".

5 Ency VoI III p 99

ص: 269

تعود إليهم؛ وعلى آثار لمعابدهم في العربية الشرقية. وكان على "هجر"، حين أبلغ الرسول دعوته إليها، رجل من الفرس اسمه "سيبخت مرزبان"، وقد أسلم واسلم معه قوم من قومه، ودفع الجزية من فضل البقاء منهم على دينه، شأنهم في ذلك شأن أهل الكتاب1. وذكر أن الرسول كتب إلى "مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أخذت منهم الجزية، وبأن لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم"2.

وكان باليمامة قوم من المجوس، عاشوا في قراها ومواضعها، اشتغلوا بالزراعة وبالتعدين. وأرض اليمامة أرض غنية، وهي "ريف" أهل مكة، وعليها اعتمادهم في الحصول على الحبوب. كما عرفت بوجود المعادن بها، فسهل أهلها دخول المجوس إليها، للاستفادة منهم في استغلال الأرض وفي التعدين.

هذا ولم نسمع بدخول أحد من ملوك الحيرة، أو الأمراء الذين عينهم الفرس على العرب في المجوسية مع علاقتهم بالفرس واتصالهم الوثيق بهم، ووجود الفرس في أرضهم وفي عاصمتهم، بينما نجد بعضًا منهم وقد دخل في النصرانية. ولعل ذلك بسبب عدم ميل الفرس إلى إدخال أحد من الغرباء عنهم في دينهم وإلى عدهم المجوسية ديانة قومية خاصة بهم، فلا يهمهم دخول أحد من غيرهم فيها.

هذا ولا أجد صلة بين "الأسبذية" التي زعم أنها ديانة قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين، عرفوا بـ "الأسبذيين"، وبين "بني دارم"، وكونهم كانوا على هذا الدين. فقد كان أحدهم وهو "المنذر بن ساوى" أسبذيا، ولم يكونوا كلهم. قيل إنه نسب إلى قرية بهجر يقال لها "الأسبذ"، وقيل إلى الأسبذيين3. ولا صلة لهذه الأسبذية بالمجوسية، أو إلى ديانة دخلت من فارس إلى البحرين. وقد تحدثت في مكان آخر عن وجود قوم من العرب قدسوا "الحصان". ورأي أن المراد من "الأسبذية" الفرسان. وأن "المنذر بن ساوى" كان "أسبذا" أي بدرجة فارس، وهي من درجة الشرف والرفعة في الجيش الساساني.

1 البلاذري "85 وما بعدها"، البلدان "2/ 73 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 263"، "صادر".

3 فتوح البلدان "98"، "89""طبعة المكتبة التجارية"، محاضرات للدكتور صالح أحمد العلي "171".

ص: 270

ويذكر علماء اللغة في معرض كلامهم على معنى لفظة "الزمزمة" أن من عادة المجوس الزمزمة عند الابتداء بالأكل، أي قراءة شيء من كتبهم الدينية قراءة خافته على المأكول تقديسا وشكرا لهز وقد نهى الخليفة عمر عن الزمزمة، لأنها من علائم المجوس1.

وقد عرف عالم المجوس ورئيسهم الروحي عند العرب بـ "الموبذ" و"الموبذان"، وعرف كبيرهم بـ "موبذان موبذ"؛ وجعل بعض العلماء "الموبذان" بمنزلة قاضي القضاة للمسلمين، والموبذ بمنزلة القاضي2. وتعني "موبذان موبذ" الموبذ الأعظم. وقد اكتفى أحيانًا بلفظة "موبذان" للتعبير عن "موبذان موبذ". وقد فسر المسعودي لفظة "الموبذ" بمعنى حافظ الدين. ورجع أصلها إلى "مو" بمعنى "دين" في رأيه، و"بذ" بمعنى "حافظ"3. ورأى "اليعقوبي" أن "الموبذان" بمعنى عالم العلماء4. والموبذ هي من الألفاظ المعربة عن الفهلوية، فهي من أصل فهلوي هو Magupat، بمعنى عظيم المجوس. ويتمتع هذا الرئيس الديني الأعظم بسلطات دينية واسعة5. وقد أطلق السريان على الموبذ جملة "ريش مكوشي" "Resh Magushi" و "Resh damgushi، أي "رئيس المجوس"، و"مكوش" تعني "المجوس"6.

وترد في العربية لفظة أخرى، لها صلة بالمجوسية، هي "الهربذ" و"الهرابذاة". ذكر علماء اللغة أن "الهرابذية: المجوس، وهم قومة بيت النار التي للهند

وقيل عظماء الهند أو علماؤهم". وذكروا أن "الهربذي مشية فيها اختيال، كمشي الهرابذة، وهم حكام المجوس. قال امرؤ القيس:

مشى الهربذي في دفه ثم فرفرا"7

1 اللسان "15/ 165"، تاج العروس "8/ 165"، تاج العروس "8/ 328".

2 اللسان "3/ 511"، "موين"، النهاية في غريب الحديث "4/ 119"، تاج العروس "2/ 513".

3 مروج الذهب "1/ 268"، "ذكر ملوك الغساسنة".

Ency III p 453>

4 تأريخ اليعقوبي "1/ 207".

5 Ency III p 453

6 اللسان "3/ 517 وما بعدها"، "هربن".

7 Ency III p 453

ص: 271

واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية. من أصل "هور" و"بت"، بمعنى رئيس خدام النار. والموكل على خدمة النار في المعبد1.

وقد ذكر "الألوسي"، أن صنفا من العرب عبد النار، وقال عنهم:"وهم أشتات من العرب، وكأن ذلك سرى إليهم من الفرس والمجوس"2. ولم يذكر أسماء هؤلاء الأشتات. ولم يتحدث عن طريقة تعبدهم للنار. ولكننا نستطيع أن نجد في "نار الاستمطار" وفي "نار التحالف" وفي النيران الأخرى التي يذكرها أسماءها أهل الأخبار دلالة على وجود فكرة تقديس بعض العرب للنار. وقد حبب الإسلام هذه النيران.

فقد ذكر أهل الأخبار أن العرب كانت في الجاهلية الأولى، إذا احتبس عنهم المطر، ويئسوا من نزوله، يجمعون البقر ويعقدون في أذنابها وعراقبيها السلع والعشر ويصعدون بها في الجبل الوعر، ويشعلون فيها النار، ويزعمون أن ذلك من أسباب المطر، قال الشاعر "الورل" الطائي:

أجاعل أنت بيقورا مسلعة

وسيلة منك بين الله والمطر3

وقد أشير إلى هذه النار في شعر ينسب إلى أمية بن أبي الصلت4. ويسمونها بنار الاستسقاء وبنار الاستمطار5.

وذكروا نارًا أخرى قالوا لها: "نار التحالف" ،"نار المهول". وقالوا أن العرب كانوا لا يعقدون حلفا إلا عليها، وكانوا إذا اختصموا في شيء، واتفقوا على اليمين، حلفوا على النار. ولهذا قيل لها "نار التحالف". وطريقتهم في ذلك أن المتحالفين أو المتخاصمين يحفرون أمام نار يوقدونها، ثم يلقون عليها

1 غرائب اللغة "248".

2 بلوغ الأرب "2/ 233".

3 "الوديل الطائي"، صبح الأعشى "1/ 409"، بلوغ الأرب "2/ 164"، خزانة الأدب "3/ 212"، الحيوان "4/ 468".

لا در در رجال خاب سعيهم

يستمطرون لدى الازمات بالعشر

أجاعل أنت بيقورا مسلعة

ذريعة لك بين الله والمطر

اللسان "4/ 73"، "بقر".

4 نهاية الأرب، للنويري "1/ 109 وما بعدها"، الحيوان "4/ 466 وما بعدها".

5 نزهة الجليس "2/ 406".

ص: 272

ملحا وكبريتا. وعندئذ يذكرون منافع هذه النار ويدعون بالحرمان من خيرها على من ينقض العهد ويحل العقد وفي حالة الحلف واليمين يقول صاحب النار للحالف: "هذه النار قد تهددتك"، فإن كان مبطلا نكل، وإن بريئًا حلف، ولذلك قيل لها "نار المهول"1. وذكروا أيضًا أن هذه النار كانت معروفة في اليمن، مستعرة دائمًا، ولها سادة سدنة وقيمون يطرحون الملح والكبريت في النار، أما السدنة فيقومون بأخذ اليمين. وكان سادتها إذا أتي برجل ليحلف، هيبوه من الحلف بها، وخوفوه من الكذب. وقد عرفت هذه النار بـ "نار التحاليف" كذلك. وقد أشار إليها الكميت بقوله:

هم خوفوني بالعمى هوة الردى

كما شب نار الحالفين المهول

كما أشار إليها شاعر آخر هو أوس، إذ قال:

إذا استقبلته الشمس صد بوجهه

كما صد عن نار المهول حالف2

وذكر "الجاحظ" أن العرب "يقولون في الحلف: الدم، الدم، والهدم الهدم، لا يزيده طلوع الشمس إلا شدا، وطول الليالي إلا مدا، ما بل البحر صوفة، وما أقام رضوى في مكانه، إن كان جبلهم رضوى.

"وكل قوم يذكرون جبلهم، والمشهور من جبالهم. وربما دنوا منها حتى تكاد تحرقهم"3.

بل زعم بعض أهل الأخبار أن حمير كانت تحتكم إلى نار كانت باليمن تحكم بينهم فيما كانوا يختلفون به. تأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فلما اعتنق التبع "تبان أسعد"، ديانة يهود، وطلب من قومه الدخول فيها، أبوا عليه ذلك، وطلبوا منه الاحتكام إلى تلك النار في قصة يذكرونها في سبب تهود بعض حمير4.

وللعرب نار السعالي والجن والغيلان5. ذكروا أن الغيلان توقد بالليل النيران

1 اللسان "5/ 234"، "نور"، "نزهة الجليس "2/ 406".

2 اللسان "7/ 102"، صبح الأعشى "1/ 409"، خزانة الأدب "3/ 212"، "خوفونا"، نهاية الآرب "1/ 109 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، الحيوان "45/ 470".

3 الحيوان "4/470 وما بعدها".

4 سيرة ابن هشام "1/ 27".

5 الحيوان "4/ 481".

ص: 273

للعبث والتخييل واضلال السابلة. وإنها ترفع للمثقفر فيتبعها فتهوى به الغول. وأورد أهل الأخبار شعرا في ذلك منه شعر لـ "عبيد بن أيوب"، المعروف بـ "أبي مطراب"، وكان يزعم أنه يؤاكل الظباء والوحش ويرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي1.

وذكر أهل الأخبار قصة عن "خالد بن سنان العبسي" النبي العربي الذي منحه بعضهم في الإسلام جملة "عليه السلام" باعتبار أنه من أنبياء الله، قد يكون لها صلة بعقيدة عبادة النار عند العرب. إذ ذكروا أن نارًا ظهرت "بالبادية بين مكة والمدينة في الفترة، فسمتها العرب بدًا، وكادت طائفة منهم أن تعبدها مضاهاة للمجوس. فقام خالد هذا، فأخذ عصاه، واقتحم النار يضربها بعصاه، حتى أطفأها الله تعالى. ثم قال: إني ميت، فإذا أنا مت، وحال الحول، فارصدوا قبري. فإذا حمار عند قبري، فارموه واقتلوه، وانبشوا قبري، فإني أحدثكم بكل ما هو كائن. فمات. فلما حال الحول، رأوا الحمار فقتلوه، وأرادوا نبشه، فمنعهم أولاده، وقالوا: لا نسمى بني المنبوش"2. وقد عرفت تلك النار بـ "نار الحرتين"3. وذكر إنها كانت ببلاد عبس، فإذا كان الليل تضيء نار تسطع وفي النار دخان مرتفع. وربما بدر منها عنق فأحرق من مر بها. فحضر خالد بن سنان النبي، فدفنها، فكانت معجزة له4. ويظهر أن حرة، كانت في تلك المنطقة، ثم خمدت فنسب الناس خمودها إلى "خالد بن سنان".

وللجاهليين استعمالات أخرى للنار، فكانوا إذا خافوا شر رجل، وتحول عنهم أوقدوا خلفه نارًا، ليتحول شره معه5. ويقولون:"أبعده الله وأسحقه وأوقد نارًا في أثره"، يقولون ذلك لكراهيتهم له، ويتمنون الموت له. وتعرف هذه النار بـ "نار الطرد"6. وذكر أن العرب تدعو على العدو فتقول:

1 الحيوان "4/ 481 وما بعدها"، معجم الشعراء "182"، مروج الذهب "1/ 328"، الحيوان "5/ 123"، صبح الأعشى "1/ 410".

