المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بعض من أنكر الطيرة - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١٢

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني عشر

- ‌الفصل الرابع والسبعون: الكعبة

- ‌مدخل

- ‌الكسوة:

- ‌المال الحلال:

- ‌بقية محجات العرب:

- ‌المزارات:

- ‌الفصل الخامس والسبعون: الحنفاء

- ‌مدخل

- ‌الاعتكاف:

- ‌الفصل السادس والسبعون: اليهودية بين العرب

- ‌مدخل

- ‌يهود اليمن:

- ‌الفصل السابع والسبعون اليهود والإسلام

- ‌الفصل الثامن والسبعون شعر اليهود

- ‌الفصل التاسع والسبعون: النصرانية بين الجاهليين

- ‌مدخل

- ‌النصرانية في بقية مواضع جزيرة العرب:

- ‌الفصل الثمانون المذاهب النصرانية

- ‌الفصل الحادي والثمانون: التنظيم الديني

- ‌مدخل

- ‌أعياد النصارى:

- ‌الفصل الثاني والثمانون: أثر النصرانية في الجاهليين

- ‌الفصل الثالث والثمانون: المجوس والصابئة

- ‌مدخل

- ‌الصابئة:

- ‌الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح

- ‌مدخل

- ‌طعام الجن:

- ‌الحية:

- ‌الغول:

- ‌ الشيطان

- ‌شق:

- ‌والهاتف والرئي

- ‌الرئي:

- ‌الملائكة:

- ‌السحر:

- ‌الفصل الخامس والثمانون: في أوابد العرب

- ‌مدخل

- ‌العراف:

- ‌الراقي:

- ‌الاستقسام بالأزلام:

- ‌الأحلام:

- ‌الفصل السادس والثمانون: الطيرة

- ‌مدخل

- ‌التثاؤب والعطاس:

- ‌بعض من أنكر الطيرة

- ‌الفأل:

- ‌الفصل السابع والثمانون: من عادات وأساطير الجاهليين

- ‌مدخل

- ‌عقيدتهم في الحيوان:

- ‌فهرس الجزء الثاني عشر

الفصل: ‌بعض من أنكر الطيرة

‌المجلد الثاني عشر

‌الفصل الرابع والسبعون: الكعبة

‌مدخل

الفصل الرابع والسبعون: الكعبة

وكعبة مكة، هي الكعبة الوحيدة التي بقيت محافظة على اسمها ومقامها حتى اليوم، من بين الكعبات التي كانت في الجاهلية. فقد اندثر أثر الكعبات الأخرى وزالت معالمها، ولم يبق لها مكان. وإلى الإسلام يعود ولا شك فضل بقاء "البيت الحرام". وبفضل الإسلام أيضًا جمع العلماء ما تمكنوا من جمعه من تاريخ المدينة القديم والمعالم المتصلة بها، ومن أخبار قريش، لما لهذا التاريخ من صلة بظهور الإسلام1.

ويذكر أهل الأخبار أن الكعبة كانت معروفة عند العرب خارج الحجاز كذلك، وأنهم كانوا يحجون إليها ويقدسونها ويقسمون بها. وأن ممن أقسم بها وذكر البيت

1 آل عمران، الآية 96، تفسير الطبري "ذ/ 6 وما بعدها"، "دار المعارف"، الطبرسي "2/ 476"، سورة الحج، الرقم 22، الآية 26، تفسير الطبري "3/ 47 وما بعدها، 66 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "7/ 78 وما بعدها"، سورة إبراهيم، الرقم 14، الآية 37، تفسير الطبري "13/ 152"، روح المعاني "13/ 212"، تفسير الطبرسي "6/ 317 وما بعدها"، البقرة، الآية 158 تفسير الطبري "2/ 43"، تفسير الطبرسي "1/ 238 وما بعدها"، سورة المائدة، الآية 97، تفسير الطبري "7/ 76 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "3/ 246 وما بعدها"، سورة الأنفال، الآية 34، تفسير الطبري "3/ 238"، تفسير الطبرسي "3/ 539"، سورة الإيلاف، الآية 3، تفسير الطبري "30/ 307 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "10/ 543".

ص: 5

في شعره "زهير"1 و"النابغة"2. وقد عرفت بـ "البيت العتيق"، وبـ "البيت المعمور"3. ورووا أن "عدي بن زيد العبادي" قصدها بقوله:

كلا يمينًا بذات الودع لو حدثت

فيكم وقابل قبر المساجد الزارا

دعاها "ذات الودع" لأنه كان يعلق الودع في ستورها4.

وقد أقسم بها شاعر جاهلي آخر، هو "عوف بن الأحوص" إذ قال:

وإني والذي حجت قريش

محارمه وما جمعت حراء

وشاعر عامري آخر، إذ قال:

فأقسم بالذي حجت قريش

وموقف ذي الحجيج إلى إلاله5

يريد بذلك مكة. وبمكة بيت الله.

ومعارفنا عن "البيت الحرام" ضئيلة، وفي الذي يذكره أهل الأخبار عنه ما لا يمكن قبوله ولا الأخذ به، لأنه لا يدخل في حدود التاريخ، ولغلبة الطابع القصصي عليه. ثم إن بعضه يناقض بعضًا، وفي بعضه تحيز وتعصب لبيت قرشي على بيت آخر. وحتى القسم الذي يتناول الأيام القريبة من الإسلام، لا يخلو من اضطراب ومن تناقض، وفيه شعر نحل على أناس، أقحمت أسماؤهم في قصص مكة، لتثبيته على طريقتهم في تثبيت الأخبار برواية شعر يتعلق بها.

ولم يعثر حتى الآن على كتابة جاهلية تكشف القناع عن تاريخ "البيت الحرام". ولذلك انحصر علمنا بتاريخه بما ورد في الموارد الإسلامية عنه.

وقد نصّ في القرآن الكريم، على أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان رفعا القواعد من البيت {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى،

1

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله

رجال بنوه من قريش وجرهم

ديوان زهير "15"، الثعالبي، ثمار القلوب "16".

2

فلا ورب الذي قد زرته حججا

وما هريق على الأنصاب من جسد

"فلا لعمر الذي مسحت كعبته" في رواية أخرى، ديوانه "25"، الثعالبي، ثمار "17".

3 البلدان "1/ 521"، "بيروت 1955".

4 تاج العروس "5/ 534"، "ودع".

5 المحبر "319"، شرح ديوان لبيد "21".

ص: 6

وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 126 وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1. وقد كان تأسيس البيت في أيام العرب الأولى، في أيام 01:35 م 27/ 09/ 2006جرهم، على روايات أهل الأخبار، وفيهم تزوج. وفي عهده ظهر ماء بئر زمزم2.

ويذكر أهل الأخبار أن مكة حرم آمن، لا يحل فيه قتال. ولم يكن أهله يقاتلون فيه، وأن أول بغي وقع فيه. كان حرب وقعت بين "بني السباق بن عبد الدار" وبين "بني علي بن سعد بن تميم"، حتى تفانوا. ولحقت طائفة من "بني السباق" بعك، فهم فيهم. وقيل أول بغي كان في قريش: بغي "الأقايش"، وهم "بنو أقيش" من بني سهم، بغى بعضهم على بعض، فلما كثر بغيهم على الناس، أرسل الله عليهم فأرة تحمل فتيلة، فأحرقت الدار التي كانت فيها مساكنهم فلم يبق لهم عقب3.

وقد بقي البيت معبودًا مقدسًا عند أهل مكة وعند غيرهم، غير أن المشركين حولوه إلى بيت لعبادة الأصنام والأوثان والشرك حتى عام الفتح، حيث أزال الرسول عنه آثار الجاهلية، وأمر بطمس معالم الوثنية. وصار حرمًا آمنًا خاصًّا بالإسلام لا يدخله مشرك ولا تطأ أرضه أقدام غير مسلم مؤمن بالله وبرسوله.

ويذكر أهل الأخبار أن أهل مكة كانوا يعظمون البيت، وأن من سنن تعظيمهم له، أن من علا الكعبة من العبيد فهو حرّ، لا يرون الملك من علاها، ولا يجمعون بين عز علوها وذل الرق4.

1 البقرة، السورة رقم 2، الآية 125 وما بعدها.

2 الطبري "1/ 275"، قصص الأنبياء، "69".

Shorter Ency. Of Islam، p. 178. ff، Grunbaum، Neue Beitage zu sem. Sogenkunde، S. 102، Goldziher، Die Richtungen der Islamischen Koranauslegung، S. 79، J. Harovitz، Koranische untersuchungen، S. 91.

3 الروض الأنف "1/ 28".

4 الثعالبي. ثمار "18".

ص: 7

8

وأنهم لم يكونوا يبنون بنيانًا مربعًا بمكة تعظيمًا للكعبة1. وأن أول من بنى بها بيتًا مربعًا، "بديل بن ورقاء" الخزاعي، وهو أول من اتخذ بمكة روشنًا، وكانوا قبل ذلك يتحامون التربيع في البناء كيلا يشبه بناء الكعبة2 وأن أول من سقف بمكة سقفًا "قصي بن كلاب"، وكان الناس قبل ذلك إنما ينزلون في العريش وأن أول من بوب بمكة بابًا "حاطب بن بلتعة"3.

و"بديل بن ورقاء"، هو "بديل بن ورقاء بن عبد العزى"، شريف كتب إليه النبي يدعوه إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة4. فلو أخذنا برواية من قال أنه كان أول من بني بيتًا مربعًا بمكة، وأول من اتخذ بها روشنًا. وجب جعل حدوث ذلك في أيام النبي، أو بسنين قليلة قبل المبعث، فهل يعقل ذلك؟ والروشن الرف، و "الرشن" الكوة، من الألفاظ المعربة عن الفارسية5.

وأما "حاطب بن أبي بلتعة" فهو "حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو بن سلمة بن صعب بن سهل اللخمي"، حليف بني أسد بن عبد العزى، من الصحابة وممن شهد بدرًا، كان حليفًا للزبير، وكان قد كتب كتابًا إلى قريش يخبرهم بتجهيز رسول الله إليهم، فضبط الكتاب قبل وصوله مكة، واعتذر.

فهو من الصحابة6، وذكر أن الرسول أرسله إلى "المقوقس" صاحب الإسكندرية7. فهل يعقل أن يكون أول من بوب بابًا بمكة، وقد كانت البيوت قبله بمكة منذ وجدت، فكيف كان يدخل الناس إليها، وقد رأينا قصصًا لأهل الأخبار يروونه عن امتناع "الحمس" عن دخول البيوت من أبوابها، والحمس هم قريش وأهل مكة قبل دخول "حاطب" إليها!

ويذكر أهل الأخبار أن البيت قد تهدم مرارًا، وأن السيول قوضت قواعده عدة مرات، لذلك لم يتمكن "بيت إبراهيم وإسماعيل" من البقاء، ولكن

1 الثعالبي، ثمار القلوب "16".

2 صبح الأعشى "1/ 426".

3 صبح الأعشى "1/ 426".

4 الاشتقاق "280".

5 تاج العروس "9/ 216"، "رشن".

6 الإصابة "1/ 300"، "1538"، المحبر "72".

7 المحبر "76".

ص: 8

الجاهليين حرصوا على المحافظة على أسسه وشكله وموضعه. وإنهم كانوا بعد كل هدم أو تصدع يصيبه يحاولون إرجاعه إلى ما كان عليه في أيام آبائهم وأجدادهم جهد إمكانهم، لا يحدثون فيه تغييرًا ولا يدخلون على صورة بنائه تبديلًا.

و"البيت الحرام" بناء مكعب، ولذلك قيل له "الكعبة". وصفه أهل الأخبار، فقالوا: كانت الكعبة قبل الإسلام بخمسة أعوام صنمًا، أي حجارة وضعت بعضها على بعض من غير ملاط، فوق القامة، وقيل كانت تسع أذرع من عهد إسماعيل، ولم يكن لها سقف، وكان لها باب ملتصقة بالأرض. وكان أول من عمل لها غلقًا هو تبع1. ثم صنع "عبد المطلب"، لها بابًا من حديد، حلاها بالذهب من ذهب الغزالين. وهو أول ذهب حليت به الكعبة2.

ووصف أهل الأخبار لها على النحو المذكور، يجعلنا نتصورها وكأنها خربة بدائية بسيطة، هي ساحة تكاد تكون مربعة أحيطت بجدار من أحجار رضمت بعضها فوق بعض من غير مادة بناء تمسك بينها، تحط في فنائها الطيور وسباع السماء، ولا يحول بين أرضها وبين أشعة الشمس المحرقة والأمطار التي تنزل على مكة أحيانًا على شكل مياه خارجة من أفواه قرب، أي حائل. إنها في الواقع حائط من أحجار لا يزيد ارتفاعه على قامة إنسان.

ويذكر بعض أهل الأخبار أن أول من بنى جدار الكعبة، "عامر" الجادر من الأزد. فقيل له:"الجادر"3. وكان أول من جدر الكعبة بعد إسماعيل4.

وأول تسقيف لها كان –كما يذكر أهل الأخبار- في التعمير الذي أجرى عليها في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، وذلك قبل الإسلام بخمس سنين، وعمر الرسول يومئذ خمس وثلاثون سنة. وسبب ذلك حريق أصابها –كما يزعمون- فقرروا إعادة بنائها، واجتمعوا وعملوا رأيهم فكان قرارهم تسقيفها بخشب، وقد أقيم السقف على ستة أعمدة من الخشب، وزعت في صفين. وزادوا فيها تسع أذرع، فصارت ثماني عشرة ذراعًا، ورفعوا بابها عن الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج أو سلم. ورفعوا من جدرانها التي بنوها بساف

1 الروض الأنف "1/ 127"، الطبري "2/ 283 وما بعدها".

2 الروض الأنف "1/ 101".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 64"، "صادر".

4 الاشتقاق "25".

ص: 9

من حجر وساف من خشب، حتى زادت على ما كانت عليه في الأصل1.

وورد في الأخبار أن رسول الله لما دخل الكعبة عام الفتح/ قام عند سارية فدعا، وفيها ست سوار2.

وذكر أهل الأخبار، أن سبب بنيان الكعبة، هو أنها كانت رضمة فوق القامة، وأنها كانت قد تصدعت حتى تداعت جدرانها وتساقطت أحجارها، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا من قريش وغيرهم سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، فأجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها3.

ولم يكن هذا البناء الجديد بناءً فخمًا، كما يظهر من الوصف الوارد في كتب أهل الأخبار. كل ما فيه أنه غرفة سقفت الآن بخشب، أقيم سقفها على صفين من أعمدة، كل صف ذي ثلاثة أعمدة. وأما حيطانها، فقد زيد ارتفاعها فصار ثماني عشرة ذراعًا، بعد أن كانت تسع أذرع، أو ارتفاع قامة أو أعلى من ذلك بقليل. وقد بنيت هذه المرة من مادة بناء قوية، جعلت مدماكًا من حجارة ومدماكًا من خشب، فكان الخشب خمسة عشر مدماكًا، والحجارة ستة عشر مدماكًا. وجعلوا سقفها مسطحًا له ميزاب، يسيل منه ماء المطر. وهو على الجملة لا يقاس بشيء بمعابد العربية الجنوبية مثل معبد "المقه" بمدينة مأرب أو المعابد الأخرى التي تمكن الباحثون من الوقوف على أسسها ومعالمها، من حيث مساحة البناء أو الفن أو الروعة والعظمة.

ويذكر أهل الأخبار أن أهل مكة استعانوا بتسقيف البيت بخشب سفينة رجل من تجار الروم رمى البحر بسفينته إلى الساحل إلى "الشعيبة"، وهو مرفأ السفن من ساحل الحجاز، وكان مرفأ مكة، ومرسى سفنها قبل "جدة". فجاءوا بالخشب إلى مكة، وكان بها نجار "قبطي"، استعين به في تسقيف البيت بذلك الخشب. وذكر أن الذي سقف البيت علج كان في السفينة، يحسن النجارة اسمه

1 الروض الأنف "1/ 127 وما بعدها"، الطبري "2/ 283 وما بعدها"، "دار المعارف"، البلدان "7/ 259"، "الكعبة"، مروج الذهب "1/ 169"، "محمد محيي الدين عبد الحميد".

2 صحيح مسلم "4/ 97"، "باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره والصلاة فيها والدعاء في نواحيها كلها".

3 الطبري "2/ 283".

ص: 10

"باقوم"، فجيء به مع الخشب، وسقف الكعبة. وقد سألهم عن كيفية تسقيفها هل يجعل السقف قبة أو مسطحًا، فأمروه أن يكون مسطحًا، فعمله على ما أمروه به1. ويذكرون أن قريشًا حين أرادوا بناء الكعبة أتى "عبد الله بن هبل بن أبي سالم"، ومعه مال، فقال: دعوني أشرككم في بنائها، فأذنوا له فبنى الجانب الأيمن، فـ "لبني كلب يد بيضاء في نصرتهم لقريش حين بنوا الكعبة"2. وصاحب هذا الخبر هو "ابن الكلبي"، ولا أستبعد أن يكون خبره هذا من وحي العاطفة نحو قومه الكلبيين.

وذكر أن "باقوم" الرومي، كان يتجر إلى "المندب"، فانكسرت سفينته بالشعيبة، فخرجت إليه قريش فأخذوا خشبها. وقالوا له ابنها على بنيان الكنائس، وقال لقريش: هل لكم أن تجروا عيري في عيركم، يعني التجارة، وأن أمدكم بما شئتم من خشب ونجار فتبنوا به بيت إبراهيم3.

ويذكر الإخباريون أنه كان في بطن البيت قرنا كبش معلقان في الجدار تلقاء من دخلها يخلّقان ويطيّبان إذا طيب البيت، وقد علق عليهما معاليق من حلي كانت تهدى إلى الكعبة. ويرمز القرنان إلى قرني الكبش الذي ذبحه إبراهيم الخليل4. وقد بقيا في الكعبة إلى أيام "عبد الله بن الزبير" فاحترقا مع الكعبة5.

وقد زوقت الكعبة بعد هذا الحريق، زوق سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها، وجعلت "في دعائمها صور الأنبياء وصور الشجر وصور الملائكة، فكان فيها صورة إبراهيم خليل الرحمان، شيخ يستقسم بالأزلام، وصورة عيسى بن مريم وأمه، وصورة الملائكة عليهم السلام أجمعين. فلما كان يوم فتح مكة، دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، البيت، فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب، فجاء بماء زمزم، ثم أمر بثوب فبل بالماء، وأمر بطمس تلك الصور فطمست. ووضع كفيه على صورة عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام. وقال:

1 الأزرقي "1/ 104"، ابن هشام "1/ 130 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "1/ 130".

2 تاج العروس "4/ 109"، "بس".

3 الإصابة "1/ 140 وما بعدها"، "رقم 583".

4 الأزرقي "1/ 100".

5 القاسمي، شفاء الغرام "19".

ص: 11

امحُ جميع الصور، إلا ما تحت يدي، فرفع يديه عن عيسى ابن مريم وأمه. ونظر إلى صورة إبراهيم، فقال: قاتلهم الله جعلوه يستقسم بالأزلام، ما لإبراهيم والأزلام"1. وقد بقيت صورة عيسى ابن مريم وأمه، إلى أيام عبد الله بن الزبير، فلما تهدم البيت، تهدمت الصورة معه2.

وأعاد الجاهليون –كما يذكر أهل الأخبار- الصنم هبل إلى مكانه، نصبوه أمام "الغبغب"، وأعادوا معه بقية الأصنام، التي كانت تتعبد لها بعض القبائل. ووضعوا حول الكعبة أصنامًا أخرى، يجب أن تكون من الدرجة الثانية في المنزلة أي أصنام قبائل ضعيفة، لذلك وضعت خارج البقعة المقدسة. وقد أوصلت الروايات عدة أصنام الكعبة عام الفتح إلى "360" صنمًا، كان بعضها منحوتًا من الحجارة، وبعضها معمولًا من النحاس، وبعضها قوارير، وكان صنم خزاعة قوارير صفر. ولما دخل الرسول مكة، أمر بها أفزيلت وحطمت، فلم يبق من يومئذ بها صنم3. وذكر أن النبي دخل مكة "وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نُصبًا. فجعل يطعنها بعود كان بيده. ويقول:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} 4.

وذكر في بعض الروايات أن رسول الله بعد أن طاف بالبيت سبعًا على راحلته دخل الكعبة فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها5. وأنه لما طاف بالبيت وجد حولها أصنامًا مشدودة بالرصاص، فحطمت، وأعظمها "هبل" صنم قريش6.

ويتبين من الروايات الواردة عن بناء الكعبة وعن اختلاف أهل مكة وتشاحنهم وتنافسهم فيما بينهم على شرف وضع "الحجر الأسود" في مكانه أنه كان لهذا الحجر أهمية خاصة في نظرهم، وأنه كان أقدس شيء عندهم. وإلا لما اختلفوا

1 الأزرقي "1/ 104 وما بعدها"، السيرة الحلبية "3/ 87"، ابن الأثير "2/ 105"، نهاية الأرب "17/ 313".

2 الأزرقي "1/ 104".

3 السيرة الحلبية "1/ 144"، ابن الأثير "2/ 105".

4 صحيح مسلم "5/ 173"، "باب إزالة الأصنام من حول الكعبة"، إرشاد الساري "7/ 210"، "باب وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا"

5 الروض الأنف "2/ 274"، نهاية الأرب "17/ 312".

6 الروض الأنف "2/ 276"، نهاية الأرب "17/ 314".

ص: 12

هذا الاختلاف على وضعه، حتى ليمكن أن يقال إنه كان فوق أصنام الكعبة منزلة، بدليل عدم ورود إشارة ما إلى وقوع اختلاف بشأن إعادة صنم من تلك الأصنام إلى مواضعها. ولو كانت الأصنام أقدس منه، لكان الاختلاف على شرف وضع تلك الأصنام لا الحجر الأسود بالطبع. وهذا التقديس الزائد يحملنا على التفكير في أسبابه وفي الميزة التي ميزت هذا الحجر على الأصنام وهي في طبيعتها حجارة مثله. لقد ذهبت "ولهوزن" إلى أن قدسية البيت عند أهل الجاهلية، لم تكن بسبب الأصنام التي فيه، بل كانت بسبب هذا الحجر. لقد كان هذا الحجر مقدسًا في ذاته، وهو الذي جلب القدسية للبيت، فصار البيت نفسه مقدسًا، مقدسًا في حد ذاته، بحجره هذا الذي هو فيه، ولعله شهاب "نيزك"، أو جزء من معبود مقدس قديم1.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن البيت لم يكن إلا بمثابة إطار للحجر الأسود الذي كان من أهم معبودات قريش، لأنه يمثل بقايا حجر قديم كان مقدسًا عند قدماء الجاهليين، غير أنه لم يكن معبود قريش الوحيد2.

ويلاحظ أن التقرب إلى الأحجار في بيوت العبادة كانت شائعة بين الجاهليين. وقد ذكر أن في "غيمان" موضع عبادة وفيه "حجر قحمم""حجر قاحمم""حجر قاحم"، وهو يشبه الحجر الأسود الذي كان يتقرب إليه الجاهليون في مكة. والحجر الذي كان في كعبة نجران وفي "تسلال"، وفي مواضع أخرى عديدة ذكرها "الهمداني". وقد عثر على مقابر جاهلية عديدة تبين للذين نقبوا فيها أن لها صلة بعبادة الأحجار، وأن تلك المقابر أقيمت عند موضع مقدس لوجود حجر مقدس فيه3.

وقد كان الجاهليون يلمسون الحجر الأسود للتبرك به، وهو مبني في جدار الكعبة، فيكون اللمس بالطبع للجانب البارز منه. وبين موضع "الحجر الأسود" وباب البيت يكون "الملتزم"، وفي الناحية الشمالية الغربية "الحجر" أو "الحطيم".

1 Reste، S. 74.

2 المشرق: "1941"، تموز-أيلول، "ص 247".

3 Beitrage، S. 84.

ص: 13

وكانت الجاهلية تتحالف وتحلف عنده1. ويقال للجهة التي فيها الحجر الأسود "الركن". وذكر أن العرب في الجاهلية كانت تطرح بموضع الحطيم ما طاقت به من الثياب، فيبقى حتى يتحطم بطول الزمان، فسمي الموضع حطيمًا2.

وقد كانت الجاهلية تتحالف عند "الملتزم" بالأيمان، وتدعو على الظالم، وتعقد الحلف3.

وذكر "اليعقوبي" أن الجاهليين كانوا قد وضعوا "إسافًا" و"نائلة"، داخل المسجد الحرام. وضعوا كل واحد منهما على ركن من أركان البيت، فكان الطائف إذا طاف بدأ بإساف فقبله وختم به. وذكر أنهم نصبوا على الصفا صنمًا، يقال له "مجاور الريح"، وعلى المروة صنمًا يقال له "مطعم الطير"4.

وفي روايات أهل الأخبار عن تزويق الكعبة بالصور لبس وغموض: وهي روايات عديدة، يفهم من بعضها أن هذه الصور كانت بالزيت، رسمت على دعائم السقف. ويفهم من بعض آخر أنها كانت قد رسمت على أشياء متنقلة، وأنها كانت معلقة على جدران البيت. ويفهم من بعض الروايات أن الرسول أمر فطمست معالم جميع الصور، ويفهم من بعض آخر، أنه استثنى منها صورة مريم وابنها عيسى، وأنها بقيت كما ذكرت إلى أيام عبد الله بن الزبير. فلما تهدم البيت: تهدمت الصورة معه. أما رسم شجر أو صور ملائكة أو أشباه ذلك في الكعبة، فأمر لا اعتراض عليه، إذ يجوز أن يكون ذلك في معبد وثني، يضم الأصنام. ولكن ما للوثنية والأنبياء، وما شأن الشرك بمريم وبابنها وببقية الرسل حتى ترسم صورهم على جدران أو أعمدة البيت؟ ثم هل كانت الكعبة مزوقة قبل هذا التزويق بالرسوم والصور؟ وهل كانت هذه الصور من بقايا صور قديمة؟ أم هي صور حديثة رسمت بعد أن أعادت قريش بناء البيت؟ ورأيي أن هذه الصور هي من عمل عمال نصارى أراهم الروم الذين جلبهم أهل مكة مع "باقوم" بعد تحطم سفينتهم عند الساحل للاتجار معهم ولبناء الكعبة.

1 تاج العروس "3/ 125"، "8/ 251"، اللسان "4/ 166"، "15/ 29"، البلدان "2/ 223 وما بعدها"، "5/ 190"، أخبار مكة، للأزرقي "246"، تاج العروس "9/ 59".

2 اللسان "12/ 139"، "حطم"، تاج العروس "8/ 251".

3 البلدان "8/ 146""الملتزم".

4 اليعقوبي "1/ 224".

ص: 14

و "باقوم" كما يقول الإخباريون هو الذي أشرف على إقامة البناء وهندسته. وهو الذي سقف البيت وأقامه على عمد. ولا أستبعد أن يكون هو الذي رسم تلك الصور وحده أو بالاستعانة بإخوانه من بني جنسه الروم. وقد كان هؤلاء نصارى، فرسموا على جدران البيت أو أعمدته صور قصص كتابي، ومنه صور الأنبياء، للزينة والزخرف. لم يجد أهل مكة فيها ما يناقض عقيدتهم في الأصنام. ومن يدري، فلعله رسم لهم ذلك على أن له صلة بعقيدتهم التي كانوا عليها، فلم يعترضوا لذلك عليه. أما طمس الإسلام لتلك الصور، فللعلماء في ذلك كلام. وقد أشير إليه في كتب الحديث، وأكثرهم على أن الرسول لم يستثن من ذلك الطمس صورة1.

وفي الحرم بئر "زمزم"، وهناك مقام إبراهيم، وبين زمزم ومقام إبراهيم كان موضع الذبح، ذبح القرابين. ويرى "ولهوزن" احتمال كون موضع المقام هو المكان الذي كان الجاهليون يذبحون فيه2.

ويرجع الإخباريون تاريخ بئر "زمزم" إلى يوم بناء الكعبة وعهد إسماعيل. ويقال لها "بئر إسماعيل" أيضًا. وهي في الحرم في جهة الجنوب الشرقي من الكعبة في الجهة المقابلة للركن. ولا نعرف من أمرها شيئًا يذكر. ويظهر من روايات أهل الأخبار عنها أنها دفنت في أيام جرهم، وأن أهل مكة صاروا يستقون الماء من آبار أخرى احتفروها، ويستوردونه من الخارج إليها، حتى إذا كانت أيام عبد المطلب، ألقي في قلبه أن يحتفرها، فحفرها واستخرج منها كنزًا، وظهر الماء بها منذ ذلك اليوم3. ولأهل الأخبار تفاسير عديدة للفظة "زمزم"، تدل على أنهم لم يكونوا على علم بأصل التسمية، مما جاء فيها أن الملك "سابور" لما حج البيت أشرف عليها وزمزم فيها، فقيل لها "زمزم"4. وهكذا جعلوا "سابور" من المؤمنين الحجاج للبيت الحرام، المتبركين بماء زمزم!

1 الأزرقي "1/ 104""تعليقات السيد رشدي الصالح ملحس على الأزرقي".

2 Reste، S. 76.

3 الطبري "2/ 251""دار المعارف"، الروض الأنف "1/ 80، 98 وما بعدها"، الأزرقي "1/ 24، 280 وما بعدها"، البلدان "2/ 643"، Shorter Ency. of Islam، P. 657.

4 البلدان "3/ 147"، الصحاح "5/ 1945"، اللسان "12/ 275"، البكري، معجم "2/ 700"، عمدة القاري "9/ 277"، البلدان "2/ 940 وما بعدها".

ص: 15

وكان حرم "الكعبة" كما يظهر من روايات أهل الأخبار واسعًا شاسعًا ذا نبت وشجر. ولم يجرؤ أحد على احتطاب شجره أو قطعه لحرمة المكان ولحرمة ما فيه، فبقيت أشجاره على ما هي عليه، حتى إذا ما كانت أيام "قصي"، ضاقت مكة بمن وفد عليها من قريش، ممن جاء بهم "قصي" إليها، وقطعها "قصي" رباعًا، وأرادوا البنيان، ولكنهم هابوا قطع شجر الحرم للبنيان، وتذكر رواية أنهم قالوا لقصي: كيف نصنع من شجر الحرم؟ فحذرهم قطعها وخوفهم من العقوبة في ذلك. فكان أحدهم يحوف بالبنيان حول الشجرة حتى تكون في منزله1. وتذكر روايات أخرى العكس. تذكر أن قريشًا هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه2. وبذلك تقلصت أرض الحرام وقلت أشجاره بالتدريج.

وتذكر رواية أن أهل مكة كانوا يهابون حتى في الإسلام قطع شجر الحرم. وقطع كل شجرة دخلت من أرض الحرم في دور أهل مكة. وأن "عمر" لما قطع "دوحة" كانت في دار "أسد بن عبد العزى"، وكانت تنال أطرافها ثياب الطائفين بالكعبة، وذلك قبل أن يوسع المسجد، وداها بقرة. وتذكر أيضًا أن "عبد الله بن الزبير" حين ابتنى دورًا بـ "قعيقعان" ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان، وجعل دية كل شجرة بقرة. وذكر أن "أبا حنيفة"، قال إن كانت الشجرة التي في الحرم مما يغرسها الناس ويستنبتونها فلا فدية على من قطع شيئًا منها، وإن كان من غيرها ففيه القيمة بالغًا ما بلغت3.

وفي الحديث أن الله حرم مكة، وحرم شجر الحرم في جملة ما حرمه على الناس4.

ويظهر أن أرض مكة كانت كلها في الأصل قبل أيام "قصي" حمى للكعبة، على عادة الجاهليين في تخصيص "حمى" لأربابهم تكون حول بيوتها، ولهذا كانت أشجار هذا الحمى أشجارًا مقدسة لا يجوز قطعها ولا احتطابها، سوى أخذ بعض أغصانها أو لحائها لعمل قلائد منها للاحتماء منها. فلما استباح أهل مكة لأنفسهم

1 الروض الأنف "1/ 87 وما بعدها".

2 الطبري "2/ 258""دار المعارف".

3 الروض الأنف "1/ 87 وما بعدها".

4 الروض الأنف "1/ 128".

ص: 16

التطاول على الحرم، أي على هذا الحمى، بقطع شجره وتحويل أرضه إلى بناء، أو بإبقاء بعض أشجاره في داخل الدور، بقوا ينظرون إلى ذلك الشجر الباقي في البيوت نظرة هيبة وتقدير، باعتبار أنه من بقايا الحرم القديم. وبذلك صغرت مساحة الحرم، وقلت مساحته، حتى اضطر الخليفة "عمر" إلى توسيعه بشراء البيوت التي أقامها الناس عليه وإدخالها في الحرم من جديد، وذلك حين ضيق الناس على الكعبة وألصقوا دورهم بها، فقال:"إن الكعبة بيت الله، ولابد للبيت من فناء، وأنكم دخلتم عليها ولم تدخل عليكم"، فاشترى بعض الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها، ثم اشترى عثمان دورًا أخرى وأغلى في ثمنها1 ثم زاد في المسجد من جاء بعدهما حتى وصل إلى النحو الذي هو عليه الآن.

ولم يكن للحرم في الجاهلية سور، إنما كانت تحدد معالمه وحدوده أنصاب نصبت على أطرافه. لتكون علامة على ابتدائه وانتهائه. أما ما نراه في الوقت الحاضر من وجود سور مرتفع له، أي حائط به غرف، فإنه مما حدث في الإسلام. وذكر أهل الأخبار أن الحرم قد ضرب على حدوده بالمنار القديمة التي بَيَّنَ إبراهيم مشاعرها، وكانت قريش تعرفها في الجاهلية والإسلام، لأنهم كانوا سكان الحرم، ويعلمون أن ما دون المنار إلى مكة من الحرم، وما وراءها ليس من الحرم. فما كان دون المنار، فهو حرم لا يحل صيده ولا يقطع شجره، وما كان وراء المنار، فهو من الحل يحل صيده، إذا لم يكن صائده محرمًا2.

1 الروض الأنف "1/ 129 وما بعدها".

2 تاج العروس "8/ 239"، "حرم"، اللسان "12/ 122"، "حرم".

ص: 17

‌الكسوة:

وكسوة البيت عادة قديمة، كان يقوم بها الجاهليون. ينسبها الإخباريون إلى "تبع أسعد الحميري"، فيذكرون أنه كساها بالأنطاع، ثم كساها بثياب جدة من عصب اليمن، أغلى ثياب معروفة في تلك الأوقات1. ولا يستبعد أن يكون الإكساء من بقايا المنشأ القديم للبيت، حيث كان خيمة في الأصل. وقد

1 الأزرقي "1/ 165"، الروض الأنف "1/ 24".

ص: 17

ورد في الأخبار أنه كان في موضع البيت خيمة قبل أن تكون الكعبة1. وكذلك كان معبد بني إسرائيل خيمة في الأصل قبل أن يبنى الهيكل.

ويذكرون أن التبع الذي كسا البيت، هو التبع الذي أتى به "مالك بن عجلان" إلى يثرب لطرد اليهود عنها. وذكروا أن ذلك التبع هو "أسعد أبو كرب الحميري"2. وقد كساها الوصايل، ثياب حيرة من عصب اليمن. وكانت الكعبة تكسى بالحبرة والبرود وغيرها من عصب اليمن، تكسى بها ويوضع ما يفضل منها في خزانة الكعبة. فإذا تمزقت الكسوة، تستبدل بكسوة أخرى تؤخذ من الخزانة. تكسى من الداخل والخارج، وتطيب بالحلوق وتبخر بالمجامر3.

وقد سبق لي أن تحدثت عن "التبع أسعد"، وذكرت ما قاله رواة الأخبار عنه، وما جاء عنه في نصوص المسند. وكان قد علق في ذاكرة أهل الأخبار أشياء عنه وعن بعض من جاء بعده، زوقت ونمقت. على طريقتهم في رواية أكثر أخبار اليمن. ولعل ما ذكروه عن إكسائه البيت، هو من مصنوعاتهم التي وضعوها في الإسلام ليجعلوا لأهل اليمن فضلًا على الكعبة، فضل يسبق فضل العدنانيين عليها، وقد رأينا أنهم أوجدوا لهم جملة أنبياء نسبوهم إلى قحطان، ووضعوا أشياء أخرى كثيرة، في إظهار فضل القحطانيين على الإسماعيليين المتعربين يوم فات الحكم من قحطان وصار في أهل مكة في الإسلام. فكان النزاع القحطاني العدناني المعروف.

ولو جارينا أهل الأخبار، وأخذنا بروايتهم في أن التبع "أسعد أبو كرب الحميري"، كان أول من كسا الكعبة، نكون قد رجعنا بمبدأ تاريخ إكساء الكعبة إلى نهاية القرن الرابع وأوائل القرن الخامس للميلاد. وقد سبق أن تحدثت عن هذا الملك في الجزء الثاني من هذا الكتاب4.

ويظهر من روايات أهل الأخبار أن كسوة الكعبة لم تكن كسوة واحدة، ولا من نسيج واحد، بل كانت أنطاعًا، أي أبسطة من أدم، وحبرة وبرودًا، وغيرها من عصب اليمن. وهي برود يمنية يعصب غزلها ثم يصبغ وينسج، فيأتي

1 الأزرقي "1/ 6""ذكر هبوط آدم إلى الأرض".

2 البلدان "4/ 463".

3 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 173 وما بعدها".

4 "ص 569 فما بعدها".

ص: 18

موشى، وقيل هي برود مخططة1. وذكر أن النبي كساها الثياب اليمانية، وأن عمر وعثمان كسواها بالقباطي2.

وذكر أن أول من كسا البيت الحرير "نتيلة بنت جناب بن كليب" وهي من "بني عامر" المعروف بالضحيان، وكان من ملوك ربيعة. وكان العباس بن عبد المطلب ابنها، قد ضاع وهو صغير، فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فكسته، فهي أول من كساه ذلك3. وقيل أول من كسا البيت الديباج خالد بن جعفر بن كلاب. أخذ لطيمة من البر وأخذ فيها أنماطًا فعلقها على الكعبة4.

وروي أنهم كانوا يكسون الكعبة يوم "عاشوراء"، وذكر أن "بني هاشم" كانوا يكسونها يوم التروية بالديباج، لتظهر في أحسن حال، ويراها الناس على ذلك. أما إذا حل يوم عاشوراء، فأنهم يعلقون الأزار عليها. وورد أنهم كانوا يكسون الكعبة بالديباج يوم التروية، فيعلق عليها القميص ولا يخاط، حتى إذا ما انصرف الناس من "منى" خيط وترك الإزار، ثم تكسي بالقباطي يوم عاشوراء، ويعلق عليها الإزار، ويوصل الديباج5.

ولا نستبعد احتمال كون يوم "عاشوراء" من الأيام التي كانت لها حرمة وقدسية عند أهل الجاهلية، وإن كنا نجهل كل شيء عنه وعن سبب احتفال أهل مكة به، وصومهم فيه. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى احتمال تأثر قريش بعاشوراء اليهود، كأن يكون أحد سادة مكة قد أخذ ذلك اليوم عنهم فعظمه، فأخذه أهل مكة عنه وجعلوه سنة لهم. غير أن من الجائز ألا يكون لهذا اليوم صلة بعاشوراء اليهود، وإنما كان من تقاليد أهل مكة القديمة المعروفة عند غيرهم أيضًا، ولا صلة له بيود يهود6.

ويظهر أنهم كانوا يضعون الأكسية الجديدة فوق الأكسية القديمة، فلا يرفعونها

1 اللسان "1/ 604"، "عصب".

2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 173 وما بعدها".

3 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507"، كتاب نسب قريش "18"، الروض الأنف "1/ 77".

4 الروض الأنف "1/ 77".

5 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 173 وما بعدها".

6 Shorter Ency.، P. 47

ص: 19

عنها، فكانت تتراكم بعضها فوق بعض، فلما جاء الإسلام، استمروا على ذلك أمدًا، ثم رأى "شيبة بن عثمان" سادن البيت، تجريدها من أكسية الجاهلية، لأنها رجس من عمل الجاهليين فأزيلت. ثم رأى الخليفة المهدي، أن الأكسية قد اثقلت الكعبة، فأمر بتجريدها، تخفيفًا عنها، واكتفى بثلاث كسي من القباطي والخز والديباج1.

وذكر أهل الأخبار أن أول من حلل البيت "عبد المطلب"، جد النبي، لما حفر "بئر زمزم"، وأصاب فيه من دفن جرهم غزالين من ذهب، فضربهما في باب الكعبة2.

1 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 173 وما بعدها"، الإصابة "2/ 157"، "شيبة بن عثمان".

2 البلدان "4/ 463 وما بعدها".

ص: 20

‌المال الحلال:

وقد تجنب أهل الجاهلية بناء معابدهم بمال حرام، فلما أرادت قريش بنيان الكعبة نادى مناديهم: لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبًا. لا تدخلوا فيه مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس1. هذا ما يذكره أهل الأخبار ويروونه عن بناء البيت الحرام.

1 الروض الأنف "1/ 130 وما بعدها".

ص: 20

‌بقية محجات العرب:

ومن محجات العرب وبيوتها المعظمة: بيت عرف بـ "بس" لغطفان، كانت تعبده. بناه "ظالم بن أسعد بن ربيعة بن مالك بن مرة بن عوف"، لما رأى قريشًا يطوفون بالكعبة ويسعون بين الصفا والمروة، فذرع البيت، وأخذ حجرًا من الصفا وحجرًا من المروة، فرجع إلى قومه، فبنى بيتًا على قدر البيت ووضع الحجرين، فقال: هذان الصفا والمروة فاجتزئوا به عن الحج، فأغار "زهير بن جناب الكلبي"، فقتل ظالمًا وهدم بناءه. وورد في رواية أخرى أن "العزى" سمرة عبدتها غطفان. أول من اتخذها "ظالم بن أسعد"، فوق ذات

ص: 20

عرق إلى البستان بتسعة أميال، بنى عليها بيتًا وسماه بسًا، وأقام لها سدنة، فبعث إليها رسول الله "خالد بن الوليد"، فهدم البيت وأحرق السمرة1.

وفي أخبار أهل الأخبار عن بيت "العزى"، أوهام وتناقض. فتراهم يجعلون "العزى" صنمًا مرة ويجعلونها "سمرة" أو "شجرة" أو ثلاث سمرات مرة أخرى، ثم تراهم يخلطون بين البيت وبين الحرام الذي كان حوله، كما بينت ذلك في أثناء حديثي عن "العزى"2. والذي أراه، أنه كان للعزى بيت هو "بس"، فيه صنم العزى، وكان حوله حرم، كحرم مكة، به "سمرة" أو ثلاث سمرات، كان الناس يقدسونها أيضًا ويتقربون إليها بالنذور. وهي جزء متمم لبيت العزى. فلما أمر الرسول خالد بن الوليد، بهدم العزى، هدم البيت وحطم الصنم، فرجع، فلما سأله الرسول عنه، واستفسر منه عن السمرة أو السمرات الثلاث، وعلم منه أنه لم يقطعها، أمره بالعودة إليها وقطعها اجتثاثًا لكل علامة من علائم عبادة هذا الصنم. فقطعها. فقطع عن عُبّادها كل صلة لهم كانت تربطهم بذلك الصنم.

ومن محجات الجاهليين، بيت الصنم "ذو الخلصة"، ذكر أنه كان بتبالة، وكان يسمى بـ "الكعبة اليمانية"، تمييزًا له عن الكعبة التي عرفت بـ "الكعبة الشامية". وذكر أنه نفسه عرف بـ "الكعبة الشامية"، كما دعي بـ "كعبة اليمامة"، وقد تحدثت عنه في أثناء كلامي على هذا الصنم. ولما هدم البيت والصنم بأمر الرسول، صار مكانه موضع عتبة باب مسجد تبالة. وذكر أن البيت هو "ذو الخلصة"، والصنم "الخلصة"، وقيل "ذو الخلصة: الصنم نفسه"3 وقد عرف البيت بـ "الكعبة" كذلك، لأنه كان بناءً مكعبًا. وكان بيتًا في خثعم باليمن، وكانت بجيلة تعظمه كذلك. به صنم، هو "ذو الخلصة" ونصب يذبحون عليه4. ويظهر أنه كان من البيوت المعظمة الكبيرة، بدليل ما ذكره العلماء من أن الرسول قال لجرير بن عبد الله البجلي: "ألا تريحني من ذي الخلصة"؟ فذهب إليه وأحرق البيت وهدم الصنم وكسر النصب. وذكر

1 تاج العروس "4/ 109"، "بس"، مراصد الإطلاع "937".

2 البلدان "1/ 412"، "بساء".

3 تاج العروس "4/ 389"، "خلص".

4 إرشاد الساري "6/ 424 وما بعدها".

ص: 21

أن موضع "ذي الخلصة"، صار مسجدًا جامعًا لبلدة يقال لها: العبلات من أرض خثعم1.

وقد ذكر "أبو العلاء المعري" أن فدك كانت في الجاهلية ذات أصنام. وكانوا يقصدونها للحج، وذكر تلبيتهم لها2.

وكان بيت "اللات" من البيوت المعظمة عند ثقيف. كانوا إذا عاد أحدهم من سفر، فأول ما يفعله أن يأتي "الربة"، وهي اللات ليتبرك بها. وهي الصخرة التي كانت تعبدها ثقيف.. ولما أسلم "عروة بن مسعود الثقفي"، وعاد إلى قومه دخل منزله، فأنكر قومه عليه دخوله قبل أن يأتي الربة، يعني اللات. وفي حديث وفد ثقيف: كان لهم بيت يسمونه الربة. يضاهون بيت الله3. وكانت ثقيف تضاهي أهل مكة، وتنافسهم على الزعامة. وكان لبيت اللات أستار وسدنة وحوله فناء معظم، يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب4.

ولأهل اليمن بيوت تعبدوا لها، وبقيت معظمة عندهم إلى الإسلام. من ذلك بيت عرف بـ "بيت رئام"ز ذكر "ابن اسحاق" أن أهل اليمن كانوا يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون. وكانوا يعتقدون أن رئامًا كان فيه شيطان، وكانوا يملأون له حياضًا من دماء القربان، فيخرج فيصيب منها، ويكلمهم، وكانوا يعبدونه5. وبيت غمدان، وقد ذكروا أن الضحاك بناه باليمن على اسم الزهرة6، فجعلوه بيتًا، أي موضع عمادة، بينما هو دار حكم وبيت الملوك بصنعاء، كما سبق أن تحدثت عنه.

وذكر بعض أهل الأخبار أن "ريام" بيت بصنعاء كان لحمير، وكان به كلب أسود، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه وهدما البيت7.

وكان "ذو الكعبات" لبكر ولتغلب ابني وائل وإياد بسنداد، وله يقول الأعشى:

1 إرشاد الساري "6/ 423 وما بعدها".

2 رسالة الغفران "535"، "بنت الشاطئ".

3 تاج العروس "1/ 262"، "دبب".

4 تفسير ابن كثير "4/ 253".

5 الروض الأنف "1/ 28".

6 نهاية الأرب "1/ 62".

7 تفسير ابن كثير "4/ 254".

ص: 22

بين الخورنق والسدير ويارق

والبيت ذو الكعبات من سنداد1

وذكر أنه بيت كان لربيعة، كانوا يطوفون به، وقد ذكره الأسود بن يعفر في شعره، فقال:

والبيت ذي الكعبات من سنداد2

فالبيت للأسود لا للأعشى على هذه الرواية.

وقد تعرض "ابن كثير" لموضوع بيوت الأصنام: اللات والعزى ومناة، فقال: "وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر، تعظمها العرب كتعظيم الكعبة، غير هذه الثلاثة التي نصَّ عليها في كتابه العزيز

قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب وتهدي لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها"3. وما فات من أسماء المحجات في العربية الجنوبية والشرقية وفي نجد، قد يزيد عدده على ما ذكرنا. فات عنا، لأن أهل الأخبار لم يذكروا شيئًا عنها، لانصراف اهتمامهم إلى الحجاز وما كان له صلة بالإسلام، من أرضين، فحرمنا بذلك من الوقوف على أخبار المحجات في المواضع الأخرى من جزيرة العرب.

ويحج الناس إلى هذه البيوت في أشهر معينة من السنة، هي الأشهر الحرم، وهي أشهر مقدسة لا يحل فيها قتال ولا اعتداء على أحد، فهي أشهر هدنة وسلام، أشهر خصصت بالآلهة، فلا يجوز انتهاك حرمتها. وفي شهر الحج الذي حج فيه الناس إلى أصنامهم، يجتمع الناس في المعبد لأداء الفروض المكتوبة المعينة، فيكون الاجتماع اجتماعًا دينيًّا وسياسيًّا وتجاريًّا يتعامل فيه الناس. ويتبادلون به السلع، ويعود على أهل الموضع الذي فيه المعبد بأرباح كبيرة ولا شك. وقد ذكرت أن هذه الحرمة لم تكن عامة، فقد كان من العرب من لا يراعيها ولا يحترمها، ثم إننا لا ندري إذا كان أهل العربية الجنوبية أو العربية الشرقية كانوا يعرفونها أم لا!

1 تفسير ابن كثير "4/ 254".

2 تاج العروس "1/ 457"، "كعب"، اللسان "1/ 718"، "كعب".

3 تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها".

ص: 23

وليست كل المعابد محجة للناس، يقصدونها في الأيام أو المواسم. فقد كان في الموضع الواحد جملة معابد في بعض الأحيان، ولا يحج إليها، بل كانت المعابد التي يحج إليها معدودة معينة. لا بد أن تكون لها ميزة شرفتها على سائر دور العبادة الأخرى. ولهذه الميزة قصدت في المواسم من أماكن بعيدة. وإذا استثنينا ما ورد عن مكة، فإننا لا نكاد نعرف شيئًا ذا بال عن المعابد الكبيرة الأخرى. ثم إن في أكثر ما ذكره أهل الأخبار عن مكة غموض ومجال واسع للنقد، لأنه منقول عن أفواه رجال يظهر أنهم نقلوا ما قيل لهم دون تحفظ أو تمحيص.

ص: 24

‌المزارات:

وقد عظم بعض أهل الجاهلية قبور ساداتهم ورؤسائهم واتخذوها أضرحة يزورونها ويتقربون إليها ويتبركون بها، وقد بلغ من بعضهم أن جعلها حمى وملاذًا من دخل إليها آمن، ومن لجأ إليها وكان محتاجًا أغيث، ومن طلب العون واستغاث بصاحب القبر أغيث، حتى صارت في منزلة المعابد. ومنها أضرحة السدنة والكهان وسادات القبائل، فقد كان قبر "تميم" جد قبيلة "تميم" مزارًا معظمًا عند أبناء القبيلة من احتمى به من "بني تميم" ومن غيرهم صار آمنًا.

ولم أجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود أضرحة في مكة، اتخذت مزارًا وموضعًا يتبرك به. يعظمونه ويتقربون إليه بالنذور والذبائح. لقد كان قبر قصي معروفًا عند أهل مكة، ولكنهم لم يتخذوه مزارًا ومصلى على ما يتبين من رويات الإخباريين.

ص: 24

‌الفصل الخامس والسبعون: الحنفاء

‌مدخل

الفصل الخامس والسبعون: الحنفاء

وقد أشار القرآن الكريم إلى جماعة من العرب لم يتعبد الأصنام، ولم تكن من اليهود ولا النصارى، وإنما اعتقدت بوجود إله واحد عبدته1. وقد ذكر المفسرون وأهل الأخبار أسماء جماعة من هؤلاء، غير أن ما ذكروه عنهم غامض لا يشرح عقائدهم، ولا يوضح رأيهم في الدين، فلم يذكروا عقيدتهم في التوحيد، ولا كيفية تصورهم لخالق الكون.

وقد عرف هؤلاء بالحنفاء وبالأحناف، ونعتوا بأنهم على دين إبراهيم، ولم يكونوا يهودًا ولا نصارى، ولم يشركوا بربهم أحدًا. سفهوا عبادة الأصنام وسفهوا رأي القائلين بها2.

1 "وقالوا: كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا. قل: بل ملة إبراهيم حنيفًا، وما كان من المشركين"، البقرة، رقم2، الآية 125، تفسير الطبرى "1/ 404"، روح المعاني "1/ 352"، تفسير المنار"1/279 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 196"، اللسان "10/ 402 وما بعدها"، النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير "1/ 265" الطبرسي، مجمع البيان "1/ 467""1/ 215 وما بعدها"، "طبعة طهران"، تفسير القرطبي، الجامع "2/ 128"، الطبري، جامع البيان "11/ 177"، للزمخشري "1/ 236"، اللسان "9/ 56""صادر"، تاريخ الخميس، للديار بكري "2/ 177"، الكامل، لابن الأثير "1/ 244"، تفسير القرطبي، الجامع "10/ 198"، "حنيفا"، سورة النحل، رقم 16، الآية 120.

2 النهاية "1/ 299".

ص: 25

وقد أشير إلى "الحنيفية" و"الحنفاء" في كتب الحديث1. وقد بحث عنها شراح هذه الكتب. ومما نسب إليه حديث: "لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة"2. وحديث: "بعثت بالحنيفية السمحة السهلة" 3. وحديث "أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة"4.

ويذكر أهل الأخبار أن الجاهليين جميعًا كانوا قبل عمرو بن لحي الخزاعي على دين إبراهيم. كانوا موحدين يعبدون الله جل جلاله وحده، لا يشركون به ولا ينتقصونه. فلما جاء عمرو بن لحيي، أفسد العرب، ونشر بينهم أضاليل عبادة الأصنام، بما تعلمه من وثني بلاد الشام حين زارهم، وحل بينهم، فكان داعية الوثنية عند العرب والمبشر بها ومضلهم الأول. وهو على رأيهم موزع الأصنام بين القبائل، ومقسمها عليها. فكان من دعوته تلك عبادة الأوثان، إلى أن جاء الإسلام فأعاد العرب إلى سواء السبيل، إلى دين إبراهيم حنيفًا، وما كان إبراهيم من المشركين5.

ولقد فشت دعوة عمرة بن لحي وانتشرت، حتى دخل فيها أكثرهم، والضلال سريع الانتشار، وقل عدد من حافظ على دين إبراهيم والمراعي لأحكام دين التوحيد الحنيف: من اعتقاد بوجود إله واحد أحد، وطواف بالبيت، وحج إليه، وعمرة، ووقوف على عرفة وهدي للبدن، وإهلال بالحج والعمرة، وغير ذلك. فلم يبق منهم إلا عدد محدود في كل عصر إلى زمن البعثة المحمدية6.

ولسنا نملك ويا للأسف شيئًا من الجاهلية يعيننا في الوقوف على عقائد الأحناف ودينهم، فليس في كتابات المسند ولا في الكتابات الجاهلية الأخرى، بل ولا في كتب اليونان واللاتين شيء عن عقيدتهم وعن آرائهم، لذلك اقتصر علمنا بأحوالهم على ما جاء في المؤلفات الإسلامية وحدها، والفضل في حفظ أخبارهم للقرآن

1 راجع ونسنك: المعجم المفهرست لألفاظ الحديث النبوي الشريف، حيث تجد الإشارة إلى تلك الأحاديث.

2 مسند أحمد بن حنبل "4/ 116"، "6/ 33".

3 اللسان "9/ 56 وما بعدها".

4 مجمع البيان، للطبرسي "1/ 215 وما بعدها"، "أحب الدين إليَّ الحنيفية السمحة"، الإصابة "1/ 51"، "رقم 114".

5 اللسان "10/ 403"، بلوغ الأرب "2/ 195".

6 بلوغ الأرب "2/ 196".

ص: 26

الكريم، فلولا إشارته إليهم وذكره لهم، لما اهتم المفسرون وأصحاب الأخبار بجمع ما كان عالقًا في ذهن الناس عنهم. وللحديث وكتب السير والأدب فضل في جمع أخبارهم يجب ألا ينسى كذلك.

وللعلماء الإسلاميين آراء وتفسيرات في أصل لفظة "حنيف" وحنفاء وأحناف وفي معانيها. فهم يقولون أن الأصل "حنف"، وحنف بمعنى مال. وحنف القدمين ميل كل واحدة منهما نحو الأخرى. والحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال. والحنيف هو المائل. ومن هذا المعنى أخذ الحنف. وأما الحنيف، فالذي يميل إلى الحق، وقيل الذي يستقبل البيت الحرام، أو الحاج أو من يختتن، والحنيف من أسلم في أمر الله فلم يلتو في شيئ، والحنيف المستقيم الذي لا يلتو في شيء1.

وقد وردت لفظة "حنيفًا" في عشر مواضع من القرآن الكريم2. ووردت لفظة "حنفاء" في موضعين منه3. وبعض الآيات التي وردت فيها آيات مكية، وبعضها آيات مدنية. وقدنصَّ في بعض منها على إبراهيم، وهو على الحنيفية، ولم ينص في مواضع منها على اسمه. وقد وردت لفظة "حنفاء" في سورتين فقط. هما: سورة الحج وسورة البينة، وهما من السور المدنية.

وذكر بعض أهل الأخبار أن الحنيف عند أهل الجاهلية من اختتن وحج البيت فكل من اختتن وحج البيت هو الحنيف4. وقد رأي الطبري أن ذلك لا يكفي،

1 المفردات، للأصفهاني "ص 133"، اللسان "10/ 44"، "9/ 56 وما بعدها""صادر"، تاج العروس "6/ 77 وما بعدها"، النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير "10/ 265"، تفسير الطبري "1/ 258 وما بعدها"، القاموس المحيط للفيروز آبادي "3/ 130". تفسير الطبري "1/ 563"، "1954"، "3/ 105""دار المعارف"، الملل والنحل، "2/ 52"، الأغاني "3/ 113 وما بعدها""دار الثقافة بيروت 1955م"، روح المعاني للآلوسي "3/ 173 وما بعدها"، تفسير الخازن "1/ 98".

2 البقرة، رقم 2 الآية 135، آل عمران، 3 الآية 67، 95، النساء، الرقم 4، الآية 125، الأنعام 6، الآية 79، 161 يونس، الرقم 10، الآية 105، النحل 16، الآية 120، الروم، الآية 30.

3 الحج الآية 31، البينة، الآية5.

4 اللسان "10/ 402 وما بعدها"، الكشاف "1/ 178، 236، 407"، الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن "1/ 467 وما بعدها"، "3/ 109 وما بعدها"، تفسير الفخر الرازي "13/ 57 وما بعدها"، "14/ 10 وما بعدها"، "17/ 171 وما بعدها"، تفسير الطبري "3/ 104 وما بعدها".

ص: 27

بل لا بد من الاستقامة على ملة إبراهيم وأتباعه عليها1. والذين يذكرون أن الحنيف هو من اختتن وحج البيت، يذكرون أن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت، ولهذا فكل من اختتن وحج البيت، قيل له حنيف. وقد أضاف بعضهم اعتزال الاصنام والاغتسال من الجنابة إلى ما ذكرت، وجعلوا ذلك من أهم العلامات الفارقة التي ميزت الحنفاء عن المشركين2، لأن الحنيفية على حد قولهم لو كانت حج البيت والاختتان لوجب أن يكون الذين كانوا يحجون ويختتنون في الجاهلية من أهل الشرك حنفاء، وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفًا بقوله:{وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3.

وينسب أهل الأخبار إلى الأحناف بالإضافة إلى ما ذكرت، امتناعهم عن أكل ذبائح الأوثان وكل ما أهل إلى غير الله. فقد ذكروا عن كل واحد من الأحناف أنه كان قد امتنع عن أكل الذبائح التي تذبح للأوثان والأصنام، لأنها ذبحت لغير الله. كما نسبوا إليهم تحريم الخمر على أنفسهم، والنظر والتأمل في خلق الله، ونسبوا إليهم أداء شعائر الحج وغير ذلك4.

وقد لخص "الفخر الرازي" و"الطبرسي"، آراء العلماء في "الحنيفية" وأجملاها في تفسيرهما للآية:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . فقالا: "وفي الحنيفية أربعة أقوال: أحدها أنها حج البيت، عن ابن عباس والحسن ومجاهد. وثانيها أنها أتباع الحق، عن مجاهد، وثالثها أنها أتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إمامًا للناس بعده من الحج والختان وغير ذلك من شرائع الإسلام،

1 تفسير الطبري "3/ 105 وما بعدها"، "3/ 306"، "5/ 297"، "7/ 251"، تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "2/ 128".

2 اللسان "9/ 56""صادر"، القاموس "3/ 130"، تاج العروس "6/ 77 وما بعدها"، "حنف".

3 الطبري، جامع البيان "1/ 564 وما بعدها".

4 الأصنام "6""1914م"، القرطبي، الجامع لاحكام القرآن، "4/ 109""1937م""مطبعة دار الكتب المصريةط، ابن خلدون "القسم الأول من المجلد الثاني" "ص 707 وما بعدها" "بيروت 1956م" الخازن، لباب التأويل في معاني التنزيل "1/ 238 وما بعدها، 251"، تفسير الرازي "8/ 150 وما بعدها".

ص: 28

والرابع أنها الأخلاص لله وحده والإقرار بالربوبية والإذعان للعبودية"1.

ترى مما تقدم، وسترى فيما بعد أن أهل الأخبار لم يكونوا على بينة تامة وعلم واضح بأحوال الحنيفية وبآرائها وقواعد أحكامها وأصولها، وأنهم خلطوا في بعض الأحيان فيما بينها وبين الرهبنة، ولا سيما رهبنة النصرانية. فأدخلوا فيها من يجب إخراجهم عنها، لأنهم كانوا نصارى على ما يذكره نفس أهل الأخبار في أثناء تحدثهم عنهم، ومن هؤلاء: قيس بن ساعدة الأيادي وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، فقد نصوا نصًّا صريحًا على أنهم كانوا من العرب المتنصرة، ثم نجدهم مع ذلك يدخلونهم في جملة الأحناف.

وللمستشرقين بحوث في أصلها ومعناها وفي ورودها عند العرب قبل الإسلام. ومنهم من يرى أن اللفظة من أصل إرمي، وقد كانت معروفة عند النصارى، وأخذها الجاهليون منهم، وأطلقت على القائلين بالتوحيد من العرب، على أولئك ظهرت بتأثير اليهودية والنصرانية، غير أن أصحابها لم يكونوا يهودًا ولا نصارى، وإنما كانوا فرقة مستقلة تأثرت بآراء الديانتين2.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن اللفظة من أصل عبراني، هو:"تحينوت" tchinoth، أو من "حنف" Hnef، ومعناه التحنث في العربية، وذلك لما لهذه اللفظة من صلة بالزهد والزهاد3. وقال "نولدكه" إنها من أصل عربي هو "تحنف"، على وزن تبرر، وهي من الكلمات التي لها معان دينية. ويلاحظ أن السريان يطلقون لفظة "حنفة" Hanfa على الصابئة4. وقد وردت لفظة "حنف" في النصوص العربية الجنوبية، وردت بمعنى "صبأ"، أي مال وتأثر بشيء ما5.

1 مجمع البيان "1/ 215 وما بعدها"، التفسير الكبير، للفخر الرازي "4/ 89 وما بعدها".

2 Ency، II، p. 259.

3 Abraham I. Katsh، Judaism in Islam، New York، 1954، p. 108، f، J.A. Montgomery، Acetic Strains in Early Judaism، in، JBL. Vol. LI، 1932، PP. 183، Tar Andrae، Der ursprung der Islam und des CHristentum، Uppala، 1926، p. 40. Charles Lyall، The Ward Hanif and Muslim، in JRAS، 1903، p. 772، Sprenger، Das Leben، Bd. I، S. 45. ff.

4 Ency.، II، 259، Barhebraeus، Chronic.، P. 176.

5 Rhodokanakis، Stud.، II، S. 40.

ص: 29

أي بالمعنى الذي فهمه علماء اللغة. فاللفظة إذن من الألفاظ المعروفة أيضًا عند العرب الجنوبيين.

عندي أن لفظة "حنيف"، هي في الأصل بمعنى "صابئ" أي خارج عن ملة قوم، تارك لعبادتهم. ويؤيد رأيي هذا ما ذهب إليه علماء اللغة، من أنها من الميل عن الشيء وتركه، ومن ورودها بهذا المعنى في النصوص العربية الجنوبية. وبمعنى "الملحد"، و "المنافق"، و"الكافر" في لغة بني إرم، ومن إطلاق "المسعودي" و "ابن العبري" لهذه اللفظ على "الصابئة". ومن ذهاب "المسعودي" إلى أن اللفظة من الألفاظ السريانية المعربة. وقد اطلقت على "المنشقين" على عبادة قومهم الخارجين عليها، كما أطلق أهل مكة على النبي وعلى أتباعه "الصابئ" و "الصباة"، فصارت علمًا على من تنكر لعبادة قومه، وخرج على الأصنام. ولهذا نجد الإسلام يطلقها في بادئ الأمر على نابذي عبادة الأصنام، وهم الذين دعاهم بأنهم على "دين إبراهيم". ولما كان التنكر للأصنام هو عقيدة الإسلام لذلك صارت مدحًا لمن أطلق الجاهليون عليهم تلك اللفظة لا ذمًا1.

وليست الصورة التي رسمها المفسرون وأهل الأخبار عن عقيدة الحنفاء واضحة، فهي صورة غامضة مطموسة في كثير من النواحي، تخص الناحية الخلقية أكثر مما تخص الناحية الدينية. فليس فيها شيء عن عقيدتهم في الله، وكيفية تصورهم وعبادتهم له، وليس فيها شيء عن كتاب كانوا يتبعونه أو كتب كانوا يسيرون عليها. نعم، إن نفرًا منهم كما ذكر الرواة كانوا قد قرءوا الكتب ووقفوا عليها، ولكن ما تلك الكتب التي قرءوها، وما أسماؤها. وهل هي التوراة والإنجيل؟ ولكن أي توراة وإنجيل؟ التوراة والإنجيل التي كانت بين أيدي الناس أو غيرها؟ فالذي يفهم من كلام الرواة أن الحنفاء كانوا يرون تحريفًا في الكتابين، وأن هناك تباين قليلًا أو كثيرًا بين الأصل الذي أوحاه الله وبين الذي كان بين أيدي الناس، وأنهم لذلك مالوا عن اليهودية والنصرانية إلى دين إبراهيم الحنيف، فقرءوا كتبه وتعبدوا بعبادة إبراهيم. ولكن ما هي كتب إبراهيم وما هي عبادته؟

1 راجع أيضًا: Ency.، II، P. 259

ص: 30

وليس في إمكاننا في الوقت الحاضر وضع حد صريح واضح لمفهوم الأحناف و "الدين الحنيف" عند الجاهليين، لما ذكرته من عدم وجود موارد واضحة صريحة عن الأحناف، ولعدم ورود أي شيء عنهم في نصوص جاهلية، ولأن في الكثير من الذي يذكره المفسرون وأهل الأخبار عنهم غموض وإبهام أو صنعة وتكلف، لذلك فليس أمامنا سوى الانصراف إلى البحث عن جمع كل ما ورد عن الحنيفية في الشعر وفي النثر وتنقيته وغربلته لإستخراج المادة الصافية منه التي تفيدنا في الوقوف. على تلك الحركة الدينية التي. كانت بارزة عند المذكورين قبيل ظهور الإسلام. والوقوف عليها يفيدنا كثيرًا ولا شك في فهم الإسلام الذي أثنى على الحنيفية وأرجعها إلى ديانة إبراهيم، وفي فهم اتجاهات الأحناف ودعوتهم التي وجهوها إلى قومهم في نبذ عبادة الأصنام والأحجار والمعبودات المادية الأخرى، والالتجاء إلى عبادة إله أعلى لا يشبه المادة، هو إله واحد لطيف خبير.

والحنفاء، كما يفهم من روايات أهل الأخبار، كانوا طرازًا من النساك، نسكوا في الحياة الدنيا، وانصرفوا إلى التعبد للإله الواحد الأحد إله إبراهيم وإسماعيل، ساحوا في البلاد على نحو ما يفعله السياح الزهاد بحثًا عن الدين الصحيح دين إبراهيم، فوصل زيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام والبلقان ووقف على اليهودية والنصرانية، فلم ير في الديانتين ما يريد1. ومنهم من أخذ على قومه هدايتهم بحثهم على ترك عبادة الأصنام، لذلك لاقوا منهم غشًّا ونصبًا شديدًا. ومنهم من كان يتأمل في هذا الكون، لذلك تجنب الناس واعتزلهم، والتجأ إلى الكهوف والمغاور البعيدة ابتعادًا عن الناس للتأمل والتفكر، وقد تجنبوا الخمرة والأعمال المنكرة، وقول الفحش، وساروا على مثل الإسلام، وإن عاشوا قبل الإسلام، لأن الإسلام دين إبراهيم.

والذي يفهم من القرآن الكريم، هو أن الحنفاء هم أولئك الذين رفضوا عبادة الأصنام، فلم يكونوا من المشركين، بل كانوا يدينون بالتوحيد الخالص، وهو فوق توحيد اليهود والنصارى، فلم يكونوا يهودًا ولا نصارى، و {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ

1 بلوغ الأرب "2/ 247 وما بعدها"، الطبرسي، مجمع البيان "3/ 110""7/ 252"، "11/ 107""14/ 137".

ص: 31

الْمُشْرِكِينَ} 1، وأن قدوتهم في ذلك إبراهيم. ويلاحظ أن لفظة "مسلم" استعملت في مرادف ومعنى لفظة "الحنيف"، وإن إبراهيم هو أبو وأول المسلمين. وقد وصف الإسلام بأنه دين الله الحنيف، والدين الحنيف، وأن الشريعة الإسلامية، هي الحنيفية السمحة السهلة، وذلك تمييزًا لها عن الرهبانية المتعصبة2.

وقد عد بعض المستشرقين الحنفاء شيعة من شيع النصرانية، وعدوهم نصارى عربًا زهادًا كيفوا النصرانية بعض التكييف؛ وخلطوا فيها بعض تعاليم من غيرها. وقد استدلوا على ذلك بما ورد من تنصر بعضهم، وبما ورد في بعض الأشعار الجاهلية من مواضع يفهم منها على تفسيرهم أن المراد بهم شيعة من شيع النصرانية3. غير أن القرآن الكريم قد نصَّ نصًّا صريحًا على أن الحنفاء لم يكونوا يهودًا ولا نصارى، وأنهم ينتمون في عقيدتهم إلى إبراهيم. ثم إن الإخباريين وإن أدخلوا في الأحناف أناسًا نصوا على أنهم كانوا نصارى، إلا أنهم نصوا في الوقت نفسه نصًا صريحًا على أن البقية الباقية، كانت واقفة، لم تدخل في يهودية ولا نصرانية، إذ وجدت في كل ديانة من الديانتين أمورًا جعلتها تتريث، فلم تدخل في إحداهما، وبقيت مخلصة لسنة إبراهيم، لذلك فلا يمكن اعتبار الأحناف نصارى خلصًا، أو شيعة من الشيع النصرانية.

وقد كان من الحنفاء نفر من النصارى، أخلصوا لنصرانيتهم وماتوا عليها. فهؤلاء هم نصارى من غير شك، ويجب إخراجهم من طائفة الحنفاء، وإدخالهم فهؤلاء هم نصارى من غير شك، ويجب إخراجهم من طائفة الحنفاء، وإدخالهم في النصارى، مثل "بحيرا" الراهب، وأمثاله ممن سأتحدث عنهم فيما بعد.

ويلاحظ أن جميع من حشرهم أهل الأخبار في الحنيفية، كانوا من القارئين، الكاتبين. وكانوا يشترون الكتب ويراجعونها ويتسقطون أخبار أهل الآراء والمذاهب والديانات. ولبعض منهم –كما يروي أهل الأخبار- علم باللغات الأعجمية مثل السريانية والعبرانية، كما كان لهم علم ووقوف على تيارات الفكر في ذلك الوقت. وقد اضافوا إلى علمهم الذي أخذوه من الكتب، علمًا حصلوا عليه من

1 آل عمران، الآية 67 وما بعدها، البقرة، الآية 35، آل عمران، الآية 95، النساء، الآية 124، الأنعام، الآية 79، 162، يونس 105.

2 ابن سعد "1/ 128"، قال عبد الله بن أنيس:

فقلت له خذها بضربة ماجد

حنيف على دين النبي محمد

3 Reste، S. 238، J.A. Montgomry، Ascetic Strains in Eariy Judaism ، JBL، vol، LI. 1932، p. 183، Abraham J. Katsch، Judaism in Islam، p. 108.

ص: 32

أسفارهم إلى الخارج مثل العراق وبلاد الشام ومن اتصالهم بالرهبان وبرجال الكنائس واليهود. فهم بالنسبة لذلك الوقت الطبقة المثقفة من الجاهليين نادت بالإصلاح وبرفع مستوى العقل وبنبذ الأساطير والخرافات وبتحرير العقل من سيطرة العادات والتقاليد فيه، وذلك بالدراسات والتأمل وبقراءة الكتب وبالرجوع إلى دين الفطرة، الذي لا يقر عبادة الشرك ولا عبادة الناس.

لذلك نستطيع أن نقول عن هؤلاء إنهم كانوا أناسًا من النوع الذي نطلق عليهم كلمة "مصلحين" في الوقت الحاضر. من هذا الطراز الذي يريد إصلاح الأوضاع ورفع مستوى العقل. فهم جماعة ضد الأوضاع الإجتماعية السائدة في أيامهم. لأنها في نظرهم أوضاع مؤخرة تمنع الإنسان من التقدم ومن إدراك الواقع. وقد رأت أن العقل لا يقر التقرب إلى أحجار وإلى التبرك بها والذبح لها، لأنها حجارة لا تعي ولا تفهم وليس في إمكانها أن تسمع أو تجيب لذلك نفرت منها. ومنهم من آمن بدين كالنصرانية، ولكنه لم يكن على نصرانية قومه، لأن عقله لا يقر التقرب إلى المادة مثل الصليب والصور والتماثيل، ومنهم من أبعدته مثل هذه العبادة عن النصرانية، فصيرته حائرًا في أمره من الديانات، يعتقد بإله، ولكنه لم يستقر على دين. عائب على قومه من المشركين ما هم عليه من جهل ومن عبادة أحجار ومن كل تقرب إليها.

وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر ذكروا أنهم كرهوا عبادة الأوثان وسخفوا أحلام المتعبدين لها، إذ وجدوا أن من الحمق التقرب إلى حجر لا يضر ولا ينفع، وهو جماد، فلما سمع بعضهم بالإسلام أسلموا. ولكنهم لم يدخلوهم في عداد الأحناف. وقد رأينا أن من أهل الأخبار من جعل "مسيلمة" يدعو إلى عبادة "الرحمن"

قبل مبعث النبي. وقد ذكروا أن "عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد" السلمي، كان قد رغب عن آلة قومه في الجاهلية، رأي أنها باطلة، وأن الناس في ضلال إذ يعبدون الحجارة، والحجارة لا تضر ولا تنفع، فكان حائرًا، حتى اهتدى إلى الإسلام1.

وليس في أيدينا اليوم مورد يفيد بوجود تكتل وتنظيم لمن أطلق الإخباريون

1 الإصابة "3/ 5 وما بعدها"، رقم "5905"، الاستيعاب "2/ 491 وما بعدها"، حاشية على الإصابة.

ص: 33

عليهم لفظة: "الحنفاء"، تكتل وتنظيم مع مظاهر خارجية وداخلية تميزهم عن غيرهم من أهل الأديان. لذلك، فنحن لا نستطيع أن نقول إن الحنيفية كانت فرقة تتبع دينًا بالمعنى المفهوم من الدين، كدين اليهودية أو النصرانية، لها أحكام وشريعة تستمد أحكامها من كتب منزلة مقدسة ومن وحي نزل من السماء، على نحو ما نفهمه من الأديان السماوية. لذلك، فأنا لا أستطيع إقرار رأي من ذهب إلى أنهم كانوا جماعة دينية منظمة، كرأي المستشرق "شبرنكر"، الذي ذهب إلى هذا المذهب1.

وجل هؤلاء الأحناف، هم من أسر معروفة، وبيوت يظهر أنها كانت مرفهة أو فوق مستوى الوسط بالنسبة إلى تلك الأيام، ولهذا صار في إمكانهم الحصول على ثقافة وعلى شراء الكتب، وقد كانت غالية الثمن إذ ذاك، لنيل العلم منها. كما صار في إمكانهم الطواف في خارج جزيرة العرب لامتصاص المعرفة من البلاد المتقدمة بالنسبة إلى تلك الأوقات، مثل العراق وبلاد الشام. وقد اتصلوا كما يزعم أهل الأخبار فعلًا برجال العلم والدين فيها، وتحادثوا معهم وأخذوا الرأي منهم. ومن يدري فلعلهم قرءوا عليهم الكتب وفي جملتها كتب اليونان، أو ترجمات كتبهم بالسريانية، فحصلوا نتيجة لذلك على علم بمقالات اليونان وبآرائهم في الفلسفة والدين والحياة. وقد تكون بعض الآراء المنسوبة إليهم، والتي ترجع إلى أصل يوناني، قد قالوها من أخذهم لها من تلك الكتب ومن دراستهم على من اتصلوا بهم من العلماء في أثناء وجودهم في العراق وفي بلاد الشام.

ونجد في الأخبار أن الرسول كان يعد الرهبانية مخالفة للحنيفية، إذ ورد أن أبا عامر بن صيفي –المعروف بالراهب لأنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح- قدم المدية ورأى الرسول، وسأله: ما هذا الذي جئت به؟ -فقال الرسول: "جئت بالحنيفية دين إبراهيم"، قال: فأنا عليها، فقال الرسول:"لست عليها، ولكن أدخلت فيها ما ليس منها". وقد سماه الرسول الفاسق.

فذهب مغاضبًا للرسول كما تقول الروايات، متوجهًا إلى قيصر، ليحمله على توجيه جيش إلى المدية للقضاء على الإسلام، غير أنه مات وهو في بلاد الشام2.

1 Sprenger، Das Leben، Bd.، I، S. 4، Ency.، II، S. 259

2 مجمع البيان "9/ 64 وما بعدها"، "3/ 500""طبعة طهران".

ص: 34

وقد خرج "أبو عامر" واسمه "عيد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان بن أمية"1 الراهب أحد "بني ضبيعة" إلى مكة مباعدًا لرسول الله، معه خمسون غلامًا من الأوس، منهم "عثمان بن حنيف". "فكان يعد قريشًا أن لو قد لقي محرمًا لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما كان يوم أحد، كان أول من لقي أهل المدينة أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عينًا يا فاسق، وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية "الراهب" فسماه رسول الله الفاسق، فلما سمع ردهم عليه، قاتلهم ثم راضخهم بالحجارة". ثم رجع مع قريش إلى مكة ثم خرج إلى الروم يوم فتحت مكة فمات بها سنة تسع، ويقال سنة عشر. وأعطى "هرقل" ميراثه لكنانة قائلًا لعلقمة: هما من أهل المدر وأنت من أهل الوبر.

وكان له ولد اسمه "حنظلة" أسلم، واستأذن رسول الله في قتل أبيه، فنهاه عن ذلك. فلما كان يوم أحد شهده، والتقى هو وأبو سفيان، فلما استعلى حنظلة رآه "شداد بن شعوب" فعلاه بالسيف حتى قتله، وقد كاد يقتل أبا سفيان. فقال النبي:"إن صاحبكم تغسله الملائكة"3، فعرف بـ "غسيل الملائكة"4. فكان الابن مع المسلمين في هذا اليوم، وكان الأب مع المشركين.

وروي أنه كان يتزهد في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين بإتخذا مسجد الضرار، وأتى قيصر فاستنجده على النبي5. وروي أنه هو الذي حزب الأحزاب لقتال الرسول: فلما خذل لحق بالروم يطلب النصر منهم، وقال لأناس من الأنصار ابنوا مسجدكم واستعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح،

1 تاريخ الطبري "2/ 512"، "معركة أحد"، المحبر "470"، سيرة ابن هشام "2/ 129"، "حاشية على الروض"، أبو عامر بن صيي بن مالك بن أمية بن ضبيعة بن زيد بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، الأوسي، الإصابة "1/ 360"، "رقم 1863"، مروج الذهب "1/ 88"، "دار الأندلس".

2 الإصابة "1/ 360"، "رقم 1863".

3 الإستيعاب "1/ 279 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

4 الإصابة "1/ 360"، "رقم 1863"، الاستيعاب "1/ 279 وما بعدها"، حاشية على الإصابة".

5 تفسير النيسابوري "9/ 76"، "حاشية على تفسير الطبري"، روح المعاني "9/ 111".

ص: 35

فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه، وكان قد خرج معه كنانة بن عبد يا ليل الثقفي وعلقمة بن علاثة. فأما علقمة وابن ياليل "ابن بالين"، فرجعا فبايعا النبي وأسلما، وأما "أبو عامر" فتنصر وأقام1.

ويظهر أن "أبا عامر الراهب"، كان قد وضع مع جماعة من الأنصار الحاقدين على الرسول وعلى المهاجرين الذين صاروا يزاحمونهم في أعمالهم، واستحوذوا على التجارة واستغلوا أرض يثرب فقام قوم منهم بزراعتها، خطة لعمل مكيدة يخرجون بها الرسول من المدينة، يساعدهم في ذلك الروم. غير أنها لم تنجح، وهدم المسجد، الذي تواعدوا على أن يكون موضع التآمر وملتقى الحاقدين على الرسول، وقضي على المؤامرة، وبقي "أبو عامر" عند الروم. فلما مات عاد "كنانة بن عبد يا ليل" الثقفي، وكان رئيس ثقيف في زمانه، وكان يقول:"لا يرثني رجل من قريش"، مما يدل على أنه كان من الكارهين لقريش المتحاملين عليها وعلى الإسلام، ففر إلى "نجران" ثم توجه إلى الروم. فلما مات "أبو عامر" عاد فأسلم2. وعاد "علقمة" أيضًا. وهناك روايات أخرى، تذكر أنه ارتد في أيام "عمر"، والتحق بالروم، ثم عاد إلى الإسلام3.

ولاشتهار أبي عامر بالراهب، ولما ورد في بعض الأخبار من أنه كان حنيفًا، ذهب "ولهوزن" إلى أن الأحناف هم من النصارى، وأن حركتهم حركة نصرانية، وأنهم كانوا القنطرة التي توصل بين النصرانية والإسلام4. غير أن ما لدينا من معارف عن الأحناف، لا يكفي لا بداء رأي كهذا الرأي، وللتسليم بمثل هذا القول ينبغي لنا الوقوف على آرائهم وقوفًا دقيقًا ومقارنة ما لدينا بما نعرفه من النصرانية لنتمكن من التوصل إلى رأي علمي في هذا الشأن.

وفي بيت منسوب إلى أمية إشارة إلى الحنيفية، ذكر فيه أن كل دين زور عند الله إلا دين الحنيفية. وقد رأينا أن أهل الأخبار يدخلون أمية في جملة

1 تفسير الطبري "11/ 17 وما بعدها"، تفسير القرطبي "7/ 320"، "8/ 253 وما بعدها".

2 الإصابة "3/ 305"، "رقم 7532".

3 الإصابة "2/ 496"، "5677".

4 Wellhausen، Reste، S. 239. f.

ص: 36

الحنفاء، ويقولون: أنه لبس المسوح تعبدًا، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل وحرم الخمر1. ويلاحظ أن الإخباريين ينسبون إلى عدد من هؤلاء الأحناف لبس الموح، مما يشير إلى أنهم كانوا قد تأثروا بالرهبان المتقشفين وبالزهاد النصارى الناسكين، فأخذوا عنهم هذه الطريقة التي أشير إلهيا في القرآن الكريم وفي الحديث، والتي عدت من البدع الممقوتة في الإسلام.

وقد أورد أهل الأخبار كلامًا ذكروا أن الأحناف قالوه، هو من نوع كلام الكهان المرتب على طريقة السجع، أوردوه بنصه على ما ذكروه. غير أن من الصعب تصور صدور ذلك الكلام المنمق من أناس عاشوا قبل الإسلامن ومحافظة الناس عليه محافظة تامة إلى ما بعد الإسلام. ويظهر على كل حال من دراسة روايات أهل الأخبار عن الكهان والأحناف أن كلام رجال الدين قبل الإسلام كان على هذا النمط من السجع، ومن جمل مكررة معادة عامة. وقد ظل الجسع الطريقة المحببة في الكتابة إلى أيامنا هذه عند بعض الكتاب.

ويفهم من كلام الرواة أن بعض هؤلاء الحنفاء كانوا نصارى مثل ورقة بن نوفل، أي على عكس ما يذكره الرواة أنفسهم من أن هؤلاء كانوا قد تجنبوا اليهودية والنصرانية متبعين ديانة إبراهيم2. والظاهر أن الرواة قد اشتبه عليهم الأمر، فخلطوا في بعض الأحيان بين النصرانية وبين هؤلاء الذين أنكروا عبادة الأصنام واعتقدوا التوحيد.

ولدينا أمثلة أخرى على هذا الوهم. وسنرى من تراجم عدد من الأحناف أن منهم من يحب إدخاله في عداد النصارى. لا الأحناف. وقد نص أهل الأخبار أنفسهم على تنصرهم، غير أنهم أدخلوهم مع ذلك في جملة الأحناف حين تكلموا عنهم. فكأنهم عنوا بالأحناف من كان على حياة الرهبنة والتقشف.

وقد أدخل "المسعودي" بعض الأحناف في جماعة أهل الفترة ممن كان بين المسيح ومحمد، ومن أهل التوحيد، ممن يقر بالبعث. ثم قال:"وقد اختلف الناس فيهم، فمن الناس من رأى أنهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك"3.

1

كل دين يوم القيامة عند اللـ

ـه إلا دين الحنيفة زور

الأغاني "4/ 122""طبعة دار الكتب المصرية".

2 بلوغ الأرب "2/ 270".

3 مروج "1/ 78"، "دار الأندلس".

ص: 37

وقد ذكر من بينهم "حنظلة بن صفوان"، و"خالد بن سنان العبسي"، و "رئاب الشني"، و "أسعد أبو كرب الحميري"، و "قس بن ساعدة الإيادي"، و "أمية بن أبي السلط الثقفي"، و "ورقة بن نوفل"، و "عداس" مولى "عتيبة بن ربيعة الثقفي"، وطورقة بن نوفل"، و "عداس" مولى "عتيبة بن ربيعة الثقفي، و "أبو قيس""صرمة بن أبي أنس" الأنصاري، و "أبو عامر الأوسي"، و "عبد الله بن جحش الأسدي"، و "بحيرا الراهب"1. ومن هؤلاء من كان على النصرانية، وقد نص "المسعودي" نفسه على ذلك.

