المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثالث والثمانون: المجوس والصابئة ‌ ‌مدخل … الفصل الثال والثمانون المجوس والصابئة يقصد الإخباريون - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٢

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني عشر

- ‌الفصل الرابع والسبعون: الكعبة

- ‌مدخل

- ‌الكسوة:

- ‌المال الحلال:

- ‌بقية محجات العرب:

- ‌المزارات:

- ‌الفصل الخامس والسبعون: الحنفاء

- ‌مدخل

- ‌الاعتكاف:

- ‌الفصل السادس والسبعون: اليهودية بين العرب

- ‌مدخل

- ‌يهود اليمن:

- ‌الفصل السابع والسبعون اليهود والإسلام

- ‌الفصل الثامن والسبعون شعر اليهود

- ‌الفصل التاسع والسبعون: النصرانية بين الجاهليين

- ‌مدخل

- ‌النصرانية في بقية مواضع جزيرة العرب:

- ‌الفصل الثمانون المذاهب النصرانية

- ‌الفصل الحادي والثمانون: التنظيم الديني

- ‌مدخل

- ‌أعياد النصارى:

- ‌الفصل الثاني والثمانون: أثر النصرانية في الجاهليين

- ‌الفصل الثالث والثمانون: المجوس والصابئة

- ‌مدخل

- ‌الصابئة:

- ‌الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح

- ‌مدخل

- ‌طعام الجن:

- ‌الحية:

- ‌الغول:

- ‌ الشيطان

- ‌شق:

- ‌والهاتف والرئي

- ‌الرئي:

- ‌الملائكة:

- ‌السحر:

- ‌الفصل الخامس والثمانون: في أوابد العرب

- ‌مدخل

- ‌العراف:

- ‌الراقي:

- ‌الاستقسام بالأزلام:

- ‌الأحلام:

- ‌الفصل السادس والثمانون: الطيرة

- ‌مدخل

- ‌التثاؤب والعطاس:

- ‌بعض من أنكر الطيرة

- ‌الفأل:

- ‌الفصل السابع والثمانون: من عادات وأساطير الجاهليين

- ‌مدخل

- ‌عقيدتهم في الحيوان:

- ‌فهرس الجزء الثاني عشر

الفصل: ‌ ‌الفصل الثالث والثمانون: المجوس والصابئة ‌ ‌مدخل … الفصل الثال والثمانون المجوس والصابئة يقصد الإخباريون

‌الفصل الثالث والثمانون: المجوس والصابئة

‌مدخل

الفصل الثال والثمانون المجوس والصابئة

يقصد الإخباريون بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة: الخير والشر، فيزعمون أن الخير من فعل النور وأن الشر من فعل الظلمة1. وهم يعلمون أن المجوس من الفرس وأنهم عبدة النيران.

وفي القرآن الكريم ذكر للمجوس. وقد ورد ذكرهم في موضع واحد منه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 2. وفي ذكرهم في القرآن الكريم دليل كاف على معرفة أهل الحجاز بهم، ووقوفهم عليهم. وكيف لا يكون لهم علم بهم ووقوف عليهم، وقد كان لأهل مكة اتصال وثيق بالحيرة كما كان لأهل الحجاز اتصال باليمن؟ وقد كان المهيمن على اليمن الفرس عند ظهور الإسلام، حيث طردوا الأحباش وأخذوا محلهم، وقد كان هؤلاء الفرس على المجوسية، ثم إنه كان في حضرموت وفي العربية الشرقية أناس منهم أقاموا هناك. وقد كان وكلاء الأكاسرة على هذه الأماكن منهم، وهم على دين

1 النهاية "4/ 85"، اللسان "8/ 98""مجس"، تاج العروس "4/ 345""مجس"، الملل والنحل "2/ 57"، الحيوان "1/ 190"، "4/ 59، 479، 481"، المسعويد، مرج "1/ 252، 253،273"، "بيروت"، عمدة القاري "15/ 78".