2 محاضرات الأبرار "1/ 77"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406

3 الحيوان "4/ 476 وما بعدها".

4 صبح الأعشى "1/ 409 وما بعدها".

5 اللسان "7/ 102"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".

6 خزانة الأدب "3/ 212"، الحيوان "4/ 474"، صبح الأعشى "1/ 409".

ص: 274

أبعد الله داره وأوقد نارًا أثره1.

ولا بد أن يكون للنار الموقدة على المزدلفة صلة ما بعقائد الجاهليين القديمة في النار. وينسب الإخباريون هذه النار إلى "قصي بن كلاب"، يقولون إنه أوقدها على المزدلفة حتى يراها من دفع من عرفة في أيام الحج. وقد بقي الناس يوقدونها إلى الإسلام2.

ومن نيران العرب، نار الغدر، وتوقد بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين، جبلي مكة: أبي قبيس وقعيقعان، أو أبو قبيس والأحمر. فإذا استعرت، صاح موقدها: هذه غدرة فلان، ليحذره الناس، وليعلموا أن فلانا قد غدر بجاره3.

وأما "نار السلامة"، فهي التي توقد للقادم من سفر سالما غانما، وقد عرفت لذلك بـ نار المسافر" أيضًا4. و"نار السليم"، هي النار التي توقد للملدوغ وللمجروح ولمن ضرب بالسياط ولم عضه الكلب الكلب، ويقولون إنها إنما توقد لكي لا يناموا، فيشتد بهم الأمر ويؤدي إلى الهلالك5.

وأما "نار الحرب"، فهي النار التي كانوا إذا أرادوا حربًا، وتوقعوا جيشًا عظيمًا، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلا على جبلهم نارًا، ليبلغ الخبر أصحابهم. وإذا جدوا في جمع عشائرهم إليهم أوقدوا نارين6.

ونار الصيد، هي نار توقد للظباء وللحيوانات الأخرى، فتغشاها إذا نظرت إليها7.

1 قال الشاعر:

وجمة أقوام حملت، ولم آكن

كموقد نار أثرهم للتندم

اللسان "5/ 243"، "نور".

2 صبح الأعشى "1/ 409"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب "462" الكامل، لابن الأثير "2/ 17"، نزهة الجليس "2/ 406".

3 بلوغ الأرب "2/ 162"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406".

4 الحيوان "4/ 473"، نزهة الجليس "2/ 406.

5 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 410".

6 الحيوان "4/ 474 وما بعدها"، "5/ 133"، صبح الأعشى "1/ 409"، نزهة الجليس "2/ 406".

7 صبح الأعشى "1/ 410"، نزهة الجليس "2/ 406".

ص: 275

ونار الأسد، وهي نار توقد إذا خافوا الأسد، لينفر عنهم، فإن من شأنه النفار عن النار، يقال إنه إذا رأى النار حدث له فكر يصده عن قصده، ويشغله عن السابلة. ويقولون إن الضفدع إذا رأى النار تحير وترك النقيق1.

ونار الفداء، وكان الملوك منهم، إذا أسروا نساء قبيلة، خرجت إليهم السادة منهم للفداء أو الاستيهاب، فيكرهون أن يعرضوا النساء نهارا فيفتضحن أو في الظلمة فيخفى قدر ما يحسونه لأنفسهم من الصفي، فيوقدون النار لعرضهن2.

ونار القرى، هي من أعظم مفاخر العرب، وهي النار التي ترفع للسفر، ولمن يلتمس القرى، فكلما كان موضعها أرفع كان أفخر. وهي نار مذكورة على الحقيقة لا على المثل3. وعرفت عندهم بـ "نار الضيافة" وبـ "نار الأضياف" أيضًا. وقد ذكر أهل الأخبار إنهم ربما يوقدونها بـ "المندلى"، ليهتدي إليها العميان. فالمندلى خشب ذو رائحة طيبة، تفوح منه إذا أحرق، فتشم من مسافة بعيدة4. وذكر إنهم كانوا يوقدونها في ليالي الشتاء، خاصة لحاجة الناس إلى القرى في ذلك الوقت. وكلما كانت النار مرتفعة ضخمة، كانت أفخر لصاحبها. وقد أشير إليها في الشعر5.

ويطلق العرب على كل نار تراها العين لا حقيقة لها عند التماسها، نار الحباحب، ونار أبي الحباحب. وقد ذكر "الجاحظ" أنه لم يسمع في أبي حباحب شيئًا6. ولهم قصص عن شخص زعموا أنه كان يعرف بـ "أبي حباحب"، وان رجلا في سالف الدهر بخيلا لا توقد له نار بليل، مخافة أن يقتبس منها نار، أو يراها الضيفان فيفدون إليه، فإن أوقدها ثم أبصرها مستضئ أطفأها، فضربت العرب به المثل في البخل، فقالت: "أخلف من نار أبي حاجب". وذكر

1 صبح الأعشى "1/ 410"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، خزانة الأدب "3/ 212"، "نزهة الجليس "2/ 406".

2 صبح الأعشى "1/ 410"، بلوغ الأرب "1/ 161 وما بعدها"، خزانة الأدب "3/ 212"، نزهة الجليس "2/ 406".

3 الحيوان "5/ 134"، خزانة الأدب "3/ 212"، نزهة الجليس "2/ 406".

4 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".

5 بلوغ الأرب "2/ 161"، صبح الأعشى "1/ 410".

6 الحيوان "4/ 486 وما بعدها"، المخصص "11/ 28"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها".

ص: 276

أن "أبا الحباحب" رجل كان لا ينتفع بماله لبخله فنسبوا إليه كل نار لا ينتفع بها1.

ومن النيران الأخرى: نار البرق، ونار البراعة، ونار الخلعاء والهراب، ونار الوسم، وهي النار يسم بها الرجل منهم أبله. فيقال له: ما سمة إبلك؟ فيقول كذا2.

وقد ذكر علماء اللغة ان العرب استعملوا النار في معنيين: معنى حقيقي، ومعنى مجازي. وقصدوا بالنيران الحقيقة، النيران التي كان يوقدها العرب حقًّا، وحصروها في أربعة عشر نارًا أو أكثر من ذلك، أو أقل3. وقصدوا بالنيران المجازية، استعمال الكلمة في معان مجازية، مثل قولهم نار الحب ونار المعدة، ونار الحمى، ونار الشوق4.

1 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها".

2 الحيوان "4/ 486 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 410"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".

3 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، خزانة الادب، للبغدادي "3/ 212"، "بولاق"، نهاية الأرب "1/109 وما بعدها"، الحيوان "5/ 107 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406".

4 نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".

ص: 277

‌الصابئة:

ونجد في القرآن الكريم إشارة إلى الصابئين، وقد ذكروا بعد اليهود والنصارى في موضع من سورة البقرة1، وذكروا وسطا بين اليهود والنصارى في موضع من سورة المائدة وفي سورة الحج2. ويظهر أن معارف أهل الأخبار عنهم نزرة، فليس لديهم شيء مهم مفيد يفيدنا عن عقائد أولئك الصابئة وآرائهم.

وقد ربط أهل الأخبار بين هؤلاء الصابئة المذكورين في القرآن وبين صابئة حران وصابئة العراق، وجعلوها طائفتين في الأصل: طائفة هم صابئة حنفاء

1 البقرة، الآية 62.

2 المائدة، الآية 69، الحج، الآية 17، تفسير الطبري "2/ 144"، "دار المعارف"، مجمع البيان، الطبرسي "1/ 278"، الملل والنحل، للشهرستاني "2/ 98"، نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، للدمشقي "1/ 44""بطرسبورغ"، ابن خلدون "2/ 32""دار الكتاب اللبناني 1959م"، المسعودي، مروج "2/ 247"، الفهرست "332"، رسوم دار الخلافة "5".

ص: 277

وهم في نظرهم أصحاب إبراهيم ممن كان بحران وممن كان على دعوته، وصابئة مشركون وهم من فسدوا من الصابئة فأشركوا واعتقدوا بالكواكب1.

ولكن الذي يفهم من القرآن الكريم أن الصابئة جماعة كانت على دين خاص، وإنها طائفة مثل اليهود والنصارى، أي أن الكلمة مصطلح ولها مدلول معين مفهوم. فما ذهب إليه المفسرون من هذا الترعيف للصابئة ومن هذا التقسيم، إنما تكون عندهم في الإسلام، بعد وقوفهم على أحوال الصابئة واتصالهم بهم.

ويفهم من المواضع التي ورد فيها ذكرهم في القرآن الكريم، ومن ورود اسمهم مع اليهود والنصارى فيه، إنهم كانوا يعبدون إلها، ويتوجهون في دينهم إليه2.

ولا استبعد أن يكون من بين سكان مكة أناس كانوا من الصابئة، جاءوا إليها تجارا من العراق، أو جاء بهم الحظ إليها، حيث أوقعهم في سوق النخاسة، فاشتراهم تجار مكة وجاءوا بهم إلى مدينتهم، وعرفوا منهم أنهم صابئة.

ونحن إذا ما تتبعنا ما ورد عن لفظة صبأ وصابئ في الموارد الإسلامية نرى أن هذه الموارد تفسر ما ورد عن لفظة صبأ وصابئ في الموارد الإسلامية نرى أن هذه الموارد تفسير لفظة صبأ بمعنى خرج من شيء إلى شيء، وخرج من دين إلى دين غيره. وتذكر أن قريشًا كانت تسمي النبي صابئا، والصحابة الصباة3. أي الخارجين على دين قومهم. وهي تستعمل لفظة الصابئة في كثير من الأحوال في معنى حنفاء، كالذي نراه في ربطهم إبراهيم بهاتين الديانتين، وعدهم قدماء الصابئة في جملة الحنفاء، فإن هذا يدل على أن المراد من الصابئة بين العرب عند ظهور الإسلام هم المنشقون الخارجون على ديانة قومهم، أي على عبادة الأوثان والمنادين بالتوحيد. وأما ما نراه من إطلاق الصابئة على الصابئة المعروفين في الإسلام، فإنما حدث في الإسلام.

واطلاق قريش لفظة الصابئ والصباة على المسلمين بدلا من تسميتهم بمسلمين قضية مهمة جدا، يجب الاهتمام بها، وفي الأخبار أمثلة كثيرة على ذلك. فقد

1 التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون "1/ 887"، بلوغ الأرب "2/ 223 وما بعدها".

2 Dicttonary of IsIam

3 النهاية "2/ 369"، اللسان "1/ 102"، "وكانت العرب تسمي النبي صلى الله عليه وسلم الصابئ، لأنه خرج من دين قريش إلى الإسلام، ويسمون من يدخل في دين الإسلام مصبوا.. ويسمون المسلمين الصباة"، تاج العروس "1/ 306"، "طبعة الكويت"، القاموس المحيط "1/ 20".

ص: 278

ذكرت كتب الحديث والسير واللغة أن قريشًا دعت النبي صابئا، وفي جملة من دعاه بذلك عمر قبل إسلامه، ثم رمي عمر بها بعد إسلامه أيضًا. ولما أسلم أبو ذر الغفاري، انهال عليه أهل مكة بالضرب، لأنه صبأ وفتن وخرج عن دينهم. ولما أرادت زوج مطعم بن عدي خطبة ابنة أبي بكر إلى ابنها، ذكرت له أنها تخشى أن يؤثر على ولدها، فيكون من الصباة. وقد كانت لفظة الصباة والصباء بمعنى مسلمين عند المشركين، ففي معركة حنين نجد "دريد بن الصمة" يخاطب أحد رءوس القوم ويقول له في جملة ما قاله:"ثم ألق الصباء على متون الخيل"1. ولما أرسل بنو عامر لبيدا إلى النبي ليرى خبره وعلمه، أسلم، وأصابه وجع شديد من حمى، فرجع إلى قومه بسبب تلك الحمى، وجاءهم بذكر البعث والجنة والنار، فقال صرافة بن عوف بن الأحوص:

لعمر لبيد إنه لابن أمه

ولكن أبوه مسه قدم العهد

دفعناك في أرض الحجاز كأنما

دفعناك فحلا فوقه قرع اللبد

فعالجت حماه وداء ضلوعه

وترنيق عيش مسه طرف الجهد

وجئت بدين الصابئين تشوبه

بألواح نجد بعد عهدك من عهد

وإن لنا دارا زعمت ومرجعا

وثم إياب القارضين وذي البرد

فكان عمر يقول: "وايم الله إياب القارضين وذي البرد2". فقصد الشاعر بجملة "دين الصابئين" الإسلام، فالصابئون في نظر المشركين هم المسلمين.