والذين ذكر الرواة أسماءهم من الحنفاء هم أناس عاشوا في الجاهلية المتصلة بالإسلام، ومنهم من أدرك الرسول، ولا عبرة بالطبع لما زعمه الإخباريون من طول عمر أولئك الأشخاص وبلوغ بعضهم مئين عدة من السنين، وادخالهم في المعمرين2، فإن من عادة الإخباريين إطالة عمر هؤلاء وأمثالهم من الرجال البارزين الظاهرين، ليكون ذلك مناسبًا لما يجيء في أخبارهم من الحكم المنسوبة إليهم، وهي فكرة عامة نجدها عند غير العرب أيضًا، ولذلك نجد صورة الحكماء والفلاسفة في الغالب على صورة شيوخ أصحاب لحى طويلة بيض ورأس جلله الشيب أو قضى في الغالب على شعره الزمن والتفكير، فصلع، لأن هذه من علامات الحكمة والتفكير.

وعندي أن الحنفاء جماعة سخرت من عبادة الأصنام، وثارت عليها وعلى المثل الأخلاقية التي كانت سائدة في ذلك الزمن، ودعت إلى إصلاحات واسعة في الحياة وإلى محاربة الأمراض الاجتماعية العددية التي كانت متفشية في ذلك العهد، دعاها إلى ذلك ما رأته في قومها من إغراق في عبادة الأصنام ومن أسفاف في شرب الخمر ولعب الميسر وما شاكل ذلك من أمور مضرة، فرفعت صوتها كما يرفع المصلحون صوتهم في كل زمن ينادون بالإصلاح، وقد أثارت دعوتهم هذه المحافظين وأصحاب الجاه والنفوذ وسدنة الأوثان شأن كل دعوة إصلاحية. ويجوز أن يكون من بين هؤلاء من مال إلى النصرانية، غير أننا لا نستطيع أن نقول أنهم كانوا نصارى أو يهودًا، أنما أستطيع أن أشبه دعوة هؤلاء بدعوة الذين دعوا إلى عبادة الإله رب السماء "ذو سموى" أو عبادة الرحمن في اليمن،

1 مروج "1/ 78 وما بعدها".

2 جعل السجستاني عمر قس بن ساعدة الأيادي، وهو من الحنفاء، ثمانين وثلاث مئة سنة، بلوغ الأرب "2/ 246".

ص: 38

متأثرين بمبادئ التوحيد التي حملتها اليهودية والنصرانية إلى اليمن. ولكنهم لم يكونوا أنفسهم يهودًا أو نصارى، إنما هم أصحاب ديانة من ديانات التوحيد.

ولا يعني قولي هذا أن الحنفاء كانوا على رأي واحد ودين واحد كالذي يفهم مثلًا من قولنا يهودي ونصراني ويهود ونصارى، بمعنى أنهم كانوا طائفة معينة تسير على شريعة ثابتة كالذي ذهب "شبرنكر" إليه1. إنما كان أولئك الأحناف نفرًا من قبائل متفرقة لم تجمع بينهم رابطة، إنما اتفقت فكرتهم في رفض عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الإصلاح. وهذا المعنى واضح في آيات القرآن الكريم التي أشارت إلى الحنفاء.

والرجال الذين قال أهل الأخبار عنهم إنهم كانوا على دين، وكانوا من الأحناف، هم: قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت وأرباب بن رئاب، وسويد بن عامر المصطلقي، وأسعد أبو كرب الحميري، ووكيع بن زهير الإيادي، وعمير بن جندب الجهني، وعدي بن زيد العبادي، وأبو قيس صرمة بن أبي أنس، وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وعامر بن الظرب العدواني، وعبد الطانحة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة، وعلاف بن شهاب التميمي، والملتمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سلمى وخالد بن سنان العبسي، وعبد الله القضاعي، وعبيد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن لؤي بن غالب2.

وبعض هؤلاء مثل: "قس بن ساعدة الإيادي" و"عثمان بن الحويرث" و "عدي بن زيد العبادي" نصارى، وبعض منهم مثل "أسعد أبو كرب الحميري"، "أبو كرب اسعد الحميري"3 و"عبيد بن الأبرص"، و"زهير بن أبي سلمى"، مشكوك في أمرهم، لا نستطيع أن نذكر شيئًا عن دينهم. ولهذا فأنا أذكرهم هنا بحذر، مجاراة لمن أدخلهم في أهل الدين من الجاهليين. ولا أعني أنهم كانوا على الحنيفية، أي على شريعة التوحيد التي ينص عليها أهل الأخبار.

1 Sprenger، Das Leben، Bd.، I، S. 4.

2 بلوغ الأرب "2/ 244 وما بعدها"، مروج الذهب "1/ 78"، "دار الأندلس".

3 بلوغ الأرب "2/ 244"، مروج "1/ 52 وما بعدها".

ص: 39

وقد اقتصر "محمد بن حبيب" على ذكر بعض من تقدم، حين تكلم عن "أسماء الذين رفضوا عبادة الاصنام"، فذكرهم على هذا النحو: عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب الأسدي. وذكر أن منهم من تنصر ومات على النصرانية، مثل: عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب الأسدي1.

فأما قس بن ساعدة الأيادي، فقد رفعه الإخباريون من مصاف أسوياء البشر، ووضعوه في صف المعمرين الذين عاشوا مئين من السنين قبل سبع مئة سنة، وقيل ست مئة سنة، أو أقل من ذلك بكثير، غير أنه لا يقل عن ثلاث مئة سنة على كل حال2.

وأما مولده، لمجهول. وأما وفاته، فيكاد يحصل الاتفاق على أنه كان قبيل البعثة. وقد ورد في رواية إن الرسول أدركته ورآه يخطب في سوق عكاظ خطبته الشهيرة المعروفة، غير أنه لم يحفظها، وأن أبا بكر، وكان من جملة من حضر السوق وسمع الخطبة، كان قد حفظها، فأعادها على الرسول. وهي الخطبة الشهيرة المتداولة بين الناس والمحفوظة في الكتب. وهناك رواية تذكر أن الرسول كان يحفظها، وقد تلاها على من حضر عنده، وتلا بعضًا منها على وفد عبد العقيس3.

1 المحبر "171 وما بعدها".

2 وخيل: قس بن ساعدة بن حذافة بن زفر، وقيل: حذافة بن زهر بن نزار. وقيل: قسبن ساعدة بن عمرة بن عدي بن مالك بن ايدعان بن النمر الخ

وقيل: هو ابن ساعدة بن عمرو بن شمر بن عدي بن مالك، وهكذا. بلوغ الأرب "2/ 246"، البيان والتبيين "1/ 50""طبعة السندوبي"، "1926"، شعراء النصرانية "2/ 211"، "قس بن ساعدة الأيادي بن عمرو بن عدي بن مالك بن ابدطان "ايدعان" بن النمر بن وائلة بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أفصى، المحبر "ص 136"، الأغاني "14/ 40"، البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 230" الميداني، مجمع الأمثال "1/ 117".

3 وفي نصها بعض الاختلاف، راجع:

الإصابة "5/ 285"، "وقدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل منهم: هل تعرف قس بن ساعدة؟ فقال رسول الله: "ليس هو منكم. هذا رجل من إياد، تحنف في الجاهلية، فوافى عكاظ والناس مجتمعون، فيكلمهم بكلامه الذي حفظ عنه"، طبقات ابن سعد: الجزء الأول: القسم الثاني "ص 55"، "وفد بكر بن وائل"، محاضر الأبرار "ص 48 وما بعدها"، البداية والنهاية "2/ 230".

ص: 40

ومما يلفت النظر في الروايات الواردة عن حفظ الرسول لخطبة "قس"، هو إشاراتها إلى أن النبي كان يحفظ نص الخطبة، ولم يكن يحفظ الشعر الملحق بها. مع أن حفظ الشعر أيسر من حفظ النثر. ولعل الرواة رووا ذلك لإظهار أن الرسول كان لا يقول الشعر، وإنما كان يسمعه. ولكننا نجدهم من ناحية أخرى يروون أنه كان يتلو من الشعر المناسب ما شاء أن يتلو، وأنه كان يستشهد به في كلامه، وأنه كان يحفظ شيئًا من شعر الماضين والحاضرين. ولن يضير النبوة من حفظ الشعر شيئًا.

والنص المحفوظ لخطبة "قس" نص مختلف لم يتفق الرواة عليه. مما يدل على أنه لم يكن مدونًا، وإنما روي بروايات مختلفة، ثم دونت فيما بعد.

وأوصل بعض الإخباريين قسًا إلى القيصر، فزعموا أنه ذهب إليه واتصل به، وأن القيصر أكرمه وعظمه. وأنه سأله عن العلم قائلًا له: ما أفضل العلم؟ قال: معرفة الرجل بنفسه. قال: فما أفضل العقل؟ قال: وقوف المرء عند علمه. قال: فما أفضل الأدب؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المروءة؟ قال: قلة رغبة المرء في اختلاف وعده. قال: فما أفضل المال؟ قال: ما قضي به الحق1. وهو كلام ينبئك أسلوبه وطبيعته عن أصله وفصله، وله أصل يرجع إلى الفلاسفة اليونان. ونسبوا له قبرًا جعلوه في موضع "روحين" على مقربة من حلب في لحف جبل ينذر له2.

ونجد حديث قيصر المزعوم مع "قس"، في رواية أخرى على شكل آخر. وقد أهملت هذه الرواية اسم قيصر. فلم تشر إليه، واكتفت بلفظة "قيل"، فقالت:"قيل لقس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة؟ قال: معرفة الرجل بنفسه. قيل له: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه! قيل له: فما أفضل المروءة؟ قال استبقاء الرجل ماء وجهه"3.

وقس هو مخترع أوجد للعرب أشياء عديدة على زعم أهل الأخبار. أحدث لهم أمورًا كثيرة. فهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ

1 شعراء النصرانية "2/ 211"، الأمالي، للقالي "3/ 37""دار الكتب"، العقد الفريد "2/ 254 وما بعدها، 290 وما بعدها".

2 شعراء النصرانية "2/ 216"، الأغاني "14/ 40 وما بعدها".

3 العقد الفريد "2/ 290 وما بعدها".

ص: 41

عند خطبته على سيف أو عصا وأول من علا على شرف وخطب عليه، وأول من قال:"أما بعد"، وأول من كتب "إلى فلان بن فلان"1. وأول من قال:"البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فكل ما عرفه العرب من هذه الأمور، هو من صنعة قس وعمله. ثم أنه كان أحد حكماء العرب، وكان أسقف نجران، وخطيب العرب كافة2. وذكروا أن له ولقومه فضيلة ليست لأحد من العرب، لأن الرسول روى كلامه وموقفه على جمله الأورق بعكاظ وموعظته، وعجب من حسن كلامه، وأظهر تصويبه3، وأنه قال فيه: "يحشر أمة وحده" 4.

وجاء في رواية في تفسير قول الرسول: "يحشر أمة وحده"، أو "يرحم الله قسًا، إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة واحدة"، أن وفدًا من إياد قدم على النبي: فسألهم عن قس، فقالوا: هلك. فقال: "رحمه الله، كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق "أحمر" وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أوجدني أحفظه". فقال رجل من القوم، أنا أحفظه يا رسول الله. سمعته يقول: أيها الناس اسمعوا وعوا

إلى آخر الخطبة، وما جاء بعدها من شعر، فقال رسول الله عندئذ قوله المذكور فيه5.

ويختلف هذا الخبر بعض الاختلاف مع خبر آخر أشرت إليه قبل قليل، فقد وردت في ذلك الخبر أن رسول الله كان يحفظ تلك الخطبة، غير أنه لم يكن يحفظ الأبيات الملحقة بها، وكان "أبو بكر" يحفظها، فأعادها على مسامعه6. كما يختلف عن رواية أخرى، جاء فيها أن الوفد الذي قدم على الرسول كان وفد "عبد القيس"، وأن الذي قرأ الشعر عليه هو أحد بني عبد القيس7.

1 المؤتلف والمختلف، للمرزباني "338"، بلوغ الأرب "2/ 246"، الأغاني "14/ 40 وما بعدها" مروج الذهب "1/ 82"، "2/ 102"، "دار الأندلس"، البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".

2 اللسان "8/ 58"، شعراء النصرانية "2/ 211".

3 بلوغ الأرب "2/ 246".

4 الأغاني "14/ 40".

5 الأغاني "14/ 40 وما بعدها"، المعارف "61"، البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".

6 البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها"، مجمع الأمثال، للميداني "1/ 117".

7 البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".

ص: 42

ويذكر بعض أهل الأخبار، أن "الجارود"، وكان في ضمن رجال وفد "عبد القيس"، قال للرسول حين سأل عن "قس":"فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وإني من بينهم لعالم بخبره، وأقف على أمره. كان قس يا رسول الله سيطًا من أسياط العمر عمر ستمائة سنة، تقفر منها خمسة أعمار في البراري والقفار". ثم أخذ في وصفه وفي ذكر عقائده، وفي لقياه لـ "سمعان" رأس الحواريين. وخلص بعد ذلك إلى ذكر نص خطبته بسوق عكاظ، ومطلعها:"شرق وغرب"، حتى انتهى منها، ثم ألحق بها شعرًا1. وهي خطبة تختلف تمامًا عن الخطبة المعروفة التي تنسب إليه، وإن كانت على نمطها من حيث الأسلوب والأفكار، وفيها مصطلحات إسلامية ترد في القرآن الكريم. ولا أستبعد أن تكون من وضع شخص آخر غير الجارود. وضعها في العصور العباسية، للحث على الزهد.

والجارود من سادات عبد القيس، وكان نصرانيًّا، قدم على النبي سنة عشر في وفد عبد القيس الأخير، وسر الرسول بإسلامه، وكان حسن الإسلام صلبًا على دينه، وقتل بأرض فارس في خلافة عمر، وقيل بقي إلى خلافة عثمان2.

ولو صح ما ذكروه من أنه كان أسقفًا على نجران، لوجب إخراجه إذن من الحنيفية وإدخاله في عداد النصارى. ولكن ليس مؤكدًا أنه كان أسقفًا على ذلك الموضع، ويرى الأب "لامانس" احتمال كونه نصرانيًّا، لأن ما نسب إليه يبعث على هذا الظن3. وقد أدخل الأب "لويس شيخو" قسًا في جملة النصارى الجاهليين، وأورد أكثر ما نسب إليه في ترجمته4. غير أن كثيرًا من هذا المنسوب إليه منسوب إلى غيره. وقد أشار إلى من نسب إليهم من العلماء.

وذهب "شبرنكر" إلى أن قسًا كان من "الركوسية"، وهم فرقة عرفهم أهل اللغة بأنهم بين النصارى والصابئين، شملت جماعة من الحائرين في أمر دينهم، ولذلك عمدوا إلى السياحة والترهب والانزواء5. وقد حسبهم العرب نصارى، فأدخلوهم فيهم في أثناء كلامهم على هؤلاء6.

1 البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".

2 الإصابة "1/ 217 وما بعدها"، "رقم 1042".

3 Ency.، II، P، 1161، Sprenger، Leben، I، S. 45.

4 شعراء النصرانية "2/ 211 وما بعدها".

5 تاج العروس "4/ 163".

6 Sprenger، Leben، I، S. 43.

ص: 43

ويرى "لامانس" أنه لو كان قيس شخصية تاريخية حقًّا، فإن زمانه لا يمكن أن يكون في أيام الرسول أو في أيام مقاربة من أيامه. إذ لا يعقل عنده أن يتكون هذا القصص الذي صير قسًا شخصية من الشخصيات الخرافية، لو كان من المعاصرين أو المقاربين له. ثم إن ايادًا لم تكن في أيام الرسول كتلة واحدة، حتى ينسب قس إليها. فلا بد اذن أن تكون أيام هذا الرجل بعيدة بعض البعض عن أيام الرسول1.

غير أن حجج "لامانس" المذكورة لا يمكن أن تكون سندًا يؤيد ادعاءه في ان قسًا كان شخصية خرافية، أو أنه كان رجلًا حقًّا، ولكنه كان بعيد العهد عن الرسول. فقد روى الإخباريون قصصًا كثيرًا عن سلمان الفارسي وعن غير سلمان من الصحابة، لا يقل نسيجًا عن نسيج قصص قس، فهل يتخذ هذا القصص حجة لإنكار شخصية سلمان وغيره ممن وزد هذا القصص عنهم؟ وهل يجوز أن نقول إن سلمان إن كان شخصًا حقًّا فوجب أن تكون أيامه بعيدة عن أيام الرسول.

ولدى الرواة أبيات ينسبونها إلى بعض الشعراء الجاهليين، هم: الاعشى، والحطيأة، ولبيد، ذكر فيها اسم قس. وقد أشيد فيها بفصاحته وببلاغته وحكمته، حتى جعل لبيد لقمان دون قس في الحكم2.

وورد اسم "قس" في هذا الشعر وفي أمثاله إن صح أنه من شعر الجاهليين حقًّا، وورود اسمه في الحديث وفي الأخبار، هو تعبير عن رأي أهل الجاهلية في خطيب مفوه عد في نظرهم المثل الأعلى في الخطابة وممثل البلاغة عندهم فهو كشيوخ الخطباء عند اللاتين.

1 Ency.، II، P. 1161.

2 قال لبيد:

وأخلف قسا ليتني ولعلني

وأعيا على لقمان حكم التدبر

الإصابة "5/ 285""قس"، قال الأعشى:

وأحلم من قس وأجرى من الذي

بذى الغيل من خفان أصبح حاردا

وفي رواية أخرى:

وأحلم من قيس وأجرء مقدمًا

لذى الدرع من ليث إذا راح حاردا

ديون الأعشى "ص 49""تحقيق R. Geyer". المؤتلف والمختلف "ص 338"، وقال الحطياة:

وأقول من قس وأمضى إذا مضى

من الرمح إذ مس النفوس نكالها

المؤتلف والمختلف "ص 338".

ص: 44

وجميع هذا القصص المروي عن قس، هو من النوع الذي يحتاج إلى تمحيص. وقد نسبوا إليه شعرًا، زعموا أنه قاله وهو يبكي بين قبرين بني بينهما مسجدًا، هما قبرا أخويه، على حين أن أكثر الرواة يقولون إن هذا الشعر لغيره، وأن قصة القبرين لا تخص قسًا، بل تخص أناسًا آخرين، وقد كانا في إيران وأصحابهما قبرا فيهما في الإسلام. ورواة هذا الخبر، هم رواة خطبة قس الشهيرة، وهم محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح بن عباس وجماعة آخرون أشار "ابن حجر" إلى بعضهم في كتابه:"الإصابة في تمييز الصحابة"، وقد ضعف ابن حجر هذه الطرق، فقال:"وقد أفرد بعض الرواة طريق حديث قس، وفيه شعره وخطبته، وهو في الطوالات للطبراني وغيرها. وطرقه كلها ضعيفة"1. ثم عرج بعد ذلك إلى ذكر بعض الطرق التي وردت فيها خطبة قس.

وأما "زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر"، فهو من قريش من بني عدي، لم تعجبه عبادة قومه، فانتقدها وسخفها وهزي منها ووقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان، ونهى عن قتل الموؤودة، وامتنع من الذبح للأنساب ومن أكل الميتة والدم وما ذبح للأصنام. فكان في آرائه هذه مثل نفر آخر من قريش منهم: ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش، لاموا قومهم على عبادتهم الأصنام، واتخاذ الأنصاب وعبادة ما لا يضر ولا ينفع2. وهم طائفة من المفكرين، رأى بعضهم بلاد الشام، واتصل ببعض المبشرين النصارى، ووقف على التطورات الفكرية في الخارج، ولعله كان يقرأ ويكتب، وله اطلاع على مؤلفات في الفلسفة والدين.

وترجع إحدى الروايات سبب خروج "زيد" على عبادة قومه، أنه حضر يومًا وحضر معه في ذلك اليوم "ورقة بن نوفل"، و "عبد الله بن جحش" و "عثمان بن الحويرث"، عيدًا من أعياد قريش، عند صنم من أصنامهم،

1 الأغاني "14/ 40 وما بعدها"، الإصابة "5/ 286".

2 ابن هشام "1/ 244 وما بعدها"، ارشاد اساري "6/ 190"، أسد الغابة "2/ 236"، طبقات الشعراء "ص 66""طبعة ليدن"، البداية والنهاية "2/ 237"، ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني "ص 707"، المسعودي، مروج "1/ 70""محمد محيي الدين عبد الحميدي" الأغاني "3/ 113"، البخاري "5/ 50" المعارف "27".

ص: 45

كانوا يعظمونه، ويعكفون عنده، أو يديرون به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا، وكانوا ينحرون له، فلما خلد بعضهم إلى بعض وتصادقوا، قالوا ليكتم بعضكم على بعض، واتفقوا على ذلك، ثم قال قائلهم: تعلمون والله ما قولكم على شيئ، لقد أخطئوا دين إبراهيم وخالفوه. ما وثن يعبد؟ لا يضر ولا ينفع فابتغوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء. فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب"1.

وقد زار زيد الشام والبلقاء، وعاش على خمس سنين قبل البعث، فهو من أولئك الرهط الثائرين على قومهم، والذين أدركوا أيام الرسول. وقد نسبوا إليه شعرًا في تسفيه عبادة قومه، وفي فراقة دينهم وما لقيه منهم. وكان قد أوذي لمقالته هذه في دين قومه، حتى أكره على ترك مكة والنزول بـ "حراء"، وكان "الخطاب بن نفيل" عمه، وقد وكل به شبابًا من شباب قريش وسفهاء من سفائهم كلفهم ألا يسمحوا له بدخول البلدة وبمنعه من الإتصال بأهلها، مخافة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراق ما هم عليه. واضطر زيد إلى المعيشة في هذا المحل، معتزلًا قومه، إلا فترات، كان يهرب خلالها سرًا، ليذهب إلى موطنه ومسكنه، فكانوا إذا أحسوا بوجوده هناك، آلموه وآذوه2.

وورد في رواية، يرجع رواتها سندها إلى "هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل"، أي إلى حفيد "زيد"، تذكر أن "زيد" خرج مع "ورقة بن نوفل" يلتمسان الدين، حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فسأله عن الدين، فلم يقتنع بالنصرانية، أما "ورقة"، فاقتنع بها وتنصر3. وتذكر رواية أخرى أن "زيد بن عمرو" خرج إلى الشام ومعه:"ورقة بن نوفل"، و"عثمان بن الحويرث"، و "عبيد الله بن جحش"4. ويذكر الرواة أن زيدًا كان

1 البداية "2/ 238"، ابن هشام، سيرة "1/ 242".

2 ابن هشام "1/ 240 وما بعدها""البابي"، بلوغ الأرب "2/ 251 وما بعدها"، ابن سعد، الطبقات "1/ 162""طبعة دار صادر"، مروج الذهب "1/ 70""القاهرة 1958م"، البداية "2/ 238".

3 البداية "2/ 238".

4 البداية "2/ 243".

ص: 46

نديمًا لورقة بن نوفل، فمات ورقة، وخرج زيد إلى الشام، فقتله لخم وجذام1.

ويذكر أهل الأخبار أن حرصه على الحنيفية وتمسكه الشديد بها، حمله على السفر إلى بلاد شاسعة بحثًا عنها وعن مبادئها الصحيحة، مبادئ إبراهيم الأصيلة الخالية من كل درن وشائبة. فذهب إلى الموصل والجزيرة، ثم طاف في بلاد الشام حتى انتهى إلى راهب بـ "ميفعة"2 "ببيعة"3 من أرض البلقاء أو "أيلة"، فسأله عما قدم من أجله، فأرشده إلى أن ما يبتغيه ويراه لا يجده في النصرانية، فغادره وتركه، وعاد يريد مكة موطنه. فلما توسط بلاد لخم أو جذام، عدوا عليه وقتلوه. وقالوا أيضًا أنه التقى في أثناء أسفاره هذه بأحبار اليهود وبعلماء من النصارى، ولكنه لم يجسد عندهم ما يطمئن نفسه، وما يرى فيه التوحيد الخالص، ومبادئ إبراهيم، لذلك لم يدخل في ديانة ما من تلك الديانتين، حتى قتل4.

وتذكر رواية من الروايات، أن "زيد بن عمرو بن نفيل" مات بالسم في بلاد الشام، سمة بعض ملوك غسان5. وتجعل رواية أخرى مقتله بمكان يقال له "ميفعة" من أرض البلقاء بالشام، وتذكر. أن قتلته هم من بني لخم6. وتذكر رواية أن "ورقة بن نوفل"، لما سمع بخبر وفاته بكاه في شعر له7.

وهناك روايات أخرى تفيد رجوع زيد إلى قومه بعد عودته من الشام، ووفاته وفاة طبيعية لا قتلًا بيد إنسان. "توفي وقريش تبني الكعبة قبل أن ينزل الوحي على رسول الله بخمس سنين"، ودفن بأصل حراء8.

1 المحبر "175".

2 ابن هشام "1/ 249".

3 "ببيعة"، البداية "2/ 238".

4 ابن هشام "1/ 249 وما بعدها"، طبقات ابن سعد: الجزء الثالث: القسم الأول "ص 276 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 251 وما بعدها"، "فلما توسط أرض جذام عدوا عليه فقتلوه" المحبر "ص 172"، سير أعلام النبلاء، للذهبي "1/ 90 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 707 وما بعدها"، المسعودي، مروج "1/ 70"، إرشاد الساري "6/ 172 وما بعدها".

5 المسعودي، مروج "2/ 56".

6 البداية "2/ 241".

7 ابن هشام "1/ 249 وما بعدها".

8 طبقات ابن سعد: الجزء الثالث: القسم الأول "ص 277"، البداية "2/ 241".

ص: 47

وفي رواية تظهر عليها سيماء الصنعة، أن الذي أرشد "زيد بن عمرو" إلى الحنيفية، حبر التقى به في بلاد الشام، وعالم نصراني، وذلك أنه كان قد سألهما عن دين صحيح قويم، فأرشداه إلى الحنيفية دين إبراهيم. فدخل فيها وصار يرفع يديه إلى الله ويقول: اللهم إني أشهدك إني على دين إبراهيم1. ونجد في هذه الرواية أسئلة وجهها "زيد" إلى الحبر في البحث عن الله وعن دينه الحق، وأجوبة الحبر عليها. كما نجد أسئلة أخرى ذكر أنه وجهها إلى العالم النصراني، ونجد أجوبة ذلك العالم عليها. وكيف أنهما دلاه على الحنيفية2.

وذكر "ابن حبيب" أن زيدًا "أول من عاب على قريش ما هم عليه من عبادة الأوثان"3. وقال عنه "ابن دريد"، وكان قد "ترك دين العرب في الجاهلية وقلاه"4. وقصد بـ "دين العرب" الوثنية ولا شك. وزعم أنه "كان يحيى الموؤودة. يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته مهلًا: لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها"5. وقيل أنه كان يقول: "اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب إليك سجدت إليه. ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته"6. وأنه كان "يقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم. وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله تعالى! إنكارًا لذلك وإعظامًا له"7. أو "يا معشر قريش: أيرسل الله قطر السماء، وينبت بقل الأرض، ويخلق السائمة فترعى فيه، وتذبحونها لغيره! والله ما أعلم على ظهر الأرض أحدًا على دين إبراهيم غيري"8. ويستقبل القبلة ثم يقول:

1 الطبري، تفسير "3/ 306"، صحيح البخاري "5/ 50"، "مطبعة الأزهر بمصر".

2 الأغاني "3/ 126 وما بعدها""دار الكتاب المصرية"، البداية "2/ 238".

3 المحبر "ص 171".

4 الاشتقاق "ص 103".

5 طبقات ابن سعد، الجزء الثالث: القسم الأول "ص 276 وما بعدها".

6 المحبر "ص 171".

7 أسد الغابة "2/ 236"، طبقات الشعراء "66""طبعة ليدن"، بلوغ الأرب "2/ 248"، البداية والنهاية "2/ 237"، إرشاد الساري "6/ 171 وما بعدها".

8 الأغاني "3/ 119 وما بعدها".

ص: 48

أنفي لرب البيت عان راغم

مهما يجشمني فإني جاشم

عذت بما عاذ به إبراهيم

مستقبل القبلة وهو قائم1

وروي أن أسماء بنت أبي بكر "قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندًا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري. ثم يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به. ولكني لا أعلم. ثم يسجد على راحته"2. ثم يصلي إلى الكعبة ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم3.

وذكر "ابن دريد" أن "زيد بن عمرو بن نفيل"، أدرك أيام الرسول، ثم قال:"وكان النبي عليه الصلاة والسلام قبل الوحي قد حبب إليه الانفراد، فكان يخلو في شعاب مكة، قال: فرأيت زيد بن عمرو بن نفيل في بعض المشاعب، وكان قد تفرد أيضًا، فجلست إليه وقربت إليه طعامًا فيه لحم، فقال لي يابن أخي إني لا آكل من هذه الذبائح"4.

وذكر "ابن دريد"، أن زيد بن عمرو قال شعرًا في تجنبه الأصنام، هو:

فلا عزى أدين ولا ابنتيها

ولا صنمي بني عمرو أزور

أربًا واحدًا أم ألف رب

أدين إذا تقسمت الأمور5

ويفهم من هذا الشعر أن "عزى"، إلهة، أي انثى، وأن لها ابنتين اثنتين. ولم يشر "ابن دريد" إلى اسميهما.

وقد صيغت الرواية المتقدمة التي تشير إلى التقاء الرسول بزيد في شكل آخر. صيغت بهذه الصورة: "أتى زيد بن عمرو بن نفيل على رسول الله صلى الله

1 كتاب نسب قريش، للزبيري "ص 364".

2 البداية "2/ 237"، الذهبي، تاريخ الإسلام "1/ 54". البغدادي، خزانة "3/ 99".

3 المصدر نفسه.

4 الاشتقاق "84"، إرشاد الساري "6/ 171 وما بعدها".

5 الاشتقاق "84"، وورد:

أربًا واحدا أم ألف رب

أدين إذا تقسمت الأمور

عزلت اللات والعزى جميعًا

كذلك يعقل الجلد الصبور

فلا عزى أدين ولا ابنتيها

ولا صنمي بني عمرو أزور

ص: 49

عليه وسلم، ومعه زيد بن حارثة، وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعواه لطعامهما، فقال زيد بن عمرو: يابن أخي: أنا لا آكل مما ذبح على النصب"1.

وورد خبر التقاء "زيد" مع رسول الله في رواية أخرى. يرجع رواتها سندها إلى "زيد بن حارثة". يذكرون أنه قال: خرجت مع رسول الله في يوم حار من أيام مكة، وهو مردفي، فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل، فحيا كل منا صاحبه. فقال النبي:"يا زيد مالي أرى قومك قد شنقوك؟ " فأجابه زيد، بأنه لا يهتم بذلك، وأنه خرج يبتغي دين الله، حتى قدم على أحبار خيبر، فوجدهم يعبدون الله ويشركون به. ثم سأل أحد الأحبار، وهو شيخ منهم عن الدين الذي يبتغيه، فقال له: ما نعلم أحد يعبد الله به إلا شيخًا بالحيرة، فخرج إليه. فلما كلمه قال له: إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك قد بعث نبي، قد طلع نجمه. فعاد إلى مكة2. ولو صح هذا الخبر لوجب أن يكون زيد قد أدرك مبعث الرسول. ولكن أهل الأخبار مجمعون على أنه توفي قبل المبعث. وأن الرسول نفسه قال عنه:"يبعث يوم القيامة أمة واحدة". وعلى الخبر سيماء الصنعة والتزويق.

ومروي عنه أن قومه كانوا إذا دعوه إلى وليمة، كان يأبى أن يأكل منها قائلًا:"إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه"3. وهكذا كان يقاطع أكل لحوم الحيوانات التي تذبح للأصنام. ويشاركه في الامتناع عن أكل لحوم هذه الذبائح الأحناف الآخرون، فقد روي أن ورقة بن نوفل كان لا يأكل من لحوم هذه الذبائح أيضًا للسبب المذكور4.

ويذكر أهل الأخبار أن "زيد بن عمرو بن نفيل" كان إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال: لبيك حقًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا، البر أرجو لا الحال، وهل مهجر لمن قال. ثم يقول:

عذت بما عاذ به إبراهيم

مستقبل الكعبة وهو قائم5

1 البداية "2/ 238، 240".

2 أسد الغابة "2/ 231".

3 البخاري "5/ 50".

4 الأغاني "3/ 119".

5 الأغاني "3/ 117".

ص: 50

أو "لبيك حقًّا، تعبدًا ورقًّا، عذت بما عاد به إبراهيم"1.

وذكر أنه كان يأمر بالتوحيد وبعبادة إله واحد. ومن ذلك قوله:

لا تعبدن إلها غير خالقكم

وإن دعيتم فقولوا دونه حدد2

وزعم إنه كان يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة، فصلى وسجد سجدتين، ثم يقول: هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل لا أعبد حجرًا ولا أصلي له ولا آكل ما ذبح له، ولا أستقسم بالأزلام، إنما أصلي لهذا البيت حتى أموت. وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي، فيقول: لبيك لا شرك لك، ولا ند لك، ثم يدفع من عرفة ماشيًّا، وهو يقول: لبيك متعبدًا مرقوقًا3.

ويروي أهل الأخبار أقوالا أخرى لزيد، كما رووا له أشعارًا زعموا أنه قالها، وهي في هذه الأمور التي ينسبونها إلى الأحناف من ذكر لديانة إبراهيم وللتوحيد ومن ذم إلى الأصنام ومن إصلاح لحال مجتمع ذلك اليوم4. كما رووا له أبياتا من شعر زعموا أنه نظمه يعاتب فيه زوجته "صفية بنت الحضرمي"، لأنها كانت تمانع في خروجه عن مكة وفي سفره إلى الخارج التماسا لهذا الدين5.

وتفيد رواية من روايات أهل الأخبار بأن "زيد بن عمرو بن نفيل"، كان في جملة من اشترك في "حرب الفجار"، تقول إنه كان على رأس "بني عدي" وذلك في يوم شمطه6.

وروي أن رسول الله سئل عن "زيد بن عمرو"، فقال:"يبعث أمة وحده يوم القيامة" 7، بل روي أنه ترحم عليه، وأنه قال:"رأيته في الجنة يسحب ذيولا"8.

1 الأغاني "2/ 238".

2 تاج العروس "2/ 331"، "حدد".

3 البداية "2/ 239".

4 الأغاني "3/ 117".

5 ابن هشام، سيرة "1/ 247".

6 البلاذري، أنساب "1/ 102".

7 البخاري "5/ 50"، المعارف "27"، البغدادي، خزانة "3/ 100".

8 ابن سعد، طبقات "3/ 273.

ص: 51

وينسب أهل الأخبار لزيد شعرا، هو من هذا الشعر الذي ينسبوه إلى الأحناف، ذي الطابع الديني، من بحث عن توحيد، وحث على عبادة إله واحد، وإقرار بحساب وكتاب. وأمثال ذلك1. وقد نسب بعض منه إلى "أمية بن أبي الصلت"، ونسب بعض منه إلى شعراء آخرين. كما أن الرواة يروون هذا الشعر بقراءات مختلفة.

ومن ولد زيد رجل كان له سبق وقدم في الإسلام، هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. كان من السابقين الأولين ومن المهاجرين، شهد المشاهد والأحداث المهمة، إلا بدرًا، فإنه لم يكن حاضرًا بالمدينة إذا ذاك. وهو أحد العشرة المبشرة. ذكر أنه أسلم قبل دخول رسول الله دار الأرقم، ولا بد أن يكون لرأي والده في دين قومه وما أبداه من ثورة صريحة جامحة على عقائدهم أثر في نشوء هذا الابن وفي إقدامه مع السابقين على الدخول في الإسلام، بعد أن كان والده قد سبق إسلامه برحيله إلى الآخرة بسنين. وأمه "فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خويلد بن خالد بن اليعمر" من خزاعة، ولسعيد أخت اسمها عاتكة بنت زيد2.

وذكر "ابن هشام" أن زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، اتفقوا في الرأي والعقيدة، وتعاهدوا على نبذ عبادة قومهم، وما كانوا عليه من ضلال، وتصادقوا، وكونوا عصبة خرجت على عبادة قريش، فلم يشتركوا معهم في أعيادهم، ولم يشاركوا في عبادتهم، وظلوا حتى ماتوا عن عبادة قومهم صابئين3.

أما عبيد الله بن جحش بن رئاب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، فقد بقي مرتابا في دين قومه، بعيدا عنهم وعن عبادتهم، حتى إذا ظهر الإسلام دخل فيه، ثم هاجر مع من هاجر إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مسلمة كذلك. فلما صار في الحبشة، فارق الإسلام

1 البداية "2/ 241 وما بعدها".

2 كتاب نسب قريش "365"، الاستيعاب "4/ 365"، الإصابة "2/ 44"، "رقم 3261".

3 ابن هشام "1/ 242""طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، المحبر "171، 175،237"، الروض الأنف "1/ 145".

ص: 52

وتنصر، وهلك هناك1.

وأما عثمان بن الحويرث، فقد بقي مغاضبًا قومه في دينهم، ثم رأى الذهاب إلى الروم، فذهب إليهم، وتقرب إلى قيصر، وحسنت منزلته عنده، وتنصر ومنحه لقب "بطريق"، وأراد تنصيبه ملكًا على مكة، ولكن قومه أبوا عليه ذلك، فلم يتم له مراده، ومات بالشام مسمومًا، سمه عمرو بن جفنة الغساني2.

وذكر "الزبيري"، أن والدة "عثمان بن الحويرث"، هي "تماضر بنت عمير بن أهيب بن حذاقة بن جمح"3. وأنه خرج إلى "قيصر فسأله أن يملكه على قريش، وقال: أحملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل، وكتب له عإدًا وختمه بالذهب، فهابت قريش قيصر، وهموا أن يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة، فصاح، والناس في الطواف: إن قريشًا لقاح، لا تملك ولا تملك، فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، فمات عند ابن جفنة، فاتهمت بنو أسد بن جفنة بقتله"4. وكان ابن جفنة حبس أبا ذئب عنده، وأبا أحيحة بسبب عثمان بن الحويرث5. ويقصدون بابن جفنة: عمرو بن جفنة الغساني6.

وتذكر إحدى الروايات، إن وفاة "عثمان بن الحويرث" كانت بالشام، وقد مات عند قيصر، وكانت وفاته قبل المبعث بثلاثين سنة، أو نحوها. وقد رثاه "زيد بن عمرو بن نفيل"7، وورقة بن نوفل8.

ويعد "عثمان بن الحويرث" من أشراف "بني أسد" من قريش9. وقد كان مع "خويلد بن أسد" على رأس "بني أسد" في "حرب الفجار"10.

1 ابن هشام "1/ 243"، المحبر 76، 88، 172، 173"، البداية "2/ 243".

L KrehI Das Leben Muhammad

2 ابن هشام "1/ 243"، الاشتقاق "ص59"، المحبر "165، 170، 171، 175، 307" الروض الأنف "1/ 146".

3، 4 كتاب نسب قريش "209 وما بعدها"، وذكر صاحب "المحبر" أن أمه من الحبشيات "307".

5 الحبشيات "307"،

6 جمهرة ابن حزم "190".

7 البداية "2/ 243"

8 كتاب نسب قريش "210".

9 المحبر "165".

10 المحبر "170".

ص: 53

وكان ينادمه "شيبة بن ربيعة بن عبد شمس". وقد تنصرا جميعًا، وقتل شيبة يوم بدر كافرًا1.

وأما "أمية بن أبي الصلت"، فهو أحسن الحنفاء حظًّا في بقاء الذكر، بقي كثير من شعره، وربما وضع كثير منه على لسانه، وحفظ قسط لا بأس به من أخباره. وسبب ذلك بقاؤه إلى ما بعد البعث، واتصاله بتاريخ النبوة والإسلام اتصالا مباشرًا وملاءمة شعره بوجه عام لروح الإسلام، لم يكن مسلمًا ولم يرض أن يدخل في الإسلام، لأنه كان يأمل أن تكون النبوة فيه، وأن ينزل الوحي عليه، فيكون نبي العرب والعالم أجمعين، فلما رأى النبوة في الرسول، حسده، وأثار المشركين عليه، ورثى قتلاهم في معركة بدر، وحرض قريشًا عليه، حتى مات على حسده وعناده سنة تسع للهجرة بالطائف قبل أن يسلم قومه الثقفيون. ولم يمت مسلمًا، ولم يمت على دين الوثنيين من قومه: بل مات كافرًا بالديانتين2.

وقد جاء في بعض الروايات، إن وفاة "أمية"، كانت في السنة الثانية من الهجرة3. وورد في روايات أخرى أنه توفي سنة تسع للهجرة، كافرًا قبل أن يسلم الثقفيون4.

ورثاؤه قتلى معركة بدر، محفوظ في قصيدة حائية. مطلعها:

ألا بكيت على الكرا

م بني الكرام أولى الممادح

كبكا الحمام على فرو

ع الأيك في الغصن الصوادح

1 المحبر "175".

2 الأغاني "4/ 120 وما بعدها"، "طبعة دار الكتب المصرية"، ابن هشام "1/ 11، 48،61، 63، 68"، "2/ 16،321، 401،406"، "3/ 65""طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، شرح السيرة النبوية، لأبي ذر بن محمد بن مسعود الخشني "1/ 23،24"،"تحقيق بولس بروفله" نسب قريش "98"، جمهرة الأنساب "257"، ابن قتيبة، الشعراء "429"، شعراء النصرانية "2/ 219 وما بعدها"، الأغاني "16/ 69"،الحيوان للجاحظ "2/ 320"، خزانة الأدب "1/ 119"، الشعر والشعراء "176"، النووي، تهذيب الأسماء "1/ 126"، Ency IV p 997"

3 تاريخ الخميس "1/ 412"، الأغاني "4/ 124، 129"، الشعر والشعراء "1/ 369".

4 الإصابة "1/ 134"، "رقم 552".

ص: 54

وهي قصيدة يتوجع فيا أمية لسقوط قتلى المشركين، ودفنهم بالقليب، وفيهم "عتبة" و"شيبة" ابنا "ربيعة بن عبد شمس"، وهما ابنا خالة أمية، وقد ذكر بعض الرواة أن الذي حمله على قول هذا الشعر، هو أنه لما وصل إلى القليب موضع مدفن قتلى قريش بدر، وكان ذاهبا إلى المدينة يريد الدخول في الإسلام، قال له بعض من كان معه من غلاط الأكباد من المشركين: هل تدري ما في هذا القليب؟ قال: لا. قيل: فيه شيبة وربيعة وفلان وفلان. فجدع أنف ناقته، وشق ثوبه، وبكى، وعاد إلى الطائف1.

وذكر أن أمية نال في بيتين من هذه القصيدة من أصحاب رسول الله، ولذلك أهملهما "ابن هشام" صاحب السيرة2. وذكر أيضًا أن النبي نهى عن روايتهما3. ولكن الرواة رووها وحفظوها ودونوها في الكتب، فكيف تجرؤوا على حفظها وتدوينها لو صح أن النبي نهى عن روايتها على نحو ما يزعمه أهل الأخبار.

وأمية مثل سائر المتألهين الآخرين من طبقة الحنفاء، سافر إلى الشام، واتصل بأهلها، وأوى إلى الأديرة ورجال الدين يسأل منهم عما يهمه من مشكلات دينية وعما كان يجول في خاطره من عبادة قومه وحقيقة العالم، وكان تاجرًا، يذهب مع التجار في قوافلهم إلى تلك الديار التي كانت في أيدي الروم. ثم إنه كان على ما يظهر من الروايات التي وردت في ترجمته وسيرته قارئًا كاتبًا، قرأ الكتب، ووقف عليها، ومنها ومن اتصاله برجال الدين وبأهل الكتاب تكونت عنده فكرته عن الدين، وشكه في عبادة قومه وفيما كانوا عليه من عقائد وعبادات. وقد بدا هذا التأثر في الكلمات والمصطلحات الأعجمية والغربية المستعملة في شعره وفي الأمثلة والقصص المنتزع من الكتابين: للعهد القديم والعهد الجديد ومن موارد

وأمية مثل سائر المتألهين الآخرين من طبقة الحنفاء، سافر إلى الشام، واتصل بأهلها، وأوى إلى الأديرة ورجال الدين يسأل منهم عما يهمه من مشكلات دينية وعما كان يجول في خاطره من عبادة قومه وحقيقة العالم، وكان تاجرا، يذهب مع التجار في قوافلهم إلى تلك الديار التي كانت في أيدي الروم. ثم إنه كان على ما يظهر من الروايات التي وردت في ترجمته وسيرته قارئا كاتبا، قرأ الكتب، ووقف عليها، ومنها ومن اتصاله برجال الدين وبأهل الكتاب تكونت عنده فكرته عن الدين، وشكه في عبادة قومه وفيما كانوا عليه من عقائد وعبادات. وقد بدا هذا التأثر في الكلمات والمصطلحات الأعجمية والغربية المستعملة في شعره وفي الأمثلة والقصص المنتزع من الكتابين: للعهد القديم والعهد الجديد ومن موارد

1 ابن هشام "2/ 401 وما بعدها"، راجع القصيدة في "ص20"، من ديوان أمية، بيروت 1934، بلوغ الأرب "2/ 256"، خزانة الأدب "1/ 119"، الحيوان، للجاحظ "2/ 329"، الشعر والشعراء "176"،البيان والتبيين "1/ 291" المسعودي، مروج "1/ 73" محمد محيي الدين عبد الحميد" "1958م"، الأغاني "119 وما بعدها"، خزانة الأدب "2/ 39 وما بعدها"، الأغاني "4/ 122"، الإصابة "1/ 134"، "رقم 552".

2 ابن هشام "2/ 405".

3 الأغاني "4/ 123""ذكر أمية بن أبي الصلت ونسبه وخبره"، بروكلمان، تاريخ الأدب العربي "1/ 113".

ص: 55

أخرى عديدة من الموارد الشائعة المستعملة عند أهل الكتاب1.

وقد ورد في بعض الأخبار أن أمية سافر مرة مع أبي سفيان والد معاوية في تجارة إلى بلاد الشام، فكان كلما نزل منزلا أخذ فيه سفرا له يقرأه على من معه، كما كان يزور علماء النصارى ويتباحث معهم، وكان يلبس ثوبين أسودين حينما يقابلهم2. ولم تذكر الرواية شيئًا عن السفر أو الأسفار التي كان يقرأ منها أمية ويشرحها لمن معه من التجار. وتذكر رواية أخرى أنه كان قد بلغ مع "أبي سفيان" غزة أو "إيلياء"3.

ولأمية في هذا اليوم ديوان ضم أكثر ما نسب إليه من شعر. كما أن في بطون كتب الأدب والأخبار أشعار أخرى لم يرد لها ذكر في هذا الديوان. ومعظم شعره هو عن الدين والآخرة وعن الجنة والنار، والحساب والكتاب، وقد تضمن إشارات إلى حوادث وقعت في أيامه، أو في أيام قريبة من أيامه مثل قصة الفيل، كما تضمن بعض قصص الأنبياء، ولتعرض شعره إلى هذه النواحي نعت بشاعر الآخرة4.

ومما ذكره الإخباريون ورواة شعر أمية من أمثلة على استعماله للكلم الغريب، أنه استعمل "الساهور" للقمر، وهي كلمة لا تعرفها العرب، وإنه ذكر "السطيط"، أسماء لله تعالى. وأنه أطلق كلمة "التغرور" على الله تعالى في موضع آخر من شعره، وأنه سمى السماء "صاقورة" و"حاقورة" وأنه استعمل أشياء أخرى من هذا القبيل. ولولعه هذا باستعمال الغريب، رفض علماء اللغة الاحتجاج بشعره5.

1 الأغاني "4/ 121 وما بعدها""طبعة دار الكتب المصرية"، "وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب، يأخذها من الكتب المتقدمة، أو بأحاديث أهل الكتاب" الشعر والشعراء "1/ 369".

2 البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 220"، الأغاني "4/ 123 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية".

3 البداية والنهاية "2/ 224".

4 تاريخ الأدب العربي، لبروكلمن "1/ 113""الترجمة العربية"، عيون الأخبار، لابن قتيبة "6/ 374"، الحيوان "7/ 321""عبد السلام محمد هارون"، البيان والتبيين "1/ 291".

5 الأغاني "4/ 121 وما بعدها"، شعراء النصرانية "2/ 219"، ديوان أمية فحول الشعراء "جمع بشير يموت""بيروت 1934م""ص5 وما بعدها".

سيرة ابن هشام "1/ 48".

ص: 56

والساهور، كلمة آرامية الأصل من أصل "سهرو" SahroK بمعنى القمر، أي تمامًا بالمعنى الوارد في شعر أمية1.

وهذا الشعر المنسوب إلى أمية وغريبه خاصة مادة مهمة جدًّا تجب دراستها بعناية، لمعرفة مبلغ صحة ما جاء في أخبار الرواة عن هذه الكلمات وعن أصولها ومواردها الأولى، إن صح إنها من أشعار تلك الأيام حقًّا، إذ ترشدنا أمثال هذه الدراسات إلى معرفة المنابع التي استقى منها هذا الشاعر علمه وإلهامه ومدى تأثره وتأثره أمثاله من الجاهليين بالآراء والتيارات الفكرية التي كانت في مكة وفي خارج جزيرة العرب قبيل الإسلام.

وقد روى الإخباريون قصصًا عن التقاء أمية بالرهبان، وعن توسمهم معالم النبوة فيه، فكانوا يسألونه أسئلة تستخرج من أجوبتها في نظرهم معالم النبوة. فلما كانوا يقفون على الأجوبة، يقولون له: كادت النبوة تكون فيه، لولا بعض النقص في علاماتها عنده، كما رووا قصصًا عن شق طيرين لقلب هذا الشاعر، لتنظيفه، وتهيئة النبوة فيه. ولكنهما عندما وقفا عليه لم يجدا أن النبوة خلقت له2. وقد حاكى أهل الأخبار قي قصصهم هذا ما رواه رجال السير عن علامات النبوة عند الرسول3. كذلك رووا أنه كان يتفرس في لغات الحيوانات، فيعرف ما تقوله وما تريده ويقصه على الناس وإنه كان يسخر الجن، وكانت تطيعه، وأنه تنبأ بموته حينما نعب عليه الغراب4. فجعلوه بأخبارهم هذه في مرتبة تضاهي سليمان في علمه بمنطق الطير وبقية الحيوانات5. وذكر "ابن دريد":"كان بعض العلماء يقول له لولا النبي صلى الله عليه وسلم، لادعت ثقيف أن أمية نبي، لأنه قد درس النصارى وقرأ معهم، ودارس اليهود وكل الكتب قرأ"6.

وتشبه قصة تنظيف الطيرين لقلب أمية، وهي القصة التي أشرت إليها قبل

1 غرائب اللغة العربية "ص189".

2 الأغاني "4/ 123 وما بعدها"، شعراء النصرانية، الجزء الثاني "ص219". ابن سلام، طبقات فحول الشعراء "220 وما بعدها" "دار المعارف

Sprenger، Leben، I، s. 119، M. cl. Huart، Le Livre de La Creation Et de L'histoir، I، pp. 55، 153، 155، 156، 190، 191، 195.

4 البداية والنهاية "2/ 227 وما بعدها".

5 النمل، الآية 15 وما بعدها.

6 الاشتقاق "ص184".

ص: 57

قليل، خبر "حليمة السعدية" مرضعة الرسول لصدر النبي. ورواة قصة شق صدر أمية وتنظيف قلبه هي من أهل الطائف، ويرجعون سند قصتهم إلى أخت أمية المسماة "الفارعة"، "وكانت ذات لب وعقل وجمال، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم بها معجبا"1، وقد وفدت عليه، فلما سألها عن شعر أخيها كما يقول الرواة، قصت عليه قصة الطيرين، كما قصت عليه قصة وفاته" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها"2.

ويشير القصص الوارد عن التقاء "أمية" بالأحبار وبالرهبان وباتصاله بهم، إلى أن أمية كان يرجو أن يكون نبيا، وأنه كان يعتقد بقرب ظهور نبي وتأمله أن يكون هو ذلك النبي المرتجي:

ألا نبي منا فيخبرنا

ما بعد غايتنا من رأس مجرانا3

وقد كسف وتألم كثيرًا وأكل الحسد قلبه، حين فلت الأمر منه، إذ سمع بإعلان الرسول رسالته، ودعوة الناس إلى دين الله، الذي كان أمية نفسه يدعو إليه. وقد ورد أنه لما سمع بنبوة الرسول قال:"إنما كنت أرجو أن أكونه"4.

ويروي أهل الأخبار أن أمية كان قد مات وهو معتقد بأن الحنيفية حقٌّ إذ رووا أنه قال في مرض موته، "قد دنا أجلي، وهذه المرضة فيها منيتي وأنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد. وقال: لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر".

وفي جملة ما رووه عنه، أنه عرف مجيء يومه من نعيب غراب، نعب على مقربة منه. فحدث القوم بما سمعه من الغراب، وكان يعرف منطقه، وقال لهم

1 البداية والنهاية "2/ 224 وما بعدها".

2 البداية والنهاية "2/ 224 وما بعدها"، تهذيب ابن عساكر "3/ 127"، مروج "1/ 57 وما بعدها"، الطبرسي، مجمع "7/ 63 وما بعدها"، الطبري، تفسير "9/ 121""طبعة البابي"، تفسير ابن كثير "2/ 264"، شرح الشهاب على البيضاوي "4/ 236".

3 البداية والنهاية "2/ 227" تهذيب ابن عساكر "3/ 127"، تاريخ الخميس، "1/ 412.

4 الأغاني "4/ 123 وما بعدها".

ص: 58

أنه سيموت وذكر علامة ذلك، فكان أن مات على نحو ما قال للقوم1. وذكر أيضًا أنه لما كان على فراش الموت محتضرًا أفاق عدة مرات، وكان يتلو في كل مرة: "لبيكما لبيكما"، ها أنذا لديكما"، ثم يتلو هذا الكلام بكلام آخر فيه توسل وتضرع إلى الإله، إلى أن أفاق للمرة الأخيرة، فقال شعرًا بين فيه أن الموت أمر لا بد منه، وأنه هالك في هذه المرة لا محالة، ثم هلك، دون أن يؤمن بالرسول2.

وهذا القصص الوارد عن أمية، وهو -بالطبع- من القصص المصنوع الموضوع، مثل كثير من أخباره وأخبار غيره، قص على ذوي القلوب الطيبة من الرواة والإخباريين، فأخذوه ونقلوه كما نقلوا ما شاء الله من الإسرائيليات والأساطير، وروي على أنه مما كان يعلمه الأحبار والرهبان والخاصة من أهل الكتاب.

ولا أستبعد أن يكون هذا القصص قد ظهر في أيام الحجاج عصبية وتقربًا إليه، فقد كان الحجاج من ثقيف، وكان أمية من ثقيف كذلك. وقد أنتج الوضاعون في أيامه شيئًا كثيرًا من الأخبار في قبيلة ثقيف، كما أنتجوا شيئًا في ذمها وفي ذم رجالها نكاية به.

وقد يكون في قول "الحجاج" حين سئل عن شعر أمية، شيء من التوجع والتألم أو المبالغة في تقديره حين قال:"ذهب قوم يعرفون شعر أمية، وكذلك اندراس الكلام". وقد يكون كلام الحجاج غير ذلك، لو كان أمية من قبيلة أخرى.

ونحن نستطيع إدخال قول من قال عن "أمية""قيل أنه كان نبيا"3 في جملة هذه الدعاوي التي وضعت في هذا العهد، للرفع من شأن "ثقيف" ومن الرد على المتهجمين عليها الطاعنين حتى في نسبها الذين جعلوا "ثقيفًا" من بقية "ثمود"، وأيدوا قولهم هذا بحديث زعموا أن الرسول قاله: "ثقيف من

1 البداية والنهاية "2/ 227".

2 الأغاني "4/ 125 وما بعدها"، ابن سلام، طبقات فحول "ص220 وما بعدها".

الإصابة "1/ 134"،"رقم 552".

3 تهذيب ابن عساكر "3/ 115".

ص: 59

ثمود"1، وجعلوه من عبد لأبي رغال، وأبو رغال نفسه الذي نسب عبده إليه، أي جد ثقيف، هو في نظر العرب وقريش خاصة سبة2.

ويذكرون عنه أنه بعد أن صبأ عن قومه وتحنف، لبس المسوح على زي المترهبين الزاهدين في هذه الدنيا، ورافق الكتب ونظر فيها، ليستلهم منها العلم والحكمة والرأي الصحيح، ثم حرم الخمر على نفسه مثل بقية المتألهين، وتجنب الأصنام، وصام، والتمس الدين، وذكر إبراهيم وإسماعيل، وأنه كان أول من أشاع بين قريش افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بجملة:"باسمك اللهم، وهي الجملة التي نسخت في الإسلام بجملة: "بسم الله الرحمن الرحيم"3.

ويذكر أهل الأخبار أن أمية أخذ جملة: "باسمك اللهم" من شيخ كان منطويًا على نفسه في برية نائية، وذلك حينما ألح عليه قوم كانوا معه من قريش في عير لهم، كانت قد نفرت، بأن يجد طريقة لطرد حية كانت تظهر بين إبلهم فتنفرها، فذهب إلى ذلك الشيخ واستشاره في طريقة تبعد عنهم أذى تلك الحية، فأشار عليه باستعمال تلك الجملة، فهربت الحية ونفرت منهم، وقد كان سبب ظهور تلك الحية كما يذكر أهل الأخبار، هو أن رجلا من القوم هو:"حرب بن أمية بن عبد شمس" كان قد قتل حية فقررت زميلتها الانتقام من قتلتها، فقتلته الجن انتقامًا منه بثأر تلك الحية. وهربت الجن عند سماعها تلك الجملة. وإليه أشير كما يقول أهل الحجاز الأخبار بقولهم:

وقبر حرب بمكان فقر

وليس قرب قبر حرب قبر

فحرب هذا المذكور في هذا البيت، هو حرب بن أمية، وأما الشيخ فكان رجلا من الجن4.

1 الأغاني "4/ 307""دار الكتب".

2 الأغاني "4/ 302""دار الكتب".

3 المسعودي، مروج "1/ 571 وما بعدها"، ديوان، أمية "المقدمة" لبشير يموت "بيروت 1934"، ابن خلدون "1/ 177 وما بعدها"، "بيروت 1961م"، التنبية والإشراف "359"، "مكتبة الخياط".

4 الحيوان للدميري "2/ 195"، الأغاني "4/ 122 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية".

ص: 60

ويذكر أنه لم يكن يرتضي من الأديان غير دين الحنيفية دينا. وأنه قال ذلك في شعر له:

كل دين يوم القيامة عند الله

إلا دين الحنيفية زور1

وأنه كان يعظم الله في شعره ويكبره ويحمده، ويرى أنه إله واحد لا شريك له، وأن من يشرك به أحدا فقط ظلم نفسه:

الحمد لله لا شريك له

من لم يقلها فنقسه ظلما2

وهناك من يروي أن "النابغة الجعدي"، كان يدعي أن هذا البيت وما بعده هو من نظمه. قال ذلك أمام "الحسن بن علي بي أبي طالب"3.

1ويروى أن النبي كان يسمع شعر أمية، وأن "الشريد بن سويد""الشريد بن عمرو" الثقفي، كان ينشد له شيئًا منه، في أثناء أحد أسفاره، فكان كلما أنشد له شيئًا منه، طلب منه المزيد، حتى إذا ما أنشده مئة بيت، قال النبي له: كاد ليسلم، أو كان ليسلم في شعره. وذكر أن الرسول قال في حديث له عنه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه4. وأنه لما سمع شعره في الدين والحنيفية ومطلعه:

الحمد لله ممسانا ومصبحنا

بالخير صبحنا ربي ومسانا

قال: "إن كاد أمية ليسلم"5.

1 الأغاني "3/ 112"، البغدادي، خزانة الأدب "2/ 39"، شيخو، شعراء النصرانية، الجزء الثاني "912"، ابن هشام، السيرة "1/ 40""2/ 982"، الأغاني "4/ 123""دار الكتب"، الإصابة "1/ 130""طبعة السعادة".

2 المسعودي، مروج "1/ 70".

3 طبقات ابن سلام "106 وما بعدها"، الأغاني "5/ 10".

4 صحيح مسلم "كتاب الشعر"، "7/ 48" "طبعة محمد علي صبيح" طبقات ابن سعد:"5/ 376"، "الشريد بن سويد""الرشيد بن سويد"، بلوغ الأرب "2/ 253 وما بعدا"، المعارف، لابن قتيبة "28"، المزهو "2/ 309"، خزانة الأدب "1/ 227"، ابن سعد "5/ 376"، الشعر والشعراء "1/ 369" الإصابة "1/ 134"، "رقم 552".

5 الأغاني "4/ 132 وما بعدها""دار الثقافة"، شرح الشهاب على البيضاوي "4/ 236"، تفسير ابن كثير "2/ 264"، ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري "1/ 26".

ص: 61

وروي عن "ابن عباس"، إن الرسول لما سمع شعر "أمية":

زحل وثور تحت رجل يمينه

والنسر للأخرى وليث مرصدا1

قال: صدق أمية.

وفي رواية أنه: "كان قرأ الكتب القديمة، وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فاتفق أن خرج إلى البحرين، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام هناك ثماني سنين. ثم قدم، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جماعة من أصحابه، فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه سورة يس، حتى إذا فرغ منها، وثب أمية يجر رجليه، فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية؟ فقال: أشهد أنه على الحق. قالوا: فهل نتبعه؟ قال: حتى أنظر في أمره. فخرج إلى الشام، وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم، فلما أخبر بها، ترك الإسلام. وقال: لو كان نبيًّا ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات"2.

وفي هذه الرواية المنسوبة إلى الزهري، عن سماع أمية بن أبي الصلت بنبوة النبي وهو في البحرين، ثم مجيئه إلى مكة والتقائه بالرسول ومحاجته له في ظل الكعبة، ثم انكسافه وتراجعه وذهابه إلى الشام، ثم عودته منها3، تكلف ظاهر، وفي تفاصيلها ما يناقض بعضه بعضًا.

وورد في رواية أخرى، أن أمية بن أبي الصلت قدم المدينة فقال للنبي: ما هذا الذي جئت به؟ فقال الرسول: الحنيفية دين إبراهيم. قال: فأنا عليها. فقال عليه الصلاة والسلام لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال: أمات الله تعالى الكاذب منا طريدًا وحيدًا، ثم خرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا للسلاح، ثم أتى قيصر، وطلب منه جندًا، ليخرج النبي

1 الإصابة "1/ 129"، الإصابة "1/ 134"، "رقم 552". "القاهرة 1939م".

2 اروح المعاني "9/ 112 وما بعدها"، تاريخ الخميس، للديار بكري "1/ 412"، مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي "7/ 63 وما بعدها"، "بيروت 1957م".

3 راجع البداية والنهاية "2/ 220".

ص: 62

من المدينة، فمات بالشام طريدا وحيدا، وهي قصة ينسب وقوعها إلى "أبي عامر" الراهب، كما سبق أن تحدثت عن ذلك1.

وتخالف هذه الرواية الروايات المألوفة الواردة إلينا عن وفاة "أمية" بالطائف. وتزعم إحدى الروايات، أن أمية كان قد أخذ ابتيه وهرب بهما إلى أقصى اليمن، وذلك حين بعث النبي. ثم عاد إلى الطائف، فبينما هو يشرب مع إخوان له في قصر بالطائف، إذ سقط غراب على شرفة في القصر فنعق، وأدرك أمية أنه ميت، لأنه عرف منطق الغراب، وحدث القوم بذلك في قصة مفصلة تجدها في الكتب ثم مات2. وقصة الشرب هذه تناقض ما يذكر عنه أهل الأخبار من إنه كان لا يقترب من الخمر، ومن إنه كان قد حرمها على نفسه، شأنه في ذلك شان بقية الأحناف. كذلك يناقض خبر تحريمة الخمر على نفسه، خبر آخر، خلاصته إنه كان يشرب يوما مع عبد الله بن جدعان، فأخذ الشراب برأس "ابن جدعان"، وأصاب عين أمية، فلما كان اليوم الثاني وجلس أيضًا للشرب معه، سأل "عبد الله" أمية عن سبب الألم البادي على عينه، فلما أخبره بأنه كان هو سببه، ترك "ابن جدعان" الخمر استحياء مما فعله وقال شعرا في سبب تركه الخمر. ويقول أهل الأخبار:"ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية، إلا ترك الخمر استحياء مما في من الدنس"3.

وتؤيد قصة ذهاب "أمية" إلى اليمن وسكنه أمدا هناك قصة ينتهي سندها بـ "أبي سفيان"، خلاصتها إنه كان قد ذهب في ركب من قريش إلى اليمن في تجارة، فمر بأمية، وقال له كالمستهزئ به: يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته؟ فأجابه أمية: إما إنه حق فأتبعه، وقال له قولا يتنبأ فيه بمصير أبي سفيان وكيف سيؤتى به إلى الرسول، فيحكم فيه كما يريد4. ففي هذه القصة توكيد بخروج أمية إلى اليمن حين بعث الرسول وبمكوثه زمانا هناك.

وذكر أنه الشخص الذي نزلت في حقه الآية: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ

1 روح المعاني "9/ 111"، تفسير الطبرسي "3/ 500"، "طبعة طهران".

2 الأغاني "4/ 130 وما بعدها"، الإصابة "1/ 129".

3 الأغاني "8/ 332".

4 البداية والنهاية "2/ 224".

ص: 63

آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} 1، وهي آية قيل أيضًا إنها نزلت في "بلعام بن باعور""بلعم بن أبر"، "بلعام بن باعرا"، أو في زوج البسوس،، أو في "النعمان بن صيفي الراهب"2.

وأمية كأكثر الشعراء له شعر في المدح وله تعريض. وأكثر مدحه في "ابن جدعان" من أجود العرب المعروفين المشهورين في الجاهلية3. وهو في المدح أو في الرثاء أو في كل مناسبة أخرى، مستعمل لكلمات ذات صلة بالدين وبالأفكار الدينية ولمصطلحات لا ترد إلا نادرًا في الأشعار المنسوبة إلى الشعراء الجاهليين، مما يدل على غلبة التفكير الديني عليه، وتأثير ما قرأه أو أخذه من غير العرب فيه. سئل الأصمعي عن شعر أمية، فقال:"ذهب أمية في شعره بعامة ذكر الآخرة وذهب عنترة بعامة ذكر الحرب، وذهب عمر بن أبي ربيعة بعامة ذكر الشباب"4.

ووالد "أمية"، هو "عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف الثقفي" أو "ربيعة بن وهب بن علاج بن أبي سلمة" الثقفي على رواية "الزبيري"5. أما أمه فهي "رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف". وقد كان والده شاعرًا. ذكر أنه مدح "سيف بن ذي يزن"6.

ومن الرواة من ينسب القصيدة التي تنسب إلى والد أمية، والتي هي في مدح "سيف بن ذي يزن"، إلى أمية نفسه. وفي القصيدة إشارة إلى ذهاب "سيف بن ذي يزن"، إلى هرقل، فلما لم يجد منه أية مساعدة أو اهتمام، عافه، وذهب إلى كسرى، حيث وجد منه مساعدة، فجاءت إليه بعد سنين

1 الأعراف، الآية 175، الأغاني "4/ 125 وما بعدها""بيروت"، تفسير الطبري "9/ 82 وما بعدها".

2 روح المعاني "9/ 111"، تفسير الطبرسي "3/ 499 وما بعدها".

3 المحبر "ص138"، ديوان أمية بن أبي الصلت: تحقيق "فريدرش شولتس" FrIedrich SchuIthere المطبوع بمدينة "لايبزك" سنة 1911، وكذلك ديوانه المطبوع ببيروت سنة 1934م. جمع بشير يموت التبريزي، شرح ديوان الحماسة "4/ 145"، الأغاني "8/ 328"، تهذيب ابن عساكر "3/ 123"، ابن هشام "3/ 141.

4 الإصابة "1/ 129"، الأغاني "4/ 130 وما بعدها".

5 نسب قريش "98".

6 الأغاني "4/ 120 وما بعدها، الشعر والشعراء "1/ 369"، "بيروت"، تهذيب ابن عساكر "3/ 115"، اليعقوبي "1/ 22" "4/ 120 وما بعدها"، الأزرقي، تاريخ مكة "1/ 93". جمهرة الأنساب "257".

ص: 64

من تعب ومواظبة1.

وينسب إلى أمية شعر، ذكر أنه افتخر فيه بـ نزار" وبـ"معد"، وبقبيلة "إياد"، حيث نعتهم بـ "قومي إياد"2.

ويتلخص ما جاء في شعر هذا الشاعر من عقائد وآراء في الاعتقاد بوجود إله واحد، خلق الكون وسواه وعدله، وأرسى الجبال على الأرض، وأنبت النبات فيها، وهو الذي يحيي ويميت، ثم يبعث الناس بعد الموت ويحاسبهم على أعمالهم، وليجازيهم بما كسبت أيديهم، فريق في الجنة وفريق في النار، يساق المجرمون عراة إلى ذات المقامع والنكال مكبلين بالسلاسل الطويلة وبالأغلال، ثم يلقى بهم في النار يصلونها يوم الدين، يبقون فيها معذبين بها، ليسوا بميتين، لأن في الموت راحة لهم، بل قضى الله أن يمكثوا فيها خالدين أبدًا3.

أما المتقون، فإنهم بدار صدق ناعمون تحت الظلال، لهم ما يشتهون، فيها عسل ولبن وخمر وقمح ورطب وتفاح ورمان وتين وماء بارد عذب سليم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وحور لا يرين الشمس فيها، نواعم في الأرائك قاصرات، على سرر ترى متقابلات، عليهم سندس وجياد ريط وديباج، وحور بأساور من لجين ومن ذهب وعسجد كريم، لا لغو فيها ولا تأثيم، ولا غول ولا فيها مليم، وكأس لا تصدع شارييها، يلذ بحسن رؤيتها النديم، تحتهم نمارق من دمقس، فلا أحد يرى فيهم سئيم.

أما المتقون، فإنهم بدار صدق ناعمون تحت الظلال، لهم ما يشتهون، فيها عسل ولبن وخمر وقمح ورطب وتفاح ورمان وتين وماء بارد عذب سليم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وحور لا يرين الشمس فيها، نواعم في الأرائك قاصرات، على سرر ترى متقابلات، عليهم سندس وجياد ريط وديباج، وحور بأساور من لجين ومن ذهب وعسجد كريم، لا لغو فيها ولا تأثيم، ولا غول ولا فيها مليم، وكأس لا تصدع شارييها، يلذ بحسن رؤيتها النديم، تحتهم نمارق من دمقس، فلا أحد يرى فيهم سئيم.

وللوقوف على آراء "أمية"، وعلى معتقداته الدينية يجب الرجوع بالطبع إلى أشعاره وما نسب إليه من كلام. ففي هذا التراث الذي تغلب عليه النزعة الدينية والحكمية، تتمثل آراء ذلك الشاعر الجاهلي الذي أدرك أوائل المبعث، وهي آراء قريبة جدًّا من الإسلام، وبعضها يكاد يكون قولا إسلاميا في لفظه وفي معناه مسبوكا في شعر. وفي هذا الشعر قصص الرسل والأنبياء: آدم ونوح وقصة

1 كتاب التيجان، لوهب، "307"، الشعراء والشعراء لابن قتيبة "1/ 369"، بروكلمان "1/ 114"، Schuthesi OrIent Studien

2 الأغاني "4/ 120"، "8/ 327 وما بعدها" شعراء النصرانية "2/ 234".

3

وسيق المجرمون وهم عراة

إلى ذات المقامع والنكال

ديوان أمية "49".

جهنم تلك لا تبقي بغيًّا

وعدن لا يطالعها رجيم

ديوان أمية "53"، "بشير يموت".

ص: 65

طوفانه، والغراب والحمامة1، وقصة ذي القرنين وبلقيس وحكاية الهدهد2، وقصة إبراهيم وتقديم ابنه للذبح، وداود، وفرعون، وموسى، وابن عاد3. وعيسى وأمه مريم وكيفية حملها به، فوصف ذلك بانيا وصفه على نحو ما جاء في القرآن الكريم عن تكون عيسى، مضيفا إلى ذلك زيادات في حديث مريم مع الملائكة وجواب الملائكة لها4. كما أورد في الشعر قصة "لوط أخي سدوم"5. وهي من القصص المذكور في التوراة، وأشياء أخرى عديدة من هذا القبيل6.

وفي أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من آراء ومعتقدات دينية، ووصف ليوم القيامة والجنة والنار، تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلا لما ورد عنها في القرآن الكريم. بل نجد في شعر أمية استخدامًا لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي، فكيف وقع ذلك؟ وكيف حدث هذا التشابه؟ هل حدث ذلك على سبيل الاتفاق أو أن أمية أخذ مادته من القرآن الكريم، أو كان العكس، أي أن القرآن الكريم هو الذي أخذ من شعر أمية فظهرت الأفكار والألفاظ التي استعملها أمية في آيات الله وسوره؟ فكتاب الله إذن هو صدى وترديد لآراء ذلك الشاعر المتأله، أو أن هذا التشابه مرده شيء آخر هو تشابه الدعوتين واتفافهما في العقيدة والرأي، أو اعتماد الاثنين على مورد أقدم، هما الكتابان المقدسان: التوراة والإنجيل، وما لهما من شروح وتفاسير، أو كتب أو موارد عربية قديمة كانت معروفة ثم بادت وبقي أثرها في القرآن الكريم وفي شعر أمية بن أبي الصلت، أو أن كل شيء من هذا الذي نذكره ونفترضه

1 جزى الله الأجل المرء نوحًا

جزاء البر ليس له كذاب

ديوان أمية "18 وما بعدها، 58"، "بشير يموت" الحيوان، للجاحظ "2/ 117"، البدء والتاريخ "1/ 24".

2

قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا

ملكا علا في الأرض غير معبد

من قبله بلقيس كانت عمتي

حتى تقضى ملكها بالهدهد

ديوان أمية "ص26"، "بشير يموت".

3

حي داود وابن عاد وموسى

وقريع بنيانه بالثقال

إنيي زارد الحديد على النا

س دروعًا سوابغ الأذيال

ديوان أمية "50 وما بعدها""بشير يموت".

4 وفي دينكم من رب مريم آية

منبئة بالعبد عيسى ابن مريم

ديوان أمية "58"، "بشير يموت".

5

ثم لوط أخو سدوم أتاها

إذ أتاها برشدها وهداها

ديوان أمية "69"، "بشير يموت".

6 راجع التوراة، ومادة "Lot" في معجمات التوراة.

ص: 66

افتراضًا لم يقع، وإن ما وقع ونشاهده، سببه أن هذا الشعر وضع على لسان أمية في الإسلام، وأن واضعيه حاكوا في ذلك ما جاء في القرآن الكريم فحدث لهذا السبب هذا التشابه.

أما الاحتمال الأول، وهو فرض أخذ أمية من القرآن، فهو احتمال إن قلنا بجوازه ووقوعه، وجب حصر هذا الجواز في مدة معينة، وفي فترة محدودة تبتدئ بمعث الرسول، وتنتهي في السنة التاسعة من الهجرة، وهي سنة وفاة أمية بن أبي الصلت، أما ما قبل المبعث، فلا يمكن بالطبع أن يكون أمية قد اقتبس من القرآنن لأنه لم يكن منزلا يؤمئذ، وأما ما بعد السنة التاسعة، فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضًا، لأنه لم يكن حيا، فلم يشهد بقية الوحي. ولن يكون هذا الفرض مقبولا معقولا في هذه الحالة، إلا إذا أثبتنا بصورة جازمة أن شعر أمية الموافق لمبادئ الإسلام ولما جاء في القرآن قد نظم في هذه المدة المذكورة، أي بين المبعث والسنة التاسعة من الهجرة، وأن أمية كان يتتبع نزول الوحي، ويجمعه، وإنه كان يملك نسخة مما نزل على الرسول، رجع إليها واقتبس منها، وإلا سقط العرض. فإذا أثبتنا ذلك وثبتنا تاريخ نظم هذا الشعر، أمكنت المقابلة عندئذ بين شعر أمية وما جاء في معناه وفي موضوعه من آيات نزلت بين ابتداء نزول الوحي على الرسول وبين السنة التاسعة، أما الآيات التي نزلت بعد هذه السنة، فلا تكون شاهدا على أخذ أمية منها: لأنه كان قد توفي في السنة التاسعة، فلا يقع هذا الافتراض.

ولكن من استطاعته تثبيت تواريخ شعر أمية وتعيينه، وتعيين أوقات نظمه؟ إن في استطاعتنا تعيين بعضه من مثل الشعر الذي قاله في مدح عبد الله بن جدعان أو معركة بدر. ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بالغالبية منه، وهي غالبية لم يتطرق الرواة إلى ذكر المناسبات التي قيلت فيها. ثم إن بعض هذا الكثير مدسوس عليه، مروي لغيره، وبعضه إسلامي، فيه مصطلحات لم تعرف إلا في الإسلام، فليس من الممكن الحكم على آراء أمية الممثلة في شعره هذا بهذه الطريقة. ثم أحدا من الرواة لم يذكر أن أمية كان ينتحل معاني القرآن الكريم، وينسبها إلى نفسه. ولو كان قد فعل، لما سكت المسلمون عن ذلك، ولكان الرسول أول الفاضحين له.

ص: 67

بقي لدينا افتراض، هو أخذ القرآن الكريم من أمية، وهو افتراض ليس من الممكن تصوره، فعلى إثبات أن شعر أمية في هذا الباب هو أقدم عهدا من القرآن الكريم، وتلك قضية لا يمكن إثباتها أبدا. ثم إن قريشًا ومن لف لفها ممن عارض الرسول لو كانوا يعلمون ذلك ويعرفونه، لما سكتوا عنه، ولقالوا له إنك تأخذ من أمية، كما قالوا له: إنك تتعلم من غلام نصراني كان مقيمًا بمكة، وإليه أشير في القرآن الكريم بقوله:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1. ولقد أشار المفسرون إلى اسم الغلام، كما سأتحدث عن ذلك في الفصل الخاص بالنصرانية عند العرب قبل الإسلام، ولم يشيروا إلى أمية بن أبي الصلت2. ثم إن أمية نفسه لو كان يعلم ذلك أو يظن أن محمدًا إنما أخذ منه، لما سكت عنه وهو خصم له، منافس عنيد، أراد أن تكون النبوة له، وإذا بها عند شخص آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمنون بدعوته. أما هو فلا يتبعه أحد. آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمون بدعوته. أما هو فلا يتبعه أحد. هل يعقل سكوت أمية لو كان قد وجد أي ظن وإن كان بعيدا يفيد أن الرسول قد أخذ فكرة منه، أو من المورد الذي أخذ أمية نفسه منه؟ لو كان شعر بذلك، لنادى به حتما، ولأعلن للناس أنه هو ومحمد أخذا من منبع واحد، وأن محمدا أخذ منه، فليس له من الدعوة شيء، ولكانت قريش وثفيف أول القائلين بهذا القول والمنادين به.

نعم، لقد ورد في الحديث، كما قلت قبل قليل، إن الشريد بن سويد كان قد أنشد الرسول شعر أمية، وإنه كان كلما أنشده شيئًا منه طلب منه المزيد، حتى إذا ما أنشه مئة بيت، قال له الرسول: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، ولكننا هنا بحاجة إلى تثبيت تاريخ هذا الإنشاد، وإثبات صحة الرواية وتدقيق رجال السند، لإثبات أن ما أنشد لم يكن قد نزل في مثله الوحي.

وممن ذهب إلى افتراض أخذ الرسول من أمية من المستشرقين "كليمان هوار" و"بور""Power. زغم "بور" إنه حيث يوجد تشابه بين شعر أمية والقرآن

1 النحل، الآية 103.

2 سيرة ابن هشام "1/ 420".

ص: 68

الكريم، فإن ذلك يدل على أن الرسول أخذ من "أمية"، لأن أمية أقدم من الرسول1. وهذا الافتراض مقبول كما لو أثبتنا أن هذا النظم شعر أصيل صحيح، وإنه نظم قبل نزول مشابهه في القرآن الكريم، وإنه لم يضف إليه في الإسلام، فإن أثبتنا إنه له، جاز لهما مثل هذا الادعاء.

وأما الرأي الثالث -وأعني به رأي من يرجع التشابه بين شعر أمية وما ورد من مثل معانيه في القرآن الكريم إلى أخذ الاثنين من التوراة والإنجيل وتفاسيرهما، وإلى بعض "الصحف" و"المجلات" التي أشير إلى وجودها عند العرب- فهو رأي قديم، وليس بجديد. رأي قيل عن الوحي كله، لا عن القرآن وشعر أمية أو غير أمية، قبل أن يخلق المستشرقون بأكثر من 1300 سنة، فقد زعم "إن النبي يتعلم من غلام نصراني اسمه جبر!! ". وقد أشير إلى هذا الزعم في كتاب الله، وجاء الرد عليه في قوله تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . فلم يخف القرآن الكريم ذلك الطعن والمغمز، ولم يتجاهل المفسرون اسم من قيل إنه كان يعلمه، فذكروا جبرا هذا، وكان غلاما مقيما بمكة، وقال بعضهم بل هو رجل رومي اسمه غير ذلك.

ولو كان الرسول وأمية قد أخذ من منهل واحد، واستقيا من مورد واحد، لما سكتت قريش عن القول به، ولما سكت أمية نفسه وهو الغاضب الحاقد على الرسول عن الجهر به. وكيف يعقل سكوته عن هذا، وهو أمر مهم جدًّا بالنسبة إليه. وسيف يحارب به الإسلام؟ ولما سكت مسيلمة ومن كان على شاكلته من المتنبئين من الإشارة إليه في أثناء حروب الردة، وقد كانت فرصة سانحة لإطهار هذه المقالة. ولما سكت "يوحنا الدمشقي" وأمثاله من التلميح إلى ذلك، وقد لمح بأمور كثيرة في طعنه في الإسلام.

ثم إن هذا التشابه، على ما يتبين من نقده وتمحيصه، ليس من نوع ما يحصل عن أخذ شخصين مستقلين من مورد معين، إنما هو من قبيل ما يحدث من اعتماد أحد الشخصين على الآخر، بدليل ورود أمور في القرآن الكريم،

1 ديوان أمية "ص7"، "المقدمة الألمانية""تحقيق فردرش شولثيس"، بروكلمن "1/ 113". CI Huatrt GA X VoI IV 1904 P1225

ص: 69

لم ترد في التوراة ولا في الإنجيل، ولكنها وردت في شعر أمية، وبدليل ورود أكثر قصص الأنبياء والآراء والمعتقدات في شعر أمية على شكل إسلامي، لا على النحو الوارد عند أهل الكتاب. واستعمال هذا الشعر لجمل وألفاظ وتراكيب إسلامية واردة في القرآن الكريم وفي الحديث لا في الكتب السماوية المذكورة. فلو كان مرد هذا التشابه الأخذ من مورد واحد، لوجب انحصار هذا التشابه في الأمور المشتركة التي ترد في الكتب المقدسة: التوراة والإنجيل والقرآن، وفي شعر أمية فحسب، لا في المسائل التي ترد في شعر أمية وفي القرآن الكريم، ولا ترد في الكتابين المقدسين أو في الكتب الأخرى.

ثم إن المقابلة بين نصين لمعرفة صلة أحدهما بالآخر، وأخذ أحدهما من الآخر، تستوجب التأكد من صحة نسبة الشعر إلى أمية. ففي هذا الشعر مقدار لا يمكن أن يشك في وضعه وصنعه، ومقدار نص العلماء نصا على أنه لغيره، وهم إنما ذكروه في شعر أمية، لأن بعض أهل الأخبار نسبه إليه. ولذلك استدركوا هذا الخبر، بالإشارة إلى اسم قائله الصحيح. فلم يبق من هذا الشعر ما يصلح للمقابلة غير القليل منه، وهو القليل الذي له صلة بعقيدة ودين. وهذا القليل هو، في الغالب أيضًا، تبع لما ورد في القرآن وحده، لا لما ورد في الكتابين المقدسين. ولما كان القرآن محفوظا ثابتا، فلم يرتق إليه الشك. أما شعر أمية، فليس كذلك، وهو غير معروف من حيث تعيين تاريخ النظر. فهذه المقابلة إن جازت، فإنها تكون حجة على القائلين بالرأي المذكور، لا لهم. وقد كان عليهم أن يثبتوا أولا إثباتا قاطعا صحة رأيهم في أصالة هذا الشعر، لا أن يفترضوا مقدما أنه شعر أصيل صحيح، وأن يذهبوا رأسا إلى أنه هو والقرآن الكريم من وقت واحد، بل إنه على حد قول بعضهم أقدم منه، فكتاب الله منتزع منه.

وممن قال باحتمال أخذ القرآن وأمية من مورد مشترك واحد، "فردرش شولثيس" Friedrich SchuIthetz ناشر ديوان أمية. وقد زعم أيضًا احتمال أخذ أمية من بعض آيات الله التي كانت منزلة يومئذ، ونظمها في شعره. استند في زعمه القائل باقتباس الرسول من مورد مشترك إلى ورود بعض كلمات في القرآن الكريم وفي الحديث وفي كتب السير، يفهم منها على زعمه أن الرسول كان قارئًا كاتبًا، ولكنه لم يشترط في هذه المؤلفات كونها الإنجيل والتوراة، بل ذهب إلى أنها

ص: 70

"مجلة" و"صحيفة"، تتضمن أحاديث وتفاسير وقصصًا دينيا قديما1. أما دليله، فافتراض واحتمال، وليس له غير هذين. ولا يقوم علم إلا على دليل ملموس.