2 الحج، الآية 17، عمدة القاري "15// 78 وما بعدها" الطبرسي، مجمع البيان "13/ 88 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 8"، تفسير الطبري "6/ 201"، روح المعاني "6/ 179"، تاج العروس "4/ 245". "مجس".

ص: 267

المجوسية. وقد أشير إلى وجودهم في أخبار الفتوح، حيث دفع الجزية من أبي منهم الدخول في الإسلام. والظاهر أن هؤلاء كانوا مقيمين فيها من أمد طويل بدليل ورود جملة في أخبار الفتوح تفيد ذلك، وهي:"وأسلم معهما جميع العرب وبعض العجم. فأما أهل الأرض من المجوس واليهود والنصارى، فإنهم صالحوا العلاء"1.

ويروي أهل الحديث حديثين يذكرون أن الرسول قالهما هما: "كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يمجسانه"، أي يعلمانه دين المجوسية. وحديث "القدرية مجوس هذه الأمة"2. وفي هذين الحديثين ذكر للمجوس. ولعلماء الحديث كلام عليهما. ولا سيما على الحديث الثاني، وفيه تعريض بالقدرية، أسلاف المعتزلة.

وكلمة "مجوس" من الكلمات المعربة، عربت عن لفظة "مغوس""Maghos" الفارسية التي تعني "عابد النار"3. وهي من الألفاظ التي دخلت إلى اليونانية كذلك، حيث وردت لفظة "Magi" فيها. وهي جمع "مجوس""Magus"4. وقد دخلت إلى لغة "بني إرم" أيضًا. ولا ندري اليوم على وجه صحيح من أي طريق دخلت لفظة "مجوسي" و"مجوس" إلى العربية، عن الفرس أنفسهم، أو عن اليونانية أو عن طريق لغة "بين إرم"5!

وقد عرف علماء اللغة بأن لفظة "مجوس" من الألفاظ المعربة. وقد ذهبوا إلى إنها معربة عن الفارسية القديمة. ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في أصل اللفظة وفي بيان معناها، وذهبوا في ذلك مذاهب6، وبعض هذه التفسيرات والتأويلات مفتعل يدل على عدم وقوف أصحابها على جلية الموضوع.

1 البلدان "2/ 74"، "ومن أبي فعلية الجزية. فصالحهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أن على المجوس الجزية"، "وأخذ الجزية من المجوس"، الطبري "3/ 29".

2 اللسان "6/ 213 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 345"، اللسان "8/ 98""مجس""طبعة بولاق".

3 غرائب اللغة "ص269".

4 Hastings p 565

5 Shorter Ency of IsIam p 98 Ency III p 97

6 اللسان "8/ 98""طبعة بولاق"، محيط المحيط "2/ 250"، تاج العروس "4/ 345""مجس"، الحيوان، للجاحظ "5/ 69""عبد السلام هارون"، المعرب، للجواليقي "320".

ص: 268

ويريد الإخباريون بالمجوسية عبادة النار. وإذا صح ما ورد في شطر بيت منسوب إلى الشاعر الجاهلي "التوأم اليشكري" المعاصر لامرئ القيس، هو:"كنار مجوس تستعر استعارا"1، فإن فيه دلالة على أن هذا الشاعر هو وامرأ القيس كانا على علم بنار المجوس، وإنها كانت تستعر دائمًا، وربما كانا على علم ببعض تعاليمها أيضًا.

وفي أخبار أهل الأخبار ما يفيد بعض العرب، فورد أن "المزدكية والمجوسية في تميم"2. وورد أن "زرارة بن عدس" وابنه "حاجب بن زرارة"، وهما من سادات تميم كانا قد اعتنقا المجوسية، واعتنقها أيضًا "الأقرع بن حابس" و"أبو الأسود"، جد "وكيع بن حسان"3. وقيل إن أشتاتا من العرب عبدت النار، سرى إليها ذلك من الفرس والمجوس4.