ولما ذهب سعد بن معاذ إلى معركة، أنبه أبو جهل على قدومه إليها بعد أن دخل في دين الصابئين. ولما قدم خالد بن الوليد على بني جذيمة، نادوه بأنهم صبئوا، أي دخلوا في الإسلام3. ويلاحظ أن الوثنيين أطلقوا هذه التسمية على كل من أسلم، وعلى كل من شكوا فيه ورأوا أنه ميال إليهم، فكانوا يرمونه بهذه التهمة. أما المسلمون، فلم يرتاحوا إليها. والظاهر إنها كانت سبة بالنسبة إليهم في ذلك العهد، بدليل إنهم كانوا يكذبون من كان يطلقها من المشركين عليهم ويرد عليهم ردا شديدا، فلما نادى جميل بن معمر الجمحي في قريش:

1 الطبري "1/ 126"، "معركة حنين".

2 الأغاني "15/ 131 وما بعدها""خبر لبيد في مرثية أخيه".

3 لقد جمع "ولهوزن" أكثر المواضع التي أطلق الوثنيون فيها هذه اللفظة على المسلمين، راجع كتابة: Reste S 236

ص: 279

ألا، إن ابن الخطاب قد صبأ، وذلك حين دخل في الإسلام، وشهد بذلك أمام النبي، نادى عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت، وقالت قريش: صبأ عمر1. ولا بد أن يكون لتكذيب عمر وغيره الوثنيين لتسميتهم المسلمين بهذه التسمية من سبب. وهو سبب يشعر أن أهل مكة إنما أطلقوها عليهم إهانة لهم وازدراء لشأنهم وعلى سبيل السبة، لأنها كانت سبة عندهم وذلك قبل الإسلام. وإلا لما انزعج المسلمون منها، وردوا على قريش بسببها ردا قبيحا. وقد رأيت أن المسلمين كانوا يفتخرون باطلاق الحنيفية عليهم، وإنهم كانوا يرون أن الحنفاء هم سلف المسلمين، وأن إبراهيم كان حنيفا وكان أول المسلمين.

فالصابئون إذن هم أولئك الخارجون على عبادة قومهم المخالفون لهم في ديانتهم شأنهم في ذلك في نظر قريش شأن من يسميهم المسلمون في أيامنا بالملحدين أو الهدامين، أو أي مصطلح آخر يراد به الرمي بالخروج على مثل المجتمع القائم وتقاليده، وذلك ازدراء بهم، وتنفيرا للناس عنهم.

1 ابن الأثير "2/ 34 وما بعدها""ذكر إسلام عمر بن الخطاب".

ص: 280

‌الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح

‌مدخل

الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح

للعالم الخفي، وأقصد به عالم الأرواح وكل ما لا تراه العين ويدركه الحس من قوى طيبة أو خبيثة، أثر خطير في عقائد أهل الجاهلية، وفي عقائد الشعوب القديمة، وفي أنفس كثير من الناس حتى اليوم، إذ يشغل ذكل العالم في الواقع جزءًا خطيرًا من الدين ومن حياة الناس عامة. فهناك صلوات وشعائر وأدعية مكتوبة وغير مكتوبة تنلى وتقال وتقرأ للسيطرة على ذلك العالم، وللانتفاع منه، ولتسخيره في سبيل خير الإنسان ومصلحته، ولتجنب أذى النوع الخبيث منه. وإذا تتبعنا هذه الاعتقادات عند الجاهليين، وجدنا إنها قد كونت الجزء الأكبر من عقيدتهم وديانتهم، وإنها والذبائح من الأصول التي ارتكزت عليها ديانات العرب قبل الإسلام.

والواقع أن الاعتقاد بالأرواح يشغل حيزًا كبيرًا من فناء الدين عند الجاهليين، وإن بدا لنا إنه شيء لا علاقة له بالدين. فنحن حين البحث في موضوع العقيدة والدين عند أهل الجاهلية، لا نتحدث بالطبع عن العقيدة والدين بالنسبة إلى معتقداتنا وبالنسبة إلى تفكير الإنسان في القرن العشرين، وإنما نتحدث عن رأي أناس عاشوا قبل الإسلام، وعن جماعة أدركت العشرين، وإنما نتحدث عن رأي أناش عاشوا قبل الإسلام، وعن جماعة أدركت الإسلام، كانت الأرواح في نظرها أكثر أثرًا في حياة الفرد من أثر الآلهة فيه. فتقرب وتوسل إليها أكثر من تقربه وتوسله إلى آلهته التي كان يرى أن بيدها مفتاح سعادته وشقائه. وآية ذلك كثرة الكلمات والمصطلحات الجاهلية المتعلقة بها، وما ورد في القرآن الكريم وفي

ص: 281

الحديث النبوي والأخبار من أثر الجن في نفوس القوم، حتى تصوروهم آلهة وشركاء للأرباب في إدارة دفة هذا الكون.

هذا، ونحن إن ذكرنا الأرواح، فإننا لا نقصد المعنى المفهوم منها في رأينا، بل نقصد هذا المعنى وشيئًا آخر أعم وأوسع منه، معنى يشمل أيضًا بعض الأحجار والأشجار والآبار والكهوف وأمثال ذلك من أشياء تصور أهل الجاهلية إ، ما تكمن فيها قوة خارقة تستطيع التأثير في حياة الناس، فتقربوا إليها بالزيارات والقرابين وبالتضرع والتوسل والأدعية لقدسيتها ولتلك القدرة العجيبة التي فيها، فهي من حيث النفع أو الضرر كالأرواح: لوجود قوى خارقة غير منظورة فيها، هي من الأرواح، فتقرب إليها الإنسان لذلك، لغرض الاستفادة منها أو دفع أذاها.

وطبيعة الأرواح، طبيعة غير مرئية ولا منظورة، هي لطيفة خفية مستورة. إنما يجوز لبعضها الظهور في سورة أشباح، والتجسم على هيأة الأجساد. ثم إنها على طبيعتين: شريرة وخيرة، خبيثة وصالحة. من الطبيعة الأولى الشياطين وبعض أنواع الجن، ومن الطبيعة الثانية الملائكة والشطر الثاني من الجن. وأثر الخبيث من الأرواح أوضح وأكثر في عقلية أهل الجاهلية من أثر الفريق الصالح. وهو شيء منطقي مفهوم، فالإنسان إلى الشر أقرب منه إلى الخير، ذلك أن من طبع الخير عدم إلحاق الأذى بالغير، فلا يخشى منه. أما الشرير، ففي طبعه إلحاق الضرر والأذى بكل واحد، وفي كل لحظة يراها، لذلك التفتت إليه الأنظار حذار منه، وخشية من مكره، وتقربت وتوددت إليه، لا حبا له، ولا تقربا إليه لا، جدير به، بل إنما تملقا وتزلفا لإبعاد شره، وأمن جانبه على نمط ما يفعله الناس تجاه الأقوياء من الأشرار حيث يتقربون إليهم أو يبتعدون عنهم طمعا ورهبة، تمشية لأمور معاشهم، لا حبا لهم وإخلاصا لاستحقاقهم ذلك الحب والاخلاص.

وقد ذكر "الجاحظ" أن الأعراب تجعل الخوافي والمستجنات جنسين. يقولون جن وحن1. وقصد بـ "الخوافي" الأرواح، لأنها لا ترى. وذكر غيره أن "الحن"، حي من الجن، كانوا قبل آدم، يقال منهم الكلاب السود البهم، يقال كلب حتي، أو سفله الجن وضعفاؤهم أو كلابهم، "ومنه حديث

1 الحيوان "6/ 193".

ص: 282

ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، الكلاب من الحن، وهي ضعفة الجن، فإن كان عندكم طعام فألقوا لهن، فإن لهن أنفسا، أي تصيب بأعينها"1. وذكر أن "الحن" خلق بين الجن والإنس2.

وذكر "الجاحظ" أيضًا أن بعض الناس يقسم الجن على قسمين، فيقول: هم جن و"حن" ويجعل "الجن" أضعفها3. وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن "الحن"، هم كلاب الجن وسفلتهم، وشر أنواع الجن4. ويجعلون الجن فوق الجن5.

ويقال للجن الجان، و"الجِنة" كذلك. و"الجان" اسم جمع للجن على رأي بعض علماء اللغة6. وقد ورد في مقابل "الإنس" في القرآن الكريم، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} 7. وصيره اسم أبي الجن بعض العلماء، أي في مقابل آدم أبي البشر8. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن كلمة "الجن" من الكلمات المعربة، وذهب بعض آخر إلى إنها عربية9. وأرى إنها من الكلمات السامية القديمة، لأن الإيمان بالجن من العقائد القديمة المعروفة عند قدماء الساميين وعند غير الساميين كذلك. والجن قوم مستترون، وكلمة "جنون" من هذا الأصل، ومن معاني أصل الكلمة الاستتار.

ولم يتوصل الباحثون حتى الآن إلى رأي ثابت في أصل كلمة "الجن". فمنهم من رأى اسم صنم من أصنام العرب القديمة، ومنهم من رأى أنها من أصل

1 تاج العروس "9/ 185"، "حنن".

2 المصدر نفسه.

3 الحيوان "7/ 177"، "هارون""6/ 193".

4 بلوغ الأرب "2/ 351".

5 قال الأعشى سليم:

فما أنا من جن إذا كنت خائفا

ولست من النسناس في عنصر البشر

وقال آخر:

أبيت أهوى في شياطين ترن

مختلف نجواهم حن وجن

الحيوان "6/ 193".

6 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، روح المعاني "14/ 34 وما بعدها".

7 الرحمن، الآية 74.

8 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، "والجان: أبو الجن.. كما أن آدم أبو البشر"، اللسان "13/ 95 وما بعدها"، "جنن" Reste S 148

9 Ency.، I، P. 1045، Smith، P. 121، Lane، Laxicon، P. 492

ص: 283

أعجمي، ومنهم من وجد لها صلة بالحبشية1. أما علماء العربية، فرأوا أن معنى الكلمة الأصلي هو الاستتار، وأنها من الاجتنان، ولعدم إمكان رؤية ذلك العالم أطلقت عليه كلمة "الجن"2. وتقابل لفظة "الجن" و"جن" لفظة "Demonw" في الإنكليزية.

ويرى "نولدكه" أن فكرة "الجن" فكرة استوردها العرب من الخارج، بدليل قولهم أن الجنة من عمل الجن، ومن تلبس الجن بالإنسان. وهي في نظره عقيدة قديمة دخلت العرب من جيرانهم الشماليين، فقد كان الإيرانيون يطلقون على المجنون لفظة "ديوانه""Devana"، أي جان. ومن هذه الفكرة دخلت العهد الجديد من الكتاب المقدس. ويأتي "نولدكه" بدليل آخر على إثبات نظريته في أن فكرة الجن فكرة مستوردة من الخارج شيوع قصص بناء جن سليمان مدينة "تدمر" بين الجاهليين، وهو قصص ورد من قصة بناء "سليمان" لـ "تامار" في العهد القديم، وتفسير "تامار" بتدمر عند المفسرين العبرانيين3.

ورأى "روبرتسن سمث" وجوه شبه كبير بين فكرة العرب عن الجن وبين فكرة بعض القبائل البدائية عن الحيوانات. إن رأي الجاهليين في الجن في رأيه يشبه رأي المتوحشين الطوطميين في الحيوانات الوحشية. وفي القصص الذي يرويه البدائيون عن الحيوانات الوحشية وعن أرواحها وإمكان إحداثها الأمراض والأذى بالإنسان شبه بهذا القصص المروي عن الحيوانات الوحشية، مما جعله يتصور أن فكرة الجن عند الجاهليين هي تطور لهذه النظرية القديمة التي تكون عند الطوطميين. انتقلت إليهم من عقيدة سابقة تطورت من عهد عبادة الطوطم. وأن الجن "طوطمية" دون أن يكون لها قوم يشعرون بوجود صلة نسب وقربى بها4.

ولكن من الصعب تصور ظهور فكرة الجن عند عرب الجاهلية برمتها من

1 Ency. Religi، I، p. 669، Noldeke، Moallakat، I، 69، 78، Shorter Ency، p. 91. Ency، I، p. 1045.

2 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، اللسان "13/ 95 وما بعدها"، "جنن".