أما أنا، فأرى أن مرد هذا التشابه والاتفاق إلى الصنعة والافتعال. لقد كان أمية شاعرا، ما في ذلك شك، لإجماع الرواة على القول به. وقد كان ثائرا على قومه، ناقما عليهم، لتعبدهم للأوثان. وقد كان على شيء من التوحيد والمعرفة باليهودية والنصرانية، ولكني لا أظن أنه كان واقفا على كل التفاصيل المذكورة في القرآن وفي الحديث من العرش والكرسي وعن الله وملائكته وعن القيامة والجنة والنار والحساب والثواب والعقاب ونحو ذلك. إن هذا الذي أذكره شيء إسلامي خالص، لم ترد تفاصيله عند اليهود ولا النصارى، ولا عند الأحناف. فوروده في شعر أمية وبالكلمات والتعابير الإسلامية، هو عمل جماعة فعلته في عهد الإسلام: وضعته على لسانه، كما وضعوا أو وضع غيرهم على ألسنة غيره من الشعراء والخطباء، لاعتقادها أن ذلك مما يفيد الإسلام، ويثبت أن جماعة من الجاهليين كانوا عليه، وأنه لم يكن لذلك غريبا، وأن هؤلاء كانوا يعلمون الغيب، يعلمون بقرب ظهور نبي عربي، وأنهم لذلك بشروا به، وأنهم كانوا يتمنون لو عادوا فولدوا في أيامه، أو لو طال بهم العمر حتى يدركوه فيسلموا، وأمثال ذلك من قصص راج وانتشر، كما راج أمثاله في كل دين من الأديان.

ولا بد وأن يكون هذا الوضع قد صنع في القرن الأول للإسلام، لأن أهل الأخبار القدامى يذكرون بعض هذا الشعر2. وقد يكون قد وضع أكثره في عهد الحجاج تقربا إليه، لأنه من ثقيف، وفي ذلك العهد وضع الوضاع أخبارا كثيرة في الغض من شأن قوم الحجاج، نكاية به فتقدم قوم آخرون إليه بالرفع من شأنها وبإضافة ذلك الشعر إلى أمية وغيره، ليكون ردا على كارهي ومبغضي الحجاج.

وتتبين آية الوضع في شعر أمية في عدم اتساقه وفي اختلاف أسلوبه وروحه.

1 Ency، IV، p. 998، Tar Andrae، Die Entstehung des Islams und des Christentums، upsale، 1926، S. 48.

2 بروكلمان "1/ 113".

ص: 71

فبينما نجد شعره المنسوب إليه في المدح أو في الرثاء أو في الأغراض الأخرى مما ليس لها صلة مباشرة بالدين، في ديباجة جاهلية على نسق الشعر المنسوب إلى شعراء الجاهلية، نجد القسم الديني منه والحكمي في أسلوب يجعله قريبا من شعر الفقهاء والصوفيين المتزمتين، ونساك الصارى، فهو بعيد جدًّا من أسلوب الجاهليين، حتى أسلوب مثل "عدي بن زيد" العبادي والأعضى وبقية من نسب إلى النصرانية من شعراء الجاهلية القريبين من الإسلام1. يضاف إلى ذلك ما ذكره الرواة وأهل الأخبار من نشبة بعض ذلك الشعر إلى غيره من الشعراء.

وقد يقال إن أسلوب "أمية" في نظم الشعر الديني والحكمي، هو أسلوب صحيح لا يمكن إلا أن يكون على هذا الحال، هو أسلوب بعيد عن أسلوب الجاهليين في النظم، لأن الشعر الجاهلي المعروف نظم في أغراض أخرى لا صلة لها بالحكم وبالدين، وما جاء منه إلينا في الحكم وفي الدين هو على أسلوب آخر أيضًا، بدليل أن بعض الشعراء منهم حين نظموا في الحكم، رق شعرهم وبان عن نظمهم المألوف. وبدليل أن نظم "حسان بن ثابت" في الإسلام، هو دون نظمه في الجاهلية من حيث الجزالة والفخامة في النظم، وأن شعر "لبيد" في الإسلام، هو دون ما نظمه في الجاهلية، بسبب تغير الظروف واختلاف الموضوع. وهو اعتذار صحيح، ولكن أسلوب أمية في تعبيره عن الجنة والنار والبعث والحساب، أسلوب آخر، لا يفصح عن عقلية دينية جاهلية، وإنما عن عقلية إسلامية. ومن هنا جاء شكنا في صحة هذا الشعر وفي اصالته، وليس من أسلوب النظم.

ولكن من الذي وضع هذا الشعر، ثم أنكره على نفسه وأسنده إلى أمية؟ ومن الذي رضع شعر أمية بأبيات من وزنه وقافيته، ولكنها أبيات إسلامية؟ ومن كان أول من جمع شعر ذلك الشاعر في ديوان نسبه إليه؟ هذه أسئلة يجب أن توجد لها أجوبة، ولكن أجوبتها كتاب يؤلف في حياة هذا الشاعر وفي شعره وديوانه، عندئذ يكون هناك مجال للتنقيب عن هذه الأمور، روي أن الحجاج قال، وهو على المنبر:"ذهب قوم يعرفون شعر أمية"2. فهل ذهب العالمون

1 Ency IV p 998

2 الأغاني "4/ 123".

ص: 72

به حقًّا قبل أيام الحجاج؟ وهل كان شعره ضخما واسعا؟ أو هوقول من أقوال الحجاج، وهو ثقفي من قوم أمية، أو هو قول وزعم من زعم الرواة. وما أكثر مزاعم الرواة وحملة الأخبار.

وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيدا. فالقصيدة التي مطلعها:

لك الحمد والمن رب العبا

د أنت المليك وأنت الحكم

هي قصيدة إسلامية، لا يمكن أبدا أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام إيمانا عميقًا من كل قلبه ولسانه. خذ هذا البيت منها مثلا:

محمدا أرسله بالهدى

فعاش غنيا ولم يهتضم

ثم خذ الأبيات التالية له وفيها:

عطاء من الله أعطيته

وخص به الله أهل الحرم

وقد علموا أنه خيرهم

وفي بيتهم ذي الندى والكرم

يعيبون ما قال لما دعا

وقد فرج الله إحدى البهم

به وهو يدعو بصدق الحدي

ث إلى الله من قبل زيغ القدم

أطيعوا الرسول عباد الإله

تنجون من شر يوم ألم

تنجون من ظلمات العذاب

ومن حر نار على من ظلم

دعانا النبي به خاتم

فمن لم بجبه أسر الندم

نبي هدى صادق طيب

رحيم رءوف بوصل الرحم

به ختم الله من قبله

ومن بعده من نبي ختم

يموت كما مات من قد مضى

يرد إلى الله باري النسم

مع الأنبياء في جنان الخلود

هم أهلها غير حل القسم

وقدس فينا بحب الصلاة

جميعًا وعلم خط القلم

كتابا من الله نقرأ به

فمن يعتريه فقدما أتم

اقرأ هذه المنظومة، ثم احكم على صاحبها، هل تستطيع أن تقول إنه كان

ص: 73

74

شاعرا مغاضبا للرسول، وإنه مات كافرًا، وإن صاحبها رثى كفار قريش في معركة بدر وأنه قال ما قال في الإسلام وفي الرسول؟ اللهم، لا يمكن أن يقال ذلك أبدا فصاحب هذا النظم رجل مؤمن عميق الإيمان، هو واعظ مبشر، يخاطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام وإلى طاعة الله والرسول. إنه مؤمن قلبا ولسانا، مع أنهم يذكرون أن الرسول قال فيه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، وإنه مات وهو على كفره وعناده وحسده للرسول، ثم إن صاحب المنظومة رجل يتحدث عن وفاة الرسول، مع أن أمية، كان قد توفي في السنة التاسعة من الهجرة، فهل يعقل أن يكون إذن هو صاحبها وناظمها؟

أليست هذه المنظومة وأمثالها إذن دليلا على وجود أيد لصناع الشعر ومنتجيه في شعر أمية. نحمد الله على أن صناعها لم يتقنوا صنعتها، ففضحوا أنفسهم بها، ودلوا على مقاتل النظم.

ثم خذ قصيدة أخرى من القصائد المنسوبة لأمية، وهي في وصف الجنة والنار استهلت بهذا البيت:

جهنم تلك لا تبقي بغيا

وعدن لا يطالعها رجيم

ثم استمر في قراءتها، وفي ما جاء فيها من وصف للجنة والنار، ثم أنعم النظر في هذه الأبيات:

فذا عسل وذا لبن وخمر

وقمح في منابته صريم

ونخل ساقط الأكتاف عد

خلال أصوله رطب قميم

وتفاح ورمان وموز

وماء بارد عذب سليم

وفيها لحم ساهرة وبحر

وما فاهوا به لهم مقيم

وحور لا يرين الشمس فيها

على صور الدمى فيها سهوم

نواعم في الأرائك قاصرات

فهن عقائل وهم قروم

على سرر ترى متقابلات

ألا، ثَمَّ النضارة والنعيم

عليهم سندس وجياد ريط

وديباج يرى فيها قتوم

وحلوا من أساور من لجين

ومن ذهب وعسجده كريم

ولا لغو ولا تأثيم فيها

ولا غول ولا فيها مليم

ص: 74

وكأس لا تصدع شاربيها

يلذ بحسن رؤيتها النديم

تصفق في صحاف من لجين

ومن ذهب مباركة رذوم1

ثم احكم بعد ذلك على صاحب هذه الأبيات. لقد حاول ناظمها إدخال بعض الكلمات الجاهلية فيها، لإلباسها ثوبا جاهليا، ولإظهارها بمظهر الشعر الجاهلي الأصيل، ولكنه لم يتمكن من ذلك، بل صيرها في الواقع نظما لوصف الجنة والنار في الإسلام، وما بي حاجة إلى أن أحيلك على الآيات التي أخذ منها صاحب هذا الشعر وصفه من القرآن الكريم.

ومن الغريب أن بعض الإخباريين اتخذ هذا النظم وأمثاله حجة لتبيان عقائد الجاهليين، فذكر مثلا أن العرب في جاهليتها كانت تؤمن بالجزاء، وأن منهم من نظر في الكتب وكان مقرا بالجنة والنار. وحجته في ذلك هذه المنظومة المنسوبة إلى أمية2. وقد نسي أن ما قاله على سبيل التعميم أو التغليب، يناقض ما جاء في القرآن الكريم وما أورده الإخباريون عن الجاهليين.

ثم خذ قصيدته في عيسي بن مريم وحمل أمه به3، وسائر قصائده الأخرى، تجد عليها هذه المسحة الإسلامية بارزة ظاهرة، ولكن هذا لا يمنع مع ذلك من القول بوجود أبيات قد تكون من نظم أمية حقًّا، في هذا المنظوم الديني، غير أن هذا الموجود، هو على كل حال مما لا يتعارض مع عقائد الإسلام. ومن الممكن إدراكه بدراسة ألفاظه وأسلوبه وأفكاره، وبهذه الطريقة نتمكن من استخلاص الأصيل من شعره من الهجين.

ولأمية بن أبي الصلت أخت، اسمها "فارعة"4. قدمت على النبي بعد فتح الطائف، وكانت ذات لب وعفاف وجمال، وكان يعجب بها. وقال لها يوما: هل تحفظين من شعر أخيك شيئًا؟ فأخبرته خبره وقصت في شق جوفه

1 تجد اختلافا في كلمات هذه القصيدة وأبياتها، وكذلك في قصائد هذا الشاعر الأخرى، فارجع في ذلك إلى طبعات ديوانه وإلى كتب الأدب لمعرفة مواضع الاختلاف: كتاب البدء والتاريخ "1/ 202 وما بعدها"، ديوان أمية "طبعة بشير يموت"، "ص53" ديوان أمية "ص51 وما بعدها"، "طبعة فريدرش شولثيس".

2 كتاب البدء والتاريخ "1/ 202"، "طبعة كليمان هوار"، "النص العربي".

3 ديوان أمية "ص58"، "طبعة بشير يموت".

4 اللسان "1/ 792"، "وثب".

ص: 75

وإخراج قلبه ورده مكانه وهو نائم وأنشدته شعره1، على ما يزعمه أهل الأخبار. وذكر أهل الأخبار أسماء أربعة بنين لأمية، هم: القاسم، ووهب، وعمرو "عمر"، وربيعة. فأما" القاسم"، فكان شاعرا، وله مرثية في عثمان بن عفان2. وأسلم "وهب بن أمية" كذلك. وذكر أن رجلا من ثقيف مات في عهد النبي عن غير ولد، فاختصموا في ميراثه، فأعطى النبي ميراثه لوهب3. وأما "ربيعة" فأسلم كذلك، وله شعر4. وقد ذكر أهل الأخبار أن "حقة" بنت وهب بن أمية بن أبي الصلت"، تزوجت "عبد الله بن صفوان"، فولدت له صفوان بن عبد الله بن صفوان5. وذكر أن "ربيعة"، قد ولي بعض الوظائف في الإسلام. وأنه صاحب "ربيعتان"، نهر بقرب الأبلة، وأن من ولده "كلدة بن ربيعة"، وكان شريفًا شاعرًا، وقد ذكر أن بغلا قتل "ربيعة" على باب دار "عبد الله بن عباس"6.

وكل ما يعرف عن سويد بن عامر المصطلقي أنه كان على دين الحنيفية وملة إبراهيم، وأنه قال شعرا، وصلت منه بضعة أبيات في "المنايا" وفي المقدر على الإنسان، وأن المنايا محتومة لا مفر منها، وأن الخير والشر مكتوبان على النواصي، وليس لامرئ يد فيما يصيبه من مقدور. فهي في هذه المشكلة المعضلة التي شغلت بال الإنسان ولا تزال تشغله مشكلة:"الجبر والاختيار"، أو "القدر"، المشكلة التي احتلت منزلة الصدارة في "علم الكلام". والتي صارت من أهم موضوعات الجدل في الإسلام. ويقال إنها أنشدت للرسول، فلما سمعها، قال:"لو أدركته لأسلم"7.

وأما ورقة بن نوفل فهو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يلتحم نسبه بنسب الرسول في جد جده. ذكروا أنه ساح على شاكلة من شك في

1 الإصابة "4/ 363"، "رقم "824".

2 الإصابة "3/ 213"، "رقم 7052".

3 الإصابة "3/ 604"،"رقم 9157.

4 الإصابة "1/ 493"،"رقم 2950".

5 الإصابة "3/ 604"، "رقم 9157".

6 كتاب البغال للجاحظ "2/ 258"، "من رسائل الجاحظ""الأغاني "3/ 179"، الاشتقاق "304 وما بعدها"، "4/ 120"، الشعر والشعراء "1/ 369"، الإصابة "2/ 197" أنساب العرب "269".

7 بلوغ الأرب "2/ 259".

ص: 76

دين قومه، وتتبع اليهود والنصارى، وقرأ الكتب، وعد في جملة المتنصرين في أغلب الروايات، فقد ذكر أنه "تنصر واستحكم في النصرانية، وقرأ الكتب ومات عليها"1. وهذا هو رأي أكثر أهل الأخبار.

ونسب إليه شعر ذكر إنه قاله في رثاء زيد بن عمرو بن نفيل، وفيه إشارة إلى النار وإلى الثواب والعقاب بعد الموت وإلى فكرة التوحيد والإيمان برب ليس رب كمثله وإلى التنديد بالأوثان2.

وله أبيات من الشعر يحث فيها على مساعدة الضعيف ونصر المظلوم، وعلى فعل الخير للناس3.

ولا نعلم عن حياة ورقة في أيام شبابه شيئًا، ولعله كان يعين أهله أو أقربائه في اتجارهم مع بلاد الشام أو اليمن شأن أكثر شبان أسر مكة المعروفة في ذلك الوقت. فتعلم بذلك سلوك الطرق الموصلة إلى العراق أو بلاد الشام، ومن هنا اندفع نحو خارج الجزيرة يلتمس الحكمة والوصول إلى رأي يقنعه في الحياة. ويظهر إنه لم يكن في شبابه من أولئك الشباب الخاملين الذين كانوا يصرفون وقتهم في فراغ دائم، دون عمل ولا تفكير، متوسدين الأرض يقتلون فراغهم في ترهات الكلام، كما إنه لم يكن من أولئك الطائشين النزقين الذين يقضون وقتهم في النزاع والخصومة وشرب الخمر والاعتداء على الناس، والحصول على المال للانفقا على اللهو بأية طريقة كانت، بل كان شابا متأملا مفكراا منكمشا على نفسه، مكنه علمه بالكتابة والقراءة من قراءة الكتب والاطلاع على آراء الماضين والحاضرين، حتى جاء يوم، دفعه اجتهاده الذي وصل إليه على الخروج على تقاليد قومه وانتقاد الأوضاع التي كانوا عليها، مما حمله على ترك مكة طوعا أو قهرا، والتجول للبحث أو فرارا من غضب قومه عليه.

وهو ابن عم خديجة الكبرى زوج الرسول. وقد أشير إليه في خبر "مجيء جبريل إلى النبي في حراء"، وله كلام مع الرسول على ما ورد في بعض الروايات.

1 اليعقوبي "1/ 298""2/ 22""ليدن" البداية لابن كثير "2/ 238".

2 المحبر "171"، ابن هشام "1/ 243،256"، الأغاني "3/ 113 وما بعدها""1/ 73"،الذهبي، تاريخ الإسلام "1/ 68".

3 خزانة الأدب "2/ 39 وما بعدها".

ص: 77

يقال إنه قال للرسول وكان قد ذهب إليه مع زوجته خديجة ليسأله رأيه فيما رآه من الرؤيا: "ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قوم؟ " وأن الرسول قال له: "أمخرجي هم؟ " قال: نعم، إنه لم يجئ رجل قط بما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا"1. وأشير إليه في خبر آخر، حيث ورد أن "خديجة" ذهبت وحدها إلى ابن عمها لتسأله عن الرؤيا التي رآها الرسول وعن هذا "الناموس الأكبر" الذي تجلى له. فلما قصت عليه القصة قال: "لئن كنت صادقة، إن زوجك لنبي، وليلقين من أمته شدة، ولئن أدركته لأومنن به"2.

وذكر في خبر آخر أن الرسول قد رأى "ورقة" في منامه، وكان لابسًا ثيابًا بيضًا. وأن الرسول ذكر ذلك لم سأله عنه، وبين لهم أنه لو كان من أهل النار لما ظهر له في منامه وهو بهذه الملابس. لأن أهل النار لا يلبسون ثيابًا بيضًا3. ويروى أن الرسول قال:"لا تسبوا ورقة بن نوفل، فإني رأيته في ثياب بيض"4. قيل إن شخصًا تساب مع أخ لورقة بن نوفل، فسب ورقة ليحرق قلب أخيه، فبلغ ذلك الرسول، فنهى عن سبه5.

وجاء في خبر أن "ورقة" كان يمر بمكة فيرى بلالا وهو يعذب، يعذبه المشركون برمضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء، ويضربونه يريدون منه أن يشرك بالله، فلا يشرك به. ويأبى إلا أن يقول: أحد أحد، فيرثى ورقة لحاله ويقول: أحد أحد والله يا بلال. والله لئن قتلتموه فأنتم من الخاسرين6. أو "والله لئن قتلتموه، لأتخذن قبره حنانًا"7.

1 الطبري "2/ 299""دار المعارف"، ابن هشام "1/ 254 وما بعدها"، المسعودي مروج "2/ 59"، "1/ 73""محمد محيي الدين عبد الحميد""1958م"، الكامل، لابن الأثير "2/ 31" الذهبي تاريخ الإسلام "1/ 75" القسطلاني، شرح صحيح "1/ 66"، الإصابة "3/ 633".

2 الطبري "2/ 300""دار المعارف"، ابن سعد، الطبقات "1/ 194""بيروت 1957م" شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني "1/ 66 وما بعدها".

3 الأغاني "3/ 113 وما بعدها""بيروت 1955م".

4 كتاب نسب قريش "ص207"، الترمذي "3/ 251" الإصابة "6/ 318 وما بعدها" مجمع الزوائد "9/ 416".

5 الإصابة "3/ 633".

6 الأغاني "3/ 113 وما بعدها".

7 النهاية، لابن الأثير "1/ 226"، الإصابة "6/ 318"، كتاب نسب قريش "208".

ص: 78

ويظهر من الأخبار المتقدمة أن "ورقة بن نوفل"، كان قد أدرك أيام الرسول وعاش إلى يوم نزول الوحي عليه. بل يظهر من خبر رؤيته لبلال وهو في حالة تعذيبه، إنه عاش مدة بعد نزول الوحي. غير أن الأخبار المذكورة لا تنص على إسلامه، ولم نجد أحدا قد نص على ذلك. أما خبر رؤيا الرسول له في منامه، فإنه يدل على عدم إسلمه، وعلى إنه كان قد توفي قبل نزول الوحي على الرسول. وهو الرأي الراجح. وهذا ما حمل أحد المؤرخين على القول: وقد اختلف فيه، فمنهم من زعم إنه مات نصرانيا ولم يدرك ظهور النبي. ومنهم من رأى إنه مات مسلمًا وإنه مدح النبي1. وقد ورد في بعض الأخبار إن الرسول قال لما توفي ورقة:"لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير، لنه آمن بي وصدقني"2. وورد مثل ذلك من أحاديث زعم أن الرسول قالها في حق ورقة، وهي كلها تشير إلى وفاة ورقة قبل المبعث، وعلى دينه، إذ لم يدرك الإسلام.

وورد في بعض الروايات أنه "كان يكتب الكتاب العربي، فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب"3. وورد في رواية أخرى أنه "كان يكتب الكتاب العبراني، فكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب"4. والخبران هما خبر واحد، كما يظهر من وحدة النص، غير إن اسم اللغة التي زعم أنه كان يكتب بها قد حرف، فقرأه بعضهم العربي، وقرأه بعض آخر العبراني. ولما كان الإنجيل باليونانية وبلغة بني إرم، فقد أخطأ الرواة بجعل لغة الإنجيل هي العبرانية، وهم يتوهمون كثيرًا فيخلطون بين العبرانية والسريانية. والغالب أنهم كانوا يريدون بالعبرانية لغة بني إرم التي كانت لغة العلم والأدب والدين في العراق وفي بلاد الشام، بل وبين مثقفي اليهود ورجال دينهم في ذلك الوقت.

وذكر أهل الأخبار أنه لم يعقب5. ولم يذكروا سبب ذلك، هل كان قد

1 المسعودي، مروج "2/ 59".

2 القسطلاني، شرح صحيح "1/ 65"، الذهبي، تاريخ الإسلام "1/ 68".

الذهبي، سير النبلاء "80"، خزانة الأدب "2/ 41".

3 النصرانية "1/ 119".

4 الأغاني "3/ 113"، الاشتقاق "164".

5 كتاب نسب قريش "ص207".

ص: 79

تزوج، ولكنه كان عقيمًا، فلم يعقب؟ أو أنه عاش أعزب ولم يتزوج طول حياته؟

وكان "أبو قيس صرمة بن أبي أنس""صرمة بن أنس" وهو من بني النجار، قد ترهب ولبس المسوح، وهجر الأوثان، ودخل بيتًا واتخذه مسجدًا لا تدخله طامث ولا جنب، وقال: أعبد رب إبراهيم، فلما قدم النبي المدينة أسلم وهو شيخ كبير، وحسن إسلامه. وفيه نزلت الآية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 1. ورووا له شعرا2. وزعم أنه اغتسل من الجنابة، وهم بالنصرانية، ثم أمسك عنها. وذكر أن "ابن عباس" كان يختلف إليه يأخذ عنه الشعر3.

وأما "وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي"، فهو من إياد، زعم "ابن الكلبي" إنه ولي البيت بعد جرهم، فبنى صرحًا بأسفل مكة، وجعل فيه أمة يقال لها "حزورة"، وبها سميت "حزورة مكة"، وجعل في الصرح سلمًا، فكان يرقاه ويزعم أنه يناجي الله. وكان ينطق بكثير من الخبر، ويزعم الناس أنه صديق من الصديقين، وقالوا كان كاهنًا4. وذكروا له كلمات مسجعة، ليس فيها ما يشرح لنا معتقده الديني وضوحًا تامًّا5.

والصرح كما يقول علماء اللغة، بيت يبنى منفردًا ضخمًا طويلا في السماء

1 البقرة، الآية 187، مروج، "1/ 52 وما بعدها"، تفسير الطبري "2/ 97""بولاق".

2 بلوغ الأرب "2/ 266".

3 بلوغ الأرب "2/ 266"، أسد الغابة "3/ 18"، الإصابة "2/ 176"، "رقم 4061"، الاستيعاب "2/ 149"، "حاشية على الإصابة".

4 المحبر "136"، بلوغ الأرب "2/ 260".

5 "وقال الإيادي صاحب الصرح، الذي اتخذ سلمًا لمناجاة الرب، وهو القائل: مرصعة وفاطمة، القطيعة والفجيعة، وصلة الرحم وحسن الكلم، زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابًا، وبالشر عقابًا، وإن من في الأرض عبيد لمن في السماء، هلكت جرهم وربلت إياد، وكذلك الصلاح والفساد. من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه كل شاة معلقة برجلها.

واياه عنى الشاعر بقول:

ونحن إياد عبيد الإله

ورهط مناجيه في السلم

ونحن ولاة حجاب العتيق

زمان الرعاف على جرهم

البيان والتبيين "2/ 109" الأمثال للميداني "2/ 81".

ص: 80

وكل بناء عال مرتفع1. والحزورة الرابية الصغيرة والتل الصغير2. ويظهر إنه كان بنى صرحه فوق تل في محل منفرد، ليختلي هناك على طريقة الرهبان والنساك.

وكان ما عرفه أهل الأخبار عن "عمير بن جندب" الجهني، إنه كان من جهينة، وإنه كان موحدا لم يشرك بربه أحدا، وإنه مات قبيل الإسلام3.

وكان عامر بن الظرب العدواني من الحكماء، نسبت إليه أقوال في الحكم والدين. منها "إني ما رأيت شيئًا خلق نفسه، ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا، ولا جائيا إلا ذاهبا، ولو كان يميت الناس الداء، لأحياهم الدواء". ثم قال: "إني أرى أمورا شتى وحتى. قيل له: وما حتى؟ قال: حتى يرجع الميت حيا، ويعود اللاشيء شيئًا، ولذلك خلقت السماوات والأرض، فتولوا عنه ذاهبين"4.

وقد نسبوا إليه جملة أحكام، منها حكمه في "الخنثى"، وقد ذكروا أن حكمه هذا قد أقره الإسلام. وقالوا إن العرب كانت إذا أشكل عليها أمر في قضاء، أو حارت في أمر معضل ترى وجوب الحكم فيه برأي صائب وعقل وتدبير، ذهبت إليه، فإذا حكم كان حكمه الحكم الفصل، فلا راد له5.

ونسبت إلى كل من عبد الطانجة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة وعلاف بن شهاب التميمي أبيات، فيها إقرار بوجود إله واحد خالق لهذا الكون، وبوجود الحساب والثواب والعقاب6.

وأما "المتلمس بن أمية" الكناني، فذكروا إنه كان قد اتخذ من فناء الكعبة موضعا يخطب فيه، ويعظ قومه عظات دينية، فكان في جملة ما قاله لهم:

1 تاج العروس "2/ 178 وما بعدها"، "صرح".

2 تاج العروس "3/ 138"، "حرز".

3 بلوغ الأرب "2/ 261 وما بعدها".

4 المحبر "135، 181، 236،236، 239" بلوغ الأرب "2/ 275 وما بععدها"ز

5 الروض الأنف "1/ 86"، ابن هشام "1/ 134"، "محمد محيي الدين عبد الحميد" المعمرون "44 وما بعدها"، عيون الأخبار "1/ 266" البيان والتبيين "1/ 264، 365، 401"، "2/ 72، 199"، ط3/ 38، 39، 299، 369".

6 الأغاني "3/ 113"، "طبعة بيروت" مروج "2/ 60".

ص: 81

"إنكم قد تفردتم بآلهة شتى، وإني لأعلم ما الله راض به. وإن الله تعالى رب هذه الآله، وإنه ليحب أن يعبد وحده". فنفرت كلماته هذه وأمثالها القوم منه وتجنبته، وقالوا عنه إنه على دين بني تميم1.

وفي أبيات منسوبة إلى زهير بن أبي سلمة الشاعر المعروف إقرار بوجود إله عالم بكل ما في النفوس، هو "الله"، لا تخفى عليه خافية، فلا يجوز كتمان شيء عنه، وبوجود يوم حساب يحاسب فيه الناس على ما قاموا به من أعمال، وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فلا مخلص له2.

ونسب الإيمان بالله واليوم الآخر إلى أشخاص آخرين، منهم: عبد الله القضاعي والشاعر عبيد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن لؤي بن غالب، والأول منهم هو ابن تغلب بن وبرة بن قضاعة، كان من الحكماء الخطباء، يتبع الحنيفية، وينهج على نهجها مثل الحنفاء3.

وأما الثاني، وهو عبيد بن الأبرص، فشاعر جاهلي شهير له في قتله قصة، هي من ذيول قصة "الغريين" للمنذر بن ماء السماء. نجد في الشعر المنسوب إليه اسم "الله" يتردد في كثير من المواضع، ونراه من المتشائمين المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوبن ونراه افي القصيدة البائية يتوكل على الله، ويدعو الناس إلى الاعتماد عليه فيقول:

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيب

بالله يدرك كل خير

والقول في بعضه تلغيب

والله ليس له شريك

علام ما أخفت القلوب4

1 بلوغ الأرب "2/ 277".

2

فلا تكتمن الله ما في صدوركم

ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

يؤخر فيودع في كتاب فيدخر

ليوم الحساب أو يعجل فينقم

شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، للإمام ثعلب "ص12"، "طبعة الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "القسم الرابع ص518"، بلوغ الأرب "2/ 277 وما بعدها".

3 بلوغ الأرب "2/ 280".

4 البيان والتبيين "1/ 226"، شعراء النصرانية "القسم الرابع ص607 وما بعدها"، أسماء المغتالين "211"، "نوادر المخطوطات".

ص: 82

ونراه يقول في المنايا:

فأبلغ بني وأعمامهم

بأن المنايا هي الوارده

لها مدة فنفوس العباد

إليها وإن كرهت قاصده

فلا تجزعوا الحمام دنا

فللموت ما تلد الوالده1

وفي كثير من مواضع شعره يذكر المنايا ويتذكر الموت، ثم هو يتجلد ويتصبر في ملاقاة الشدائد والأهوال، وينصح الناس بالسير على هذا المنوال. والذي يقرأ شعره، يشعر أنه أمام رجل حضري رقيق عاطفي المزاج، ذي نفس ميالة إلى التقشف والتصوف، مؤمن بالعدل، كاره للظلم، فهل كان عبيد على هذه الشاكلة؟ وهل هذا الشعر وخاصة ما جاء منه في البائية هو نظم من منظومه؟ أو هو من نظم من عاش بعده في الإسلام؟

وأما "كعب بن لؤي بن غالب". فهو من أجداد النبي. وقد كان على الحنيفية، وإليه كانت تجتمع قريش في كل جمعة، فكان يعظهم ويوجههم ويرشدهم يأمرهم بالطاعة والتفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتقلب الأحوال والاعتبار بما جرى على الأولين والآخرين، ويحثهم على صلة الأرحام وإفشاء السلام وحفظ العهد ومراعاة حق القربة والتصدق على الفقراء والأيتمام2.

هذه خلاصة موجزة لسير من حشرهم أهل الأخبار في زمرة الحنفاء، تريك آراء الجماعة تكاد تكون واحدة: كفر بالأصنام وبالشرك كله، وإعراض عن عادات قومهم، وثورة على عقائدهم، وترقب لحدوث تطور وإصلاح يقضي على الجهالة، وقد مهدوا له بدعوتهم تلك التي أشاعوها بين بني قومهم فجلبت عليهم السخط والغضب الشديد، مما حمل أكثرهم، وهم في الغالب من مكة وأطرافها، على الفرار من بلدتهم إلى أطرافها المنعزلة الآمنة وغيرها من الأماكن الخالية، ليكونوا في أمان من إيذاء قومهم لهم، وفي وسط يفكرون فيه في خلق السماوات والأرض تفكيرا هادئا، فلا يزعجهم مزعج، ولا ينغص حياتهم هناك مختص.

1 شعراء النصرانية "القسم الرابع ص604 وما بعدها".

2 ابن سعد، الطبقات "الجزء الأول، القسم الأول ص39"، بلوغ الأرب "2/ 282".

ص: 83

لقد جعل أهل الأخبار معظم من تحدثنا عنهم إن لم نقل كلهم من القارئين الكاتبين، ونسبوا إلى بعضهم قراءة الكتب والصحف والزبور ومجلة لقمان. يريدون بذلك الكتب المقدسة. ويفهم من كلامهم في بعض الأحيان أن منهم من كان يحسن فهم العبرانية أو لغة بني إرم. ولكن الإخباريين عفا الله عنهم لم يتبسطوا لنا في الحديث عن ماهية تلك الصحف وعن محتويات مجلة لقمان وعن الكتب المنزلة، ولم يأتوا بنماذج مفصلة طويلة أو قطع ترشد إلى المظان، التي نقلت منها. فأضاعوا علينا، بإهمالهم الإشارة إلى هذه الأمور، أشياء كثيرة كهمة، بنا حاجة ماسة إلى معرفتها، للوقوف على الحالة الدينية في جزيرة العرب قبيل الإسلام وإبان ظهوره.

ويؤكد أهل الأخبار أن بعض أولئك الحنفاء كانوا يسيرون على سنة إبراهيم وشريعته، وأن بعضًا آخر منهم كان يلتمس كلماته ويسأل عنها، وأنهم في سبيل ذلك تحملوا المشاق والأسفار والصعاب. وقد جعلوا وجهة أكثرهم أعالي الحجاز وبلاد الشأم وأعالي العراق. أي المواضع التي كانت غالبية أهلها على النصرانية يومئذ، وجعلوا أكثر كلامهم وسؤالهم مع الرهبان. وقد أضافوا إليهم الأحبار أحيانًا، وذكروا أن الرهبان والأحبار أشاروا عليهم بوجوب البحث والتأمل، فليس عندهم ما يأملونه ويرجونه من دين إبراهيم وإسماعيل، ولذلك لم يدخلوا في يهودية ولا نصرانية، بل ظلوا ينتظرون الوعد الحق، ومنهم من مات وهو على هذه العقيدة. مات معتقدا بدين إبراهيم حنيفا، غير مشرك بربه أحدا.

أما كيف كانت شريعة إبراهيم، وعلى أي نهج سار الحنفاء، وهل كان لهم كتاب أو كتب أو نحو ذلك؟ فأسئلة لم يجب عنها أهل الأخبار إجابة صريحة واضحة. لذلك صرنا في جهل بأمر تلك الشريعة: شريعة إبراهيم، شريعة التوحيد الحق.

ويذكر أهل الأخبار أنه كان الأتباع إبراهيم من العرب علامات وعادات ميزوا أنفسهم بها عن غيرهم، منها: الختان، وحلق العانة، وقص الشارب. وهي علامات جعلها بعض المفسرين من "كلمات إبراهيم" التي ذكرت في القرآن الكريم، في الآية:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} 1. ذهب القائلون

1 البقرة، الآية 124.

ص: 84

بهذا الرأي إلى أن تلك الكلمات هي عشر: "خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فأما التي في الرأس، فالمضمضة والاستنشاق وقص الشارب وفرق الرأس والسواك. وأما التي في الجسد، فالاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان"1.

ومن سنن شريعة إبراهيم الاختتان. وهو من العادات القديمة الشائعة بين العرب الجاهليين الوثنيين. أما العرب النصارى، فلم يكونوا يختتنون. فالحنفاء في هذه العادة والوثنيون سواء. وفي أخبار معركة "حنين" أن الأنصار حينما أجهزوا على قتلى ثقيف ممن سقط في المعركة مع هوازن وجدوا عبدا، عندما كشف ليستلب ما عليه وجد أغرل. فلما تبين ذلك للأنصار، نادى أحدهم بأعلى صوته: يعلم الله أن ثقيفا غرل ما تختتن. فقام إليه المغيرة بن شعبة، وهو من ثقيف، فأخذ بيده، وحشي أن يذهب ذلك عن قومه في العرب، فقال له: لا تقل ذلك فداك أبي وأمي، إنما هو غلام لنا نصراني، ثم جعل يكشف له قتلى قومه ويقول له: ألا تراهم مختتنين2؟

ويتبين من هذا الخبر أن العرب كانوا يعدون الغزل شيئًا معيبًا، ومقبضة تكون حديث الناس. وهناك خبر آخر يفيد أن العرب جميعًا كانوا يختتنون، وأن الاختتان كان من السمات التي تميزهم عن غيرهم، وأنهم في ذلك كاليهود3. وقد ورد في الموارد اليهودية ما يفيد اختتان العرب. ولعل التوراة التي ذكرت قصة اختتان إسماعيل، أخذت خبرها هذا من تقاليد العرب الشماليين التي كانت شائعة بينهم في ذلك العهد4.

1 تفسير الطبري "1/ 414 ومابعدها"، روح المعاني "1/ 374"، بلوغ الأرب "2/ 287"، المحبر "329".

2 الطبري "3/ 130"، "ذكر الخبر عن غزوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هوازن بحنين.

3 الأغاني "6/ 91"، "ذكر أبي سفيان وأخباره ونسبه.

4 Reste S175

ص: 85

‌الاعتكاف:

وقد نسب الاعتكاف في الكهوف وفي البراري وفي الجبال إلى عدد من هؤلاء الحنفاء. فقد ذكر أهل الأخبار أنهم كانوا قد اعتكفوا في المواضع الخالية البعيدة

ص: 85

عن الناس، وحبسوا أنفسهم فيها، فلا يخرجون منها إلا لحاجة شديدة وضرورة ماسة1. يتحنثون فيها ويتأملون في الكون، يلتمسون الصدق والحق. والتحنث التعبد. فكانوا يتعبدون في تلك المواضع الهادئة الساكنة، مثل غار "حراء" وقد ذكر أن الرسول كان يتحنث فيه الليالي، يقضيها في ذلك الغار2.

ويعبر عن التعبد ليلا بـ "التهجد" أيضًا. وذكر أن التهجد الصلاة ليلا. وقد كان الرسول يتهجد3. والتهجد التيقظ والسهر بعد نومة من الليل. والهجود النوم عند العرب. ويظهر أن تفسير التهجد بالتعبد ليلا، إنما ورد من تفسيرهم لما ورد في القرآن الكريم:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} 4. فخص العلماء التهجد بالتعبد ليلا.

ويعبر عن التعبد بالنسك، والنسك: العبادة والطاعة وكل ما يتقرب به إلى الآلهة. والنساك: المتعبدون. وقد كان الحنفاء من النساك أي المتعبدين. وعدوا الذبائح من النسك. وجعلوا النسيكة: الذبيحة5. والذبائح، أي النسائك، هي من أهم مظاهر التعبد والزهد عند الجاهليين.

وممن نسب إلى النسك والرهبنة من الجاهليين "أبو عمر عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان"، أحد "بني ضبيعة بن زيد". وكان في الجاهلية يسمى "الراهب"، لأنه كان مترهبا، وقد كان من المقدمين بيثرب، إذ كان رأس الأوس فيها، فلما جاء رسول الله إلى المدينة، خاصمه، ثم خرج إلى مكة مباعدا له، ومعه خمسون غلاما من الأوس، واشترك مع قريش يوم أحد6.

1 تاج العروس "6/ 203"، "عكف".

2 تاج العروس "1/ 616""حنث".

3 تاج العروس"2/ 543""هجد".

4 الإسراء، الآية 79، تفسير الطبير "15/ 95"، روح المعاني "15/ 127".

5 اللسان "10/ 498 وما بعدها""نسك".

6 نهاية الأرب "17/ 89"، "ذكر غزوة أحد"، امتاع الإسماع "1/ 115".

ص: 86

‌الفصل السادس والسبعون: اليهودية بين العرب

‌مدخل

الفصل السادس والسبعون اليهودية بين العرب

والحديث عن اليهودية بين العرب، وعن وجود يهود في أنحاء من جزيرتهم، لا يمكن أن يكون حديثا تأريخيا مبنيا على العلم إذا ارتفعنا به إلى الميلاد وإلى ما قبل الميلاد. ولا يعني كلامي هذا عدم وصول يهود إلى جزيرة العرب، وعدم إقامتهم في أماكن منها. فهذا كلام لا يمكن أن يقال، ولا يمكن قبوله. إنما أريد أن أقول أننا لا نملك نصوصا تأريخية تخولنا أن نتحدث عن اليهود في جزيرة العرب قبل الميلاد حديثا علميا، بأن نعين المواضع التي نزلوا فيها، والأماكن التي وصولا إليها، وما فعلوه هناك، وفي أي عهد كان ذلك، ومن قادهم إلى تلك الأنحاء، ومن استقبلهم استقبالا حسنا، أو استقبلهم استقبالا سيئًا من الجاهليين؟

وقد عرف اليهود عند الجاهليين، وورد ذكرهم في الشعر الجاهلي. ولا بد من وقوف الجاهليين على أحوالهم، لأنهم كانوا كما سنرى يسكنون في مواضع عديدة معروفة تقع ما بين فلسطين ويثرب، كما سكنوا في اليمن وفي اليمامة وي العروض. وكان تجار منهم يقيمون في مكة وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب للاتجار وإقراض المال بربا فاحش للمحتاجين إليه.

ومعارفنا عن يهود جزيرة العرب مستمدة من الموارد الإسلامية. والسبب في ورود خبرهم في هذه الموارد، هو اصطدامهم بالإسلام، ومقاومتهم له حينما دعاهم الرسول إلى الدخول فيه، فنزل فيهم الوحي، وأشير إليهم في الحديث،

ص: 87

وذكروا في كتب التفسير والسير والتواريخ والأدب. ومن هنا تجمعت معارفنا عن يهود الجاهلية. ولهذا تجد الحديث عن يهود الجاهلية لا يرتقي كثيرًا عن عصر النبوة، ولا يبتعد عنه ولكني لا أستبعد احتمال تغير الحال، إذا ما عثر المنقبون في المستقبل على كتابات جاهلية قد تكون مطمورة في الوقت الحاضر في باطن التربة، يكون لها صلة بيهود جزيرة العرب، أو إذا ما عثر على مؤلفات ووثائق مكتوبة عبرانية أو غير عبرانية قد تكون مجهولة عن ذوي العلم في الوقت الحاضر، تكون لها صلة وعلاقة بأمر يهود جزيرة العرب قبل الإسلام.

وقد وردت لفظة "يهود" معرفة في القرآن الكريم. أي على هذا الشكل: "اليهود". وردت في مواضع من سورة البقرة1. ومن سورة المائدة2 ومن سورة التوبة3. وكلها سورة مدنية. ولم ترد في سورة من السور المكية. كما وردت لفظة "يهوديا" في سورة آل عمران، وردت في شرح ديانة "إبراهي":{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} 4. وهي من السور المدنية كذلك.

وعبر القرآن الكريم عن اليهود وعن معتنقي اليهودية بـ {الذين هادوا} 5، وبـ {من كان هودا} 6 و {كونوا هودا} 7 و {كانوا هودا} 8. وسورتي الأنعام والنحل من السور المكية. وبناء على ذلك تكون جملة "الذين هادوا" قد نزلت قبل نزول لفظة "اليهود" في القرآن الكريم.

وقد عبر عن العبرانيين عامة ب"بني إسرائيل" في القرآن الكريم. عبر عنهم في سورة مكية وفي سورة مدنية. ويلاحظ أن ورود هذا التعبير في القرآن الكريم، هو أكثر بكثير من ورود لفظة "اليهود" فيه.

1 البقرة: الآية 113، 120.

2 المائدة، الآية 18، 51، 64،82.

3 التوبة، الآية30.

4 آل عمران، الآية 67ز

5 البقرة، الآية 62،النساء، الآية 46، 160،المائدة الآية 41، 44، 69

الأنعام الآية 146، النحل، الآية 188، الحج، الآية 17، الجمعة، الآية 9.

6 البقرة، الآية 111.

7 البقرة، الآية 135.

8 البقرة، الآية 140.

ص: 88

ولما كانت فلسطين امتدادا طبيعيا للحجاز، كان من الطبيعي اتصال سكانها بالحجاز، واتصال سكان الحجاز بفلسطين، وذهاب جاليات يهودية إلى العربية الغربية، للاتجار وللإقامة هناك، خاصة بعد فتوح الدول الكبرى لفلسطين واستيلائها عليها، وهجرة اليهود إلى الخارج. فكانت العربية الغربية لاتصالها بفلسطين من الأماكن الملائمة المناسبة لهجرة اليهود إليها، وإقامتهم فيها، ولا سيما عند مواضع المياه وفي الأرضين الخصبة الغامرة، غير إننا لا نستطيع، كما قلت، التحدث عن هجرة اليهد هذه إلى هذه الأنحاء حديثا علميا معززا بالكتابات وبالتواريخ.

ولم يترك يهود جزيرة العرب لهم أثرًا مكتوبا يتحدث عن ماضيهم فيها. وكل ما عثر عليه منهم، نصوص معدودة، وجدت في اليمن، لا تفصح بشيء ذي بال عن اليهود واليهودية. كذلك لم يصل إلينا أن أحدا من المؤلفين والكتبة العبرانيين ذكر شيئًا عن يهود الجاهلية. وليس لنا من تأريخ اليهود في جزيرة العرب إلا ما جاء في القرآن الكريم وفي الحديث وكتب التفسير والأخبار والسير. فمادتنا عن تأريخ اليهودية في العربية، لا ترتقي إلى عهد بعيد عن الإسلام.

لقد ذهب بعض المؤرخين المحدثين إلى أن اليهود كانوا في جملة من كان في جيش "نبونيد" يوم جاء إلى تيماء. فأقاموا بها وبمواضع أخرى من الحجاز بلغت "يثر". وأن هؤلاء اليهود أقاموا منذ ذلك الحين في تلك الأماكن واستوطنوا وادي القرى وأماكن أخرى إلى مجئ الإسلام. غير أن "نبونيد" لم يشر في أخباره المدونة إلى وجود اليهود في جيشه وإلى إسكانه لهم في هذه الأرضين كما أننا لم نعثر على كتابات تتحدث عن هذا العهد أو عن العند الذي سبقه أو الذي جاء من بعده، لذلك فإننا لا نستطيع أن نعزز هذا الكلام بنصوص وكتابات. وإن كنا لا نريد نفي احتمال مجئ اليهود إلى هذه الديار في عهد "نبونيد"، أو في عهد "بخت نصر"، أو قبل العهدين.

نعم، لقد عثر على عدد من الكتابات النبطية في الحجر وفي مواضع أخرى من أرض النبط وردت فيها أسماء عبرانية تشير إلى أن أصحابها من يهود، ويعود بعضها إلى القرن الأول للميلاد، ويعود بعض آخر إلى ما بعد ذلك مثل الكتابة التي يعود عهدها إلى سنة 307 ميلادية، وصاحبها رجل اسمه "يحيى بر شمعون" أي "يحيى بن شمعون"1. غير أن هذه الكتابات شخصية، ولا تفصح بشيء

1 Islamic culture، vol، III، No. 2، April 1929، Judaeo-Arabic Relations in Pre-Islames Times، By Josef Horovity، P. 170.

ص: 89

ذي بال عن عقيدة أصحابهان ولا عن تأريخهم في هذين الأرضين.

وقد ذهب اليهود إلى العربية الشرقية، ذهبوا إليها من العراق، فسكنوا في مواضع من سواحل الخليج، وتاجروا مع أهل هذه البلاد ومع باطن الجزيرة. وقد ساعدتهم بعض الحكومات على الذهاب إليها. وقد كانت ليهود العراق تجارات مع أهل الخليج، كما يفهم ذلك من مواضع من التلمود.

ويتبين من روايات المؤرخ اليهودي "يوسفوس فلافيوس Iosephos Fiavius أن اليهودية كانت قد وجدت لها سبيلا بين العرب. وأن بعض ملوك مملكة "حدياب" Adiabene كانوا قد دخلوا فيها1. ويذكر المؤرخ "سوزومين" Souzomenos أن اليهود كانوا ينظرون إلى العرب الساكنين شرق الحد العربي Iimes Arabicus على أنهم من نسل إسماعيل، وأنهم كانوا يرون أنهم من نسل إسماعيل وإبراهيم، فهم من ذوي رحمهم، ولهم بهم صلة قربى. وكانوا يرجون لذلك دخلوهم في دينهم، واعتناقهم دين إبراهيم جد اليهود والعرب. وقد عملوا على تهويد أولئك العرب2.

ويظهر من مواضع من التلمود أن نفرا من العرب دخلوا في اليهودية، وأنهم جاءوا إلى الأحبار، فتهودوا أمامهم3. وفي هذه المرويات "التلمودية"، تأييد لروايات أهل الأخبار التي تذكر أن اليهودية كانت في حمير، وبني كنانة، وبني الحارث بن كعب، وكندة4، وغسان. وذكر "اليعقوبي" أن ممن تهود من العرب "اليمن بأسرها. كان تبع حمل حبرين من أحبار يهود إلى اليمن. فأبطل الأوثان، وتهود من باليمن، وتهود قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم من جذام"6.

وقد ذكر علماء التفسير في تفسيرهم الآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ

1 Die Araber، II، S. 65. ff.

2 Sozomenos، 6 38 10-13، 299، 17، Die Araber، II، S. 74.

3 Y bamot، 16، Abooda Zara 27a، Die Araber، II، S 74.

4 المعارف "621"، الأعلاق النفيسة "217".

5 البدء والتأريخ "4/ 31".

6 اليعقوبي "1/ 226 وما بعدها".

ص: 90

الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1، أنها نزلت في الأنصار. كانت المرأة المقلات في الجاهلة تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده فتهود قوم منهم. فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام. أو أنهم لما بقوا على يهوديتهم، وأمر اليهود بالجلاء، وفيهم منهم، شق على آبائهم ترك أبنائهم يذهبون مع اليهود، فقالوا: "يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم.. فسكت عنهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}

فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد خير أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم"2. وذكر العلماء أيضا أن ناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني قريظة وغيرهم من يهود، فتهودوا، وأن من الأنصار من رأي في الجاهلية أن اليهودية أفضل الأديان، فهودوا أولادهم، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، أرادوا إكراه أبنائهم الذين تهودوا على الدخول فيه، فنزل الوحي بالآية المذكورة3. فقد كان إذن بين يهود جزيرة العرب، عرب دخلوا في دين يهود.

وذكر أهل الأخبار أن "جبل بن جوال بن صفوان" الثعلبي، من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، كان يهوديا فأسلم، فهو عربي، يظهر أنه أو أهله قبله قد تهودوا، فكان على دين يهود، وعاش مع "بني قريظة"، حتى اعتنق الإسلام4. وذكروا أسماء آخرين كانوا من متهودة الجاهليين.

ويرى بعض المؤرخين اليهود أن يهود جزيرة العرب كانوا في معزل عن بقية أبناء دينهم وانفصال، وأن اليهود الآخرين لم يكونوا يرون أن يهود العربية مثلهم في العقيدة، بل رأوا أنهم لم يكونوا يهودًا، لأنهم لم يحافظوا على الشرائع الموسوية ولم يخضعوا لأحكام التلمود5. ولهذا لم يرد عن يهود جزيرة العرب شيء في أخبار المؤلفين العبرانيين.

وعندي أن عدم ورود شيء عن يهود الحجاز في أخبار المؤلفين العبرانيين

1 البقرة، رقم 2، آية 256.

2 تفسير الطبري "3/ 10 وما بعدها.

3 تفسير الطبري "3/ 10 وما بعدها"، تفسير القرطبي "3/ 280، وما بعدها".

4 الإصابة "1/ 223 وما بعدها""رقم 1071".

5 إسرائيل ولفنسون: تأريخ اليهود في بلاد العرب "ص13"، "القاهرة 1927".

ص: 91

لا يمكن أن يكون دليلا على عزلة يهود الحجاز عن بقية اليهود. فقد أهمل غيرهم أيضًا ولم يشر إليهم، لأن التأليف الفكري عند العبرانيين كانا قد تركزا في هذه العهود على المستوطنات اليهودية في العراق وعلى فلسطين، وعلى "طبريا" بصورة خاصة، ولم تشتهر الجاليات اليهودية التي انتشرت في مواضع أخرى بالتأليف، فكان من الطبيعي أن تنحصر أخبار اليهود في هذا العهد في هذين القطرين. ولهذا لم يشر إلى يهود الحجاز وإلى يهود بقية جزيرة العرب. ثم إن الحجاز على اتصال بفلسطين، وفلسطين جزء من الحجاز متمم له جغرافيا، وهو متصل بفلسطين منذ القدم، وفلسطين منفذه التجاري، وميناء "غزة" من المواضع التي كان يقصدها تجار الحجاز للاتجار، والحركة مستمرة دوما بين فلسطين والحجاز، وقد كان تجار اليهود من أهل الحجاز يتاجرون مع بلاد الشام وفي وجملتها أرض فلسطين، وإلا يكون بين اليهودين اتصال. أما من ناحية الآراء الدينية والاعتقادية، فقد يكون بين اليهودين بعض الاختلاف، فقد وقع اختلاف في الآراء بين أحبار يهود العراق وبين أحبار يهود فلسطين، فلا يستبعد إذن رأي من يقول بوجود اختلاف في وجهة نظر يهود فلسطين بالنسبة ليهود الحجاز، إذ قد يكون بوجود اختلاف في وجهة نظر يهود فلسطين بالنسبة ليهود الحجاز، إذ قد يكون بوجود اختلاف في وجهة جزيرة العرب قد تأثروا بالعرب الذين نزلوا بينهم فاضطروا إلى التخفيف من التمسك بشعائر دينهم، لا سيما وأن من بين يهود جزيرة العرب يهود متهودون، كانوا في الأصل من أدوم ومن النبط ومن العرب، دخلوا في اليهودية لعوامل متعددة، فلم يكونوا لذلك على سنة اليهود الأصيلين في المحافظة على شريعتهم محافظة شديدة تامة.

وقد انتشر اليهود جماعات استقرت في مواضع المياه والعيون من وادي القرى وتيماء وخيبر إلى يثرب، فبنوا فيها الآطام لحماية أنفسهم وأرضهم وزرعهم من اعتداء الأعراب عليهم. وقد أمنوا على أنفسهم بالاتفاق مع رؤساء القبائل الساكنة في جوارهم على دفع إتاوة لهم، وعلى تقديم الهدايا إليهم لاسترضائهم. وكان من شأنهم أيضًا التفريق بين الرؤساء وإثارة الشحناء بين القبائل حتى لا تصفوا الأحوال فيما بينها وتلتئهم ولئلا يكون اتفاقها والتئامها خطرًا يتهدد اليهود.

وليس الذي يرويه أهل الأخبار عن إرسال موسى جيشًا إلى الحجار، واستقرار ذلك الجيش في يثرب بعد فتكه بالعماليق وبعد وفاة موسى، ثم ما يذكرونه عن

ص: 92

هجرة داود مع سبط يهوذا إلى خيبر وتملكه هناك ثم عودته إلى إسرائيل1 وأمثال هذا إلا قصصًا من النوع الذي ألفنا قراءته في كتب أهل الأخبار، لا أستبعد أن يكون مصدره يهود تلك المنطقة أو من أسلم منهم، لإثبات أنهم ذوو نسب وحسب في هذه الأرضين قديم، وأنهم كانوا ذوي بأس شديد، وأن تاريخهم في هذه البقعة يمتد إلى أيام الأنبياء وابتداء إسرائيل، وأنهم لذلك الصفوة المختارة من العبرانيين.

وقد زعم أهل الأخبار، أن العمالقة كانوا أصحاب عز وبغي شديد، وكانوا ينزلون الحجاز في جملة ما نزلوا من أماكن في أيام موسى، وكان منهم: بنو هف وبنو سعد وبنو الأزرق وبنو مطروق. وملكهم إذ ذاك رجل منهم اسمه "الأرقم"، ينزل ما بين تيماء وفدك. وكان سكان يثرب من العمالقة وكذلك سكان بقية القرى. فلما تغلب عليه العبرانيون انتزعوا منهم مساكنهم، وأقاموا في مواطنهم في الحجاز2.

وقد أخذ أهل الأخبار ما رووه عن دخول اليهود إلى يثرب في أيام موسى، وما ذكروه عن إرساله جيشًا إلى هذه المنطقة، ثم ما رووه عن سكنهم القديم في أطراف المدينة وفي أعالي الحجاز، من سفر "صموئيل الأول" من التوراة3. وقد حسب أهل الأخبار العمالقة من سكان يثرب القدماء، ومن سكان أعالي الحجاز، فزعموا أن تلك الحروب قد وقعت في هذه المنطقة، وأن اليهود قد سنوها لذلك منذ أيام موسى. وقد أخذ الإخباريون رواياتهم هذه من اليهود، وممن دخل منهم في الإسلام4.

ويرى بعض الإخباريين أن ابتداء أمر اليهود في الحجاز ونزولهم وادي القرى وخيبر وتيماء ويثرب إنما كان في أيام "بخت نصر"، فلما جاء "بخت نصر"

1 الأغاني "19/ 94 وما بعدها"، "أخبار أوس ونسب اليهود بيثرب وأخبارهم"، ابن خلدون "2/ 88"، "2/ 594"، "دار الكتاب اللبناني، بيروت 1956"، أبو الفداء "1/ 123"، ابن الأثير، الكامل "1/ 401 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 594""بيروت 1956"، ابن هشام "2/ 17".

2 الأغاني "19/ 94"، ابن هشام "2/ 17".

3 صموئيل الأول: الاصحاح الخامش عشر، الآية 5 وما بعد.

4 NoIdeke BeItrage S 52

ص: 93

إلى فلسطين، هرب قسم منهم إلى هذه المواضع واستقروا بها إلى مجيء الإسلام1. وليس في هذا الخبر ما يحملنا على استعباده، فهروب اليهود إلى أعالي الحجاز ودخولهم الحجاز أمر سهل يسير، فالأرض واحدة وهي متصلة والطرق مفتوحة مطروقة، ولا يوجد أي مانع يمنع اليهود أو غير اليهود من دخول الحجاز. لا سيما وأن اليهود كانوا خائفين فارين بأنفسهم من الرعب، فهم يبحثون عن أقرب ملجأ إليهم يحميهم من فتلك ملك بابل بهم. وأقرب مكان مأمون إليهم هو الحجاز.

أما ما ورد في روايات أهل الأخبار عن هجرة بعض اليهود إلى أطراف يثرب وأعالي الحجاز على أثر ظهور الروم على بلاد الشام وفتكهم بالعبرانيين وتنكيلهم بهم مما اضطر ذلك بعضهم إلى الفرار إلى تلك الأنحاء الآمنة البعيدة عن مجالات الروم، فإنه يستند إلى أساس تاريخي صحيح2. فالذي نعرفه أن فتح الرومان لفلسطين أدى على هجرة عدد كبير من اليهود إلى الخارج، فلا يستبعد أن يكون أجداد يهود الحجاز من نسل أولئك المهاجرين.

وكان يقيم "بـ "مقنا" عند ظهور الإسلام قوم من اليهود اسمهم "بنو جنبة"، وقد كتب إليهم الرسول وإلى أهل "مقنا" يدعوهم إلى الإسلام، أو إلى دفع الجزية3. وكتب إلى قوم من يهود اسمهم "بنو غاديا"4، وإلى قوم آخرين اسمهم "بنو عريض"5.

ومن هؤلاء المهاجرين على رأي الإخباريين بنو قريظة وبنو النضير وبنو بهدل. ساروا إلى الجنوب في اتجاه يثرب، فلما بلغوا موضع الغابة، وجدوه وبيا، فكرهوا الإقامة فيه، وبعثوا رائدا أمروه أن يلتمس لهم منزلا طيبا، وأرضا عذبة، حتى إذا بلغ "العالية"، وهي بطحان ومهزور واديان من حرة على تلاع أرض عذبة. بها مياه وعيون غزيرة، رجع إليهم بأمرها، وأخبرهم بما

1 الأغاني "19/ 94"، ابن خلدون "2/ 594""دار الكتاب"، أبو الفداء "1/ 123".

"الكامل""1/ 401" Rdony Die IsraeIiten zu Mekka S 135

2 ابن خلدون "2/ 594""بيروت 1956".

3 ابن سعد "طبقات "1/ 276".

4 ابن سعد "طبقات""1/ 278".

5 ابن سعد طبقات "1/ 279".

ص: 94

رآه منها، فقر رأيهم على الإقامة فيها. فنزل بنو النضير ومن معهم على بطحان، ونزلت قريظة وبهدل ومن معهم على مهزور، فكانت لهم تلاعة وما سقى من بعاث سموات1.

وسكن اليهود يثرب. سكنها منهم بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو القصيص وبنو ماسلة، سكن هؤلاء المدينة وأطرافها، وكان يسكن معهم من غير بني إسرائيل بطون من العرب، منهم: بنو الحرمان حي من اليمن، وبنو مرثد حي من بلي، وبنو نيف وهم من بلي أيضًا، وبنو معاوية حي من بني سليم ثم من بني الحرث بن بهثة، وبنو الشظية حي من غسان. وظل اليهود أصحاب يثرب وسادتها، حتى جاء الأوس والخزرج، فنزلوها واستغلوا الخلافات التي كانت قد وقعت بين اليهود، فتغلبوا عليهم، وسيطروا على المدينة، وقسموها فيما بينهم، فلم يبق من يومئذ عليها سلطان2.

وتذكر روايات أهل الأخبار أن مجئ الأوس والخزرج إلى يثرب كان بعد حادث سيل العرم. جاءوا إليها لفقر حالهم، والتماسا لوطن صالح جديد، وأنهم حينما نزلوها لم يكن لهم حول ولا قوة. ولذلك قنعوا بالذي حصلوا عليه من أرض ضعيفة موات، ومن رزق شحيح. أما المال والثروة والملك والجاه، فلليهود. بقوا على ذلك أمدا حتى إذا ما ذهب مالك بن العجلان، وهو منهم، إلى أبي جبيلة الغساني رئيس غسان يومئذ، ونزل عند، شكا لأمير غسان سوء حال قومه وما هم عليه من بؤس وضنك. فوعده أبو جبيلة أن يأتي على رأس جيش من قومه لمساعدته، على أن يقوم بعد عودته ببناء حائر عظيم، يعلن أنه بناه لاستقبال الأمير فيه، وأن يطلب من اليهود الخروج لاستقباله والتشرف بزيارته في ذلك الحائر، فإن فعلوه، فتل بهم وأبادهم. فلما تم البناء، ووصل الأمير في الأجل الموقوت، ودخل المدعوون رؤساء اليهود الحائر، فتكت عساكر أبي جبيلة بهم أهلكتهم، وتمت الغلبة من يومئذ للأوس والخزرج، وعاد

1 الأغاني "19/ 94 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 594"، تأريخ أبو الفداء "1/ 123""مطبعة التقدم".

2 الأغاني "19/ 95"، الكامل، لابن الأثير "1/ 401".

ص: 95

أبو جبيلة إلى مقر مكله1.

غير أن اليهود ظلوا مع هذه الغلبة يتهاترون مع الأوس والخزرج ويعترضونهم ويتناوبونهم، فعمد مالك بن العجلان إلى الحيلة، فتظاهر أنه يريد الصلح معهم، وإنه عزم على تسوية العداوات وطمس الحزازات، وإنه لذلك يدعو رؤساءهم إلى طعام، ليتفاوضوا مع سادات قومه في أمر الصلح. فلما حضر رؤساء يهود، فتك بعشرات منهم ممن استجاب لدعوته، وفر أحدهم ليخبر قومه بما حدث، وحذر أصحابه الذين بقو، فلم يأت منهم أحد.

"فلما قتل مالك من يهود من قتل، ذلوا، وقل امتناهم، وخافوا خوفًا شديدًا، وجعلوا كلما هاجمهم أحد من الأوس والخزرج بشيء يكرهونه لم يمش بعضهم لبعض كما كانوا يفعلون قبل ذلك، ولكن يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم، فيقول: إنما نحن جيرانكم ومواليكم، فكان كل قوم من يهود لجئوا إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بهم" ومنذ ذلك الزمن لم يبق لليهود على هذه الأرضين سلطان2.

وورد في رواية أخرى أن "مالك بن عجلان"، كان من الخزرج، وكان سيد قومه يومئذ، وكان على اليهود رجل منهم اسمه "الفطيون" ملك عليهم، واستبد بأمر الناس، وكان يهوديا ومن بني ثعلبة، وكان أمر سوء فاجرا، قرر ألا تدخل امرأة على زوجها إلا بعد دخولها عليه. فاغتاظ مالك من فعل الفطيون ومن استذلاله للعرب، ولما كان زفاف أخته لزوجها، وكان لا بد من ادخالها على "الفطيون" أولا ليستمتع بها، كبر ذلك عليه، فدخل معها في زي امرأة، فلما أراد "الفطيون" الخلو بها، وثب مالك عليه وعلاه بسيفه وقتله، وخلص قومه منه، وفر عندئذ إلى أبي جبيلة ملك غسان3.

وتذكر هذه الرواية أن "جبيلة" لم يكن من غسان، بل كان من الخزرج، وكان عظيمًا ذا منزلة كبيرة في الناس، حتى صار ملكا على الغساسنة، ويرجح

1 الأغاني "19/ 97 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 596"، أبوالفداء "1/ 123"، الكامل "1/ 401".

2 الأغاني "19/ 95 وما بعدها"، ابن الأثير الكامل "1/ 401 وما بعدها".

3 ابن الأثير، الكامل "1/ 401"، وفي بعض الكتب "القطيون" بحرف القاف، وهو تحريف، المحبر "113" جمهرة أشعار العرب "243"، "القاهرة 1926م".

ص: 96

رواتها أنه لم يكن ملكا على آل غسان، بل كان مقربا عند ملكهم، عظيم الحظوة لديه. ودليلهم على ذلك عدم اعتراف الغساسنة بوجود ملك عليهم اسمه "عبيد بن سالم بن مالك بن سالم"، وهو اسم "أبو جبيلة" المذكور. ويذكرون أن "الرمق بن زيد الخزرجي" مدحه بشعر قاله فيه1.

وتذكر رواية أن الفطيون اسم عبراني، واسمه "عامر بن عامر بن ثعلبة بن حارثه"، وكان تملك بيثرب. فلما قتل خرج مالك بن العجلان، حتى قدم على "أبي جبيلة" ملك غسان، فأعلمه غلبة يهود على يثرب فعله بهم، فقدم "أبو جبيلة" ملك غسان، فأعلمه غلبة يهود على يثرب وفعله بهم، فقدم "أبو جبيلة" يثرب، ثم صنع طعاما، ومكن الأوس والخزرج ممن دعاهم إلى الطعام من قتل مائة من أشراف اليهود، فقويت الأوس والخزرج عليهم2.

وجاء في رواية أخرى، أن "مالك بن العجلان"، إنما فر إلى "تبع"، بعد قتله "الفطيون" فاستصرخه على اليهود، فجاء حتى قتل ثلثمائة وخمسين رجلا غيلة من سادات يهود بـ "ذى حرض"، ولما أدبهم رجع إلى أرضه اليمن3.

أما مالك بن العجلان، فقد صوره اليهود شيطانا ملعونا، وصوروه في بيعهم وكنائسهم ليلعنوه كما دخلوا ورأوه، وذكروه في شعرهم في أقبح هجاء قالوه4.

وقد كان بين يهو يثرب قو يقال لهم "بني الفطيون" بقوا حتى جاء الرسول إلى يثرب. فأجلاهم في السنة الثالثة من الهجرة5. وذكر "ابن دريد" أن بعضًا من "بني الفطيون" الذين هم من نسل "الفطيون" ملك يثرب، قد شهد "بدرا" واستشهد بعضهم بوم اليمامة. وذكر أن نسب "الفطيون" في غسان. أن من ولد الغطيون: "أبو المقشعر" واسمه "أسيد بن عبد الله"6.

1 ابن الأثير، الكامل "1/ 401 وما بعدها".

2 نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "136 وما بعدها".

3 البدء والتأريخ "3/ 179".

4 الأغاني "19/ 69"، الاشتقاق "ص270".

Graetz، Geschichte der Juden، V، S. 431، Hirschfeld، Essai de I'histoire des Juives de Medine، in Revue Etudes Juives، VII، 1883، p. 173، Caussin de Perceval، Essai، II، p. 652، Wellhausen، Skizze، IV، S. 33، Nallino، Reccolta، III، p. 111

5 المحبر "112".

6 الاشتقاق "2/ 249"، "وستنفلد".

ص: 97

وقد فسر أهل الأخبار كلمة "الفطيون" بـ"مالك"، وقالوا إنها تقابل "النجاشي" عند الحبشة، و"خاقان" عند الترك. وذكروا أسماء نفر ممن كانوا يلقبون بالفطيون1.

ويفهم من روايات الإخباريين أن يهود الحجاز كانوا قبائل وعشائر وبطونا، منهم: بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، وبنو عكرمة، وبنو محمر، وبنو زعورا، وبنو زيد، وبنو الشظية، وبنو جشم، وبنو بهدل، وبنو عوف، وبنو القصيص "العصيص"، وبنو ثعلبة2. غير أنهم لم يكونوا أعرابا، أي بدوا يتنقلون من مكان إلى مكان، بل كانوا حضرا استقروا في الأماكن التي نزلوا فيها، ومارسوا مهن أهل المدر، كل جماعة مستقلة تحمل اسما من تلك الأسماء التي ذكرها الإخباريون.

وقد عرف بنو قريظة وبنو النضير من بين اليهود بـ "الكاهنين"، نسبوا ذلك إلى جدهم الذي يقال له "الكاهن". و"الكاهن" هو الكاهن بن هارون بن عمران على زعم بعض أهل الأخبار3. فهم على هذه النسبة من أصل رفيع ومن نسب حسيب، يميزهم عن بقية طوائف يهود ولهذا كانوا يفتخرون بنسبهم هذا، ويرون لهم السيادة والشرف على من سواهم من إخوانهم في الدين.

ويرى "نولدكه" احتمال كون بني النضير وبني قريظة من طبقة الكهان في الأصل: هاجروا من فلسطين على أثر الحوادث التي وقعت فيها، فسكنوا في هذه الديار. وهناك جملة عشائر وأسر يهودية تفتخر بإلحاق نسبها بالكاهن هارون شقيق موسى النبي4.

كذلك يرجع "أوليري" كأمثاله من المستشرقين أصل بني قريظة وبني النضير إلى اليهود، ويرى أنهم غادروا ديارهم وجاءوا إلى هذه المنطقة في الفترة الواقعة ما بين خراب الهيكل في عام 70 للميلاد وتنكيل "هدريان" باليهود في عام 132 للميلاد5.

1 الاشتقاق "2/ 259".

2 الأغاني "19/ 95 وما بعدها"، سيرة ابن هشام "2/ 147 وما بعدها".

NoIdike BeItage

3 الأغاني "19/ 95"، تاج العروس "5/ 259""قرظ".

Margoliouth، p. 59، Graetz، History of the Jews، III، p. 56.

4 Noldeke، Bitrage، S. 55.

5 O'beary، p. 173.

ص: 98

ويرجع بعض بقية يهود جزيرة العرب نسبهم إلى الكاهنين وإلى الكاهنين وإلى الأسباط العشرة كذلك، فيدعون إنهم من تلك الأسباط المفقودة، وإنهم من نسل قدماء اليهود1.

وقد كانت منازل بني النضير حينما غزاهم الرسول في وادي بطحان وبموضع البويرة2. ووادي بطحان، هو أحد أودية يثرب الثلاثة، هي: العقيق وبطحان وقناة، وهو واد فيه مياه غزيرة وعيون، اتخذ به اليهود الحدائق والآطام. وقد كان غزاهم الرسول بعد ستة أشهر من غزوة أحد، فأحرق نخلهم وقطع زرعهم وشجرهم لتطاولهم على المسلمين. ومن ساداتهم: حي بن أخطب، وأخوه ياسر بن اخطب، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع، وهو أبو رافع الأعور، والربيع بن أبي الحقيق3. وعمرو بن جحاش.

ومن بني النضير، كعب بن الأشرف، وكان معاصرا للرسول، وكان صاحب لسان ونفوذ. أبوه من طئ على رواية، ومن بني النضير على رواية أخرى. أما أمه فهي من بني النضير بإجماع الرواة. توفي أبوه -على رأي من يقول إنه من طئ- وهو صغير، فحملته أمه إلى أخواله، فنشأ فيهم، وقال الشعر عندهم، وساد. ولما جاء الرسول إلى يثرب، كان كعب فيمن ناصب الرسول العداء فعلا وقولا، فهجا الرسول، وهجا أصحابه، وظل هذا شأنه بالرغم من محاولة المسلمين استصلاحه واسترضاءه، حتى جنى عليه لسانه، فأهدر النبي دمه، فذهب إليه نفر من المسلمين، فاقتحموا داره وقتلوه. وقد كانت له مناقضات مع حسان بن ثابت وغيره في الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج4.

1 Nallino، Raccolta، III، p. 99، Friedlander، The Jews of Arabia and the Rechabites، in Jews Quarteriy Review، 1910-1911.p. 254

2 بالضم ثم السكون، وقيل بفح أوله وكسر ثانيه وبفتح أوله وسكون ثانية، البلدان "2/ 216"، "1/ 512 وما بعدها"، "السعادة".

3 البلدان "2/ 310 وما بعدها"، البكري، معجم "1/ 285""طبعة مصطفى السقا""بويرة" شرح ديوان حسان، للبرقوقي "ص193 وما بعدها، الطبري "2/ 224"، "الاستقامة" فتوح البلدان، للبلاذري "1/ 32"، "1932م"،

"القاهرة".

4 الأغاني "19/ 106 وما بعدها"، المحبر "ص117،282،390"، ديوان حسان "ص46""طبعة هرشفلد، شرح ديوان حسان "ص272 وما بعدها" "للبرقوقي"، الكامل، لابن الأثير "2/ 99"، الطبري "2/ 177"، معجم الشعراء، للمرزباني "343"، ابن خلدون "2/ 757"، ابن هشام "2/ 548"، البداية والنهاية "4/ 74".

ص: 99

وكان قد ذهب إلى مكة، فحرض قريشًا على الرسول، ولما عاد إلى موضعه، ألب المشركين من أهل يثرب عليه. ومرثا قتلى القليب، فقتله المسلمون كما ذكرت1.

وكانت لبني قريظة حصون، يتحصنون بها وقت الخطر، ولهم آبار، ومنهم "محمد بن كعب القرظي"2. والزبير بن باطان بن وهب، وعزال بن شمويل، وكعب بن أسد، وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة.

وكان بنو قينقاع أول اليهود الذين ناصبوا الرسول العداء، وكانوا يسكنون في أحياء يثرب، وكانوا أغنياء على غير وفاق ووئام مع بقية أبناء قومهم قريظة وبني النضير. وقد اشتركوا في يوم بعاث: ووقعت بينهم وبين بني النضير وبني قريظة معارك فتك فيها ببني قينقاع، وأصيبوا بخسائر كبيرة اضطرتهم على ما يظهر إلى الالتجاء إلى يثرب والإقامة فيها في حي واحد من المدينة3.

ويرى "أوليري" احتمال كون بني قينقاع من أصل عربي متهود، أو من بني أدوم4.

وقد تكون بعض القبائل اليهودية التي ذكر أسماءها الإخباريون قبائل يهودية حقًّا، أي من الجماعات اليهودية التي هاجرت من فلسطين في أيام القيصر "طيطوس" Titus" أو "هدريان" Hadrian، أو قبل أيامهما، أو بعدها. ولكن بعضًا آخر منها، لم يكن من أصل يهودي، إنما كانت قبائل عربية دخلت في دين يهود، ولا سيما القبائل المسماة بأسماء عربية أصيلة. ولبعض هذه

1 التنبية "243"، والمصادر المذكورة، السيرة الحلبية "2/ 94 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 401 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 608"، ابن عساكر "1/ 40"، البداية والنهاية "4/ 74 وما بعدها".

2 تاج العروس "5/ 259"، "قرظ"، البداية والنهاية "4/ 116" الأغاني "19/ 94"، فتوح البلدان، للبلاذري "1/ 23، 35"، الطبري "2/ 245"، "الاستقامة"، السيرة الحلبية "2/ 145 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 777".

3 البداية والنهاية "4/ 3"، الطبري "2/ 172"، "الاستقامة" البدء والتأريخ "4/ 195"، البلدان "7/ 199"، ولفنسون "128 وما بعدها" السيرة الحلبية "2/ 2 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 608".

4 Obeary 173 f

ص: 100

101

الأسماء، صلة بالوثنية تشعر أنها كانت على الوثنية قبل دخولها في دين يهود1. والظاهر إنها تهودت إما بتأثير التبشير، وإما باختلاطها ودخولها في عشائر يهودية جاورتها فتأثرت بديانتها. وقد ذكر البكري إن "بني حشنة بن عكارمة"، وهم من بليّ قتلوا نفرًا من بني الربعة، ثم لحقوا بتيماء "فأبت يهود أن يدخلوهم حصنهم وهم على غير دينهم، فتهودوا، فأدخلوهم المدينة، فكانوا معهم زمانًا، ثم خرج نفر إلى المدينة، فأظهر الله الإسلام، وبقية من أولادهم بها"2. وهنالك بطون أخرى عربية الأصل كانت على دين يهود3.

وقد اشتهر يهود خيبر من بين سائر يهود الحجاز بشجاعتهم. وخيبر موضع غزير المياه كثيره، وقد عرف واشتهر بزراعته وبكثرة ما به من نخيل. وعند إجلاء اليهود عن خيبر، تفرقوا فذهب بعض منهم إلى العراق، وبعض آخر إلى الشام، وبعض منهم إلى مصر. وقد بقوا في كل هذه المواضع متعصبين لوطنهم القديم خيبر، ينادون بشعارهم الذي كانوا ينادون به قبل الإسلام، وهو:"يا آل خيبر"4.

وقد اشتهرت "خيبر" وعرفت بالحمى. حتى نسبت إليها، فقيل لها حمى" خيبرية". وكان من أساطيرهم إذ ذاك، أن من أراد دخولها فعليه بالتعشير ليتخلص منها. وكان من أوبداهم فيما يزعمون أن الرجل إذا ورد أرض وباء ووضع يده خلف أذنه، فنهق عشر نهقات نهيق الحمار، ثم دخلها أمن من الوباء5.

وزعم أن يهود خيبر هم من نسل "ركاب" المذكور في التوراة6، وأن "يونادب" Jonadab "جندب" ابنه: تبدى مع أبنائه ومن اتبعه، وعاش

1 Margoilouth، p. 60، Noldeke، Beitrage، S. 52، Wustenfeld، Geschichte von Medina، S. 28.

2 البكري "1/ 29""طبعة السقا"، IsIamic III VoI 2 p 177

3 NoIdk BeItrage S 55

4 المشرق: السنة السادسة والثلاثون، 1938 "ص152 وما بعدها.

5 قال عروة بن الورد:

وإني وإن عشرت من خشية الردى

نهاق حمار إنني لجزوع

6 الملوك الثاني: الاصحاح العاشر، الآية 15-28 Hastings 784

ص: 101

عيشة تقشف وزهد وخشونة، وأن نسلهم هاجر بعد خراب الهيكل الاول إلى الحجاز حتى بلغوا خيبر، فاستقروا بها، واشتغلوا بزراعة النخيل والحبوب، وأنهم أقاموا فيها قلاعا وحصونا تحميهم من غارات الأعراب عليهم. ذكر بعض الإخباريين أنها ولاية من سبعة حصون، منها: حصن ناعم، والقموص حصن ابن أبي الحقيق وهو أقواها وأعزها وقد أقيم على مرتفع من الأرض حماه وعزز دفاعه، وحصن الشق، وحصن النطاة، وحصن السلالم، وحصن وجده، وحصن الوطيح، وحصن الكتيبة "الكثيبة". وقد أخرجوا منها وأجلوا عنها زمان عمر الخطاب1.

وقد زعم بعض الإخباريين إن خيبر لفظة عبرانية، وأن معناها الحصن في عربيتنا2. وزعم بعض آخر إنها نسبة إلى رجل اسمه "خيبر بن فاتية بن مهلاييل"، سميت خيبر باسمه، لأنه كان أول من نزلها3. وذهب "وايل" WeiI، إلى أن اللفظة لفظة عبرانية، وهي بمعنى مجموعة مستوطنات4، أما "دوزي"، فقد أخذ بالرواية العربية، فزعم أن "خيبر"، كناية عن جماعة من اليهود هاجرت في أيام السبي من فلسطين إلى هذا الموضع، وهي من نسل "شفطيا بن مهللئيل" من "بني فارص"5. وأن "فاتيه"، هو تحريف "شفطيا" Shaftja المذكور في سفر "نحميا" من أسفار التوراة، وهو ابن "مهللئيل"، الذي هو "مهلاييل" عند أهل الأخبار. وزعم أن زمان هجرة هذه الجماعة يتناسب تمامًا مع الرواية القائلة أن هجرة اليهود إلى جزيرة العرب كانت في أيام "بخت نصر"6.

وذهب المستشرقون أن كلمة "خيبر"، كلمة عبرانية الأصل "خيبر" Kheber"

1 البلدان "3/ 495 وما بعدها"، البكري، معجم "1/ 521" تاج العروس "3/ 168"، "خبر"، اد المعاد "2/ 133"، تاريخ الإسلام "1/ 294 وما بعدها".

Graetz، III، p. 56، Ency، II، p. 869، Caetani، Annali، II، I، 8-33.

2 أبو الفداء، "ص89"، البلدان "3/ 495"، البكري، معجم "2/ 521 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 168"، "خبر"

3 R Dozy Mekka S 136

4 Mohammed der Propht S 185

5 نحميا، الاصحاح الحادي عشر، الآية 4 وما بعدها.

6 R Dozy Mekka S136 f

ص: 102

ومعناها الطائفة والجماعة1. وذهب بعضهم إلى أن معناها الحصن والمعسكر2. وهي من أقدم المواضع التي لجأ إليها اليهود في الحجاز.

ومن الصعب تعيين الزمن الذي هاجر فيه اليهود إلى هذا الموضع. لقد رجع بعضهم ذلك إلى أيام هجوم الرومان على فلسطين. غير أن من الجائز أن تكون هجرتهم إليها قد وقعت قبل ذلك، من الجائز أن تكون في أثناء السبي واستيلاء البابليين على القدس، وقد يجوز أن يكون قوم منهم قد جاءوا مع "نبونيد" ملك بابل إلى تيماء حين اتخذ "تيماء" عاصمة له. فهاجر قسم منهم إلى خيبر وإلى نواح أخرى من الحجاز3.

وأقدم إشارة كتابية ورد فيها اسم خيبر، نص: حران اللجاة، ويرجع تأريخه إلى سنة مئة وستين من الأندقطية الأولى، وتقابل سنة 568 للميلاد، وقد ورد فيه: بعد مفسد خيبر بعم"4. أي بعد خرب خيبر بعام. وهو يشير إلى غزو لهذا الموضع أنزل به خسائر كبيرية، ولأهميته وفداحته في نفوس أهله أرخوا بوقوعه. ويعود النص المذكور المدون باليونانية والعربية إلى "شرحيل بن ظلمو" "شراحيل بن ظالم"، وقد دونه لمناسبة بنائه "مرطولا"، فأرخ بتاريخ خيبر المذكور. وهو يشير إلى غزوة قام بها أحد أمراء غسان على خيبر5.

وقد وجدت كتابات بحروف المسند وكتابات نبطية في خيبر، هي أقدم عهدا من نص "حران اللجاة"، يفهم منها بوجود سكن في هذه الأرضين يعود بعضه إلى ما قبل الميلاد، ولم تكشف تربة خيبر حتى الآن، وكل ما عثر من عاديات فيها هو من النوع الذي وجد ظاهرا على سطح الأرض، وليس بمستبعد أن يعثر على كتابات قد تكشف عن تأريخ هذه البقية.

ولما بلغ أهل تيماء ما حدث لإخوانهم في خيبر ووادي القرى، وفدك، قبلوا

1 Charles Cutler Torrey، The Jewish Foundations of Islam، New York، 1933، p. 13.

2 Ency II p 879

3 Torret P 17 MuIIer Der IsIam IS 36 ff

4 جواد علي العرب قبل الإسلام "1/ 195 وما بعدها".

5 المصدر المتقدم، المعارف "313"، ولفنسون، السامية "192".

ص: 103

الجزية، وصالحوا الرسول في سنة تسع للهجرة، فضمن بذلك لهم حرية بقائهم في دينهم، وعلى تيماء كان يشرف حصن السموأل "الأبلق الفرد". وقد نعتت تيماء في بعض الأشعار بتيماء اليهود1.

وتيماء من المواضع القديمة. وقد مر الحديث عنها في أماكن من هذا الكتاب. وقد سبق أن قلت بأن الملك "نبونيد" قد أقام فيها، حيث اتخذها عاصمة له، وهي في موقع حسن، وملتقى طرق هامة يسلكها التجار، وقد استبد بها اليهود فأقاموا بها وجعلوها من أهم مستوطناتهم في الحجاز. استغلوا أرضها فزرعوها، واستنبطوا الماء من الآبار بالإضافة إلى واحتها ذات المياه العذبة الغزيرة التي كان لها الفضل في تكوين هذا الموضع وإعماره. وقد ذكرت في شعر "امرئ القيس"، وفيها كان حصن السموأل بن عادياء المذكور في قصص امرئ القيس الشاعر.

ويرى بعض المستشرقين أن "شمعون التيماني" Simeon of TemanIte المذكور في التلمود والمدراش، هو من أهل "تيماء"2. ولا يستبعد أن يكون من بين أهل هذه المدينة من حصل على شهرة في العلم بفقه اليهود وبأحوال دينهم. فإن مركزها وموقعها يجعل من السهل على سكانها الوصول إلى فلسطين وبقية بلاد الشام وأخذ العلم من علماء تلك البلاد.

وقد عثر الرحالة "أويتنك" Euting" على كتابة مدونة بقلم بني إرم تعود إلى عهد كان الفرس قد استولوا فيه على هذا المكان، تتحدث عن أهمية تيماء ورقيها في هذا العهد3. ولا يستبعد العثور على كتابات عديدة إذا ما قام العلماء بالتنقيب عنها في باطن الأرض، فإن موضعا مثل هذا الموضع لا بد أن يكون غنيا بالكتابات والآثار. وقد وجد "أويتنك" آثار معبد قديم، وآثار مواضع عتيقة أخرى ترجع إلى ما قبل الإسلام4. ووجد "جوسن" Jaussen" و"سافينه" Savignac آثار مقابر على تلال من النوع الذي يطلق عليه الآثاريون اسم

1 البلدان "2/ 442""تيماء"، فتوح البلدان "1/ 29".

2 Mishna Yadayim، I، 3، Yebamoth، 4، 13، Tosephta Berachoth، 4، 24، Sanhedr، 12، 3، Besa، 2، 19، Bab. Talmud، Zebachim، 32 b. Baba Gamma، 90، b. Besa، 21a Tarrey، pp. 26 Margoliouth، p. 68.