وكان مجوس اليمن، من الفرس الذين أرسلهم كسرى لطرد الحبش من اليمن، فهم وأبناؤهم كانوا على هذا الدين، دين الإمبراطورية الفارسية، ولما ظهر الإسلام، نبذ هؤلاء المجوسية واعتنقوا الإسلام5.

وأما مجوس عمان وبقية أنحاء العربية الجنوبية، فقد كانوا من الفرس كذلك: من تجار ومن مقيمين من بقية الفرس الذين كانوا قد استولوا على هذه الأرضين. وعند ظهور الإسلام لم يكن لهم نفوذ سياسي، فقد كان سادات القبائل قد كونوا مشيخات فيها، واستقلت في إدارة شئونها، غير أن المجوس بقوا فيها، وعند دخول أهلها في الإسلام، ودخول البلاد في دين الله، دفع بعض أولئك المجوس الجزية، ودخل الباقون في الإسلام. شأنهم في ذلك شأن اليهود والنصارى المقيمين في هذه الأرضين.

وأما مجوس البحرين، فقد كانوا أكثر عددا وأكبر نفوذا من إخوانهم في عمان، لقرب هذه الأرضين من إمبراطورية الساسانيين، ولهجة الفرس من السواحل المقابلة ومن طريق الأبلة الساحلي، وقد عثر المنقبون على قبور عديدة

1 اللسان "6/ 213 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 245"، "مجس".

2 البدء والتأريخ "4/ 31".

3 المعارف "266""الصاوي"، البدء والتأريخ "4/ 31"، الأعلاق النفيسة "217".

4 بلوغ الأرب "2/ 233".

5 Ency VoI III p 99

ص: 269

تعود إليهم؛ وعلى آثار لمعابدهم في العربية الشرقية. وكان على "هجر"، حين أبلغ الرسول دعوته إليها، رجل من الفرس اسمه "سيبخت مرزبان"، وقد أسلم واسلم معه قوم من قومه، ودفع الجزية من فضل البقاء منهم على دينه، شأنهم في ذلك شأن أهل الكتاب1. وذكر أن الرسول كتب إلى "مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أخذت منهم الجزية، وبأن لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم"2.

وكان باليمامة قوم من المجوس، عاشوا في قراها ومواضعها، اشتغلوا بالزراعة وبالتعدين. وأرض اليمامة أرض غنية، وهي "ريف" أهل مكة، وعليها اعتمادهم في الحصول على الحبوب. كما عرفت بوجود المعادن بها، فسهل أهلها دخول المجوس إليها، للاستفادة منهم في استغلال الأرض وفي التعدين.

هذا ولم نسمع بدخول أحد من ملوك الحيرة، أو الأمراء الذين عينهم الفرس على العرب في المجوسية مع علاقتهم بالفرس واتصالهم الوثيق بهم، ووجود الفرس في أرضهم وفي عاصمتهم، بينما نجد بعضًا منهم وقد دخل في النصرانية. ولعل ذلك بسبب عدم ميل الفرس إلى إدخال أحد من الغرباء عنهم في دينهم وإلى عدهم المجوسية ديانة قومية خاصة بهم، فلا يهمهم دخول أحد من غيرهم فيها.

هذا ولا أجد صلة بين "الأسبذية" التي زعم أنها ديانة قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين، عرفوا بـ "الأسبذيين"، وبين "بني دارم"، وكونهم كانوا على هذا الدين. فقد كان أحدهم وهو "المنذر بن ساوى" أسبذيا، ولم يكونوا كلهم. قيل إنه نسب إلى قرية بهجر يقال لها "الأسبذ"، وقيل إلى الأسبذيين3. ولا صلة لهذه الأسبذية بالمجوسية، أو إلى ديانة دخلت من فارس إلى البحرين. وقد تحدثت في مكان آخر عن وجود قوم من العرب قدسوا "الحصان". ورأي أن المراد من "الأسبذية" الفرسان. وأن "المنذر بن ساوى" كان "أسبذا" أي بدرجة فارس، وهي من درجة الشرف والرفعة في الجيش الساساني.