3 Ency. Religi، I، p. 670.

4 Robertson Smith، Marriage، p. 128.

ص: 284

الطوطمية، لأن هناك أمورا عديدة لا يمكن تفسيرها على وفق هذه النظرية. ولكننا نستطيع أن نقول إنها نوع من أنواع1 الـ"Animism". وقد وجدت عند العبرانيين في عهودهم القديمة، كما كانت عند البابليين وغيرهم.

وإذا سكن الجني مع الناس، قالوا: عامر، والجمع عمار، وإن كان ممن يعرض للصبيان، فهم أرواح، فإن خبث أحدهم وتعرم، فهو شيطان. فإن زاد على ذلك، فهو مارد. فإن زاد على ذلك في القوة، فهو عفريت. فإن طهر الجني ونظف ونقي وصار خيرًا كله فهو ملك. وهم في الجملة جن وخوافي2.

لقد لعب الإيمان بالجن عند بعض الجاهليين دورا فاق الدور الذي لعبته الآلهة في مخيلتهم، فنسبوا إليها أعمالا لم ينسبوها إلى الأرباب، وتقربوا إليها لاسترضائها أكثر من تقربهم إلى الآلهة. إنها عناصر مخيفة راعبة. تؤذي من يؤذيها ويلحق به الأذى والأمراض، ولذلك كان استرضاؤها لازما لأمن تلك الآفات. وهذه العقيدة جعلت الجن في الواقع آلهة، بل أكثر سلطة ونفوذا منها، وصيرت عمل الآلهة سهلا يسيرا تجاه الأعمال التي يقوم بها الجن. ولا زال أثر هذه العقيدة باقيا في نفوس الناس حتى الأيام، مع تقليل أهمية عمل الجن على الإنسان في الإسلام.

وليست هذه العقيدة عقيدة أهل الجاهلية حسب، بل هي عقيدة أكثر من اعتقد بأثر الأرواح في العالم وفي عمل الإنسان، إذ صيرتها آلهة مقرها الأرض، أو آلهة من الدرجة الثانية. والغريب أننا نرى بعض الشعوب تخصص أعمال الآلهة الكبيرة بناحية معينة، وتعتبرها آلهة رئيسية كبرى، بينما تجعل عمل الجن عملا واسعا يشمل كل الأرض والإنسان، أي أن عملها أوسع جدا من عمل تلك الألهة وأهم.

وفي القرآن الكريم أن قريشًا جعلت بين الله وبين الجنة نسبا: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} 3، وإنها جعلت الجن شركاء له:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 4. أي جعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم

1 المصدر نفسه.

2 الحيوان "6/ 190 وما بعدها".

3 الصافات، الآية "158.

4 الأنعام، الآية 100.

ص: 285

اياه، وخرقوا له بنين وبنات، وتخرصوا لله كذاب، فافتعلوا له بنين وبنات جهلا وكذابا1. وورد أن الله تزوج الجن، وأن الملائكة هم بناته من هذا الزواج. "قال كبار قريش: الملائكة بنات الله. فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: بنات سراة الجن"2.

ويفهم من القرآن الكريم أيضًا أن من العرب من كان يعبد الجن: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3. وذكر "ابن الكلبي" أن "بني مليح" من خزاعة رهط طلحة الطلحات، كانوا ممن تعبد الجن من الجاهليين4. ويزعمون أن الجن تتراءى لهم5. وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 6. وذكر أن قبائل من العرب عبدت الجن، أو صنفا من الملائكة يقال لهم الجن. ويقولون هم بنات الله7، فأنزل الله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 8.

وليس لدى المفسرين أو أهل الأخبار علم واضح عن كيفية اعتقاد بعض العرب بألوهية الجن وبمصاهرتها للآلهة أو الإله. وما ورد عن ذلك في القرآن، مجمل. والظاهر أن ذاكرة الإخباريين لم تتمكن من حفظ تفاصيل هذه العقيدة والعقائد المماثلة الأخرى، ولا بد وأن تكون لها أسطورة قديمة، يظهر أنها ماتت قبل الإسلام، أو أن المسلمين تركوا روايتها لمعارضتها للإسلام ولأنها كانت في نظرهم خرافة تتعلق بأصنام، فلم يروا الاهتمام بها، وتركوها، ولولا ورود ذكرها مقتضبا في القرآن، فلربما صرنا في جهل تام بأمر تلك العبادة.

ويرى "نولدكه" أن الجاهليين لم يتعبدوا للجن، ولم يتخذوها آلهة على نحو

1 تفسير الطبري "7/ 197".

2 لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي "2/ 81 وما بعدها"، حاشية على تفسير الجلالين.

3 سبأ، الآية 41.

4 الأصنام "34"، الاشتقاق "276".

5 تفسير القرطبي "14/ 309".

6 الأعراف، الآية "193.

7 تفسير الطبري "15/ 72".

8 الإسراء، الرقم "17،الآية 57.

ص: 286

ما نفهم من معنى الآلهة، وأن "عبد الجن"، وإن دل على التعبد للجن، إلا أن هذه التسمية لا تدل حتما على عبادة للجن1.

وتتألف الجن من عشائر وقبائل، تربط بينها رابطة القربى وصلة الرحم. وهي كعشائر وقبائل جزيرة العرب، تتقاتل فيما بينها، ويغزو بعضها بعضًا. ولها أسماء ذكر بعضًا منها أهل الأخبار، كما أن لها ملوكا وحكاما وسادات قبائل. فهي في حياتها تحيا على شكل نظام حياة الجاهليين. وإذا اعتدى معتد على جان انتقمت قبيلته كلها من المعتدي أو المعتدين. وبين قبائل الجن عصبية شديدة، كعصبية القبيلة عند الجاهليين، وهي تراعي حرمة الجوار، وتحفظ الذمم والعقود وتعقد الأحلاف. فنحن إذن أمام حياة جاهلية مستترة غير منظورة، هي حياة جن جاهليين، ومن الجن "بنو غزوان""بنو "غزوان"3.

وقد تتقاتل طوائف من الجن، فيثير قتالها عواصف الغبار، ولذلك فسر الجاهليون حدوث العواصف والزوابع بفعل الجن. ونجد هذه الفكرة فكرة إحداث الجن للرياح والعواصف في المزامير من أسفار التوراة4.

وهم مثل البشر، فيهم الحضر، أهل القرار، وفيهم المتنقلة وهم أعراب الجن، وفيهم من يسير بالنهار، وفيهم من يسير بالليل، وهم "سراة الجن"، و"السراة". قال الشاعر:

أتوا ناري فقلت منون قالوا

سراة الجن، قلت: عموا ظلاما5

وللجن كما للإنس ورؤساء وعظماء، نذكر منهم: الشنقناق والشيصبان. وقد ذكر الأول في شعر "بشار بن برد" وفي شعر لأبي النجم، وفي شعر حسن بن ثابت6. و"دحرش" أبو قبيلة من الجن7.

وعقد الجاهليون أحلافا مع الجن على التعاون والتعاضد، فقد ذكر أن قوما

1 Ency. ReIigI I، p. 670

2 اللسان "5/ 89"، "وبنو غزوان، حي من الجن"، "قرر".

3 تاج العروس "10/ 241"،"عزا".

4 المزمور104، الآية الرابعة Reste،S.151

5 تاج العروس "10/ 174"، "سرى".

6 الحيوان "1/ 308"، "6/ 228، 231"، ثمار القلوب "55".

7 تاج العروس "4/ 310"، "دحرش".

ص: 287

من العرب، كانوا قد تحالفوا مع قوم من الجن من "بني مالك بن أقيش"1.

ويذكر الرواة قصصًا عن الجن مع الإنسان. يذكرون أن "تأبط شرا" رفع كبشا تحت إبطه، وأخذه معه إلى الحي، فصار يبول عليه في الطريق، حتى إذا قرب من مكانه، ثقل عليه، فرمى به، فإذا هو الغول2. ويذكرون أن ابن امرأة من الجن أراد الحج في الجاهلية، فخافت عليه أمه من سفهاء قريش، ولكنه ألح عليها بأن تسمح له بالذهاب. فلما أكمل الطواف، وصار ببعض دور بني سهم، عرض له شاب منهم فقتله، فثارت غيرة شديدة بمكة، ومات من بني سهم خلق كثير قتلهم الجن انتقاما منهم لمقتل الجان، فنهضت بنو سهم وحلفاؤها ومواليها وعبيدها، فركبوا الجبال والشعاب بالثنية، فما تركوا حية ولا عقربا ولا عظاية ولا خنساء ولا شيئًا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه، حتى ضجع الجن، فصاح صائحهم من على أبي قبيس يطلب وساطة قريش بينهم وبين بني سهم الذين قتلوا منهم أضاف ما قتله الجن من بني سهم، قتوسطت قريش، وأنهي النزاع، وتغلب بنو سهم على الجن3.

والجن مثل البشر، يعتدون كذلك، ولا يردعهم من اعتدائهم إلا بالقوة. هذا رجل من "بني سهم" يقص علينا في الإسلام إنه كان بـ "تبالة" يراجع نخلا له، وبين يديه جارية له، فصرعت، فأدرك أن الجن هم الذين صرعوها، فوقف عليها قائلا: يا معشر الجن! أنا رجل من بني سهم، وقد علمتم ما كان بيننا وبينكم في الجاهلية من الحرب وما صرنا إليه من الصلح والعهد والميثاق أن لا يغدر بعضنا ببعض، ولا يعود إلى مكروه صاحبه، فإن وفيتم وفينا، وإن غدرتم عدنا إلى ما تعرفون. فخافت الجن من هذا التهديد، وأفاقت الجارية، ولم يصبها بعد ذلك مكروه4.

وذهب الجاهليون إلى جواز قتل الجن للإنسان. وقد بقي هذا الاعتقاد

1 الطبري "2/ 349"،"دار المعارف".

2 الأغاني "18/ 210 وما بعدها".

3 الأزرقي "2/ 11 وما بعدها"،"المطبعة الماجدية بمكة".

4 الأزرقي "2/ 12 وما بعدها".

ص: 288

في الإسلام. فلما قتل "سعد بن عبادة بن دليم"، زعم أن الجن قتلته1. ولما قتل المغني المعروف "الغريض"، وهو من الموالي، وكان نشأ خياطا ثم أخذ الغناء بمكة عن "ابن سريج"، زعم أن الجن نهته أن يغني لحنه الذي يقول فيه:

تشرب لون الرازقي بياضه

أو الزعفران خالط الملك رادعه

فلما لم ينته قتلته الجن في ذلك خنقا2.

وزعم أن الجن خنقت "حرب بن أمية"، وقالت الجن في ذلك شعرا3. وقتلت "مرداس بن أبي عامر"، أبا "عباس بن مرداس"، واستهوت "سنان بن حارثة"، ليستفحلوه، فمات فيهم. واستهووا "طالب بن أبي طالب"، فلم يعثر أهله له على أثر، واستهووا "عمرو بن عدي" اللخمي الملك، ثم ردوه على خاله "جذيمة بن الأبرش"، بعد سنين وسنين. واستهووا "عمار بن الوليد بن المغيرة"، ونفخوا في أحليه؛ فصار مع الوحش4.

ويروي أهل الأخبار أن الجن تتصادق مع الإنسان وتتباغض معه، وقد تقتله، ورووا في ذلك قصصًا، وذكروا أنها قد تتألم لوفاة رجل طيب أو شهير محبوب. وقد تعطف على المحتاجين والمعوزين. وفي جملة ما قالوه عن الجن أن "أبا هالة" كان قد خرج في الجاهلية في عير لقريش يريد الشام، فنزل واديا يقال له:"عز"، وانتبه آخر الليل فإذا شيخ قائم على صخرة، وهو ينشد شعرا في رثاء عبد الله بن جدعان، وكان ذلك الشيخ جان من الجن. وقد ذكر أهل الأخبار محاورة من الشعر قالوا إنها جرت بين "أبي هالة"، وبين ذلك الشيخ

1 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 373"، المعارف 112، الحيوان "6/ 209"، الاشتقاق"456". وسمعوا الهاتف يقول:

قد قتلنا سيد الخزر

ج سعد بن عبادة

ورميناه بسهمين

فلم نخط فؤاده

الحيوان "6/ 209"، "هارون"، "1/ 308".

2 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 373"، الأغاني "2/ 136، 143"، الحيوان "6/ 208""، "هارون" الحيوان "1/ 307".

3 الحيوان "1/ 302"، "هارون". وقالت الجن:

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

الحيوان "6/ 207"، "هارون".