3 Ency، IV. P. 622.

4 Euting، Tagebuch Einer Reise in innerarabien، II، 148. 199.

ص: 104

"تمولي" TumuIi ومرقاة مدرجة تؤدي إلى بناء مربع لعله معبد من معابد القوم بني على هذا التل1.

ولا توجد اليوم بقية للأبلق الفرد، الذي افتخر السموأل وآل السموأل به، وكذلك يهود تيماء. وليس بمستبعد أن يكون ذلك الحصن من بقايا قصر "نبونيد" أو من بقايا قصور رجاله، أو من بقايا أبنية غيره ممن نزل هذا المكان. وقد يكون بناء أقامه السموأل وبناه بحجر تلك الأبنية القديمة. وقد أكسب قصر السموأل هذا الموضع شهرة، وأكسبه خبر وفاء السموأل شهرة كذلك على النحو المذكور في كتب الأدب والأخبار2.

وفدك موضع آخر من المواضع الذي غلب عليه اليهود. وسكانه مثل أغلب يهود الحجاز مزارعون عاشوا على الزراعة كما اشتغلوا بالتجارة وببعض الحرف التي تخصص فيها اليهود مثل الصياغة والحدادة والنجارة3. والموضع من المواضع القديمة التي يعود عهدها إلى ما قبل الإسلام، وقد ذكره الملك "نبونيذ" في جملة المواضع التي زارها والتي خضعت لحكمه في الحجاز. وكان رئيس فدك عند ظهور الإسلام وهجرة الرسول إلى يثرب يوشع بن نون4.

ووادي القرى، هو من من المواضع التي غصت باليهود، فكان أكثر أهله منهم. وقد كان يهوده من المزارعين5، وقد حفروا به الآبار، وتحالفوا مع الأعراب، وعاشوا معهم متحالفين. يعملون بالزرع. وقد غزاهم الرسول مرجعه من خيبر سنة سبع للهجرة، على أثر إصابة "مدعم الأسود" مولى الرسول بسهم غارب قتله. وهو مولى مولد من "حسمي"، كان أهداه "رفاعة بن زيد الجذامي" أو "فروة بن عمرو الجذامي" إلى الرسول6.

1 Jaussen and Savignac، Mission Archeologique، II، pp. 133، 163.

2 أبو الفداء، تقويم البلدان "86"، البكري، معجم "1/ 329"، البلدان "2/ 67"، اللسان "12/ 76""صادر"، ابن حوقل، صورة الأرض "30"، ابن خلدون "2/ 574"، دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية""6/ 130".

3 البكري، معجم "1/ 327"، تقويم البلدان "78".

4 الطبري "3/ 98" حوادث السنة السابعة" ابن الأثير "2/ 93"، "ذكر فدك"، البلاذري، فتوح "36 وما بعدها"، NaIIino RaccoIta I 198 III 97

5 زاد المعاد "2/ 146".

6 الطبري "3/ 16"، "ذكر غزوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وادي القرى" الإصابة "3/ 374"، "رقم 7858".

ص: 105

وكان من بين أهل مقنا وأيلة في أيام الرسول قوم من اليهود كذلك، وكذلك أهل بقية القرى الواقعة في أعالي الحجاز وعلى ساحل البحر، وقد صالحوا الرسول على الجزية، وبذلك ضمنوا لهم البقاء في هذا الأنحاء1. ومن هؤلاء اليهود "بنو جنبة"، وهم يهود بـ"مقنا"2، و"بنو غاديا"3، و"بنو عريض"4.

وكان بالطائف قوم من اليهود طردوا من اليمن ويثرب، فجاءوا إليها، ولم تكن قد أسلمت بعد، فأقاموا بها للتجارة. فلما صالح أهل الطائف الرسول -على أن يسلموا ويقرهم على ما في أيديهم من أموالهم وركازهم، واشترط عليهم ألا يربوا ولا يشربوا الخمر وكانوا أصحاب ربا- وضعت الجزية على يهودها، وبقوا فيها، ومن بعضهم ابتاع معاوية أمواله بالطائف5.

ويظهر إنه لم تكن لليهود جاليات كبيرة في جنوب المدينة حتى اليمن، لعدم إشارة أهل الأخبار إليهم، وإن كنت لا أستبعد وجود أفراد وأسر منهم في مكة وفي عدن وفي المدن التي اشتهرت بالتجارة كبعض موانئ البحر الأحمر وموانئ سواحل العربية الجنوبية. غير أن وجودهم في هذه المواضع، لم يكن له أثر واضح مهم، فلم يتجاوز محيط التجارة والاتجار.

وقد ذهب بعض المستشرقين، استنادًا إلى دراسة أسماء يهود الحجاز عند ظهور الإسلام، إلى أن أولئك اليهود لم يكونوا يهودا حقًّا، بل كانوا عربا متهودين، تهودوا بتأثير الدعاة اليهود6. ولكن الاستدلال من دراسة الأسماء على أصول الناس، لا يمكن أن يكون حجة للحكم على أصولهم وأجناسهم. فالفرس والروم والهنود وغيرهم ممن دخل في الإسلام، تسموا بأسماء عربية، وبعضها أسماء عربية خالصة. وتسمياتهم هذه لا تعني أن من تسمى بها كان عربي الأصل. ثم إن كثيرًا من اليهود في الغرب وفي أمريكا وفي البلاد العربية والإسلامية، سموا أنفسهم بأسماء غير عبرانية، ولكنهم كانوا وما زالوا على دين يهود،

1 البلدان "8/ 128""مقنا"، البلاذري، فتوح "66"، زاد المعاد "2/ 117"، الطبري "2/ 232 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 276".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 279".

4 ابن سعد "طبقات""1/ 279".

5 البلاذري، فتوح "63".

6 W CaskeI Das attarabIsche koningreich Lihyan S 19

ص: 106

فالأسماء وحدها لا تكفي في إعطاء رأي علمي في تعيين الأصول والأجناس، ولا سيما في المواضع الكائنة على طرق التجارة والمواصلات وفي الأماكن التي يكثر فيها الاختلاط.

وللمستشرق "ونكلر" رأي في هذا الموضوع، خلاصته: أن أولئك اليهود لو كانوا يهودا حقًّا هاجروا من فلسطين إلى هذه المواضع، لكانت حالتهم وأوضاعهم ومستواهم الاجتماعي على خلاف ما كان عليه هؤلاء اليهود. كانت حالتهم أرقى وأرفع من الحالة التي كانوا عليها، إذ لا يعقل، على رأيه، وصول جماعة إلى ذلك المستوى الاجتماعي الذي كان عليه يهود جزيرة العرب لو كانوا من بلاد مستواها الثقافي والمدني أرقى من مستوى من هو دونهم كثيرًا في شؤون الحياة. ومستوى الحياة في جميع نواحيها، فلسطين، أرقى وأرفع من مستواها في الأماكن التي وجد فيها اليهود من بلاد العرب. فهم على رأيه عرب متهودون، لا يهود مهاجرون1.

غير أن هنالك من يؤاخذ ونكلر على هذا الرأي، لأن رأيه لا يمكن أن ينطبق على من ترك دياره وهاجر، واستقر في موطن جديد لأمد طويل، لأن الأوضاع المحيطة بالوطن الجديد سرعان ما تؤثر في المهاجرين، ولا سيما إذا كانوا جماعات صغيرة أو جماعات ليست ذات بأس شديد، فتجعلها تنصاع للمحيط الذي نزلت به بعض الإنصياع، فتفقد بعض خصائصها، لتكتسب خصائص المجتمع الجديد. ثم إن اليهود الذين نزلوا في الحجاز، كانوا يختلفون مع ذلك عمن كان في جوارهم أو بينهم، إذ كانوا يشتغلون بالزراعة ويمتهنون بعض المهن التي يأنفها العربي الأصيل، كما أنهم يشتغلون بالزراعة ويمتهنون بعض المهن التي يأنفها العربي الأصيل، كما أنهم كانوا لا يرغبون في القتال، ولا يميلون إلى الغزو والحروب، ولم يشتركوا إلا اضطرارا وإلا بإلحاح المصالح الضرورية فيها، وهم يختلفون في هذه الناحية من الأعراب2.

ويلاحظ أن يهود الجاهلية لم يحافظوا على يهوديتهم وعلى خصائصهم التي يمتازون بها ويحافظون عليها محافظة شديدة، كما حافظوا عليها في الأقطار الأخرى. فأكثر أسماء القبائل والبطون والأشخاص، هي أسماء عربية، والشعر المنسوب إلى شعراء منهم، تحمل الطابع العربي، والفكر العربي، وفي حياتهم الاجتماعية والسياسية

1 winkIer Mett Var Asai Ges VI S 222

2 MargoIiouth P62

ص: 107

لم يكونوا يختلفون كبيرا عن العرب، فهم في أكثر أمورهم كالعرب فيما سوى الدين1. ولعل هذا بسبب تأثير العرب المتهودة عليهم، وكثرتهم بالنسبة إلى من كان من أصل يهودي، مما سبب تأثيرهم، وهم ذوو أكثرية، في اليهود الأصيلين الذين أثروا فيهم فأدخلوهم في دينهم، فأثروا هم فيهم، وطبعوهم بطابع عربي.

وقد عاش اليهود في جزيرة العرب معيشة أهلها، فلبسوا لبساهم، وتصاهروا معهم، فتزوج اليهود عربيات، وتزوج العرب يهوديات، ولعل كون بعض يهود من أصل عربي، هو الذي ساعد على تحطيم القيود التي تحول بين زواج اليهود بالعربيات وبالعكس. والفرق الوحيد الذي كان بين العرب واليهود عند ظهور الإسلام هو الاختلاف في الدين. وقد تمتع اليهود بحرية واسعة لم يحصلوا عليها في أي بلد آخر من البلاد التي كانوا بها في ذلك العهد2.

ومن الأسماء قد تكون من أصل عبراني "زعورا"، وهم اسم عبراني متأثر بلهجة بني إرم، "يساف"، وقد يكون من "يوسف"، و"نبتل" وقد يكون من "نفتالي" NaftaeIi، وأسماء أخرى لم تتمكن من المحافظة على أصلها العبراني، فتأثرت بخواص اللسان العربي. وليس بين أسماء البطون اليهودية الأحد عشر، التي كانت في الحجاز في أيام ظهور الإسلام، اسم تظهر عليه الملامح العبرانية غير الاسم الذي ذكرته وهو "زعوراء"3.

وكانت يثرب عند هجرة الرسول إليها، في أيدي أصحابها الأوس والخزرج، لهم السيطرة والسلطان، ولليهود آطامهم وقلاعهم في خيبر وفي تيماء وفي بعض قرى وادي القرى وفي أعالي الحجاز، يتاجرون، ويزرعون، ويقرضون الأموال بالربا الفاحش للأعراب، ويحترفون بعض الحرف مثل الصياغة، وهي حرفة اشتهروا بها منذ القديم، ويعقدون الأسواق ليقصدها الأعراب للامتياز.

ولكن اليهود مع ما كان لهم من قلاع وآطام وقرى عاشوا فيها متكتلين مستقلين لم يتمكنوا من بسط نفوذهم وسلطانهم على الأرضين التي أنشئوا مستوطناتهم

1 NoIdeke Beirage S55 f

2 Graetz III p58 f 60

3 Margoliouth، P. 60، Nallino، Raccolta، III، P. 104، H. Hirschfeld، Essal Sur I'histoire des Juifs de Medine، in Revue des Etudes Juifs، X، 1885. P. 11. f.

ص: 108

فيها، ولم يتمكنوا من إنشاء ممالك وحكومات يحكمها حكام يهود، بل كانوا مستقلين في حماية سادات القبائل، يؤدون لهم إتاوة في كل عام مقابل حمايتهم لهم ودفاعهم عنهم ومنع الأعراب من التعدي عليهم. وقد لجئوا إلى عقد المحالفات معهم، فكان لك زعيم يهودي حليف من الأعراب ومن رؤساء العرب المتحضرين.

وقد كان اليهود يخضعون في نظامهم السياسي والاجتماعي لرؤسائهم وساداتهم، يدفعون لهم ما هو مفروض عليهم أداؤه في كل سنة، وهؤلاء السادة هم أصحاب الآطام والحصون والأرض. ولمن يشتغل في الأرض تسديد ما عليه لصاحبها في مقابل استغلاله لها. وقد اعتنوا عناية خاصة بزراعة النخيل. وعرفت القطعة من الأرض المزروعة نخلا عندهم بالصورين" "الصور"1، ولما كانت الأرضون المزروعة واسعة، كانت خارج الآطام والحصون، يحميها حراسها والمشتغلون بها أيام ثمرتها. وأما في أيام الغزو والحروب، فقد كانت معرضة لهجوم المهاجمين. وهذا ما كان يعرض أعظم غلة لليهود للخطر، ولهذا شق عليهم كثيرًا، وانهارت مقاومتهم حين أمر الرسول بقطع النخل وتحريقه، وأخذوا يلتمسون منه وقف ذلك.

ويتولى الأحبار الأمور الدينية وتنفيذ الأحكام والنظر فيما يحدث بين الناس من خصومات. يقيمون لهم الصلوات وبقية شعائر دينهم، ويعلمونهم في بيوت المدارس.

وقد أدى التنافس بين سادات يهود إلى نشوب معارك بينهم في الجاهلية. وقد أشار إليها القرآن الكريم وأنبهم على ذلك. واضطرت بنو قينقاع بسبب ذلك وبضغط بني النضير وبني قريظة إلى الالتجاء إلى أحياء يثرب وإلى محالفة الخزرج، وفي مقابل ذلك تحالفت بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس، فصاروا فرقتين: فرقة مع الخزرج، وفرقة مع الأوس.

وفي تأنيب يهود، لتخاصمهم وتنابذهم وإخراجهم بعضهم بعضًا من ديارهم وأسر بعضهم بعضًا وافتداء الأسرى كالذي وقع بين بني قينقاع وبني النضير، نزل الوحي: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ

1 الروض الأنف "2/ 194"، ابن هشام "2/ 195"، "حاشية على الروض"، "الصورة: أصل النخل"، "الصورة: النخلة"، تاج العروس "3/ 343"، "صور".

ص: 109

مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1 أَنَّبَهُم لأنهم فعلوا فعل المشركين والأعراب، مع أنهم أهل دين واحد وكتاب. أما المشركون فلا لوم عليهم، لأنهم لم يكونوا على دين، وليس لهم كتاب يأمرهم وينهاهم.

وفي المعارك والخصومات التي تقع بين يهود، كانوا يؤدون الدية. وهي على ما يظهر من روايات أهل الأخبار مختلفة، وغير متكافئة. فكان بنو النضير يؤدون الدية كاملة لشرفهم في يهود، أما بنو قريظة، فكانوا يؤدون نصف الدية. وفي خلاف في أداء الدية وقع بينهم، التجئوا إلى الرسول للحكم بينهم، فذكروا له هذا الاختلاف، فحكم بالدية متساوية. وفي هذا الحكم نزلت الآية:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2. ذكر علماء التفسير عن "ابن عباس" أنه قال: "كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي، صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} النفس بالنفس ونزلت أفحكم الجاهلية يبغون"3.

وذكر علماء التفسير في تفسيرهم للآيات المتقدمة، أن أحبار اليهود لم يكونوا يحكمون بالحق فيما بين الناس، كانوا يحابون ويتحزبون ويحكمون بالباطل ويأكلون "السحت" أي الرشا، جزاء حكمهم بالباطل. وكانوا يتساهلون في تطبيق أحكام

1 البقرة: الآية 84 وما بعدها، روح المعاني "1/ 309"، ابن هشام "2/ 23""حاشية على الروض".

2 المائدة، الآية 42.

3 تفسير القرطبي، الجامع "6/ 187"، تفسير الطبري "6/ 157".

ص: 110

الشريعة مع الشريف لشرفه، ويتشددون مع الدنيء لدناءته وفقر حاله، ولا يراعون التساوي في أخذ النيات. "كان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي وحموا وجه الشريف وحملوه على البعير، أو جعلوا وجهه من قبل ذنب البعير. وإذا زنى الدنيء بالشريفة، رجموه".

وكان هذا شأنهم "إلى أن زنى شاب منهم ذو شرف، فقال بعضهم لبعض لا يدعكم قومه ترجمونه، ولكن اجلدوه ومثلوا به، فجلدوه وحملوه على حمار أكاف وجعلوا وجهه مستقبل ذنب الحمار. إلى أن زنى آخر وضيع ليس له شرف، فقالوا ارجموه. ثم قالوا فكيف لم

ترجموا الذي قبله، ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا"، واختلفوا فذهب فريق منهم إلى الرسول، فحكم بينهم بما جاء بحكم التوراة1.

وذكر أن "حيي بن أخطب" كان قد حكم أن للنضري ديتان وللقرظي دية، لأنه كان من النضير2.

وذكر أهل الأخبار إنه كان لليهود حكام يحكمون بينهم، ويقيمون حدودهم عليهم. فلما جاء الرسول إلى يثرب، صار اليهود يعترضون على عدالة حكم بعضهم، ولا يرضون بتنفيذ أحكامهم عليهم. فكان الحكام أو هم يذهبون إلى الرسول لكي يحكم بينهم

فيما هم فيه مختلفون وفق شريعتهم3.

وكان جل اعتماد اليهود في هذه المنطقة عند ظهور الإسلام على التجارة، ومعاطاة الربا والزرع، وبعض الصناعة: كالصياغة، وتربية الماشية والدجاج، وصيد الأسماك في أعالي الحجاز على ساحل البحر الأحمر. واشتهروا بالاتجار بالبلح وبالبر والشعير والخمر، وكانوا يجلبون الخمر من بلاد الشام. وكانوا يبيعون بالرهن، يرهن المشترون بعض أمتعتهم عندهم ليستدينوا منهم ما يحتاجون إليه. وقد ورد أن الرسول رهن درعًا له عند يهودي من أهل يثرب في مقابل شعير كان به حاجة شديدة إليه4.

ومن الصناعات التي اشتغل بها اليهود، النسيج وهو من اختصاص نسائهم على

1 تفسير الطبري "6/ 157".

2 تفسير الطبري "6/ 157".

3 تفسير القرطبي، الجامع "6/ 187".

4 البخاري "2/ 16، 45"، فتوح البلدان "60"، ولفنسون "ص18".

IsIamic CuIture 1929 III No 2 p 187

ص: 111

الأكثر، والصياغة وقد اختص بها بنو قينقاع، والحدادة، وهي صناعة يأنف منها العرب ويزدرونها ويرونها من الحرف الممقوتة الحقيرة.

ولم يكن من مصلحة اليهود، وهم أهل زرع وضرع ومال وتجارة وأرض ثابتة وقصور وآطام، أن يشتركوا في الحروب أو يشجعوا وقوعها في ديارهم وفي جوارهم، بل كان من مصلحتهم أن يعم الاستقرار البلاد التي يقيمون فيها، ليعيشوا عيشة هنيئة، وليبيعوا ما عندهم من الأعراب وليشتروا منهم ما عندهم من سلع وليقبضوا أموالهم منهم والأرباح التي استحقت على تلك الأموال.

وفي النزاع الذي يقع بين القبائل، لم يكن من مصلحتهم تأييد حزب على حزب، خوفًا من الوقوع في أخطاء تجر عليهم أخطارا ومهالك هم في غنى عنها وفي مأمن من شرها. ثم إنهم بتحزبهم لطرف يغضبون الطرف الآخر، فيضمر عندئذ شرًّا لهم، فيخسرون بذلك مشتريًا وبائعًا. وهم أناس أصحاب سوق وتجارة. غير أن الظروف كانت تكرههم في بعض الأحيان على الاشتراك في الحرب، وعلى إثارة الحرب أيضًا متى وجدوا في إثارتها فائدة لهم ومصلحة ترتجى كأن ينهكوا العدو بحرب مع عدو آخر بإيقاع الفتنة وإشعال النيران، كما أوقعوا بين الأوس والخزرج، لإضعاف الطرفين معًا، حتى لا تبقى لهم قوة تهددهم وتكون خطرًا عليهم.

وفي يوم بعاث استعان الأوس ببني قريظة والنضير، فبلغ ذلك الخزرج فأرسلوا إليهم يحذرونهم من سوء عاقبة الاشتراك في هذا النزاع، فتوقفوا، غير أنهم عادوا فعاونوا الأوس، وانضم إليهم بنو النبيت، فلما كسب الأوس الحرب، كسب بنو قريظة والنضير والنبيت غنائم من الخزرج، وخرجوا في هذا اليوم منتصرين بانتصار الأوس1.

ويذكر أهل السير والأخبار: أن يهود يثرب كانوا إذا تضايقوا من الأوس والخزرج هددوهم بقرب ظهور نبي يستعلون به عليهم. ففي رواية عن بعض الصحابة إنهم قالوا: "كنا قد علوناهم في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون لنا: إن نبيا يبعث الآن نتبعه، قد أطل زمانه،

1 ابن هشام "3/ 94"، اليهود "ص62 وما بعدها".

ص: 112

نقتلكم معه قتل عاد وإرم"1. ولما ذكرهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور ونفر آخرون بدعواهم تلك، وبظهور النبي العربي بقولهم لهم: "يا معشر يهود، اتقوا الله، واسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل شرك، وتخبروننا إنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته"، فكان جواب يهود لهم ما جاء على لسان سلام بن مسكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم، وقد أشير إلى ذلك في القرآن الكريم {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 2.

واستفتاح اليهود على المشركين، هو للتفريج عن أنفسهم ولتخويف الأوس والخزرج ولاعتقادهم حقًّا بظهور مسيح منهم، أي من بني إسرائيل. ولهذا أنكروا نبوة الرسول، وأبوا التسليم بها، لأنه لم يكن منهم، ولأن النبوة لا تكون -على رأيهم- إلا في بني إسرائيل. فكيف يصدقون بنبي عربي من الأميين "نبي أموت ها عولام "Nebie Ummot ha Oiam.

1 ابن هشام "2/ 166"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، تفسير الطبري "1/ 324".

2 البقرة، الآية 89، تفسير الطبري "1/ 324"، روح المعاني "1/ 289".

ص: 113

‌يهود اليمن:

والموضع الثاني الذي عششت فيه اليهودية وباضت، هو اليمن. ففي هذه الأرض من جزيرة العرب ظهر التهود فيها ظهورا واضحا، وصارت اليهودية ديانة البلاد الرسمية. أما كيفية مجيئها وانتشارها هناك، ومتى كان ذلك، فليس لدينا علم واضح دقيق عن ذلك. ويزعم أهل الأخبار أن تبعا، وهو التبع "تبان أسعد أبو كرب"، اهتدى إلى هذه الديانة عند اجتيازه بيثرب وهو عائد إلى اليمن من حرب قام بها في الشمال وفي إيران، وذلك بتأثير بعض الأحبار عليه، ومنذ ذلك الحين صارت هذه الديانة ديانة رسمية للبلاد1.

وتجعل بعض روايات الإخباريين اسم هذا التبع "تبع بن حسان" أو "حسان"،

1 الطبري "2/ 105 وما بعدها"، "طبعة دار المعارف بمصر".

ص: 113

وهو "تبع الأصغر"، أو "أبو كرب بن حسان بن أسعد الحميري" أو غير ذلك. وتزعم أن حبرين من أحبار اليهود من بني قريظة عالمين راسخين في العلم، هما اللذان هديا التبع إلى اليهودية، وأبعداه عن عبادة الأوثان1.

وقد يكون لهذه الروايات شيء من الصحة، غير إني أرى أن دخول اليهودية إلى اليمن مرده أيضًا إلى اتصال اليمن من عهد قديم بطرق القوافل التجارية البحرية والبرية ببلاد الشأم. وفي قصة سليمان وملكة سبأ إشارة إلى تلك الصلات، وإلى هجرة جماعات من اليهود إلى هذا القطر عن طريق الحجاز، بعوامل متعددة، منها: التجارة والهجرة إلى هذا القطر عن طريق الحجاز بعوامل متعددة، منها: التجارة والهجرة إلى الخارج، وهروبهم من اضطهاد الرومان لهم، وعوامل أخرى جعلتهم يتجهون من الحجاز إلى اليمن، فأقاموا هناك.

وأما يهود اليمن المحدثون فإن أخبارهم ورجال العلم والفهم منهم يرجعون وجودهم في اليمن إلى أيام السبي، أي إلى أيام "بخت نصر"، وهم يزعمون أنهم بقوا في اليمن منذ ذلك اللحين ولم يعودوا إلى فلسطين2. وقد غادروا اليمن بعد التقسيم.

وقد أشار حبر يسمى "ربي عاقبة""رباي عقيبة" Rabbi Aqiba، في حوالي سنة "130م"، إلى زيارته لملك عربي كوشي "مليخ عرابيم" كانت زوجته كوشية كذلك، وإلى تحدثه معه. ويراد بـ"كوشي" الأحباش غير أن بعضهم كان يقصد بها العربية الجنوبية كذلك. ولا يستبعد أن يكون مراد الحبر بذلك اليمن، أو منطقة أخرى من العربية الجنوبية كان الحبش قد استولوا عليها3. وربما قصد منطقة ساحلية كان يحكمها ملك عربي في ذلك الوقت.

وتدل رحلة "ربي عقيبة" Raqiba هذه إلى اليمن على وجود يهو فيها، إذ لا يعقل سفره هذا إلى تلك البقعة النائية وتجشمه مشقته، لو لم تكن هناك

1 الأغاني "1/ 109 وما بعدها"، "13/ 120 وما بعدها".

Caussin de Perceval، Essai، I، 91، Nallino، Raccolta، III، p. 88.

2 Travels and adventure of the Rev. Poseph Walf. London، 1861، p. 509، R. dozy، Die Israeliten zu mekka von David Zeit Bis In's Funfte Jakrhundert unsrer Zeirechung، 1864، s. 135.

3 Islamic Culrure، III، 2، p. 190 1929، Josephus، Antiqultate، XV، 3، 29، Die Araber، III، s. 22. Talmud Babli، in Rosh Hashnah، 26a، Kraus، in ZDMG، S. 331، 1916.

ص: 114

جالية يهودية فيها. وقد يجوز أن تكون سفرته إلى اليمن مجرد سفرة استطراق وعبور، لغاية الذهاب من اليمن إلى الحبشة، ولكني لا أستبعد مع ذلك وجود اليهود في اليمن في هذا العهد، إذ كان "أوليوس غالوس" قد جاء بجمع منهم معه في حملته على اليمن، فيجوز أن يكون بعضهم قد فضل البقاء في اليمن والسكن فيها لطيبها ولخصب أرضها وتعبهم من السفر، ففضلوا لذلك البقاء على الرجوع وتحمل المشقات والجوع والعطش والهلاك. وقد هلك بالفعل القسم الأكبر من رجال الحملة بسبب صعوبة الطريق والحر الشديد والجوع والعطش1.

وقد عثر على كتابة من كتابات في "بيت شعا ريم" Beth She arim في جنوب شرقي حيفا، ورد فيها:"منحم قولن حميرن" Mnhm Kwin hmyrn أي "مناحيم قيل حمير". والموضع الذي وجدت هذه الكتابة فيه، هو مقبرة من مقابر كبار الأحبار، وقد وجدت معها كتابات أخرى، تشير إلى أسماء أحبار معروفين قبروا فيها. لذلك فإن "مناحيم""قيل حمير" هو يهودي، قد كان جاء إلى فلسطين للزيارة أو للاتصال بعلماء اليهود الذين كانوا قد تجمعوا في "بيت شيعا ريم"، فمرض ومات هناك. ودفن في مقبرة هذا الموضع. ويرجع الباحثون تأريخ الكتابة المذكورة إلى حوالي سنة "200م"2.

واستدل بعض المستشرقين بنص دونه "شرحبيل يعفر بن أبي كرب أسعد" على سد مأرب، وردت فيه جملة "بعل سمن وارضن"، أي" رب السماء والأرض"، على تهوده بحجة أن هذه العبارة تشير إلى التوحيد الخالص، والتوحيد الخالص هو عقيدة يهود3.

وقد ذكر المؤرخ النصراني "فيلوستورجيوس" PhiIostorgius في حوالي سنة 425م، أن أهل سبأ كانوا يتبعون في "السبت" سنة "إبراهيم"، ولكنه ذكر أيضًا أنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر ومعبودات أخرى، وأن بعضًا منهم كان على دين يهود، وإنه قاوم رسالة "ثيوفيلس" TheophiIus في حوالي سنة 425/، أن أهل سبأ كانوا يتبعون في "السبت" سنة "إبراهيم"، ولكنه ذكر أيضًا أنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر ومعبودات أخرى، وأن بعضًا منهم كان على دين يهود، وإنه قاوم رسالة "ثيوفيلس" TheophiIus الذي أرسله القيصر

1 Uliendorff، in Journ of Sem. Stud، Vol، I، Num. 3، July 1956، p. 221

2 S. D. Goitein، Jew and Arabes، New York، 1955، p. 47، Die Araber، III، S. 16 ff، Corp. Inscript، Iudaic، 2، 1952، 207، Nr. 1137، Driver، in Hebrew and Semific Studies، 1963، 151. F.

3 Islamic Culture، 1929، III، 2، p. 191، Margoliouth، Relations. P 68.

ص: 115

قسطنطين "340-361م" للتبشير بين الحميريين. وذكر المؤرخ "ثيودور لكتور" Theodorus Lector، وهو من رجال النصف الأول للقرن السادس للميلاد، أن الحميريين كانوا في بادئ أمرهم على دين يهود، دخلوا فيه في أيام ملكة سبأ المعروفة بقصتها مع سليمان، بدعوتها إياهم إلى هذا الدين. ولكنهم كما يقول هذا المؤرخ عادوا فارتدوا إلى الوثنية، ثم دخلوا بعدئذ في النصرانية في أيام القيصر "أنسطاس" Anastasius "491-518م". ولم يشر ها المؤرخ إلى وجود اليهودية بين الحميريين، كما إنه لم يشر ولا المؤرخ الآخر إلى تهود أحد من ملوك حمير1.

ويفهم من الجمل: "وأن اليهود الكائنين في طبرية يرسلون سنة فسنة ووقتًا فآخر كهنة منهم إلى هناك لإثارة الحس بين نصارى الحميريين. فلو كان الأساقفة نصارى وليسوا بشركاء لليهود، ويودون أن تستقيم النصرانية، لرغبوا إلى الملك وعظمائه، ليلقوا القبض على رؤساء كهنة طبرية وبقية المدن، ويلقوهم في السجن. ولا نقول هذا لنجازي سيئة بسيئة، بل ليتوقفوا منهم بكفلاء حتى لا يعودوا يرسلون رسائل وأشخاصا وجيهين إلى ملك الحميريين، فيصب صاعقة الأرزاء على شعب المسيح في حمير

"، وهي جمل أقتبسها من رسالة "شمعون" عن تعذيب نصارى نجران، أن يهود اليمن لم يكونوا بمعزل عن يهود فلسطين، بل كانوا على اتصال بهم، وأن أحبار طبرية كانوا يرسلون رجالا منهم إلى اليمن ومعهم أمال ووجوه إلى يهودها وملكها وكبارها للتأثير فيهم ولتوثيق صلاتهم وروابطهم بهم. وقد نسب شمعون إلى أحبار طبرية، إنهم كانوا يحرضون ملك حمير ويهود حمير على الضغط على نصارى اليمن وعلى اضطهادهم انتقاما منهم، فطالب الحكومة والنصارى على الضغط على يهود فلسطين وعلى أحبار طبرية بصورة خاصة، ليكتبوا إلى يهود حمير بالكف عن التحرش بنصارى اليمن، وعن تهديدهم بانزال العقوبات بهم انتقاما منهم إلى لم يسدوا لهم النصح.

وورد في أخبار الشهداء الحميريين: أن أحبارا من فلسطين من "طبريا" Tiberias كانوا قد جاءوا إخوانهم في الدين يهود اليمن وسكنوا معهم2. ومعنى

1 Margoliouth، P. 62 F، Migne، Partologia Graeca، XXXV، P. 211، Islamic Culture، 1929، III، 2، p. 190، Philostorgius، Hist. Eccl، III، 5.

2 MargIiouth p 68.

ص: 116

هذا أن الصلات بين يهود اليمن ويهود فلسطين كانت موجودة، وأن يهود اليمن لم يكونوا بمعزل عن يهود فلسطين، ويجب أن يقال مثل ذلك عن يهود الحجاز، إذ لابد وأن يكون ليهود الحجاز اتصال بيهود فلسطين وبيهود اليمن. وكيف لا يكون لهم اتصال بهم، وهم جيران فلسطين ولهم تجارات معهم، ثم إنهم على طريق اليمن وفلسطين، فإذا أراد يهود فلسطين الذهاب إلى اليمن، أو يهود اليمن الذهاب إلى فلسطين فلا بد من المرور بأرض يهود الحجاز والنزول بهم.

وقد عثر في اليمن على نص مكتوب بالمسند، وردت فيه كلمة "يسرائيل" و"رب يهود". ويدل هذا على أن صاحبه كان على دين يهود. عتر عليه المستشرق "كلاسر" ونشره المستشرق "ونكلر"، وهذا هو:"تبرك سم رحمنن ذ بسمين" سمن" ويسر ال والهمو رب يهود. ذ هرد عبد همو وشحرم وامهوبم "؟ " وحشكهتو شمسم واولهمو ذمم "ظ" وابشعر ومار وكل ابه"1.

وأما كتابته بلهجتنا، فعلى هذا المنوال:"تبارك اسم الرحمان الذي في السماء وإسرائيل وإلهه رب يهود الذي ساعد عبده شحرًا وأمه بم"؟ " وزوجته شمسًا وأولاده ذمم "؟ " وأبشعر ومئارًا وكل أهل "بيته".

غير أن من الباحثين من يشك في صحة نقل هذا النص نقلا صحيحًا تامًّا، ولم يتأكد من صحة نقل كلمة "إسرائيل"2.

واليهودية وإن ضعفت في اليمن بدخول الحبشة فيها، بقيت مع ذلك محافظة على كيانها، فلم تنهزم، ولم تجتث من أصولها، وبقيت قائمة في هذه البلاد في الإسلام كذلك فلم يجل أهلها عنها كما أجلي أهل خيبر، وظلت بقيتهم هناك إلى سنيات قريبة حيث غادروها على أثر حوادث فلسطين.

وقد كانت "نجران" من المستوطنات المهمة التي نزل بها اليهود في اليمن3. وهي مكان خصب، وقد عاش اليهود فيها مع غيرهم من العرب من نصارى وعبدة أصنام.

ووجد اليهود في مواضع أخرى من جزيرة العرب. وجدوا في العربية الشرقية

1 Glaser 394-395، Revue des Etudes Juives، 1891، VOl.، 23، P. 122، Winckler AOF، I، S. 337

2 MargIiouth p 68

3 معجم "1/ 327".

ص: 117

وفي نجد وفي مواضع من العربية الجنوبية، ولما ارتد "بنو وليعة" والأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية الكندي، وتحصن "الأشعث" في النجير"، وهو حصن لهم، كانت فيه امرأة من يهود، عرفت بشماتتها بوفاة الرسول، اسمها "هند بنت يامين" اليهودية1. مما يدل على وجود اليهود في هذا المكان. وكان بالبحرين قوم من اليهود، صالحوا المسلمين مثل النصارى على دفع الجزية عن رءوسهم2. وقد كتب "المنذر بن ساوى" العبدي، يخبر الرسول أن بأرضه يهود ومجوس، فكتب إليه الرسول: "من أقام على يهودية، أو مجوسية فعليه الجزية"3.

1 البلاذري، فتوح "111"، "ردة وليعة والأشعث بن قيس ين معد يكرب بن معاوية الكندي.

2 البلاذري، فتوح "89، 91""البحرين".

3 ابن سعد، طبقات "1/ 263".

ص: 118

‌الفصل السابع والسبعون اليهود والإسلام

ويتبين من القرآن الكريم، أن اتصال الرسول باليهود اتصالا مباشرًا إنما كان في يثرب. أما في مكة، فلم يكن لليهود فيها شأن يذكر، لذلك لا نجد في الآيات المكية ما نجده في الآيات المدنية، ولا سيما المتأخر منها، من تقريع لليهود وتوبيخ لهم، لوقوفهم موقفا معاديا من الإسلام، واتفاقهم مع المشركين في معارضة الرسول ومقاومته. وقد بدأ اليهود يعارضون الرسول والإسلام، حينما طلب إليهم الدخول في الإسلام والإيمان برسول الله، وحينما تبين لهم أن الأمر سيفلت من أيديهم، وأن الرسول ليس كبقية رجال قريش أو غير قريش سهل الانقياد مطواعا لهم، وأن تعاليم الإسلام ستفسد العرب عليهم، ولا سيما بعد تحريم الربا. والربا مورد مهم كان يدر ربحًا عظيمًا على يهود، لهذا وجدوا مصلحتهم في معارضته ومقاومته وفي الاتفاق وفي الاتفاق مع المشركين عليه.

ويظهر أنه لم يكن لليهود نفوذ كبير ولا جاليات كبيرة في مكة. فلو كان لهم نفوذ فيها أو رأي مسموع، لسمعنا به كما سمعنا بخبرهم في يثرب، ولكان لهم حي خاص بهم، ومكانة بين رجال قريش، كالذي كان عليه يهود يثرب في اتصالهم بالأوس والخزرج، ولأشير إليهم في السور المكية، على نحو ما أشير إليهم في السور المدنية، ثم لما اضطر رجال قريش للذهاب إلى يثرب مرارا، لاستشارتهم في أمر سلوكهم مع المسلمين، ولما جاء سادات يهود يثرب إلى مكة، لتحريض أهلها على مقاومة الرسول، ولعقد حلف معهم عليه.

ص: 119

وقد أمل المسلمون أن يساعد اليهود الإسلام على الوثنة وأن يقفوا منه موقف ود أو حياد، ذلك بأنهم أصحاب كتب منزلة ودين توحيد، والإسلام قريب منهم، وقد اعترف بالأديان السابقة له، ونزه الأنبياء والمرسلين، وهو دين توحيد كذلك. ثم إن الرسول تودد إليهم حين دخوله يثرب، وأمنهم على أموالهم وأنفسهم، وزراهم وطمأنهم، ثم تعاهد معهم في صحائف كتبت لهم، فيها العهد بالوفاء لما اشترط لهم، ما داموا موفين بالوعد وبالعهد وقد طلب إلى جميع المسلمين الوفاء بما جاء فيها، ومنعوا من التجاور والتطاول على من في يثرب من يهود1. وجعل لليهود نصيبا في المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين كما شرط عليهم النفقة معهم الحرب.

ولم تكن علاقات اليهود مع المسلمين سيئة في الأيام الأولى من مجئ الرسول إلى يثرب. رأت جمهرة يهود أن الإسلام دين اعترف بالأنبياء، وأنه دين توحيد وإنه في جملة أحكامه قريب من أحكام ديانتهم وقواعدهم، وأنه يناهض الأوثان، وقد أشاد بفضل بني إسرائيل وبتفوقهم على غيرهم بظهور الأنبياء من بينهم، ثم إن قبلته إلى القدس، وقد تسامح معهم فأباح للمسلمين طعام أهل الكتاب2. وهو دين اعترف بأبوة إبراهيم للعرب، وجعل سنته سنة له. وقد تسامح معهم وحفظ ذممهم، فلم تر في انتشاره بين أهل يثرب ما يضيرهم شيئًا أو يلحق بهم أذى، ولذلك أظهرت استعدادها لعقد حلف سياسي مع ووقوفها موقف ود منه أو موقف حياد على الأقل، على ألا يطلب منها تغيير دينها وتبديله والدخول في الإسلام.

ولما دخل أهل يثرب في الإسلام أفواجا، وتوجه المسلمون إلى اليهود يدعونهم إلى الدخول فيه وإلى مشاركتهم لهم في عقيدتهم باعتبار أنهم أهل دين يقول بالوحي ويؤمن بالتوراة، وبرسالة الرسل، فهم لذلك أولى بقبول هذه الدعوة من الوثنيين، أدركت جمهرتهم أن الإسلام إذا ما استمر على هذا المنوال في المدينة من التوسع والانتشار ومن توجيه دعوته إلى اليهود أيضًا، فسيقضي على عقيدتهم التي ورثوها وهي عقيدة لا تعترف بقيام نبي من غير بني إسرائيل ولا بكتب غير التوراة

1 ابن هشام "3/ 74، 197"، الروض الأنف "2/ 16"، "كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين اليهود".

2 المائدة، الآية 48.

ص: 120

والكتب التي دونها علماؤهم، ثم هم يرون أن النبوة قد ختمت ولن يكون المسيح إلا منهم، فكيف يعتقدون بنبي عربي وهو من الأميين؟

وقد رفض اليهود الدخول في الإسلام، وأبوا تغيير دينهم، ودافعوا عن عقيدتهم وتمسكوا بها، ورفضوا التسليم بما جاء في رسالة الرسول من أن الرسول نبي أرسل للعالمين كافة وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن القرآن كتاب مصدق من الله، وأن أحكامه مؤيدة لما جاء في التوراة ناسخة لبعضها. وقد جادلوا في ذلك، وانبرى أحبارهم للدفاع عن عقيدتهم ولمجادلة من يأتي إليهم من المسلمين لأقناعهم في الدخول في الإسلام. وفي القرآن الكريم صور من جدلهم هذا ومن محاجتهم الرسول في دعوته، كما نجد مثل ذلك في الحديث النبوي وفي كتب السير.

ويتبين من نتائج دراسة صور هذا الجدل والخصام الذي وقع بين اليهود والمسلمين، وهو خصام مهم خطر، أن الخصومة كانت في مرحلتها الأولى رفضا لدعوة الرسول إياهم للدخول في الإسلام، وتمسكا شديدًا بعقيدتهم وبدينهم وبما ورد عندهم من أن النبوة قد بدأت وانتهت في بني إسرائيل، ثم تطورت واشتدت عنفا وقوة لما تبين لهم أن الإسلام يرفض نظريتهم هذه، وأنه قد حرم أمورا ستؤثر في مستقلبهم، وقد ألف بين قلوب أهل يثرب وأوجد منهم كتلة واحدة، وأنه سيحد من سلطانهم لا محالة، وأن ملكهم سيزول، فوسعوا مقاومتهم له، واتصلوا بمن وجدوا فيه حقدا وبغضا للرسول، وبمن تأثر سلطانه بدخول الإسلام في يثرب من أهلها، ثم لما وجدوا أن كل ذلك غير كاف، تراسلوا مع أعداء الرسول في خارج يثرب من قريش، لتوحيد خططهم معهم، ولجملهم على مهاجمة المسلمين في مدينتهم ومعقلهم قبل أن يستفحل أمرهم ويقوى مركزهم، فيعجزون ميعا هم وأهل مكة عن التغلب عليهم والقضاء على الإسلام.

وهكذا بدأت خصومة اليهود للإسلام خصومة فكرية، هم يرفضون الاعتراف بنبوة الرسول، وبأن دعوته موجهة إليهم، ويرفضون نبوة في غير بني إسرائيل، والرسول يدعوهم إلى الإيمان بالله وإلى الدخول في دعوته المبنية على الإيمان بالله رب العالمين، رب العرب وبني إسرائيل والعجم، وعلى الإيمان بنبوته وبنبوة الأنبياء السابقين، ثم تطورت هذه الخصومة إلى معارك وحروب، والحروب كما نعلم تبدأ نزاعا في الآراء والأفكار ثم تتحول إلى صراع ونزاع وقتال.

ص: 121

ومن أشهر سادات يهود الذين وقفوا موقفا معايدا من الرسول، وعارضوه معارضة شديددة، وصمموا على الايقاع به، حيي بن أخطب، وأخواه ياسر بن أخطب وجدي بن أخطب1، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقق، وسلام بن الربيع بن أبي الحقيق، وهو أبو رافع الأعور الذي قتله أصحاب الرسول بخيبر، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الأشرف، والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وكردم بن قيس حليف كعب بن الأشرف، وكل هؤلاء من بني النضير، وعبد الله بن صوري الأعور2، وابن صلوبا، وهما من بني "ثعلبة بن الفطيون"، وزيد بن اللعيث "اللعيب"3، وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان "سبحان"، وعزير بن أبي عزير، وعبد الله بن صيف "ضيف"، وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص، وأشيع، ونعمان بن أضنا "أمنا؟ "، وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي، وشاس بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمرو، وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس، ومحمود بن دحية، ومالك بن الصيف "الضيف"، وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبي رافع، وخالد، وإزار بن أبي إزار "آزر بن أبي وعازر، ورافع بن أبي رافع، وخالد، وإزار بن أبي إزار "آزر بن أبي آزر"، ورافع بن حارثة، ورافع بن حريملة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وكل هؤلاء من يهود بني قينقاع4.

أما الذين حاربوا الإسلام من بني قريظة، فكانوا: الزبير بن باطا بن وهب، وعزال بن شمويل "سموال"، وكعب بن أسد، وهو صاحب عقد بني قريظة الذي نقض عام الأحزاب، وشمويل بن زيد، ونافع بن أبي نافع، وأبو نافع، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن رميلة "زميلة"، وجبل بن أبي قشير، ووهب بن يهوذا.

أما من بقية بطون يهود، فكانوا: لبيد بن أعصم، وهو من يهود بني زريق،

1 "جد بن أخطب"، "جدي بن أخطب"، "حدى بن أخطب"، الروض الأنف "2/ 24".

2 الروض الأنف "2/ 24".

3 "ابن اللعيب"، ابن هشام "2/ 136".

4 ابن هشام "2/ 136 وما بعدها"، الروض الأنف "2/ 24"،"تسمية اليهود الذين نزل فيهم القرآن".

ص: 122

وكنانة بن صورياء "صوريا"، وهو من بني حارثة، وفردم "قردم" بن عمرو، وهو من يهود بن عمرو بن عوف، وسلسلة بن برهام، وهو من يهود بني النجار1.

ويظهر من أقوال علماء التفسير في تفسير لفظة "الطاغوت" الواردة في القرآن الكريم، أن "كعب بن الأشرف"، كان من أبرز سادات اليهود في أيام الرسول2. فقد كانوا يتحاكمون إليه ويأخذون برأيه، وكان المقدم عندهم وعند الأوس والخزرج، حتى أن الأنصار كانوا يتحاكمون إليه.

ونجد في القرآن أمثلة من أسئلة وجهها اليهود إلى الرسول لإحراجه ولإظهار فساد دعوته بزعمهم. سألوه أن يأتي لهم بمعجزة، إذا قالوا له:{إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} 3، فنزل الرد عليهم:{قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4. "نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وفنحاص بن عازورا، وجماعة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: له: أتزعم أن الله أرسلك إلينا، وأنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإذا جئنا به صدقناك، فأنزل الله هذه الآية"5. وسألوه "أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدعيه على صدقة دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة"6.

وسألوه أسئلة عن أشياء مذكورة في التوراة، وسألوه عن أشياء أخرى محرجة عديدة، وأوحوا إلى غيرهم من المشركين بأسئلة مماثلة ليلقوها على الرسول لامتحانه وإحراجه، وقد نزل الوحي بالرد عليهم، وبتأنيبهم على أقوالهم هذه، وبتذكيرهم

1 وتختلف الموارد في ضبط هذه الأسماء، ابن هشام "2/ 137" وما بعدها"، الروض الأنف "2/ 24".

2 تفسير الطبري "5/ 97 وما بعدها".

3 سورة آل عمران، الآية 183.

4 الآية نفسها.

5 تفسير القرطبي "4/ 295"، روح المعاني "4/ 128 وما بعدها" تفسير الطبري "4/ 131 وما بعدها".

6 سورة النساء، الآية 153، تفسير القرطبي "6/ 6"، تفسير الطبري "6/ 6 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 5"، ابن هشام "2/ 198".

ص: 123

بما قام به أجدادهم وأسلافهم في مقام أنبيائهم من عدم التصديق برسالتهم ومن الطعن بهم ومن إصرارهم على عبادة الأوثان والكفر بالتوحيد1.

ووقع جدل بين المسلمين وبين سادات يهود، أثار نزاعا بين الطرفين. دخل أبو بكر "بيت المدارس، فوجد من يهود ناسا كثيرًا قد اجتمع إلى رجل منهم يقال له "فنحاص" كان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر يقال له: أشيع. فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. قال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه، كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك"2. ووقع مثل ذلك في مناسبات أخرى، جعل اليهود يحقدون على المسلمين.

وعمد اليهود إلى استغلال الأحقاد والبغضاء الكمينة التي كانت كامنة في نفوس أهل يثرب من الأوس والخزرج من أيام الجاهلية، فأثاروها، كما استفادوا مما كان بينهم وبين رجال من المسلمين من الحلف والجوار في الجاهلية للاحتماء بهم وللاتقاء بهم مما قد يلحق بهم من أذى في إثارة الفتنة.

وفي عهد "عمر" أمر بإجلاء اليهود ممن لم يكن لديهم عهد من رسول الله. أما من كان له عهد منه، فقد بقي في وطنه وعلى دينه بالشروط التي ذكرت في الصحف. وقد كان في يثرب نفر من اليهود عاشوا فيها في زمن الرسول حتى بعد إجلاء بني النضير وبني قريظة وبعد غزوة خيبر. وقد ورد في رواية أن النبي لما أمر أصحابه بالتهيؤ لغزوة خيبر، شق ذلك على من بقي بالمدينة من يهود3. ولما مرض عبد الله بن أبي، كان اليهود في جملة من التفَّ حول سريره في مرضه الذي هلك فيه، ثم كانوا في جملة من شيعه إلى قبره ومن

1 سورة البقرة، الآية 101، ابن هشام "2/ 167، 171، 201".

2 آل عمران، الآية 181، تفسير الطبري "4/ 129 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "1/ 548"، "طهران".

3 الطبقات، لابن سعد "الجزء الثاني من القسم الأول "ص77".

ص: 124

نثر التراب على رأسه حزنًا على فراقه1. وقد بقيت أسر يهودية في وادي القرى وفي تيماء قرونًا عديدة بعد صدور أمر عمر بالإجلاء، بل ورد أن عددًا منهم عاش في المدينة أيضًا.

وقد كانت اليهودية قانعة بما أوتيت، وبم كسبته من مواطن وتجارة، إن وجدت سبيلا إلى إقناع سادات القبائل والأمراء والملوك بالتهود وبالدخول في دعوتها، فذلك خير وتوفيق. وإن لم تجد في هؤلاء ميلا إلى اليهودية، رضيت منهم باكتساب العطف والحماية ورعايتهم في تحصيل ديونهم والأرباح التي يحصلون عليها من الربا، وبالسماح لهم بالتجارة والبيع والشراء، وهو ما يصبو إليه كل يهودي.

لذلك نستطيع أن نقول أن اليهودية كانت من ناحية التبشير عند ظهور الإسلام جامدة خامدة، لا يهمها نشر الدين بقدر ما تهمها المحافظة على الحياة وعلى المركز الذي وصلت إليه وعلى تجارتها التي تعود عليها بمال غزير. فكانت لهذا لا تهتم بحركة إلا إذا وجدت فيها فائدة لها، ومنفعة ترتجى منها، ولا تحارب رأيا إلا إذا وجدت أنه سيكون خطرًا عليها، فحاربت النصرانية في اليمن لما وجدت الروم يسيرون على سياسة معايدة لليهود، وأن النصرانية مهما كانت كنيستها هي فرع من شجرة واحدة هي الشجرة التي يقدسها الروم، فامتداد أي فرع منها إلى اليمن، كفيل بالحاق الأذى الذي لاقاه إخوانهم من البيزنطيين بهم. وحاربت الإسلام بعد هجرة الرسول إلى المدينة، لما تبين لها إنه يدعو إلى رب العالمين، وإنه لم يكن على ما ظنته حينما سمعت بدعوة الرسول وهو في مكة، من إنه سيخضع لها، أو سيميل إليها، فتستفيد منه على الأقل، فلما وجدت الأمر غير ما ظنت، عندئذ خاصمته وانضمت إلى المشركين في محاربة الإسلام.

ولسنا نجد بين القبائل العربية يهودا وفدوا إليها وأحبارا سكنوا بينها لاقناعها بمختلف الوسائل والطرق للدخول في دين يهود. نعم لم يفعل اليهود هذا كما فعله النصارى، ولهذا انحصرت سكنى اليهود عند ظهور الإسلام في هذه المواضع الخصبة وطرق المواصلات والتجارة البرية والبحرية من جزيرة العرب، وانحصر عملهم في التجارة وفي الربا في الزراعة وفي بعض الصناعات التي تخصصوا بها. وهي أمور جعلت لهم نفوذا عند سادات القبائل والأمراء والملوك.

1 الواقدي "415"، اليهود "177".

ص: 125

وقد كانت لليهود مواضع يتدارس فيها رجال دينهم أحكام شريعتهم، وأيامهم الماضية، وأخبار الرسل والأنبياء، وما جاء في التوراة والمشنا، وغير ذلك. عرفت بين الجاهليين بـ "المدارس" و"بيت المدارس""والمدارش". وأطلق الجاهليون عن الموضع الذي يتعبد اليهود فيه "الكنيس" و"كنيس اليهود" تمييزا لهذه الكنيسة عن "الكنيسة" التي هي لفظة خاصة بموضع عبادة النصارى1.

وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الكنيسة كلمة معربة من "كنشت" وهي لليهود، والبيعة للنصارى. وذهب بعض آخر إلى أنها متعبد الكفار مطلقا2.

وقد أخذ الجاهليون مصطلح "المدارس" من العبرانيين، من لفظة "مدارش" Midrash التي هي من أصل "درش" Darash التي تقابل "درس" في العربية، وتؤدي هذه الكلمة المعنى المفهوم من لفظة "درس" العربية تمام الأداء. ويقصد بالمدارش درس نصوص التوراة وشرحها وتفسيرها وإيضاح الغامض منها وأسرارها وأمثال ذلك، وينهض بذلك المفسر الشارح "درشن" Darshan، ولكل طريقة وأسلوب. وقد نجمت عن هذه الدراسة ثروة أدبية ودينية طائلة للعبرانيين. نتجت من اتباع جملة طرق في الشرح والتفسير، منها "مدارش هلاخه" Midrash HaIachah و"مدراش هاكاده" Midrash Haggaddah، وتختلف هذه في كيفية اتباع طرق العرض والشرح والتفسير3.

ولم يكن المدارس "المدارش" موضع عبادة وصلوات حسب، بل كان إلى ذلك دار ندوة ليهود يجتمعون فيه في أوقات فراغهم لاستئناس بعضهم ببعض وللبحث في شؤونهم، وللبت في القضايا الجسيمة الخطيرة على اختلاف درجاتها. فهو إذن مجمع الأحبار ومجمع الرؤساء والسادات وأصحاب الشرف فيهم، وإليه كان يقصد الجاهليون حين يريدون أمرا من الأمور أو الاستفهام عن شيء يريدون الوقوف عليه، وإليه ذهب الرسول وكبار المسلمين لمحادثة يهود ومجادلتهم فيما

1 اللسان "7/ 382"، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي "2/ 120"، صحيح مسلم "5/ 122"، البخاري "كتاب الجزية والموادعة من أهل الذمة والحرب"، الحديث6، غرائب اللغة "ص213" النهاية "2/ 20"، محيط المحيط "1/ 643"،القاموس "2/ 215".

2 اللسان "8/ 83"، المعرب "81"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الأول "201".

3 Ecny-Brita، 15، p. 458، Moore، Judaism، I، 125، Jew. Ency، VII، p. 538. f.

ص: 126

كان يحدث بينهم من خلاف أو من أمر يريدون البت فيه. ويقال إنهم عرضوا أمام الرسول كتبهم، فكان يقرأها له بعضهم ممن دخل في الإسلام كعبد الله بن سلام أو بعض المسلمين ممن كان له علم وفهم في العبرانية لغة يهود.

قال "ابن عباس": "دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيت المدارس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم ودينه. فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديا. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلموا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم، فأبوا عليه"1. ويظهر أن هذا المدارس كان من بيوت مدارسهم بيثرب.

وعرفت مساجد اليهود، أن المواضع التي كان يصلون بها، بالمحاريب جمع محراب. وقد جاءت الإشارة إليها في بيت شعر منسوب إلى "قيس بن الخطيم"2. أما في النصرانية، فقد خصصت الكلمة بصدر الكنائس، وذلك على ما يفهم من الكلمة في الإسلام3.

وعرف علماء اليهود ورجال دينهم بـ "الأحبار" جمع "الحبر" وبـ "الربانيين" وقد وردت الكلمتان في القرآن الكريم4. وللإسلاميين آراء في أصل "الحبر"، وهم يذكرون أن من معانيها العالم، والرجل الصالح5. واللفظة من الألفاظ المعربة عن العبرانية أصلها "حبر" Haber وجمعها حبريم، Habarim، ومعناها "الرفيق" camrade و associate، وكانت ذات مدلول خاص ومعنى معين. وقد أطلقت في العهد التلمودي على العضوية في جمعية معينة، فأطلقت في العصر الأول والثاني للميلاد على من كان من "الفروشيم"، وهم شيعة يهودية أقسمت على نفسها بمراعاة النصوص الدينية "اللاوية" على نحو ما نزلت وعلى نحو ما يفعله اللاويون.

1 الطبري "7/ 145".

2 Margobiuuth p 73

3 النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني "ص174"ز

4 حبر بالضم وبالكسر، المائدة، الآية 44، 63ن التوبة، الآية 31، 34.

5 تاج العروس "3/ 120"، "حبر"، اللسان "5/ 228"، المفردات، للأصفهاني "ص104".

ص: 127

وللفظة "حبر" أهمية كبيرة عند اليهود، فإنها تشير إلى العلم والمعرفة، وإن كانت لا تصل إلى درجة "رابي""ربي" Rabbi ولا تزال مستعملة عندهم فيمن درس الشريعة اليهودية والعلوم وتقدم فيها وأتقن الأحكام، وقضى بين الناس، غير أنها دون درجة1 Rabbi. فهي في العبرانية بمعنى عالم ولكن دون المعنى المفهوم في العربية عند علماء اللغة الإسلاميين، فهذا المعنى هو في مقابل لفظة Rabbi أي "ربان" لا "حبر".

وقد وردت لفظة "حبر" في شعر للشماخ:

كما خط عبرانية بيمينه

بتيماء حبر ثم عرض أسطرا2

أما "الربانيون"، فهم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي، على رأي بعض العلماء الإسلاميين. وقال بعض آخر: الربان العالم الراسخ في العلم والدين، أو العالم العامل المعلم، أو العالي الدرجة في العلم. وفرق بعضهم بين الربانيين وبين الأحبار بأن جعل الأحبار أهل المعرفة بأنباء الأمم وبما كان ويكون، وذهبوا إلى إنها من الألفاظ المعربة العبرانية أو السريانية3. وهي من الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم في أثناء الكلام على علماء يهود4.

ويتبين من القرآن الكريم إنه قد كان للأحبار والربانيين نفوذ عظيم على اليهود، فكانوا يطيعون أوامرهم ويفعلون ما يأمرونهم به، وأن غالبيتهم لم تكن تفقه شيئًا ولا تعرف من أحكام دينها إلا ما يقوله لهم أولئك الأحبار5. وبعض هؤلاء الأحبار هم من المقيمين في جزيرة العرب في المواطن التي أقامت فيها يهود، وبعض منهم كان يأتي إلى يهود العرب من فلسطين: ولا سيما من "طبرية" التي اكتسبت شهرة عظيمة بعد خراب القدس "أورشليم" حيث استقر فيها "السنهدريم" وغدت مركزًا عظيمًا للعلوم عند اليهود، وفيها جمعت "المشنة" "المشنا" Mishna و"الماسورة" الكتاب الذي بين كيفية تحريك كلمات التوراة6.

1 اليهود "ص20"، The UnIversaI Jewish Ency VoI VP 1445

2 تاج العروس "3/ 117"، "حبر".

3 تاج العروس "1/ 260"، "9/ 211"، المعرب، للجواليقي "ص161"، سيرة ابن هشام "1/ 395".

4 المائدة: الآية 44، 63، آل عمران، الآية 79، تفسير الطبري "6/ 251".

5 التوبة، الآية 31.

6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 46".

ص: 128

وقد ذكر أهل الحجاز أسماء عدد من رجال يهود ممن أدركوا الإسلام، ذكر عنهم إنهم كانوا أحبارا، وإنهم كانوا أصحاب علم بالتوراة وبكتب الأنبياء وفي مقدمة من ذكروا، عبد الله بن صورى الأعور، قالوا: إنه لم يكن بالحجاز في زمانه من كان أعلم بالتوراة منه، وإنه كان من بني ثعلبة بن الفطيون. ويقولون: إن الفطيون كلمة تقال لمن يلي أمر اليهود وملكهم، كما أن النجاشي تقال لمن يلي ملك الحبشة1.

وذكر "القلقشندي" أن المشهور من ألقاب أرباب الوظائف عند اليهود ثلاثة ألقاب: الأول الرئيس، وهو القائم فيهم مقام البطرك في النصارى، والثاني الحزان، وهو فيهم بمثابة الخطيب يصعد المنبر ويعظهم، والثالث الشيلحصبور، وهو الإمام الذي يصلي بهم2.

وقد أطلق القرآن الكريم على أسفار اليهود، أي كتبهم المقدسة "التوراة"3. وعرفت بهذه التسمية في الحديث وفي كتب التفسير، وصارت علمًا لها في الإسلام. كذلك أطلقت هذه اللفظة على معابد اليهود، ولم يعرف ورودها في الشعر الجاهلي خلا بيتا ينسب إلى شاعر جاهلي يهودي اسمه "سماك"4.

ولعلماء اللغة الإسلاميين آراء في أصل كلمة "التوراة"، حتى ذهب بعضهم إلى أنها عربية، ولكن ذوي أكثريتهم ترى أنها عبرانية، لأن لغة موسى كانت العبرانية، وبهذه اللغة نزلت التوراة5. ثم هم يختلفون في تعيين حدود التوراة، فيرى بعضهم أنها خمسة أسفار، ويرى بعض آخر أنها أكثر من ذلك، وأنها تشمل الزبور ونبوة أشعياء وسائر النبوات، لا يستثنى إلا الأناجيل6.

1 ابن هشام "2/ 136""محمد محيي الدين عبد الحميد".

2 صبح الأعشى "5/ 474".

3 آل عمران الآية 3، 48، 50، 65، 93، المائدة، 46 وما بعدها، 49، الصف، الآية6، الفتح، الآية 29، الجمعة، الآية5.

4 Ency IV p 706

5 اللسان "20/ 365 وما بعدها" ورى"، تاج العروس "10/ 389"، القراءون والربانون "179"، المفردات، للأصفهاني "ص74".

Uni Jew Ency 10 p 267 katsh p191

6 صبح الأعشى "13/ 254 وما بعدها" Katsh 191.

ص: 129

وليس في القرآن الكريم تحديد لأسفار التوراة، ولكن اقتران اسم موسى بها في بعض الموارد منه يشير إلى أن المراد بها ما يقال له بـ "الأسفار الخمسة" Pentateuch عند الغربيين. وهذه الأسفار الخمسة هي الأسفار المنزلة المكتوبة التي نزلت على موسى على رأي قدماء العبرانيين. ثم توسعوا في مدلول اللفظة فيما بعد، فأطلقوها على جميع الأسفار التي يقال لها العهد القديم. وأطلقتها بعض الفرق على غيرها من الأسفار مثل الأنبياء "نبيم" Nebiim، والكتب "كتوبيم1" Kettubim.

وقد أورد القرآن في مخاطبة يهود وتقريعهم قصصًا عن الأنبياء والمرسلين والأمم القديمة، منه ما هو مذكور عندهم في الأسفار الخمسة، ومنه ما هو وارد عندهم في "الهكاده" وفي "المشنه". ولما كان في احتكاك الإسلام بيهود كان لأول مرة في منطقة يثرب، صارت معظم الإشارات الواردة في القرآن الكريم إلى التوراة في السورة المدنية لمخاطبة الوحي لهم، وتوجيه الكلام مباشرة إليهم، ولم ترد تلك التسمية في الآيات المكية إلا في موضع واحد هو في سورة الأعراف2.

والمراد من "الكتاب" الذي أنزل على موسى، والمذكور في مواضع من القرآن الكريم التوراة، أي هذه الأسفار الخمسة التي نتحدث عنها3. وهو تعبير قرآني لا نستطيع أن نقول إنه كان من مصطلحات الجاهليين، كما أننا لا نستطيع نفي ذلك، إذ يجوز أن يكون الجاهليون قد أطلقوه على تلك الأسفار، أو على العهد القديم كله، بمعنى هذه الأسفار وبقية ما ورد فيها من أخبار الأيام والملوك والأنبياء.

وقد ورد في الأخبار عن "أبي هريرة"، أنه "كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله" 4.

1 Uni-Jew. Ency.، 10، P. 688، Katsh.، P. 191.f

2 الأعراف: الآية 157 Ency IV p 706

3 "ولقد آتينا موسى الكتاب"، البقرة، الآية 78، ورح المعاني "1/ 316"، تفسير الطبرسي "1/ 15"،المفردات للأصفاني" 437"

4 "كتاب تفسير القرآن"، سورة البقرة: 2رقم 11، البخاري "3/ 198""طبعة ليدن".

ص: 130

وقصد بعبارة أهل الكتاب، اليهود، لأنهم أصحاب كتاب موسى، وبينهم كان نزوله، ولذلك عرفوا به. ويظهر من خبر أبي هريرة هذا ومن أخبار أخرى في هذا المعنى أن اليهود كانوا يقرءون على المسلمين كتبهم وهي بالعبرانية، ثم يفسرونها لهم بالعربية، وذلك في أيام حياة الرسول.

أما الزبور والزبر فقد وردتا في القرآن الكريم. ويراد بـ"الزبر" في بعض الآيات مثل: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} الكتب المنزلة القديمة1. وقد وردت الكلمتان في بعض الشعر المنسوب إلى الجاهليين كامرئ القيس2 والمرقش الأكبر3 وأمية بن أبي الصلت4. وذكر علماء اللغة أن معنى "زبر" كتب ونقش. ويرى بعض المستشرقين احتمال. كونها من الكلمات العربية الجنوبية. ويرى بعض آخر أنها من أصل "مزمور" Mazmor العبراني. و"مزمور" Mazmor في اللهجة السريانية، و"مزمور" Mazmur في الحبشية. أخذت الكلمة وأجري عليها بعض التغيير حتى صارت على هذا الشكل5.

وقد وردت لفظة "الزبور" مفردة في موضعين من القرآن الكريم، في سورة النساء6 وفي سورة الأنبياء7. أما في الموضع الأول، فقد ورد فيه: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} ، ومعنى هذا أن زبورا أو كتابا من الكتب المنزلة نزل على داود. أما الموضع الثاني. فقد أشير فيه إلى "زبور" معرفة بأداة التعريف

1 الشعراء: الآية 196.

2

أتت حجج بعدي عليها فأصبحت

كخط زبور في مصاحف رهبان

وينسب إليه أيضًا هذا البيت:

لمن طلل أبصرته فشجاني

كخط زبور في عسيب يماني

شرح ديوان أمرئ القيس، تأليف السندوبي "ص184"، قصيدة رقم 86، النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص184".

3

وكذاك لا خير ولا

شيء على أحد بدائم

قد خط ذلك في الزبو

ر الأوليات القدائم

اللسان "3/ 16"، النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص184".

4

وأبرزوا بصعيد مستوى جرز

وأنزل العرش والميزان والزبر

كتاب البدء "2/ 146"، النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني "ص184".

5 اللسان "4/ 314 وما بعدها". Ency IV p 1184

6 الآية 163.

7 الآية 105.

ص: 131

"ال": {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} . ولكن لم يضف إلى اسم نبي من الأنبياء، كما رأينا في الموضع السابق. وقد فسر بعض المفسرين كلمة "الزبور" في الموضع بمعنى الكتاب وكتب الله المنزلة، أي على التعميم لا التخصيص1.

ويراد بالزبور ما يقال له "المزامير" في الترجمات العربية للتوراة، PsaIms في الإنكليزية، من أصل PsaImos اليونانية التي هي ترجمة لفظة "مزمور" Mizmor العبرانية، ومعناها المدائح والأناشيد. وهي أناشيد شعرية ترنم في حمد الإله وتمجيده، ولذلك قيل لهذه المزامير "تحليم" tehiIIim في العبرانية. و tiIIim على سبيل الاختصار، و tiIIim في لهجة بني إرم2.

وقد "قال أبو هريرة: الزبور ما أنزل على داود، من بعد الذكر من بعد التوراة"3. وذكر بعض العلماء أن الزبور خص بالكتاب المنزل على داود4. وقد ذهب الشعبي إلى أن الزبور، الكتاب المنزل على داود، أما الذكر فما نزل على موسى. وذهب آخرون مذاهب أخرى في تفسير المراد من الزبور ومن الذكر. ولكن الرأي الغالب أن المراد من الزبور، مزامير داود. وذلك لنص القرآن على ذلك.

وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود اختلاف بين بني إسرائيل في فهم كتاب الله وتفسيره، وأنهم انقسموا لذلك شيعا وأحزابا. ولا يستبعد أن يكون هذا الاختلاف شاملا ليهود الحجاز أيضًا، كأن يكون أحبارهم قد ساروا في اتجاهات مختلفة في التفاسير وفي شرح الأحكام وكان أصحابهم يتعصبون لهم ويتحزبون، وعلى نمط الأعراب في عصبيتهم لقبائلهم، وفي اتباع أقوال ساداتهم دون تعقل وتفكير. أما مواضع الاختلاف ومواطن الفرقة التي كانت تفرق فيما بينهم، فلا نعرف اليوم من أمرها شيئًا، لأنها لم تدون ولم تذكر، ولم يشر القرآن إليها، ولكنها على كل لا تخرج ولا شك عما نعرفه من خلاف في أوجه النظر في المسائل المعروفة حتى اليوم في أمور الفروع.

1 تفسير الجلالين "2/ 33".

2 Uni Jew Ency 9p 13

3 اللسان "4/ 315""صادر".

4 المفردات "ص210".

ص: 132

ونحن لا نستطيع أن نتصور أن سواد يهود الجاهلية كانوا على علم بالكتابة وبالقراءة ثم بأحوال دينهم وأموره. وفي القرآن الكريم أن هذا السواد كان جاهلا ليس له علم ولا خبر بأمور دينه وشريعته، وأنه مقلد تابع لما تقوله له أحباره وربانيوه. فكل ما كانوا يقولونه له، كانوا يرونه حقًّا وعلمًا1. مع أن من بين أولئك من كان دجالا ليس على درجة من دراية وعلم، ومن كان ينطق بالباطل ولا يخشى الكذب، لينال بذلك كسبا ومالا، وأنه كان لهؤلاء على أتباعهم ومقلديهم سلطان عظيم.

وقد تعرض "ابن خلدون" لموضوع علم اليهود العرب وثقافتهم، فقال:"إذا تشوقت العرب إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم. وهم أهل التوراة من اليهود، ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك"2. فغالبية يهود جزيرة العرب في الجاهلية، هم في مستوى، يعد، دون مستوى يهود البلاد الأخرى، بسبب تبديهم وانقطاعهم عن غيرهم من اليهود.

وقد كانت لليهود مدارس تدارسوا فيها أحكام شريعتهم، وكان لهم أحبار وحاخامون علموهم أمور دينهم. ذكر أهل الأخبار إنهم كانوا يكتبون بالعبرانية أو بالسريانية، وذلك لاختلاف أهل الأخبار في تعيين تلك اللغة، وعدم تمكنهم من التمييز بينهما. وفي كتب الأخبار والتواريخ إشارات إلى اتصال بعض رجال مكة ويثرب باليهود والاستفسار منهم عن أمور الرسل والأنبياء والماضيين وعن بعض الأحكام. وفيها قصص إسرائيل وجد له سبيلا إلى العربية، يرويه القصاصون عن الرسل والأنبياء، وأساطير لا يشك في كونها إسرائيلية الأصل. كما نجد ألفاظا

1 "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني. وإن هم إلا يظنون"، البقرة، الآية 87، تفسير القرطبي، الجامع "1/ 296 وما بعدها".

2 ابن خلدون "1/ 439".

ص: 133

عبرانية لا شك في أصلها وجدت لها سبيلا إلى عربية الجاهليين بسبب اتصال اليهود بهم، واستعمالهم إياها، فتأثر بهم الجاهليون وأخذوها منهم واستعملوها أيضًا فصارت من المعربات.

وينسب إلى الشاعر "الأسود بن يعفر" بيت شعر هو:

سطور يهوديين في مهرقيهما

مجيدين من تيماء أو أهل مدين1

وإذا صحت نسبة هذا البيت إليه، يكون قد تعرف على يهوديين اثنين، وجدهما يجيدان الكتابة، وقد كتبا على المهارق. ولم يكن الشاعر على علم أكيد بموطنهما، فلم يدر إذا كانا من أهل تيماء أو من أهل مدين.

ولتعبير "مجيدين" أهمية خاصة، إذ يشير إلى تمييزه بين الكتابة الجيدة والكتابة الرديئة، وإلى وجود مصطلح "مجيد" عند الجاهليين، يطلقونه كما نطلقه اليوم على من يجيد الكتابة ويتقنها.

ولما كانت اللغة العبرانية لغة الدين عند العبرانيين، وبها نزل الوحي على موسى، فلا بد أن يكون لعلمائهم ورجال دينهم في جزيرة العرب علم بتلك اللغة وفقه بها. ولكن هذا لا يعني ضرورة كونهم كعلماء طبرية أو قيصرية في فلسطين أو بعض المواضع التي اشتهرت بعلمائها في التلمود بالعراق، ولست أستبعد أن يكون لهم علم بلغة بني إرم أيضًا، لأن هذه اللغة كما نعلم كانت لغة العلم والثقافة قبل الميلاد وبعده، وبها كتبت كتب عدة من التلمودين، ثم إنها انتشرت بين سواد الناس حتى صارت لغة سواد يهود يتكلمون بها ولو برطانة وبلهجة خاصة هي اللهجة التي يمتاز بها سواد اليهود في كل قطر يعيشون فيه.

أما سواد يهود جزيرة العرب في الجاهلية: فلا أظن أنهم كانوا يتلكمون العبرانية أو لغة بني إرم، إنما أرى أنهم كانوا يتكلمون لهجة من هذه اللهجات العربية. أعني لهجة العرب الذين كانوا يعيشون بينهم وينزلون بين أظهرهم، ولم يرد في الأخبار ما يفيد أنهم كانوا يتحادثون بالعبرانية، بل الذي ورد أن عامتهم لم تكن تعرف تلك اللغة، وأن الخاصة منهم والمزاولين لحرفة الكتابة

1 ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التأريخية، "ص82".

ص: 134

والسحر كانوا يعرفونها ويكتبون بها، وبها يعوذون أنفسهم وغيرهم من الناس، وكانوا يفسرون التوراة والتلمود والكتب المقدسة لسواد الناس من العبرانية إلى العربية، لأنهم لم يكونوا يعرفون العبرانية، لا سيما وقد كان بينهم عرب متهودة.

ولم يظهر في يهود جزيرة العرب من حاز على شهرة في العلم والفقه والتأليف والخطابة على نحو ما ظهر بين يهود العراق أو فلسطين أو مصر، وإلا لاشتهر أمره وذاع خبره، كما ذاع خبر علماء يهود بابل وفلسطين ومصر. ولا يمكن أن تكون عزلتهم عن بقية يهود الأقطار المذكورة سببا كافيا في تعليل عدم شيوع اسم أحد من هؤلاء، إن قضية عزلتهم عن بقية إخوانهم في الدين، هي نفسها تحتاج إلى سند يثبت وجود تلك العزلة. فمواضعهم في أعالي الحجاز، على اتصال ببلاد الشام، وهي لا تبعد كثيرًا عن مساكن إخوانهم في فلسطين. ثم إنهم كانوا على اتصال مستمر بهم بالتجارة، وقد كانوا يشترون حاصل بلاد الشام من خمور وحبوب وما شاكل ذلك، وينقلونه إلى يثرب، يذهبون إليها للتعامل والاتجار، فكيف يكون يهود جزيرة العرب في معزل عن غيرهم مع وجود الأسفار والتجارة لا سيما أن أحبار "طبرية" كانوا يأتون إلى يهود اليمن ليلقنوهم أمور الدين، ولا يستبعد أن يكون من بين أولئك الأحبار من ذهب إلى يهود يثرب أو خيبر أو تيماء.

فالقضية على ما يظهر، ليست قضية عزلة يهود جزيرة العرب عن بقية يهود وانفصالهم بذلك ثقافيا وعلميا عن بني دينهم انفصالا يؤثر في مستواهم الثقافي والعلمي، فيجعلهم دون غيرهم من إخوانهم في العلم والثقافة، إنما يظهر أن هنالك جملة عوامل حالت دون نبوغ أحد فيهم. فيهود جزيرة العرب مهما قيل عنهم وعن رقيهم وارتفاع مستواهم عن مستوى من كان في جوارهم، لم يكونوا في ثقافتهم وفي مستواهم الاجتماعي أرقى من الفلاحين وسكان القرى وما إليها في العراق أو فلسطين أو مصر، كما أن حالتهم المادية لم تكن على مستوى عال بحيث يمكن أن تقاس بالأحوال المادية التي كان عليها اليهود الآخرين في الأرضين المشار إليها، أو أصحاب تلك الأرضين من غير يهود. ثم إن عددهم مهما قيل فيه، لم يكن كبيرا. وقد راينا أن رجالهم المحاربين لم يكونوا يتجاوزون كلهم في الحجاز كله بضعة آلاف، وفي مثل هذا العدد والظروف والأحوال لا يمكن بالطبع أن تتوفر الإمكانيات المساعدة على البحث والتتبع والتعمق في العلم.

ص: 135

وقد عرف يهود يثرب بمعرفتهم السحر والاتقاء منه، وبعلمهم بالتعاويذ، فكان المشركون يلجؤون إليهم إذا احتاجوا إلى السحر أو إذا اعترضتهم مشكلات يرون أنها لا تحل إلا بقراءة التعاويذ عليها. وقد ذكر المفسرون أن اليهود عملوا السحر للنبي، علمه رجل اسمه "لبيد بن الأعصم" أو بناته وهو من يهود يثرب1.

وقد أشير إلى سحر اليهود في الحديث2.

وقد لجأ العرب إلى اليهود يأخذون منهم الرقى والتعاويذ. فقد ورد في الأخبار "أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: ارقيها بكتاب الله. يعني: بالتوراة والإنجيل

"3.

وقد حافظ يهود جزيرة العرب على حرمة السبت، ويوم السبت من الأيام المقدسة التي يجب مراعاة حرمتها مراعاة تامة، فلا يجوز ليهودي الاشتغال فيه، والقيام ببعض الأعمال. ومن خالف حرمة هذا اليوم ودنسه بالاشتغال فيه يكون قد ارتكب جرمًا عظيمًا.

وقد وردت إشارات إلى يوم السبت في مواضع من القرآن الكريم، في معرض الكلام على بني إسرائيل، وأشير في بعضها إلى أخذ موسى العهد منهم بوجوب مراعاة حرمة هذا اليوم، وإلى نقضهم له وعدم مراعاتهم جميعًا لهذا العهد، وإلى أنهم اعتدوا فيه4. وفي هذه الإشارات دلالة على أن من اليهود عامة من خالف حرمة هذا اليوم، فلم ينفذ ما ورد في أحكام شريعته عنه. ولكن هذا عام غير خاص بيهود العرب الجاهليين، وإنما يشير إلى خروج بعض بني إسرائيل على أحكام دينهم وعدم مراعاتهم لها، وهذا اليوم من أقدس الأيام في نظرهم.

1 تفسير الطبير "31/ 226"، تفسير الطبرسي "5/ 568"، روح المعاني "30/ 282"،

2 البخاري: باب سحر، عمدة القاري "21/ 279 وما بعدها"، "الحديث رقم 77 وما بعده".

3 عمدة القاري "21/ 262".

4 الأعراف: الآية 162، النحل: الآية 124، البقرة: الآية 65، النساء: الآية 46، 153، أو الثناء الألوسي، روح المعاني "1/ 256 وما بعدها"، اللسان "2/ 37""صادر" محيط المحيط "3/ 9121 وما بعدها" الطبري، تفسير "9/ 65"، الطبرسي، مجمع البيان "1/ 129 وما بعدها"، الزمخشري، الكشاف "1/ 218" الطبرسي "5/ 391""طهران" الطبرين تفسيير "14/ 124"، الكشاف "2/ 178".

ص: 136

وقد وقف العرب الذين كانوا على اتصال باليهود على بعض أحكام دينهم مثل: الرجم بالنسبة للزنا، واعتزال النساء في المحيض. فذكر العلماء أن حكم الإسلام في الحيض "اقتصاد بين إفراط اليهود الآخذين في ذلك بإخراجهن من البيوت، وتفريط النصارى. فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض"1، ومثل الدعاء إلى الصلاة عند اليهود بالنفخ في "الشبور"2، وذلك كما تحدثت عنه في موضع، ومثل صوم "عاشوراء" وأعيادهم، ومثل الصلاة وأوقاتهم عندهم.

واستعمل يهود يثرب "القرن" في معابدهم، لإعلان صلواتهم وأعيادهم وإعلان احتفالاتهم والحوادث المهمة التي قد تقع لهم. وقد كانوا يستعملون آلتين، يقال لأحداهما الـ "شوفار" Shophar ومعناها القر، ويقال للأخرى القرن، وتصنع من القرون كذلك. ولذلك اختلط الأمر بينهما. والظاهر أنهما كانتا تختلفان في نوع قرون الحيوانات التي تتخذان منها3.

وقد اختلف يهود جزيرة العرب عن الجاهليين في الأمور التي حرمتها شريعتهم عليهم في مثل المأكولات، كما اختلفوا عنهم في عبادتهم وفي اعتقادهم بوجود إله واحد، هو "إله إسرائيل"، وفي أمور عقائدية أخرى، واختلفوا عنهم في بعض العادات والمظاهر الخارجية، فكان اليهود مثلا يسدلون شعورهم، أما المشركون فكانوا يفرقون رءوسهم. ورد عن ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم، يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه"4. ولا يستبعد اختلافهم عنهم في لبس بعض الملابس التي لم تكن مألوفة عند الجاهليين.

وقد ظهر بين اليهود شعراء، نظموا الشعر بالعربية وعلى طريقة العرب في نظم الشعر. منهم السموأل المشهور، و"كعب بن الأشرف" وسماك اليهودي، وسأتكلم عنهم في أثناء حديثي عن الشعر.

1 إرشاد الساري "1/ 340"، "كتاب الحيض".

2 إرشاد الساري "2/ وما بعدها""كتاب الآذان".

3 AreIig Ency VoI III p 1599

4 عمدة القاري "17/ 71".

ص: 137

لم يسلم من يهود في أيام الرسول غير عدد قليل من المتبينين منهم. مثل: عبد الله بن سلام، ولم يتعاون معه غير عدد قليل منهم مثل يامين بن عمير بن كعب النضري، ويامين بن يامين الإسرائيلين ومخيريق، وكان رجلا غنيا صاحب نخيل، وهو أحد بني ثعلبة بن الفطيون، حث قومه على مساعدة الرسول ومعاونته في غزوة أحد. وكان الرسول قد طلب مساعدتهم لوجود صحيفة بينه وبينهم. فلما اعتذروا له بالسبت، خالفهم مخيريق قائلا لهم: لا سبت لكم، وقاتل معه حتى قتل، فقال الرسول: مخيريق خير اليهود. وقد وصف بالعلم، وذكر إنه كان حبرا عالما فيهم1. آمن بالرسول وجعل ما له له، وهو سبعة حوائط فجعلها الرسول صدقة2.

أما عبد الله بن سلام، فكان يدعي، وهو في يهوديته، الحصين بن سلام بن الحارث. وسلام اسم والده. فلما أسلم سماه رسول الله "عبد الله"، وهو من بني قينقاع، أسلم والرسول في مكة لم يهاجر بعد، وذلك في رواية من الروايات. وأسلم بعد الهجرة على أكثر الروايات. ذكر إنه كان شريفا في قومه، سيدا، صاحب نسب وحسب، وإنه كان حبرا عالما. فلما أسلم، نبذه قومه، وتحدثوا فيه3. وقد نزلت فيه بضع آيات4.

أما أنه كان حبرا من الأحبار، عالما في شريعتهم، فلا يمكن البت فيه، فقد جرت عادة أهل الأخبار على إطلاق كلمة "الحبر" على نفر ممن أسلم من يهود في أيام الرسول، كما أطلقت على نفر ممن أسلم بعده، مثل كعب الذي عرف بكعب الأحبار. ولا يمكن في نظري البت في درجات علم أمثال هؤلاء وفي مقدار فهمهم للتوراة ولكتب يهود إلا بجمع ما نسب إليهم من قول، ودراسته. عندئذ نستطيع أن نحكم على علمهم إن كان لهم علم بأحكام ديانة يهود وبالعالم وبما كان يتدارسه علماء ذلك العهد. ورأيي أن هذه الدرجات إنما منحها لهم

1 ابن هشام "2/ 140"، "3/ 38"، "محمد محيي الدين عبد الحميد".

Graetz VoI III p75

2 البلاذري، فتوح "24"، الإصابة "3/ 373"، "رقم 7852"، "من بني النضر

ويقال إنه من بني قينقاع، ويقال من بني الفطيون".

3 ابن هشام، سيرة "2/ 137"، أسد الغابة "3/ 176"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 270 وما بعدها" الروض الأنف "2/ 25".

4 تهذيب الأسماء "1/ 271"، الإصابة "3/ 116"، "2/ 212"، "رقم 4725". "1939م".

ص: 138

بعض ذوي القلوب الطيبة من المسلمين الأولين، لما رأوه فيهم، ولما سمعوه منهم من أقوال نسبوها إلى الأنبياء والعلماء وإلى كتب الله القديمة، ولم يكن لهم بطبيعة الحال علم بها، لعدم وقوفهم على ما كان يتداوله الأخبار، فعجبوا من علمهم هذا، ومن إحاطتهم بأحوال الماضين، فعد وهم أحبارا لهم في قومهم علم ورأي. وقد تساهل بعضهم في ذلك لظنه أن في منح هؤلاء أمثال هذه النعوت مما يفيد الإسلام، إذ يعني هذا تقدير أولئك الأحبار أصحاب العلم الأول له، وأن تقديرهم هذا شهادة مزكية له. وقد يكون لهم نصيب أيضًا في منحهم هذه الدرجة لأنفسهم للتباهي وللتصدر بذلك بين المسلمين.

وقد نسب أهل الأخبار أقوالا لابن سلام، تجد بعضها في كتب التفسير والحديث، وتجد بعضها في كتب السير والأخبار. لبعضها طابع إسرائيل، فهو من القصص المعروفة بالإسرائيليات، ولبعضها طابع الأقاصيص. قد يكون "ابن سلام" صاحبها ومرجعها، وقد يكون غيره قد نسبها إليه1.