1 البلاذري "85 وما بعدها"، البلدان "2/ 73 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 263"، "صادر".

3 فتوح البلدان "98"، "89""طبعة المكتبة التجارية"، محاضرات للدكتور صالح أحمد العلي "171".

ص: 270

ويذكر علماء اللغة في معرض كلامهم على معنى لفظة "الزمزمة" أن من عادة المجوس الزمزمة عند الابتداء بالأكل، أي قراءة شيء من كتبهم الدينية قراءة خافته على المأكول تقديسا وشكرا لهز وقد نهى الخليفة عمر عن الزمزمة، لأنها من علائم المجوس1.

وقد عرف عالم المجوس ورئيسهم الروحي عند العرب بـ "الموبذ" و"الموبذان"، وعرف كبيرهم بـ "موبذان موبذ"؛ وجعل بعض العلماء "الموبذان" بمنزلة قاضي القضاة للمسلمين، والموبذ بمنزلة القاضي2. وتعني "موبذان موبذ" الموبذ الأعظم. وقد اكتفى أحيانًا بلفظة "موبذان" للتعبير عن "موبذان موبذ". وقد فسر المسعودي لفظة "الموبذ" بمعنى حافظ الدين. ورجع أصلها إلى "مو" بمعنى "دين" في رأيه، و"بذ" بمعنى "حافظ"3. ورأى "اليعقوبي" أن "الموبذان" بمعنى عالم العلماء4. والموبذ هي من الألفاظ المعربة عن الفهلوية، فهي من أصل فهلوي هو Magupat، بمعنى عظيم المجوس. ويتمتع هذا الرئيس الديني الأعظم بسلطات دينية واسعة5. وقد أطلق السريان على الموبذ جملة "ريش مكوشي" "Resh Magushi" و "Resh damgushi، أي "رئيس المجوس"، و"مكوش" تعني "المجوس"6.

وترد في العربية لفظة أخرى، لها صلة بالمجوسية، هي "الهربذ" و"الهرابذاة". ذكر علماء اللغة أن "الهرابذية: المجوس، وهم قومة بيت النار التي للهند

وقيل عظماء الهند أو علماؤهم". وذكروا أن "الهربذي مشية فيها اختيال، كمشي الهرابذة، وهم حكام المجوس. قال امرؤ القيس:

مشى الهربذي في دفه ثم فرفرا"7

1 اللسان "15/ 165"، تاج العروس "8/ 165"، تاج العروس "8/ 328".

2 اللسان "3/ 511"، "موين"، النهاية في غريب الحديث "4/ 119"، تاج العروس "2/ 513".

3 مروج الذهب "1/ 268"، "ذكر ملوك الغساسنة".

Ency III p 453>

4 تأريخ اليعقوبي "1/ 207".

5 Ency III p 453

6 اللسان "3/ 517 وما بعدها"، "هربن".

7 Ency III p 453

ص: 271

واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية. من أصل "هور" و"بت"، بمعنى رئيس خدام النار. والموكل على خدمة النار في المعبد1.

وقد ذكر "الألوسي"، أن صنفا من العرب عبد النار، وقال عنهم:"وهم أشتات من العرب، وكأن ذلك سرى إليهم من الفرس والمجوس"2. ولم يذكر أسماء هؤلاء الأشتات. ولم يتحدث عن طريقة تعبدهم للنار. ولكننا نستطيع أن نجد في "نار الاستمطار" وفي "نار التحالف" وفي النيران الأخرى التي يذكرها أسماءها أهل الأخبار دلالة على وجود فكرة تقديس بعض العرب للنار. وقد حبب الإسلام هذه النيران.

فقد ذكر أهل الأخبار أن العرب كانت في الجاهلية الأولى، إذا احتبس عنهم المطر، ويئسوا من نزوله، يجمعون البقر ويعقدون في أذنابها وعراقبيها السلع والعشر ويصعدون بها في الجبل الوعر، ويشعلون فيها النار، ويزعمون أن ذلك من أسباب المطر، قال الشاعر "الورل" الطائي:

أجاعل أنت بيقورا مسلعة

وسيلة منك بين الله والمطر3

وقد أشير إلى هذه النار في شعر ينسب إلى أمية بن أبي الصلت4. ويسمونها بنار الاستسقاء وبنار الاستمطار5.