4 الحيوان "6/ 209 وما بعدها"، "هارون"

ص: 289

الجني الذي عين وقت وفاة "عبد الله بن جدعان"، وثبته بالضبط، فكان كما قال1.

وقد يقع الحب بين الجن والإنس. فقد ذكر أن الجنية قد تتبع الرجل تحبه، ويقال لها: تابعة. ومن ذلك قولهم: معه تابعة، أي من الجنن والتابعة جنية تتبع الإنسان. كما يكون للمرأة تابع من الجن، يتبع المرأة يحبها2. وقد يعشق الجني امرأة ويتصادق معها. هذا "منظور" الجني، عشق امرأة اسمها "حبة"، وتصادق معها، فكانت "حبة" تتطبب بما يعلمها منظور3.

وقد يسرق الجن الأطفال والرجال والنساء، وللأخباريين قصص يروونه في ذلك. وينسب فقدان الأشخاص في البوادي إلى الجن في الغالب. غير إنها قد تنفع الناس أيضًا، لأن من الجن من هو طيب النفس، مفيد نافع، ولا سيما إذا ما تقرب إليها الإنسان وأحسن إليها. رأى الشاعر عبيد بن الأبرص حية، فسقاها. فلما ضل جمل له وتاه، نادى هاتف بصوت مسموع سمعه عبيد بن الأبرص مشيرا إلى الموضع الذي ذهب الجمل إليه. فذهب عبيد إلى المكان، وجاء بمجملة4. وكان هذا لهاتف هو صوت الحية التي هي جان من الجن.

وقد يتصاهر الإنسان مع الجن، فقد كان لعمرو بن يربوع بن حنظلة التميمي زوج من الجن: ولكنها لم تبق معه، بل اختفت بعد ذلك عند ظهور البرق5. ونسبت بعض الأسر والقبائل مثل "بني مالك"، و"بني شيصيان"، و"بني يربوع بن حنظلة" وعرفوا ببي السعلاة إلى الجن6. ونسب بعض الإخباريين نسب بلقيس وذي القرنين إلى الجن7. وذكر أيضًا أن زوج "عمرو بن يربوع التميمي" كانت سعلاة، أقامت مع زوجها في "بني تميم": فلما رأت برقا يلمع من شق بلاد السعالي، حنت وطارت إليهم، فقال شاعرهم:

1 الاشتقاق "ص88 وما بعدها".

2 اللسان "8/ 29"، تبع".

3 تاج العروس "1/ 198"، "حب".

4 الأساطير العربية "79"، Reste، 154 ff.

5 الحماسة "1/ 561"، "طبعة فرايتاغ"، بلوغ الأرب "2/ 340"، الحيوان "1/ 185 وما بعدها، 188"، "هارون". Reste، S 154.

6 الأساطير العربية "75".

7 بلوغ الأرب "2/ 349"، الحيوان "1/ 180 وما بعدها".

ص: 290

رأى برقا فأوضع فوق بكر

فلا بك ما أسأل وما أغاما1

وفي ذلك قال "علباء بن أرقم":

يا قاتل الله بني السعلاة

عمرو بن يربوع شرار النات2

وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع زواج الإنس بالجن وبالعكس، أي زواج الجن بالإنس. وتعرض لقول من قال إن "بلقيس" كانت من امرأة جنية. وذكر آراء الناس في هذا الزواج المختلط، الذي شك في إمكان انجاب نسل منه. وقال:"وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية والقحطانية، ونقرؤه في كتب السيرة، قص به القصاص، وسمروا به عند الملوك"3. وقد كان لأهل اليمن قصص وأساطير، بدليل ما نلاحظه من أن معظم رواة القصص القديم كانوا من أهل اليمن في صدر الإسلام. ويظهر أنهم حذقوا به وتفوقوا به على بقية العرب الذين نسميهم العدنانيين بسبب دخول كثير منهم في اليهودية وفي النصرانية وشرائهم الكتب، وفيها قصص من قصص أهل الكتاب والأساطير القديمة، فمزوجوه مع ما كان لهم من قصص وثني قديم.

وقد أطلق "الجاحظ" على قول الناس بزواج الإنس بالجن وبالعكس "الزواج المركب"، وأشار إلى قول الشاعر علباء بن أرقم:

يا قاتل الله بني السعلاة

عمرا وقابوسا شرار النات

إنه الدليل على أن السعلاة تلد الناس. هذا سوى ما قالوا في الشق وواق واق ودوال باي وفي الناس والنسناس4.

وذكر أيضًا أن أعراب بني مرة تزعم أن الجن استهوت سنانا بي أبي حارثة المري، وهو والد هرم بن سنان، لتستفحله إذ كان منجبًا، وكان سنان قد

1 الحيوان "1/ 186"، "هارون"، "6/ 197".

2 الحيوان "6/ 161"، اللسان "2/ 407"، نوادر أبي زيد "104، 147"، المخصص "3/ 26""13/ 283"، الأمالي، للقالي "2/ 68"، محاضرات الراغب "2/ 281"، الخصائص "451"، الفصول والغايات "210".

3 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 371".

4 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 374"، الحيوان "1/ 189". "هارون".

ص: 291

هام على وجهه1.

وقد وجه الإنسان جميع مواهبه منذ أقدم أيامه لتسخير عالم الأرواح، وجعله في خدمته وتحت تصرفه، أو لتحويله بحسب رغباته، وتجنب ضرره وأذاه. قام بذلك رجال الدين خاصة، ورجال الدين بحكم اتصالهم بالآلهة وبالعالم غير المنظور، هم خلفاء الآلهة على وجه الأرض، وألسنة الأرواح الناطقة بين الناس. فكانوا حكاما ورجال دين وسحرة وأطباء وعلماء، كما قام بذلك المنجمون والسحرة والكهان وغيرهم ممن تكهن وتحدث عن الغيب، وأظهر أن في قدرته التأثير على حياة الإنسان ونفعه وضره بالاستعانة بعالم الأرواح وبما عنده من قدرات خارقة في إمكانها اختراق حجب الأسرار والتحكم في العالم الخفي لتحويله إلى صالح إنسان إلى إلى الاضرار به.

وليس الجاهليون بدعا في هذه الأمور، بل كان غيرهم من الشعوب كالعبرانيين والبابليين والأغريق والرومان والمصريين والهنود وكل الشعوب الأخرى تعتقد بذلك. ولها رجال ادعوا العلم.

وقد كان الجاهليون يعلقون الحلي والجلاجل على "اللديغ"، يفعلون ذلك لاعتقادهم إنه يفيق بذلك، فلا تنام، ولو نام، سرى السم في جسمه، فمات. وذهب بعضهم إلى أن تعليق الحلي على اللديغ يبرئه من أمله. أما إذا علق الرصاص عليه، أو حلي به، فإنه يموت2.

وتقوم الجن بأعمالها بشكل غير منظور في الغالب، لأنها أرواح. وهي قد تحذر الإنسان أو ترشده إلى شيء يريده بصوت جمهوري مسموع، يقال له: الهاتف، دون أن يرى الشخص أو الأشخاص صاحب ذلك الصوت. وهي تنبئ عن المستقبل كما تتحدث عن الماضي3. وقد ذكر "الجاحظ" أن "الأعراب وأشباه الأعراب لا يتحاشون عن الإيمان بالهاتف، بلد يتعجبون ممن رد ذلك". ثم قال: "قالو: ولنقل الجن الأخبار علم الناس بوفاة الملوك، والأمور المهمة، كما تسامعوا بموت المنصور بالبصرة وفي اليوم الذي توفي فيه بقرب مكة. وهذا الباب أيضًا كثير"4.

1 المصدر نفسه "ص375"، الحيوان "7/ 24"، الميداني "1/ 202".

2 بلوغ الأرب "2/ 304".

3 الحيوان "6/ 202".

4 الحيوان "6/ 202 وما بعدها".

ص: 292

والجن وإن كانت من الأرواح، أي أنها غير منظورة، إلا أن في استطاعتها أن تتجسم متى شاءت. فتظهر على هيئة جسم من الأجسام. إذ أن للجن قدرة على التشكل بالشكل الذي تريده، تظهر في صورة حيوان أو في صورة إنسان أو غير ذلك. ومن هنا نجد قصص مصاهرة الإنسان للجن، وظهور نسل وأسر من هذا الزواج. وفي استطاعتها أيضًا تغيير الشكل الذي ظهرت به بشكل آخر حيث تشاء1. كما ورد ذلك في قصة الشاعر "تأبط شرا" والكبش الذي حمله، بينما هو جني. ومن هنا تختلف طبيعتها عن طبيعة البشر والحيوان.

وقد تتمثل الجن في صور حيوانات مشعرة، أي ذات شعر كثيف. فالجن عند الشعوب السامية ذات شعر كثيف، لذلك قيل لها "سعريم""Sa،hirim" في العبرانية. وهي تختار الأماكن الموحشة المقفرة في الظلام، مثل رهبان الليل "ليليت" LiIith"، وتذهب مع الحيوانات التي تنفر من الإنسان مثل النعامة2.

وفي الأساطير الجاهلية أن البقر إذا أوردت "فلم ترد، ضربوا الثور ليقتحم الماء، فتقتحم البقر بعده، ويقولون إن الجن تصد البقر عن الماء، وأن الشيطان يركب قرني الثور"3. وقد ذكرت هذه الأسطورة في أشعار جاهلية، يظهر من نقدها ودراستها إنها من آثار العقائد الجاهلية في الجن. وقد اتخذت مثلا لمن ينزل عليه يركب قرني الثور، هو الذي جعلهم يتصورون أن الثور يتقدم البقر في شرب الماء، ذلك لأن الشيطان ركب قرنيه، فلا يخشى الثور إذن من الجن، والشيطان أخبث أنواع الجن وأذكاها. فتخافه الجن، وتفسخ المجال للبقر في ورود الماء. أما ضرب الثور لتوجيهه إلى الماء، فلأجل أن الشيطان ركب قرنيه، فبضربه وبتقدمه الشيطان نحو الماء فتخافه الجن وتفزع منه، وتسمح للبقر بورود الماء، ولهذا ضرب، ليستفيد بذلك غيره4.

1 Robertson Smith، Lectures on the Religion of the Semite، p. 120.

2 Robertson، p. 120، B.C. Thompson، Semitic Magic، London، 19089، p. 57.

3 قال الأعشى:

لكالثور والجني يضرب وجهه

وما ذنبه إن عافت الماء باقر

ولغيره:

إني وقتلى سليكا حين أعقله

كالثور يضرب لما عافت البقر

4 بلوغ الأرب "2/ 303 وما بعدها".

ص: 293

وأهم مواطن الجن في نظر الجاهليين، هي المواضع الموحشة، والأماكن المقفرة التي لا تطرق إلا نادرا والمحلات التي لا تلائم الصحة، والمقابر والأماكن المظلمة والمهجورة. ففي مثل هذه المواطن تنزل الجن، وتفضل الإقامة بها، وسبب ذلك، هو أن الإنسان يخشى هذه المواضع، ويحس بشيء من الخوف والوحشة من الدخول إليها، فقد يتعرض فيها إلى التهلكة، فأوحى هذا الأحساس إليه أنها "مسكونة"، وأن سكانها هم الجن. وأنهم قد يتعرضون له بسوء إن لم يعرف كيف يسلك سلوكان طيبا معها، ولذلك صار يتحاشى ولوج هذه المواضع، لا سيما في الليالي المظلمة، وإذا دخلها مضطرا، تخيل الأشباح والأرواح وهي تلعب به كيف تشاء، وتحوم حوله. ومن هنا ظهر عنده القصص المروي عن مواطن الجن.

وسكنت الجن المواضع المظلمة والفجوات العميقة فيها وباطن الأرض، ولذلك قيل لها: ساكنوا الأرض. كما سكنت المقابر1. والمقابر هي من المواضع الرئيسية المهمة المأهولة بالجن. ولذلك يخشى كثير من الناس ارتيادها ليلا. وهي لا بد أن تكون على هذه الصفة، فهي مواطن الموتى، وأرواح الموتى تطوف على القبور، والموت نفسه شيء مخيف، والجن أنفسها أرواح مخيفة، فهل يوجد موضع أنسب من هذا الوضع لسكن الجن؟

وتزعم الأعراب أن الجن سكنت "وبار". وحمتها من كل من أرادها؛ وهي بلاد من أخصب بلاد العرب، وأكثرها شجرا، وأطيبها ثمرا، وأكثرها حبا وعنبا. فإن دنا إنسان من تلك البلاد، متعمدا أو غالطا، حثوا في وجهه التراب، فإن أبى الرجوع خبلوه، وربما قتلوه. فليس في تلك البلاد إلا الجن، والإبل الحوشية2.