وقد كان له ابنان، هما يوسف ومحمد، رويا عنه الحديث2. وقد كنى باسم ولده يوسف، فعرف بأبي يوسف3. ويعد يوسف من الصحابة، وله حديث عن الرسول، ويقال إن الرسول هو الذي سماه يوسف، وقيل ليست له صحبة. وقد روى عن جماعة من الصحابة4.

وقد أسلم يامين بن يامين الإسرائيلي، على أثر إسلام عبد الله بن سلام5.

وأما يامين بن عمير بن كعب، أبو كعب، أو كعب النضري، فهو من بني النضير. وقد ساعد اثنين من فقراء أصحاب رسول الله على تجهيزهما بشيء من التمر ليتمكنا بذلك من الالتحاق بالجيش الذي سار في السنة التاسعة من الهجرة لغزوة تبوك6. أسلم فأحرز ماله من بني النضير، ولم يحرز ماله من بني النضير غيره وغير أبي سعيد بن عمرو بن وهب، فأحرزا أموالهما. وذكر أن النبي قال

1 Ency، I، p. 30-31، Gaetani، Annali، I، p. 413، Harovitz، in ZDMG، IV، 524.

2 أسد الغابة "3/ 176".

3 تهذيب الأسماء واللغات "1/ 271".

4 تهذيب الأسماء "2/ 166".

5 الإصابة "6/ 333"، "3/ 612"،"رقم "9214".

6 الطبري "3/ 143"، "حوادث السنة التاسعة"، الإصابة "6/ 333"، "القاهرة 1907م"، "3/ 611"، "رقم "92123".

ص: 139

ليامين: ألم تر إلى ابن عمك عمرو بن جحاش وما هم به من قتلي؟ وكان أراد أن يلقى على النبي رحى فيقتله. فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله.

وكان فيمن أسلم من بني قريظة "كعب بن سليم القرظي"، وهو من سبيهم في الإسلام، ويعد في الصحابة، ولكن لا تعرف له رواية. وهو والد محمد بن كعب القرظي المعروف بروايته عن أحداث يهود مع النبي، وعن بعض أخبار بني إسرائيل1. وله روايات في حديث الرسول، وتوفي ما بين سنة ثمان ومئة وسنة عشرين ومئة. وقد عده علماء الحديث في طبقة الثقات الورعين2.

وفيمن أسلم من يهود بني قريظة رفاعة القرظي، وهو رفاعة بن سموأل "سموال"، وقيل: رفاعة بن رفاعة القرظي من بني قريظة، وهو خال صفية زوجة النبي، لأن أمها برة بنت سموأل "سموال"، أما أبوها، فهو "حيي بن أخطب" من رؤساء يهود، وكان من كبار المعارضين له، وهو من بني النضير3.

ويعد "زيد بن سعية""سعنة" في طبقة الصحابة، ويقال إنه كان أحد أحبار اليهود الذين أسلموا، وإنه كان أكثرهم علما ومالا، وقد شهد مع النبي مشاهد كثيرة، وتوفي في غزة تبوك مقبلا إلى المدينة4.

ويعد "عطية القرظي" من الصحابة كذلك، كان صغيرا حين غزا النبي بني قريظة، ولذلك لم يقتل، فأسلم، وصحب النبي5.

ولم يظهر من يهود اليمن في الإسلام ممن عرفوا برواية الإسرائيليات سوى رجلين، هما: كعب الأحبار، ووهب بن منبه. فأما كعب الأحبار، فقد أدرك زمن الرسول، غير أنه لم يره، ولم يدخل في الإسلام إلا في أيام أبي بكر أو عمر. وهو أبو إسحاق كعب بن ماتع بن هينوع "هيسوع"، وقد عرف

1 تهذيب الأسماء "2/ 676"، أسد الغابة "4/ 242".

2 الطبري "3/ 44"، "السنة الخامسة"، تهذيب الأسماء "1/ 90".

3 الإصابة "1/ 504""رقم 2668"، تهذيب الأسماء "1/ 171 وما بعدها، 191"، "2/ 348 وما بعدها".

4 تهذيب الأسماء "1/ 204"، الإصابة "3/ 28"، "1/ 548"، "رقم 2904"، "التجارية 1939م"، "واستشهد في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر".

5 تهذيب الأسماء "1/ 235"، الإصابة "2/ 479"، "رقم 5581".

ص: 140

بين المسلمين بكعب الأحبار وبكعب الحبر من باب التعظيم والتقدير لعلمه. وقد أتاه هذا اللقب من علمه بالشريعة وبكتب الأنبياء وبأخبار الماضين، وهو علم لا نستطيع أن نحكم على درجته ومقدار بعده أو قربه من العلم الذي كان منتشرا بين أحبار ذلك العهد ما لم نقف على الأقوال الصحيحة التي صدرت عن ذلك الحبر. أما هذا المروي عنه والمذكور في تفسير الطبري وفي تأريخه وفي كتب من كان يعني بجمع القصص ولا سيما قصص الرسل والأنبياء فليس في استطاعتنا التصديق بأنه كله صادر من فم كعب، إذ يجوز أن يكون من رواية أناس آخرين ثم حمل على كعب.

ولم ينسب أحد إلى كعب مؤلفا، وكل ما نسب إليه فهو مما ورد عنه بالمشافهة والسماع. وهو بين صحيح يمكن أن يكون قد صدر عنه، وبين مشكوك في أمره وضع عليه، وفيه ما هو إسرائيلي صحيح، أي إنه مما هو وارد في التوراة أو في التلمود أو في الكتب الإسرائيلية الأخرى وفيه ما هو قصص إسرائيلي نصراني، وما هو محض افتعال وخلط. وبالجملة، إن هذا الوارد عنه يصلح أن يكون موضوعا لدراسة، لمعرفة أصوله وموارده والمنابع التي أخذت منه. وعندئذ يمكن الحكم على درجة أصله ونسبه في علم بني إسرائيل، وإمكان صدوره من كعب أو من غيره، ومقدار علم كعب ووقوفه على الإسرائيليات.

وأما وهب بن منبه، فيعد من التابعين، ويعد مرجعا مهما في القصص الإسرائيلي. ويقال إنه حصل على علمه من كتب الأولين، وإن أخا له كان يذهب إلى الشام للتجارة فيشتري له الكتب ليطالعها، وإنه كان على علم غزير بأحوال الماضين، وكان ملما بجملة لغات1. وإذ كان وهب من المتأخرين وكان نشاطه في الحركة الفكرية في الإسلام لا في الجاهلية، لم نجعل له في هذا الموضع مكانا، إنما مكانه في الأجزاء المتعلقة بتاريخ الإسلام.

هذه قصة يهود جزيرة العرب قبل الإسلام، قصة لا تستند إلى مؤلفات تأريخية كتبت في تلك الأيام، ولا إلى نصوص جاهلية عربية أو أعجمية لها علاقة بيهود كتبت في ذلك العهد، ولكن تستند، في أكثر ما حكيناه إلى موارد إسلامية، ذكرتهم وأشارت إليهم لمناسبة ما وقع بينهم وبين الرسول من خلاف، وقد ورد

1 لي مقال عنه في مجلة المجمع العلمي العراقي، الجزء الأول والثاني منها.

ص: 141

شيء كثير بحقهم في القرآن الكريم وفي الحديث وفي الأخبار ولا سيما أخبار الغزوات، يتعلق معظمه بأمر الخصومة التي وقعت بينهم وبين النبي عند قدومه يثرب، فهو لا صلة له لذلك إلا بما له علاقة بهذه الناحية. وما ورد عنهم إذن هو من مورد واحد وطرف واحد. أما الطرف الثاني من أصحاب العلاقة بهذا التأريخ والشأ، وأعني بهم اليهود، فلا صوت لهم فيه، ولا رأي. فلم تصل إلينا منهم كتابة ما عنهم في علاقتهم بالإسلام. كذلك لم تصل إلينا كتابة أو رواية أو خبر عن أولئك اليهود في الموارد التأريخية التي دونها غيرهم من مؤرخي يهود وكتابهم عن علاقة يهود جزيرة العرب بالإسلام، وعن اجلاء يهود الحجاز من مواضعهم إلى بلاد الشام، لا في العربية ولا في العبرانية ولا في بقية اللغات، مع ما لهذا الحادث من خطر في تأريخ اليهود في جزيرة العرب. ولعل الأيام تكشف لنا عن موارد في العبرانية أو في لغة بني إرم تذكر أحوال يهود جزيرة العرب قبيل الإسلام وعند ظهوره، وتكشف عن آثار يهود في المواضع التي كانوا يسكنونها في الحجاز، فتبت في أمور كثيرة عن حياة هؤلاء. وليس احتمال عثورنا على مثل هذه الآثار ببعيد، فلا بد أن يعثر على حجر من الحجارة المكتوبة التي توضع فوق القبور، فتعرف منه ما لغة الكتابة التي كان يستعملها أولئك اليهود، أهي العبرانية، أو العربية، أو لغة بني إرم، أو أبجدية من الأبجديات المشتقة من القلم المسند؟ وقد يعثر على نصوص أطول من هذه النصوص التي توضع على القبور، تكشف النقاب عن أمور أخرى مهمة تفيدنا في معرفة أحوال اليهود ببلاد العرب قبل الإسلام.

وما دمنا لا نملك نصوصا يهودية جاهلية، ولا نصوصا عربية جاهلية تتعرض ليهود، فليس في وسعنا إذن أن نتحدث باطمئنان عن أثر اليهود في الجاهليين أو أثر الجاهليين في اليهود. لقد تحدث عدد من المستشرقين عن أثر اليهود في الجاهليين، فزعموا أن اليهود أثرًا عميقًا فيهم، فالختان مثلا هو أثر من آثار يهود في العرب. وشعائر الحج عند الوثنيين أكثرها هي من إسرائيل، فالطواف حول البيت يرجع أصله إلى بني إسرائيل، ذلك أن قدماءهم كانا يطوفون حول خيمة الإله "يهوه" إله إسرائيل، ومنهم تعلمه الجاهليون واتبعوه في طوافهم بالبيت. والإجازة بعرفة يهودية كذلك، لأن الذي كان يجيز الحجاج بعرفة فيأمر الحج بالرمي بعد أن يلاحظ الشمس وقت الغروب يعرف بـ "صوفة"، وصوفة

ص: 142

تسمية عبرانية لها علاقة وصلة بهذه الوظيفة مراقبة غروب الشمس وتثبيت وقته، فالإجازة إذن عبرانية الأصل. و"منى" صنم من أصنام إسرائيل، ووادي منى على اسم هذا الصنم الإسرائيلي، وأسماء أيام الأسبوع هي تسميات أخذت من يهود، ولفظة "المدينة" التي تطلق على يثرب، أطلقها اليهود، على هذا الموضع قبل الإسلام، وقد أخذوها من الإرمية، لتميز هذا المكان عن "وادي القرى". وأشياء أخرى عديدة من هذا القبيل1.

وقد غالى بعض اليهود في تقدير يهود جزيرة العرب، فذهب إلى أن أولئك اليهود جلهم إن لم يكونوا كلهم كانوا يحسنون قراءة الكتاب المقدس، بدليل إطلاق القرآن الكريم عليهم "أهل الكتاب". وقد فاته أن عبارة "أهل الكتاب" لا تعني أهل الكتابة، بمعنى أنهم كانوا أصحاب علم بالكتابة، وإنما المراد من ذلك أهل كتاب منزل سماوي. ويدخل في ذلك النصارى أيضًا لوجود كتاب سماوي لديهم كذلك هو الإنجيل. وقد رأيت أن القرآن الكريم قد وصف بعض الأحبار بالعلم. كما رمى أكثرهم بالجهل. أما السواد الأعظم منهم، فقد جعلهم عامة تتبع أقوال رجالها، فلا علم لها ولا معرفة بأمور الماضين أو الحاضرين.

وأنا لا أريد هنا أن أجادل في نفي هذه الأمور، أو إثباتها، فأخذ الشعوب واقتباسها بعضها عن بعض، من القضايا التي لا يمكن أن ينكرها إلا المعاندون الجاهلون المتعصبون. وقد رأيت أن ابن الكلبي وغيره من قدامى الإخباريين قد أشاروا إلى أن أصل بعض الأصنام عند العرب هو من الشمال، استورد في مناسبات أشاروا إليها، كما أن التنقيبات الأثرية قد أثبتت وجود صلات فكرية بين جزيرة العرب وبين العالم الخارجي، وأن ما يزعمه القائلون بعزلة الجاهليين عن بقية العالم هو هراء لا يستند إلى دليل. ولكني في هذه الأمور من الحذرين. أكره الجزم بشيء من غير برهان قاطع ودليل محسوس. فلكلام أهل الأخبار، أكثره مما لا يمكن الاعتماد عليه، وقد رأينا طبيعة أكثره ونوعه. ثم إن الكثير مما له علاقة بيهود وبالدين هو مما أخذ من أهل الكتاب في سلام أو من أفواه مسلمة أهل الكتاب. فهو متأخر عن الجاهلية، فلا يمكن أن يشمل الجاهليين من أهل الكتاب ومن وثنيين. وعلينا الآن التمييز بين هذا الذي أدخل بين العرب بعد أيام الجاهلية

1 اليهود "78 وما بعدها" Graetz VoI p 60

ص: 143

وبين ذلك الذي كان معروفا عند الجاهليين وقد ورد عنهم، وذلك لنتمكن من أبداء راي في هذه القضايا المعقدة.

ثم إن العرب كانوا شعبا ساميا، كاليهود في اصطلاح العلماء وتشترك البطون السامية في كثير من أصول التفكير والعقيدة، ومعنى هذا أن ما نجده عند يهود قد يكون عند العرب وعند غيرهم ممن يدخلهم المستشرقون في هذه الزمرة. فلم كل شيء ليهود، ونحكم على أن الجاهليين قد أخذوه منهم، ولا نقول إن هذا من ذلك التراث القديم الموروث؟ أنا لا أقول ذلك متأثرًا بدافع من العصبية، إنما أقول ذلك لأني أدين بفكرة هي أن الاستعجال في إصدار الأحكام بغير دليل خطأ فاحش لا يجوز لإنسان بإنسانيته أن يوقع نفسه فيه.

هذا ولا بد بالطبع من أن يتأثر الجاهليون المجاورون لليهود بعض التأثر بهم، بأن يأخذوا منهم بعض الأشياء ويتعلموا منهم بعض الأشياء التي تنقصهم والتي هم في حاجة ماسة إليها. فذلك أمر لا بد منه. كما ولا بد وأن يكون اليهود قد أقتبسوا من جيرانهم العرب، وعملوا على محاكاتهم في حياتهم الاجتماعية، لا سيما وبينهم يهود من أصول عربية.

ص: 144

‌الفصل الثامن والسبعون شعر اليهود

واللغة التي كان يتكلم بها اليهود، هي اللهجات العربية التي كان يتكلم بها أهل المناطق التي ينزلونها. ولتكلم اليهود في كل قطر يحلون فيه بشيء من الرطانة، لا يستبعد أن تكون لغتهم العربية التي كانوا يتكلمون بها عربية تشوبها الرطانة العبرانية. ولكن هذا لا يمنع من وجود أناس فيما بينهم كانوا يتكلمون ويكتبون بالعبرانية، ولا سيما أنهم كانوا يستعملون العبرانية في دراسة أمورهم الدينية وفي كتابة النشرات والتعاويذ، كما كانوا يستعملونها في السحر. وقد وردت إشارات إلى ذلك في كتب الحديث. وقد ورد أيضًا أنهم كانوا يعلمون أطفالهم العبرانية في الكتاب.

ويروي رواة الشعر شعرا جاهليا زعموا أن قائليه هم من يهود، وأكثره أبيات لشعراء لا نعرف من أمرهم شيئًا، لعلها بقايا قصائد. أما القصائد، فينسب أكثرها إلى السموأل بن عادباء صاحب حصن الأبلق في تيماء، وصاحب قصة الوفاء المشهورة1. وهذا الشعر المنسوب إلى اليهود، لا يختلف في طريقة نظمه وفي تراكيبه ونسقه عن شعر الشعراء الجاهليين، ولا نكاد نلمس فيه أثرًا لليهودية ولا للعبرانية، فألفاظه عربية صافية نقية مثل ألفاظ أهل الجاهلية، وأفكاره على

1 تأريخ الأدب العربي، لكارل بروكلمان "1/ 121"، "طبعة دار المعارف بمصر"، "طبعة ثانية"، "تعريب الدكتور عبد الحليم النجار".

ص: 145

نمط أفكار الجاهليين. ويصعب أن تجد فيه أثرًا للتوراة والتلمود، مما يحملنا على التفكير في صحة هذا الشعر وفي درجة تعمق صاحبه وتفهمه لدين يهو.

ومن الشعراء الذين روى الإخباريون شيئًا من شعرهم بعد السموأل: "أوس بن دنن"، وهو من بني قريظة، و"كعب بن سعد القرظي"، و"سارة القريظية"، و"سعية بن غريض بن عادياء""شعية بن غريض بن عاديا"، و"الربيع بن أبي الحقيق"، و"أبو الديال""أبو الزناد"، وله شعر في رثاء يهود تيماء الذين أجلاهم الرسول، و"شريح بن عمران"، و"كعب بن الأشرف"، و"أبو رافع اليهودي"1.

وروي أن "جعفر بن محمد الطيلسي" جمع أشعار اليهود في ديوان، ويظهر أنه أخذ ذلك من كتاب للسكري، ويقال إن الموفق بالله أخا الخليفة المعتمد العباسي طلب من الوزير "إسماعيل بن بلبل" أن يقدم إليه ديوانا في شعر اليهود، فطلب الوزير من العالم اللغوي الأديب "المبرد" أن يقدم إليه ديوانا في شعر يهود، فأخبره المبرد أنه لا يعرف شعرا لليهود. فطلب الوزير من العالم "ثعلب" أن يقدم إليه ما عنده من شعره لليهود، فأجابه أن لديه ديوانا من شعرهم، فقدمه إليه2.

وقد كانت بين المبرد وثعلب خصومة شديدة ومنافسة عنيفة، فلعل هذا الخبر هو من مرويات الجماعة المتعصبة لأحد الطرفين في الطعن في أحدهما والحط من شأنه، فقد تحزب طلاب العلم وانقسموا جماعتين، كل جماعة كانت تنتصر لصاحبها، إذ لا يعقل إلا يكون للمبرد علم بشعر لليهود، وقد ذكر من سبقه مثل أبي تمام في حماسته والجمحي في طبقات الشعراء كما ورد في الأصمعيات شعرا لهم3، كما أن في كتابة الكامل نتفا من شعرهم، أو لعل إنكاره لشعرهم بمعنى أن أكثر ما نسب إليهم من شعر هو في نظره مزيف مصنوع، ولهذا لم يعن بجمع ما ورد عنهم، ولا يمكن أن يكون ديوانا في شعر يهود4.

1 الأغاني "19/ 94 وما بعدها" الميداني "2/ 276"، المشرق، السنة الثانية عشرة "1909"، "162" MargiIiouth p 76

2 rgiIiouth p 75

3 طبقات الشعراء للجمحي "70/ وما بعدها".

4 MargoIioutgth p 74

ص: 146

والشعراء اليهود الذين ذكرهم الجمحي في كتابه "طبقات الشعراء"، هم: السموأل بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وهو من "بني النضير"، وكعب بن الأشرف، وشريح بن عمران، وشعبة بن غريض "شعبة بن غريض" وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الذيال، ودرهم بن زيد. وقد ذكر لهم أبياتا مما قالوه من الشعر1.

والسموأل، وهو من سادات يهود الحجاز ومن أثريائهم وملاكهم، أحسن الشعراء اليهود حظًّا في الخلود. بقيت أشعاره، وحفظت قصائده، ولم يبخل علماء الشعر عليه، فجمعوا شعره في ديوان. ولم يشأ الزمان أن يبخل عليه، فهيأ له من طبعه. ولا تزال تلك القصة: قصته مع مخلفات امرئ القيس مضرب الأمثال. وصير هذا الشاعر الملاك المرابي مثلا وقدوة للأوفياء، فضرب به المثل وقيل: أوفى من السموأل، ولعل القصيدة المبتدئة بهذه الأبيات:

وفيت بأدرع الكندي، إني

إذا ما ذم أقوم وفيت

وأوصى عاديا يوما بألا

تهدم يا سموأل ما بنيت

بنى ليه عاديا حصينا

وماء كلما شئت استقيت

هي التي خلدت هذه القصة، وصيرت لها فروعا وذيولا، وهي قصة تجعل الكندي المقصود بها هو الشاعر الشهير امرأ القيس، وهي التي خلدت اسم صاحب ذلك الحصن.

ونجد هذه القصة في قصيدة للأعشى، يقال إنه قالها مستجيرا بابن السموأل شريح، ليفكه من أسره، وكان قد وقع أسيرا في يد رجل كلبي كان الأعشى قد هجاه، ثم ظفر به الكلبي، فاسره وهو لا يعرفه، فنزل بشريح بن السموأل وأحسن صيافته، فلما مر بالأسرى، قال الأعشى أبياتا يمحده فيهان ويمدح أباه، ويذكر كيف أن أباه اختار أدراع الكندي، وأبي إلا أن يسلمها إلى آله وذويه، على أن يسلمها إلى آسري ابنه إذا أطلقوه. وهي أبيات نجته من أسر الكلبي، ففر منه بعد أن وهبه لشريح وهو لا يعرف به. فلما عرف به، ندم. ولكن ندمه هذا لم يفده شيئًا لأنه جاء بعد فوات الوقت2.

1 "ص70 وما بعدها".

2 الأغاني "19/ 99 وما بعدها".

ص: 147

ويروي الإخباريون ورواة الشعر أشعارا أخرى للأعشى قالها في مدح السموأل وفي وصف حصنه وفي سرد قصة وفائه، نجد فيها مصطلحات وجملا وكلمات ترد أيضًا في الشعر المنسوب إلى السموأل. وهذا ما يحملنا على التفكير في كيفية حدوث ذلك ووقوعه. هل حدث ذلك لوقوف الأعشى على شعر السموأل واقتباسه منه، باعتبار أن السموأل أقدم عهدا منه، أم حدث بتوارد الخواطر والمعاني فهو من قبيل المصادفة ليس غير، أم صنع فيما بعد على لسان السموأل بعد شيوع هذا الشعر المنسوب إلى الأعشى صاحب الأبلق الفرد، أم الشعران مصنوعان صنعا في الإسلام ووضعا على لسان الرجلين؟ وبالجملة أن أكثر ما ينسب إلى السموأل، هو من النوع المصنوع الذي شك فيه، وبعضه مما نسب إلى غيره من الشعراء.

أما جامع شعر السموأل في ديوان، فهو إبراهيم بن عرفة الملقب بنفطويه "323- 32هـ"، من مشاهير علماء العربية: وبعض ما هو مذكور في هذا الديوان1، مثل قصيدته الشهيرة:

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل

مذكور في حماسه أبي تمام، وبعضه من مرويات الأصمعي. ولم يذكر نفطويه جامع الديوان سنده في رواية هذا الشعر. وهذا السند مهم جدا عند المؤرخ للوقوف على كيفية حصول هذا العالم على شعر السموأل، ولمعرفة صحة نسبته إليه.

وفي الشعر المنسوب إلى السموأل جزء منحول مصنوع، وضع عيه، وجزء منسوب إلى غيره، وقد أشار إليه العلماء، ونحن إذا قمنا بغربلته وتنقيته نجد أقله له وأكثره لغيره، قد يكون من صنعة شاعر آخر، وقد يكون من وضع وضعة الشعر ومفتعليه. ثم إذا فحصنا هذا القليل الذي يتفق أهل الأخبار على أنه له، لا نجد فيه ما يشير إلى وجود أثر لدين يهود في الشعر.

وقد استدل الأب "شيخو" على نصرانية ذلك الشاعر، من قصيدة نسبت إلى السموأل، ورد فيها شيء من القصص الديني، والأب شيخو لا يكتفي بنصرانية

1 طبع هذا الديوان في بيروت "سنة 1909م" في مجلة المشرق للسنة المذكورة "ص161 وما بعدها" كما نشره عيسى سابا بعنوان شعر السموأل ببيروت كذلك. وأعاده نشره الشيخ محمد حسن آل حسن آل ياسين بعنوان: "ديوان السموأل" صنعة أبي عبد الله نفطويه وطبع ببغداد سنة 1955م.

ص: 148

السموأل وحده، بل يرى أن النصرانية هي ديانة جميع الشعراء الجاهليين، ولهذا ألف فيهم كتابه "شعراء النصرانية" وتحدث فيه عنهم على أنهم نصارى مؤمنون بدين المسيح1. وقد فاته شيء واحد لا أدري كيف عزب عن باله، عفا الله عنه، هو: تعيينه مذهبهم في النصرانية، ونصه على ترهبهم وتنسكهم ولبسهم المسوح على طريقة الرهبان.

ومن القصائد المنسوبة إلى السموأل، قصيدة مطلعها:

ألا أيها الضيف الذي عاب سادتي

ألا اسمع جوابي لست عنك بغافل

ختمها بهذا البيت:

وفي آخر الأيام جاء مسيحنا

فأهدى بني الدنيا سلام التكامل2

وهي قصيدة تختلف في أسلوب نظمها وفي العرض العام عن طرق النظم المألوفة في الشعر قبل الإسلام، والشعر المنسوب إلى السموأل. وقد وردت فيه كلمة "رحمانهم" وأشير فيها إلى قصة إبراهيم الخليل، والذبيح ابنه، وإلى تسميته بإسرائيل، ثم إلى الأسباط. وقصة بني إسرائيل مع فرعون مصر. وقد أغرق الله فرعون في البحر. وإلى القدس والطور، وأمثال ذلك.

وهذه القصيدة هي رد لأقوال رجل يظهر أنه عاب بني إسرائيل، وتهجم عليهم، فأثار هذا التطاول صاحب هذه الأبيات فنظمها في الرد عليه، وفي الفخر بقومه، مستشهدا على ذلك بالقصص الوارد في التوراة عن بني إسرائيل وعن الأنبياء: إبراهيم وإسحاق ويوسف، وختمها بالبيت الذي رويته منها عن مجئ المسيح، وقد دعا بـ "مسيحنا"؛ لأن المسيح من اليهود. ذكر المسيح فيها بعد حديثه عن موسى وتكليم الرب له على جبل الطور، وهو انتقال فجائي غريب ليست له صلة ما بالأبيات المتقدمة.

1 Nalino Raccolta، III، p. 105، Noldeke، Sammaual، in Zeitschrift Fur Assyriologie، XXVI، 1912، S. 177، Welhausen، Zum Koran in ZDMG، LxVII، 1913، A. 630، Eisenburg، Zu Samaw'al، in ZDMG، LXVIII، 1914، S. 644، Al-Samaw'al، in ZDMG، LXVIII، 1914، s. 644، Al-Samaw'al Ivn Adiya، in Zeitschrift fur Asyriologie، XXVI، 1912، S. 318.

2 شعر السموأل "ص53"، "وعيسى سابا"، "بيروت 1951م".

ص: 149

والحوادث المذكورة في هذه القصيدة، والاستشهادات التي استشهد بها الشاعر، وإن كانت مما هو مذكور في "الكتاب المقدس" بجزءيه، تدل على أن ناظمها قد استعان في نظم المصطحات التي استعلمها وطريقة تعبيره عن الحوادث بالقرآن الكريم، وبالقصص الوارد في كتب سير الرسل والأنبياء، وأن الغاية من نظمها هو إثبات مجئ المسيح، وقد جاء. وشهادة شاعر يهودي مفيدة ولا شك في هذا الباب.

ولم ترد هذه القصة في ديوان ولا في كتب الأدب القديمة. وعدم ورودها في تلك الموارد، دليل على أنها مما وضع بعد تدوين شعر السموأل في الديوان المنسوب إليه وفي كتب الأدب القديمة، وأن هذه القصيدة هي من الشعر المصنوع المتأخرة بالنسبة إلى بقية ما نسب إليه.

وللسموأل آراء دينية تراها في هذا الشعر المنسوب إليه، في بعضه إقرار بالبعث والحساب، وأن المليك وهو الرب بجازي الإنسان على ما قام به وما فعله من خير أو شر1، وأن الله قد قدر كل شيء وقضى به، وإن كل ما قدره كائن ولكل رزقه2، أن الإنسان ميت من يوم يولد، وفيه جرثومة الموت، ولد من ميت، ثم يموت، ثم يبعث تارة أخرى للحساب والكتاب، ولكل أجل3.

وفي قصيدة تائية:

نطفة ما منيت يوم منيت

أمرت أمرها وفيها بريت

كنها الله في مكا خفي

وخفي مكانها لو خفيت

وهي في كيفية نشوء الإنسان من منى يمنى، وهي فكرة يظهر أن صاحب هذا الشعر اقتبسها من القرآن الكريم، نظرا لمظهر التأثر به في تعبيره عن كيفية خلق الإنسان. وقد تطرق في هذه القصيدة إلى ما ذكرته من اعتقاده بالموت وبالبعث بعده وبالحساب والثواب والعقاب، وإلى سليمان والحواري يحيى وبقايا

1 شعر السموأل "بيروت 1951"، "عيسى سابا""ص26".

2

ليس يعطى القوي فضلا من الرز

ق ولا يحرم الضعيف الشخيت

بل لكل من رزقه ما قضى الـ

ـه وأن حز أنفه المستميت

شعر السموأل "28".

3 شعر السموأل "ص29 وما بعدها".

ص: 150

الأسباط أسباط يعقوب دارس التوراة والتابوت1. وإلى انفلاق البحر لموسى وأشار إلى طالوت وجالوت. والإشارات الموجزة هذه، وإن كانت لقصص موجود في التوراة، لم يعتمد الشاعر عليها، بل اعتمد في القرآن الكريم. وهو اسم الملك "شاؤول" في التوراة3. وفي أخذ الشاعر بهذه التسمية القرآنية التي لا وجود لها في التوراة دليل على أنه وضع شعره بعد نزول القرآن، أي في الإسلام. وأما "جالوت" فلفظة وردت في كتاب الله كذلك، وهي تقابل "GoIiath" في العهد القديم4. ويلاحظ أن صاحب القصيدة قد أخذ مصاب "جالوت" من القرآن الكريم، كما أنه سار على نهجه في ذكر طالوت جالوت، وهو ينفرد بذلك عن التوراة.

وشعر فيه هذه المصطلحات وهذا المعاني، لا يمكن أن يكون شعرا يهوديا جاهليا، بل لا بد أن يكون من الشعر المصنوع المنظوم في الإسلام.

فليس في شعر السموأل إذن شيء خاص من الأشياء التي انفردت بها يعود، وهذا الفخر الذي نراه في إسرائيل وفي الأسباط هو فخر يقوم على نمط فخر القبائل بقبائلهم، وليس شيئًا من دين. ثم إن بنا حاجة إلى إثبات أنه من نظم السموأل حقًّا، وأنه ليس من نظم إنسان آخر قاله على لسان السموأل في مدح اليهود وفي الفخر بهم. ولا عجب أن يقوم إنسان بوضع شعر على لسال السموأل أو غيره من الشعراء الجاهليين، فكتب الأدب مليئة بشواهد تذكر أسماء قصائد منتحلة، وضعت على ألسنة شعراء جاهليين، وأسماء من انتحل ذلك الشعر. ولم يكن انتحال ذلك الشعر عملا سهلا، إذ لا بد له من قدرة وعلم ومعرفة بأساليب شعر الماضتين. وقد كان حماد الرواية، وهو أديب كبير وراوية شهير، على رأس طبقة المنتحلين الوضاعين للشعر.

1

وبقايا الأسباط أسباط يعقو

ب دارس التوراة والتابوت

وانفلاق الأمواج طورين عن مو

سى وبعد المملك الطالوت

ومصاب الأفريس حين عصى الل

ـه وإذ صاب حينه الجالوت

شعر السموأل "ص27"، ديوان السموأل "ص25".

2 سورة البقرة، الآية 246 وما بعدها.

3 Ency IV p 642

4 Ency Ip 1008 Hastinrs 303

ص: 151

وأشهر القصائد والأشعار المنسوبة إلى السموأل، القصيدة المقولة في الفخر التي مطلعها:

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل

وهي قصيدة شهيرة معروفة تعد نموذجا في الفخر والحماسة وفي حسن النظم، ولذلك تحفظ في المدارس حتى اليوم اليوم، ويضيف إليها بعض العلماء هذا البيت:

هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره

يعز على من رامه ويطول

وبعض العلماء يزيد عليها وينقص منها أبياتا أخرى. وهي مع ذلك مما يعزوه بعض العلماء إلى شعراء آخرين، فعزاها بعضهم إلى عبد الملك بن عبد الرحيم الأزدي، وهو شاعر شامي إسلامي1.

وينسب بعض الرواة القصيدة المذكورة إلى شاعر إسلامي آخر يسمى "دكين" الراجز2 فترى من هذا مبلغ الاختلاف في صحة نسبة هذه القصيدة إلى السموأل.

ولم يرد في ديوان السموأل ولا في بعض الكتب الأخرى البيت المتقدم، وأعني به قوله:

هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره

يعز على من رامه ويطول

ولعدم وروده في ديوانه أهمية بالطبع، إذ يجوز أن تكون هذه الزيادة متعمدة لإثبات إنها من شعر السموأل حقًّا، وآية ذلك ورود "الأبلق الفرد" في هذه القصيدة، وليس هناك حصن اشتهر وعرف بهذه التسمية غير هذا الحصن.

وينسب إلى السموال قوله معتذرا لرجل من ملوك كندة:

وإن كنت ما بلغت عني فلامني

صديقي وحزت من يدي الأنامل

1 ديوان السموأل "ص10 وما بعدها"، الحماسة "ص49"، العيني "2/ 77"، الأمالي "1/ 272".

2 الأغاني "9/ 262"، "طبعة دار الكتب المصرية".

ص: 152

وقد ذكر هذا البيت، وكذلك بيت آخر معه في ديوانه. غير أن بعض العلماء ينسبها إلى معدان بن جواس بن فروة السكوني1.

وللأخباريين روايات تختلف بعض الاختلاف في اسم والد السموأل، فمنهم من جعله عادياء، ومنهم من دعاه أوفى، ومنهم من سماه حيان، "حسان"، ومنهم من قال له "السموأل بن غريض بن عاديا"2. وهم يقولون إنه يهودي، ويقولون أحيانًا أنه من غسان، وغسان بالطبع ليست من يهود. ومنهم من قال أن والده من يهود، أما أمه فكانت من غسان3. فهو إذن ذو نصفين -إذا صح التعبير- نصف يهودي، ونصف آخر عربي. ثم هم يذكرون إنه كانت له صلات وثيقة بأمراء غسان، ولصلته هذه بهم قصده امرؤ القيس، طالبا وساطته له عند الحارث بن أبي شمر الغساني، ليوصله إلى قيصر، فينال بمساعدته حقه من خصومه4. أما نحن، فلا يهمنا من أمر السموأل في هذا المكان شيء، وكل ما يهمنا هو ما له صلة بدين اليهود، وعقيدة يهود الجاهلية في الحجاز.

ويستشهد الذين يذكرون أن اسم والد السموأل هو "عاديا" ببيت شعر نسبوه إلى السموأل هو:

بني له عاديا حصنا حصينا

وعينا كلما شئت استقيت

فقالوا أن أباه "عاديا" اليهودي، وهو باني ذلك الحصن5.

وقد جعل "ابن دريد" نسب السموأل" في "بني غسان"، وجعل عمود نسبه على هذا النحو: "السموأل بن حيا بن عادياء بن رفاعة بن الحارث بن ثعلبة بن كعب"6.

1 ديوان السموأل "ص43 وما بعدها"، سمط الآلئ "457".

2 الأغاني "3/ 12"، "9/ 98"، الميداني "2/ 276"، تاج العروس "7/ 382"، "السموأل بن أوفى بن عادياء بن رفاعة بن جفنة" التاج "7/ 382"، المشرق، السنة الثانية عشرة "1909"، "ص176"، "دار الأندلس".

3 الأغاني "19/ 98"، المشرق، العدد المذكور.

4 الأغاني "19/ 98".

5 تاج العروس "6/ 298".

6 الاشتقاق "2/ 259""وستنفلده".

ص: 153

ولا يستبعد بعض المستشرقين احتمال كون السموأل من أصل عربي، هو من غسان. تهود في جملة من تهود من العرب، لا سيما أن في منطقة يثرب أحياء نص على أصلها العربي، دخلت في هذا الدين. وقد ذهب بعضهم إلى احتمال وجود رجلين بهذا الاسم: رجل غساني عربي، وآخر يهودي1.

وفي هذا البيت المنسوب إلى الأعشى:

أرى عاديا لم يمنع الموت ما له

وفرد بتيماء اليهودي أبلق

ما يشير على يهودية السموأل، وهو يشير أيضًا إلى غنى عادياء وكثرة ماله.

وقد عرف حصن السموأل بالأبلق، وبالأبلق الفرد، وهو حصن مشرف على تيماء، وقد ذكر الإخباريون أنه إنما دعي بالأبلق، لأنه كان في بنائه بياض وحمرة. وكان أول من بناه عادياء أبو السموأل. وقد ذكر ياقوت الحموي أن موضعه على رابية فيها آثار أبنية من لبن لا تدل على ما يحكى عنه من العظمة والحصانة، وهو خراب2 ولست أرى ان الأبلق أو الأبلق الفرد هي تسمية ذلك الحصن، إنما هي صفة له، أخذت من البيت:

هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره

يعز على من رامه ويطول

وهو بيت ينسب قوله إلى السموأل ومن أبيات أخرى تنسب إلى الأعشى.

وورد في أبيات منسوبة إلى الأعشى أن باني الأبلق هو "سليمان"، قال:

ولا عاديا لم يمنع الموت ما له

وحصن بتيماء اليهودي أبلق

بناه سليمان بن داود حقبة

لا أزج علا وطئ موثق

يوازي كبيدات السماء ودونه

بلاط ودارات وكلس وخندق

ولكن هذا البيت يناقض ما ينسب إلى السموأل من شعر فيه أن باني ذلك

1 Zeitschrift fur Assyioiogie 1912 S 174

2 البلدان "1/ 86"، القزويني، آثار البلاد "48"، المشرق "1909"، "163"، تاج العروس "6/ 298"، "بلق".

3 البلدان "1/ 87"، تاج العروس "6/ 298".

ص: 154

الحصن، هو أبوه "عاديا""عادياء". ولست استبعد أن يكون أكثر هذا الشعر من الشعر المصنوع في الإسلام. وأما نسبة بناء الحصن إلى سليمان، فهي من الأمور المألوفة التي رواها أهل الأخبار عن أبنية سليمان في جزيرة العرب. وردت من أساطير روجها اليهود بين العرب في الجاهلية وفي الإسلام عن عظمة سليمان وبنائه الأبنية العظيمة. وقد خصصوا سليمان دون سائر رجال اليهود بالبناء، لبنائه الهيكل الذي أدهش العبرانيين ولا شك، ولم يكن لهم عهد بمثل هذا العهد من قل. ومن يدري، فلعل هذه الأبيات المنسوبة إلى الأعشى هي من عمل أناس في الإسلام كلفهم اليهود صنعها، للتفاخر والتباهي بمآثرهم الماضية، أو أنها حقًّا من قول الأعشى، صنعها لليهود بعد أن فك شريح أسره وأعطاه شيئًا من المال، والمال مالك لكل لسان.

وزعم أهل الأخبار أن الملكة "الزباء" قصدت هذا الحصن، وحصن مارد، فعجزت عنهما، فقالت:"تمرد مارد وعز والأبلق"، فسيرته العرب مثلا لكل عزيز ممتنع1. و"مارد" حصن بدومة الجندل2.

ونحن إذا تتبعنا الشعر المنسوب إلى السموأل، نجد معظمه كما قلت منتحلا موضوعا، صنع فيما بعد. وإذا تتبعنا سيرة هذا الشخص وما قيل فيه، نجد أكثره مما لا يستطيع الثبات للنقد. ولعل هذا هو الذي حمل بعض المستشرقين على الشك لا في شعر السموأل وحده، بل في شخصية السموأل نفسها، فذهبوا إلى أنها من اختراع أهل الأخبار، اخترعوها لما سمعوه من قصص مذكور في التوراة عن "صموئيل"3.

وقد نسب بعض المستشرقين بقاء شعر السموأل وعد ذهابه في الإسلام إلى أهله الذين دخلوا في الإسلام، وبقوا في أماكنهم من تيماء، فلم يكن من الهين عليهم نبذ شعره وتركه، ولهذا حافظوا عليه، فكانت محافظتهم هذه عليه سبب بقائه حتى اليوم4.

1 تاج العروس "6/ 298"، "بلق".

2 تاج العروس "2/ 500".

3 MargoIiouth p 72 Winckier in MVAG Bd VI S262

4 IsImec CuIture III 2 p 190 "1939"

ص: 155

وقد ذكر الإخباريون أسماء ثلاثة أولاد للسموأل. أولهم شريح الذي مر ذكره. وثانيهما حوط، وثاليهما منذر. ولا نعرف من أمرهما غير الاسم. ويظن أن حوطا هو الذي وقع في الأسر فذبح1.

أما "سعية بن غريض""شعية بن غريض بن السموأل""شعبة"، فهو أخو السموأل على رواية لأبي الفرج الأصبهاني، جعلت اسم والد السموأل:"غريض بن عادياء"2، وهو حفيده على رواية أخرى. وقد أورد له الأصبهاني جملة أبيات في أثناء كلامه على السموأل3. ويذكر أنه كان غنيا صاحب أملاك وأموال، يعقد المجالس، وينادمه قوم من الأوس والخزرج، وأن بعض ملوك اليمن أغار عليه فانتف من ماله حتى افتقر ولم يبق له مال، ثم عاد إليه حاله، وأنه عاش عليه فانتسف من ماله حتى افتقر ولم يبق له مال، ثم عاد إليه حاله، وأنه عاش طويلا إلى أيامه معاوية، وإنه دخل في الإسلام، وأن معاوية رآه يصلي في المسجد الحرام، فطلب حضوره، وسأله عن شعر أبيه الذي يرىثي به نفسه، فأنشده قصيدته:

يا ليت شعري حين أندب هالكا

ماذ تؤبني به أنواحي

ويذكر رواة هذا الخبر أن "سعية" كان شيخا طاعنا في السن يومئذ. وإنه لم يكن يرى حقًّا لمعاوية في الخلافة، ولذلك لم يقبل أن يسلم عليه بالخلافة، وإنه أجاب أجوبة فيها خشونة وجفاء، وإن الخليفة كف أصحابه من الإساءة إليه قائلا لهم: قد خرف الشيخ، فأقيموه. فأخذ بيده فأقيم.

والقصيدة المذكورة ينسبها بعض الرواة إلى السموأل، وهذه النسبة تجعل السموأل أبا لسعية لا أخا له. أما إذا جعلناها من شعر غريض "عريض"، والد سعية، فلا يكون هناك إشكال ما من ناحية نسبة القصيدة، غير أن علينا حينئذ جعل "سعية""شعية" حفيدا للسموأل، في رواية من جعله "شعية بن غريض بن السموأل". بإضافة ولد آخر على أولاد السموأل، اسمه "غريض""الغريض".

1 المشرق، السنة "1909"، "ص163".

2 الأغاني "19/ 100"، طبقات الشعراء، لابن سلام "111"، "اليهود "31".

3 NoIdeke Betrage

ص: 156

وذكر البحتري في "حماسته" اسم شاعر يهودي آخر، هو: عريض بن شعبة، ونسب إليه هذا الشعر:

ليس يعطي القوي فضلا من الرز

ق ولا يحرم الضعيف الخبيث

بل لك رزقه ما قضى اللـ

ـه ولو كد نفسه المستميت1

وهو من شعر السموأل نفسه على رواية بعض الإخباريين يروونه له مع شيء من الاختلاف2.

أما "الربيع بن أبي الحقيق"، فهو من بني قريظة على رواية، أو من بني النضير على رواية أخرى. وقد اشترك في يوم بعاث، وعاصر النابغة الشاعر الشهير، وخلف جملة أولاد ناصبوا الرسول العداء3.

ومن بقية شعراء يهود: "أوس بن دنى" من قريظة4، و"كعب بن الأشرف"5، و"سماك اليهودي". وهو شاعر قوي في رده على المسلمين عنيف6.

وكان "كعب بن الأشرف" رجلا شاعرا يهجو النبي وأصحابه ويحرض عليه ويؤذيهم. خرج إلى مكة ونزل على "المطلب بن أبي وداعة السهمي"، بعد معركة بدر" وجعل يحرض على رسول الله وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب. فكان حاصل هجائه القتل7.

وكان "أو دعفك" اليهودي من يحرض على رسول الله ويقول الشعر، وكان شيخا كبيرا. فقتل لتحريضه على رسول الله وقوله الشعر فيه8.

1 NoIdeke Beitrage s 71

2

ليس يعطي القوي فضلا من الرز

ق ولا يحرم الضعيف الشخيت

بل لكل من رزقه ما قضى اللـ

ـه وأن حز أنفه المستميت

3 الأغاني "21/ 61"، NoIdke BeIrage s 72

4 الأغاني "19/ 94".

5 الأغاني "19/ 106"، ابن هشام "2/ 123"، "حاشية على الروض".

6 نهاية الأرب "2/ 179"، "حاشية على الروض".

7 نهاية الأرب "17/ 72 ومابعدها".

8 نهاية الأرب "17/ 66 وما بعدها".

ص: 157

‌الفصل التاسع والسبعون: النصرانية بين الجاهليين

‌مدخل

الفصل التاسع والسبعون النصرانية بين الجاهليين

ولم تكن اليهودية، الديانة السماوية الوحيدة التي وجدت لها سبيلا إلى جزيرة العرب، بل وجدت ديانة الوحيدة التي وجدت لها سبيلا إلى جزيرة العرب، بل وجدت ديانة سماوية أخرى طريقا لها إلى العرب، هي الديانة النصرانية، وهي ديانة أحدث عهدا من الديانة الأولى، لأنها قامت بعدها، ونشأت على أسسها ومبادئها، ولكنها كانت أوسع أفقا وتفكيرا من الأولى. فبينما حبست اليهودية نفسها في بني إسرائيل، وجعلت إلهها إله بني إسرائيل شعب الله المختار، جعلت النصرانية ديانتها ديانة عالمية جاءت لجميع البشر. وبينما قيدت اليهودية أبناءها بقيود تكاد تضبط حركاتهم وسكناته، وفرضت عليهم فروضا ثقيلة، نجد النصرانية أكثر تساهلا وتسامحا، فلم تقيد أبناءها بقيود شديدة، ولم تفرض عليهم أحكاما اشترطت عليهم وجوب تنفيذها. وقد قام رجال الدين النصارى منذ أول نشأتها بالتبشير بها، وبنشرها بين الشعوب، وبذلك تميزت عن اليهودية التي جمدت، واقتصرت على بني إسرائيل.

ولفظة "النصرانية" ،"نصارى" التي تطلق في العربية على أتباع المسيح، من الألفاظ المعربة، يرى بعض المستشرقين أنها من أصل سرياني هو:"نصرويو" Nosroyo، "نصرايا" Nasraya1، ويرى بعضآخر أنها من Nazereneds التسمية العبرانية التي أطلقها اليهود على من اتبع ديانة المسيح. وقد وردت في

1 غرائب اللغة "ص207"، Ency III p 848

ص: 158

العد الجديد في "أعمال الرسل" حكاية على لسان يهود1، ويرى بعض المؤرخين أن لها صلة "بالناصرة" التي كان منها "يسوع" حيث يقال:"يسوع الناصري" أو أن لها صلة بـ "الناصريين""Nazarenes= Nasarenes إحدى الفرق القديمة اليهودية المتنصرة. وقد بقي اليهود يطلقون على من اتبع ديانة المسيح "النصارى"، وبهذا المعنى وردت الكلمة في القرآن الكريم، ومن هنا صارت النصرانية علما لديانة المسيح عند المسلمين.

ولعلماء اللغة الإسلاميين آراءب في معنى هذه الكلمة وفي أصلها، هي من قبيل التفسيرات المألوفة المعروفة عنهم في الكلمات الغريبة التي لا يعرفون لها أصلا. وقد ذهب بعضهم إلى أنها نسبة إلى الناصرة التي نسب إليها المسيح2. وزعم بعض منهم أنها نسبة إلى قرية يقال لها "نصران"، فقيل نصراني وجمعه نصارى3. وذكر أن "النصرانة" هي مؤنث النصراني4.

ولم أعثر حتى الآن على نص جاهلي منشور وردت فيه هذه التسمية. أما في الشعر الجاهلي، وفي شعر المخضرمين، فقد ذكر أن أمية بن أبي الصلت ذكرهم في هذا البيت:

أيام يلقى نصاراهم مسيحهم

والكائنين له ودا وقربانا5

وذكر أن شاعر جاهليا ذكر النصارى في شعر له، وهو:

إليك تعدو قلقا وضينها

معترضا في بطنها جنينها

مخالفا دين النصارى دينها

1 أعمال الرسل: الإصحاح 24، الآية 5 "فإننا إذا وجدنا هذا الرجل مفسدا، ومهيج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكونة ومقدام شيعة الناصريين".Ency ReIig Ethic Ethic IIIp574

2 اللسان "7/ 68"، تاج العروس "3/ 568"، "نصر".

3 المفردات، للأصفهاني "ص514".

4

فكلتاهما خرت وأسجد رأسها

كما أسجدت نصرانة لم تحنف

اللسان "7/ 68"، "نصر"، و"النصرانية وأحدة النصارى"، تاج العروس "3/ 569"، "نصر".

5 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص187".

ص: 159

وذكر أن جابر بن حنى قال:

وقد زعمت بهراء أن رماحنا

رماح نصارى لا تخوض إلى دم1

وأن حاتما الطائي قال في شعر له:

وما زلت أسعى بين ناب ودارة

بلحيان حتى خفت أن أتنصرا2

وأن "طخيم بن أبي الطخماء" قال في شعر له في مدح بني تميم:

وإني وإن كانوا نصارى أحبهم

ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق3

وأن حسان بن ثابت قال:

فرحت نصارى يثرب ويهودها

لما توارى في الضريح الملحد4

غير أن هذه الأبيات وأمثالها إن صح إنها لشعراء جاهليين حقًّا، هي من الشعر المتأخر الذي قيل قبل الإسلام. أما قبل ذلك، فليس لنا علم بما كان العرب يسمون به النصارى من تسميات.

والذي نعرفه أن قدماء النصارى حينما كانوا يتحدثون عن أنفسهم كانوا يقولون: "تلاميد" Discipies، "تلاميذ المسيح"، ذلك أنهم كانوا ينظرون إلى المسيح نظرتهم إلى معلم يعلمهم5 وكذلك نظروا إلى حوارييه، فورد "تلاميذ يوحنا" وقصدوا بذلك النصارى6. وهذه التعابير من أقدم التعابير التي استعلمها النصارى للتعبير عن أنفسهم.

كذلك دعا قدماء النصارى جماعتهم بـ "الأخوة" وبـ"الأخوة في الله" Brethren in Lord للدلالة على الجماعة، وبـ "الأخ" للتبعير عن الفرد،

1 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص171، 225"، شعراء النصرانية "190"، المشرق، السنة السابعة "1904، "620 وما بعدها".

2 الأغاني "16/ 104" النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "171، 225".

3 المشرق، السنة السابعة "1904 "602 وما بعدها".

4 ديوان حسان "24".

5 Hastings p 192

6 انجيل مرقس: الإصحاح الثاني، الآية 18.

ص: 160

ذلك لأن العقيدة قد آخت بينهم، فصار النصارى كلهم إخوة في الله وفي الدين1. ثم تخصصت كلمة "الأخ" برجل الدين2. ودعوا أنفسهم "القديسين" Sainte3 والمؤمنين4 والمختارين الأصفياء والمدعوين، ويظهر أنها لم تكن علمية، وإنما وردت للإشارة إلى التسمية التي تليها.

وقد كنى عن مجتمع النصارى بـ "الكنيسة" EccIesia وتعني "المجمع" في الإغريفية، بمعنى المحل الذي يجتمع فيه المواطنون. فكنى بها عن المؤمنين وعن الجماعة التابعة للمسيح. كما عبر عن النصارى بـ "الفقراء وبـ "الأصدفاء"5.

وقد عرف النصارى بـ Christians نسبة إلى Christos اليونانية التي تعني "المسيح" Messiah، أي المنتظر المخلص الذي على يديه يتم خلاص الشعب المختار. ويسوع هو المسيح، أي المنتظر المخلص الذي جاء للخلاص كما جاء في عقيدة أتباعه، ولذلك قيل لهم أتباع المسيح. فأطلقت عليهم اللفظة اليونانية، وعرفوا بها، تمييزا لهم عن اليهود. وقد وردت الكلمة في أعمال الرسل وفي رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتوس6.

أما في القرآن الكريم وفي الأخبار، فلم ترد هذه اللفظة اليونانية الأصل. ولهذا نجد أن العربية اقتصرت على إطلاق "نصارى" و"نصراني" و"نصرانية" على النصارى تمييزا لهم عن أهل الأديان الأخرى. أما مصطلح "عيسوي" و"مسيحي"، فلم يعرفا في المؤلفات العربية القديمة وفي الشعر الجاهلي، فهما

1 Hastings p 104

2 أعمال الرسل، الإصحاح الأول، الآية 15 وما بعدها.

Ency ReIi Ethic 3 p 573

3 رسالة بولس الرسول، الأولى إلى أهل كورنتوس، الإصحاح الأول، الآية الأولى وما بعدها.

4 أعمال الرسل: الإصحاح الخامس، الآية 14، رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس، الإصحاح الأول: الآية الأولى وما بعدها.

5 Ency ReIi Ethic 3 p 574

6 أعمال الرسل: الإصحاح الحادي عشر: الآية 26، الإصحاح 26، الآية 28، رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتوس: الإصحاح الرابع، الآية 16،

Hastings p 127

ص: 161

من المصطلحات المتأخرة التي أطلقت على النصارى1. وقد قصد في القرآن الكريم بـ "أهل الإنجيل"2 النصارى، إذ لا يعترف اليهود بالإنجيل. وقد أدخل علماء اللغة اللفظة في المعربات3.

وأهم علامة فارقة ميزت نصارى عرب الجاهلية عن العرب الوثنيين، هي أكل النصارى للخنازير، وحملهم للصليب وتقديسه. ورد أن الرسول قال لراهبين أتياه من نجران ليبحثا فيما عنده:"يمنعكما عن الإسلام ثلاث: أكلكما الخنزير، وعبادتكما الصليب، وقولكما الله ولد"4. وورد أنه رأى "عدي بن حاتم الطائي" وفي عنقه صليب من ذهب، لأنه كان على النصرانية5.

وورد في شعر ذي الرمة:

ولكن أصل امرئ القيس معشر

يحل لهم أكل الخنازير والخمر6

يريد إنهم نصارى في الأصل، فهم يختلفون عن المسلمين في أكلهم لحم الخنزير وفي شربهم للخمر.

وقد أقسم النصارى بالصليب. هذا "عدي بن زيد" يحلف به في شعر ينسب إليه، فيقول:

سعى الأعداء لا يألون شرا

عليك ورب مكة والصليب7

ليس في استطاعتنا تعيين الذي دخلت فيه النصرانية إلى جزيرة العرب. وتحاول مؤلفات رجال الكنائس رد ذلك التاريخ إلى الأيام الأولى من التأريخ النصراني8، غير أننا لا نستطيع أقرارهم على ذلك، لأن حججهم في ذلك غير

1 Hughes Dictionary of IsIam p 431

2 المائدة، الآية 47.

3 النهاية في غريب الحديث "4/ 136"، المعرب، للجوالقي "23".

4 البلاذري: 71".

5 اللسان "13/ 443"، و"ثن" السيوطي، الدر المنثور "10/ 75".

6 النصرانية "75".

7 شيخو، شعراء النصرانية "451".

8 النصرانية وآدابها، القسم الأول، تأليف لويس شيخو، بيروت 1912م.

ص: 162

كافية للاقناع. ولذلك فليس من الممكن تثبيت تأريخ لانتشارها في هذه الأماكن في الزمن الحاضر، وليس لنا إلا التفتيش عن أقدم الوثائق المكتوبة للوقوف عليها بوجه لا يقبل الشك ولا التأوي. ونحن أمام بحث علمي، يجب أن تكون العاطفة بعيدة عنه كل البعد.

وإذا كانت اليهودية قد دخلت جزيرة العرب بالهجرة والتجارة، فإن دخول النصرانية إليها كان بالتبشير وبدخول بعض النساك والرهبان إليها للعيش فيها بعيدين عن ملذات الدنيا، وبالتجارة، وبالرقيق ولا سيما الرقيق الأبيض المستورد من أقطار كانت ذات ثقافة وحضارة. أما هجرة نصرانية كهجرة يهود إلى الحجاز أو اليمن أو البحرين، فلم تحدث، ذلك لأن النصرانية انتشرت في إمبراطورية الروم والساسانيين بالتدريج، ثم صارت ديانة رسمية للقياصرة والروم وللشعوب التي خضعت لهم، فلم تظل النصرانية أقلية هناك، لتضطر إلى الهجرة جماعة وكتلة إلى بلد غريب. لذلك كان حديثنا عن نصارى العرب من حيث الأصل والأرومة، يختلف عن حديثنا عن أصل يهود اليمن أو الحجاز.

وبفضل ما كان لكثير من المبشرين، من علم ومن وقوف على الطلب والمنطق ووسائل الإقناع وكيفية التأثير في النفوس، تمكنوا من اكتساب بعض سادات القبائل فأدخلوهم في دينهم، أو حصلوا منهم على مساعدتهم وحمايتهم. فنسب دخول بعض سادات القبائل ممن تنصر إلى مداواة الرهبان لهم ومعالجتهم حتى تمكنوا من شفائهم مما كانوا يشكون منه من أمراض. وقد نسبوا ذلك إلى فعل المعجزات والبركات الإلهية، وذكر بعض مؤرخي الكنيسة أن بعض أولئك الرهبان القديسين شفوا بدعواتهم وببركات الرب نساء العقيمات من مرض العقم فأولدن أولادا، ومنهم من توسل إلى الله أن يهب لهن ولدا ذكرا، فاستجاب دعوتهم، فوهب لهم ولدا ذكرا، كما حدث ذلك لضجعم سيد الضجاعمة، إذ توسل أحد الرهبان إلى الله أن يهب له ولدا ذكرا، فاستجاب له. فلما رأى ضجعم ذلك، دخل في دينه وتعمد هو وأفراد قبيلته1. ومنهم من شفي بعض الملوك العرب من أمراض كانت به مثل "مارايشوا عزخا" الراهب. ذكروا أنه شفى النعمان ملك الحيرة من مرض عصبي ألم به، وذلك بإخراجه الشيطان

1 النصرانية وآدابها "1/ 35"، Sozomene Hist EccI VI 38

ص: 163

من جسده1.

وفي تواريخ الكنيسة قصص عن أمثال هذه المعجزات المنسوبة إلى القديسين، كالتي نسبوها إلى القديس "سمعان العمودي""المولود نحو سنة 360م" يذكرونها على أنها كانت سببا في هداية عدد من الأمراء وسادات القبائل إلى النصرانية، وبفضل تنصرهم دخل كثير من أتباعهم في هذا الدين2. وكالتي نسبوها إلى القديس "أفتميوس" الذي نضر بفضل هذه المعجزات جمعا من الأعراب وأسكنهم في أماكن خاصة أنشأ فيها كنائس أطلق عليها في اليونانية ما معناه "المحلة" أو "المعسكر"3.

ولم يعبأ المبشرون بالمصاعب والمشقات التي كانوا يتعرضون لها، فدخلوا مواضع نائية في جزيرة العرب، ومنهم من رافقوا الأعراب، وعاشوا عيشتهم، وجاروهم في طراز حياتهم، فسكنوا معهم الخيام، حتى عرفوا بـ "أساقفة الخيام" وبـ "أساقفة أهل الوبر"، وبأساقفة القبائل الشرقية المتحالفة وبأساقفة العرب البادية. وقد ذكر أن مطران "بصرى" كان يشرف على نحو عشرين أسقفا انتشروا بين عرب حوران وعرب غسان وقد نعتوا بالنعوت المذكورة، لأنهم كانوا يعيشون في البادية مع القبائل عيشة أهل الوبر4.

وقد دخل أناس من العرب بالنصرانية باتصالهم بالتجار النصارى وبمجالستهم لهم. روي أن رجلا من الأنصار، يقال له "أبو الحصين"، كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا، أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية فرجعا إلى الشام معهم5.

ودخلت النصرانية جزيرة العرب مع بضاعة مستوردة من الخارج، هي تجارة الرقيق من الجنسين، فقد كان تجار هذه المادة الرابحة يستوردون بضاعتهم من أسواق عالمية مختلفة، ولكن أثمن هذه البضاعة وأغلاها هي البضاعة المستوردة من إمبراطوريةي الروم والفرس، لمميزات كثيرة امتازت بها أنواع المستوردة

1 الديورة في مملكتي الفرس والروم، للقس بولس شيخو "ص32، 47".

2 النصرانية وآدابها "1/ 81 وما بعدها".

3 المشرق: السنة الثانية عشرة، الجزء5. آذار "1909م"، "ص344 وما بعدها".

4 النصرانية "1/ 37".

5 تفسير الطبري "3/ 10"، تفسير القرطبي "3/ 280 وما بعدها".

ص: 164

من إفريقية مثلا. فقد كان صنفها من النوع الغالي الممتاز بالجمال والحسن والاتقان ثم بالابتكار وبالقيام بأعمال لا يعرفها من هم من أهل إفريقية. ومن الروميات والصقلبيات والجرمانيات من صرن أمهات لأولاد عدوا من صميم العرب. وقد كان أكثرهن، ولا سيما قبيل ظهور الإسلام، على النصرانية. ومن بينهن من خلدت أسماؤهن لتتحدث للقادمين من بعدهم من الأجيال عن أصولهن في العجم وعن الدين الذي كن عليه.

وقد كان في مكة وفي الطائف وفي يثرب وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب رقيق نصراني كان يقرأ ويكتب للناس ويفسر للناس ما جاء في التوراة والأناجيل، ويقص عليهم قصصًا نصرانيا ويتحدث إليهم عن النصرانية، ومنهم من تمكن من إقناع بعض العرب في الدخول في النصرانية، ومنهم من أثر على بعضهم، فأبعده عن الوثنية، وسفه رأيها عندهم، لكنهم لم يفلحوا في أدخالهم في دينهم، فبقوا في شك من أمر الديانتين، يرون أن الحق في توحيد الله وفي اجتناب الأوثان، لكنهم لم يدخلوا في نصرانية، لأنها لم تكن على نحو ما كانوا يريدون من التوحيد وتحريم الخمر وغير ذلك مما كانوا يبتغون ويشترطون.

وقد أثرت الأديرة تأثيرا مهما في تعريف التجار العرب والأعراب بالنصرانية. فقد وجد التجار في أكثر هذه الأديرة ملاجئ يرتاحون فيها ومحلات يتجهزون منها بالماء، كما وجدوا فيها أماكن للهو والشرب: يأنسون بأزهارها وبخضرة مزارعها التي أنشأها الرهبان، ويطربون بشرب ما فيها من خمور ونبيذ معتق امتار بصنعة الرهبام. وقد بقيت شهرة تلك الأديرة بالخمور والنبيذ قائمة حتى في أيام الإسلام. ومن هؤلاء الرهبان ومن قيامهم بشعائرهم الدينية، عرف هؤلاء الضيوف شيئًا عن ديانتهم وعما كانوا يؤدونه من شعائر. وقد أشير إلى هؤلاء الرهبان الناسكين في الشعر الجاهلي، وذكر عنهم أنهم كانوا يأخذون المصابيح بأيديهم لهداية القوافل في ظلمات الليل1.

وقد كانت هذه الأديرة، وهي بيوت خلوة وعبادة وانقطاع إلى عبادة الله والتفكير فيه، مواطن تبشير ونشر دعوة. وقد انتشرت حتى في المواضع القصية من البوادي. وإذا طالعنا ما كتب فيها وما سجله أهل الأخبار أو مؤرخو الكنائس

1 WeIhausen Reste S 232

ص: 165

عن أسمائها، نعجب من هذا النشاط الذي عرف به الرهبان في نشر الدعوة وفي إقامة الأديرة للإقامة فيها مواضع لا تستهوي أحدا. وهي متقاربة عديدة في بلاد العراق وفي بلاد الشام. بل نجد لها ذكرا حتى في الحجاز ونجد وفي جنوبي جزيرة العرب وشرقيها: تتلقى الاعانات من كنائس العراق والشام ومن الروم، حتى تمكنت من التبشير بين أكثر القبائل. ولولا ظهور الإسلام ونزول الوحي على الرسول في الحرمين، لكان وجه العالم العربي ولا شك غير ما نراه الآن. كان العرب في الحرمين، لكان وجه العالم العربي ولا شك غير ما نراه الآن. كان العرب على دين النصرانية وتحت مؤثرات ثقافية أجنبية، هي الثقافة التي اتسمت بها هذه الشيع النصرانية المعروفة حتى اليوم.

وقد ذكر "ابن قتيبة الدينوري": أن النصرانية كانت في ربيعة، وغسان، وبعض قضاعة1 وقال "اليعقوبي":"واما من تنصر من أحياء العرب، فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى، منهم عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وورقة بن نوفل بن أسد. ومن بني تميم: بنو امرئ القيس بن زيد مناة، ومن ربيعة: بنو تغلب، ومن اليمن: طئ ومذحج وبهراء وسليح وتنوخ وغسان ولخم"2.

وطبيعي أن يكون انتشار النصرانية في العرب ببلاد الشام واضحا ظاهرا أكثر منه في أي مكان آخر. وأقصد ببلاد الشام ما يقصده علماء الجغرافيا العرب من هذا المصطلح. فقد كان لعرب هذه الديار علاقة مباشرة واتصال ثقافي بغيرهم من سكان هذه الأرضين الذين دخل أكثرهم في الديانة النصرانية، والذين صارت هذه الديانة ديانة بلادهم الرسمية بعد دخول الروم فيها واتخاذهم النصرانية دينا رسميا للدولة منذ تنصير الشعوب الخاضعة لهم، لا تقربا إلى الله وحده، بل لتمكين سلطانهم عليهم، واخضاعهم روحيا لهم. ولهذا كان من سياسة البيزنطيين نشر النصرانية بين أتباها وفي الخارج وإرسال المبشرين والأغداق عليهم ومدهم بالأموال لنشر الدعوة وتأسيس مكاتب للتبشير، وبالفعلة لبناء الكنائس الفخمة الجميلة على طراز في أنيق جميل غير معروف بين من سيبشر بهذا الدين بينهم. وبذلك تبهر عقولهم، فتشعر أن الدين الجديد مزايا ليست في دينهم، وأن معابده أفخم من

1 المعارف "621"، البدء والتأريخ "4/ 31"، الأعلاق النفيسة "217".

2 اليعقوبي "1/ 227".

ص: 166

معابدهم، ورجال دينه أرقى من رجال دينهم، وبذلك يأتون إليها. وللبهرجة والفخفخة أثر عظيم في كثير من الناس، فالعين عند أكثر البشر، تقوم مقام العقل. وقد يكون ما قام به الأحباش في اليمن من إنشاء الكنائس العظيمة فيها وتفننهم في تزويقها وتجميلها وفي فرشها بأفخر الرياش والفراش لصرف الناس عن الكعبة كما يزعم أهل الأخبار دليلا على ما أقول.

وقد وجدت النصرانية لها سبيلا بين عرب بلاد الشام وعرب بادية الشام والعراق. فدخلت بين "سليح"، و"الغساسنة"، و"تغلب"، و"تنوخ"، و"لخم"، و"إياد"1. وقد انتشرت بين عرب بلاد الشام بنسبة تزيد على نسبة انتشارها بين عرب بلاد العراق، وهو شيء طبيعي، فقد كانت بلاد الشام تحت حكم البيزنطيين، وديانتهم الرسمية، هي الديانة النصرانية، وكانوا يعملون على نشرها وترويجها بين شعوب "إمبراطوريةهم"، وبين الشعوب الأخرى، لا سيما الشعوب التي لهم مصالح اقتصادية معها. ففي نشر النصرانية بينهم وادخالهم فيها، تقريب لتلك الشعوب منهم، وتوسيع لنفوذهم السياسي بينهم، وتقوية لمعسكرهم المناهض لخصومهم الفرس، أقوى دولة معادية لهم في ذلك الوقت. ولهذا سعت القسطنطينة لإدخال عربهم في النصرانية، وعملت كل ما أمكنها عمله للتأثير على سادات القبائل لإدخالهم في دينهم، بدعوتهم لزيارة كنائسهم وبإرسال المبشرين اللبقين إليهم، لاقناعهم بالدخول فيها، وبإرسال الأطباء الحاذقين إليهم لمعالجتهم، وللتأثير عليهم بذلك في اعتناق النصرانية، كما دعوهم لزيارة العاصمة، لمشاهدة معالمها ولأنهار عقولهم بمشاهدة كنائسها، والاتصال بكبار رجال الدين فيها، لتعليمهم أصول النصرانية. وأظهروا لهم مختلف وسائل المعونة والمساعدة إن دخلوا في ديانتهم، وبذلك أدخلوهم في النصرانية فصاروا إخوانا للروم في الدين.

نعم، دخل سادات القبائل والحكام العرب التابعون لهم في هذه الديانة، فصاروا نصارى، ولكنهم لم يأخذوا نصرانية الروم، بل أخذوا نصرانية شرقية مخالفة لكنيسة "القسطنطية"، فاعتنقوها مذهبا لهم. وهي نصرانية عدت "هرطقة" وخروجا على النصرانية الصحيحة "الأرثوذكسية" في نظر الروم. نصرانية متأثرة

1 اليعقوبي "1/ 227"، "أديان العرب".

ص: 167

بالتربة الشرقية، وبعقلية شعوب الشرق الأدنى، نبتت من التفكير الشرقي في الدين، ولهذا تأثرت بها عقلية هذه الشعوب فانتشرت بينها، ولم تجد لها إقبالا عند الروم وعند شعوب أوروبة. وكان من جملة مميزاتها عكوفها على دراسة العهد القديم، أي التوراة، أكثر من عكوفها على دراسة الأناجيل1.

والنصرانية التي شاعت بين عرب بلاد الشام، هي النصرانية اليعقوبية، أو المذهب اليعقوبي بتعبير أصح. وهو مذهب اعتنقه أمراء الغساسنة وتعصبوا له، ودافعوا عنه، وجادوا رجال الدين في القسطنطنية وفي بلاد الشام في الذب عنه. فزعم مثلا أن "الحارث بن جبلة""ملك العرب النصارى" تغلب في مناظرة جرت له مع "البطريرك بن جبلة""526- 545م" على "البطريرك" وأفحمه في جوابه. وكان إفرام، وهو على مذهب "المكيين"، قد قصده لإقناعه بترك المذهب "المنوفيزيتي" والدخول في مذهبه2. ونسبوا إلى "المنذر بن الحارث" دفاعًا شديدًا عن "المنوفيزيتية"، أي المذهب الذي كان عليه الغساسنة من مذاهب النصرانية، وذكروا أنه أَنَّبَ "البطريرك دوميان" وهو في القسطنطنية على تهجمه على "المنوفيزيتين"، وعمل جهده في التقريب بين مذهبه ومذهب القيصر، واتصل بالقيصر "طيباريوس" "578-5682م" ليعمل على بث روح التسامح بين المذاهب النصرانية وترك الحرية للأفراد في دخول المذهب الذي يريدونه والصلاة في أية كنيسة يريدها النصراني2.

ويظهر أن بعض الضجاعمة الذين كانوا يتولون حكم عرب الشام قبل الغساسنة كانوا على دين النصرانية. غير إننا لا نستطيع أن نحكم على أي مذهب من مذاهب النصرانية كانوا. فذكروا أن "زوركوموس"، وهو "ضجعم" جد الضجاعمة تنصر على يد أحد الرهبان، وذلك أن هذا الرئيس كان متهلفًا إلى مولود ذكر، فجاءه هذا الراهب، وتضرع إلى الله أن يهبه ولدًا ذكرًا، فلما استجاب الله له تعمد وتبعته قبيلته3.

1 NoIdeke Geschichte des goraus Is7

2 المشرق، السنة الرابعة والثلاثون، كانون الثاني -آذار، 1936 "ص61 وما بعدها".

3 النصرانية "1/ 35".

ص: 168

وقد كان مشهد القديس "سرجيوس" في "الرصافة"، من أهم المزارات التي تقصدها المتنصرة من عرب الشام، مثل الغساسنة وتغلب. وقد تقرب إليه بعض ملوك الغساسنة بتقديم الهدايا والنذور إليه وبتزيينه وبزيارته، وبالاعتناء بالمدينة وبصهاريجها تكريمًا له، وتقربًا إليه، وظل هذا المزار مقصودًا مدة في الإسلام. وقد عد التغلبيون هذا القديس شفيعهم، جعلوا له راية حملوها معهم في الحروب، وكانوا يحملونها مع الصليب تبركًا وتيمنًا بالنصر1.

وكان حاضر "قنسرين" لتنوخ. أقاموا في طرفها هذا منذ زمن قديم، مذ أول نزولهم بالشام. نزلوا في طرفها وتنصروا. فلما حاصر "أبو عبيدة" المدينة، دعاهم إلى الإسلام، فأسلم بعضهم، وأقام على النصرانية بنو سليح. كذلك كان في طرف قنسرين عشائر من طيء، نزلوا بها في الجاهلية على أثر الحروب التي وقعت فيما بينهم، واستدعت تفرقهم، فأقاموا عند قنسرين مع القبائل العربية الأخرى التي جاءت إلى هذا المكان2.

وكان بقرب مدينة "حلب" حاضر يدعى "حاضر حلب" يجمع أصنافًا من العرب من تنوخ وغيره. فلما جاء "أبو عبيدة" إلى المدينة، صالح من فضل البقاء منهم على دينه على الجزية، ثم أسلم الكثير منهم فيما بعد3.

وتعد بهراء في جملة القبائل العربية المتنصرة عند ظهور الإسلام. تنصرت كما تنصرت غسان وسليح وتنوخ وقوم من كندة، وذلك لنزولها في بلاد الشام ولاتصالها بالروم4.

1 قال الأخطل:

لما رأونا، والصليب طالعا

ومار سرجيس وسما ناقعا

وأبصروا راياتنا لوامعا

خلوا لنا راذان والمزارعا

فأجابه جرير:

أفبالصليب ومار سرجيس تتقي

شهباء ذات مناكب جمهورا

وقال:

ستنصرون بمارسرجيس وابنه

بعد الصليب ومالهم من ناصر

المشرق، السنة الرابعة والثلاثون، نيسان - حزيران، 1936، "ص246 وما بعدها".

2 البلاذري، فتوح "150 وما بعدها"، "أمر جند قنسرين والمدن التي تعدى العواصم".

3 البلاذري، فتوح "151"ز

4 اليعقوبي "1/ 298"، الخراج "146"، النصرانية"125".

ص: 169

وقد سكن قوم من "إياد" السواد والجزيرة، وسكن قوم منهم بلاد الشام، فخضعوا للغساسنة وللروم وتنصروا. وهم في جملة القبائل التي لم يأخذ علماء العربية اللسان عنها لمجاورتها أهل الشام، ولتأثرها بهم، وهم قوم يقرءون ويكتبون بالسريانية، فتأثروا بهم، لروابط الاحتكاك والثقافة والدين1.

وقد ترك لنا رجل من نصارى الشام نصًّا قصيرًا مؤرخا بسنة "463" المقابلة لسنة "568" للميلاد، وهي غير بعيدة عن ميلاد الرسول جاء فيها:"نا شرحيل بر ظلمو بنيت ذا المرطول سنت 463 بعد مفسد خيبر بعم"، أي "أنا شراحيل بن ظالم بنت ذا المرطول بعد مفسد "خيبر" بعام". هو على قصره ذو أهمية عظيمة من الناحية اللغوية، إذ هو النص الجاهلي الوحيد الذي وصل إلينا مكتوبا باللهجة التي تزل بها القرآن الكريم. وهو على ما أعلم النص الجاهلي الوحيد أيضًا الذ وصل إلينا مكتوبا بصيغة المتكلم، فالنصوص الأخرى التي وصلت إليها والمكتوبة بمختلف اللهجات العربية مدونة كلها بضمير الغائب. وهو أيضًا من النصوص العربية القليلة التي تركها النصارى العرب لمن بعدهم في بلاد الشام.

وقد استغل الروم العرب المتنصرة بأن أثاروا في نفوسهم العواطف الدينية على المسلمين، حينما عزم المسلمين على فتح بلاد الشام وطرد البيزنطيين منها، وأغروا سادات القبائل بالمال وبالهدايا وبالوعود حتى اشتروهم فصاروا إلى جانبهم. والمصالح الشخصية هي فوق كل مصلحة عند سادات القبائل، لا يعلوها عندهم مصلحة، فانضموا إليهم، وجاءوا بقبائلهم لتحارب معهم. ومن هذه القبائل العربية التي حاربت مع الروم، غسان. حاربوا معهم في معارك عديدة. ففي يوم اليرموك كانوا في صفوف الروم، وكان رئيسهم "جبلة بن الأيهم الغساني" في مقدمة الجيش الذي أرسله هرقل لمحاربة المسلمين. كان على رأس مستعربة الشام من غسان ولخم وجذام2. وقد اشترك مع الروم في حروب أخرى ضد المسلمين.

وكانت "سليح" في جملة القبائل العربية المتنصرة التي حاربت المسلمين. ولما تقهقر الروم وانهزموا، دفعوا الجزية لاحتفاظهم بدينهم. وكذلك كانت عاملة ولخم وجذام في جملة القبائل المتنصرة التي ساعدت الروم، وآزرتهم. كانوا مع

1 المزهر "1/ 105"، النصرانية "124".

2 البلاذري، فتوح "140"، "يوم اليرموك".

ص: 170

الروم مثلا حين مجئ الرسول إلى "تبوك"1. وظلوا إلى جانبهم يؤيدونهم، حتى تبين لهم أن النصر قد تحلو للمسلمين، وأن الهزائم قد حالفت الروم، عندئذ انضمت في جملة من انضم من منتصرة العرب إلى المسلمين لمحاربة الروم2.

وكادت قبيلة "تغلب" الساكنة غرب الفرات، أن تفر إلى بلاد الروم وتلحق بأرض الروم، لما غلب البيزنطيون على أمرهم وفتحت بلاد الشام والعراق أمام المسلمين. ولما خيرت بين البقاء على دينها ودفع الجزية وبين الدخول في الإسلام، أنفت من دفع الجزية، ورضيت بدفع ضعف الصدقة التي تؤخذ من المسلمين في كل سائمة وأرض3.

وقد نزحت "إياد" إلى بلاد الروم وبقيت بهان ثم عاد جمع منها لإخراج القيصر إياهم، فنزلوا بلاد الشام والجزيرة وانضموا إلى إخوانهم في الجنس4.

ويلي هؤلاء عرب العراق، لاحتكاكهم بالنصارى ولانتشار النصرانية في العراق بالرغم من أن ديانة الحاكمين لهذا القطر كانت ديانة أخرى، وأن النصرانية لم تكن في مصلحة الفرس. غير أن الفرس لم يكونوا يبشرون بدينهم، ولم يكن يهمهم دخول الناس فيه، إذ عدت المجوسية ديانة خاصة بهم، وهذا مما صرف الحكومة عن الاهتمام بأمر أديان الخاضعين لها من غير أبناء جنسها، إلا إذا وجدتها تتعارض مع سياستها، وتدعوا إلى الابتعاد عنها. ثم إن النصرانية إلا إذا وجدتها تتعارض مع سياستها، وتدعو إلى الابتعاد عنها. ثم إن النصرانية التي انتشرت فيما لم تكن من النصرانية المتشيعة بالأخطار، فغضت النظر عنها، وأن قاومتها مرارا واضطهدتها، وفتك ملوكها بعدد من الداخلين فيها، أشارت إليهم كتب مؤرخو الكنيسة في تواريخم عن الشهداء القيسين5.

وقد أشار أهل الأخبار إلى تنصر بعض ملوك الحيرة، ونسبوا إليهم بناء الأديرة

1 البلاذري "71"، "تبوك وإيلة وأذرح ومقنا والجرباء".

2 الخراج "138"، "فصل في الكنائس والبيع والصلبان".

3 البلاذري "185"، "أمر نصارى بني تغلب بن وائل"، السنن الكبرى "9/ 216".

الخراج "120 وما بعدها".

4 الطبري "4/ 197 وما بعدها"، "الجزيرة".

5 هنالك عدة مؤلفات في هذا لموضوع راجع منها:

Georg Hoffmann، Aszuge Aus Syrischen Akten Persicher Martyrer، Leipzig، 1880.

ص: 171

والكنائس، كما أشار إلى ذلك بعض مؤرخي الكنيسة. كالذي ذكروه عن المنذر" وعن "النعمان بن المنذر". غير أننا لا نستطيع إقرار ذلك بوجه عام، ولا بد من التريث، إذ يظهر أن أكثر ملوك الحيرة كانوا على الوثنية. وإذا كان كثير من ملوك الغساسنة قد دخلوا في النصرانية فإن ظروفهم تختلف عن ظروف ملوك الحيرة. فقد كان الروم، وهم سادة بلاد الشام، على هذه الديانة، وكانوا يشجعون انتشار النصرانية ويسعون لها، ولهذا كان لهذه السياسة أثر في الغساسنة أصحاب الروم، وهم على اتصال دائم بهم بطبيعة حكمهم لبلاد الشام. أما في العراق، فلم تكن هذه الديانة ديانة رسمية للحكومة، إنما انتشرت بفضل المبشرين، ولهذا انتشرت بين سواد الشعب، ولم تنتشر بين الملوك. ولم تضغط الحكومة الساسانية على ملوك الحيرة للدخول في هذه الديانة التي لم يكونوا أنفسهم داخلين فيها، فهي بالإضافة إليهم ديانة غريبة، لا يعنيهم موضوع انتشارها، ولا يهمهم موضوع انتشارها، ولا يهمهم شأنها ما دامت لا تتعارض وحكمهم في العراق.

وقد كان "هانئ بن قبيضة الشيباني" ممن كان على النصرانية، وهو من سادات "بني شيبان"، ومات وهو على هذا الدين. وكان في جملة من فاوض "خالد بن الوليد" باسم قومه على دفع الجزية للمسلمين.

ومن متنصرة العراق بنو عجل بن لجيم من قبائل بكر بن وائل. وقد عرف منهم "حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي" الذي سادهم في معركة ذي قار. وقد حاربت "خالد بن الوليد"، وكان قائدها بن بجير وعبد الأسود. وكان منها في أيام بني أمية أبجر بن جابر. وهو والد حجار. وقد بقي على نصرانيته في الإسلام1.

وكان في الحيرة سراة نصارى اشتركوا مع سراة قريش في الأعمال التجارية مثل "كعب بن عدي التنوخي"، وهو من سراة نصارى الحيرة، وكان أبوه أسقفا على المدينة، وكان هو يتعاطى التجارة، وله شركة في التجارة في الجاهلية مع "عمر بن الخطاب" في تجارة البز، وكان "عقيدا"، قدم المدينة في وقد من أهل الحيرة إلى النبي ورأى الرسول، فأسلم في رواية، ولم يسلم في رواية أخرى. ولما توفي الرسول، ثبت على الإسلام على رواية من صيره مسلمًا في

1 الأغاني "13/ 46 وما بعدها"، النصرانية "136".

ص: 172

أيام الرسول. واشترك في جيش اليمامة الذي أرسله "أبو بكر"، ووجهه "أبو بكر" في رسالة إلى "المقوقس"، ثم وجهه "عمر" برسالة إليه في أيامه. وشهد فتح مصر1.

وقد أخرجت مدينة الحيرة عددا من رجال الدين، مثل مار إيليا وأصله من الحيرة، والقديس والقديس حنا نيشوع، وهو من عرب الحيرة ومن عشيرة الملك النعمان2، والقديس مار يوحنا3 و"هوشاع" الذي حضر مجمع إسحاق الجاثليق عام 410م، وشمعون الذي أمضى أعمال مجمع "يهبالا" الذي انعقد سنة 486م، وشمعون الذي حضر مجمع "أقاق"، و"إيليا" المنعقد سنة 486م وأمضى في سنة 497م مجمع "اباي" و"افرام" و"يوسف"، وقد حضر مجمع "أيشوعياب الأرزني" الذي انعقد سنة 585م، وشمعون بن جابر الذي نصر الملك النعمان الرابع في سنة 594 على ما يذكره مؤرخو الكنيسة4.

وقد كان "مار يشوعياب الأرزوني" Jesujab I Arzunita المتوفى سنة 596م من أصل عربي. درس الديانة في "نصيبين" Nisibis ثم تقدم فصار أسقفا على "أرزون" Arzun، ثم ترقى حتى صار "بطريكا" بطريقا" على النساطرة سنة 580م. وقد زار الملك "النعمان". وتوسط عند الروم لمساعدة خسرو ابرويز" Chosroes Abruizus ضد "بهرام" Beheram Varames وقد توفي في خيم "بني معد""المعديين" Maadenes، ونقل إلى الحيرة فدفن في دير "هند" ابنة النعمان5.

وقد عثر على آثار كنائس في خرائب الحيرة، وأشار أهل الأخبار إلى وجود الكنائس والبيع والأديرة في الحيرة. وذكر "ياقوت الحموي" أسماء عدد من الأديرة كانت بالحيرة أو بأطرافها وبالبادية، منها:"دير ابن براق" بظاهر الحيرة، "دير ابن وضاح" بنواحي الحيرة، وديارات الأساقف، وهي

1 الإصابة "3/ 282"، "رقم 7422".

2 الديورة في مملكتي الفرس والعرب "32 وما بعدها".

3 الديورة "47".

4 أدى شير "2/ 208".