وذكروا نارًا أخرى قالوا لها: "نار التحالف" ،"نار المهول". وقالوا أن العرب كانوا لا يعقدون حلفا إلا عليها، وكانوا إذا اختصموا في شيء، واتفقوا على اليمين، حلفوا على النار. ولهذا قيل لها "نار التحالف". وطريقتهم في ذلك أن المتحالفين أو المتخاصمين يحفرون أمام نار يوقدونها، ثم يلقون عليها

1 غرائب اللغة "248".

2 بلوغ الأرب "2/ 233".

3 "الوديل الطائي"، صبح الأعشى "1/ 409"، بلوغ الأرب "2/ 164"، خزانة الأدب "3/ 212"، الحيوان "4/ 468".

لا در در رجال خاب سعيهم

يستمطرون لدى الازمات بالعشر

أجاعل أنت بيقورا مسلعة

ذريعة لك بين الله والمطر

اللسان "4/ 73"، "بقر".

4 نهاية الأرب، للنويري "1/ 109 وما بعدها"، الحيوان "4/ 466 وما بعدها".

5 نزهة الجليس "2/ 406".

ص: 272

ملحا وكبريتا. وعندئذ يذكرون منافع هذه النار ويدعون بالحرمان من خيرها على من ينقض العهد ويحل العقد وفي حالة الحلف واليمين يقول صاحب النار للحالف: "هذه النار قد تهددتك"، فإن كان مبطلا نكل، وإن بريئًا حلف، ولذلك قيل لها "نار المهول"1. وذكروا أيضًا أن هذه النار كانت معروفة في اليمن، مستعرة دائمًا، ولها سادة سدنة وقيمون يطرحون الملح والكبريت في النار، أما السدنة فيقومون بأخذ اليمين. وكان سادتها إذا أتي برجل ليحلف، هيبوه من الحلف بها، وخوفوه من الكذب. وقد عرفت هذه النار بـ "نار التحاليف" كذلك. وقد أشار إليها الكميت بقوله:

هم خوفوني بالعمى هوة الردى

كما شب نار الحالفين المهول

كما أشار إليها شاعر آخر هو أوس، إذ قال:

إذا استقبلته الشمس صد بوجهه

كما صد عن نار المهول حالف2

وذكر "الجاحظ" أن العرب "يقولون في الحلف: الدم، الدم، والهدم الهدم، لا يزيده طلوع الشمس إلا شدا، وطول الليالي إلا مدا، ما بل البحر صوفة، وما أقام رضوى في مكانه، إن كان جبلهم رضوى.

"وكل قوم يذكرون جبلهم، والمشهور من جبالهم. وربما دنوا منها حتى تكاد تحرقهم"3.

بل زعم بعض أهل الأخبار أن حمير كانت تحتكم إلى نار كانت باليمن تحكم بينهم فيما كانوا يختلفون به. تأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فلما اعتنق التبع "تبان أسعد"، ديانة يهود، وطلب من قومه الدخول فيها، أبوا عليه ذلك، وطلبوا منه الاحتكام إلى تلك النار في قصة يذكرونها في سبب تهود بعض حمير4.

وللعرب نار السعالي والجن والغيلان5. ذكروا أن الغيلان توقد بالليل النيران

1 اللسان "5/ 234"، "نور"، "نزهة الجليس "2/ 406".

2 اللسان "7/ 102"، صبح الأعشى "1/ 409"، خزانة الأدب "3/ 212"، "خوفونا"، نهاية الآرب "1/ 109 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، الحيوان "45/ 470".

3 الحيوان "4/470 وما بعدها".

4 سيرة ابن هشام "1/ 27".

5 الحيوان "4/ 481".