وقد زعم أن "يبرين" من مواطن الجن. وكانت في الأصل مواضع عاد. فلما هلكت، سكنتها قبائل الجن. وقد روى أهل الأخبار قصصًا عنها وعن اتصالها بالإنسان. وزعم بعض منهم أن "النسناس"، هم قوم من الجن3.

1 Reste S 151

2 الحيوان "6/ 215 وما بعدها".

3 تاج العروس "4/ 257"، "نس".

ص: 294

وقد ورد مثل هذه الأقوال عن مواضع أخرى كانت عامرة آهلة، ثم أقفرت، مثل الحجر موضع ديار ثمود1، مما يدل على أن من اعتقادات العرب قبل الإسلام هو أن المواضع التي تصيبها الكوارث تكون بعد هلال أصحابها مواطن للجن. ونجد مثل هذه الأساطير عند العبرانيين وعند غيرهم من الشعوب2.

وأشير في شعر "لبيد" إلى "جن البدي". قيل: "والبدي: البادية، أو موضع بعينه" وقيل واد لبني عامر3. وأشار "النابعة" إلى "جنة البقار". وذكر أن البقار واد، أو رملة، أو جبل، سكنته الجن، فنسبت إليه4. وأشير إلى "جنة عبقر" في شعر "زهير" و"لبيد" و"حاتم"5. وعبقر أرض بالبادية كثيرة الجن، وذكر بعضهم إنها باليمن6، قال لبيد:

ومن فاد من إخوانهم وبنيهم

كهول وشبان كجنة عبقر

وقال بعض العلماء: عبقر قرية الجن فيما زعموا، فكلما رأوا شيئًا فانقا غريبا مما يصعب عمله ويدق أو شيئًا عظيمًا في نفسه نسبوه إليها. ولهذا قالوا: العبقري للسيد الكامل من كل شيء، وللذكي الممتاز7.

والمواضع المذكورة هي المواضع المفضلة المختارة لسكنى الجن. غير أن مواطن الجن غير محدودة ولا معينة، إنها تسكن كل موضع ومكان، حتى بيوت الناس لا تخلو منها، بل حتى البحار والسماء لا تخلو منها كذلك، فدولتها إذن على هذا الوصف أوسع من دولة الإنسان. وعلى من سكنت الجن بيته ألا يمسها بأذى ولا يلحق بها أي سوء، وأن يقوم بترضيتها بالبخور وبما شاكل ذلك مما تحبه الجن، وإلا أساءت إليه، وجعلت بيته مؤذيا شؤما، لا يرى من يسكن فيه أي خير.

1 Reste، S. 150

2 Robertson، p. 120

3 الحيوان "6/ 189"، "هارون".

4 الحيوان "6/ 189"، اللسان "6/ 47"، "12/ 330".

5 الحيوان "6/ 189"، اللسان "6/ 209"، البلدان "6/ 113"، ثمار القلوب "188".

6 تاج العروس "3/ 379"، "عبقر"، اللسان "4/ 53

7 تاج العروس "/ 379"، "عبقر".

ص: 295

وكان الرجل في الجاهلية إذا اطرف دارا ذبح فيها ذبيحة، يتقي بها أذى الجن، لاعتقادهم أن في كل دار جنا يقيمون بها فلترضيتهم وللتقرب إليهم، يذبحون ذبيحة عرفت عندهم بـ "ذبائن الجن"1. ولا تزال عادة الناس ذبح ذبيحة عند الابتداء ببناء دار، وعند الانتقال إليها. وكانوا أيضًا يذبحون ذبيحة عند استخراجهم عينا، أو شرائهم دارا، أو بنياتهم بنيانا، مخافة أن تصيبهم الجن، فأضيفت الذبائح إليهم لذلك. وقد نهى النبي عن ذبائح الجن2.

وكان في اعتقادهم أن الأماكن المذكورة مليئة بالجن، لذلك كانوا يستجيرون برجال من الجن في أسفارهم، إذا نزلوا منازلهم، يقولون: نعوذ بأعز أهل هذا المكان، أو إني أعوذ بكبير هذا الوادي. وإلى ذلك أشير في القرآ الكريم:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 3. روي عن "حجاج بن علاط السلمي"، "إنه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخوف موحش، فقال له الركب: قم خذ لنفسك أمانا ولأصحابك، فجعل يطوف بالركب ويقول:

أعيذ نفسي وأعيذ صحبي

من كل جني بهذا النقب

حتى أأوب سالما وركبي4

فوصل وركبه سالما إلى مكة دون أن يمسه أو أن يمس من كان معه من الركب أحد بسوء5.

وروي أن الرجل منهم كان إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل عمد إلى واد ذي شجر فأناخ راحلته في قرارته وهي القاع المستديرة وعقلها وخط عليها خطا ثم قال: "أعوذ بصاحب هذا الوادي. وربما قال بعظيم هذا الوادي"6. قال أحدهم:

1 اللسان "13/ 213"، "سكن".

2 اللسان "2/ 437"، "ذبح".

3 سورة الجن، رقم 72، الآية 6، تفسير الطبري "29/ 67 وما بعدها".

4 الروض الأنف "1/ 136".

5 الروض الأنف "1/ 136"، الإصابة "1/ 312"، "1622".

6 بلوغ الأرب "2/ 325".

ص: 296

قد بت ضيفا لعظيم الوادي

المانعي من سطوة الأعادي

راحلتي في جاره وزادي

وقالوا إنهم كانوا في الجاهلية إذا نزلوا منزلا يقولون: نعوذ بأعز أهل هذا المكان. يقولون ذلك عند نزولهم واديا في الغالب إذ نجد الرواة يكررون عبارة: "كانوا إذا نزلوا الوادي، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي"، أو "بعزيز هذا الوادي"2. ويظهر أنهم تخوفوا من الوديان خاصة، لما قد يقع فيها من مهالك، فنسبوا ذلك إلى فعل الجن.

وقال آخر يستجير بجن "عالج" ويتوسل إليهم ألا يرهقوه بغوي هائج، إذ يقول:

يا جن أجزاء اللوى من عالج

عاذ بكم ساري الظلام الدالج

لا ترهقوه بغوي هائج

وقال آخر:

أعوذ من شر البلاد البيد

بسيد معظم مجيد

أصبح يأوي بلوى زرود

ذي عزة وكاهل شديد

وقد استعاذ رجل منهم ومعه ولد، فأكله الأسد فقال:

قد استعذنا بعظيم الوادي

من شر ما فيه من الأعادي

فلم يجرنا من هزبر عادي3

وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يرون أن الجن تعزف في المفاوز بالليل. والعزف والعزيف صوت الجن، وهو جرس يسمع بالمفاوز. وهو صوت يسمع بالليل كالطبل. وروي عن "ابن عباس" قوله:"كانت الجن تعزف بالليل كله بين الصفا والمروة"4. وقد اشتهر موضع "العزاف"، وقيل "ابرق

1 بلوغ الأرب "2/ 326".

2 تفسير الطبري "29/ 68 وما بعدها".

3 بلوغ الأرب "2/ 326".

4 تاج العروس "6/ 197"، "عزف".

ص: 297

العزاف" بأنه موضع يسمع به عزيف الجن1.

وقد مون القصص الإسرائيلي أهل الجاهلية بشيء مما كان ينقصهم من أساطير الجن، وتوسع وزاد هذا القصص في الإسلام، حتى تولد منه هذا الذي نجده مدونا عن أخبار الجن في المؤلفات الإسلامية.

وتخبر الجن الإنسان تقع في مواضع بعيدة، وهو لا يعلم عنها شيئًا. فلما "هبط نباش بن زرارة بن وقدان"، زوج "خدييجة بنت خويلد" قبل النبي، واديا يقال له "عز"، انتبه في آخر الليل، فإذا شيخ قائم على صخرة، وهو يقول:

ألا هلك السيال غيث بني فهر

وذو العز والباع القديم وذو الفخر

فقال له نباش:

ألا أيها الناعي أخا الجود والفخر

من المرء تنعاه لها من بني فهر

وبقيا يقولان الأبيات، حتى أخبره الشيخ بوفاة "عبد الله بن جدعان" في وقت حدده وضبطه له. فلما وصل مكة، علم بوفاته على نحو ما أخبره به ذلك الشيخ. وهو جني من الجن، ينظم الشعر، وقد رثى "ابن جدعان"2.

ونجد في شعر الشعراء الجاهليين أمثال "أمية بي أبي الصلت" و"الأعشى" إشارات إلى الجن. وهم من أهل الجاهلية الذين كان لهم اتصال بأهل الكتاب وبكتبهم، وقد زعم أن بعضًا منهم كان قد قرأ تلك الكتب ووقف على العبرانية أو السريانية. ولهذا ورد في شعرهم شيء من قصص أهل الكتاب. وفي جملته ما ذكرته من إشاراتهم إلى الجن. وتراهم يربطون بينها وبين "سليمان". أخذوا ذلك ولا شك من الأساطير العبرانية، التي صيرت الجن في خدمة "سليمان".

نجد الأعشى يقول:

وسخر من جن الملائك تسعة

قياما لديه يعملون محاربا

1 تاج العروس "6/ 197، 287"، "برق".

2 الاشتقاق "88 وما بعدها".

ص: 298

قصد بذلك "سليمان"1. ونجد أن في جملة ما نسب عمله إلى جن سليمان بعض المواضع مثل تدمر وقصر غمدان.

وقال النابغة الذبياني:

إلا سليمان إذ قال الإله له

قم في البرية فاحددها عن الفند

وخيس الجن إني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصفاح والعمد

فمن عصاك فاقبه معاقبة

تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد2

وفي هذا الشعر إن صح أنه من نظم النابغة حقًّا، دلالة على تأثر الشاعر بالأسطورة اليهودية عن "تامار"، وعن جن سليما.

ونسبوا السيوف المأثورة إلى جن وشياطين "سليمان". ونسبوا إليه وإليهم أشياء عديدة أخرى3.

وقد ادعى إناس من الجاهليين إنهم كانوا يرون الغيلان والجن، ويسمعون عزيف الجان، أي صوت الجن. وقد بالغ الأعراب في ذلك، وأغربوا في قصص الجان، لما كانوا يتوهمونه من ظهور الأشباح لهم في تجوالهم بالفيافي المقفرة الخالية، فتصوروه جنا وغولا وسعالى، وبالغوا في ذلك أيضًا، لما وجدوه في أهل الحضر ولا سيما في الإسلام من ميل إلى سماع قصص الجان والسعالى والغول4. وقالوا إنهم ربما نزلوا بجمع كثير، ورأوا خياما، وقبابا، وناسا، ثم إذا بهم يفقدونهم من ساعتهم، وذلك لأنهم من الجن5.

ونسبوا إلى الجن إحداث كثير من الأمور غير الطبيعية، مثل الأمراض والأوبئة والصرع والاستهواء والجنون خاصة. فالجنون هو تلبس الجن بالإنسان ودخولهم جسمه. لذلك ربطوا بين الجن والجنون. ويرى "نولدكه" أن فكرة أن الجنو من عمل الجن، عقيدة قديمة وجدت عند غير العرب كذلك. فقد كان الإيرانيون

1 تاج العروس "9/ 165"، "جن".

وسخر من جن الملائك تسعة

قياما لديه يعملون بلا أجر

اللسان "13/ 97"، "جنن".

2 الحيوان "6/ 223".

3 الحيوان "6/ 178".

4 الحيوان "6/ 172" وما بعدها، 182".

5 الحيوان "6/ 200"، "هارون".

ص: 299

يطلقون على المجنو لفظة "ديوانه""Devana"، أي الذي به "ديو""Dev" من الأصل "ديوه""Daiva"، ومعناها "Demon" أي جان. ومن هذه الفكرة دخلت في العهد الجيد من الكتاب المقدس. ومن الفارسية دخلت "ديوان" Daiwan" في الإرمية بينما دخلت إلى الفارسية كلمة "شدها" Shedha" من أصل "شدهان""Shedhan" الإرمي واستعملت في مقابل "Deo" أي جان و"شيده""Shedh" في الإرمية الجان1.

وهم يزعمون أن الجن إذا عشقت إنسانا صرعته، ويكون ذلك على طريق العشق والهوى، وشهوة النكاح. وأن الشيطان يعشق المرأ’، وأن نصرته إليها من طريق العجب بها أشد عليها من حمى أيام، وأن عين الجان أشد من عين الإنسان2.