5 W// Smith، A Dicrionary، II، p. 370، John of Ephesus، Eccl. Histo، II، 40 ff.

ص: 173

جملة أديرة كانت بالنجف ظاهر الكوفة بحصريها نهر الغدير، ودير الأسكون "وهو بالحيرة راكب على النجعف وفيه قلالي وهياكل وفيه رهبان يضيفون من ورد عليهم". ودير الأعور، بظاهر الكوفة بناه رجل من إياد يقال له الأعور من بني حذافة بن زهر بن إياد، ودير بني مرينا، بظاهر الحيرة عند موضع جفر الأملاك، ودير حنظلة، منسوب إلى حنظلة بن أبي عفراء بن النعما، وهم عم إياس بن قبيصة، وكان من رهط "أبي زبيد" الطائي، وكان من شعراء الجاهلية، ثم تنصر وفارق قومه، ونزل الجزيرة مع النصارى حتى فقه دينهم وبلغ نهايته، وبنى ديرا عرف باسمه، هو هذا الدير، وترهب حتى مات1. ودير حنظلة بالحيرة، وهو منسوب إلى حنظلة بن عبد المسيح بن علقمة، ودير حنة، وهو بالحيرة كذلك بناه المنذر لقوم من تنوخ يقال لهم بنو ساطع، تقابله منارة عالية كالمرقب تسمى القائم، لبني أوس بن عمرو بن عامر، ودير السوا بظاهر الحيرة يتحالفون عنده، ودير الشاء، ودير عبد المسيح وهة بظاهر الحيرة بموضع الجرعة بناه عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة، ودير علقمة بالحيرة منسوب إلى علقمة بن عدي بن الرميك بن توب بن أسس بن دبي بن نمارة بن لخم، ودير قرة وهو دير بإزاء دير الجماجم بناه رجل اسمه قرة من بني حذافة بن زهر بن إياد في أيام المنذر بن ماء السماء، ودير اللج وهو بالحيرة بناه النعمان بن المنذر أبو قابوس، و"كان يركب في كل أحد إليه، وفي كل عيد، ومعن أهل بيته، خاصة من آل المنذر، عليهم حلل الديباج المذهبة، وعلى رءوسهم أعلام فوقها صلبان، وإذا قضوا صلاتهم، انصرفوا إلى مستشرفه على النجف، فشرب النعمان وأصحابه فيه بقية يومه، وخلع ووهب، وحمل ووصله وكان ذلك أحسن منظر وأجمله"2.

ودير مارت "مارة" مريم. هو دير قديم من أبنية آل المنذر بنواحي الحيرة بين الخورنق والسدير وبين قصر أبي الخصيب مشرف على النجف، ودير مار فايثون بالحيرة أسفل النجف، ودير مر عبدا بذات الأكيراح من نواحي الحيرة منسوب إلى مر عبدا بن حنيف وضاح اللحياني كان مع ملوك الحيرة،

1 البكري، معجم "2/ 567"، "دير حنظلة".

2 البكري، "معجم "5/ 596"، "دير الج".

ص: 174

ودير ابن المزعوق، وهو دير قديم بظاهر الحيرة، ودير هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر المعروفة بالحرقة، وكانت به قبور أهلها، بنته هند في أيام "خسرو أنو شروان" في زمن مار افريم الأسقف. وأما الدير المعروف بدير هند الأقدم، فنسب بناؤه إلى هند الكبرى، أم عمرو بن هند1.

هذه أسماء اخترتها من بين أسماء أديرة أخرى كثيرة ذكرها "الشابشي"2، وياقوت الحموي والبكري، لأن لها صلة بالحيرة وبما جاورها وبالعرب سكان هذه الأرضين. ونجد في بلاد الشام أديرة أخرى بناها عربها في تلك الديار قبل الإسلام. ونجد على تسميات بعضها الصبغة الإرمية كما في تسمية "مار افريم""مار افرايم" و"مار عبدا" و"مار فايثو"، وغيرها. وكلمة "مار" من كلمات بني إرم، كما نجد الصبغة النصرانية للأعلام واضحة على بعضها كما في عبد المسيح وحنة ومارت مريم وأمثال ذلك، وهي من الأعلام التي اختصت بالنصارى. وذلك بسبب أن النصرانية كانت متأثرة بثقافة بني إرم، وكانت تستعمل اللغة الإرامية في الصلوات وفي تأدية الشعائر الدينية الأخرى. ولغة بني إرم هي لغة العلم عند النصارى الشرقيين، فكان من الطبيعي استعمال نصارى العرب لهذه اللغة في كنائسهم وبيعهم وأديرتهم وفي دراستهم للدين وما يتصل باللاهوت من علوم. ومن هنا استعمل كتابهم قلم بني إرم في كتاباتهم، ومن هذا القلم تولد القلم النبطي المتأخر الذي تفرع منه القلم العربي الذي كتب به أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، فصار القلم الرسمي للمسلمين.

وقد نعت الرواة وأهل الأخبار العرب التي دانت بالنصرانية بـ "العرب المتنصرة"، تمييزا لها عن العرب الآخرين الذين لم يدخلوا في هذه الديانة، بل بقيت على إخلاصها ووفائها لديانة آبائها وأجدادها، وهي عبادة الأوثان. ومن القبائل التي يحشرها أهل الأخبار في جملة "العرب المتنصرة" غسان وتغلب وتنوخ ولخم وجذام وسليح وعاملة. وبلاحظ أن الإخباريين يطلقون على هذه القبائل أو على أكثرها "العرب المستعربة"، وهم لا يصدقون بذلك نسبها، لأن من بينها كما نعلم من هو من أصل قحطاني على حسب مذهب أهل الأنساب في نسب

1 البكري "2/ 606"، البلدان "4/ 119 وما بعدها"، "القول في ذكر الأديرة".

2 مطبعة المعارف، بغداد، تأريخ كلدو وأثور "2/ 29"، ذخيمة الأذهان "317".

ص: 175

القبائل. وإنما يريدون من هذا المصطلح التي كانت قد سكنت ببلاد الشام والساكنة في أطراف الإمبراطورية البيزنطية وفي سيف العراق من حدود نهر الفرات إلى بادية الشام، فهو يشمل إذن القبائل النازلة على طرفي الهلال الخصيب وفي طرفي القوس التي تحيط بحدود الإمبراطوريةين. وخاصة تلك القبائل التي دانت بالنصرانية وتأثرت بثقافة بني إرم وبلهجتها، وذلك لظهور هذا الأثر فيها، وعلى لهجتها خاصة، مما حدا بعلماء اللغة أن يتحرجوا في الاستشهاد بشعرها في قواعد اللغة. والاستشهاد بشعر قبيلة لإثبات القواعد هو أوثق شاهد في نظر العلماء على التسليم بنقاوة لغة القبيلة التي يستشهد بشعرها وأصالتها.

ووجدت النصرانية بعد بلاد الشام والعراق لها مواضع أخرى دخلت إليها، هي أطراف جزيرة العرب، كالعربية الغربية والجنوبية والشرقية. وتفسير دخولها إلى هذه الأرضين واضح، هو اتصالها بطرق القوافل البرية والبحرية في البلاد التي انتشرت فيها النصرانية، ومجئ التجار النصارى والمبشرين مع القوافل إليها. وتجار النصارى، لم يكونوا على شاكلة تجار يهود: كانوا يرون أن التجارة هي كسب والآخرة، فكانوا يغتنمون فرصة وجودهم في البلاد التي يطرقونها كسبا لهم ولبلادهم، وأكثرهم من الروم. فإنهم يجدون بتنصر الغرباء، إخوانا هلم يرون رأيهم، ويعطفون عليهم. ثم إنه سيفضلونهم في تعاملهم معهم على غيرهم، وسيتساهلون معهم ولا شك. ثم إنهم سيقربنهم بتنصيرهم من العالم النصراني، وممثل هذا العالم وحماته هم الروم.

وكان أهل دومة الجندل خليط، فيهم نصارى، قال عنهم أهل الأخبار إنهم "من عباد الكوفة"1. ويظهر من خبر أسر خالد للأكيدر ومجيئه به على رسول الله، ومن مصالحة الرسول له على الجزية، إنه كان على النصرانية، إذ لا تؤخذ الجزية من مشرك2؟

1 البلاذري، فتوح البلدان "74". "دومة الجندل".

2 "ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته" الطبري "3/ 109". "دار المعارف"، "ذكر الخبر عن غزوة تبوك".

ص: 176

أما "أيلة"، فكان اسم صاحبها في أيام الرسول "يحنة بن رؤبة""يوحنا بن رؤبة". وهو نصراني كما يدل اسمه عليه، جاء إلى تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وكا الرسول بها، فصالحه على الجزية وبقي في محله1. وقد دعاه المسعودي "أسقف أيلة"2. وورد في محاضر بعض المجامع الدينية "أسقف أيلة والشراة"3.

وكان في وادي القرى نفر من الرهبان، كما ورد ذلك في شعر جعفر بن سراقة أحد بني قرة، وهو:

فريقان رهبان بأسف ذي القرى

وبالشام عرافون فيمن تنصرا4

وتعد طئ من القبائل التي وجدت النصرانية سبيلا إليها. وقد ورد أن "أحودما""المغريان" تنقل بين طئ في سنة "870" لليونان المقابلة لسنة "559" للميلاد5. وقد كان عدي بن حاتم الطائي في جملة الداخلين في النصرانية من طئ. ويذكر إنه كان "ركوسيا"، وفد على الرسول، وأعلن إسلامه6. غير أن هذا لا يعني أن النصرانية كانت هي الغالبة على هذه القبيلة، فقد كان قوم منها يتعبدون للصنم "الفلس"، أي على الشرك.

ولم يذكر أهل الأخبار شيئًا يستحق الذكر عن النصرانية في يثرب. وقد أشار القرآن الكريم في مواضع عديدة من الآيات المدنية إلى النصارى، غير أن تلك الإشارات عامة في طبيعة المسيح وفي النصرانية نفسها لا في نصارى يثرب وفي صلاتهم بالإسلام. ثم إن أهل السير لم يشيروا إلى تصادم وقع بين النصارى والمسلمين ولا إلى مقاومة نصارى يثرب للرسول كالذي وقع بين يهود يثرب والرسول، مما يدل على أن النصرانية لم تكن قوية في المدينة، وإن جاليتها لم تكن

1 البلاذري "66"، السنن الكبرى "9/ 185 وما بعدها".

2 التنبيه "272"، النصرانية "448".

3 النصرانية "448".

4 الأغاني "7/ 96""نسب جميل وأخباره".

5 النصرانية وآدابها، القسم الأول "132 وما بعدها".

Barhebraei Chrinion EccI III100

6 الإصابة "2/ 461"، "رقم 5477"، المشرق، السنة الثامنة، العدد 11، "1905""507"، النصرانية "133".

ص: 177

كثيرة العدد فيها. غير أن هذا لا يعني عدم وجود النصارى في هذا الموضع الزراعي المهم1. فكما كان في مكة رقيق وموالي يقومون بخدمة ساداتهم، كذلك كان في المدينة نفر منهم أيضًا يقومون بمختلف الأعمال التي يعهد أصحابهم إليهم القيام بها. ولا بد أن تكون لهذه الطبقة من البشر مكانة في هذه المدينة وفي أي موضع آخر من جزيرة العرب. فقد كانت هذه الطبقة عمودا خطيرا من الأعمدة التي يقوم عليها بنيان الاقتصاد في ذلك العهد، فهي بالنسبة لذلك العهد الآلات المنتجة والمعامل المهمة لأصحاب الأموال وللسادة الأثرياء، تؤدي ما يطلب منها القيام به وما يراد منها انتاجه بأجور زهيدة وبدقة ومهارة لا تتوفر عند الأحرار من العرب. ثم إن الأحرار مهما بلغ حالهم من الفقر والفاقة كانوا يأنفون من الأعمال الحرفية ونحوها مما يوكل إلى هذه الطبقة القيام به، لأنها في نظرهم من المهن المنحطة التي لا تليق بالرجل الحر مهما كان عليه من فقر وبؤس، ولهذا كان لا بد من الاستعانة بالموالي والرقيق للقيام بأكثر متطلبات حياة الإنسان.

ويفهم من بيت للشاعر حسان بن ثابت في قصيدة رقى بها النبي، وهو:

فرحت نصارى يثرب ويهودها

لما توارى في الضريح الملجد2

أنه كان في يثرب نفر من النصارى كما كان يها قوم من يهود. وذكر أن النصارى كانوا يسكنون في يثرب في موضع يقال له: سوق النبط3.

ولعل هذه السوق هي الموضع الذي كان ينزل فيه نبط الشام الذين كانوا يقصدون المدينة للاتجار في الحبوب، فصارت موضعا لسكنى هؤلاء النصارى، وسب إليهم4. وقد ورد أن عمر بن الخطاب استعمل أبا زبيد الشاعر النصراني على صدقات قومه، وأن أبا زبيد هذا كان مقربا من الخليفة عثمان بن عفان من بعده5.

وقد كان "أبو عامر" الراهب الذي تحدثت عنه أثناء حديثي عن الأحناف،

1 السنن الكبرى "9/ 182 وما بعدها".

2 ديوان حسان "59""تحقيق هرشفلد".

3 IIio RaccoIta p 140

4 البخاري "3/ 41 وما بعدها"، النصرانية "449".

5 النصرانية "449".

ص: 178

ممن اعتنق النصرانية، ومن أهل يثرب. ويظهر أنه كان قد تمكن من إقناع بعض شباب الأوس من اعتناق دينه، بدليل ما ذكره علماء التفسير من أنه لما خرج من يثرب مغاضبا للرسول، وذهب إلى مكة، مؤيدا إياهم ومحرضا لهم على محاربة الرسول أخذ معه خمسين أو خمسة عشر رجلا من الأوس، على ما ذكره علماء التفسير، فلما أيس من نجاح أهل مكة في القضاء على الرسول فر إلى بلاد الشام على نحو ما ذكرت، ليطلب مددا من الروم يعينه في زحفه على المدينة. وأنا لا أستبعد احتمال وجود أناس آخرين من أهل يثرب كانوا قد دخلوا في النصرانية ودعوا إليها، واحتمال وجود مبشرين فيها، كانوا يسعون لإدخال أهلها في دين عيسى، يؤيدهم ويمدهم بالمال والمعنة الروم حكام بلاد الشام.

وكان بين سكان مكة عند ظهور الإسلام جماعة من النصارى هم من الغرباء النازحين إليها، لأسباب، منها: الرق، والاتجار، والتبشير، والحرفة. فأما الرقيق، فمنهم الأسود والأبيض: الأسود من إفريقية، والأبيض من أوروبة، أو من أقطار الشرق الأدنى، وهم أعلى في المنزلة وفي السعر من النوع الأول، وهم بحكم قانون ذلك العهد وعرفه تبع لسادتهم وفي ملك يمنيهم، يقومون بالأعمال التي توكل إليهم، ليس لهم التصرف إلا بأمرهم، فهم في الواقع بضاعة يتصرف بها صاحبها كيف يشاء، ليس لها صوت ولا رأي، إن أبق المملوك قتل، أو أنزل به العقاب الذي يراه ويختاره صاحبه ومالكه.

وبين الرقيق الأبيض خاصة نفر كانوا على درجة من الفهم والمعرفة، يعرفون القراءة والكتابة، ولهم اطلاع في شئون دينهم ومعارف ذلك العهد. ولهذا أوكل إليهم القيام بالأعمال التي تحتاج إلى مهارة وخبرة وذكاء. وقد كان حالهم لذلك أحسن من حال غيرهم من الأرقاء. ومنهم من كان يشرح لسادتهم أمور دينهم وأحوال بلادهم، ويقصون عليهم ما حفظوه ووعوه من أخبار الماضين وقصص الراحلين، وأكثرهم ممن كانت ألسنتهم لم تتروض بعد على النطق بالعربية، فكانوا يرطنون بها، أو يتلعثمون، ومنهم من كان لا يعرف شيئًا منها، أو لا يعرف منها إلا القليل من الكلمات.

ومن هؤلاء رجل نصراني كان بمكة قيل إن اسمه: سلمان، أو يسار، أو جبر، أو يعيش، أو بلعام، ادعى أهل مكة أنه كان هو الذي يلقن الرسول

ص: 179

ما كان يقوله للناس من رسالته، وأنه هو الذي كان يعلمه، وقد أشير إلى قول قريش هذا في الآية:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1. ومن روى من المفسرين أن اسمه جبر، قال: إنه كان غلامًا لعامر بن الحضرمي، وأنه كان قد قرأ التوراة والإنجيل2، وكان الرسول يجلس إليه عند المروة إلى مبيعته، "فكانوا: والله ما يعلم محمدًا كثيرًا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام الحضرمي"3.

ومن هؤلاء من زعم إنه كان قينًا لبني الحضرمي، وإنه كان قد جمع الكتب، وهو رومي، فكان رسول الله يأتي إليه ويجتمع به، فكان المشركون يقولون: إنه يتعلم من هذا الرومي! وذكر بعض الرواة أن "آل الحضرمي" كانوا يملكون عبدين، هما: جبر ويسار، فكانا يقرآن التوراة والكتب بلسانهما، فكان الرسول يمر عليهما فيقوم يستمع منهما. وقيل إنهما كانا من أهل "عين التمر"، وإنهما كانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل، فربما مر بهما النبي، وهما يقرآن فيقف ويستمع. وأما من قال أن اسمه "يعيش"، فذكر أنه كان مولى لحويطب بن عبد العزى. وأما من ذكر أن اسمه "بلعام"، فقال إنه كان قينا روميا بمكة وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان، "فكان المشركون يرون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين يدخل عليه وحين يخرج من عنده، فقالوا إنما يعلمه بلعام"4. ومهما اختلف المفسرون في اسم هذا الرجل فإنهم اتفقوا على أنه كان أعجمي الأصل، نصرانيًّا، يقرأ الكتب، وإنه كان بمكة نفر من الموالي كانوا على دين النصرانية يقرأون ويكتبون.

وإلى هذا الشخص أو هؤلاء الأشخاص، أعني: يعيش ويقال عائش أو عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبر مولى عامر، أشير في القرآن الكريم، في الآية: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا

1 سورة النحل: الرقم 16، الآية 103.

2 تفسير الطبري "14/ 119"، "وكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدًا كثيرًا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام ابن الحضرمي" روح المعاني "14/ 212 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 420".

3 تفسير الطبري "14/ 120"، روح المعاني "14/ 212"، ابن هشام "260".

4 تفسير الطبري "14/ 119"، روح المعاني "14/ 233"، تفسير الطبرسي "المجلد الثالث 386".

ص: 180

إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} 1 وقد ذكر المفسرون أن هؤلاء "كانوا كتابيين يقرأون التورأة، أسلموا، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يتعهدهم، فقيل ما قيل"2.

وعرفت أسماء جملة رجال ونساء من هذا الرقيق الذي جيء به إلى مكة وإلى مواضع أخرى من جزيرة العرب. من هؤلاء نسطاس، ويقصد بذلك أنستاس، وكان من موالي صفوان بن أمية. و"مينا""ميناس"، و"يوحنا" عبد "صهيب الرومي"، و"صهيب" نفسه لم يكن عربيًّا، إنما كان من بلاد الشام في الأصل، وهو رومي الأصل ولذلك قيل له "صهيب الرومي". وكان قد جاء مكة فقيرًا لا يملك شيئًا، فأقام بها، ثم اتصل بعبد الله بن جدعان الثري المعروف، وصار في خدمته، ولذلك قيل إنه كان مولى من موالي عبد الله بن جدعان. وفي رواية إنه كان من "النمر بن قاسط"، سقط أسيرا في الروم فباعوه فاشتري منهم. وقد ورد في حديث:"صهيب سابق الروم"، فهذا يدل على إنه من أصل رومي. وهو من أوئل المسلمين، يذكر إنه حينما هم بترك مكة والذهاب إلى المدينة بعد هجرة الرسول إليها "قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك!! والله، لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني جعلت لكم مالي"3، وترك قريشًا ليذهب إلى الرسول.

وكان لبني مخزوم الأثرياء جملة يونانيات، كما كان لدى العباس عم النبي جوار يونانيات، وأشير إلى وجود جوار فارسيات. وكان هذا الرقيق الأبيض ذكورًا وإناثًا من جنسيات متعددة، منهم من كان من أصل رومي، ومنهم من كان من عنصر أوروبي آخر، ومنهم من كان من الفرس أو من أهل العراق مثل نينوى وعين التمر، ومنهم من كان من بلاد الشام أو من أقباط مصر، وهم على النصرانية في الغالب4.

1 الفرقان، الرقم 25، الآية 4.

2 تفسير الطبير "18/ 137 وما بعدها"، روح المعاني "18/ 234 وما بعدها"، مجمع البيان "7/ 161"، "طهران"، "الجزء الثامن عشر"، "سورة الفرقان".

3 ابن هشام "2/ 89"، الإصابة "2/ 188"، "الرقم 4104".

4 المشرق، السنة الخامسة والثلاثون 1937 "ص88 وما بعدها".

ص: 181

وقد كانت في مكة عند ظهور الإسلام جالية كبيرة كثيرة العدد من العبيد، عرفوا بـ "الأحابيش". وبين هؤلاء عدد كبير من النصارى، استوردوا للخدمة وللقيام بالأعمال اللازمة لسراة مكة. وقد ترك هؤلاء الأحابيش أثرًا في لغة أهل مكة، يظهر في وجود عدد من الكلمات الحبشية فيها في مثل المصطلحات الدينية والأدوات التي يحتاج إليها في الصناعات وفي الأعمال اليدوية التي يقوم بأدائها العبيد. وقد أشار العلماء إلى عدد من هذه الكلمات ذكروا أنها تعربت، فصارت من الكلام العربي. وقد أشاروا إلى ورود بعضها في القرآن الكريم وفي الحديث1.

ويشير أهل الأخبار إلى ورود بعض الرهبان والشماسة إلى مكة. وقد كان من بينهم من يقوم بالتطبيب. وقد ذكر الإخباريون أن شماسا كان قد قصد مكة، فعجب الناس به، وقد سموا أحدهم به، هو عثمان بن الشريد بن سويد بن هرمي بن عامر بن مخزوم، فقالوا له:"شماس"2.

وذكر "اليعقوبي"، أن ممن تنصر من أحياء العرب، قوم من قريش من بني "أسد بن عبد العزى"، منهم "عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى"3. وقد ورد في بعض الأخبار إنه قدم على قيصر، فتنصر، وحسنت منزلته عنده. وأن قيصر ملكه على مكة. ومنحه براءة بذلك، واعترف به. وقد سبق أن تحدثت عنه في أثناء كلامي على مكة. وقد ذكرت أن من الصعب تصور بلوغ نفوذ القيصر هذا الحد من جزيرة العرب، فلم يتجاوز نفوذ الروم الفعلي في وقت ما من الأوقات أعالي الحجاز. ولكن ذلك لا يمنع من تقرب السادات وتزلفهم إلى عمال الروم وموظفيهم في بلاد الشام، بإظهار إنهم من المخلصين لهم المحبين للروم، وإنهم من كبار السادات ذوي المكانة والنفوذ، للحصول على مكاسب مادية ومعنوية منهم، تجعل لهم مكانة عند أتباعهم وجاها ومنزلة ونفوذا على القبائل الأخرى. وقد كان الروم يعرفون ذلك معرفة جيدة، بفضل دراستهم لنفسية الأعراب، ووقوفهم على طبائع سادات القبائل، فكانوا يشجعون هذا النوع من التودد السياسي لكسب العرب وجرهم إلى جانبهم.

1 "فقال: يا أم خالد، هذا سناه وسناه بالحبشية حسنة"، أسد الغابة "5/ 579"، المعرب "202، 303، 352"، صحيح مسلم "2/ 189".

2 ابن هشام "2/ 329"، "من حضر بدرا من بني مخزوم"، المشرق، السنة الخامسة والثلاثون "1937 "ص90 وما بعدها"، كتاب نسب قريش "342".

3 اليعقوبي "1/ 227"، "أديان العرب".

ص: 182

وعد "ورقة بن نوفل" في جملة المتنصرين في بعض الروايات، فقد ذكر إنه "تنصر واستحكم في النصرانية، وقرأ الكتب، ومات عليها"1.

وقد استدل "شيخو" من الخبر المروي عن الصور التي قيل إنها صور الرسل والأنبياء وبينها صورة المسيح ومريم، والتي ذكر إنها كانت مرسومة على جدران الكعبة، على إنها هي الدليل على أثر النصرانية بمكة. استدل على فكرته هذه بخبر خلاصته أن الرسول حينما أمر فطمست تلك الصور، استثنى منها صورة عيسى ابن مريم، وبخبر ثان ورد عن تمثال لمريم مزوق بالحلي وفي حجرها عيسى، باد في الحريق الذي شب في عصر "ابن الزبير"، وبخبر ثالث عن امرأة من غسان قيل إنها "حجت في حاج العرب، فلما رأت صورة مريم في الكعبة، قالت: بأبي أنت وأمي: إنك العربية. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمحو تلك الصور، إلا ما كان من صورة عيسى ومريم"2.

وكان في الطائف نفر من الموالي كانوا على دين النصرانية، لم يتعرض سادتهم كسائر رجال الأماكن الأخرى من الحجاز لدينهم، فتركوهم على دينهم يقيمون شعائرهم الدينية على نحو ما يشاؤون. من هؤلاء "عداس"، وكان من أهل نينوى، أوقعه حظه في الأسر، فبيع في سوق الرقيق، وجي به إلى الطائف فصار مملوكا لعتبة وشيبة ابني ربيع. وعند مجئ الرسول إلى الطائف عارضا نفسه على ثقيف أهلها، كان هو في جملة من تكلم إليه3. ومنهم الأزرق، ذكر أنه كان عبدا روميا حدادا، وإنه هو أبو نافع الأزرق الخارجي الذي ينتمي إليه الأزراقة. وهناك روايات تنفي وجود صلة لهذا الأزرق بالأزرق والد نافع المذكور4.

وأما الحديث عن النصرانية في اليمن، فهو حديث غامض أوله، مبهم أصله، لا نعرف متى نبدأ به على وجه التحقيق. فليس لدينا نص بالمسند يشير إلى مبدأ

1 اليعقوبي "1/ 298"، "ليدن""المحبر "171"، ابن هشام "1/ 243، 250 وما بعدها "، النصرانية "1/ 119"، المشرق، السنة الخامسة والثلاثون، 1937 "ص272".

2 النصرانية "ص117".

3 ابن هشام "2/ 30"، أسد الغابة "3/ 289"، الإصابة "2/ 459"، "الرقم 5470" النصرانية "452".

4 البلاذري "62".

ص: 183

دخول النصرانية العربية الجنوبية. وما لدينا من كتابات مما له بعض العلاقة بالنصرانية إنما دون في الحقبة المتأخرة من تأريخ اليمن، وفي أيام الحبشة في اليمن، وهو ساكت في الجملة عن المبدأ وعن المبشرين بالنصرانية في العربية الجنوبية. فليس لدينا من بين نصوص المسند في هذا الباب عو ولا سند.

وليس لنا إذن إلا أن نفعل ما فعلناه بالنسبة إلى اليهودية، فنرجع إلى الموارد الإسلامية والنصرانية لنرى رأيها في هذا الباب.

وتزعم الموارد الإسلامية أن الذي نشر النصرانية في اليمن رجل صالح من بقايا أهل دين عيسى اسمه "فيميون1" Faymiyion= Phemion، وكان رجلا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة سائحا ينزل القرى لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف فيها، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان بناء يعمل الطين وكان يعظم الأحد: إذا كان الأحد لم يعمل فيه شيئًا. ففطن لشأنه في قرية من قرى الشام رجل من أهلها اسمه "صالح"، وفأحبه واتبعه على دينه ورافقه. وانصرف ومعه صالح من ضواحي الشام حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدا عليهما، فاختطفتهما سيارة من بعض العرب، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران. وأهلها من بني الحارث بن كعب من بني كهلان. وكانوا يعبدون العزى على صورة نخلة طويلة بين أظهرهم. فابتاع رجل من أشرافهم "فيميون"، وابتاع رجل آخر صالحا، وقد أعجب صاحب فيميون به، لما رآه فيه من صلاح وورع، فآمن بدينه، وآمن أهل نجران منذ ذلك الحين بالنصرانية لمعجزة قام بها "فيميون"، حينما دعا الله يوم عيد العزى أن يرسل عليها ريحا صرصرا عاتية تختى عليها. فأتت الريح عليها فجعفتها من أصلها فألقتها، فآمن بدينه أهل نجران. فمن هنالك كانت النصرانية بنجران2. ويذكر الطبري أن أهل نجران كانوا يعيدون كل سنة، "إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه، وحلي النساء. ثم خرجوا، فعكفوا عليها يوما"3.

ويظن أن "فيميون" كلمة يونانية في الأصل حرفت من أصل Euphemion

1 "فيميون""قميون""ميمون".

2 الطبري "2/ 103 وما بعدها"، ابن هشام "20 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 171"، البيضاوي "2/ 395"، ابن خلدون "2/ 59".

3 الطبري "2/ 120 وما بعدها"، "دار المعارف".

ص: 184

وزعم أن "فيميون" عين أحد النجرانيين واسمه "عبد الله بن الثامر" رئيسا عليهم، وجعلهم تحت رعاية أسقف اسمه "بولس"1.

وقد ذكر "الأزرقي" أن أهل نجران كانوا من أشلاء سبأ "وكانوا على دين النصرانية على أصل حكم الإنجيل، وبقايا من دين الحواريين، ولهم رأس يقال له: عبد الله بن ثامر"2.

وتذكر رواية إسلامية أخرى أن أهل نجران كانوا أهل شرك، يعبدون الأوثان وكان في قرية من قراها قريبا من نجران يعلم غلمان أهل نجران السحر، وكان أحد رجال نجران واسمه "الثامر" يرسل ابنه "عبد الله" مع غلمان أهل نجران إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فكان يمر على صاحب خيمة بين نجران وتلك القرية، وقد أعجبه ما رآه من صلاته وعبادته وتقواه، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى دخل في دينه، وصار يدعو إليه بين أهل بلده. فمن ثم انتشرت النصرانية في نجران، وظهرت على الوثنية3.

وتذكر هذه الرواية، أن "عبد الله بن الثامر"، أخذ من ثم يبشر بالنصرانية، ويأتي بالمعجزات إذ يشفي المرضى "حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره، ودعا فه فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران. فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك! قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح عن رأسه فيقع على الأرض، ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه، قال عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت بشهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرةن فقتله، فهلك الملك مكان÷ واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر"4.

ولم تصرح هذه الرواية التي يرجع سندها إلى "محمد بن كعب القرظي"

1 FeII in ZDMG 35 1881 anm I Oeary p 143

2 أخبار مكة "1/ 81".

3 الطبري "2/ 121 وما بعدها""دار المعارف"-

4 الطبري "2/ 122""دار المعارف".

ص: 185

وبعض أهل نجران، باسم الرجل الصالح الذي أخذ منه "عبد الله بن الثامر" نصرانيته. وقد نبه إلى ذلك الطبري، في أثناء سرده لها، فقال:"ولم يسموه باسمه الذي سماه به وهب بن منبه"1.

وقد صيرت بعض الروايات "عبد الله بن الثامر" في جملة من قتلهم "ذو نواس" من النصارى، غير أن "الطبري"، نبه إلى خطل هذا البعض، وبين أن "عبد الله" كان قد قتل قبل ذلك، قتله ملك كان قبله، هو كان أصل ذلك الدين2.

وهناك قصة ذكرها "ابن إسحاق"، تزعم أن رجلا حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجاته، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدا واضعا يده على ضربة في راسه ممسكا عليها بيده، فإذا أخرت يده عنها انثعبت دما، وإذا أرسلت يده ردها عليها، فأمسك دمها، وفي يده خاتم، فأقر على حاله وردوا عليه الدفن الذي كان عليه، وكان ذلك بأمر عمر بن الخطاب3.

والظاهر أن النجرانيين، لم ينسوا رئيسهم "عبد الله بن الثامر" حتى بعد إسلامهم، فرووا عنه هذا القصص وصيروه على هذه الصورة التي روتها القصة. ويظهر أنه قتل، فصير شهيدا من الشهداء، لأنه قتل في سبيل دينه وفي سبيل نشره بين النجرانيين.

وزعم بعض الإخباريين أن الذي أدخل النصرانية ونشرها في الحميريين، هو التبع عبد كلال بن مثوب: أخذ التبع نصرانيته بزعمهم من رجل من غسان ذكروا أنه كان قد قدم عليه من الشام، فلما علمت حمير بتنصر التبع وبتغيير دينه وإعراضه عن عبادتها، وثبت بالغساني فقتلته4. وقد أشير إلى تنصره في القصيدة الحميرية5.

1 الطبري "2/ 121 وما بعدها""دار المعارف"ز

2 الطبري "2/ 123""دار المعارف".

3 الطبري "2/ 124".

4 الطبري "2/ 86": "ذكر ما كان من الأحداث في أيام يزدجرد بن بهرام وفيروز بين عمالها على العرب وأهل اليمن"، النصرانية "1/ 55 وما بعدها".

NaIIino RaccoIta III p 124

5

أم أين عبد كلال الماضي على

دين المسيح الطاهر المساح

النصرانية "1/ 55".

ص: 186

أما الرواية الأولى فتنسب إلى "وهب بن منبه". وأما الرواية الثانية فتنسب إلى "محمد بن كعب القرصي" إلى بعض أهل نجران لم يصرح "ابن إسحاق" بذكر أسمائهم، فالروايتان أذن من مورد واحد هو أهل الكتاب1. فوهب بن منبه من مسلمة يهود. وأمه محمد بن كعب بن أسد القرظي المتوفى بين سنة 118-120للهجرة، فهو من أصل يهودي كذلك، من قريظة حلفاء الأوس، وقريظة يهود. وكان مثل وهب قاصا من القصاص يقص في المسجد. وقد جر قصصه هذا عليه البلايا، فكان يقص في المسجد فسقط عليه السقف فمات2.

وجدت أقوال محمد بن منبه القرظي سبيلها إلى تأريخ الطبري عن طريق سيرة ابن إسحاق، وهو طريق ابن حميد عن سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق صاحب السيرة الذي أخذ منه بلا واسطة كما أخذ منه بالواسطة. أما الأخبار المروية عنه، فهي في سير الرسل والأنبياء، وفي انتشار اليهودية والنصرانية في اليمن، وفي الأمور التي تخص اليهود والأنبياء، وفي انتشار اليهودية والنصرانية في اليمن، وفي الأمور التي تخص اليهود في الحجاز3. وكان من المقربين إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز، لأنه كانت له به معرفة سابقة قبل توليه الخلافة. فلما ولي الخلافة، كان يذهب إليه ويتحدث معه في الزهد وفي القصص الذي يحمل طابع الإسرائيليات وفي التفسير الذي اشتهر به4.

فناقل النصرانية إلى نجران إذن رجل غريب جاء إلى البلد من ديار الشام على رواية "وهب بن منبه". ويرجع "أوليري" هذه الرواية إلى أصل يرى جذوره في السريانية. واسم هذا الرجل الصالح غير عربي بالطبع. فلعله من المبشرين الذين كانوا يطوفون بين ديار العربب للتبشير.

1 الطبري "2/ 104"، تفسير الطبري "30/ 85".

NaIIino RaccoIta Di Scritti III 1941 p 124

2 راجع ما كتبته عنه في مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الأول "1950، "ص198"، وتهذيب التهذيب "9/ 420"، عيون الأخبار "1/ 201، 264" "1/ 14،343"، "3/ 4".

3 الطبري "1/ 138"، "2/ 104"، ورد اسمه في "29" موضعا من تأريخ الطبري.

4 ابن سعد "طبقات "5/ 272 وما بعدها"، مجلد 7 قسم 2 ص194، عيون الأخبار "2/ 343"، "3/ 4".

5 O Ieary

ص: 187

فقد كانوا يتنقلون بين العرب لنشر هذا الدين. وليس بمستبعد أيضًا أن يكون قد دخل عن طريق الساحل أيضًا مع السفن. فقد كان المبشرون يتنقلون مع البحارة والتجار لنشر النصرانية، وقد تمكنوا بمعونة الحكومة البيزنطية من تأسيس جملة كنائس على سواحل جزيرة العرب وفي سقطرى والهندز كا لا يستبعد أن يكون للمبشرين الذين جاؤوا من العراق كما تذكر بعض الموارد النصرانية السريانية دخل في نشر النصرانية في اليمن. ولا سيما نشر النسطورية في تلك البلاد.

وأما الموارد النصرانية، فإنها مختلفة فيما بينها في أول من أدخل النصرانية إلى، اليمن فالموارد اليونانية ترى رأيا، والموارد السريانية ترى رأيا، والموارد الحبشية ترى رأيا آخر، يختلف عن الرأيين. وكل رأي من هذه الآراء الثلاثة يرجع شرف النصرانية في اليمن إليه.

يحدثنا كتبة التواريخ الكنسية من اليونان أن القيصر "قسطنطين" الثاني أرسل في عام "354" للميلاد "ثيوفيلوس اندس" TheophIius Indus، أي "ثيوفيلوس الهندي"، من جزيرة سرنديب أي سيلان إلى العربية الجنوبية للتبشير بالنصرانية بين الناس. وقد تمكن من إنشاء كنيسة في عدن وأخرى في ظفار وثالثة في هرمز، وعين للمتنصرين رئيسا ثم رحل. وصارت ظفار في سنة 356م مقرا لرئيس أساقفة يشرف على شؤون نصارى نجران وهرمز وسقطرى1. وقد عثر على مقربة من خرائب ظفار على أعمدة من الطراز "الكورنثي" وعلى بقايا تيجانه وعليها نقوش صلبان يظهر أنها من مخلفات تلك الكنائس القديمة التي شيدت بمساعدة البعثات التبشيرية وفي أيام الحبشة في اليمن2.

وزعم "فيلوستورجيوس" PhiIstorgius أن هذا الشعب الذي بشر "ثيوفيلوس" بين أفراده بالنصرانية، شعب هندي، وكان يدعى سابقا باسم شعب "سبأ" نسبة إلى عاصمته سبأ ويعرف اليوم باسم حمير3 Honeritae. وقد توهم

1 "تاوفيل الهندي" النصرانية: 1/ 56".

Alt Kult، S. 148، Philostorgius، Historia Eccleslastica، III، 46، Hugh Scott، in The High Yemen، 1947، p. 211، Mordtmann، Miscellen zur Himjarischen Alterthumskunde، in ZDMG، 1877، XXXI، S. 64، ff، Migne، Petr. Grea، LXV، cl، 459-637، Conti Rossini، un Documento، p. 710.

2 Alt. Kult، S. 148، Nallino، Raccolta، III، p. 133، Bury، History of the Roman Empire، II، p. 322.

3 Philostorgius، I، II، 6، ZDMG، 31، 1877، S. 65.

ص: 188

عدد من الكتبة "الكلاسيكين" فحسبوا الحميريين من الهنود، كما أن بعضًا منهم ظنوا أن السبئيين من "الكوشيين" الحبش، والذي أوقعهم في هذا الوهم هو صلات هؤلاء بإفريقية وبالهندن ولوقوع بلادهم على المحيط الهندي وعلى مقربة من إفريقية1.

وجاء في رواية أخرى أن القيصر "قسطنطين" الثاني أرسل "ثيوفيلوس" إلى ملك حمير Homeritae ونجاشي الحبشة Axume وذلك في عام "356" للميلاد. برسائل كتبها القيصر إلى الملكين. فلما أنهى مهمته لدى ملك حمير، انتهز هذه الفرصة فزار وطنه الهند، ثم عاد فذهب إلى الحبشة، وعاد منها فذهب إلى أنطاكية Antiochia ومنها إلى القسطنطنية2. ويظهر من هذه الرواية أن مهمته هذه لم تكن مهمة دينية، إنما كانت ذات طابع سياسي، الغاية منها ضم حمير والأحباش إلى معسكر البيزنطيين.

وقد كان من مصلحة الحكومة البيزنطية بعد دخول القيصر "قسطنطين" في النصرانية عام "313" للميلاد واتخاذها ديانة رسمية للدولة، أن ينشر هذا الدين ويكثر أتباعه، لما في ذلك من فوائد سياسية ومصالح اقتصادية، فضلا عن الأثر العميق الذي يتركه هذا العمل في نفوس أتباعه المؤمنين مما يرفع من مكانة القياصرة في نفوس الشعب ويقوي من مراكزهم ونفوذهم على الكنيسة والرعية. وبمساعدة هؤلاء القياصرة تمكن المبشرون من إنشاء ثلاث كنائس في "ظفار" و"عند" و"هرمز"3.

ولم يكن يقصد "قسطنطين" كما يرى المستشرق "روسيني" من إرسال الوفد الذي ترأسه "ثيوفيلوس" إلى ملك حمير، هدفا دينيا محضا، وإنما أراد أن يعقد معاهدة تجارية مع الحميريين ويحقق له منافع اقتصادية وسياسية، بأن يحقق له التجارة البحرية، ويحرض اليمانيين على الفرس ويدخلهم في معسكره بدخلوهم

1 النصرانية "1/ 53 وما بعدها.

2 Paluys-Wissowa، Zweite Reiuke، Halbbnd، S. 2167، Philostorgius، Hist. Eccli، II، 6، Kidd، A History of the church، I، 161، III، 429، Bury، History of the Later Roman Empire، II، p. 322.

3 Ency. F Relig. And Ethi، III، p. 589، Franz Stuhlmann، Der Kampf um Arabien، S. 12.

ص: 189

في النصرانية التي تجمع عندئذ بينهم وبين الروم1.

وورد في رواية أن الحميريين HomerItae دخلوا في عهد "انسطاس""انسطاسيوس""491-518م" في النصرانية. وذكر أيضًا أنه كان في جملة من قصدوا القديس "سمعان العموي" رجال من عرب حمير، وقد رآهم "تاودوريطس" في القرن الخامس للميلاد2.

وأما الموارد السريانية، ومنها الموارد النسطورية، فتزعم أن تاجرا من أهل نجران اسمه "حنان" أو "حيان"، قام في أيام "يزدجرد الأول "399-420للميلاد" بسفرة تجارية إلى القسطنطنية، ثم ذهب منها إلى الحيرة، وفيها تلقن مبادئ النصرانية ودخل فيها. فلما عاد منها نجران، بشر فيها بالنصرانية حتى تمكن من نشرها بين حمير. وترجع تواريخ البطارقة هذه الحادثة إلى ايام بطرقة "معنى" Mana الموافقة لحوالي سنة "420" بعد الميلاد3. وذكر أنه ي عهد البطريق "سيلاس" SiIas "505-423"، هرب لاجئون من اليعاقبة Jakobiten إلى الحيرة، غير أن النساطرة أجلوهم عنها، فذهب قسم منهم إلى نجران، فنشروا مذهبهم بين السكان4.

وتشير الأخبار الكنسية أيضًا إلى أن رسولي الكلدان الأولين: "ادي"و"ماري" كانا قد سارا إلى بلاد العرب سكان الخيام، وإلى نجران وجزائر بحر اليمن. وجاء في المصحف الناموسي:"وبشر الجزيرة والموصل وأرض السواد كلها وما يليها من أرض التيمن كلها وبلاد العرب، سكان الخيام وإلى ناحية نجران والجزائر التي في بحر اليمن مارى الذي من السبعين"5.

وللحبش قصص عن انتشار النصرانية في نجران، خلاصتها: أن قديسا اسمه

1 النصرانية "1/ 59".

Conti Rossini، un Documento Sul Cristlanesimo nello Iemen، p. 710.

2 النصرانية "1/ 57 وما بعدها".

Mordtmann، in ZDMG، XXXI، 1877، S. 65، Theodorus، Lector، Histo. Eccl، I، II، p. 567، ed. Valesius and Nicephorus Callistus.

3 Chronik von Seert، II، 149، ABM، 22، Eduard Sachau، zur ausbreitung des Christentums in Asien، Berlin، 1919، S. 68.

4 Chronik von Seert، II، 144.

5 النصرانية "1/ 58".

ص: 190

"ازقير" Azker، أقام كنيسة ورفع الصليب وبشر بالنصرانية في نجران، وذلك في أيام الملك "شرحبيل ينكف" ملك حمير، فاستاء من ذلك "ذو ثعلبان" و"ذو قيفان"، وأرسلا رجالهما إلى المدينة لهدم الكنيسة وانزال الصليب والقبض على القديس، ففعلوا وألقوا به في غياهب السجن. وفي أثناء إقامته فيه هدى قوما من السجناء إلى النصرانية بفعل المعجزات التي قام بها، فغضب الملك "شرحبيل" عليه، وأرسل إلى القيلين اللذين كانا في نجران أن يرسلا إليه هذا الرجل الذي فتن الناس، فأرسل مخفورا إليه. وفي أثناء اجتيازه الطريق إلى عاصمة الملك ظهرت منه معجزات خارقة، آمن بها عدد ممن رافقوه أو وقفوا على أحواله وتعمدوا على يديه. فلما وصل إلى "ظفار" عاصمة "شرحبيل"، انتهره الملك وحاجه في دينه وعرض عليه كتب "يهود"، ثم أغراه بالذهب والمال، فقال له القديس:"الذهب والفضة فانيان، أما كرستس ساكن السماء فباق". وقد حرضه عليه أحد الأحبار، فأمر الملك عندئذ بإرساله إلى نجران لقتله. فلما بلغ المدينة، قتله اليهود، قمات شهيدا في سبيل دينه1.

وتزعم الرواية الحبشية أن نصارى اليمن كانوا يرسلون بهداياهم إلى النجاشي وبالضرائب يدفعونها إليه2.

وذكر أن أحد الأساقفة ممن كان في اليمن، كان قد اشترك في أعمال مجمع "نيقية" الذي انعقد سنة 325 للميلاد3. وإذا صح هذا الخبر، فإنه يعني أن النصرانية كانت قد وجدت لها سبيلا إلى اليمن في القرن الرابع للميلاد.

يتبين من هذه الأخبار أن النصرانية لم تدخل العربية الجنوبية من طريق واحد، وإنما دخلتها من البر ومن البحر، دخلتها من البر من ديار الشام إلى الحجاز فاليمن، ومن العراق أيضًا مع القوافل التجارية المستمرة التي كانت بين اليمن والعراق. ودخلتها من البحر بواسطة السفن اليونانية ودخلتها مع الحبشة كذلك الذين كانوا على اتصال دائم باليمن وببقية العربية الجنوبية منذ أيام ما قبل الميلاد.

1 Winckler، AOF، IV، 1896، S. 329. ff، Britisch Museom Orient، 686، 687، 688، 689.

2 FeII in ZDMG 35 1881 S 50

3 النصرانية "1/ 57".

NaIIino RaccoIta III p 122 Caetani AnnaII I p 125

ص: 191

وقد كانت نجران أهم موطن للنصرانية في اليمن، ولعلها الموطن الوحيد الذي رسخت هذه الديانة فيه في هذه البلاد. وقد اشتهرت نجران بالحادثة التي وقعت فيها، حادثة تعذيب النصارى، وبما ذكره أهل الأخبار عن الكنيسة التي أنشاها الأحباش فيها وعرفت بـ"كعبة نجران" عند الإخباريين كما عرفت بـ "بيعة نجران" أيضًا. وفي رواية تنسب إلى ابن الكلبي "أنها كانت قبة من أدم من ثلاث مئة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن، أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفد أرفد. وكانت لعظمتها عندهم يسمونها كعبة نجران، وكانت على نهر نجران، وكانت لعبد المسيح بن دارس بن عدي بن معقل، وكان يستغل من ذلك النهر عشرة آلاف دينار، وكانت القبة تستغرقها"1. وكان يتفق عليها من غلة ذلك النهر.

وورد في رواية أخرى أنها كانت بناء بني على بناء الكعبة. وقد بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي، بنوها على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة لها. وكان فيها أساقفة معتمون، وهم الذي جاءوا إلى النبي، ودعاهم إلى المباهلة2.

وتذكترنا قصة "ابن الكلبي" عن أصل كعبة نجران، وأنها كانت من أدم، بما نعرفن عن خيمة "يهوه" إله العبرانيين، وتعبد الإسرائليين له فيها قبل بناء الهيكل، واعتقادهم أنها خيمة مقدسة، وبما نعرفه من خيم القبائل المقدسة، وذلك لأنها كانت بيوتا توضع فيها الأصنام ويتعبد أفراد القبيلة بها، فإذا ارتحلوا إلى مكان جديد نقلوا خيمتهم معهم. والظاهر أن كعبة نجران المذكورة، إن صحت رواية ابن الكلبي، كانت من هذا النوع، خيمة مقدسة في الأصل وذلك قبل دخول أهل نجران في النصرانية، فلما دخلوها، لم تذهب عنها قدسيتها، بل حولوها إلى كنيسة، ثم بنوا بيعة في موضعها فيما بعدز

وفي رواية أن قس بن ساعدة الأيادي كان أسقفا على نجران3، وهي رواية تحتاج إلى سند موثوق به، وقد أخذ بها "شيخو" وأمثاله ممن يرجع كل شيء

1 البلدان "8/ 193"، تاج العروس "1/ 457"، "3/ 556"، ديوان الأعشى "122"،"طبعة كاير" Geyer، ابن قتيبة، الشعر والشعراء "283".RaccoIta III p 127

2 البلدان "8/ 623""نجران" تاج العروس "3/ 556".

3 RaccoIta III p 128 Lammens CaIifat p 332

ص: 192

من هذا القبيل في الجاهلية إلى النصرانية.

وقد كانت نجران المركز الرئيسي للنصرانية في اليمن عند ظهور الإسلام، لها نظام سياسي واداري خاص تخضع له، وعليها:"العاقب"، وهو كما يقول أهل السير:"أمير القوم، وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه"، و"السيد"، وهو "ثمالهم، وصاحب رحلهم ومجتععم"، و"الأسقف"، وهو "حبرهم، وإمامهم، وصاحب مدارسهم"1. ويقصدون به رئيس نجران الديني الذي إليه يرجعون في أمور الدين. أما العاقب والسيد، فإليهما إدارة الجماعة، والإشراف على شؤونهم السياسية والمالية، وتدبير ما يحتاج المجتمع إليه من بقية الشؤون2.

وقد صالح أهل نجران خالد بن الوليد، في زمن النبي، في السنة العاشرة من الهجرة، وبذلك دخل أكثر سكان المدينة في الإسلام. أما من بقي على دينه من النصارى، فقد فرضت عليه الجزية3.

ويذكر أهل السير أن اسم عاقب نجران في أيام النبي، هو "عبد المسيح" رجل من كندة. وقد قدم على رأس وفد من أهل نجران إلى يثرب، فقابل الرسول، وتحدث معه. وكان معه "الأيهم" وهو سيد نجران يومئذ، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم يومئذ، وله مقام عظيم عندهم، "وقد شرف فيهم، ودرس كتبهم حتى حسن علمه بدينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه، واخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينه"4.

وإذا صح ما رواه أهل الأخبار من أن يعاقب نجران كان كنديا، وأن أسقفها كان من "بكر بن وائل"، فإن ذلك يدل على أن الرئاسة عند النصارى العرب،

1 ابن هشام "2/ 204"، تاج العروس "1/ 389"، "عقب"، "6/ 141"، "سقف"، اللسان "11/ 57"، "صاحب مدارسهم"، ابن سعد "1/ 357"،

2 RaccoIta III p 128

3 الطبري "3/ 157"، "حوادث السنة العاشرة"، البلدان "8/ 261 وما بعدها".

4 ابن هشام "3/ 204"، تاج العروس "1/ 389"ن اللسان "2/ 105"، ابن سعد "1/ 358"، نهاية الأرب "18/ 121".

ص: 193

لم تكن تتبع العرف القبلي في الزعامة، وإنما كانت عن تنسيب واختيار، وأنا لا أستبعد احتمال وجود مراجع دينية عليا، كانت هي التي تتولى النظر في إدارة الكنائس وفي تعيين رجال الدين وفي النظر في المشكلات التي تقع بين النصارى، أو بين النصارى وغيرهم، وفي أمر مساهمة النصارى العرب في المجامع الكنسية التي تنظر في المسائل العامة للطوائف.

ويرى بعض أهل الأخبار أن "السيد والعاقب أسقفي نجران اللذين أرادا مباهلة رسول الله" هما من ولد الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي، الذي حكم بين بني نزار بن معد في ميراثهم، وكان منزله بنجران1.

ويذكر علماء اللغة، أن "العاقب" من كل شيء آخره، والعاقب السيد، وقيل الذي دون السيد، وقيل الذي يخلف السيد، وقيل: الذي يخلف من كان قبله في الخير كالعقوب2. والذي أوحى إليهم بهذا التأويل والتفسير، ظاهر لفظة "عقب" في عربيتنا التي منها اشتقت لفظة "العاقب" على رأسهم. والصحيح أنها لفظة عربية جنوبية وردت في المسند، بمعنى "رئيس" وممثل قوم، أي رسول قوم، فورد "عقبت نشقم"، أي "رئيس" مدينة "نشق"3، وبمعنى ممثل مدينة "نشق"4.

وذكر أن نصارى نجران، أرسلوا العاقب والسيد في نفر لمحاججة رسول الله فيما نزل عليه في المسيح، من إنه عبد الله، حيث كبر ذلك عليهم سماعه، فأخذوا يخاصمونه ويجادلونه فيه، وألحوا عليه بالجدل والخصومة، فدعاهم إلى الملاعنة، فامتنعوا ودعوا إلى المصالحة، فصالحهم5. وإنه إلى ذلك أشير في القرآن الكريم:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 6.

1 المحبر "131".

2 تاج العروس "1/ 389"، "عقب".

3 Jamme 619 Mb 178 Mahrm p 120

4 Jamme South Arabian Inscription p 445

5 إرشاد الساري "6/ 437".

6 آل عمران، الآية رقم 61، تفسير الطبري "3/ 209 وما بعدها"، روح المعاني "3/ 165"، امتاع الأسماع "1/ 502"،الواحدي، أسباب ""74"، ابن سعد "1 قسم 2 ص84" إرشاد الساري "6/ 437".

ص: 194

وورد أيضًا إنه بعث رسول الله وسمع به أهل نجران أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم منهم العاقب والسيد، و"مار جرجس"، و"ماريخر"، "فسألوه ما يقول في عيسى. فقال: هو عبد الله وروحه وكلمته. قالوا هم: لا، ولكنه هو الله نزل من ملكه، فدخل في جوف مريم، ثم خرج منها، فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنسانا خلق من غير أب؟ فأنزل الله، عز وجل، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1.

وقد كان لنصارى اليمن كنائس أخرى غير كنيسة "نجران": فقد كانت لهم كنيسة عظيمة في "صنعاء"، هي "القليس" التي اكتسبت شهرة عظيمة في كتب الأخبار والتورايخ وهي كنيسة "أبرهة"، من أصل "اكلسيا" EccIysia اليوناني بمعنى الكنيسة، وموضعها الآن جامع "صنعاء" على ما يظن. وقد أبدع الأحباش في تزيينها وتجميلها، وأنفقوا عليها مبالغ طائلة.

كما كانت لهم كنائس في "مأرب" و"ظفار". وقد عهد الأحباش بتدبير شؤون كنيسة "ظفار" إلى أسقف شهير يقال له "جرجسنيوس" جورجيسيوس" "جرحيسوس". وهو مؤلف كتاب شرائع الحميرين. وله مناظرات مع اليهود2.

وقد بقيت النصرانية قائمة في اليمن في أيام الإسلام، ففي الأخبار الكنسية أن رئيس البطارقة النساطرة "طيموثاوس"، نصب في أواخر القرن الثامن للميلاد أسقفا لنجران وصنعاء، اسمه "بطرس"3. وفي "الفهرست" لابن النديم، أنه التقى براهب من نجران يدعى حسان، كان قد أنفذه الجاثليق إلى الصين، ليتفقد مع خمسة أناسي من النصارى أحوال نصاراها، فعاد منها سنة "377" للهجرة، وأخبره بعجائب تلك الميلاد4. وذكر أنه في حوالي سنة 1210 للميلاد كان في منطقة صنعاء خمسة أساقفة، وأسقف في مدينة زبيد وأسقف في نجرانن وأنه كان في حوالي سنة 1250 للميلاد أسقف في عدن5.

1 تفسير الطبري "3/ 19 وما بعدها".

2 النصرانية "1/ 64". Migne pane patr Grae 86 567 620

3 النصرانية "1/ 67".

4 الفهرست "504""مطبعة الاستقامة".

5 النصرانية "1/ 67".

ص: 195

إن بقاء النصرانية في نجران وفي مواضع من اليمن وأنحاء أخرى من جزيرة العرب، وبقاء اليهود في اليمن إلى زمن غير بعيد، يشير إلى أن ما ذهب إليه كثير من المؤرخين من إجلاء أهل الكتاب بأمر الخليفة "عمر" عن جزيرة العرب ثم بقية الخلفاء الذين ساروا على حكم:"لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فيه مبالغة1. والظاهر أن الإجلاء كان قاصرا على الموضع التي تعرضت فيها جاليات أهل الكتاب فيها للإسلام بسوء. فطبق على جاليات يهود يثرب ومن كان يسكن إلى الشمال منهم، لوقوفهم موقفا معاديا شديدا من الإسلام، ولعملهم في إثارة الفتن على المسلمين. ومن يدري فلعلهم ولعل أهل الكتاب عمومًا ساعدوا في قيام الردة وتشجيع المتنبين والمرتدين للقضاء على الخطر الذي زعموه، خطر ظهور الإسلام وانتشاره في جزيرة العرب وفي خارجها، وقيام دولة موحدة كبيرة فيها ومن يدري أيضًا، فلعل الروم والأحباش كانوا أيضًا في جملة من كان يحرض أهل الكتاب على الدس للإسلام، وأن بعض من أعلن الردة مثل "النعمان بن الغرور" وهو نصراني، وغيره ما حمل الخليفة على اتباع قاعدة إجلاء الدساسين من أهل الكتاب مهما كان نوعهم عن جزيرة العرب لحماية الإسلام من خطر الفتنة ومن الردة، ولم تكن قواعده قد تركزت واستقرت استقرارًا تامًّا بعد.

إن الذي افهمه من سياسة إجلاء "عمر" لأهل الكتاب، هو أن ذلك الإجلاء كان خاصًّا بالجاليات اليهودية التي كانت تقيم فيها بين فلسطين ويثرب، وقاصرا عليها، بسبب وقوفعها موقفا معاديا من الإسلام، أما النصارى فلم تكن لهم جاليات هناك، فلم يقع إجلاء لهم فيها. ولكن "عمر" ومن جاء بعده لم يطيقوا الإجلاء على الأسر والأفراد، بدليل ما نجده في أخبار أهل الأخبار من وجود أسر وأفراد من يهود ونصارى في يثرب وفي مكة وفي الطائف بعد وفاة عمر.

أما في غير الحجاز من بقية أنحاء جزيرة العرب، فلم يطبق قانون "عمر" على أهل الكتاب، بدليل دفع جالياتهم "الجزية" عن رءوسهم في أيامه إلى وفاته، ثم في أيام من جاء بعده من الخلفاء. فكأن الخليفة، قد طبق أمر الإجلاء على

1 "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأخرجن اليهود والنصارى عن جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا"، البلدان "8/ 263".

ص: 196

يهود الحجاز لخوفه من خطر بقائهم في مقر الإسلام وفي مدينة الرسول ومن احتمال عودة من هاجر منهم إلى أرضهم وتكتلهم من جديد، وإثارتهم من لم يكن قد تمكن الإسلام من قلبه بعد، فيقع للإسلام ما وقع في أيام الرسول من اتصالهم سرا بكفار قريش، ومن حدوث ردة جديدة، فقرر إجلاءهم جماعة عن تلك الديار.

ص: 197

‌النصرانية في بقية مواضع جزيرة العرب:

وكان التجار الروم ينزلون سواحل العربية الجنوبية للتزود منها بالماء وبالطعام وللاتجار مع سكانها، ومهم من أقام بها وقضى حياته فيها، وتعرب. وكان منهم من بشر بالنصرانية وعمل على نشرها بين السكان. ولعل الحكومة البيزنطية كانت ترسل المبشرين إلى هذه المواضع للتبشير، كذلك أرسل نصارى الحيرة المبشرين لنشر نصرانيتهم في العربية الجنوبية1. وبعد دخول هذه البلاد في الإسلام احتفظ قوم من النصارى بدينهم، مقابل دفع الجزية للمسلمين2.

وأما اليمامة، فكانت النصرانية قد وجدت لها سبيلا بين قراها وقبائلها. ويظهر من شعر للأعشى مدح به "هوذة بن علي" حاكمها عند مبعث الرسول، إنه كان نصرانيا من على قوم من "تميم" ففك وثاقهم يوم أسروا، ويوم قتلوا وسط "المشقر"، ومن عليهم "يوم الفصح"، يرجو الإله بما سدى وما صنعا3.

وأما العربية الشرقية، فقد دخلت النصرانية إليها من الشمال، من العراق في الغالب. ولكن بعض الروم كانوا قد وجدوا سبيلهم إليها، فدخلوها من البحر أيضًا. فعشت في مواضع منها مثل البحرين، وقطر، وهجر، وبعض جزر الخليج. وكانت غالبية نصارى هذه الأرضين على مذهب نسطور آخذين هذا المذهب من نصارى الحيرة الذين كانوا على اتصال وثيق بهم، كما كان رجال دينهم يسافرون إلى هذه المنطقة للتبشير بها، فزرعوا فيها بذور مذهبهم، ونشروه بين من أقبل على النصرانية من العرب.

1 النصرانية "70".

2 البلاذري "84".

3 ديوان الأعشى "86"، جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "5/ 211".

ص: 197

ومن رجال البحرين النصارى "الجارود بن عمرو بن حنش المعلى"1، قدم على النبي بالمدينة، فأسلم وأسلم معه أصحابه. وكان حسن الإسلام صلبا حتى هلك، وقد لام قومه ممن انضم إلى "المنذر بن النعمان بن المنذر" الغرور، فارتد عن الإسلام وعاد إلى دينه الأول2. وقد بقي إلى أيام عمر" في أغلب الروايات وغلى خلافة عثمان في رواية. واشترك في حروب فارس، فقتل بها بـ "عقبة الطين"، التي عرفت باسمه، فقيل لها عقبة الجارود، وذلك سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، وقيل قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن. وقد رووا له شعرا. وكان ولده "المنذر بن الجارود" من رؤساء "عبد القيس" بالبصرة. وحفيده "الحكم بن المنذر" الذي مدحه "الأعشى الحرمازي" بشعر حسده الحجاج عليه3.

1 ويقال ابن عمرو بن المعلي، وقيل الجارود بن العلاء، وورد الجارود بن عمرو بن حنش، "والجارود لقب بشر بن عمرو بن حنش بن المعلى من بني عبد القيس العبيد الصحابي، رضي الله عنه. كنيته أبو المنذر، وقيل أبو غياث، وهو أصح" تاج العروس "2/ 318"، "جرد".

2 الطبري "3/ 136 وما بعدها""قدم الجارود في وفد عبد القيس".

3 الإصابة "1/ 217"، "رقم 1042".

ص: 198

‌الفصل الثمانون المذاهب النصرانية

لقد أصيبت النصرانية بما أصيبت به أكثر الأديان من تشقق وتصدع وانفصام، فظهرت فيها شيع وفرق، تخاصمت فيها بينها وتجادلت. وكان أكثر جدالها في موضوع طبيعة المسيح وعلاقة الأم بالابن، وفي موضوع النفس، وقد عقدت لذلك جملة مجامع كنسية للنظر في هذه الآراء والحكم على صحتها أو فسادها، وفي أمر أصحابها، اجتمع فيها مندوبون من مختلف الأماكن وبينهم بعض الأساقفة العرب. غير إنها لم تتمكن من القضاء على النزعات المختلفة، فظهرت فيها جملة مذاهب، حرمت المجامع أصحابها، وحكمت ببدعتهم وبخروجهم على التعاليم الصحيحة، وطلبت من بعضهم الرجوع إلى الدين الصحيح، غير أن منهم من أصر على رأيه، وتحزب له، وبشر به، فوجد أنصارا وأعوانا انتموا إليه وتسموا به.

والواقع إنه لم يكن من السهل على الداخلين في النصرانية فهم قضية معقدة كهذه القضية، وهي قضية فلسفية جدلية أكثر منها عقيدة دينية. ولذلك كان من الطبيعي وقوع الاختلاف فيها، وتشتت آراء النصرانية بالقياس إليها، خاصة وهي حديثة عهد، وأكثر الداخلين فيها هم ممن دخلوا حديثا في هذا الدين، وليس لهم الإدراك العميق والخيال الواسع لفهم موضوع كهذا الموضوع. ثم إن النصرانية ديانة عالمية، لم توجه لأمة خاصة من الأمم، وقد جاءت ككل الأديان بأحكام لا بد وأن يختلف الناس في فهمها، لاختلاف المدارك والثقافات، وهذا

ص: 199

الاختلاف في الفهم، يؤدي إلى ظهور المذاهب والشيع، وإلى تناحر هذه المذاهب، وادعاء كل واحد منها إنه وحده على الحق، وإن ما دونه على الباطل والهرطقة والكفر.

لقد فتح "بولس الرسول" وأتباع المسيح الآخرون ميدانا واسعا من الجدل في موضوع المسيح: هل المسيح إنسان، أو هو رب، أو هو من خلق الرب؟ وهل هو والرب سواء، أو هو منفصل عن الرب؟ هذه الأسئلة وأمثالها مما يتصل بطبيعة المسيح شغلت رجال الكنيسة، وكتلتهم كتلا: كل كتلة ترى أن رأيها في الطبيعة هو الرأي الصواب، وأنه هو الدين الحق القويم، وأن ما دونه ضلال وباطل. فظهرت المذاهب: شرقية وغربية، وانقسمت الكنيسة على نفسها، فظهرت من الكنيسة الواحدة كنائس. ولا تزال تنشق، ويزيد عددها وتظهر أسماء جديدة لمذاهب لم تكن معروفة في النصرانية القديمة.

لقد كان الناصريون الأولون، وهي التسمية القديمة التي عرف بها النصارى، في فوضى فكرية. فلم تكن تعاليم المسيح مفهومة عندهم ولا مهضومة، وكانت تفاسير تلاميذه غير منسقة ولا مركزة تركيزا يكفي لتوجيه الناصريين وجهة معينة واحدة. ثم إن تعقب اليهود والرومان للنصارى وتنكيلهم بهم، وخوف الناصري على حياته وعلى ماله إذا تظاهر بدينه: كل هذه كان لها أثر خطير في المجتمع النصراني الأول. ولولا جلد بعض التلاميذ وتفانيهم في الدعوة، وتركيزهم لتعاليمها وتبويبها وصقلها، لما كان للنصرانية ذكر باق حتى الآن.

وليس في استطاعة أحد الزعم بأن هذه النصرانية التي تركزت وتثبتت على هذه الصورة التي نشهدها، هي النصرانية التي جاء بها المسيح وكان عليها الناصريون، أي أقدم أتباع عيسى. فالنصرانية هي سلسلة تطورات وأفكار وآراء وضعها البارزون من الآباء، ثم إنها كأكثر الأديان تأثرت بمؤثرات عديدة لم يكن من الممكن على الداخلين فيها التخلص منها. فدخلت فيها وصارت جزءًا منها، مع أن بعضها مناهض ومناقض لمبادئ هذا الدين.

وتولد عن هذا الجدل ظهور "الآريوسية" أتباع "آريوس" و"السبيلية" SabiIIians وأتباع "الثالوث" Trinitarians ومذاهب أخرى نبعث من تلك البلبة الفكرية التي أظهرها الاختلاف في طبيعة المسيح. ونظرا إلى ما أحدثته هذه الآراء

ص: 200

‌الفصل الحادي والثمانون: التنظيم الديني

‌مدخل

الفصل الحادي والثمانون التنظيم الديني

وكان لنصارى العرب تنظيمهم الخاص بدور العبادة وبالتعليم والإرشاد، وهو تنظيم أخذ من تنظيم الكنيسة العام، ومن التقاليد التي سار عليها آباء الكنيسة منذ أوائل أيام النصرانية حتى صارت قوانين عامة. فللكنيسة درجات ورتب، وللمشرفين عليها منازل وسلالم، وقد اقتبست هذه التنظيمات من الأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشت فيها النصرانية منذ يوم ولادتها، والتي وضعها رؤساؤها لنشر الديانة ولتنظيم شؤون الرعية، حتى صارت الكنيسة وكأنها حكومة من الحكومات الزمنةي، لها رئيس أعلى، وتحته جماعة من الموظفين، لها ملابس خاصة تتناسب مع درجاتهم ومنازلهم في مراتب الحكومة، ولهم معابد وبيوت وأوقاف وسيطرة على أتباعهم، جاوزت أحيانًا سيطرة الحكومات.

ومن الألفاظ التي لها علاقة بالدرجات والرتب الدينية عند النصارى لفظة "البطرك" و"البطريق". وقد وردت لفظة "البطريق" في شعر ينسب إلى "أمية بن أبي الصلت"1.

1 من كل بطريق لبطريق نقى الوجه واضح - تاج العروس "6/ 296"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزءالثاني، القسم الأول "ص191"، تاج العروس "7/ 111""الطبعة الأولى بمصر، مطبعة مصر"، اللسان "10/ 212، 401"، "دار صادر""بيروت 1956"، البستان "11/ 157"، "بيروت 1927"، محيط المحيط "1/ 102" بيروت 1868/"، مروج "2/ 199"، صبح الأعشى "5/ 472"، "القاهرة 1915م"" المطبعة الأميرية".

ص: 214

وقد ذهب علماء اللغة إلى أن "البطرك"، هو مقدم النصارى، وهو في معنى "البطريق" أيضًا. وقالوا أيضًا إن البطريق مقدم جيش الروم. و"البطرك" من أصل يوناني هو "Patriakhis""بثريارخيس"، ومعناه "أبو الآباء"، وذلك لأنه الأب الأول والأعلى للرعية، فهو أب الآباء ورئيس رجال الدين. أما لفظة البطريق، فإنها من أصل لاتيني، هو Patrikios، وهو يعني وظيفة حكومية وتعني درجة "قائد" في المملكة البيزنطية1. فلا علاقة لها إذن بالتنظيم الديني للنصرانية.

وبين البطريق "البطرك" والأسقف منزلة يقال لشاغلها "المطران"، وقد عرف بأنه دون البطرك وفوق الأسقف. وقد وسمه "القلقشندي"، بأنه القاضي الذي يفصل الخصومات بين النصارى2. واللفظة من الألفاظ المعربة عن اليونانية، أخذت من "متروبوليتيس "MitropoIitis" أي مختص بالعاصمة، أو المدينة3. وقد ذكر علماء اللغة أن لفظة "المطران"، ليست بعربية محضة4.

والأسقف من الألفاظ التي تدل على منزلة دينية عند النصارى، وقد وردت في كتب الحديث. وقد ذكر بعض علماء اللغة إنه إنما سمي أسقف النصارى أسقفا لأنه يتخاشع5. واللفظة من الألفاظ المعربة المأخوذة عن اليونانية، فهي "ابسكوبوس" Episkopos" في الإغريقية، وقد نقلت منها إلى السريانية، ثم نقلت منها إلى العربية6. وقد وردت في كتب التواريخ والسير، حيث ورد في شروط الصلح التي عقدها الرسول مع أهل نجران، شرط هو:"لا يغير أسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته".

1 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص190 وما بعدها"، غرائب اللغة "ص255".

2 صبح الأعشى "5/ 472".

3 محيط المحيط "2/ 1987"، غرائب اللغة "ص269".

4 تاج العروس "3/ 546"، "مطر"، النصرانية "191"، البلدان "4/ 122""ديارات الأساقفة".

5 اللسان "11/ 56"، البلدان "4/ 122"، تاج العروس "6/ 141"، صبح الأعشى "5/ 472"، مقدمة ابن خلدون "234"، تأريخ ابن خلدون "27، القسم الأول ص297" اللسان "9/ 156""صادر".

6 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص119"، غرائب اللغة "ص252" محيط المحيط "1/ 970"، البستان "1/ 111"، النهاية في غريب الحديث "4/ 237".

ص: 215

والقس من الألفاظ الشائعة بين النصارى، ولا تزال مستعملة حتى الآن. ويقال لها "قسيس" في الوقت الحاضر أيضًا. وهي من أصل آرامي هو "Gachecho" ومعناه، كاهن وشيخ1. وقد جمعها "أمية بن أبي الصلت" على "قساقسة"2. وذكر بعض علماء اللغة أن "القس والقسيس العالم العابد من رءوس النصارى" وأن "اصل القس تتبع الشي وطلبه بالليل. يقال تقسست أصواتهم بالليل، أي تتبعتها"3. وقد وردت لفظة "قسيسين" في القرآن الكريم: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} 4. ويدل ذلك على أن موقف النصارى تجاه الإسلام كان أكثر مودة من موقف يهود. وقد نسب ذلك إلى القسيسين والرهبان.

وترد لفظة "شماس" في جملة الألفاظ التي لها معان دينية عند نصارى الجاهلية. وهي من الألفاظ الحية التي لا تزال تستعمل في هذا اليوم أيضًا. وتعد من الألفاظ المعربة عن السريانية. وهي "Chamocho" في الأصل، وتعني خادم، ومنها البيعة. فهي إذن ليست من الوظائف الدينية الكبيرة، وإنما هي من المراتب الثانوية في الكنيسة5. وقد ذكر بعض العلماء بأن الشماس يحلق وسط رأسه ويجعل شعره من جوانب رأسه على شكل دائرةن وهو الذي يكون مسؤولا عن الكنيسة، ويكون مساعدا للقسيس في أداء واجباته الدينية، وفي تقديس القداس أيام الآحاد والأعياد. يعمل كل ذلك للتعبد. وليس لأخذ المال والتكسب6.

1 غرائب اللغة "ص201"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص192".

2

لو كان منفلت كانت قساقسة

يحييهم الله في أيديهم الزبر

تاج "4/ 207".

3 تاج العروس "4/ 216"، محيط المحيط "1/ 1221"، تأريخ ابن خلدون "جـ2 قسم 1 ص297".

المفردات، للأصفهاني "ص412"، اللسان "6/ 174""صادر" صبح الأعشى "5/ 472"، مقدمة ابن خلدون "233".

4 المائدة، الآية 85، أسباب النزول "152"، تفسير الطبري "7/ 2".

5 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص193"، غرائب اللغة "ص191".

6 اللسان "6/ 114""صادر محيط المحيط "1/ 1221"، صبح الأعشى "5/ 472"، ابن خلدون "29، القسم الأول، ص297"، البستان "1/ 1259".

ص: 216

وورد في كتاب رسول الله إلى سادة نجران: "لا يغير أسقف عن سقيفاه، ولا راهب عن رهبانية، ولا واقف عن وقفانيته"1. ويظهر من هذا الكتاب أن الواقف منزلة من المنازل الدينية التي كانت في مدينة نجران. والظاهر إنها تعني الواقف على أمور الكنيسة، أي الأمور الغدارية والمالية والمشرف على أوقافها وأملاكها. فهو في الواقع مسؤول إداري، اختصاصه الإشراف على الأمور المتعلقة بسير غدارة الكنيسة وأموالها. إذ لا يعقل أن يكون الواقف بمعنى خادم البيعة الذي يقوم بالخدمة بمعنى التنظيف والأعمال البسيطة الأخرى، إذ لا يعقل النص على مصل هذه الدرجة في كتاب صلح الرسول مع سادة نجران. وقد ذكر بعض علماء اللغة:"الواقف خادم البيعة، لأنه وقف نفسه على خدمتها"2. ولا يعني هذا التفسير بالضرورة الخدمة على النحو المفهوم من الخدمة في الاصطلاح المتعارف. فقد كان الملوك والسادات يلقبون أنفسهم بـ "خادم الكنيسة" و"خادم المعبد"، أي بالمعنى المجازي. ولا يكون خادما صارفا وقته كله في تنظيف الكنيسة وفي القيام بالأعمال التي يقوم بها الخادم الاعتيادي.

وهناك لفظة أخرى لها علاقة بالكنيسة وبالبيعة وبالنواحي الإدارية منها، هي لفظة "الوافه" و"الواقه". وقد عرفوا صاحبها بـ "قيم البيعة التي فيها صليب النصارى"، وفي هذا المعنى أيضًا لفظة "الواهف"، حيث قالوا:"الواهف سادن البيعة التي فيها صليبهم وقيمها، كالوافه وعملها الوهافة"، والوهفية والهفية. والظاهر إنها كلها في الأصل شيء واحد، وإنما اختلف علماء اللغة في ضبظ الكلمة، فوقع من ثم هذا الاختلاف بينهم3. فالوظيفة إذن، هي بمنزلة الخازن القيم على شؤون الصليب، يحفظه من السرقة، ويضعه في خزانة أمينة، فإذا حانت أوقات العبادة وضعه في موضعه. فالصليب ثمين، وفيه ذهب

1 ابن سعد، الطبقات "1/ 358""طبعة صادر"، "لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا وافه من وفاهيته"، النهاية في غريب الحديث "4/ 237"، "واقه من وقاهيته"، البلاذري "فتوح "72"، "صلح نجران"، اللسان "17/ 459"، تاج العروس "9/ 421"، الفائق "2/ 317"، النهاية "4/ 240".

2 تاج "6/ 269"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص193" اللسان "9/ 360"، "صادر".

3 تاج "6/ 373"، "9/ 421"، المخصص "13/ 600"،اللسان "13/ 561" "صادر.

ص: 217

في الغالب، لذلك يكون هدفا للسراق1.

ويلاحظ أن علماء الحديث والتأريخ والسير، ليسوا على اتفاق فيما بينهم في تدوين نص كتاب الصلح الذي أعطاه الرسول لأهل نجران، إذ تراهم يختلفون في ضبط نصه: وفي جملة ما اختلفوا فيه جملة: "ولا واقه من وقاهيته"، فقد كتبوها بصور شتى كما رأيت، كما كتبوا النص بأشكال متباينة، مما يدل على أن الرواة قد اعتمدوا على نسخ متعددة للكتاب، وعلى أن أهل نجران كانوا قد نسخوا منه نسخا، تحرفت نصوصها بالاستنساخ، لعدم تمكن الناسخ من ضبط العبارات ضبطا صحيحا. فلما دون العلماء صورة النص تباينوا في تدوينه، وأوجدوا لهم تفاسير للفظة "واقف" و"وافه"و"واقه"، وهي لفظة واحدة في الأصل، قرأها النساخ ثلاث قراءات، فظهرت وكأنها ألفاظ مختلفة. وحاروا في تعليل المعنى، فقال بعضهم الوافه: قيم البيعة بلغة أهل الجزيرة، وقال بعض آخر بلغة أهل الحيرة، وقال بعض: كلها في معنى واحد2.

وهناك مصطلحات دينية أخرى استعملها النصارى للدلالة على درجات رجال دينهم، مثل "بابا"، وهي كلمة "رومية" وهو أعلى مرجع في نظر النصارى "الكاثوليك"3، و"الجاثليق"، وهو رئيس أساقفة بلد ما، والأعلى مقاما بينهم، وقد أطلقت اللفظة على رئيس نصارى بغداد في العهد العباسي4، وهي من أصل يوناين هو "كاثوليكوس" KathoIikos ومعناه عام5.

والساعي من الألفاظ التي تتناول المنازل والدرجات عند النصارى، وتشمل اليهود أيضًا. ويقصد بها الرئيس المتولي لشؤون اليهود أو النصارى، فلا يصدرون رأيا إلا بعد استشارته، ولا يقضون أمرا دونه. وقد ورد في حديث حذيفة في الأمانة:"إن كان يهوديا أو نصرانيا ليردنه على ساعيه"6.

1 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص194".

2 اللسان "17/ 459"، تاج العروس "9/ 421"، النهاية "4/ 240".

3 صبح الأعشى "5/ 472"، تأريخ ابن خلدون "جـ2 القسم الأول، ص297". مقدمة ابن خلدون "ص234"، غرائب اللغة "ص277".

4 تاج العروس "6/ 305"، صبح الأعشى "5/ 472"، محيط المحيط "1/ 214"، البستان "1/ 309".

5 غرائب اللغة "ص256".

6 تاج العروس "10/ 178""سعى"، اللسان "14/ 387"، محيط المحيط "1/ 960"، النصرانية"192".

ص: 218

ولفظة "بابا" وما بعدها، هي من الألفاظ التي شاع استعمالها في العربية في الإسلام، وليس لدينا ما يفيد استعمالها بين الجاهليين.

وذكر علماء اللغة أن من الألفاظ المعروفة بين النصارى لفظة "العسطوس"، ويراد بها القائم بأمور الدين، وهو رئيس النصارى1.

أما "الراهب"، فهو المتبل المنقطع إلى العبادة، وعمله هو الرهبانية. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الرهبانية غلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة2. وقد ذكرت الرهبانية في القرآن الكريم3، وذكرت في الحديث. وقد نهى عنها الإسلام: "لا رهبانية في الإسلام". وقد ندد القرآن الكريم في كثير من الأحبار والرهبان، فورد:{إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 4. ويظهر من ذلك أن جماعة منهم كانت تتصرف بأموال الناس التي تقدم إلى الأديرة والبيع، فيعيشون منها عيشة مترفة، لا تتفق مع ما ينادون به من التقشف والزهد والعبادة. كما أن منهم من عاش عيشة رفيهة وبطر، فتكبر عن الناس وترفع، حتى جعلوا أتباعهم يحيطونهم بهالة من التقديس والتعظيم، إلى درجة صيرتهم أربابا على هذه الأرض. فتقربوا إليهم وقدسوهم قدسية لا تليق إلا للخالق. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5. ذلك إنهم كانوا يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون ما أحل الله لهم فيحرمونه. "أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه وإذا حرموا شيئًا أحله الله لهم حرموه، فتلك

1 تاج العروس "4/ 192"، اللسان "6/ 141"، محيط المحيط "1/ 1396".

2 المفردات، للأصفهاني "ص203"، اللسان "جـ1/ 437""صادر القاموس "1/ 76"، تاج العروس "1/ 281"، الصحاح، للجوهري "1/ 140".

3 المائدة، الآية 82،التوبة، الآية 31، 34، سورة الحديد، الرقم 57، الآية 27، مجمع البيان "7/ 158"، تفسير الفخر الرازي "12/ 66 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 8 وما بعدها"، النهاية، لابن الأثير "2/ 120".

4 التوبة، الرقم 9، الآية 34، مجمع البيان "10/ 48"، تفسير الطبري "7/ 8 وما بعدها" تفسير الخازن "7/ 233 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 141 وما بعدها"، المقريزي، السلوك من معرفة سير الملوك "1/ 182"، "دار الكتب المصرية "1936"، السيوطي، الدر المنثور "10/ 75".

5 التوبة، الرقم9، الآية 31، جامع البيان "10/ 80"، الكشاف "2/ 31" روح المعاني "10/ 75"، تفسير الخازن "2/ 216".

ص: 219

كانت ربوبيتهم"1. وكانوا يطيعونهم طاعة عمياء، ويأخذون عنهم، ويقدسونهم، ويقبلون أيديهم ولا يعصون أمرا لهم. وذكر أن "عدي بن حاتم" الطائي، قال لرسول الله لما سمعه يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، "يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم. فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله، فتحلونه! قال: قلت بلى: قال فتلك عبادتهم"2.

ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن من الرهبان من بالغ في الترهيب وفي التزهد، فخصى نفسه ووضع السلاسل في عنقه أو في يديه أو رجليه ليحبس نفسه، وامتنع عن المآكل والأطايب، مكتفيا بقليل من الماء وبشيء من الخبز الخشن، وأن منهم من امتنع عن الكلام وصام معظم أوقاته، وابتعد عن الناس متخذا من الكهوف والجبال والمواضع النائية الخالية أماكن للتأمل والتعبد. وذلك كما يظهر من نهي الرسول عن الرهبة والرهبانية، وحمل الإسلام عليها. لأنها تبعد الناس عما أحل الله وقد عوض الإسلام عنها بالجهاد في سبيل الله3.

ومن عادات الرهبان وتقاليدهم التي وقف عليها أهل الجاهلية، الامتناع عن أكل اللحوم والودك، أبدا أو أمدا، وحبس النفس في الأديرة والصوامع، والكهوف، والاقتصاد على أكل الصعب من الطعام والخشن من الملبس، ولبس السواد والمسوح. وهي عادة انتقلت إلى الأحناف أيضًا وإلى الزهد من الجاهليين الذين نظروا نظرة زهد وتقشف إلى هذه الحياة4. كما كانوا لا يهتمون بشعورهم فكانوا يطلقونها ولا يعتنون بها ولذلك كانت شعروهم شعثا، وعبر عن الراهب

1 تفسير الطبير "10/ 80 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "5/ 142"، تفسير الطبرسي "5/ 22".

2 تفسير الطبري "10/ 80 وما بعدها"، "بولاق".

3 النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير "ص163""2/ 120""المطبعة الخيرية"، اللسان "1/ 437 وما بعدها"، تاج العروس "1/ 280 وما بعدها"، القاموس المحيط "1/ 76"، محيط المحيط "1/ 806" مجمع البيان "7/ 158"، "6/ 176"، جامع البيان "27/ 238"، "10/ 117"، الكشاف، للزمخشري "4/ 69". "2/ 31"، "1/ 43"، روح المعاني "27/ 165"، "10/ 75"، "7/ 3"، الدر المنثور "10/ 75"، صحيح مسلم "8/ 229""كتاب الزهد"، اللسان "1/ 437""صادر".

4 تفسير الطبري "7/ 8""الطبعة الثانية 1957م"، تفسير أبي السعود، "4/ 141 وما بعدها"، تفسير الرازي "12/ 67 وما بعدها".

ص: 220

بالأشعث، لأنه كان يطلق شعر رأسه ولا يحلقه ولا يعتني به1.

ومن الرهبان من ساح في الأرض، فطاف بلاد العرب وأماكن أخرى، وهام على وجهه في البوادي وبين القبائل، لا يهمه ما سيلاقيه من أخطار ومكاره، ومنهم من ابتنى له بناء في الفيافي وفي الأماكن النائية، واحتقر الآبار وحرث البقول، وعاش عيشة جماعية، حيث يعاون بعضهم بعضًا في تمشية أمور الدير الذي يعيشون فيه2. ومنهم من عاش في قلل الجبال، بعيدا عن المارة والناس. قال الشاعر:

لو عاينت رهبان دير في القلل

لانحدر الرهبان يمشي ونزل3

وقد وقف بعض أهل الجاهلية على أخبار هؤلاء الرهبان وعرفوا بعض الشيء عنهم، وبهم تأثر بعض الحنفاء على ما يظهر فأخذوا عنهم عادة التحنث والتعبد والانزواء والانطواء في الكهوف والمغاور والأماكن النائية البعيدة للتنسك والتعبد مبتعدين بذلك عن الناس منصرفين إلى التأمل والتفكر في خلق هذا الكون دون أن يدخلوا النصرانية.