ص: 273

للعبث والتخييل واضلال السابلة. وإنها ترفع للمثقفر فيتبعها فتهوى به الغول. وأورد أهل الأخبار شعرا في ذلك منه شعر لـ "عبيد بن أيوب"، المعروف بـ "أبي مطراب"، وكان يزعم أنه يؤاكل الظباء والوحش ويرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي1.

وذكر أهل الأخبار قصة عن "خالد بن سنان العبسي" النبي العربي الذي منحه بعضهم في الإسلام جملة "عليه السلام" باعتبار أنه من أنبياء الله، قد يكون لها صلة بعقيدة عبادة النار عند العرب. إذ ذكروا أن نارًا ظهرت "بالبادية بين مكة والمدينة في الفترة، فسمتها العرب بدًا، وكادت طائفة منهم أن تعبدها مضاهاة للمجوس. فقام خالد هذا، فأخذ عصاه، واقتحم النار يضربها بعصاه، حتى أطفأها الله تعالى. ثم قال: إني ميت، فإذا أنا مت، وحال الحول، فارصدوا قبري. فإذا حمار عند قبري، فارموه واقتلوه، وانبشوا قبري، فإني أحدثكم بكل ما هو كائن. فمات. فلما حال الحول، رأوا الحمار فقتلوه، وأرادوا نبشه، فمنعهم أولاده، وقالوا: لا نسمى بني المنبوش"2. وقد عرفت تلك النار بـ "نار الحرتين"3. وذكر إنها كانت ببلاد عبس، فإذا كان الليل تضيء نار تسطع وفي النار دخان مرتفع. وربما بدر منها عنق فأحرق من مر بها. فحضر خالد بن سنان النبي، فدفنها، فكانت معجزة له4. ويظهر أن حرة، كانت في تلك المنطقة، ثم خمدت فنسب الناس خمودها إلى "خالد بن سنان".

وللجاهليين استعمالات أخرى للنار، فكانوا إذا خافوا شر رجل، وتحول عنهم أوقدوا خلفه نارًا، ليتحول شره معه5. ويقولون:"أبعده الله وأسحقه وأوقد نارًا في أثره"، يقولون ذلك لكراهيتهم له، ويتمنون الموت له. وتعرف هذه النار بـ "نار الطرد"6. وذكر أن العرب تدعو على العدو فتقول:

1 الحيوان "4/ 481 وما بعدها"، معجم الشعراء "182"، مروج الذهب "1/ 328"، الحيوان "5/ 123"، صبح الأعشى "1/ 410".

2 محاضرات الأبرار "1/ 77"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406

3 الحيوان "4/ 476 وما بعدها".

4 صبح الأعشى "1/ 409 وما بعدها".

5 اللسان "7/ 102"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".

6 خزانة الأدب "3/ 212"، الحيوان "4/ 474"، صبح الأعشى "1/ 409".

ص: 274

أبعد الله داره وأوقد نارًا أثره1.

ولا بد أن يكون للنار الموقدة على المزدلفة صلة ما بعقائد الجاهليين القديمة في النار. وينسب الإخباريون هذه النار إلى "قصي بن كلاب"، يقولون إنه أوقدها على المزدلفة حتى يراها من دفع من عرفة في أيام الحج. وقد بقي الناس يوقدونها إلى الإسلام2.

ومن نيران العرب، نار الغدر، وتوقد بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين، جبلي مكة: أبي قبيس وقعيقعان، أو أبو قبيس والأحمر. فإذا استعرت، صاح موقدها: هذه غدرة فلان، ليحذره الناس، وليعلموا أن فلانا قد غدر بجاره3.

وأما "نار السلامة"، فهي التي توقد للقادم من سفر سالما غانما، وقد عرفت لذلك بـ نار المسافر" أيضًا4. و"نار السليم"، هي النار التي توقد للملدوغ وللمجروح ولمن ضرب بالسياط ولم عضه الكلب الكلب، ويقولون إنها إنما توقد لكي لا يناموا، فيشتد بهم الأمر ويؤدي إلى الهلالك5.