والعرب تزعم أن الطاعون من الجن، ويسمون الطاعون رماح الجن. قال الأسدي للحارث الملك الغساني:

لعمرك ما خشيت على أبي

رماح بني مقيدة الحمار

ولكني خشيت على أبي

رماح الجن أو إياك حار3

وللجن حوار مع الإنس وكلام نجده منثورا كما نجده منظوما في شعر ينسب إلى الشعراء الجاهليين. ويروي الإخباريون شعرا ينسبونه إلى "جذع بن سنان" ورد فيه وصف ملاقاته للجن ومحاورته معها ودعوته إياها إلى الطعام وامتاعها عن الأكل، كما رووا شعرا لغيره يصف ملاقاة بين الجن وبين أصحاب هذا الشعر4. وهو قصص لم يبخل على الجن فأعطاها شعرا من هذا الشعر الجاهلي الفصيح! وقد سخر "الخيتعور" أحد "بني الشيصبان" من الجن من الأشعار التي جمعها "المرزباني" "المتوفى سنة 384هـ"، من شعر الشعراء الجن، فما هذا الذي جمعه إلا قطعه من شعرهم، وهل يعرف البشر من النظم كما يعرف الجن.

1 Ency. ReIig، I، p. 670

2 الحيوان "6/ 217 وما بعدها".

3 الحيوان "6/ 219".

4 بلوغ الأرب "2/ 350 وما بعدها".

ص: 300

وإنما للبشر خمسة عشر جنسا من الموزون، قل ما يعدوها القائلون، وإن للجن آلاف الأوزان ما سمع بها الإنس1.

1 رسالة الغفران "291"، "بنت الشاطئ".

ص: 301

‌طعام الجن:

وطعام الجن مثل طعام الإنسان، هم يشاركونه أكله في بعض الأحيان. "رووا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنه سأل المفقود الذي استهوته الجن: ما كان طعامهم؟ قال: الفول. قال: فما كان شرابهم؟ قال: الجدف. رووا أن طعامهم الرمة وما لم يذكر اسم الله عليه"1. وقد جاء قوم من الجن إلى نار "شمر بن الحارث الضبي"، فدعاهم إلى الطعام بقوله:

أتوا ناري فقلت منون قالوا

سراة الجن قلت عموا ظلاما

فقلت إلى الطعام فقال منهم

زعيم نحسد الإنس الطعاما2

والحوشي من الإبل هي التي قد ضربت فيها فحول إبل الجن. فالحوشية من نسل إبل الجن3. ويقال إنها منسوبة إلى "الحوش" بلاد الجن من وراء رمل يبرين، لا يمر بها أحد من الناس، وقيل هم من بلاد الجن. وقيل الحوشية إبل الجن، أو منسوبة إلى الحوش وهي فحول جن، تزعم العرب إنها ضربت في نعم "بني مهرة بن حيدان" فنتجت النجائب المهرية من تلك الفحول الوحشية، فنسبت إليها، فهي لا يكاد يدركها التعب4.

1 الحيوان "6/ 210 وما بعدها".

2 الحيوان "6/ 197".

3 الحيوان "6/ 216".

4 الحيوان "4/ 302"، "حاش".

ص: 301

‌الحية:

والحية، من أكثر الحيوانات ورودا في القصص الذي يرويه الإخباريون عن الجن. وقد جعلوها فصيلة مهمة من فصائلها، ونوعا بارزا من أنواعها. قال

ص: 301

بعض العلماء: الجان، حية بيضاء، وقال بعض آخر: الجان حية، أو ضرب من الحيات1. ولما قام "حرب بن أمية" جد معاوية بن أبي سفيان مع "مرداس بن أبي عمرو" باصلاح "القرية"، وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام، فأضرما النار في الغيضة، فلما استطارت وعلا لهيبها سمع من الغيضة أنين وضجيج كبير، ثم ظهرت منها حيات بيض تطير حتى قطعتها وخرجت منها، فما لبث أن مات الرجلان، أماتهما الجن على ما يزعمه رواة هذا الخبر2. ولعلهما ماتا بعضة حية من تلك الحيات التي كانت ساكنة بين تلك الحيات والحشرات، فابتدعت مخيلة القصاصين هذه القصة عن فزع الجن وطيرانها في صورة ثعابين بيض. ويعلل "نولدكه" وفاتهما بفعل الاختناق من الغاز الذي تصاعد من الاحتراق3.

وذكروا أن الحية لا تموت حتف أنفها، وإنما تموت بعرض يعرض لها. وإنها تصبر على الجوع حتى ضرب بها المثل في ذلك. وإنها إذا هرمت صغرت في بدنها. ولم تشته الطعام4. وإنها تنطق وتسمع. وقد أورد أهل الأخبار شعرا في ذلك، ذكروا أنه للنابغة. ومذهب النابغة في الحيات مذهب أمية بن أبي الصلت، وعدي بن زيد وغيرهما من الشعراء5، الذين تأثروا برأي أهل الكتاب فيما جاء عن الحية في العهدين وفي كتب الشروح والتفاسير والقصص الإسرائيلي القديم.

ولم تنفرد مخيلة الجاهليين وحدها باختراع إسطورة أن الحيات هي من الجن، وإنها جنس منها، فإن غير العرب من الساميين مثل العبرانيين كانوا يقولون أيضًا بهذا القول. وكذلك قال بهذه الأسطورة غير الساميين، مما يدل على إنه من الأساطير القديمة جدا التي انتشرت عند البشر، بسبب ما قاسوه في أيام بداوتهم من هذا الحيوان6. ونجد قصة الحية في سفر التكوين. وهي في هذا السفر أشد

1 تاج العروس "9/ 165"، "جن".

2 الحيوان "2/ 143"، "حاشية"Robertson، p. 233

3 Ency. ReIigi، I، p. 670

4 الحيوان "4/ 118 وما بعدها"، "موت الحية".

5 الحيوان "4/ 203 وما بعدها".

6 Ency. ReIigi، I، p. 669

ص: 302

الحيوانات حيلة، فهي التي خدعت حواء خدعتها الشهيرة، وسببت طردها وطرد زوجها آدم من الجنة إلى الأرض1.

ولعقيدتهم هذه في "الحية"، كانوا إذا وجدوا حية ميتة كفنوها ودفنوها، فعلوا ذلك في الإسلام أيضًا. جاء إنه بينما كان "عمر بن عبد العزيز" يمشي في أرض فلاة، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها. وورد إنه كان جمع من أصحاب رسول الله "يمشون فرفع لهم اعصار، ثم جاء إعصار أعظم منه، ثم انقشع، فإذا حية قتيل، فعمد رجل منا إلى ردائه وكفن الحية ببعضه ودفنها. فلما جن الليل إذا امرأتان تتساءلان أيكمن دفن عمرو بن جابر؟ فقلنا ما ندري ما عمرو بن جابر! فقالتا إن كنتم ابتغيم الأجر، فقد وجدتموه. إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين منهم. فقتل عمرو، وهو الحية التي رأيتم"2.

"وفي الحديث: إنه نهى عن قتل الجنان. هي الحيات التي تكون في البيوت، واحدها جان، وهو الدقيق الخفيف"3. والجان الشيطان أيضًا. وورد في الحديث: ذكر الحيات، فقال: من خشي خبثهن وشرهن واربهن، فليس منا. أي من توقى قتلهن خشية شرهن فليس ذلك من سنتنا. وكانت الجاهلية تقول إنها توذي قاتلها أو تصيبه بخبل4.

وذكر العلماء أن "اللاهة" الحية، أو الحية العظيمة. وأن "اللات"، الصنم المعروف أصله "لاهة" كأنه سمي بها. وأن اسم الجلالة منها5. وفي الأساطير الجاهلية ما يفيد تعبد الجاهليين للحية، وفي هذا التفسير ما يؤيد هذا الرأي.

ويقال للحية: "بنت طبق". و"بنات طبق" الحيات، والحية "أم طبق" وبنت طبق. وهي "الدواهي". ومن أساطيرهم أن بنت طبق سلحفاة تبيض تسعا وتسعين بيضة كلها سلاحف، وتبيض بيضة تنقف عن حية6.

والحيات شياطين، وللعرب شجر يطلقون عليه "الصوم"، كريه المنظر

1 السفر الثالث من تكوين، الآية 1 وما بعدها.

2 الروض الأنف "1/ 136".

3 اللسان "13/ 95"، "جنن".

4 تاج العروس "1/ 145"، "أدب".

5 تاج العروس "9/ 410"، "لاه".

6 تاج العروس "6/ 415"، "طبق".

ص: 303

جدا، يقال لثمره "رءوس الشياطين" أي الحيات، وليس له ورق1.

1 تاج العروس "8/ 372"، "صام".

ص: 304

‌الغول:

وقصص الغول هي من أشهر القصص الجاهلي المذكور عن الجن، ومع خطر الغول وشراسته في رأي الجاهليين، ورد في قصصهم تزوج رجال من الإنس منهم. وورد أن الشاعر "تأبط شرا" تعرض بغيلة. فلما امتنعت عليه، جللها بالسيف فقتلها. وهم يروون أن من الممكن قتل الغول بضربة سيف. أما إذا ضربت مرة ثانية، فإنها تعيش ولو من ألف ضربة. وهكذا ترى قصصهم يروي تغلب الإنسان على الغيلة في بعض الأحيان. وأكثر قصص الغول منسوب إلى "تأبط شرا"1. وللقب الذي يحمله هذا الشاعر أو حمل عليه دخل، ولا شك، في ظهور هذا القصص.

ويرى علماء اللغة أن من معاني "الغول" التلون، والظهور بصور مختلفة، والاغتيال. ويرون أن الغول أنثى، وأما ذكرها فيسمى "قطربا"2. ولصفة التلون والظهور بصور مختلفة سموا الغول "حيتمورا"، وهو كل شيء لا يدوم على حالة واحدة، ويضمحل كالسراب3. وذكر في وصف غدرها بالإنسان إنها إذا أرادت أن تضل إنسانا أوقدت له نارًا، فيقصدها، فتدنوا منه، وتتمثل له في صور مختلفة، فتهلكه روعا، وإن خلقتها خلقة إنسان، ورجلاها رجلا حمار4.

وذكروا أن الغول اسم لكل شيء من الجن يعرض للسفار، ويتلون في ضروب الصور والثياب، ذكرا كان أو أنثى. وقد قال "كعب بن زهير" الشاعر الصحابي، الذي مدح الرسول، في وصف تلون الغول:

1 بلوغ الأرب "2/ 341 وما بعدها"، الأغاني "18/ 209 وما بعدها"، الحيوان "6/ 233، 235".

2 بلوغ الأرب "2/ 346 وما بعدها"، الحيوان "6/ 48"، تاج العروس "8/ 51"، "غال".

3 بلوغ الأرب "2/ 347".

4 بلوغ الأرب "2/ 348"، الحيوان "6/ 214".

ص: 304

فما تدوم على حال تكون بها

كما تلون في أثوابها الغول1

وفي تلون الغول يقول "عباس بن مرداس السلمي":

أصابت العام رعلا غول قومهم

وسط البيوت ولون الغول ألوان2

فالغول تتحول في أي صورة شاءت، وتتمثل في صور مختلفة، إلا رجليها، فلا بد من أن تكونا رجلي حمار3.

وذكر أن "الغول""السعلاة"، وهما مترادفان، وذكر أن الغيلان جنس من الجن والشياطين، والعرب تسمي الحية الغول. وقيل أن "أنياب أغوال" الواردة في شعر لامرئ القيس، الحيات، وقيل: الشياطين4.

وإلى الشاعر "عبيد بن أيوب" شاعر "بني العنبر"، يعود قسط كبير من القصص الوارد عن "الغول" و"السعلاة". فقد كان يخبر في شعره إنه يرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي، ويؤاكل الظباء والوحش. وقد أورد أهل الأخبار شيئًا من شعره في هذا الباب5. وذكر بعض علماء اللغة، أن الغول الذكر من الجن، والسعلاة الأنثى. والغول ساحرة الجن، وتقول إن الغول يتراءى في الفلاة للناس فتضلهم عن الطريق6.

وأما "السعالي"، وواحدتها السعلاة، فذكر أنها سحرة الجن، وقيل: إن الغيلان جنس منها، وأن الغيلان هي إناث الشياطين، وأنها -أي السعالي- أخبث الغيلان، وأكثر وجودها في الغياض، وإنها إذا ظفرت بإنسان ترقصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر، وأن الذئب يأكل السعلاة7. وذكر أن "السعلاة اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغول السفار. وهم إذا رأوا المرأة

1 الحيوان "6/ 158 وما بعدها".