وقد نهى الرسول بعض الصحابة مثل "عثمان بن مظعون"، وهو من النصارى في الأصل من تقليد الرهبان في الإخصاء وفي الامتناع عن الزواج ومن التشدد في أمور أحلها الله للناس4. ويظهر أن هذا التشدد إنما جاء إليه وإلى أمثاله من وقوفهم على حياة الرهبان وعلى رأيهم وفلسفتهم بالنسبة لهذه الحياة. وفي حق هؤلاء نزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ

1 تاج العروس "1/ 638".

2 تفسير الطبري "27/ 124"، روح المعاني "6/ 8 وما بعدها"، تفسير الطبري "7/ 9وما بعدها"، تفسير الخازن "7/ 233 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 141 وما بعدها".

3 تفسير الطبري "7/ 4".

لو أبصرت رهبان دير في الجبل

لانحدر الرهبان يسعى ويصل

تفسير القرطبي، الجامع "6م 258".

4 الدر المنثور "2/ 307"، مجمع البيان في تفسير القرآن "7/ 6 وما بعدها"، تفسير القرطبي "6/ 260 وما بعدها"، مجمع البيان "27/ 158"، "طبعة دار الفكر. بيروت"، الدر المنثور، للسيوطي "2/ 307"، روح المعاني "7/ 3"، "27/ 165".

ص: 221

وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1. وذكر أن الرسول لما سمع بابتعاد "عثمان" من أهله، دعاه، فنهاه عن ذلك. ثم قال: "ما بال أقوم حرموا النساء والطعام والنوم! ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني". فنزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} . يقول لعثمان لا تجب نفسك، فإن هذا هو الاعتداء"2.

وورد في الحديث: "لا صرورة في الإسلام"، والصرورة التبتل وترك النكاح، أي ليس ينبغي لأحد أن يقول لا أتزوج، لأن هذا ليس من أخلاق المسلمين، بل هو من فعل الرهبان. وهو معروف في كلام العرب. ومنه قول النابغة:

لو أنها عرضت لأشمط راهب

عبد الإله صرورة متعبد

يعني الراهب الذي ترك النساء3.

وقد أشير إلى الرهبان في شعر امرئ القيس، إذ أشار فيه إلى منارة الراهب التي يمسي بها يتبتل فيها إلى الله، وعنده مصباح يستنير بنوره4. كما أشار فيه إليه وهو في صومعته يتلو الزبور ونجم الصبح ما طلعا5، دلالة على تهجده وتعبده في وقت يكون الناس فيه نياما. كما أشير إليهم في شعر شعراء جاهليين آخرين مثل "النابغة الذبياني"، الذي أشار إلى ركوع الراهب يدعو ربه فيه ويتوسل إليه6. كما أشار إلى موقف الراهب من رؤية امرأة جميلة، وكيف سيرنو إليها

1 المائدة، الآية 87.

2 تفسير الطبري "7/ 6"، روح المعاني "7/ 7".

3 تاج العروس "3/ 331"، "صور".

4

تضئ الظلام بالعشاء كأنها

منارة ممس راهب متبتل

النصرانية "الجزء الثاني، القسم الأول، ص175".

5

كأنه راهب في رأس صومعة

يتلو الزبور ونجم الصبح ما طلعا

النصرانية "جـ 2، قسم2، ص392".

6 سيبلغ عذراء أو نجاحا من امرئ

إلى ربه رب البرية راكع

دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية""10/ 9"،النصرانية "الجزء الثاني، القسم الثاني "ص394".

ص: 222

حتى وإن كان راهبا اشمط1. وقد أشار إلى "ثوبي راهب الدير" وإلى الحلف بثوبيه2.

وورد في الشعر ما يفيد بانقطاع الرهبان في الأماكن الصعبة القصية مثل قلل الجبال وذراها، حيث لا يأتيهم الناس، فيعيشون في خلوة وانقطاع عن البشر3. ومن الأماكن التي اشتهرت بوجود الرهبان فيها أرض مدين4. ووادي القرى ومنازل تنوخ وصوران وزبد5.

وقد سبح الرهبان ورجال الدين، الله، في الكنائس وفي الأديرة بألحان عذبة جميلة، ورتلوا الزبور والأسفار المقدسة الأخرى. وقد عرف الجاهليون ذلك عنهم، وأشاروا إلى ذلك في شعرهم، وربما كان بعضهم يحضر تلك التراتيل ويستأنس بها على الرغم من وثنيته وعدم اعتقاده بالنصرانية.

ويقال للراهب الزاهد، الذي ربط نفسه عن الدنيا: الربيط. وقيل له: الحبيس. وذكر أن الربيط، هو المتقشف الحكيم6، وأن الحبيس هو الذي حبس نفسه في سبيل الله، فقبعوا في الأديرة وابتعدوا عن الناس. فصاروا كالحبساء7.

1 تفسير القرطبي، "6/ 258".

لو أنها عرضت لاشمط راهب

عبد الإله صرورة متعبد

كرنا لرؤيتها وحسن حديثها

ولخاله رشدا وإن لم يرشد

2 تاج العروس "1/ 281".

3 لو كلمت رهبان دير في القلل

لانحدر الراهب يسعى فنزل

اللسان "1/ 437""صادر"، تاج العروس "1/ 281"، المقريزي، السلوك في معرفة سير الملوك "1/ 182" تفسير الطبري "27/ 158"، "البابي"، الكشاف "2/ 31"، الدر المنثور "6/ 177"، تفسيرالخازن "2/ 216". "4/ 232".

لو أنها عرضت لاشمط راهب

في رأس مشرفة الذرى متبتل

الأغاني "19/ 92""دار الثقافة بيروت"، وقد نسب هذا الشعر إلى ربيعة بن مقروم الصيفي. وقد مر النصف الأول من هذا البيت من شعر نسب إلى النابغة الذبياني في تفسير القرطبي "6/ 258"ز

4 قال جرير:

رهبان مدين، لو رأوك تنزلوا

والعصم، من سعف العقول، الغادر

اللسان "1/ 437""صادر"، تفسير الطبري "7/ 4".

5 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "196 وما بعدها".

6 تاج العروس "5/ 143"، القاموس المحيط "2/ 361"، المقريزي، سير "1/ 182" البلدان "2/ 213""صادر".

7 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "197"، البلدان "2/ 213".

ص: 223

ويقال للراهب: المقدسي. والمقدس الراهب. وصبيان النصارى يتبركون به، ويتمسحون بملابسه تبركا1. كما قيل له: المتعبد، والأعابد2 ونسب إلى "امرئ القيس" هذا البيت:

فأدركنه يأخذن بالساق والنسا

كما شبرق الولدان ثوب المقدسي

ويروي المقدسي، وهو الراهب ينزل من صومعته إلى بيت المقدس، فيمزق الصبيان ثيابه تبركا به3.

وأما "النهامي"، فهو صاحب الدير، أو الراهب في الدير4.

ومن الألفاظ التي شاعت بين النصارى ووصل خبرها إلى الجاهليين، لفظة:"الأبيل"، وقد اتخذوها للدلالة على رئيس النصارى. وذكر بعض أهل الأخبار أنها تعني أيضًا "المسيح". وقد كانوا يعظمون الأبيل فيحلفون به كما يحلفون بالله. وهي من الألفاظ المعربة عن السريانية "ابيلو" AbiIo"، ومعناها في السريانية الزاهد والناسك والراهب. وكانوا يتخذون عادة رؤساءهم من الرهبان المتبتلين5. وقد وردت لفظة "الأبيل" في الشعر الجاهلي، في شعر: الأعشى وفي شعر عدي بن زيد. وورد "أبيل الأبيلين"، وأريد بذلك المسيح6. وذكر أن "الأبيل" هو صاحب الناقوس، والراهب أيضًا7. وأن "الأبيلي"، هو ضارب الناقوس. و"الأيبل"، العصا التي يدق بها الناقوس8. قال الأعشى:

1 اللسان "6/ 169""صادر".

2 اللسان "3/ 272".

3 تاج العروس "6/ 390"، "شبرق".

4 تاج العروس "9/ 88"، نهم"، المخصص "13/ 100".

5 النصرانية، الجزء الثاني: القسم الأول "190"، غرائب اللغة "172".

6 قال ابن عبد الجن، وقيل عمرو بن عبد الحق:

أما ودماء ماثرات تخالها

على قنة العزى أو النسر عندما

وما قدس الرهبان في كل هيكل

أبيل الأبيلين، المسيح بن مريما

لقد ذاق منا عامر يوم لعلع

حساما، إذا ما هز بالكف صمما

اللسان "11/ 6 وما بعدها"، "أبل"، صادر".

7 اللسان "11/ 6 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 199". الأب مرمرجي، معجميات عربية سامية "131 وما بعدها"، شعراء النصرانية، لشيخو "453"، المخصص "13/ 100".

8 ديوان الأعشى "53""المطبعة النموذجية"، 1950م".

ص: 224

وما أيبلي على هيكل

بناه وصلب فيه وصارا

يراوح من صلوات المليك

طورا سجودا وطورا جؤارا

يعني بالجؤارالصياح. إما بالدعاء وإما بالقراءة1.

والساعود من أسماء المسيح وهو من أصل "سوعورو" So ouro، بمعنى زائر. وتطلق اللفظة على من يزور القرى ويطلع على أحوالها وذلك بأمر من الأسقف2. وذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن السريانية، وأن الأصل "ساعورا"، ومعناه متفقد المرضى، وتطلق اللفظة على مقدم النصارى في معرفة علم الطلب3.

ويقال لخادم البيعة: الجلادي4. وذكر أن "الجلذي" الراهب والصانع والخادم في الكنيسة. قال ابن مقبل:

صوت النواقيس فيه ما يفرطه

أيدي الجلاذي جون ما يغضبنا5

و"الكنيس" و"الكنيسة" موضع عبادة اليهود والنصارى، فهما في مقابل "المسجد والجامع" عند المسلمين. والكلمة من الألفاظ المعربة عن الآرامية، وتعني لفظة "Knouchto""كنشتو""كنشت" في السريانية، اجتماع، ومجمع وأطلقت بصورة خاصة على كنيس اليهود6. ولهذا نجد العرب يطلقونها على معبد اليهود كذلك. ويقال في العبرانية للكنيس "كنيستا"، بمعنى محل الصلاة. ونجد الكتب العربية تفرق بين موضع عبادة اليهود وموضع عبادة النصارى، فتطلق "الكنيس" على موضع عبادة اليهود و"الكنيسة" على موضع عبادة الأصنام. وقد ذهب بعض علماء اللغة، إلى أن الكنيسة، هي متعبد اليهود، وأما "البيعة"،

1 تفسير الطبري "14/ 82".

2 غرائب اللغة "187".

3 تاج العروس "3/ 468""الخيرية"، النصرانية، القسم الأول "194"،القاموس "2/ 48".

4 اللسان "5/ 14""المطبعة الأميرية"، "3/ 483""صادر"، تاج العروس "2/ 557".

5 تاج العروس "2/ 557"، "ما يعفينا"، اللسان "3/ 482"، "صادر".

6 غرائب اللغة "ص204"، النصرانية وآدابها، شيخو "2/ 201 وما بعدها"، "الطبعة الثانية بيروت 1933".

ص: 225

فهي متعبد النصارى1. وقد عرف علماء اللغة العرب، إنها من الألفاظ المعربة، فقالوا: وهي معربة، أصلها كنست2.

وقد زوق النصارى كنائسهم، وجملوها، وزينوها بالصور وبالتماثيل، ووضعوا الصلبان على أبوابها وفي داخلها. ووضعوا بها المصابيح لإنارتها في الليل، وكانوا يسرجون فيها السرجن وجعلوا بها النواقيس، لتقرعن فترشد المؤمنين بأوقات الصلوات، ولتشير إليهم بوجود مناسبات دينية، كوفاة، أو ميلاد مولود، أو عرس وأمثال ذلك. ومن الكنائس التي اكتسبت حرمة كبيرة عند النصارى العرب: كنيسة القيامة، وكنيسة نجران، وكنيسة الرصافة. وقد أشير في شعر للنابغة إلى "صليب على الزوراء منصوب"، أي على كنيسة.

والتمثال الشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله، أي من إنسان أو حيوان أو جماد3. وأدخل العلماء الصور في التماثيل. وقد كانت الكنائس مزينة بالتماثيل والصور، تمثل حوادث الكتاب المقدس وحياة المسيح. ونظرا إلى محاربة الإسلام للأصنام، وإلى كل ما يعيد إلى ذاكرة الإنسان عبادة الأصنام والصور، ورد النهي عنها في الإسلام. جاء في الحديث:"أشد الناس عذاب يوم القيامة المصورون"4.

وقد كان الروم يمدون الكنائس والمبشرين بالمال وبالفعلة وبالمساعدات المادية لبناء الكنائس والأديرة. والكنائس والأديرة وإن كانت بيوت تقوى وعبادة، كانت بيوت سياسة ودعوة وتوجيه. ونشر النصرانية مهما كان مذهبها ولونها، مفيد للروم، فالنصراني مهما كان مذهبه لا بد أن يميل إلى إخوانه في العقيدة والدين، ففي انتشار النصرانية فائدة من هذه الناحية كبيرة للبيزنطيين.

وفي العربية لفظة أخرى للكنيسة، إلا أنها لفظة خصصت بكنيسة معينة، هي الكنيسة التي بناها أبرهة بمدينة صنعاء، واللفظة هي:"القليس". وللأخباريين آراء في معناها وفي أصلها، بنيت على طريقتهم الخاصة في إيجاد التفاسير للكلمات القديمة من عربية ومن معربة، التي لا يعرفون من أمرها شيئًا. وهي لذلك

1 تاج العروس "4/ 235".

2 اللسان "6/ 199"، تاج العروس "4/ 235".

3 تاج العروس "8/ 111"، "مثل".

4 تفسير الطبري "22/ 49"، تفسير القرطبي "4/ 273 وما بعدها".

ص: 226

لا تفيدنا شيئًا. والكلمة أعجمية الأصل، عربت، وشاع استعمالها، حتى ظن إنها اسم تلك الكنيسة. أخذت هذه اللفظة من أصل يوناني هو "أكليسيا""EkkIesia"، ومعناه في اليونانية المجمع، أي الكنيسة، فصيروها اسم علم على هذه الكنيسة، ولم يدروا أنها تعني الكنيسة، أي موضع عبادة1.

والصوامع والبيع هما من الألفاظ التي استعملها الجاهليون للدلالة على مواضع العبادة عند النصارى. وقد ذهب العلماء إلى أن البيعة من الألفاظ المعربة2. أخذت من السريانية. وأصل اللفظة في السريانية، هو "بعتو" بمعنى بيضة، وقبة، لأنها كانت قبة في كثير من الكنائس القديمة3. وقد استعملت في الحبشة كذلك ولذلك ذهب بعضهم إلى أنها من الحبشة4. وقال علماء اللغة العرب: الصومعة كل بناء متصمع الرأس، أي متلاصقة، والأصمع اللاصقة إذنه برأسه5. وقد أشير إلى "البيع" في القرآن:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} 6. وقد ذهب بعض علماء اللغة، إلى أن البيعة متعبد اليهود7.

ولكن أغلبهم على أنها متعبد النصارى.

وقد وردت لفظة "بيعة" في نص "أبرهة" الشهير الذي دونه على سد مأرب. ففي هذا النص جملة: "وقدس بعتن"، أي "وقدس البيعة"8.

وذكر أن لفظة "البيعة" قد وردت في شعر ينسب إلى ورقة بن نوفل، حيث زعم إنه قال:

أقول إذا صليت في كل بيعة

تباركت قد أكثرت باسمك داعيا9

1 "القليس"، "القليسة"، اللسان "6/ 180"، "قلس".

Ency II p 144 RacciIta III p 127

2 المعرب "ص81".

3 معجميات "ص109 وما بعدها"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص213"، غرائب اللغة "175".

4 النصرانية "الثاني"، القسم الأول "213"""طبعة ثانية".

5 المفردات "288"، اللسان "8/ 208"، تاج العروس "7/ 411"

6 الحج: الآية 40.

7 تفسير الطبري "15/ 175""البابي"، اللسان "8/ 26""صادر".

8 رجع النص في مجلة المجمع العلمي العراقي "4/ 215".

9 الأغاني "3/ 16".

ص: 227

كما ذكر إنها وردت في كلام أناس من الجاهليين والمخضرمين1.

وقد أشير إلى ورودها في الشعر الجاهلي وفي بعض الأخبار المنسوبة إلى الجاهليين. وردت في شعر منسوب إلى "عبد المسيح بن بقيلة"، وهو كما يظهر من اسمه من النصارى2. ووردت في بيت منسوب إلى لقيط بن معبد3. وفي شعر ينسب إلى الزبرقان بن بدر التميمي4. ولا بد أن تكون هذه الكلمة من الكلمات المألوفة عند الجاهليين المتنصرين، وعند غيرهم ممن كانوا على الوثنية، غير إنهم كانوا على اتصال بالنصارى، ذلك لأنها من الألفاظ الشائعة المعروفة عند النصارى.

وقد كانت البيع منتشرة في المدن وفي القرى والبوادي، وطالما قصدها الأعراب للاحتماء بها من الحر والبرد وللاستعانة برجالها لتزويدهم بما عندهم من ماء أو زاد أو للتنزه بها واحتساء الشراب.

والصومعة من أصل حبشي هو "صومعت" على رأي بعض المستشرقين. وقد خصصت بـ "قلاية" الراهب5. أي مسكن الرهبان. وبهذا المعنى وردت في القرآن. ويقول علماء اللغة، أنها على وزن فوعلة، سميت صومعة، لأنها دقيقة الرأس. وهي صومعة النصارى6. وذكر بعض منهم أن الصومعة كل بناء متصمع الرأس، أي متلاصقة7. وقد سميت صومعة لتلطيف أعلاها8. ويدل ورود هذه اللفظة بصورة الجمع في القرآن الكريم، على وقوف الجاهليين على

1 ابن هشام "935""طبعة ليدن"، تاج العروس "5/ 285"، النصرآنية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص201 وما بعدها".

2

كم تجرعت بدير الجرعة

غصصا كبدي بها منصدعه

من بدور فوق أغصان على

كثب زرن احتسابا بيعه

البلدان "4/ 120""دير الجرعة"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "202 وما بعدها".

3

تامنت فؤادي بذات الخال خرعبة

مرت تريد بذات العذبة البيعا

تاج العروس "5/ 285"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "202".

ابن هشام "1/ 935"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "202".

4

نحن الكرام، فلاحي يعادلنا

منا الكرام، وفينا تنصب البيع

ابن هشام "1/ 935"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "201".

5 معجميات "ص109 وما بعدها"، RaccoIta III P 127

6 اللسان "10/ 76"، معجميات "ص153"، تاج العروس" 7/ 411"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "174، 213".

7 مفردات، الأصفهاني "ص288".

8 اللسان "8/ 208""صادر".

ص: 228

الصوامع ووجوها بينهم1. وقد كان الرهبان قد ابتنوا الصوامع وأقاموا بها للعبادة بعيدين في مختلف أنحاء جزيرة العرب، ومنها الحجاز. وقد وقف الجاهليون عليها، ودخلوا فيها. أما تجارهم ممن قصد بلاد الشام والعراق، فقد رأوا في طريقهم إلى تلك الأرضين، وفي تلك الأرضين بالذات، حيث انتشرت فيها النصرانية صوامع كثيرة. ونجد في كتب الأخبار أمثلة عديدة تشير إلى دخول تجار مكة الصوامع في بلاد الشام وفي وادي القرى، للحصول على ملجأ أو عون.

والقلاية، وهي كالصومعة، يتعبد فيها الرهبان، وهي من الألفاظ المعربة، عربت من أصل يوناني هو "KeIIiyon"، ومعناه غرفة راهب أو ناسك2. ومن هذا الأصل انتقلت اللفظة إلى السريانية فصارت "قليتا"، فانتشرت بين نصارى بلاد الشام بصورة خاصة ثم بقية النصارى، منها دخلت العربية. وقد عرف علماء العربية إنها من الألفاظ المعربة، فقالوا: هي تعريب كلاذة، وهي من بيوت عباداتهم، أي عبادات النصارى. وقد وردت في الحديث، كما ورد ذكرها في صلح عمر مع نصارى الشام، حيث كتبوا له كتابا: إنا لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا قلية3. والظاهر أن النصارى توسعوا في المعنى، فأطلقوها على المنازل التي يسكنها الرهبان، ثم توسعوا فيها فأطلقوها على دور المطارنة والبطارقة، وأصلها بمعنى الأكواخ4.

ولفظة "الدير" شيء من الألفاظ النصرانية الشهيرة المعروفة بين العرب. وهي أكثر اشتهارا من الألفاظ الأخرى التي لها علاقة بمواضع العبادة أو السكن عند النصارى، وذلك لانتشارها ووجودها في مواضع كثيرة من العراق وبلاد الشام وجزيرة العرب، ولمرور التجار وأصحاب القوافل والمارة بها، واضطرارهم إلى الاستعانة بأصحابها وباللجوء إليها في بعض الأحيان. كما كانت محلا ممتازا للشعراء ولأصحاب الذوق واليكف، حيث كانوا يجدون فيها لذة ومتعة تسر العين والقلب، من خضرة ومن ماء بار عذب ومن خمر يبعث فيهم الطبر والخيال، ولذلك

1 سورة الحج، الرقم22، الآية 40، النهاية، لابن الأثير "2/ 120"، تفسير الطبري "15/ 175".

2 غرائب اللغة "ص265"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "ص213".

3 النهاية "3/ 309"، البكري، معجم "2/ 583"، اللسان "20/ 63"، تاج العروس "8/ 86"، "قل".

4 معجميات "ص180 وما بعدها".

ص: 229

أكثر الشعراء في الجاهلية والإسلام من ذكر الأديرة في شعرهم. حتى الشعراء النصارى مثل "عدي بن زيد العبادي"، يترنم في شعره بذكر الدير، لأنه نادم فيه "بني علقما"، وعاطاهم الخمر ممزوجة بماء السماء1.

ولفظة "الدير" هي مثل أكثر الألفاظ النصرانية من الألفاظ المعربة. عربت من أصل سرياني، هو "دير" Dayr "، بمعنى دار، أي بيت الراهب2. ومسكنه، ولا سيما المحصن، ثم خصوا بها مسكن الرهبان3. وقد عرف علماء العربية أن الدير هو مسكن النصارى، يتعبد فيه الرهبان ويسكنون به، وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن الدير يتعبد فيه الرهبان، ولا يكاد يكون في المصر الأعظم، وإنما يكون في الصحاري ورءوس الجبال، فإن كان في المصر الأعظم فإنه كنيسة أو بيعة4 غير أن الأديرة تكون في كل مكان، تكون في القرى وتكون في المدن كما تكون في البوادي وفي رءوس الجبال5.

و"الديراني"، صاحب الدير، وقد ذكر بعض العلماء أن الديراني صاحب الدير الذي يسكنه ويعمره. نسب على غير قياس. ويقال للرجل إذا رأس أصحابه هو رأس الدير6.

ولا تقتصر الأديرة على الرجال، فللراهبات أديرة أيضًا. ويقضي أصحاب الأديرة وقتهم في الزهد والتقشف والعبادة. والقيام بالأعمال اليدوية التي يوكلها رئيس الدير إليهم7. وقد عرف الراهب المعتكف بالدير بـ "الديراني" و"الديرانية"، هي الراهبة8. وقد عرفت أديرة الراهبات بـ "أديرة العذارى" كذلك.

1

نادمت في الدير بني علقما

عاطيتهم مشمولة عندما

كأن ريح المسك من كأسها

إذا مزجناهما بماء السما

البلدان "2/ 639، 680"، "2/ 449""بيروت"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"، المخصص "13/ 100 وما بعدها".

2 غرائب اللغة "ص182".

3 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212".

4 معجم البلدان "2/ 639"، "6/ 639".

5 اللسان "5/ 287"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"ز

6 اللسان "5/ 387"، تاج العروس "3/ 231"ز

7 البلدان "2/ 639"، "4/ 451".

8 النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"، الشعر، لابن قتيبة "229".

ص: 230

وإذ كان لهذه الأديرة حرمة في نفوسهم، فقد كانوا يعقدون فيها عقودهم ويحلفون بها على ما كان يفعله الوثنيون في معابدهم حيث كانوا يقسمون الإيمان ويعاقدون أمام الأوثان، فكان للنصارى في الحيرة دير السوا، وفي هذا الدير كانوا يتناصفون ويحلفون بعضهم لبعض على الحقوق1.

وفي الآرامية لفظة هي "عمرو" Oumro"، وقد صارت "العمر" في العربية. ويراد بها البيعة والكنيسة والدير ودار2. وقد وردت في شعر "المتلمس"، حيث جاء:

ألك السدير وبارق ومبايض ولك الخورنق

والعمر ذو الأحساء واللذات من صاع وديسق3

وعرفت العربية لفظة "الكرح"، و"الأكيراح"، وقد عرفها علماء العربية بقولهم:"الأكيراح: بيوت ومواضع تخرج إليها النصارى في بعض أعيادهم"4. واللفظة من أصل سرياني هو "كرحو" "Kourho"، بمعنى كوخ، ومسكن حبيس، وبيت ناسك وراهب5. وذكر ياقوت الحموي: أن الأكيراح بيوت صغار تسكنها الرهبان الذين لا قلالي لهم"6 وهناك دير اسمه "الأكيراح"، ورد في شعر لأبي نؤاس، ويقع بظاهر الكوفة كثير البساتين والرياحين، وبالقرب منه ديران، يقال لأحدهما دير عبد، وللآخر دير هند7.

والمحراب من الألفاظ التي استعملها النصارى في أمور دينهم كذلك، إذ أطلقوها على صدر كنائسهم. وقد استعملت في الإسلام أيضًا، حيث يشير إلى القبلة، ويؤم الإمام فيه المصلين، وقد ذكر بعض علماء اللغة، أن محاريب

1 البلاذري، فتوح: 292".

2 غرائب اللغة "ص196".

3 البكري، معجم "696"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص213"، تاج العروس "3/ 320".

4 سا دير حنة من ذات الأكيراح

من يصح عنك فإني لست بالصبح

اللسان "3/ 405"، البكري، معجم "4/ 575"، المخصص "13/ 102".

5 غرائب اللغة "ص203"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212،214".

6 البلدان "1/ 345".

7 البلدان "1/ 345".

ص: 231

بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يصلون فيها1. وقد وردت لفظة المحراب في أشعار بعض الجاهليين2. كما وردت في القرآن الكريم3. وفي الشعر الجاهلي4.

وذكر علماء التفسير أن المحراب كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلي فيه: محراب، وذكروا أن المحاريب دون القصور، وأشرف بيوت الدار. قال عدي بن زيد العباد:

كدمى العاج في المحاريب أو كالـ

ـبيض في الروض زهره مستنير5

وذكر علماء العربية لفظة "التامور" التأمور"، في جملة الألفاظ المتعلقة بالرهبان والرهبنة، وقد عرفها بعضهم بأنها صومعة الراهب وناموسه6.

وذكر أن "القوس"، بمعنى الدير والصومعة أو موضع الراهب. أو معبد الراهب7. وذكر أن أصل الكلمة من الفارسية8.

وذكر أن "الغربال"، هو مكان أيضًا من أمكنة الرهبان، وأنه كهيئة الصومعة في هندسة بنائه وارتفاعه، وأنه كان بناء مرتفع. ويظهر أنها من الألفاظ المعربة9.

والإسطوانة، وهي السارية من الألفاظ النصرانية التي وقف عليها الجاهليون. وقد اتخذها العرب بمعنى العمود الذي كان يتعبد فوقه بعض الرهبان المعروفين بالعموديين StyIites. وقد أشير إلى "أسطوان" في شعر نسبوه إلى "ذي الجدن". وفسرت لفظة "الاسطوان" و"الاسطوانة"، بأنها موضع الراهب المرتفع10.

1 النصرانية، الجزء الثاني القسم الأول "174".

2 اللسان "1/ 305"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "174"، اللسان "7/ 17".

3 آل عمران، الآية 37، 39، مريم، الآية 11، ص، الآية 21.

4 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "174".

5 تفسير الطبري "22/ 48" تفسير القرطبي "14/ 271".

6 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"، تاج العروس "3/ 20"، "أمر".

7 اللسان "8/ 69"، معجم البلدان "4/ 200".

8 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول، "ص214".

9 تاج العروس "7/ 416"، البلدان "3/ 525"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "213".

10 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "211"، البلدان "1/ 345"، المخصص "13/ 100 وما بعدها".

ص: 232

و"المنهمة" مسكن النهام، والنهامي، هو الراهب. وأما المنهمة فموضع الراهب1.

ووردت في شعر للأعشى لفظة "الهيكل". إذ قال:

وما أيبلى على هيكل

بناه وصلب فيه وصارا2

ويذكر علماء اللغة، أن الهيكل: بيت النصارى فيه صورة مريم وعيسى، وربما سمي به ديرهم. وأن الهيكل العظيم واستعمل للبناء العظيم، ولكل كبير، ومنه سمي بيت النصارى الهيكل3. واللفظة المعربة، وهي ترد في العبرانية "هيكل" وفي الآرامية "هيكلو". وتعني في اللغتين المعبد الكبير ومعبد الوثنيين4.

وقد كان الرهبان وبقية رجال الدين وكذلك الأديرة والكنائس يستعملون المصابيح. والقناديل للاستضاءة بهما. ويعبر عن المصباح بالسراج كذلك5. وقد تركت مصابيحهم وقناديلهم أثرًا ملحوظا في محلية الشعراء فأشير إليها في شعر "مزرد بن ضرار الذبياني" حيث قيل إنه قال:

كأن شعاع الشمس في حجراتها

مصابيح رهبان زهتها القنادل6

وذكر علماء اللغة أن الزيت الذي له دخان صالح ويوقد في الكنائس، هو "السليط"7.

ولفظ: قنديل من الألفاظ المعربة، أصلها يوناني هو "CandeIa"، أي شمعة8. وقد دخلت إلى العربية قبل الإسلام، عن طريق الاتصال التجاري بين جزيرة العرب وبلاد الشام.

1 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "214".

2 اللسان "6/ 144"، الاضداد "24"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "203"

3 المخصص "13/ 100 وما بعدها"، اللسان "14/ 225"، العقد الثمين "18"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "202".

4 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "202"، غرائب اللغة "209".

5 المفردات، للأصفهاني "ص674".

6 تاج العروس "5/ 158"، اللسان "7/ 320"، "سلط".

8 غرائب اللغة "279".

ص: 233

وكان النصارى العرب يتقربون إلى رجال دينهم ويتبركون بهم ويحترمونهم حتى قيل إن الصبيان منهم كانوا إذا رأوا الراهب ينزل ليذهب إلى بيت المقدس أو غيره خرجوا له فتمسحوا به ولثموا ثيابه، حتى يمزقوا أثيابه. وإلى ذلك أشير كما يقول أهل الأخبار - في شعر امرئ القيس:

فأدركنه يأخذن بالساق والنسا

كما شبرق الولدان ثوب المقدس1

ولبس رجال الدين ملابس خاصة لتميزهم عن غيرهم، غلب عليها السواد. وقد اختصت لفظة "المسح" و"المسوح" بالملابس التي كان يلبسها الزهاد والرهبان.

ومن أهم العلامات الفارقة التي ميزت معابد النصارى عن معابد اليهود والوثنيين: "الناقوس"، الذي ينصب فوق سطح الكنائس وفي منائرها، للإعلان عن أوقات العبادات ولأداء الفروض الدينية، وهو عند الجاهليين خشية طويلة يقرع عليها بخشبة أخرى قصيرة يطلقون عليها لفظة "الوبيلة" و"الوبيل". وهو في مقابل البوق عند يهود يثرب، إذا أرادوا الإعلان عن موعد العبادة. وقد عرف هذا البوق بين عرب يثرب بـ "القنع" أيضًا2، وبـ"الشبور"3. وقد ذكر علماء اللغة أن الشبور "شيء يتعاطها النصارى بعضهم لبعض كالقربان يتقربون به". وقال بعضهم: هو القربان بعينه، وذكروا أن الشبور شيء ينفخ فيه، فهو البوق عند اليهود، وهو معرب وأصله عبراني4.

وقد وردت كلمة "الناقوس" في الشعر الجاهلي: وردت في بيت للشاعرالمتلمس5،

1 المعاني الكبير "2/ 764".

2 القنع، وورد القبع والقتع والقثع، اللسان "10/ 131"ز

3 عمدة القاري "5/ 102 وما بعدها"، اللسان "8/ 126".

4 اللسان "6/ 59"، تاج العروس "3/ 289"، "شبر"، وقد نقس بالوبيل الناقوس"، تاج العروس "4/ 262 وما بعدها".

5

حنت قلوصي بها والليل مطرق

بعد الهدو وشاقتها النواقيس

ديوان المتلمس "178"، "طبعة فولرس""لايبزك 1903".

ص: 234

وفي شعر للمرقش الأكبر1، وللأعشى2، وللأسود بن يعفر3. وقد أشير في هذه الأبيات إلى قرع النواقيس بعد الهدوء إيذانا بدنو الفجر وحلول وقت الصلاة. وقد كانت هذه النواقيس في القرى وفي الأديرة، يقرعها الرهبان والراهبات والقسيسون4. وقد أدخل بعض علماء اللغة هذه الكلمة في جملة الألفاظ المعربة التي دخلت العربية من أصول أعجمية5. واللفظة من أصل "سرياني" هو "ناقوشا"6.

1

وتسمع تزقاء من البوم حولنا

كما ضربت بعد الهدوء النواقس

المفضليات "564"، النصرانية "207".

2

وكأس كعين الديك باكرت حدها

بفتيان صدق والنواقيس تضرب

تاج العروس "2/ 331"، "حد"، ويروى لعنترة، العقد الثمين في دواوين الشعراء الجاهليين "179"، "طبعة الوردت"، "AhIwardt"، "باريس 1913"، النصرانية "207".

3

وقد سبأت لفتيان ذوي كرم

قبل الصباح ولما تقرع النقس

اللسان "8/ 126"، "نقس"، تاج العروس "4/ 263".

4 النصرانية "207".

5 عمدة القاري "5/ 103"، المعرب "339".

6 Shorter Ency p 436

ص: 235

‌أعياد النصارى:

وقد ذكر أهل الأخبار أسماء أعياد نصرانية ترجع أصول تسميتها في الأكثر إلى لغة بني إرم، ويظهر أن أولئك الإخباريين تعرفوا عليها في الإسلام باختلاطهم وباتصالهم بالنصارى، إذ لم يشيروا إلى ورود أكثرها في الشعر الجاهلي، ومن عادتهم أنهم إذا عرفوا شيئًا كان معروفا عند الجاهليين جاؤوا ببيت أو أبيات يستشهدون بها على ورودها عند الجاهليين.

ومن الأعياد التي ورد فيها شاهد في الشعر الجاهلي، "السباسب"، وهو "يوم السعانين" ،"الشعانين". وقد ورد كلمة السباسب في بيت للنابغة قاله في عيد السعانين عند بني غسان، هو:

ص: 235

رقاق النعال طيب حجزاتهم

يحيون بالريحان يوم السباسب1

و"السعانين" و"الشعانين" من أصل عبراني "هو شعنا". وقد وردت هذه الكلمة في صحيفة صلح "عمر" مع نصارى الشام، وردت معها لفظة أخرى من الألفاظ النصرانية كذلك هي "الباعوث"2، وهي رتبة تقام في اليوم الثاني من عيد الفصح3، وصلاة لثاني عيد الفصح في بعض الطوائف4. وقد ذكرها علماء اللغة في جملة الألفاظ المعربة، والإرمية الأصل، وجعلها بعضهم "الباغوث". وذكروا إنها "استسقاء النصارى"، وأن "عمر" لما صالح نصارى الشام، كتبوا له أن لا نحدث كنيسة ولا قلية ولا نخرج سعانين ولا باعوثا5.

و"خميس الفصح" من أعياد النصارى كذلك. وهو بعد السعانين بثلاثة أيام، وكانوا يتقربون فيه بالذهاب إلى الكنائس والبيع6.

وقد أشير إلى عيد "الفصح" في بيت للأعشى يمدح فيه "هوذة بن علي" لتوسطه لدى الفرس بالإفراج عن مئة أسير من أسرى بني تميم همم الفرس بقتلهم، وذلك لمناسبة يوم الفصح. وقد كان نصارى الجاهلية يحتفلون به، فيوقدون المشاعل، ويعمرون القناديل، ويضيئون الكنائس بالمسارج ويقصدونها للاحتفال بها، حتى قيل للقنديل الذي يعمر لهذا اليوم "قنديل الفصح"7.

1 "والسباسب أيام السعانين. في الحديث أن الله تعالى أبدلكم بيوم السباسب يوم العيد. يوم السباسب عيد النصارى، ويسمونه يوم السعانين"، تاج العروس "1/ 293"، النصرانية "215"، غرائب اللغة "212"، عن "أحد الشعانين" راجع المشرق: السنة الثامنة، الجزء8، السنة 1905م، "ص337 وما بعدها".

2 "أن لا يحدثوا كنيسة ولا قلية، ولا يخرجوا سعانين ولا باعوثا"،"ويوم السعانين عيد للنصارى. وفي حديث: شرط النصارى ولا يخرجوا سعانين. قال ابن الأثير: هو عيد لهم معروف. قبل عيدهم الكبير بأسبوع. وهو سرياني معرب. وقيل: هو جمع واحده سعنون"، اللسان "17/ 71". "سعن" "13/ 209"، "صادر".

3 النصرانية "217".

4 غرائب اللغة "173".

5 اللسان "13/ 209"، تاج العروس "1/ 903"، "بعث"، اللسان" "2/ 118"، "بعث".

6 الأغاني "3/ 32"، النصرانية "216".

7 قال عدي بن زيد العبادي:

بكروا علي بسحرة فصحبتهم

باناة ذي كرم كعقب الحالب

بزجاجة ملء اليدين كأنها

قنديل فصح في كنيسة راهب

الأغاني "9/ 53"، اللسان "3/ 378"، النصرانية "216". وورد في شعر لأوس بن حجر:

عليه كمصباح العزيز يشبه

لفصح ويحشوه الذبال المفتلا

شعراء النصرانية "494"، النصرانية "216".

ص: 236

وقيل لاجتماع النصارى واحتفالهم "الهنزمن"، وذكر أن هذه اللفظة من أصل فارسي هو "هنجمن" أو "أنجمن"، ومنها دخلت إلى السريانية فأطلقت على اجتماع النصارى واحتفالهم وتعييدهم1.

وقد أشار امرؤ القيس في بعض شعره إلى عيد النصارى، ولبس الرهبان فيه ملابس طويلة ذات أذيال2.

وكانت الكنائس والأديرة والأضرحة والمقابر الأماكن التي يقصدها النصارى في أعيادهم. فتكون موضع تجمع ولقاء. كانوا يقصدونها للتقرب إلى الرب وللصلوات له. وللتوسل إليه بأن يمن عليهم ويبارك فيهم. وكانوا يقصدون المقابر إظهارا لشعورهم بأن موتاهم وإن فارقوهم وابتعدوا عنهم، غير أنهم لا زالوا في قلوبهم. وأيام الأعياد من أعز الأيام على الإنسان، لذلك فهي أجدر الأيام بأن تخصص لزيارة بيوت الأرباب، وبيوت الموتى: القبور.

1 قال الأعشى:

إذا كان هنزمن

ورحت مخشما

اللسان "17/ 329"، تاج العروس "9/ 368"، النصرانية "217".

2

فآنست سربا من بعيد كأنه

رواهب عيد في ملاء مهدب

النصرانية "173".

ص: 237

‌الفصل الثاني والثمانون: أثر النصرانية في الجاهليين

وإذا كنا قد حرمنا من الموارد الأصلية التي يجب أن نستعين بها في معرفة أثر النصرانية عند نصارى الجاهلية والجاهليين، فإن في الشعر المنسوب إلى بعض نصارى الجاهلية مثل عدي بن زيد العبادي وإلى بعض الشعراء ممن كان لهم اتصال بالنصارى مثل الأعشى، فائدة في تكوين صورة يتوقف صفاؤها ووضوحها وقربها أو بعدها من الواقع والحق على مقدار قرب ذلك الشاعر من الصدق والصواب والواقع والافتعال.

وعدي بن زيد هو أشهر من وصل إلينا خبره من شعراء النصارى الجاهليين. هو من العباديين، أي من نصارى الحيرة، ولذلك عرف بالعبادي. كان من أسرة اكتسبت نفوذا واسعا ونالت حظًّا كبيرًا عند الفرس وعند ملوك الحيرة، فكان لها أثر خطيرًا في سياسة عرب العراق في ذلك الزمن. ولما كانت السياسة ارتفاعا وهبوطا، سعادة وشقاء، لاقى عدي منها الاثنين: ارتفع حتى بلغ أعلى المنازل، ثم انخفض حتى تلقاه قابض الأرواح وهو في سجنه فقضى عليه بعد أن ترك أثرًا خطيرًا في سياسة الحيرة وفي تقرير مصير الملك فيها. وعدي، على ما يذكر أهل الأخبار، من أهل اليمامة في الأصل: هاجر أحدا أجداده من اليمامة إلى الحيرة بسبب دم أهرقه هناك، فخاف على نفسه من الثأر، ولم يجد محلا أصلح له وآمن مقاما من الحيرة، لوجود "أوس بن قلام" أحد رؤساء بني الحارث بن كعب فيها، وهو من أصحاب الجاه والنفوذ، وبينه وبين أوس

ص: 238

نسب من النساء، وهو من نسب يضمن له الحماية والعيش بسلام، فجاء إلى الحيرة وأقام بها حيث أكرمه أوس وقربه إلى آل لخم، واكتسب منزلة عالية عند ملوك الحيرة، انتقلت من بعده إلى أبنائه الذين كونوا لهم صلات وثيقة مع آل لخم ومع ملوك الفرس، بما كان لهم من علم وذكاء وحسن سياسة، ويذكر الإخباريون أن جد عدي قد تعلم الكتابة في الحيرة، فصار من أكتب الناس فيها، وأنه لذلك انتخب كاتبا لملك الحيرة، واتصل بحكم وظيفته المهمة هذه بدهاقين الفرس، وأنه لما توفي أوصى بابنه زيد والد عدي إلى واحد منهم يعرف بـ "فروخ ماهان" فأخذه هذا إلى بيته، ورباه مع ولده. فتعلم عندهم الفارسية، وحذقها وكتب بها وبرز، وكان قد حذق الكتابة بالعربية كذلك، فأوصله الدهقان إلى كسرى، لعلمه هذا باللغتين ولذكائه، فعينه في وظيفة مهمة لم يكن الفرس يعينون لها أحدا من غيرهم هي وظيفة البريد. وقد مكث في هذه الوظيفة زمانا جعلته يكتسب منزلة محترمة عند عرب الحيرة والفرس.

وعني زيد بتربية ولده عديا: أرسله إلى الكتاب ليتعلم به العربية. فلما برع فيها، أرسله إلى كتاب الفارسية حيث تعلم مع أبناء المرازبة فنون القول والكتابة، ثم تعلم الرماية ولعب الفرس حتى صار من المبرزين فيها. وقد قربه علمه وعقله من آل لخم ومن الفرس حتى وصل إلى مناصب عالية جعلت لقوله أهمية كبيرة حتى في تثبيت ملك ملوك الحيرة.

وقد أرسله "هرمز بن أنو شروان" في سفارة مهمة إلى القيصر "طيباريوس" فأداها على خير وجه. وعاد فأقام أمدا بالشام، ووقف على ما كان فيها من علم ومعالم. وقد زادت هذه الأسفار بالطبع في سعة أفقه وفي ثقاقته. ثم عاد إلى الحيرة. فوجد والده قد توفي بعد أن صار المهيمن الحقيقي على البلاد. وزار كسرى ليقدم إليه هدايا قيصر. وارتفع نجمه في البلاطين. وتزوج هندا بنت الملك النعمان. غير أن تقدمه هذا أوجد له خصومة شديدة من منافسيه "بني مرينا" وهم نصارى مثله ومن أهل الجاه والحسب، فأغرى خصمه ومنافسه العنيد "عدي بن مرينا" قلب النعمان عليه. وكان عدي بن زيد صاحب الفضل في حصول النعمان على تاج. وظل "ابن مزينا" يعمل في الخفاء للقضاء على عدي،

ص: 239

حتى تمكن من ذلك، إذ سجنه النعمان، ثم أمر فاغتيل وهو في السجن1.

وذكر أن "كسرى" جعله كاتبا على ما يجتبى من الغور، وكان هو سبب ملك النعمان بن المنذر2.

والذي يهمنا في هذا الموضع من أمر عدي هو مدى وقوف عدي على النصرانية ومبلغ تسربها في نفسه وفي نفوس أهل الحيرة. أما النواحي الأخرى من حياته، فليس لها محل في هذا المكان. وشعر عدي وأضرابه من العباديين هو سندنا الوحيد الذي نستخرج منه رأينا في النصرانية عند عدي وعند إخوانه العباديين.

والشعر المنسوب إلى عدي أقرب إلى نفوسنا وأسهل علينا فهما من الشعر المنسوب إلى بقية الجاهليين، معانيه وألفاظه حضرية متحررة من الأساليب البدوية التي تميل إلى استعمال الجزل من الكلمات، وهو يخالف مذاهب أولئك الشعراء في كثير من الأمرو. ولهذا "كانت الرواة لا تروي شعر أبي دواد ولا عدي بن زيد لمخالفتهما مذاهب الشعراء"3، و"لأن ألفاظه ليست بنجدية"4. وقد ورد في شعره بعض المعربات مما يدل على أثر الفارسية والإرامية فيه5. وكثير من شعره هو في الزهد، وفي التذمر من هذه الدنيا التي لا تدوم حالها على حال، وفي تذكير الأحياء بنهاية الأموات بالرغم مما أقاموه وشيدوه من أبنية ضخمة وقصور شاهقة. وهذا الشعر يتناسب مع ما يذكره أهل الأخبار عن حياة هذا الشاعر وتألق نجمه وبلوغه أعلى المراتب ثم سقوطه فجأة ودخوله السجن واغتياله فيه. وفي شعره قصائد في القيان وفي الخمر تتحدث عن الحياة التي قضاها قائلها، وهي حياة لذيذة ولكنها لا تدوم بالطبع إلى الأبد، ولا بد لها أن تزول ثم تنتهي بما.

1 المشرق، الجزء الأول، كانون الأول 1944، "ص39 وما بعدها"، شعراء النصرانية "436 وما بعدها"، كارلو كانينو، تاريخ الآداب العربية في الجاهلية حتى عصر بني أمية "ص71"، "القاهرة 1954"،

Ency، I، p. 137، Brockelmann، I، S. 29، Rothstein، S. 109، Noldeke، Geschlchte der Perser und Araber zur Zeit der Sassaniden، s. 512، Islamic Culture، IV، p. 31، ff.

2 نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "140".

3 الأغاني "15/ 93"، "مطبعة التقدم"، "ذكر أخبار أبي دؤاد الأيادي ونسبه"، نالينو "74".

4 ابن قتيبة، الشعر "115".

5 نالينو "74".

ص: 240

يوجب الأسف عليها والألم والتوجع من فنأئها ومن ذهاب تلك الأيام.

أما صميم الديانة والآراء النصرانية الخاصة، وهي ضالتنا في هذا الفصل وهدفنا الذي نقصده، فلا نجد منها في شعره الموثوق بصحته شيئًا كثيرًا. ونحن لا نستطيع بالطبع أن نلوم عديا على ذلك، فعدي كما نعلم رجل شعر وسياسة، وليس برجل دين ولا كهانة فيتعمق في شعره بإيراد تواريخ الأنبياء والأوامر والنواهي الإلهية الواردة في التوراة والإنجيل. ولم يذكر أحد من الإخباريين عنه إنه كان كاهنا أو قسيسا فنأمل منه التطرق في شعره إلى موضوعات اللاهوت والكهنوت. فما نجده في شعره عن النصرانية هو من حاصل المناسبات والظروف، وليس من حاصل بحث متعمد قصد به البحث في الدين من أجل الدين.

ولو كان عدي قد تعرض للنصرانية عنده وبين قومه لأفادنا ولا شك كثيرًا. وما زلنا في الواقع فقراء في ناحية علمنا بمبلغ فهم أهل الحيرة وغير أهل الحيرة من نصارى العرب في الجاهلية لأحكام النصرانية وقواعدها، ومقدار رسوخها في نفوس أولئك النصارى ولا سيما الأعراب منهم. ولكن عذره كما قلت بين واضح، وليس لنا أن نلومه. وما جاء به عن النصرانية في شعره على كل حال مفيد، أفادنا ولا شك. فلنكن قنوعين غير طامعين، مكتفين بما أورده عدي عنها في شعره، ولننظر إلى المستقبل، فهو أملنا الوحيد، فلعله يكشف عن مصادر كتابية مطمورة، يبعثها من قبورها المغمورة بالأتربة المتراكمة، وعندئذ تكون أمام المؤرخ ثروة تغنيه، يستطيع أن يظهرها العشاق للمولعين بمعرفة أحوال الماضين.

وقد ورد في قصيدة قيل إنه نظمها في معاتبة النعمان على حبسه بيت فيه قسم برب مكة والصليب:

سعى الأعداء لا يألون شرا

عليك ورب مكة والصليب1

وهذا البيت يدعو إلى التأمل والتفكير، فرجل نصراني يؤمن بعيسى وبالصليب، لا يمكن أن يقسم برب مكة. فمكة كما نعلم مجمع الأصنام والأوثان وكعبة الوثنية في الجاهلية، فكيف يقسم بربها رجل نصراني يرى الأوثان والوثنية رجسًا من عمل الشيطان وكفرًا. بل لو فرضنا أنه أقسم بمكة وبرب مكة على سبيل مجاراة

1 شيخو، شعراء النصرانية "451".

ص: 241

العرب الوثنيين وتقربا إلى الملك النعمان، فليس لدينا دليل مقنع يفيد أن وثني الحيرة كانوا يؤمنون برب مكة. ولم يذكر أحد من أهل الأخبار أن أصنام أولئك الوثنيين كانت بمكة، وأن أهل الحيرة كانوا يزورون مكة ويحجون إلى "رب البيت" في جملة من كان يحج إليه من العرب. ولم يرد في روايات أهل الأخبار أن الملك "النعمان" كان وثنيا مؤمنا بقدسية مكة وأنه حج إليها حتى نذهب إلى الفرض بأن عديا، إنما أقسم بمكة، مجاراة لهذا الملك، بل الوارد فيها أنه كان على دين النصرانية، وإنه كان مؤمنا بهذا الدين، يزور الأديرة ويحضر الصلوات ورجل على هذا النحو من التدين لا يمكن بالطبع أن يحفل بقسم ببيت من بيوت الأصنام. ثم إن مصطلح "رب مكة"، هو مصطلح إسلامي، أخذ من عقيدة التوحيد في الإسلام، فقيل:"رب البيت" ،"رب هذا البيت"1.

لقد اتخذ الأب "شيخو" هذا البيت دليلا على انتشار النصرانية في مكة وعلى تنصر أحياء منها، وعلى أن النصرانية قديمة فيها، بل يكاد يفهم من قوله أن البيت هو في الأصل كنيسة بنيت بعد المسيح بعهد قليل: بناها النصارى الذين جاءوا إلى هذه المدينة وسكنوها، وأن صور الأنبياء وصورة عيسى وأمه مريم التي ذكر الإخباريون أنها كانت مرسومة على جدار الكعبة والتي أمر الرسول بطمسها ومحو معالمها هي دليل على أثر النصرانية في مكة، ولهذا كان النصارى الجاهليون يحجون إليها ويقدسونها، ولهذا السبب أقسم2 عدي بها، وأقسم الأعشى بها كذلك حيث قال:

حلفت بثوبي راهب الدير والتي

بناها قصي والمضاض بن جرهم

وذكر أن من شعر "عدي" هذا البيت:

كلا يمينا الودع لو حدثت

فيكم وقابل قبر الماجد الزارا3

وقد اختلف العلماء في مراده بـ"ذات الودع"، فذهب بعض منهم إلى

1 "فليعبدو رب هذا البيت" سورة قريش، الآية 3.

2 "النصرانية "ص118"، وفي الديوان:

فإني وثوبي راهب اللج والتي

بناها قصي وحده وابن جرهم

ديوان الأعشى "95".

3 تاج العروس "5/ 534"، "وعد".

ص: 242

أن "ذات الودع" الأوثان، أو وثن بعينه، وقيل سفينة نوح، وكان يحلف بها، وكانت العرب تقسم بها، وتقول: بذات الودع. وقيل الكعبة، لأنه كان يعلق الودع في ستورها1.

ولم يرد في شعر عدي شيء ما يتحدث عن عقيدة التثليث، أي الإيمان بالثالوث. وكل ما ورد فيه هو الإشارة إلى عقيدة بوجود رب واحد هو "الله". وهو رب مستجيب مسبح خلاق2. وهذا الرأي إسلامي كما هو معلوم، وقريب من عقيدة الحنفاء.

ووردت في بيت شعر وجهه إلى النعمان كلمة "أبيل"3، وأبيل اسم للمسيح، ويطلق على حبر النصارى أيضًا، ومعناها الناسك والزاهد. وهي من أصل سرياني، من فعل "ابل" بمعنى ناح وبكى على خطاياه، ولذلك قصد بها الناسك والراهب4. وقد دعا الأعشى ضارب الناقوس: الأبيل5.

ونسب لعدي هذا البيت:

وأهبط الله إبليسا وأوعده

نارًا تلهب بالأسعار والشرر6

1 المصدر نفسه

2

فإني قد وكلت اليوم أمري

إلى رب قريب مستجيب

أجل أن الله قد فضلكم

فوق من أحكا صلبا بازار

واذهبي يا أميم إن يشا اللـ

ـه بنفسي من أزم هذا الخناق

أو تكن وجهه فتلك سبيل النـ

ـاس لاتمنع الحتوف الرواقي

ليس شيء على المنون بباق

غير وجه المسيح الخلاق

شعراء النصرانية "452، 454"، النصرانية "194".

4 تاج العروس "7/ 199"، "ابل"، اللسان "13/ 6"، مرمرجي، معجميات عربية سامية "131 وما بعدها".

5 فإني ورب الساجدين عشية

وما صك ناقوس الصلاة أبيلها النصرانية "208".

6 النصرانية "168".

ص: 243

ولم ترد كلمة "إبليس" في شعر منسوب لشاعر جاهلي آخر، إنما وردت كلمة "شيطان" في شعر منسوب إلى أمية بن أبي الصلت.

ونسب إلى عدي هذا البيت:

ناشدتنا بكتاب الله حرمتنا

ولم تكن بكتاب الله تقنع1

ويظهر من دراسة الشعر المنسوب لعدي أنه كان على مذهب القائلين بالقضاء والقدر. فكل كائن خاضع لحكم القدر، يفعل به ما يشاء، ليس في إمكانه رد شيء مقدر كائن عليه. وقد رسخت هذه العقيدة في نفس عدي ولا شك بعد أن زج به في السجن، وأصبح وحيدا لا يدري ما الذي سيصنع به. وهي عقيدة يسلم بها أكثر من يقع في مثل هذه الظروف، لأنها تفرج عن النفس، وتخفف بعض التخفيف عما ينتاب المرء وهو في هذه الحالة من هموم وأحزان. والإيمان بالقدر وبأن الإنسان مسير مجبر، عقيدة لها صلة كبيرة بالظروف الاجتماعية وبالأحوال التي تحيط بالإنسان، وهي ليست من الآراء الدينية الخالصة.

ونسبت لعدي أبيات فيها حكايات من العهد العتيق، مثل هذه الأبيات وهي في مبدأ الخلق:

اسمع حديثا لكي يوما تجاوبه

عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا

أن كيف أبدي إله الخلق نعمته

فينا وعرفنا آياته الأولا

كانت رياحا وماء ذا عراثيه

وظلمة لم يدع فتقا ولا خللا

فأمر الظلمة السوداء فانكشفت

وعزل الماء عما كان قد شغلا

وبسط الأرض بسطا ثم قدرها

تحت السماء سواء مثل ما فعلا

وجعل الشمس مصرا لا خفاء به

بين النهار وبين الليل قد فصلا

قضى لستة أيام خلائقه

وكان آخر شيء صور الرجلا2

دعاه آدم صوتا فاستجاب له

بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا3

1 شعراء النصرانية "472".

2

قضى لستة أيام خليقته

وكان آخرها أن صور الرجلا

الحيوان "4/ 19"، "عبد السلام محمد هارون".

3 البدء والتأريخ "1/ 150 وما بعدها"، النصرانية "254"، وتجد في النص بعض الاختلاف عن النص الذي تجد في كتاب النصرانية، وفي المراجع الأخرى.

ص: 244

وطابع هذا النظم وأسلوبه يفصحان إنه نظم من النوع التعليمي الديني، لا أدري أكان شاعرنا يعترف به وينسب إلى نفسه؟ أما أنا، فلا أرى إنه لشاعر عربي عاش قبل الإسلام.

ونجد في "شعر "عدي" نزعة من نزعات التصوف والتأمل، جاءت إليه من الأوضاع التي أحاطت به، من وشايات، ومن غضب الملك عليه ومن سجن، بعد أن كان السيد المهيمن. حتى صار الدهر عنده حالا بعد حال. لا يدوم صفاؤه لأحد، فلا يركن أحد إليه، ولا يغتر إن وجد نفسه في أعلى عليين، فقد يسقط غدا إلى أسفل سافلين1.

وهناك شاعر آخر اسمه "الملمس بن عبد المسيح" يدل اسم أبيه على أنه كان نصرانيا، غير أن هناك رواية أخرى تذكر أن اسم والده "عبد العزى"2. وعبد العزى من أسماء الوثنيين كما هو معروف. ثم إننا لا نجد في شعره ما يشير إلى آراء وعقائد نصرانية يمكن أن يستنبط منها أن كان نصرانيا. ورجل يحلف في شعره باللات والأنصاب لا يعقل أن يكون نصرانيا3.

أما الأعشى، فهو شاعر عاش في الجاهلية، وأدرك أيام الرسول. ومدحه بقصيدة جميلة مشهورة، جعلت أبا سفيان يحرض قومه على إرضائه خوفًا من أن يسلم ومن أن ينظم شعرا آخر في مدح الرسول وفي ذم قريش، فجعل له مائة من الإبل جمعها من قومه على أن يرجع ويؤجل أمر إسلامه عاما. فرجع إلى بلدته "منفوحة" باليمامة. وكان قد ولد بها، فمات بها بعد حين وعرف قبره بين الناس أمدا.

وكان الأعشى كما يروي أهل الأخبار جوابا في الآفاق، عرف الحيرة ونادم ملوكها، وزار النجاشي في أرضه، وتجول في أرض النبيط وأرض العجم. وتنقل في أرجاء اليمن وفي حضرموت وعمان وبلاد العراق وبلاد الشام ومتع نظره

1 العمدة "1/ 223".

2 VoIIers، Die Gedichte des MutaIammis، Leibzig، 1903، S. 149.

3

أطردتني حذر الهجاء ولا

واللات والأنصاب لا تثل

ديوان المتلمس "171""طبعة "فولرس"، النصرانية "404"

ص: 245

بالآثار القديمة واتخذها عبرة للمعتبرين1. وقد وسعت هذه الأسفار آفاق نظره وعرفته على شعوب متعددة وعلى آراء ومعتقدات متنوعة. ومنها هذه النصرانية التي نبحث فيها.

وقد حمله اختلاطه بالنصارى العرب على الإشارة إلى بعض طقوسهم وأحوال عباداتهم في شعره. وإلى أن يشير إلى قصص معروف بين أهل الكتاب، وارد بينهم، فذكره في شعره. فتراه يتحدث عن حمامة نوح وعن أخبار سليمان وعن جن سليمان وعن المباني القديمة العادية المنسوبة إليه، كما تراه يشير إلى عادة النصارى في الطواف حول الصليب أو تمثال المسيح2. ثم تراه يشير إلى الصليب نصبه الراهب في الهيكل بعد أن زينه بالصور3.

وفي الشعر المنسوب إليه إقرار بإله واحد كريم4، ونهي عن عبادة الأوثان ومن التقرب منها5، وفيه أن الرب يكفي الإنسان ويرعاه ويساعده في حله وفي ترحاله6،

1

وقد طفت للمال آفاقه

عمان فحمص فأوري شلم

أتيت النجاشي في أرضه

وأرض النبيط وأرض العجم

فنجران فالسرو من حمير

فأي مرام له لم أرم

ومن بعد ذاك إلى حضرموت

فأوفيت همي وحينا أهم

ألم ترى الحضر إلا أهله

بنعمي، وهل خالد من نعم

أقام به سابور الجنود

حولين يضرب فيه القدم

فما زاده ربه قوة

ومثل مجاورة لم يقم

ديوان الأعشى "طبعة رودولف كاير"، "ص33 وما بعدها".

قد طفت ما بين بانقيا إلى عدن

وطال في العجم ترحالي وتسياري

ديوان الأعشى "126".

2 قال في مدحه "قيس بن معديكرب الكندي":

تطوف العفاة بأبوابه

كطوف النصارى ببيت الوثن

ديوان الأعشى "19"، اللسان "17/ 334"، "وثن".

3

وما أيبلى على هيكل

بناه وصلب فيه وصارا

ديوان الأعشى "40"، النصرانية "204"، بروكلمان، تاريخ الأدب العربي "1/ 147 وما بعدها".

4

ربي كريم لا يكدر نعمة

فإذا تنوشد في المهارق أنشدا

النصرانية "162".

5

وذا النصب المنصوب لا تسكنه

ولا تعبد الأوثان، والله فاعبدا

النصرانية "159".

6

ولكن ربي كفى غربتي

بحمد الآله فقد بلغن

ديوان الأعشى "17".

ص: 246

وأن الإنسان عبده1. وأن الفناء واقع على كل امرئ، وليس أحد في هذه الدنيا بخالد، ولو كان الخلود لأحد لكان لسليمان2. وفيه حديث عن البعث والحساب يوم الدين.

ونجد في شعره معرفة بنوح وبسفينته، أشار إلى نوح في مدحه إياسا حيث خاطبه بقوله:

جزى الإله إياسا خير نعمته

كما جزى المرى نوحا بعدما شابا

في فلكه إذ تبداها ليصنعها

وظل يجمع ألواحا وأبوابا3

فهل أخذ الأعشى رأيه هذا عن نوح من أهل الجيرة؟ وهل كان في ذلك قاصدا متحدثا مخاطبا رجلا نصرانيا يعرف الحكاية والموضوع؟ أو كان متحدثا عن نوح حديث من يدين به ويعتقد، فهو رأيه ودينه. الواقع أن البت في ذكل أمر لا أراه ممكنا ما لم تتجمع لنا موارد تأريخية كثيرة، ليتمكن المرء من استنتاج رأي واضح في أمثال هذه الموضوعات المعقدة، التي لم تدرس مظانها المدونة، ولم تنتقد حتى الآن.

وقد ذهب "كاسكل""CaskeI" إلى أن "الأعشى" كان نصرانيا. وذهب الأب "شيخو" هذا المذهب أيضًا، وجوز "بروكلمن" تنصره، لكنه ذهب إلى إنه لم يكن متعمقا في النصرانية4. وقد استدل "كاسكل" على نصرانيته من بيتين في ديوانه، ومن بيت آخر ورد في قصيدة أخرى، لا يمكن في الواقع أن يكون دليلا على نصرانية قائلة5.

وذكر إنه كان قدريا، روى روايته "يحيى بن متى" وهو من عباد الحيرة،

1

فأقسم بالذي أنا أعبده

لتصطفقن يوما عليك المآتم

ديوان الأعشى "58".

2

ولو كان شيء خالدا ومعمرا

لكان سليمان البرئ من الدهر

رآه الهي فاصطفاه عبادة

وملكه ما بين ثريا إلى مصر

وسخر من جن الملائكة تسعة

قياما لديه يعملون بلا أجر

ديوان الأعشى "243".

3 شعراء النصرانية "389"، النصرانية "261".

4 تأريخ الأدب العربي لبروكلمن "1/ 147 وما بعدها".

5 انظر البيتين 12-13 من القصيدة رقم 43 بديوانه، والبيت 9 من القصيدة 13 بالديوان، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 147"، "الترجمة العربية".

ص: 247

أنه أخذ مذهبه هذا في القدر من العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك. وقد استشهدوا على قوله هذا في القدر بهذا البيت:

استأثر الله بالوفاء وبالعد

ل وولى الملامة الرجلا1

وقد راجعت شعر "الأعشى"، فلم أتمكن من استنباط شيء منه يدلني على مقدار علمه بالنصرانية وعلى مدى تعمقه أو تعمق غيره من النصارى بدينهم. فما ذكره مما له علاقة بالنصرانية، هو شيء عام، يأتي بخاطر كل شاعر ذكي جواب في الآفاق، له احتكاك واتصال بالنصارى أو بغيرهم، وهو لا يصلح أن يكون دليلا على عقيدة ودين وفهم لذلك الدين.

وفي شعر "الجعدي" كلام عن سفينة نوح، ذكر أنه قال:

يرفع، بالقار والحديد من الـ

ـيجوز، طوالا جذوعها، عما2

والنابغة الجعدي، مخضرم، يقال إنه كان مثل الحنفاء، أنكر الخمر والميسر، وهجر الأزالام والأوثان، وكان ممن فكر في الجاهلية، وأنكر الجمر والسكر، وهجر الأزلام واجتنب الأوثان، وذكر إبراهيم. وقد لقي الرسول، وأسلم وأنشده من شعره. وذكر أنه هو القائل القصيدة التي فيها:

الحمد لله ربي لا شريك له

من لم يقلها فنفسه ظلما

على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل إنها لأمية، لكن صححها حماد الراوية3.

ونجد في شعر آخرين من غير من ذكرت ألفاظا وكلمات كانت معروفة عند النصارى وإشارا إلى عباداتهم وعاداتهم، وردت في شعر "النابغة الذبياني" ولبيد، وامرئ القيس، وأوس بن حجر وآخرين غيرهم ممن طافوا في الأرضين وارتحلوا فوقفوا على بعض أحوال النصارى فأشاروا إليها في شعرهم.

1 الأغاني "8/ 79"، نالينو "17".

2 اللسان "12/ 425"، "عمم".

3 الإصابة "3/ 508""رقم 8641"، أمالي المرتضي "1/ 263 وما بعدها"، المرزباني "321".

ص: 248

ونجد في شعر "الأفوه الأودي"، وهو صلاءة بن عمرو، تسجيلا لأبناء نوح. سجلهم مع سجل أسماءهم من ملوك التابعة ممن دانت لهم الأنام، فنجده يقول:

ولما يعصها سام وحام

ويافث حيثما حلت ولام1

ولا أدري إذا كان هذا البيت من نظم شاعر جاهلي، وهو الأودي، أو من نظم شخص آخر نظمه على لسانه في الإسلام. ولكني لا أستبعد بالطبع أن يكون خبر أولاد نوح الثلاثة. وهم: سام ويافث وحام، قد عرف عند العرب النصارى وعند من كان على احتكاك واتصال بهم.

ونجد في بيت شعر ينسب لأفنون التغلبي ذكرا لولد آدم2. وورود آدم في هذا البيت، إن صح إنه من شعر ذلك الشاعر الجاهلي، دليل على وقوف هذا الشاعر على قصة آدم وانحدار البشر من نسله. ولا يستبعد أن يكون أذن قد وقف عليها باختلاطه ببني قومه تغلب، وقد كان قسم كبير منهم قد دخلوا في النصرانية. ولا يستبعد أيضًا أن يكون بعض الوثنيين قد وقفوا أيضًا على قصة الخلق كما وردت في الديانتين من اختلاطهم بأهل الكتاب واتصال بهم.

وقد وردت، في بيت آخر من قصيدة يقال إنه قالها في رثاء نفسه، لفظة "الله" في شكل يفهم منه إنه كان يدين بالتوحيد، وأن الآجال كلها بيد الله3، وأشار في بيت آخر إلى عاد وإرم ولقمان وجدن4.

وأشير في أشعار بعض الجاهليين إلى تعبد النصارى وصلواتهم سجدا وقياما، وهؤلاء الذين أشير إليهم من الرهبان والناسكين الذين كانوا قد اعتكفوا في الصوامع وفي

1 النصرانية "266"، عن الأفوه الأودي راجع الأغاني "11/ 41 وما بعدها"، ابن قتيبة، الشعر "10"، ديوان الأفوه، "القاهرة 1937"، "تحقيق عبد العزيز الميمني".

2

قد كنت أسبق من جاروا على مهل

من ولد آدم ما لم يخلعوا رسني

المفضليات "524"، النصرانية "261"، شعراء النصرانية "193".

3

لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي

إذا هو لم يجعل له الله واقيا

شعراء النصرانية "193".

4

لو أنني كنت من عاد ومن إرم

ربيت فيهم ومن لقمان أو جدن

شعراء النصرانية "193".

ص: 249

البيع والأديرة النائية يعبدون الله، ويدعون إلى الرب تقربا وخشية1، ومنهم من ترك السجود أثرًا في جباهم. وقد أطلقوا على صلواتهم هذه اسم "الصلاة". وهي من الألفاظ التي أخذها أولئك النصارى من "بني إرم". وعرفت المواضع التي كانوا يسجدون فيها بالمساجد، والمسجد هو الموضع الذي يتعبد فيه2.

وقد كان الركوع من العادات المعروفة عند الأحناف والنصارى3، و"كانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعا إذا لم يعبد الأوثان، ويقولون: ركع إلى الله"4. وأما إحناء الرءوس، فكان للتعظيم، ولذلك حنوا رءوسهم في الكنائس ولرؤسائهم على سبيل الاحترام والتعظيم5. وقد كانوا يبجلون رءوسهم وسادتهم كثيرًا، ولذلك نزل الوحي بتأنيبهم وتقريعهم، إذ جعلهم هذا الاحترام في مصاف الآلهة والأرباب.

وتلحق بالصلاة التسابيح، أي ذكر الله وتقديس اسمه، وقد كان من عادة الرهبان التسبيح بعد الصلاة، ولا سيما في الضحى والعشي6.

1 قال منظور الأسدي:

كأن مهواه على الكلكل

موقع كفي راحب يصلي

في غبش الصبح أو التتلي

الألفاظ، لابن السكيت "412"، النصرانية "177".

وقال البعيث:

على ظهر عادي كأن أرومه

رجال يتلون الصلاة قيام

تاج العروس "10/ 53"، اللسان "18/ 111"، وقال الأعشى:

لها حارس لا يبرح الدهر بيتها

وإن ذبحت صلى عليها وزمزما

ببابل لم تعصر فسالت سلافة

تخالط قنديدا ومسكان مختما

وقال المضرس الأسدي:

وسخال ساجية العيون خواذل

بجماد لينة كالنصارى السجد

النصرانية "177".

2 اللسان "5/ 187"، "سجد".

3 النصرانية "178".

4 "5/ 363":

5 قال النابغي الذبياني:

سيبلغ عذرا أو نجاحا من امرئ

إلى ربه رب البرية راكع

النصرانية "178".

6 قال أمية بن أبي الصلت:

سبحانه ثم سبحانا يعود له

وقبلنا سبح الجودي والجسد

وقال الأعشى:

وسبح على حين العشيات والضحى

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

"2/ 157"، "سبح"، اللسان "3/ 210"، النصرانية "178".

ص: 250

وقد كان رجال الدين، ولا سيما الرهبان منهم، يقومون بالفروض الدينية فرادى وجماعةن فيرتلون المزامير والأدعية بنغمات وألحان شجية. وقد عرف ترتيل القسيسي "الهينم"، وذلك في حالة النغم بخفوت الصوت1. وإذا طرب القس في صوته خفيا قيل لذلك "الزمزمة"2. أما إذا تغنى، فيقال لذلك الشمعلة. وقد قيل للمتغنين في تلادة الزبور "المتشمعل". وورد:"شمعلة اليهود: قراءتهم، إذا اجتمعوا في فهرهم"3. وأما إذا أطلق صوته بالدعاء فيقال لذلك الجأر4. واللحون من الكلمات التي أطلقت على ترتيل أهل الكتاب لكتبهم المقدسة. فقد كانوا يقرؤون التوراة والإنجيل في المحافل باللحن. وقد أشير إلى ذلك في بعض الأحاديث5. أما إذا ردد الشخص نغمات الإنجيل في حلقه، فكانوا يقولون له الترجيع، ومنه قولهم: رجع الإنجيل6.

و"التصبيغ" من الألفاظ التي كانت تدل على معنى خاص عند النصارى، هو التعميد. وقد عرفه الجاهليون. وذكر علماء اللغة أن الصبغة الدين والملة والشريعة والفطرة والختانة. "اختتن إبراهيم، صلوات الله عليه، فهي الصبغة.

1 "الهيمنة: الصوت. وهو شبه قراءة غير بينة". وأنشد لرؤبة:

لم يسمع الركب بها رجع الكلم

إلا وساويس هيانيهم الهنم

وفي حديث إسلام عمر، رضي الله عنه. قال: ما هذه الهينمة؟ قال أبو عبيدة: الهينمة: الكلام الخفي لا يفهم

وفي حديث الطفيل بن عمرو: هينم في المقام. أي قرأ فيه قراءة خفية. وقال الليث:

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

أي فادع الله"، اللسان "16/ 108"، تاج العروس "9/ 111".

2 "قال الجوهري: الزمزمة كلام المجوس عند أكلهم. وفي حديث عمر، رضي الله عنه، كتب إلى أحد عمال في أمر المجوس: وإنههم عن الزمزمة. قال: هو كلام يقولونه عند أكلهم بصوت خفي. وفي حديث قباث بن أشيم: والذي بعثك بالحق ما تحرك به لساني ولا تزمزمت به شفتاي. الزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم"، اللسان "15/ 165".

3 تاج العروس "7/ 399"، "اشمعل".

4 "جأر يجأر جأرا وجؤرا: رفع صوته مع تضرع واسغاثة

وقال ثعلب: هو رفع الصوت إليه بالدعاء. وجأر الرجل إلى الله عز وجل إذا تضرع بالدعاء. وفي الحديث: كأني أنظر إلى موسى له جؤار إلى ربه بالتلبية. ومنه الحديث الآخر: لخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله"، اللسان "5/ 181".

5 النهاية في غريب الحديث "4/ 57"، معجميات "42 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 330"، اللسان "17/ 263".

6 اللسان "9/ 172"، النصرانية "356".

ص: 251

فجرت الصبغة على الختانة. وصبغ الذمي ولده في اليهودية أو النصرانية صبغة قبيح، أدخله فيها"1. و"كانت النصارى تغمس أبناءها في ماء المعمودية ينصرونهم"2. وقد صالح عمر بني تغلب بعدما قطعوا الفرات قاصدين اللحاق بأرض الروم، على ألا يصبغوا صبيا ولا يكرهوه على دينهم، وعلى أن عليهم الصدقة مضعفة3. وعرفوا "المعمودية" بقولهم: "لفظ معمودية معرب معموذيت بالذال المعجمة، ومعناها الطهارة. وهو ماء أصفر للنصارى يقدس بما يتلى عليه من الإنجيل، يغسمون فيه ولهم معتقدين إنه تطير له كالختان لغيرهم"4.

وقد كان نصارى الجاهلية يعمدون أولادهم، يأخذونهم أطفالا إلى الكنائس لتعميدهم على نحو ما يفعل سائر النصارى. وقد قيل له: التغميس والتصبيغ5.

والصوم من الأحكام الدينية المعروفة عند اليهود والنصارى، وقد أشير إليه في شعر لأمية بن أبي الصلت وفي بيت ينسب إلى النمر بن تولب6. وقد عرف أهل الجاهلية أن اليهود كانوا يصومون، وقد أشير إلى صومهم في عاشورا في أثناء الكلام على فرض الصوم على المسلمين بصيامهم شهر رمضان. ولا بد أن يكون للجاهليين علم بصوم النصارى كذلك، وذلك نتيجة لاتصالهم بهم واختلاطهم معهم.

ومن المصطلحات النصرانية "الحواريون"، وقصد بها رسل المسيح. وقد وردت اللفظة في مواضع من القرآن الكريم7. ووردت لفظة "الحواري" في بيت ينسب إلى "ضابئ بن الحارث بن أرطاة البرجمي"8. وقد رجع بعض الباحثين

1 تاج العروس "6/ 19"، "صبغ".

2 المصدر المذكور.

3 "قال الأزهري: وسمعت النصارى غمسهم أولادهم في الماء صبغا، لغمسهم إياهم فيه"، اللسان "10/ 319"، فتوح البلدان "190".

4 تاج العروس "2/ 432"، "عمد".

5 السنن الكبرى "9/ 216"، "ومنه صبغ النصارى أولادهم في ماء لهم. قال الفراء: إنما قيل صبغة لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد المولود جعلوه في ماء لهم كالتطهير. فيقولون هذا تطهير له كالختانة"، اللسان "10/ 320".

6

صدت كما صد عما لا يحل له

ساقي نصارى قبيل الصبح صوام

النصرانية "179".

7 آل عمران، الآية 52، المائدة الآية 114 وما بعدها، الصف، الآية 14.

8

وكر كما كر الحواري يبتغي

إلى الله زلفى أن يكر فيقتلا

المشرق، المجلد 1929 "ص575 وما بعدها"، النصرانية "189".

ص: 252

أصل هذه اللفظة إلى لغة بني إرم ورجعها اللغويون إلى أصل عربي هو "حور"، وذهب آخرون إلى أنها من أصل حبشي1.

والصليب، من أهم المصطلحات المعروفة عند النصارى، لاعتقادهم بصلب المسيح عليه، حتى صار رمزا للنصرانية. وصاروا يعلقونه على أعناقهم تبركا وتيمنا به، وينصبونه فوق منائر كنائسهم وقبابها، ليكون علامة على متعبد النصارى. وقد أقسموا به. وقد عرف المسلمون تمسك النصارى به، واتخاذهم له شعارا، حتى كان بعضهم يرسمه على جبهته، وكانوا يلثمونه ويتمسحوون به تبركا، ويزينون صدورهم به2.

وذكر علماء اللغة "الشبر" على أنه من المصطلحات الشائعة بين النصارى. وهو على حد تعريفهم له: "شيء يتعاطاه النصارى بعضهم لبعض كالقربان، يتقربون به، أو القربان بعينه". وذكروا أيضًا أن "الشبر" الإنجيل والعطية والخير.

ومن ذلك قول عدي:

لم أخنه والذي أعطى الشبر3

ويظهر من كتب الحديث أن أهل الكتاب كانوا يخالفون المشركين في بعض عاداتهم، كالذي ورد عن عبد الله بن عباس من "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحب موافقة أهل الكتاب

1 المشرق، السنة السابعة "1904 "620"، النصرانية "189"، معجميات "139".

2 قال الأخطل:

لما رأونا والصليب طالعا

خلوا لنا راذان والمزارعا

ديوان الأخطل "309". وقال حجار بن أبجر:

هددني عجل وما خلت إنني

خلاة لعجل والصليب لها بعل

الأغاني "13/ 47". وقال الأقيشر:

في قتية جعلوا الصليب الههم

حاشاي أني مسلم معذور

النصرانية "204".

ونسم إلى عبد المطلب بن هاشم قوله:

لا يغلبن صليبهم

ومحالهم، عدوا، محالك

اللسان "11/ 619"، "محل".

3 تاج العروس "3/ 289"، "شبر".

ص: 253

فيما لم يؤمر فيه بشيء. ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه"1. وكالذي ورد من أن أهل الكتاب كانوا يخالفون الجاهليين في كيفية التحية عند ملاقاة أحدهم الآخر، وأن الرسول أقر المصافحة.

وقد أطلقت لفظة "المصاحف" في شعر ينسب إلى امرئ القيس على أسفار النصارى، وهو قوله:"كخط زبرو في مصاحف رهبان"2. والكلمة على رأي بعض علماء الساميات والنصرانيات من أصل حبشي، ومفردها "مصحف"3. وصحف بمعنى كتب. وقد وردت لفظة "صحيفة" في بيت ينسب إلى "لقيط الإيادي"4.

والمجلة من الألفاظ المعروفة بين الجاهليين. وقد اشتهرت في العربية باقترانها باسم "لقمان"، فقيل:"مجلة لقمان"5. وأطلقت عند العبرانيين على أسفار الكتاب المقدس على سبيل التخصيص أحيانًا وعلى باب التعميم في بعض الأحيان6.وقد وردت في شعر للنابغة، هو:

مجلتهم ذات الإله ودينهم

قويم فما يرجون غير العواقب7

وقصد بها كتاب النصارى، فقد مدح به الغساسنة، وهم على دين المسيح.

وقصد بالسفر وبالأسفار الكتاب والكتب من التوراة والإنجيل، وكلمة "سفر" بمعنى كتاب8. وكانت النصارى تقرأ كتبها من المصحف9، وتفسر للمستمعين ما جاء من مشكل.

ولفظة "جهنم" من الألفاظ المعروفة عند اليهود والنصارى. وهي تعني

1 عمدة القاري "17/ 71".

2

أتت حجج بعدي عليه فأصبحت

كخط زبور في مصاحف رهبان

العقد الثمين "161".

3 النصرانية "181".

4

كتاب في الصحيفة من لقيط

إلى من بالجزيرة من إياد

الأغاني "20/ 34"، النصرانية "181".

5 النصرانية "181".

6 معجميات "167 وما بعدها".

7 "محلتهم" في بعض الروايات، ديوان النابغة "8".

8 اللسان "6/ 35"، الاشتقاق "103"، النصرانية "18".

9 النهاية "4/ 136".

ص: 254

الموضع الذي يكون فيه العذاب بعد الحشر، فيخلد فيه أصحاب الآثام والمعصية. واللفظة من أصل عبراني على رأي المستشرقين وعلماء الساميات هو "جحينوم""جهينوم""Gehinnom"، أي "وادي حينوم1""Hinnom". وهو واد يدور حول القدس نحو أربعة كيلو مترات، ويعرف اليوم باسم "وادي الربابي"، وقد كان اليهود الوثنيون يقربون في موضع منه يسمى "توفيث""Topheth"، الصبيان قرابين للإله "ملوخ" MoIech=MoIoch" يقدمونها ذبائح محروقة إكراما له، ثم صار هذا الموضع محلا ترمى فيه أقذار المدينة وجثث الحيوانات، وتحرق هناك لئلا تنتشر منها الأوبئة، وصار الموضع رمزا للجحيم، ومنه أخذت لفظة "جهنه" "Gehenna" التي هي جهنم2، الموضع الذي يعاقب فيه المجرمون بعد الموت. وهو موضع يقع تحت الأرض، واسع جدا، وأكبر حجما من الأرض. يلقى فيه الآثمون جزاء إثمهم في الدنيا ومخالفتهم شريعة الرب فيبقون فيه فيعذبون. وقد اختلف في موضوع أبدية التعذيب وبقاء وجهنم، فمنهم من رأى جهنم خالدة، وأن العذاب أبدي، ومنهم من ذهب إلى أنها ترفع بعد انتهاء التعذيب3.

وقد وردت لفظة جهنم في مواضع متعددة، من شعر أمية بن أبي الصلت، كما ورد فيه وصفها وكيفية التعذيب فيها4. ولمعرفة أصل هذا الشعر: هل هو

1 Ency I P 998 Shorter Ency p 81

2 Hastings p 285

3 متى، الاصحاح الخامس، الآية 29، الاصحاح العاشر، الآية 28،

Hastings p 285

4 "ورد في تأريخ دمشق لابن عساكر "3/ 124": قال عبد الله بن مسلم الدينوري: سئلت هل وجدتم لجهنم ذكرا في الشعر القديم، فقلت: هذا يحتاج إلى تتبع وطلب. وقد أتذكر فلم أذكر إلا شيئًا وجدته في شعر أمية بن أبي الصلت، فإنه قال:

فلا تدنو جهنم من برئ

ولا عدن يطالعها أثيم

إذا شبت ثم وارت

وأعرض عن قوانسها الجحيم

وروي البيت في المخصص "9/ 6":

جهنم لا تبقى بغيا

وعدن لا يطالعها رجيم

وذكر للعديل بن الفرخ "ياقوت "4/ 117" قوله في نار جهنم وجنة الخلد:

أما ترهبان الدار في ابني أبيكما

ولا ترجون الله في جنة الخلد

وقد ورد اسم جهنام في شعر الأعشى. قال "التاج 7/ 372":

دعوت خليلي مسحلا ودعوا له

جهنام جدعا للهجين المذمم

النصرانية "462 وما بعدها".

ص: 255

من شعر أمية حقًّا، أو من شعر آخرين وضعوه على لسانه، لا بد من دراسته ومقارنته بما جاء في الإسلام عن وصف جهنم وكيفية التعذيب فيها. وهناك رواية تنفي ورود لفظة جهنم في أي شعر جاهلي خلا هذا الشعر المنسوب إلى أمية بن أبي الصلت، ويلاحظ أنه ذكر "عدن" مع جهنم.

ولم أجد في أشعار الجاهليين ذكرا للإنجيل، إلا في الشعر المنسوب إلى "عدي بن زيد العبادي"1. وربما في شعر عدد قليل آخر من الجاهليين، لم أقف عليه. غير أن عدم ورود اللفظة كثيرًا في هذا الشعر، لا يدل على عدم معرفة الجاهليين لها، ودليلنا على ذلك ورودها ف مواضع من القرآن الكريم. وورودها فيه دليل على وقوف الجاهليين عليها واستعمالهم إياها، وأصلها من اليونانية، وقد وقف العرب عليها من السريانية أو من الحبشية2. وقد ذكرت فيما سبق أن نفرا من أهل الكتاب كانوا قد أقاموا بمكة وكانوا يقرأون التوراة والإنجيل بألسنتهم، فلا يستبعد إذن وقوف بعض الجاهليين، ولا سيما المثقفين منهم وأصحاب التجارات الذين كانوا يقصدون الحيرة وبلاد الشام ونجران للتجارة وكان لهم اتصال وثيق بنصارى هذه الأرضين على الإنجيل وعلى الكتب الأخرى التي كان يستعملها رجال الكنيسة لإفهام الناس أمورالدين.

ويظهر من بعض روايات الإخباريين أن بعض أهل الجاهلية كانوا قد اطلعوا على التوراة والإنجيل، وأنهم وقفوا على ترجمات عربية للكتابين. أو أن هذا الفريق كان قد عرب بنفسه الكتابين كلا أو بعضًا، ووقف على ما كان عند أهل الكتاب من كتب في الدين. فذكروا مثلا أن "ورقة بن نوفل""كان يكتب الكتاب العبراني، ويكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب": وقالوا: "وكان امرؤ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب"3. وذكروا مثل ذلك عن "أمية بن أبي الصلت"، فقالوا إنه كان قد قرأ الكتب المقدسة4، وقالوا مثل ذلك عن عدد من الأحناف.