وأما "نار الحرب"، فهي النار التي كانوا إذا أرادوا حربًا، وتوقعوا جيشًا عظيمًا، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلا على جبلهم نارًا، ليبلغ الخبر أصحابهم. وإذا جدوا في جمع عشائرهم إليهم أوقدوا نارين6.

ونار الصيد، هي نار توقد للظباء وللحيوانات الأخرى، فتغشاها إذا نظرت إليها7.

1 قال الشاعر:

وجمة أقوام حملت، ولم آكن

كموقد نار أثرهم للتندم

اللسان "5/ 243"، "نور".

2 صبح الأعشى "1/ 409"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب "462" الكامل، لابن الأثير "2/ 17"، نزهة الجليس "2/ 406".

3 بلوغ الأرب "2/ 162"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406".

4 الحيوان "4/ 473"، نزهة الجليس "2/ 406.

5 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 410".

6 الحيوان "4/ 474 وما بعدها"، "5/ 133"، صبح الأعشى "1/ 409"، نزهة الجليس "2/ 406".

7 صبح الأعشى "1/ 410"، نزهة الجليس "2/ 406".

ص: 275

ونار الأسد، وهي نار توقد إذا خافوا الأسد، لينفر عنهم، فإن من شأنه النفار عن النار، يقال إنه إذا رأى النار حدث له فكر يصده عن قصده، ويشغله عن السابلة. ويقولون إن الضفدع إذا رأى النار تحير وترك النقيق1.

ونار الفداء، وكان الملوك منهم، إذا أسروا نساء قبيلة، خرجت إليهم السادة منهم للفداء أو الاستيهاب، فيكرهون أن يعرضوا النساء نهارا فيفتضحن أو في الظلمة فيخفى قدر ما يحسونه لأنفسهم من الصفي، فيوقدون النار لعرضهن2.

ونار القرى، هي من أعظم مفاخر العرب، وهي النار التي ترفع للسفر، ولمن يلتمس القرى، فكلما كان موضعها أرفع كان أفخر. وهي نار مذكورة على الحقيقة لا على المثل3. وعرفت عندهم بـ "نار الضيافة" وبـ "نار الأضياف" أيضًا. وقد ذكر أهل الأخبار إنهم ربما يوقدونها بـ "المندلى"، ليهتدي إليها العميان. فالمندلى خشب ذو رائحة طيبة، تفوح منه إذا أحرق، فتشم من مسافة بعيدة4. وذكر إنهم كانوا يوقدونها في ليالي الشتاء، خاصة لحاجة الناس إلى القرى في ذلك الوقت. وكلما كانت النار مرتفعة ضخمة، كانت أفخر لصاحبها. وقد أشير إليها في الشعر5.

ويطلق العرب على كل نار تراها العين لا حقيقة لها عند التماسها، نار الحباحب، ونار أبي الحباحب. وقد ذكر "الجاحظ" أنه لم يسمع في أبي حباحب شيئًا6. ولهم قصص عن شخص زعموا أنه كان يعرف بـ "أبي حباحب"، وان رجلا في سالف الدهر بخيلا لا توقد له نار بليل، مخافة أن يقتبس منها نار، أو يراها الضيفان فيفدون إليه، فإن أوقدها ثم أبصرها مستضئ أطفأها، فضربت العرب به المثل في البخل، فقالت: "أخلف من نار أبي حاجب". وذكر

1 صبح الأعشى "1/ 410"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، خزانة الأدب "3/ 212"، "نزهة الجليس "2/ 406".

2 صبح الأعشى "1/ 410"، بلوغ الأرب "1/ 161 وما بعدها"، خزانة الأدب "3/ 212"، نزهة الجليس "2/ 406".

3 الحيوان "5/ 134"، خزانة الأدب "3/ 212"، نزهة الجليس "2/ 406".

4 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".

5 بلوغ الأرب "2/ 161"، صبح الأعشى "1/ 410".

6 الحيوان "4/ 486 وما بعدها"، المخصص "11/ 28"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها".

ص: 276