2 الحيوان "6/ 161".

3 الحيوان "6/ 220".

4 تاج "8/ 51"، "غال".

5 الحيوان "4/ 482"، "هارون"، "5/ 123، 138، 241"، "6/ 128، 159، 160، 165، 235، 251، 395"،

6 تاج العروس "8/ 51"، "غال".

7 بلوغ الأرب "2/ 346 وما بعدها".

ص: 305

حديدة الطرف والذهن، سريعة الحركة ممشوقة ممحصة، قالوا: سعلاة. وقال الأعشى:

ورجال قتلى بجنبي أريك

ونساء كأنهن السعالى1

وذكر أن في الجن سحرة كسحرة الإنس لهم تلبيس وتخييل، وهم السعالى. وهم أقدر من الغيلان في هذا الباب2.

1 الحيوان "6/ 158 وما بعدها".

2 تاج العروس "7/ 375 وما بعدها"، "سعل".

ص: 306

الشيطان:

والشيطان هو "Satan" في الإنكليزية، و"DiaboIos" في الإغريقية. ويرجع علماء اللغة كلمة "الشيطان" إلى أصل "شطن"، ويقولون إن من معاني هذه الكلمة الخبث، ولما كان الشيطان خبيثا قيل له "شيطان" ومعنى ذلك أن فكرة خبث الشيطان كانت معروفة لصاحبها قبل التسمية1. فلما بحث عن لفظة مناسبة لها، اختاروا هذا الكلمة التي تدل على الخبث. وهو تعليل من تلك التعليلات المعروفة المألوفة التي كان يرجع إليها علماء اللغة كلما أعيادهم الوصول إلى أصول الأشياء.

و"الشيطان""ساطان""سطن" في العبرانية، ومعناه: عدو ومشتك في هذه اللغة2. ومن هذه اللغة جاءت لفظة "Satan" في الإنكليزية.

وذكر "الطبري": "والشيطان في كلام العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب ولك شيء"3، ثم قال: "وإنما سمي المتمرد م كل شيء شيطانا لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله وبعده من الخير. وقد قيل إنه أخذ من قول القائل شطنت داري من دارك، يريد بذلك بعدت. ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان:

نأت بسعاد عنك نوى شطون

فبانت والفؤاد بها رهين

1 اللسان "17/ 104"، "شطن"، الحيوان "1/ 153، 291".

2 غرائب اللغة "212".

3 تفسير الطبري "1/ 37 وما بعدها".

ص: 306

والنوى الوجه الذي نوته وقصدته، والشطون البعيد. فكأن الشيطان على هذا التأويل شطن. ومما يدل على ذلك كذلك، قول أمية بن أبي الصلت:

أيما شاطن عصاه عكاه

ثم يلقى في السجن والأكبال

ولم ترد لفظة "الشيطان" في شعر الشعراء الجاهليين، خلا شعر "أمية بن أبي الصلت" و"عدي بن زيد العبادي". والأول شاعر وقف، على ما يظهر من شعره، على شيء من اليهودية والنصرانية. وأما الثاني، فهو نصراني، لذلك يجوز لنا أن نرجع علمهما بالشيطان إلى ما جاء في اليهودية والنصرانية عنه، ولذلك نستطيع أن نقول أن هذ اللفظة جاءت العرب عن طريق أهل الكتاب.

وذكر علماء اللغة، أن "الأزب" اسم من أسماء الشياطين، وذكروا أن "الأزب" شيطان اسمه أزب العقبة، وقيل هو حية1. وأن من أسماء الشيطان:"الحباب". يقع على الحية أيضًا، لأن الحية يقال لها شيطان، وفي حديث:"الحباب شيطان"2. وذكروا أن من أسماء الشيطان "الطاغوت"3.

ومن الشياطين، شيطان اسمه "زوبعة"، وقيل وقيل هو رئيس للجن. ومنه سمي الإعصار زوبعة، ويقال أم زوبعة وأبو زوبعة، وهو الذي يثير الإعصار، حين يدور على نفسه، ثم يرتفع في السماء ساطعا كأنه عمود4.

وأما ما ورد في القصص عن الشياطين عند الجاهليين، فهو يختلف عما جاء عن الشيطان في الكتب اليهودية والنصرانية، مما يدل على أن منبعه منبع آخر، وأن "ألشيطان" عند الجاهليين، هو غير الشيطان المعروف عند اليهود والنصارى الذي دخل إلى العرب قبيل الإسلام وفي الإسلام.

ومن القصص المذكورة، استمد بعض الجاهليين قصصهم عن ذكاء الشيطان وعن حيله. ومن حيله. ومن هذا القصص ولا شك استعمل الناس مصطلح "تشيطن" و"الشيطنة" بمعنى الذكاء والحيلة، لما رسخ في ذهنهم من ذلك القصص عن ذكاء الشيطان وسعة حيله وتلاعبه بأذكى البشر. وهو في التوراة ذو طبع شرير،

1 تاج العروس "1/ 147". "أزب""1/ 284"، "زبب".

2 اللسان "1/ 295"، "حبب".

3 تفسير الطبري "14/ 71"، "23/ 131 وما بعدها".

4 تاج العروس "5/ 367"، "تزبع".

ص: 307

وزعيم العصاة لأوامر الله، يضل الناس ويسلك بهم سبل الخطيئة، ولذلك تعوذوا منه1.

ومن القصص المذكور استمد أيضًا علماء اللغة ما ذكروه من أن كلمة "الشيطان" تعني الحية2، ففي ذلك القصص ظهور الشيطان على صورة "حية" خدعت أبوينا آدم وحواء في الجنة. وتمثل هذا القصص في الأدبين العبراني والنصراني. وسبب ذلك هو ما علق بذهنهم عن هذه الصورة في الشيطان. والحية هي عند أكثر الشرقيين رمز يشير إلى الثورة والعصيان والشر. وهذه الفكرة هي من أسطورة شرقية قديمة عن سقوط البشيرية في الشر، وتتمثل في سقو آدم وحواء وطردهما لذلك من الجنة، وفي تعاليم زرادشت من أن الشرير ظهر في هيأة حية، وأخذ يعلم الناس الشر3.

وزعم أن "شيطان الحماطة" الحية4. وورد "شيطان حماط". ولعل ذلك بسبب لجوء الحيات إلى الحماط، والحماطة شجرة شبيهة بالتين، وهي أحب الشجر إلى الحيات، إذ تألفها كثيرًا5. وفي هذا المعنى ورد في قول الشاعر:

تلاعب مثنى حضرمي كأنه

تعمج شيطان بذي خروع قفر6

والتعمج التولي. والمراد هنا تلوي شيطان بمكان قفر نبت فيه الخروج. وقصد بالشيطان الحية.

وقد وصف الشيطان بالقبح، فإذا أريد تعنيف شخص وتقبيحه، قيل له:"يا وجه الشيطان" وما هو إلا شيطان، يريدون بذلك القبح، وذلك على سبيل تمثيل قبحه بقبح الشيطان. وقيل: الشيطان حية ذو عرف قبيح الخلقة7.

1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 651".

2 اللسان "17/ 104"، تاج العروس "9/ 253"، "شطن"، "والعرب تسمى كل حية شيطانا"، الحيوان "1/ 30".

3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 400"، Hastings، p. 829

4 الحيوان "6/ 192".

5 تاج العروس "5/ 121"، "حمط".

6 الحيوان "1/ 153"، "6/ 192".

7 الفاخر "ص238"، الحيوان "1/ 300"، تاج العروس "9/ 253"، "شطن".

ص: 308

وقيل إنه كان حية زعم أنها تأتي حول البيت، فلا يطوف أحد. ولما شرعوا ببناء الكعبة في أيام شباب الرسول، جاء طير فالتقط الحية1. ولقبح وجه الشيطان، قالوا للذي به لقوة أو شتر، إذا سب: يا لطيم الشيطان. وقالوا للمتكبر الضخم: ظل الشيطان2. وكانوا إذا أرادوا ضرب مثل بقبح إنسان قالوا: لهو أقبح من الشيطان3. وقالوا لشجرة تكون ببلاد اليمن، لها مظهر كريه "رءوس الشياطين"4. وبهذا المعنى فسرت "رءوس الشياطين"5. "يقول تعالى ذكره كأن طلع هذه الشجرة يعني شجرة الزقوم في قبحه وسماجته رءوس الشياطين في قبحها"، "وذلك أن استعمال الناس قد جرى بينهم في مبالغتهم إذا أراد أحدهم المبالغة في تقبيح الشيء، قال: كأن شيطان، فذلك أحد الأقوال، والثاني أن يكون مثل برأس حية معروفة عند العرب تسمى شيطانا. وهي حية له عرف فيما ذكر، قبيح الوجه والمنظر، وإياه عنى الراجز، بقوله:

عنجرد تحلف حين أحلف

كمثل شيطان الحماط أعرف

ويروي عجيز: "والثالث أن يكون مثل نبت معروف برءوس الشياطين، ذكر إنه قبيح الرأس"6. ويظهر أن العرب في الجاهلية، كانوا يطلقون "رءوس الشياطين" على شجر كريه المنظر جدا، قال علماء اللغة: "والصوم: شجر على شكل شخص الإنسان كريه المنظر جدا، يقال لثمره رءوس الشياطين، يعني الشياطين والحيات، وليس له ورق"7 وقد جمع هذا التفسير بين الشياطين والحيات والقبح. ويمثل الصورة التي رسمها الناس في مخيلتهم للشياطين.

وكانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقى على أفواهها الشعر، وتلقنها إياه

1 الفاخر "ص238".

2 الحيوان "6/ 178".

3 الحيوان "6/ 213"ز

4 الحيوان "6/ 211"، "4/ 39 وما بعدها".

5 الصافات، 37 الآية 63 وما بعدها.

6 تفسير الطبري "23/ 40 وما بعدها".

7 اللسان "12/ 351 وما بعدها"، "صوم".

ص: 309

وتعينها عليه، وتدعي إن لكل فحل منهم شيطانا يقول الشعر على لسانه، فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود. وبلغ من تحقيقهم وتصديقهم بهذا الشأن أن ذكروا لهم أسماء شياطينهم، فقالوا: إن اسم شيطان الأعشى مسحل، وللأعشى أشعار فيه، يمدحه ويثني عليه، لأنه يعاونه ويساعده في نظم الشعر فيلقيه عليه إلقاء. وقد زعم "حسان بن ثابت" أن شيطانه الذي يلهمه الشعر هو من "بني شيصبان" من فصائل الجن. وقد انتقلت هذه العقيدة في إلهام الشعر للشعراء إلى المسلمين كذلك. وقد دعا "جرير" شيطانه الذي يلقي عليه الشعر "إبليس الأباليس"1.

ويكنى عن‌

‌ الشيطان

بالشيخ النجدي2. وقد أشير إليه مرارا في كتب السير والأخبار. أشير إليه في بنيان الكعبة، حين حكموا رسول الله في أمر الركن من يرفعه، فحضر في زي شيخ نجدي بين الحاضرين، وصاح: يا معشر قريش أرضيتم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم، وحضر اجتماع "دار الندوة". وأيد قرارهم في قتله. وذكر علماء الأخبار، أنه عرف بالشيخ النجدي، لأنه تمثل نجديا، وتذكر أن الفتن تخرج من المشرق، والمشرق نجد بالنسبة لأهل الحجاز3.

و"قرن الشيطان"، ناحية رأسه، ومنه الحديث: تطلع الشمس بين قرني الشيطان، فإذا طلعت قارنها، وإذا ارتفعت فارقها4. وفي الأساطير أن للشيطان قرنين.

وكان الكهان يستعينون بالشياطين في الأخبار عن المغيبات، يذكرون أن الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيخبرونهم عن أنباء الأرض. وكان للكاهن "صاف

1 الثعالبي، ثمار القلوب "69 وما بعدها"، قال الأعشى:

دعوت خليلي مسحلا ودعوا له

جهنام جدعا للهجين المذمم

وقال:

حباني أخي الجني نفسي فداؤه

بأقبح جياش العشيات مرجم

الحيوان "6/ 225 وما بعدها".

2 تاج العروس "2/ 512"، "نجد".

3 الروض الأنف "1/ 291".

4 تاج العروس "9/ 306"، "قرن".

ص: 210