1

وأوتينا الملك والإنجيل نقرؤه

نشفي بحكمته أحلامنا عللا

الحيوان "4/ 64"، النصرانية "185".

2 اللسان "13/ 171"،النصرانية "185" Shorter Ency p 168

3 راجع ما كتبته عنه في فصل الأحناف Spenger Leben I S128

4 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "176".

ص: 256

وإذا كانت هذه الروايات صحيحة، فإنها تدل على أن الجاهليين كانوا قد وقفوا على ترجمة العهدين. ويرى بعض المستشرقين احتمال ترجمة العرب للكتاب المقدس قبل الإسلام وعند ظهوره، ترجمة من اليونانية على الأرجح. وقد استندوا في ذلك إلى خبر ذكره "ابن العبري""Barkebraeus" يفيد أن البطريق "المنوفيزيتي" المدعو "يوحنا""Monophysite Patriarch Johannes" كان قد ترجم الكتاب المقدس إلى أمير عربي اسمه "عمرو بن سعد"، وذلك بين سنتي "631"،"640" للميلاد، وإلى أخبار تفيد أن بعض رجال الدين في العراق كانوا قد ترجموه إلى العربية وذلك قبيل الإسلام وعند ظهوره1.

ولا يستبعد وجود ترجمات للكتاب المقدس في الحيرة، لما عرف عنها من تقدم في الثقافة وفي التعليم، ولوجود النصارى المتعلمين فيها بكثرة. وقد وجد المسلمون فيها حينما دخلوها عددا من الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة وتدوين الأناجيل، وقد برز نفر منهم، وظهروا في علوم اللاهوت، وتولوا مناصب عالية في سلك الكهنوت في مواضع أخرى من العراق، فلا غرابة إذا ما قام هؤلاء بتفسير الأناجيل وشرحها للناس للوقوف عليها. وقد لا يستبعد تدوينهم لتفاسيرها أو لترجمتها، لتكون في متناول الأيدي، ولا سيما بالنسبة إلى طلاب العلم المبتدئين. وقد لا يستبعد أيضًا توزيع بعض هذه الترجمات والتفاسير إلى مواضع أخرى لقراءتها على الوثنيين وعلى النصارى للتبشير2.

ونجد في كتب الإخباريين وفي كتب قصص الأنبياء وفي الفصول المدونة عن الماضين قصصًا وأمثلة وكلاما يرجع أصله إلى بعض أسفاره التوراة أو إلى الأناجيل، غير أننا لا نستطيع أن نؤكد أن هذا المدون قد نقل عن الجاهليين، وأن أهل الجاهلية كانوا يعرفونه، وإنه ليس مما قصه أهل الكتاب أو مسلمة أهل الكتاب مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه على المسلمين، فدخل بينهم. ثم إن القصص أكثره من "التلمود"، "المشنا" والكتب غير القانونية، روي بشكل فيه بعد في بعض الأحيان عن هذا المدون المعروف، وهو يفيدنا من هذه الناحية كثيرًا في الحكم على مدى معرفة العرب بعلم أهل الكتاب.

1 Sprenger I S 131

2 Ency II p 504

ص: 257

وللأسماء أهمية كبيرة في تعيين مبلغ أثر اليهودية والنصرانية في الجاهليين. وإذا كانت أسماء الوثنيين قد ساعدت "ولهوزن" في الكشف عن أسماء أصنام وأوثان لم ترد في كتاب الأصنام لابن الكلبي ولا في كتب الإخباريين الأخرى، وساعدت في الكشف عن مدى تغلغل الوثنية في نفوس أهل الجاهلية، فإن للأسماء اليهودية أو الأسماء النصرانية التي تسمى بها أهل الجاهلية والتي وصل خبرها إلينا أهمية كبيرة في الافصاح عن مدى تأثر الجاهليين بالديانتين. وليس من اللازم أن تكون هذه الأسماء أسماء أناس كانوا على دين يهود، أو على دين النصرانية، فالأسماء وإن كان لها ارتباط في الغالب بأديان حامليها غير أنها لا تكون دائمًا دليلا على دين أصحابها، فللبيئة ولبعض العادات والاعتقادات دخل في اختيار الأسماء. وعلى ذلك فإن ما سنذكره من أسماء لا نذكرها على أن أصحابها كانوا يهودا أو نصارى حتما، وإنما نذكرها على سبيل الإشارة إلى أن بعض الجاهليين كانوا يحملون أسماء هي في الغالب من أسماء اليهود والنصارى.

وفي طليعة هذه الأسماء التي يجب أن نذكرها، الأسماء الواردة في التوراة والإنجيل، فهي أسماء عبرانية ونصرانية معروفة، وبها تسمى. كثير من اليهود والنصارى. ودخولها بين الجاهليين العرب دليل على وجود بعض تلك المسميات بينهم، وتسمى أهل الجاهلية بتلك الأسماء.

ومن جملة تلك الأسماء: آدم وقد دعي به آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. قتل في الجاهلية، وهو الذي وضع النبي دمه يوم فتح مكة. وقد جاء "ابن دريد" بتفسير لهذه التسمية فذكر أنها من الأدمة أو بمعنى الطويل القامة ذي العنق الناصع، ولم يشر إلى وجود علاقة لها باسم آدم أبي البشر1. غير أني لا أستبعد احتمال أخذها من التسميات التي كانت بين اليهود أو النصارى عند الجاهليين. غير أننا لا نعرف من أمثال هذه التسميات غير عدد قليل محدود بحيث لا يمكن أن نتخذها قاعدة لبناء حكم عليها في ورود هذه التسمية عند الجاهليين.

وأكثر من هذه التسمية شيوعا اسم "إبراهيم"، ومن جملة من تسمى بها: إبراهيم جد عدي بن زيد بن حمان بن زيد بن أيوب من بني امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم. فولد أيوب إبراهيم وسلم وثعلبة وزيد. منهم عدي بن زيد

1 الاشتقاق "44"،النصرانية "228".

ص: 258

ابن حمان بن زيد بن أيوب بن مجروف الشاعر. ومنهم مقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيوب، الذي نسب إليه قصر مقاتل. وقال ابن الكلبي: لا أعرف في الجاهلية من العرب أيوب وإبراهيم غير هذين، وإنما سميا بهذين الإسمين للنصرانية1.

وممن سمي بإبراهيم: الحارث بن كتيف النبهاني، وهو شاعر قديمن وإبراهيم الأشهلي، وإبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي القرشي، وابو رافع إبراهيم القبطي، وهو من موالي الرسول، وإبراهيم بن عباد الأوسي، وإبراهيم بن قيس بن حجر بن معديكرب الكندي، وإبراهيم النجار وهو الذي صنع المنبر لرسول الله. وأكثر هؤلاء هم من الذين عاصروا الرسول وكانوا من صحابته2. ويجب ألا ننسى أن الرسول سمى ابنه توفي صغيرا في حياته إبراهيم3.

وعرف من الصحابة رجل اسمه "إسحاق الغنوي"4، وعرف ثلاثة صحابيين باسم "إسماعيل"5. وأما "أيوب"، فقد عرف به "أيوب بن مجروف" جد عدي بن زيد العبادي، وأيوب بن مكرز، كما تكنى به أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري من الصحابة، وهو الذي نزل عليه الرسول يوم مقدمه إلى يثرب مهاجرا من مكة6.

واسم "داود" من الأسماء التي وردت في جملة أسماء ملوك بني سليح، فذكر منهم "داود اللثق"7. وأظن أن لفظة "دؤاد" التي كني بها الشاعر الجاهلي أبو دؤاد الإيادي هي من داود8، وإن ذهب المفسرون فيها مذهبا آخر فقالوا أنها من الدود والدوادة والدودة وأمثال ذلك9. وعرف شاعر آخر باسم

1 تاج العروس "1/ 151"، "أوب"، النصرانية "229".

2 أسد الغابة "1/ 40 وما بعدها"، الإصابة "1/ 25 وما بعدها"، النصرانية "329".

3 ابن هشام "1/ 206".

4 أسد الغابة "1/ 68"، الإصابة "1/ 47"، "رقم 49"، النصرانية "229".

5 أسدالغابة "1/ 79"، الإصابة "1/ 55 وما بعدها"، النصرانية "230".

6 ابن هشام "2/ 66، 125، 144، 150، 305"، "3/ 347، 392"، الاشتقاق "266".

7 الاشتقاق "319"، النصرانية "532".

8 النصرانية "232".

9 الاشتقاق "104".

ص: 259

داود بن حمل الهمداني1، ومن الأنصار رجل اسمه داود بن بلال2 وصحابي اسمه داود بن سلمة الأنصاري3.

وقد عرف داود في الشعر بنسجه الدروع حتى ضربت بدروعه عندهم المثل. وهي في نظرهم دروع قوية ممتازة، صنعها من الحديد الذي كان يلين بين يديه4. وقد تكرر ورود ذلك في أشعار جملة شعراء، مما يدل على أنها كانت معروفة بين الجاهليين مشهورة. هذا ولا بد أن يكون لذلك أصل بعيد ظهر من قصص بني إسرائيل عن داود وعن ملكه وحروبه وتغلبه على خصومه. هذا القصص الذي جعل من داود رجلا لا يستطاع عليه بفضل الحديد الذي لان بين يديه، فصار دروعا لا تمضي فيه سيوف المقاتلين.

1 النصرانية "232".

2 أسد الغابة "2/ 129"، الإصابة "1/ 463"، "رقم 2287و228"، الإصابة "4/ 169"، "988".

3 الإصابة "1/ 463".

4 قال طرفة:

وهم ما هم إذا ما لبسوا

نسج داود لباس محتضر

النصرانية "272"، شعراء النصرانية "309"، ديوان طرفة "58".

وقال حصين بن الحمام المري:

صفائح بصرى أخلصتها قيونها

ومطردا من نسج داود بهما

الحماسة لأبي تمام "189"، النصرانية "273".

وقال حسيل بن سجيع الضبي:

وبيضاء من نسج ابن داود تثرة

تخيرتها يوم اللقاء ملابسا

الحماسة لأبي تمام "284"، النصرانية "273".

وللبيد:

ونزعن من داود أحسن صنعه

ولقد يكون بقوة ونعيم

صنع الحديد لحفظه أسراده

لينال طول العيش غير سروم

ديوان لبيد "83"، "طبعة الخالدي"، النصرانية "273".

وللأعشى:

ومن نسج داود يجدي بها

على أثر العيس عيرا فعير

النصرانية "273"، شعراء النصرانية "388".

ولسلامة بن جندل:

مداخلة من نسج داوو شكلها

كحب الجنا من أبلم متفرق

وله أيضًا:

من نسج داود وآل محرق

غال غرائبهن في الآفاق

النصرانية "273".

ص: 260

ولم يخل شعر الأعشى من اسم داود، فورد في مناسبة التحدث عن حوادث الزمان واعتداء الدهر على الإنسان، وتبدل الأيام، كما في موضع آخر في كلامه على الدروع1. أما عبيد الأبرص، فقد ذكره في أثناء كلامه على طول العمر2.

وعرف "سليمان" في أبيات للنابغة قالها في مدح النعمان ملك الحيرة بتسخيره الجن لبناء تدمر3. وعرف بمثل ذلك وببنائه الأبنية الفخمة وبسعة ملكه في شعر شعراء آخرين4. وإذا كان ما نسب إلى أولئك الشعراء صحيحا، كان رأيهم هذا في سليمان بتأثير ما كان يقصه أهل الكتاب على الجاهليين من قصص وارد في العهد الجديد، في سفر الملوك الثالث وأخبار الأيام الثاني عن ملكه وعجيب أبنيته5.

وقد ورد اسم سليمان علما لجملة رجال عاشوا في الجاهلية وفي أيام الرسول، فهناك حاكم من حكام العرب المعروفين في الجاهلية اسمه "سليمان بن نوفل"6.

1

ومر الليالي كل وقت وساعة

يزعزعن ملكا أو يباعدن دانيا

وردن على داود حتى أبدنه

وكان يغادي العيش أخضر صافيا

الحماسة، للبحتري "90"، النصرانية "272".

2

وطلبت ذا القرنين حتى فاتني

ركضا وكدت أن أرى داؤودا

خزانة الأدب "1/ 323"، النصرانية "272".

3

ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه

ولا أحاشي من الأقوام من أحد

إلا سليمان، إذا قال الإله له:

قم في البرية فاحددها عن الفند

وخيس الجن إني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصفاح والعمد

فمن أطاعك فاخضعه بطاعته

كما أطاعك وأدلله على الرشد

ومن عصاك فعاقبه معاقبة

تنهى الظلوم ولا تعقد على أحد

العقد الثمين "7"، شعراء النصرانية "663"، النصرانية "274".

4 قال الأعشى:

فلو كان حيا خالدا ومعمرا

لكان سليمان البري من الدهر

براه الهي واصطفاه عبادة

وملكه ما بين سرفي إلى مصر

وسخر من جن الملاك شيعة

قياما لديه يعملون بلا أجر

البدء والتأريخ "3/ 108"، النصرانية "274"، وله أيضا:

فذاك سليمان الذي سخرت له

مع الإنس والجن الرياح المراخيا

الحماسة، للبحتري "86 وما بعدها"، النصرانية "275".

5 النصرانية "273".

6 اليعقوبي "1/ 299"، النصرانية "232".

ص: 261

وهناك جملة من الصحابة عرفوا بسليمان1. ومن هذه اللفظة نشأت الأسماء: سلمان وسلام، وسليم، كما يتبين ذلك من أبيات للأسود بن يعقر2 والخطيئة3 والنابغة4. وعرف بسلمان رجل من نصارى بني عجل اسمه سلمان العجلي.

وهناك طائفة لأسماء نصرانية خالصة تسمى بها نفر من الجاهليين قبل الإسلام، مثل: عبد المسيح، وعبد ياسوع، وعبد يسوع، وعبد يشوع، وايشوع، وأبجر، وقد عرف بأبجر عدد من ملوك الرها، كما عرف بها أبجر بن جابر سيد بين عجل، وأفريم، وبولس وجرحس، وجريج، ورومان، ورومانوس، وسرجس، وسمعان، وشمعون، ونسطاس، وحنين، و"حنيناء"و"يحنة"5. ومن أسماء النساء: مارية، ومريم، وحنة6،ومن بين هذه الأسماء ما كانت خاصة بطبقة الموالي الذين جلبوا من الخارج وبيعوا في أسواق النخاسة، فحافظوا على أسمائهم القديمة التي تشير إلى أصولهم في النصرانية.

ونرى ورود "عبد المسيح" بين أسماء أهل الحيرة بصورة خاصة، ورد علما لأناس معروفين جدا بينهم، وكانوا عليهم زعماء، مثل عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة، وكان في جملة من خرج لملاقاة خالد بن الوليد

1 مثل سليمان بن الحارث، الاشتقاق "2/ 318" وسليمان الليثي بن أكيمة، وسليمان بن أبي حتمة القرشي، وسليمان بن صرد الخزاعي، وسليمان بن عمرو بن حديدة، وسليمان بن مسهر، وسليمان بن هاشم بن عتبة القرشي، أسد الغابة "2/ 350 وما بعدها"، الإصابة "2/ 128 وما بعدها"، النصرانية "232"، تاج العروس "8/ 344".

2

ودعا بمحكمة أمين سكها

من نسج داود أبي سلام

تاج العروس "8/ 344".

3

فيه الرماح وفيه كل سابغة

جدلاء محكمة من نسج سلام

النصرانية "232".

4

وكل صموت نثلة تبعية

ونسج سليم كل قضاء ذائل

ديوان النابغة "99"، النصرانية "233"، "أراد نسج داود، فجعله سليمان ثم غير الاسم، فقال سلام وسليم. ومثل ذلك في أشعارهم كثير. قال ابن بري: وقالوا في سليمان اسم النبي، صلى الله عليه وسلم: سليم وسلام فغيروه ضرورة"، اللسان "15/ 192 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 344".

5 البكري: معجم "4/ 580"، تاج العروس "9/ 186".

6 النصرانية "239"، وقد أورد قائمة بالأسماء النصرانية، وأورد أمثلة لمن تسمى بها قبل الإسلام من الجاهليين، الكبري، معجم "4/ 578"، "دير حنة".

ص: 262

للاتفاق معه على شروط الصلح1. وعادة جعل المرء نفسه عبدا لإله أو لشخص مقدس، كما في هذه التسمية، لم تكن من العادات الخاصة بالنصارى، فقد رأينا أن أكثر الجاهلين كانوا يجعلون أنفسهم عبدا لإله من الآله، ثم يتخذون ذلك تسمية لهم، مثل عبد العزى، وعبد يغوث، وعبد ود، وأمثال ذلك. فلما كانت النصرانية، تبرأ من تنصر من اسم الآلهة الوثنية، وأحلوا محلها اسم المسيح.

وكان اسم والد حنظلة صاحب دير حنظة الذي بأرض بني علقمة بالحيرة "عبد المسيح"، ويذكر الإخباريون أنهم وجدوا على صدر الدير كتابة مكتوبة بالرصاص على ساج محفور:"بني هذا الهيكل المقدس، محبة لولاية الحق والأمانة، حنظلة بن عبد المسيح، يكون مع بقاء الدنيا تقديسه، وكما يذكر أولياؤه بالعصمة، يكون ذكر الخاطئ حنظلة"2.

غير أن هذه الأسماء اليهودية الأصل أو النصرانية قليلة الاستعمال، فلم تكن مستعملة بنطاق واسع. وأكثر من تسمى بها، هم من الموالي والأرقاء، أو من العرب الذين كانوا على أطراف العراق وبلاد الشام، وممن تأثر بالمؤثرات الثقافية الأعجمية، أو ممن كان على يهودية أو نصرانية، فتسمى بأسماء محببة أو مباركة في هاتين الديانتين.

وأهل نجران، هم الذين كانوا يجادلون الرسول في طبيعة المسيح، فلم يكن بمكة أو بيثرب قوم منهم يستطيعون مجادلته في أمور الدين. وقد ذكر بعض المفسرين أن أهل نجران كانوا أعظم قوم من النصارى جادلوا الرسول في عيسى. جاءوا إلى الرسول، فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسى. تزعم إنه عبد الله. فقال: أجل إنه عبد الله. قالوا: فهل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به، ثم خرجوا من عنده غاضبين. وقالوا إن كنت صاقدا، فأرنا عبدا يحيي الموتى ويبرئ الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، فلما عادوا قال رسول الله:"مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون"3.

1 البلاذري، فتوح "252"، المعمرون، للسجستاني "38"، "طبعة كولدتزيهر". المشرق، السنة السابعة عشرة، "1914"، "ص132"، البلدان "2/ 677".

2 البكري، معجم "2/ 572"، "دير حنظلة".

3 تفسير الطبري "3/ 207 وما بعدها.

ص: 263

وقد جادل بعض النصارى رسول الله في أمور الدين، ثم أسلموا. ونظرا لقلة عددهم بيثرب، لم يقاوموه هنا كما قاومه اليهود.

وطبيعي أن يتأثر نصارى الجاهلية بلغة بني إرم، فيستعملوا المصطلحات التي كانت شائعة في الكنيسة، وهي مصطلحات إرمية الأصل في الغالب: فقد كانت لغة بني إرم لغة العلم والدين عند النصارى الشرقيين. بها يقيمون طقوسهم الدينية، ومنها يترجمون الأناجيل إلى أتباعهم النصارى العرب، فدخلت بذلك إلى العربية ألفاظ إرمية ذات معان خاصة. ومنها الألفاظ التي تكلمنا عنها وألفاظ أخرى عديدة لم نتطرق إليها، لعدم وجود صلة لها بهذا الموضوع، وخشية الإطالة والخروج على صلب الموضوع. وهناك مصطلحات يونانية ولاتينية وحبشية، لها صلة بالدين والمجتمع دخلت العربية أيضًا عن طريق النصرانية، ظهر أثرها في نصارى بلاد الشام والعربية الغربية خاصة، بتأثير الاحتكاك المباشر والتبشير.

وقد عني بعض الباحثين بجمع المصطلحات الدينية المعروفة عند أهل الكتاب في الجاهلية والتي أقرها الإسلام على نحو ما كانت تعرف به، أو أعطاها معنى خاصًّا، ومن بينها عدد كبير ورد في القرآن الكريم1. ولما كانت غالبية العرب على الوثنية، وهي ديانة بسيطة قليلة الشعائر بالنبة إلى اليهودية والنصرانية، لذلك كانت هذه المصطلحات شائعة معروفة بين أهل الكتاب من الجاهليين، وقد نقلوها من اللغات الدينية التي كتب بها علماء أهل الكتاب، فهي في الغالب من أصل سرياني أو عبراني أو يوناني أو حبشي.

وقد جمع الأب "شيخو" في كتابه: "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية" الألفاظ الخاصة بأهل الكتاب من الأبيات الواردة في دواوين شعراء الجاهلية وفي كتب الأدب، وهي أبيات منها ما أجمع الرواة وأهل الأخبار على نسبتها إلى أولئك الشعراء، ومنها ما ورد عند بعض الرواة والإخباريين ولم يرد في دواوين أولئك الشعراء، ليجعل من تلك الألفاظ دليلا على أثر النصرانية في الجاهليين، وعلى مدى تغلغلها بينهم. وهو حكم لا يمكن أن يكون سليما، إلا بعد ثبوت صحة نسبة تلك الأبيات إلى الجاهليين.

1 Noldeke، Neue Beitrage zur Semit. Sparad، s. 1. ff، J. Horovitz، Jewish Proper Names and Derivatives in Koran، 145، R. Bell، The Grigin of Islam in Its Christian Environment، London، 1926.

ص: 264

وقد كان للنصرانية أثر مهم في نشر الكتابة العربية، المأخوذة عن الإرمية، بين الجاهليين، الكتابة التي تولد منها قلمنا الذي نكتب به في الوقت الحاضر. وقد وجد المسلمون في فتحهم للعراق مدارس عديدة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، كما أن تجار مكة ويثرب الذين كانوا يقصدون الشام والعراق وجدوا الضرورة تحتم عليهم تعلم هذا الخط، فتعلموه. ولما نزل الوحي كتب كتابه به، فصار قلم المسلمين. كما سأتحدث عن ذلك في موضوع الخط عند الجاهليين.

ولم يترك رجال الدين من النصارى العرب لنا أثر كتابيا بنبئ عن مدى اشتغالهم في علم اللاهوت وفي العلوم الأخرى، غير أن هذا لا يعني أن النصارى العرب لم يخرجوا علماء دين منهم، ولم يعطوا النصرانية رجلا منهم يخدمها ويقف حياته الروحية عليها، ففي قوائم أسماء من حضروا المجامع الدينية التي عقدت للنظر في الأمور الجدلية وفي القضايا التي تخص مبادئ الدين أسماء رجال تنبئ أنهم كانوا عربا، وقد دونت في محاضر تلك المجالس أسماء المواضع التي مثلوها من بلاد العرب، كما أن بين رجال الدين الكبار الذين نبغوا في العراق من كان أصله من الحيرة، وإذ كانت غالبية سكان هذا المدينة من العرب، فلا يستبعد أن يكون من بين هؤلاء العلماء النصارى الحيريين من كل من أصل عربي.

لقد كانت النصرانية عاملا مهما بالطبع في إدخال الآراء الإغريقية والسريانية إلى نصارى العرب، فقد كانت الكنيسة مضطرة إلىدراسة الإغريقية ولغة بني إرم، لما للغتين من قدسية خاصة نشأت من صلتهما بالأناجيل. وقد كان أثر الإرمية أهم في الكنيسة الشرقية من الإغريقية، لكونها لغة الثقافة في الهلال الخصيب في ذلك العهد. ولهذا وجدنا معظم التعابير والمصطلحات الدينية عند نصارى الشرق هي من هذه اللغة، ومنها أخذها النصارى العرب، فصارت عربية. وقد كان السريان قد نقلوا بعض مؤلفات اليونان واللاتين إلى لغتهم، ولا أستبعد نقلهم بعض تلك المؤلفات، ولا سيما الدينية منها، من هذه اللغة إلى اللغة العربية، وذلك قبل الإسلام، أو ترجمتها ترجمة شفوية لطلاب العلم من العرب ممن كانوا لا يفقهون لغة بني إرم، أو لا يلمون بها إلماما صحيحا. وإذ كانت هذه اللغة لغة مقدسة لغة بني إرم، أو لا يلمون بها إلماما صحيحا. وإذ كانت هذه اللغة لغة مقدسة ولغة الكنيسة الرسمية، وكان أكثر رجال الدين من بني إرم، فقد كانت هذه اللغة المقررة في الكنيسة، بها يدرس ويتباحث رجال الدين وإن كانوا عربا، على نحو ما يفعله رجال الدين المسلمين الأعاجم الذين يدرسون العربية بعلومها المختلفة

ص: 265

ليتفقهوا بذلك في الدين، والعربية هي لغة الدين الإسلامي، وكما يفعل رجال الدين الكاثوليك أيضًا في دراستهم اللاتينية وتبحرهم بها لأن الاتينية هي لغة النصرانية عند الكاثوليك.

وكان للنصرانية أثر آخر في نصارى عر الجاهلية، هو أثرها فيهم من ناحية الفن، إذ أدخلت النصرانية بين العرب فنا جديدا في البناء، هو بناء الكنائس والأديرة والمذابح والمحاريب والزخرفة، كما أدخلت النحت والتصوير المتأثرين بالنزعة النصرانية، ولدخول أكثر هذه الأشياء لأول مرة بين الجاهليين، استعملت مسمياتها الأصلية اليونانية أو الآرامية في اللغة العربية، بعد أن صقلت وهذبت، حتى اكتسبت ثوبا يلائم الذوق العربي في النطق. وستكشف الحفريات في المستقبل عن مدى تأثر النصارى العرب الجاهليين بالفن النصراني المقتبس عن الروم أو عن بني إرم والأحباش.

ص: 266

‌الفصل الثالث والثمانون: المجوس والصابئة

‌مدخل

الفصل الثال والثمانون المجوس والصابئة

يقصد الإخباريون بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة: الخير والشر، فيزعمون أن الخير من فعل النور وأن الشر من فعل الظلمة1. وهم يعلمون أن المجوس من الفرس وأنهم عبدة النيران.

وفي القرآن الكريم ذكر للمجوس. وقد ورد ذكرهم في موضع واحد منه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 2. وفي ذكرهم في القرآن الكريم دليل كاف على معرفة أهل الحجاز بهم، ووقوفهم عليهم. وكيف لا يكون لهم علم بهم ووقوف عليهم، وقد كان لأهل مكة اتصال وثيق بالحيرة كما كان لأهل الحجاز اتصال باليمن؟ وقد كان المهيمن على اليمن الفرس عند ظهور الإسلام، حيث طردوا الأحباش وأخذوا محلهم، وقد كان هؤلاء الفرس على المجوسية، ثم إنه كان في حضرموت وفي العربية الشرقية أناس منهم أقاموا هناك. وقد كان وكلاء الأكاسرة على هذه الأماكن منهم، وهم على دين

1 النهاية "4/ 85"، اللسان "8/ 98""مجس"، تاج العروس "4/ 345""مجس"، الملل والنحل "2/ 57"، الحيوان "1/ 190"، "4/ 59، 479، 481"، المسعويد، مرج "1/ 252، 253،273"، "بيروت"، عمدة القاري "15/ 78".

2 الحج، الآية 17، عمدة القاري "15// 78 وما بعدها" الطبرسي، مجمع البيان "13/ 88 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 8"، تفسير الطبري "6/ 201"، روح المعاني "6/ 179"، تاج العروس "4/ 245". "مجس".

ص: 267

المجوسية. وقد أشير إلى وجودهم في أخبار الفتوح، حيث دفع الجزية من أبي منهم الدخول في الإسلام. والظاهر أن هؤلاء كانوا مقيمين فيها من أمد طويل بدليل ورود جملة في أخبار الفتوح تفيد ذلك، وهي:"وأسلم معهما جميع العرب وبعض العجم. فأما أهل الأرض من المجوس واليهود والنصارى، فإنهم صالحوا العلاء"1.

ويروي أهل الحديث حديثين يذكرون أن الرسول قالهما هما: "كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يمجسانه"، أي يعلمانه دين المجوسية. وحديث "القدرية مجوس هذه الأمة"2. وفي هذين الحديثين ذكر للمجوس. ولعلماء الحديث كلام عليهما. ولا سيما على الحديث الثاني، وفيه تعريض بالقدرية، أسلاف المعتزلة.

وكلمة "مجوس" من الكلمات المعربة، عربت عن لفظة "مغوس""Maghos" الفارسية التي تعني "عابد النار"3. وهي من الألفاظ التي دخلت إلى اليونانية كذلك، حيث وردت لفظة "Magi" فيها. وهي جمع "مجوس""Magus"4. وقد دخلت إلى لغة "بني إرم" أيضًا. ولا ندري اليوم على وجه صحيح من أي طريق دخلت لفظة "مجوسي" و"مجوس" إلى العربية، عن الفرس أنفسهم، أو عن اليونانية أو عن طريق لغة "بين إرم"5!

وقد عرف علماء اللغة بأن لفظة "مجوس" من الألفاظ المعربة. وقد ذهبوا إلى إنها معربة عن الفارسية القديمة. ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في أصل اللفظة وفي بيان معناها، وذهبوا في ذلك مذاهب6، وبعض هذه التفسيرات والتأويلات مفتعل يدل على عدم وقوف أصحابها على جلية الموضوع.

1 البلدان "2/ 74"، "ومن أبي فعلية الجزية. فصالحهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أن على المجوس الجزية"، "وأخذ الجزية من المجوس"، الطبري "3/ 29".

2 اللسان "6/ 213 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 345"، اللسان "8/ 98""مجس""طبعة بولاق".

3 غرائب اللغة "ص269".

4 Hastings p 565

5 Shorter Ency of IsIam p 98 Ency III p 97

6 اللسان "8/ 98""طبعة بولاق"، محيط المحيط "2/ 250"، تاج العروس "4/ 345""مجس"، الحيوان، للجاحظ "5/ 69""عبد السلام هارون"، المعرب، للجواليقي "320".

ص: 268

ويريد الإخباريون بالمجوسية عبادة النار. وإذا صح ما ورد في شطر بيت منسوب إلى الشاعر الجاهلي "التوأم اليشكري" المعاصر لامرئ القيس، هو:"كنار مجوس تستعر استعارا"1، فإن فيه دلالة على أن هذا الشاعر هو وامرأ القيس كانا على علم بنار المجوس، وإنها كانت تستعر دائمًا، وربما كانا على علم ببعض تعاليمها أيضًا.

وفي أخبار أهل الأخبار ما يفيد بعض العرب، فورد أن "المزدكية والمجوسية في تميم"2. وورد أن "زرارة بن عدس" وابنه "حاجب بن زرارة"، وهما من سادات تميم كانا قد اعتنقا المجوسية، واعتنقها أيضًا "الأقرع بن حابس" و"أبو الأسود"، جد "وكيع بن حسان"3. وقيل إن أشتاتا من العرب عبدت النار، سرى إليها ذلك من الفرس والمجوس4.

وكان مجوس اليمن، من الفرس الذين أرسلهم كسرى لطرد الحبش من اليمن، فهم وأبناؤهم كانوا على هذا الدين، دين الإمبراطورية الفارسية، ولما ظهر الإسلام، نبذ هؤلاء المجوسية واعتنقوا الإسلام5.

وأما مجوس عمان وبقية أنحاء العربية الجنوبية، فقد كانوا من الفرس كذلك: من تجار ومن مقيمين من بقية الفرس الذين كانوا قد استولوا على هذه الأرضين. وعند ظهور الإسلام لم يكن لهم نفوذ سياسي، فقد كان سادات القبائل قد كونوا مشيخات فيها، واستقلت في إدارة شئونها، غير أن المجوس بقوا فيها، وعند دخول أهلها في الإسلام، ودخول البلاد في دين الله، دفع بعض أولئك المجوس الجزية، ودخل الباقون في الإسلام. شأنهم في ذلك شأن اليهود والنصارى المقيمين في هذه الأرضين.

وأما مجوس البحرين، فقد كانوا أكثر عددا وأكبر نفوذا من إخوانهم في عمان، لقرب هذه الأرضين من إمبراطورية الساسانيين، ولهجة الفرس من السواحل المقابلة ومن طريق الأبلة الساحلي، وقد عثر المنقبون على قبور عديدة

1 اللسان "6/ 213 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 245"، "مجس".

2 البدء والتأريخ "4/ 31".

3 المعارف "266""الصاوي"، البدء والتأريخ "4/ 31"، الأعلاق النفيسة "217".

4 بلوغ الأرب "2/ 233".

5 Ency VoI III p 99

ص: 269

تعود إليهم؛ وعلى آثار لمعابدهم في العربية الشرقية. وكان على "هجر"، حين أبلغ الرسول دعوته إليها، رجل من الفرس اسمه "سيبخت مرزبان"، وقد أسلم واسلم معه قوم من قومه، ودفع الجزية من فضل البقاء منهم على دينه، شأنهم في ذلك شأن أهل الكتاب1. وذكر أن الرسول كتب إلى "مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أخذت منهم الجزية، وبأن لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم"2.

وكان باليمامة قوم من المجوس، عاشوا في قراها ومواضعها، اشتغلوا بالزراعة وبالتعدين. وأرض اليمامة أرض غنية، وهي "ريف" أهل مكة، وعليها اعتمادهم في الحصول على الحبوب. كما عرفت بوجود المعادن بها، فسهل أهلها دخول المجوس إليها، للاستفادة منهم في استغلال الأرض وفي التعدين.

هذا ولم نسمع بدخول أحد من ملوك الحيرة، أو الأمراء الذين عينهم الفرس على العرب في المجوسية مع علاقتهم بالفرس واتصالهم الوثيق بهم، ووجود الفرس في أرضهم وفي عاصمتهم، بينما نجد بعضًا منهم وقد دخل في النصرانية. ولعل ذلك بسبب عدم ميل الفرس إلى إدخال أحد من الغرباء عنهم في دينهم وإلى عدهم المجوسية ديانة قومية خاصة بهم، فلا يهمهم دخول أحد من غيرهم فيها.

هذا ولا أجد صلة بين "الأسبذية" التي زعم أنها ديانة قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين، عرفوا بـ "الأسبذيين"، وبين "بني دارم"، وكونهم كانوا على هذا الدين. فقد كان أحدهم وهو "المنذر بن ساوى" أسبذيا، ولم يكونوا كلهم. قيل إنه نسب إلى قرية بهجر يقال لها "الأسبذ"، وقيل إلى الأسبذيين3. ولا صلة لهذه الأسبذية بالمجوسية، أو إلى ديانة دخلت من فارس إلى البحرين. وقد تحدثت في مكان آخر عن وجود قوم من العرب قدسوا "الحصان". ورأي أن المراد من "الأسبذية" الفرسان. وأن "المنذر بن ساوى" كان "أسبذا" أي بدرجة فارس، وهي من درجة الشرف والرفعة في الجيش الساساني.

1 البلاذري "85 وما بعدها"، البلدان "2/ 73 وما بعدها".

2 ابن سعد، طبقات "1/ 263"، "صادر".

3 فتوح البلدان "98"، "89""طبعة المكتبة التجارية"، محاضرات للدكتور صالح أحمد العلي "171".

ص: 270

ويذكر علماء اللغة في معرض كلامهم على معنى لفظة "الزمزمة" أن من عادة المجوس الزمزمة عند الابتداء بالأكل، أي قراءة شيء من كتبهم الدينية قراءة خافته على المأكول تقديسا وشكرا لهز وقد نهى الخليفة عمر عن الزمزمة، لأنها من علائم المجوس1.

وقد عرف عالم المجوس ورئيسهم الروحي عند العرب بـ "الموبذ" و"الموبذان"، وعرف كبيرهم بـ "موبذان موبذ"؛ وجعل بعض العلماء "الموبذان" بمنزلة قاضي القضاة للمسلمين، والموبذ بمنزلة القاضي2. وتعني "موبذان موبذ" الموبذ الأعظم. وقد اكتفى أحيانًا بلفظة "موبذان" للتعبير عن "موبذان موبذ". وقد فسر المسعودي لفظة "الموبذ" بمعنى حافظ الدين. ورجع أصلها إلى "مو" بمعنى "دين" في رأيه، و"بذ" بمعنى "حافظ"3. ورأى "اليعقوبي" أن "الموبذان" بمعنى عالم العلماء4. والموبذ هي من الألفاظ المعربة عن الفهلوية، فهي من أصل فهلوي هو Magupat، بمعنى عظيم المجوس. ويتمتع هذا الرئيس الديني الأعظم بسلطات دينية واسعة5. وقد أطلق السريان على الموبذ جملة "ريش مكوشي" "Resh Magushi" و "Resh damgushi، أي "رئيس المجوس"، و"مكوش" تعني "المجوس"6.

وترد في العربية لفظة أخرى، لها صلة بالمجوسية، هي "الهربذ" و"الهرابذاة". ذكر علماء اللغة أن "الهرابذية: المجوس، وهم قومة بيت النار التي للهند

وقيل عظماء الهند أو علماؤهم". وذكروا أن "الهربذي مشية فيها اختيال، كمشي الهرابذة، وهم حكام المجوس. قال امرؤ القيس:

مشى الهربذي في دفه ثم فرفرا"7

1 اللسان "15/ 165"، تاج العروس "8/ 165"، تاج العروس "8/ 328".

2 اللسان "3/ 511"، "موين"، النهاية في غريب الحديث "4/ 119"، تاج العروس "2/ 513".

3 مروج الذهب "1/ 268"، "ذكر ملوك الغساسنة".

Ency III p 453>

4 تأريخ اليعقوبي "1/ 207".

5 Ency III p 453

6 اللسان "3/ 517 وما بعدها"، "هربن".

7 Ency III p 453

ص: 271

واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية. من أصل "هور" و"بت"، بمعنى رئيس خدام النار. والموكل على خدمة النار في المعبد1.

وقد ذكر "الألوسي"، أن صنفا من العرب عبد النار، وقال عنهم:"وهم أشتات من العرب، وكأن ذلك سرى إليهم من الفرس والمجوس"2. ولم يذكر أسماء هؤلاء الأشتات. ولم يتحدث عن طريقة تعبدهم للنار. ولكننا نستطيع أن نجد في "نار الاستمطار" وفي "نار التحالف" وفي النيران الأخرى التي يذكرها أسماءها أهل الأخبار دلالة على وجود فكرة تقديس بعض العرب للنار. وقد حبب الإسلام هذه النيران.

فقد ذكر أهل الأخبار أن العرب كانت في الجاهلية الأولى، إذا احتبس عنهم المطر، ويئسوا من نزوله، يجمعون البقر ويعقدون في أذنابها وعراقبيها السلع والعشر ويصعدون بها في الجبل الوعر، ويشعلون فيها النار، ويزعمون أن ذلك من أسباب المطر، قال الشاعر "الورل" الطائي:

أجاعل أنت بيقورا مسلعة

وسيلة منك بين الله والمطر3

وقد أشير إلى هذه النار في شعر ينسب إلى أمية بن أبي الصلت4. ويسمونها بنار الاستسقاء وبنار الاستمطار5.

وذكروا نارًا أخرى قالوا لها: "نار التحالف" ،"نار المهول". وقالوا أن العرب كانوا لا يعقدون حلفا إلا عليها، وكانوا إذا اختصموا في شيء، واتفقوا على اليمين، حلفوا على النار. ولهذا قيل لها "نار التحالف". وطريقتهم في ذلك أن المتحالفين أو المتخاصمين يحفرون أمام نار يوقدونها، ثم يلقون عليها

1 غرائب اللغة "248".

2 بلوغ الأرب "2/ 233".

3 "الوديل الطائي"، صبح الأعشى "1/ 409"، بلوغ الأرب "2/ 164"، خزانة الأدب "3/ 212"، الحيوان "4/ 468".

لا در در رجال خاب سعيهم

يستمطرون لدى الازمات بالعشر

أجاعل أنت بيقورا مسلعة

ذريعة لك بين الله والمطر

اللسان "4/ 73"، "بقر".

4 نهاية الأرب، للنويري "1/ 109 وما بعدها"، الحيوان "4/ 466 وما بعدها".

5 نزهة الجليس "2/ 406".

ص: 272

ملحا وكبريتا. وعندئذ يذكرون منافع هذه النار ويدعون بالحرمان من خيرها على من ينقض العهد ويحل العقد وفي حالة الحلف واليمين يقول صاحب النار للحالف: "هذه النار قد تهددتك"، فإن كان مبطلا نكل، وإن بريئًا حلف، ولذلك قيل لها "نار المهول"1. وذكروا أيضًا أن هذه النار كانت معروفة في اليمن، مستعرة دائمًا، ولها سادة سدنة وقيمون يطرحون الملح والكبريت في النار، أما السدنة فيقومون بأخذ اليمين. وكان سادتها إذا أتي برجل ليحلف، هيبوه من الحلف بها، وخوفوه من الكذب. وقد عرفت هذه النار بـ "نار التحاليف" كذلك. وقد أشار إليها الكميت بقوله:

هم خوفوني بالعمى هوة الردى

كما شب نار الحالفين المهول

كما أشار إليها شاعر آخر هو أوس، إذ قال:

إذا استقبلته الشمس صد بوجهه

كما صد عن نار المهول حالف2

وذكر "الجاحظ" أن العرب "يقولون في الحلف: الدم، الدم، والهدم الهدم، لا يزيده طلوع الشمس إلا شدا، وطول الليالي إلا مدا، ما بل البحر صوفة، وما أقام رضوى في مكانه، إن كان جبلهم رضوى.

"وكل قوم يذكرون جبلهم، والمشهور من جبالهم. وربما دنوا منها حتى تكاد تحرقهم"3.

بل زعم بعض أهل الأخبار أن حمير كانت تحتكم إلى نار كانت باليمن تحكم بينهم فيما كانوا يختلفون به. تأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فلما اعتنق التبع "تبان أسعد"، ديانة يهود، وطلب من قومه الدخول فيها، أبوا عليه ذلك، وطلبوا منه الاحتكام إلى تلك النار في قصة يذكرونها في سبب تهود بعض حمير4.

وللعرب نار السعالي والجن والغيلان5. ذكروا أن الغيلان توقد بالليل النيران

1 اللسان "5/ 234"، "نور"، "نزهة الجليس "2/ 406".

2 اللسان "7/ 102"، صبح الأعشى "1/ 409"، خزانة الأدب "3/ 212"، "خوفونا"، نهاية الآرب "1/ 109 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، الحيوان "45/ 470".

3 الحيوان "4/470 وما بعدها".

4 سيرة ابن هشام "1/ 27".

5 الحيوان "4/ 481".

ص: 273

للعبث والتخييل واضلال السابلة. وإنها ترفع للمثقفر فيتبعها فتهوى به الغول. وأورد أهل الأخبار شعرا في ذلك منه شعر لـ "عبيد بن أيوب"، المعروف بـ "أبي مطراب"، وكان يزعم أنه يؤاكل الظباء والوحش ويرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي1.

وذكر أهل الأخبار قصة عن "خالد بن سنان العبسي" النبي العربي الذي منحه بعضهم في الإسلام جملة "عليه السلام" باعتبار أنه من أنبياء الله، قد يكون لها صلة بعقيدة عبادة النار عند العرب. إذ ذكروا أن نارًا ظهرت "بالبادية بين مكة والمدينة في الفترة، فسمتها العرب بدًا، وكادت طائفة منهم أن تعبدها مضاهاة للمجوس. فقام خالد هذا، فأخذ عصاه، واقتحم النار يضربها بعصاه، حتى أطفأها الله تعالى. ثم قال: إني ميت، فإذا أنا مت، وحال الحول، فارصدوا قبري. فإذا حمار عند قبري، فارموه واقتلوه، وانبشوا قبري، فإني أحدثكم بكل ما هو كائن. فمات. فلما حال الحول، رأوا الحمار فقتلوه، وأرادوا نبشه، فمنعهم أولاده، وقالوا: لا نسمى بني المنبوش"2. وقد عرفت تلك النار بـ "نار الحرتين"3. وذكر إنها كانت ببلاد عبس، فإذا كان الليل تضيء نار تسطع وفي النار دخان مرتفع. وربما بدر منها عنق فأحرق من مر بها. فحضر خالد بن سنان النبي، فدفنها، فكانت معجزة له4. ويظهر أن حرة، كانت في تلك المنطقة، ثم خمدت فنسب الناس خمودها إلى "خالد بن سنان".

وللجاهليين استعمالات أخرى للنار، فكانوا إذا خافوا شر رجل، وتحول عنهم أوقدوا خلفه نارًا، ليتحول شره معه5. ويقولون:"أبعده الله وأسحقه وأوقد نارًا في أثره"، يقولون ذلك لكراهيتهم له، ويتمنون الموت له. وتعرف هذه النار بـ "نار الطرد"6. وذكر أن العرب تدعو على العدو فتقول:

1 الحيوان "4/ 481 وما بعدها"، معجم الشعراء "182"، مروج الذهب "1/ 328"، الحيوان "5/ 123"، صبح الأعشى "1/ 410".

2 محاضرات الأبرار "1/ 77"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406

3 الحيوان "4/ 476 وما بعدها".

4 صبح الأعشى "1/ 409 وما بعدها".

5 اللسان "7/ 102"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".

6 خزانة الأدب "3/ 212"، الحيوان "4/ 474"، صبح الأعشى "1/ 409".

ص: 274

أبعد الله داره وأوقد نارًا أثره1.

ولا بد أن يكون للنار الموقدة على المزدلفة صلة ما بعقائد الجاهليين القديمة في النار. وينسب الإخباريون هذه النار إلى "قصي بن كلاب"، يقولون إنه أوقدها على المزدلفة حتى يراها من دفع من عرفة في أيام الحج. وقد بقي الناس يوقدونها إلى الإسلام2.

ومن نيران العرب، نار الغدر، وتوقد بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين، جبلي مكة: أبي قبيس وقعيقعان، أو أبو قبيس والأحمر. فإذا استعرت، صاح موقدها: هذه غدرة فلان، ليحذره الناس، وليعلموا أن فلانا قد غدر بجاره3.

وأما "نار السلامة"، فهي التي توقد للقادم من سفر سالما غانما، وقد عرفت لذلك بـ نار المسافر" أيضًا4. و"نار السليم"، هي النار التي توقد للملدوغ وللمجروح ولمن ضرب بالسياط ولم عضه الكلب الكلب، ويقولون إنها إنما توقد لكي لا يناموا، فيشتد بهم الأمر ويؤدي إلى الهلالك5.

وأما "نار الحرب"، فهي النار التي كانوا إذا أرادوا حربًا، وتوقعوا جيشًا عظيمًا، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلا على جبلهم نارًا، ليبلغ الخبر أصحابهم. وإذا جدوا في جمع عشائرهم إليهم أوقدوا نارين6.

ونار الصيد، هي نار توقد للظباء وللحيوانات الأخرى، فتغشاها إذا نظرت إليها7.

1 قال الشاعر:

وجمة أقوام حملت، ولم آكن

كموقد نار أثرهم للتندم

اللسان "5/ 243"، "نور".

2 صبح الأعشى "1/ 409"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب "462" الكامل، لابن الأثير "2/ 17"، نزهة الجليس "2/ 406".

3 بلوغ الأرب "2/ 162"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406".

4 الحيوان "4/ 473"، نزهة الجليس "2/ 406.

5 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 410".

6 الحيوان "4/ 474 وما بعدها"، "5/ 133"، صبح الأعشى "1/ 409"، نزهة الجليس "2/ 406".

7 صبح الأعشى "1/ 410"، نزهة الجليس "2/ 406".

ص: 275

ونار الأسد، وهي نار توقد إذا خافوا الأسد، لينفر عنهم، فإن من شأنه النفار عن النار، يقال إنه إذا رأى النار حدث له فكر يصده عن قصده، ويشغله عن السابلة. ويقولون إن الضفدع إذا رأى النار تحير وترك النقيق1.

ونار الفداء، وكان الملوك منهم، إذا أسروا نساء قبيلة، خرجت إليهم السادة منهم للفداء أو الاستيهاب، فيكرهون أن يعرضوا النساء نهارا فيفتضحن أو في الظلمة فيخفى قدر ما يحسونه لأنفسهم من الصفي، فيوقدون النار لعرضهن2.

ونار القرى، هي من أعظم مفاخر العرب، وهي النار التي ترفع للسفر، ولمن يلتمس القرى، فكلما كان موضعها أرفع كان أفخر. وهي نار مذكورة على الحقيقة لا على المثل3. وعرفت عندهم بـ "نار الضيافة" وبـ "نار الأضياف" أيضًا. وقد ذكر أهل الأخبار إنهم ربما يوقدونها بـ "المندلى"، ليهتدي إليها العميان. فالمندلى خشب ذو رائحة طيبة، تفوح منه إذا أحرق، فتشم من مسافة بعيدة4. وذكر إنهم كانوا يوقدونها في ليالي الشتاء، خاصة لحاجة الناس إلى القرى في ذلك الوقت. وكلما كانت النار مرتفعة ضخمة، كانت أفخر لصاحبها. وقد أشير إليها في الشعر5.

ويطلق العرب على كل نار تراها العين لا حقيقة لها عند التماسها، نار الحباحب، ونار أبي الحباحب. وقد ذكر "الجاحظ" أنه لم يسمع في أبي حباحب شيئًا6. ولهم قصص عن شخص زعموا أنه كان يعرف بـ "أبي حباحب"، وان رجلا في سالف الدهر بخيلا لا توقد له نار بليل، مخافة أن يقتبس منها نار، أو يراها الضيفان فيفدون إليه، فإن أوقدها ثم أبصرها مستضئ أطفأها، فضربت العرب به المثل في البخل، فقالت: "أخلف من نار أبي حاجب". وذكر

1 صبح الأعشى "1/ 410"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، خزانة الأدب "3/ 212"، "نزهة الجليس "2/ 406".

2 صبح الأعشى "1/ 410"، بلوغ الأرب "1/ 161 وما بعدها"، خزانة الأدب "3/ 212"، نزهة الجليس "2/ 406".

3 الحيوان "5/ 134"، خزانة الأدب "3/ 212"، نزهة الجليس "2/ 406".

4 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".

5 بلوغ الأرب "2/ 161"، صبح الأعشى "1/ 410".

6 الحيوان "4/ 486 وما بعدها"، المخصص "11/ 28"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها".

ص: 276

أن "أبا الحباحب" رجل كان لا ينتفع بماله لبخله فنسبوا إليه كل نار لا ينتفع بها1.

ومن النيران الأخرى: نار البرق، ونار البراعة، ونار الخلعاء والهراب، ونار الوسم، وهي النار يسم بها الرجل منهم أبله. فيقال له: ما سمة إبلك؟ فيقول كذا2.

وقد ذكر علماء اللغة ان العرب استعملوا النار في معنيين: معنى حقيقي، ومعنى مجازي. وقصدوا بالنيران الحقيقة، النيران التي كان يوقدها العرب حقًّا، وحصروها في أربعة عشر نارًا أو أكثر من ذلك، أو أقل3. وقصدوا بالنيران المجازية، استعمال الكلمة في معان مجازية، مثل قولهم نار الحب ونار المعدة، ونار الحمى، ونار الشوق4.

1 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها".

2 الحيوان "4/ 486 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 410"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".

3 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، خزانة الادب، للبغدادي "3/ 212"، "بولاق"، نهاية الأرب "1/109 وما بعدها"، الحيوان "5/ 107 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406".

4 نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".

ص: 277

‌الصابئة:

ونجد في القرآن الكريم إشارة إلى الصابئين، وقد ذكروا بعد اليهود والنصارى في موضع من سورة البقرة1، وذكروا وسطا بين اليهود والنصارى في موضع من سورة المائدة وفي سورة الحج2. ويظهر أن معارف أهل الأخبار عنهم نزرة، فليس لديهم شيء مهم مفيد يفيدنا عن عقائد أولئك الصابئة وآرائهم.

وقد ربط أهل الأخبار بين هؤلاء الصابئة المذكورين في القرآن وبين صابئة حران وصابئة العراق، وجعلوها طائفتين في الأصل: طائفة هم صابئة حنفاء

1 البقرة، الآية 62.

2 المائدة، الآية 69، الحج، الآية 17، تفسير الطبري "2/ 144"، "دار المعارف"، مجمع البيان، الطبرسي "1/ 278"، الملل والنحل، للشهرستاني "2/ 98"، نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، للدمشقي "1/ 44""بطرسبورغ"، ابن خلدون "2/ 32""دار الكتاب اللبناني 1959م"، المسعودي، مروج "2/ 247"، الفهرست "332"، رسوم دار الخلافة "5".

ص: 277

وهم في نظرهم أصحاب إبراهيم ممن كان بحران وممن كان على دعوته، وصابئة مشركون وهم من فسدوا من الصابئة فأشركوا واعتقدوا بالكواكب1.

ولكن الذي يفهم من القرآن الكريم أن الصابئة جماعة كانت على دين خاص، وإنها طائفة مثل اليهود والنصارى، أي أن الكلمة مصطلح ولها مدلول معين مفهوم. فما ذهب إليه المفسرون من هذا الترعيف للصابئة ومن هذا التقسيم، إنما تكون عندهم في الإسلام، بعد وقوفهم على أحوال الصابئة واتصالهم بهم.

ويفهم من المواضع التي ورد فيها ذكرهم في القرآن الكريم، ومن ورود اسمهم مع اليهود والنصارى فيه، إنهم كانوا يعبدون إلها، ويتوجهون في دينهم إليه2.

ولا استبعد أن يكون من بين سكان مكة أناس كانوا من الصابئة، جاءوا إليها تجارا من العراق، أو جاء بهم الحظ إليها، حيث أوقعهم في سوق النخاسة، فاشتراهم تجار مكة وجاءوا بهم إلى مدينتهم، وعرفوا منهم أنهم صابئة.

ونحن إذا ما تتبعنا ما ورد عن لفظة صبأ وصابئ في الموارد الإسلامية نرى أن هذه الموارد تفسر ما ورد عن لفظة صبأ وصابئ في الموارد الإسلامية نرى أن هذه الموارد تفسير لفظة صبأ بمعنى خرج من شيء إلى شيء، وخرج من دين إلى دين غيره. وتذكر أن قريشًا كانت تسمي النبي صابئا، والصحابة الصباة3. أي الخارجين على دين قومهم. وهي تستعمل لفظة الصابئة في كثير من الأحوال في معنى حنفاء، كالذي نراه في ربطهم إبراهيم بهاتين الديانتين، وعدهم قدماء الصابئة في جملة الحنفاء، فإن هذا يدل على أن المراد من الصابئة بين العرب عند ظهور الإسلام هم المنشقون الخارجون على ديانة قومهم، أي على عبادة الأوثان والمنادين بالتوحيد. وأما ما نراه من إطلاق الصابئة على الصابئة المعروفين في الإسلام، فإنما حدث في الإسلام.

واطلاق قريش لفظة الصابئ والصباة على المسلمين بدلا من تسميتهم بمسلمين قضية مهمة جدا، يجب الاهتمام بها، وفي الأخبار أمثلة كثيرة على ذلك. فقد

1 التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون "1/ 887"، بلوغ الأرب "2/ 223 وما بعدها".

2 Dicttonary of IsIam

3 النهاية "2/ 369"، اللسان "1/ 102"، "وكانت العرب تسمي النبي صلى الله عليه وسلم الصابئ، لأنه خرج من دين قريش إلى الإسلام، ويسمون من يدخل في دين الإسلام مصبوا.. ويسمون المسلمين الصباة"، تاج العروس "1/ 306"، "طبعة الكويت"، القاموس المحيط "1/ 20".

ص: 278

ذكرت كتب الحديث والسير واللغة أن قريشًا دعت النبي صابئا، وفي جملة من دعاه بذلك عمر قبل إسلامه، ثم رمي عمر بها بعد إسلامه أيضًا. ولما أسلم أبو ذر الغفاري، انهال عليه أهل مكة بالضرب، لأنه صبأ وفتن وخرج عن دينهم. ولما أرادت زوج مطعم بن عدي خطبة ابنة أبي بكر إلى ابنها، ذكرت له أنها تخشى أن يؤثر على ولدها، فيكون من الصباة. وقد كانت لفظة الصباة والصباء بمعنى مسلمين عند المشركين، ففي معركة حنين نجد "دريد بن الصمة" يخاطب أحد رءوس القوم ويقول له في جملة ما قاله:"ثم ألق الصباء على متون الخيل"1. ولما أرسل بنو عامر لبيدا إلى النبي ليرى خبره وعلمه، أسلم، وأصابه وجع شديد من حمى، فرجع إلى قومه بسبب تلك الحمى، وجاءهم بذكر البعث والجنة والنار، فقال صرافة بن عوف بن الأحوص:

لعمر لبيد إنه لابن أمه

ولكن أبوه مسه قدم العهد

دفعناك في أرض الحجاز كأنما

دفعناك فحلا فوقه قرع اللبد

فعالجت حماه وداء ضلوعه

وترنيق عيش مسه طرف الجهد

وجئت بدين الصابئين تشوبه

بألواح نجد بعد عهدك من عهد

وإن لنا دارا زعمت ومرجعا

وثم إياب القارضين وذي البرد

فكان عمر يقول: "وايم الله إياب القارضين وذي البرد2". فقصد الشاعر بجملة "دين الصابئين" الإسلام، فالصابئون في نظر المشركين هم المسلمين.

ولما ذهب سعد بن معاذ إلى معركة، أنبه أبو جهل على قدومه إليها بعد أن دخل في دين الصابئين. ولما قدم خالد بن الوليد على بني جذيمة، نادوه بأنهم صبئوا، أي دخلوا في الإسلام3. ويلاحظ أن الوثنيين أطلقوا هذه التسمية على كل من أسلم، وعلى كل من شكوا فيه ورأوا أنه ميال إليهم، فكانوا يرمونه بهذه التهمة. أما المسلمون، فلم يرتاحوا إليها. والظاهر إنها كانت سبة بالنسبة إليهم في ذلك العهد، بدليل إنهم كانوا يكذبون من كان يطلقها من المشركين عليهم ويرد عليهم ردا شديدا، فلما نادى جميل بن معمر الجمحي في قريش:

1 الطبري "1/ 126"، "معركة حنين".

2 الأغاني "15/ 131 وما بعدها""خبر لبيد في مرثية أخيه".

3 لقد جمع "ولهوزن" أكثر المواضع التي أطلق الوثنيون فيها هذه اللفظة على المسلمين، راجع كتابة: Reste S 236

ص: 279

ألا، إن ابن الخطاب قد صبأ، وذلك حين دخل في الإسلام، وشهد بذلك أمام النبي، نادى عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت، وقالت قريش: صبأ عمر1. ولا بد أن يكون لتكذيب عمر وغيره الوثنيين لتسميتهم المسلمين بهذه التسمية من سبب. وهو سبب يشعر أن أهل مكة إنما أطلقوها عليهم إهانة لهم وازدراء لشأنهم وعلى سبيل السبة، لأنها كانت سبة عندهم وذلك قبل الإسلام. وإلا لما انزعج المسلمون منها، وردوا على قريش بسببها ردا قبيحا. وقد رأيت أن المسلمين كانوا يفتخرون باطلاق الحنيفية عليهم، وإنهم كانوا يرون أن الحنفاء هم سلف المسلمين، وأن إبراهيم كان حنيفا وكان أول المسلمين.

فالصابئون إذن هم أولئك الخارجون على عبادة قومهم المخالفون لهم في ديانتهم شأنهم في ذلك في نظر قريش شأن من يسميهم المسلمون في أيامنا بالملحدين أو الهدامين، أو أي مصطلح آخر يراد به الرمي بالخروج على مثل المجتمع القائم وتقاليده، وذلك ازدراء بهم، وتنفيرا للناس عنهم.

1 ابن الأثير "2/ 34 وما بعدها""ذكر إسلام عمر بن الخطاب".

ص: 280

‌الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح

‌مدخل

الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح

للعالم الخفي، وأقصد به عالم الأرواح وكل ما لا تراه العين ويدركه الحس من قوى طيبة أو خبيثة، أثر خطير في عقائد أهل الجاهلية، وفي عقائد الشعوب القديمة، وفي أنفس كثير من الناس حتى اليوم، إذ يشغل ذكل العالم في الواقع جزءًا خطيرًا من الدين ومن حياة الناس عامة. فهناك صلوات وشعائر وأدعية مكتوبة وغير مكتوبة تنلى وتقال وتقرأ للسيطرة على ذلك العالم، وللانتفاع منه، ولتسخيره في سبيل خير الإنسان ومصلحته، ولتجنب أذى النوع الخبيث منه. وإذا تتبعنا هذه الاعتقادات عند الجاهليين، وجدنا إنها قد كونت الجزء الأكبر من عقيدتهم وديانتهم، وإنها والذبائح من الأصول التي ارتكزت عليها ديانات العرب قبل الإسلام.

والواقع أن الاعتقاد بالأرواح يشغل حيزًا كبيرًا من فناء الدين عند الجاهليين، وإن بدا لنا إنه شيء لا علاقة له بالدين. فنحن حين البحث في موضوع العقيدة والدين عند أهل الجاهلية، لا نتحدث بالطبع عن العقيدة والدين بالنسبة إلى معتقداتنا وبالنسبة إلى تفكير الإنسان في القرن العشرين، وإنما نتحدث عن رأي أناس عاشوا قبل الإسلام، وعن جماعة أدركت العشرين، وإنما نتحدث عن رأي أناش عاشوا قبل الإسلام، وعن جماعة أدركت الإسلام، كانت الأرواح في نظرها أكثر أثرًا في حياة الفرد من أثر الآلهة فيه. فتقرب وتوسل إليها أكثر من تقربه وتوسله إلى آلهته التي كان يرى أن بيدها مفتاح سعادته وشقائه. وآية ذلك كثرة الكلمات والمصطلحات الجاهلية المتعلقة بها، وما ورد في القرآن الكريم وفي

ص: 281

الحديث النبوي والأخبار من أثر الجن في نفوس القوم، حتى تصوروهم آلهة وشركاء للأرباب في إدارة دفة هذا الكون.

هذا، ونحن إن ذكرنا الأرواح، فإننا لا نقصد المعنى المفهوم منها في رأينا، بل نقصد هذا المعنى وشيئًا آخر أعم وأوسع منه، معنى يشمل أيضًا بعض الأحجار والأشجار والآبار والكهوف وأمثال ذلك من أشياء تصور أهل الجاهلية إ، ما تكمن فيها قوة خارقة تستطيع التأثير في حياة الناس، فتقربوا إليها بالزيارات والقرابين وبالتضرع والتوسل والأدعية لقدسيتها ولتلك القدرة العجيبة التي فيها، فهي من حيث النفع أو الضرر كالأرواح: لوجود قوى خارقة غير منظورة فيها، هي من الأرواح، فتقرب إليها الإنسان لذلك، لغرض الاستفادة منها أو دفع أذاها.

وطبيعة الأرواح، طبيعة غير مرئية ولا منظورة، هي لطيفة خفية مستورة. إنما يجوز لبعضها الظهور في سورة أشباح، والتجسم على هيأة الأجساد. ثم إنها على طبيعتين: شريرة وخيرة، خبيثة وصالحة. من الطبيعة الأولى الشياطين وبعض أنواع الجن، ومن الطبيعة الثانية الملائكة والشطر الثاني من الجن. وأثر الخبيث من الأرواح أوضح وأكثر في عقلية أهل الجاهلية من أثر الفريق الصالح. وهو شيء منطقي مفهوم، فالإنسان إلى الشر أقرب منه إلى الخير، ذلك أن من طبع الخير عدم إلحاق الأذى بالغير، فلا يخشى منه. أما الشرير، ففي طبعه إلحاق الضرر والأذى بكل واحد، وفي كل لحظة يراها، لذلك التفتت إليه الأنظار حذار منه، وخشية من مكره، وتقربت وتوددت إليه، لا حبا له، ولا تقربا إليه لا، جدير به، بل إنما تملقا وتزلفا لإبعاد شره، وأمن جانبه على نمط ما يفعله الناس تجاه الأقوياء من الأشرار حيث يتقربون إليهم أو يبتعدون عنهم طمعا ورهبة، تمشية لأمور معاشهم، لا حبا لهم وإخلاصا لاستحقاقهم ذلك الحب والاخلاص.

وقد ذكر "الجاحظ" أن الأعراب تجعل الخوافي والمستجنات جنسين. يقولون جن وحن1. وقصد بـ "الخوافي" الأرواح، لأنها لا ترى. وذكر غيره أن "الحن"، حي من الجن، كانوا قبل آدم، يقال منهم الكلاب السود البهم، يقال كلب حتي، أو سفله الجن وضعفاؤهم أو كلابهم، "ومنه حديث

1 الحيوان "6/ 193".

ص: 282

ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، الكلاب من الحن، وهي ضعفة الجن، فإن كان عندكم طعام فألقوا لهن، فإن لهن أنفسا، أي تصيب بأعينها"1. وذكر أن "الحن" خلق بين الجن والإنس2.

وذكر "الجاحظ" أيضًا أن بعض الناس يقسم الجن على قسمين، فيقول: هم جن و"حن" ويجعل "الجن" أضعفها3. وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن "الحن"، هم كلاب الجن وسفلتهم، وشر أنواع الجن4. ويجعلون الجن فوق الجن5.

ويقال للجن الجان، و"الجِنة" كذلك. و"الجان" اسم جمع للجن على رأي بعض علماء اللغة6. وقد ورد في مقابل "الإنس" في القرآن الكريم، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} 7. وصيره اسم أبي الجن بعض العلماء، أي في مقابل آدم أبي البشر8. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن كلمة "الجن" من الكلمات المعربة، وذهب بعض آخر إلى إنها عربية9. وأرى إنها من الكلمات السامية القديمة، لأن الإيمان بالجن من العقائد القديمة المعروفة عند قدماء الساميين وعند غير الساميين كذلك. والجن قوم مستترون، وكلمة "جنون" من هذا الأصل، ومن معاني أصل الكلمة الاستتار.

ولم يتوصل الباحثون حتى الآن إلى رأي ثابت في أصل كلمة "الجن". فمنهم من رأى اسم صنم من أصنام العرب القديمة، ومنهم من رأى أنها من أصل

1 تاج العروس "9/ 185"، "حنن".

2 المصدر نفسه.

3 الحيوان "7/ 177"، "هارون""6/ 193".

4 بلوغ الأرب "2/ 351".

5 قال الأعشى سليم:

فما أنا من جن إذا كنت خائفا

ولست من النسناس في عنصر البشر

وقال آخر:

أبيت أهوى في شياطين ترن

مختلف نجواهم حن وجن

الحيوان "6/ 193".

6 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، روح المعاني "14/ 34 وما بعدها".

7 الرحمن، الآية 74.

8 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، "والجان: أبو الجن.. كما أن آدم أبو البشر"، اللسان "13/ 95 وما بعدها"، "جنن" Reste S 148

9 Ency.، I، P. 1045، Smith، P. 121، Lane، Laxicon، P. 492

ص: 283

أعجمي، ومنهم من وجد لها صلة بالحبشية1. أما علماء العربية، فرأوا أن معنى الكلمة الأصلي هو الاستتار، وأنها من الاجتنان، ولعدم إمكان رؤية ذلك العالم أطلقت عليه كلمة "الجن"2. وتقابل لفظة "الجن" و"جن" لفظة "Demonw" في الإنكليزية.

ويرى "نولدكه" أن فكرة "الجن" فكرة استوردها العرب من الخارج، بدليل قولهم أن الجنة من عمل الجن، ومن تلبس الجن بالإنسان. وهي في نظره عقيدة قديمة دخلت العرب من جيرانهم الشماليين، فقد كان الإيرانيون يطلقون على المجنون لفظة "ديوانه""Devana"، أي جان. ومن هذه الفكرة دخلت العهد الجديد من الكتاب المقدس. ويأتي "نولدكه" بدليل آخر على إثبات نظريته في أن فكرة الجن فكرة مستوردة من الخارج شيوع قصص بناء جن سليمان مدينة "تدمر" بين الجاهليين، وهو قصص ورد من قصة بناء "سليمان" لـ "تامار" في العهد القديم، وتفسير "تامار" بتدمر عند المفسرين العبرانيين3.

ورأى "روبرتسن سمث" وجوه شبه كبير بين فكرة العرب عن الجن وبين فكرة بعض القبائل البدائية عن الحيوانات. إن رأي الجاهليين في الجن في رأيه يشبه رأي المتوحشين الطوطميين في الحيوانات الوحشية. وفي القصص الذي يرويه البدائيون عن الحيوانات الوحشية وعن أرواحها وإمكان إحداثها الأمراض والأذى بالإنسان شبه بهذا القصص المروي عن الحيوانات الوحشية، مما جعله يتصور أن فكرة الجن عند الجاهليين هي تطور لهذه النظرية القديمة التي تكون عند الطوطميين. انتقلت إليهم من عقيدة سابقة تطورت من عهد عبادة الطوطم. وأن الجن "طوطمية" دون أن يكون لها قوم يشعرون بوجود صلة نسب وقربى بها4.

ولكن من الصعب تصور ظهور فكرة الجن عند عرب الجاهلية برمتها من

1 Ency. Religi، I، p. 669، Noldeke، Moallakat، I، 69، 78، Shorter Ency، p. 91. Ency، I، p. 1045.

2 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، اللسان "13/ 95 وما بعدها"، "جنن".

3 Ency. Religi، I، p. 670.

4 Robertson Smith، Marriage، p. 128.

ص: 284

الطوطمية، لأن هناك أمورا عديدة لا يمكن تفسيرها على وفق هذه النظرية. ولكننا نستطيع أن نقول إنها نوع من أنواع1 الـ"Animism". وقد وجدت عند العبرانيين في عهودهم القديمة، كما كانت عند البابليين وغيرهم.

وإذا سكن الجني مع الناس، قالوا: عامر، والجمع عمار، وإن كان ممن يعرض للصبيان، فهم أرواح، فإن خبث أحدهم وتعرم، فهو شيطان. فإن زاد على ذلك، فهو مارد. فإن زاد على ذلك في القوة، فهو عفريت. فإن طهر الجني ونظف ونقي وصار خيرًا كله فهو ملك. وهم في الجملة جن وخوافي2.

لقد لعب الإيمان بالجن عند بعض الجاهليين دورا فاق الدور الذي لعبته الآلهة في مخيلتهم، فنسبوا إليها أعمالا لم ينسبوها إلى الأرباب، وتقربوا إليها لاسترضائها أكثر من تقربهم إلى الآلهة. إنها عناصر مخيفة راعبة. تؤذي من يؤذيها ويلحق به الأذى والأمراض، ولذلك كان استرضاؤها لازما لأمن تلك الآفات. وهذه العقيدة جعلت الجن في الواقع آلهة، بل أكثر سلطة ونفوذا منها، وصيرت عمل الآلهة سهلا يسيرا تجاه الأعمال التي يقوم بها الجن. ولا زال أثر هذه العقيدة باقيا في نفوس الناس حتى الأيام، مع تقليل أهمية عمل الجن على الإنسان في الإسلام.

وليست هذه العقيدة عقيدة أهل الجاهلية حسب، بل هي عقيدة أكثر من اعتقد بأثر الأرواح في العالم وفي عمل الإنسان، إذ صيرتها آلهة مقرها الأرض، أو آلهة من الدرجة الثانية. والغريب أننا نرى بعض الشعوب تخصص أعمال الآلهة الكبيرة بناحية معينة، وتعتبرها آلهة رئيسية كبرى، بينما تجعل عمل الجن عملا واسعا يشمل كل الأرض والإنسان، أي أن عملها أوسع جدا من عمل تلك الألهة وأهم.

وفي القرآن الكريم أن قريشًا جعلت بين الله وبين الجنة نسبا: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} 3، وإنها جعلت الجن شركاء له:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 4. أي جعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم

1 المصدر نفسه.

2 الحيوان "6/ 190 وما بعدها".

3 الصافات، الآية "158.

4 الأنعام، الآية 100.

ص: 285

اياه، وخرقوا له بنين وبنات، وتخرصوا لله كذاب، فافتعلوا له بنين وبنات جهلا وكذابا1. وورد أن الله تزوج الجن، وأن الملائكة هم بناته من هذا الزواج. "قال كبار قريش: الملائكة بنات الله. فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: بنات سراة الجن"2.

ويفهم من القرآن الكريم أيضًا أن من العرب من كان يعبد الجن: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3. وذكر "ابن الكلبي" أن "بني مليح" من خزاعة رهط طلحة الطلحات، كانوا ممن تعبد الجن من الجاهليين4. ويزعمون أن الجن تتراءى لهم5. وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 6. وذكر أن قبائل من العرب عبدت الجن، أو صنفا من الملائكة يقال لهم الجن. ويقولون هم بنات الله7، فأنزل الله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 8.

وليس لدى المفسرين أو أهل الأخبار علم واضح عن كيفية اعتقاد بعض العرب بألوهية الجن وبمصاهرتها للآلهة أو الإله. وما ورد عن ذلك في القرآن، مجمل. والظاهر أن ذاكرة الإخباريين لم تتمكن من حفظ تفاصيل هذه العقيدة والعقائد المماثلة الأخرى، ولا بد وأن تكون لها أسطورة قديمة، يظهر أنها ماتت قبل الإسلام، أو أن المسلمين تركوا روايتها لمعارضتها للإسلام ولأنها كانت في نظرهم خرافة تتعلق بأصنام، فلم يروا الاهتمام بها، وتركوها، ولولا ورود ذكرها مقتضبا في القرآن، فلربما صرنا في جهل تام بأمر تلك العبادة.

ويرى "نولدكه" أن الجاهليين لم يتعبدوا للجن، ولم يتخذوها آلهة على نحو

1 تفسير الطبري "7/ 197".

2 لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي "2/ 81 وما بعدها"، حاشية على تفسير الجلالين.

3 سبأ، الآية 41.

4 الأصنام "34"، الاشتقاق "276".

5 تفسير القرطبي "14/ 309".

6 الأعراف، الآية "193.

7 تفسير الطبري "15/ 72".

8 الإسراء، الرقم "17،الآية 57.

ص: 286

ما نفهم من معنى الآلهة، وأن "عبد الجن"، وإن دل على التعبد للجن، إلا أن هذه التسمية لا تدل حتما على عبادة للجن1.

وتتألف الجن من عشائر وقبائل، تربط بينها رابطة القربى وصلة الرحم. وهي كعشائر وقبائل جزيرة العرب، تتقاتل فيما بينها، ويغزو بعضها بعضًا. ولها أسماء ذكر بعضًا منها أهل الأخبار، كما أن لها ملوكا وحكاما وسادات قبائل. فهي في حياتها تحيا على شكل نظام حياة الجاهليين. وإذا اعتدى معتد على جان انتقمت قبيلته كلها من المعتدي أو المعتدين. وبين قبائل الجن عصبية شديدة، كعصبية القبيلة عند الجاهليين، وهي تراعي حرمة الجوار، وتحفظ الذمم والعقود وتعقد الأحلاف. فنحن إذن أمام حياة جاهلية مستترة غير منظورة، هي حياة جن جاهليين، ومن الجن "بنو غزوان""بنو "غزوان"3.

وقد تتقاتل طوائف من الجن، فيثير قتالها عواصف الغبار، ولذلك فسر الجاهليون حدوث العواصف والزوابع بفعل الجن. ونجد هذه الفكرة فكرة إحداث الجن للرياح والعواصف في المزامير من أسفار التوراة4.

وهم مثل البشر، فيهم الحضر، أهل القرار، وفيهم المتنقلة وهم أعراب الجن، وفيهم من يسير بالنهار، وفيهم من يسير بالليل، وهم "سراة الجن"، و"السراة". قال الشاعر:

أتوا ناري فقلت منون قالوا

سراة الجن، قلت: عموا ظلاما5

وللجن كما للإنس ورؤساء وعظماء، نذكر منهم: الشنقناق والشيصبان. وقد ذكر الأول في شعر "بشار بن برد" وفي شعر لأبي النجم، وفي شعر حسن بن ثابت6. و"دحرش" أبو قبيلة من الجن7.

وعقد الجاهليون أحلافا مع الجن على التعاون والتعاضد، فقد ذكر أن قوما

1 Ency. ReIigI I، p. 670

2 اللسان "5/ 89"، "وبنو غزوان، حي من الجن"، "قرر".

3 تاج العروس "10/ 241"،"عزا".

4 المزمور104، الآية الرابعة Reste،S.151

5 تاج العروس "10/ 174"، "سرى".

6 الحيوان "1/ 308"، "6/ 228، 231"، ثمار القلوب "55".

7 تاج العروس "4/ 310"، "دحرش".

ص: 287

من العرب، كانوا قد تحالفوا مع قوم من الجن من "بني مالك بن أقيش"1.

ويذكر الرواة قصصًا عن الجن مع الإنسان. يذكرون أن "تأبط شرا" رفع كبشا تحت إبطه، وأخذه معه إلى الحي، فصار يبول عليه في الطريق، حتى إذا قرب من مكانه، ثقل عليه، فرمى به، فإذا هو الغول2. ويذكرون أن ابن امرأة من الجن أراد الحج في الجاهلية، فخافت عليه أمه من سفهاء قريش، ولكنه ألح عليها بأن تسمح له بالذهاب. فلما أكمل الطواف، وصار ببعض دور بني سهم، عرض له شاب منهم فقتله، فثارت غيرة شديدة بمكة، ومات من بني سهم خلق كثير قتلهم الجن انتقاما منهم لمقتل الجان، فنهضت بنو سهم وحلفاؤها ومواليها وعبيدها، فركبوا الجبال والشعاب بالثنية، فما تركوا حية ولا عقربا ولا عظاية ولا خنساء ولا شيئًا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه، حتى ضجع الجن، فصاح صائحهم من على أبي قبيس يطلب وساطة قريش بينهم وبين بني سهم الذين قتلوا منهم أضاف ما قتله الجن من بني سهم، قتوسطت قريش، وأنهي النزاع، وتغلب بنو سهم على الجن3.

والجن مثل البشر، يعتدون كذلك، ولا يردعهم من اعتدائهم إلا بالقوة. هذا رجل من "بني سهم" يقص علينا في الإسلام إنه كان بـ "تبالة" يراجع نخلا له، وبين يديه جارية له، فصرعت، فأدرك أن الجن هم الذين صرعوها، فوقف عليها قائلا: يا معشر الجن! أنا رجل من بني سهم، وقد علمتم ما كان بيننا وبينكم في الجاهلية من الحرب وما صرنا إليه من الصلح والعهد والميثاق أن لا يغدر بعضنا ببعض، ولا يعود إلى مكروه صاحبه، فإن وفيتم وفينا، وإن غدرتم عدنا إلى ما تعرفون. فخافت الجن من هذا التهديد، وأفاقت الجارية، ولم يصبها بعد ذلك مكروه4.

وذهب الجاهليون إلى جواز قتل الجن للإنسان. وقد بقي هذا الاعتقاد

1 الطبري "2/ 349"،"دار المعارف".

2 الأغاني "18/ 210 وما بعدها".

3 الأزرقي "2/ 11 وما بعدها"،"المطبعة الماجدية بمكة".

4 الأزرقي "2/ 12 وما بعدها".

ص: 288

في الإسلام. فلما قتل "سعد بن عبادة بن دليم"، زعم أن الجن قتلته1. ولما قتل المغني المعروف "الغريض"، وهو من الموالي، وكان نشأ خياطا ثم أخذ الغناء بمكة عن "ابن سريج"، زعم أن الجن نهته أن يغني لحنه الذي يقول فيه:

تشرب لون الرازقي بياضه

أو الزعفران خالط الملك رادعه

فلما لم ينته قتلته الجن في ذلك خنقا2.

وزعم أن الجن خنقت "حرب بن أمية"، وقالت الجن في ذلك شعرا3. وقتلت "مرداس بن أبي عامر"، أبا "عباس بن مرداس"، واستهوت "سنان بن حارثة"، ليستفحلوه، فمات فيهم. واستهووا "طالب بن أبي طالب"، فلم يعثر أهله له على أثر، واستهووا "عمرو بن عدي" اللخمي الملك، ثم ردوه على خاله "جذيمة بن الأبرش"، بعد سنين وسنين. واستهووا "عمار بن الوليد بن المغيرة"، ونفخوا في أحليه؛ فصار مع الوحش4.

ويروي أهل الأخبار أن الجن تتصادق مع الإنسان وتتباغض معه، وقد تقتله، ورووا في ذلك قصصًا، وذكروا أنها قد تتألم لوفاة رجل طيب أو شهير محبوب. وقد تعطف على المحتاجين والمعوزين. وفي جملة ما قالوه عن الجن أن "أبا هالة" كان قد خرج في الجاهلية في عير لقريش يريد الشام، فنزل واديا يقال له:"عز"، وانتبه آخر الليل فإذا شيخ قائم على صخرة، وهو ينشد شعرا في رثاء عبد الله بن جدعان، وكان ذلك الشيخ جان من الجن. وقد ذكر أهل الأخبار محاورة من الشعر قالوا إنها جرت بين "أبي هالة"، وبين ذلك الشيخ

1 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 373"، المعارف 112، الحيوان "6/ 209"، الاشتقاق"456". وسمعوا الهاتف يقول:

قد قتلنا سيد الخزر

ج سعد بن عبادة

ورميناه بسهمين

فلم نخط فؤاده

الحيوان "6/ 209"، "هارون"، "1/ 308".

2 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 373"، الأغاني "2/ 136، 143"، الحيوان "6/ 208""، "هارون" الحيوان "1/ 307".

3 الحيوان "1/ 302"، "هارون". وقالت الجن:

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

الحيوان "6/ 207"، "هارون".

4 الحيوان "6/ 209 وما بعدها"، "هارون"

ص: 289

الجني الذي عين وقت وفاة "عبد الله بن جدعان"، وثبته بالضبط، فكان كما قال1.

وقد يقع الحب بين الجن والإنس. فقد ذكر أن الجنية قد تتبع الرجل تحبه، ويقال لها: تابعة. ومن ذلك قولهم: معه تابعة، أي من الجنن والتابعة جنية تتبع الإنسان. كما يكون للمرأة تابع من الجن، يتبع المرأة يحبها2. وقد يعشق الجني امرأة ويتصادق معها. هذا "منظور" الجني، عشق امرأة اسمها "حبة"، وتصادق معها، فكانت "حبة" تتطبب بما يعلمها منظور3.

وقد يسرق الجن الأطفال والرجال والنساء، وللأخباريين قصص يروونه في ذلك. وينسب فقدان الأشخاص في البوادي إلى الجن في الغالب. غير إنها قد تنفع الناس أيضًا، لأن من الجن من هو طيب النفس، مفيد نافع، ولا سيما إذا ما تقرب إليها الإنسان وأحسن إليها. رأى الشاعر عبيد بن الأبرص حية، فسقاها. فلما ضل جمل له وتاه، نادى هاتف بصوت مسموع سمعه عبيد بن الأبرص مشيرا إلى الموضع الذي ذهب الجمل إليه. فذهب عبيد إلى المكان، وجاء بمجملة4. وكان هذا لهاتف هو صوت الحية التي هي جان من الجن.

وقد يتصاهر الإنسان مع الجن، فقد كان لعمرو بن يربوع بن حنظلة التميمي زوج من الجن: ولكنها لم تبق معه، بل اختفت بعد ذلك عند ظهور البرق5. ونسبت بعض الأسر والقبائل مثل "بني مالك"، و"بني شيصيان"، و"بني يربوع بن حنظلة" وعرفوا ببي السعلاة إلى الجن6. ونسب بعض الإخباريين نسب بلقيس وذي القرنين إلى الجن7. وذكر أيضًا أن زوج "عمرو بن يربوع التميمي" كانت سعلاة، أقامت مع زوجها في "بني تميم": فلما رأت برقا يلمع من شق بلاد السعالي، حنت وطارت إليهم، فقال شاعرهم:

1 الاشتقاق "ص88 وما بعدها".

2 اللسان "8/ 29"، تبع".

3 تاج العروس "1/ 198"، "حب".

4 الأساطير العربية "79"، Reste، 154 ff.

5 الحماسة "1/ 561"، "طبعة فرايتاغ"، بلوغ الأرب "2/ 340"، الحيوان "1/ 185 وما بعدها، 188"، "هارون". Reste، S 154.

6 الأساطير العربية "75".

7 بلوغ الأرب "2/ 349"، الحيوان "1/ 180 وما بعدها".

ص: 290

رأى برقا فأوضع فوق بكر

فلا بك ما أسأل وما أغاما1

وفي ذلك قال "علباء بن أرقم":

يا قاتل الله بني السعلاة

عمرو بن يربوع شرار النات2

وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع زواج الإنس بالجن وبالعكس، أي زواج الجن بالإنس. وتعرض لقول من قال إن "بلقيس" كانت من امرأة جنية. وذكر آراء الناس في هذا الزواج المختلط، الذي شك في إمكان انجاب نسل منه. وقال:"وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية والقحطانية، ونقرؤه في كتب السيرة، قص به القصاص، وسمروا به عند الملوك"3. وقد كان لأهل اليمن قصص وأساطير، بدليل ما نلاحظه من أن معظم رواة القصص القديم كانوا من أهل اليمن في صدر الإسلام. ويظهر أنهم حذقوا به وتفوقوا به على بقية العرب الذين نسميهم العدنانيين بسبب دخول كثير منهم في اليهودية وفي النصرانية وشرائهم الكتب، وفيها قصص من قصص أهل الكتاب والأساطير القديمة، فمزوجوه مع ما كان لهم من قصص وثني قديم.

وقد أطلق "الجاحظ" على قول الناس بزواج الإنس بالجن وبالعكس "الزواج المركب"، وأشار إلى قول الشاعر علباء بن أرقم:

يا قاتل الله بني السعلاة

عمرا وقابوسا شرار النات

إنه الدليل على أن السعلاة تلد الناس. هذا سوى ما قالوا في الشق وواق واق ودوال باي وفي الناس والنسناس4.

وذكر أيضًا أن أعراب بني مرة تزعم أن الجن استهوت سنانا بي أبي حارثة المري، وهو والد هرم بن سنان، لتستفحله إذ كان منجبًا، وكان سنان قد

1 الحيوان "1/ 186"، "هارون"، "6/ 197".

2 الحيوان "6/ 161"، اللسان "2/ 407"، نوادر أبي زيد "104، 147"، المخصص "3/ 26""13/ 283"، الأمالي، للقالي "2/ 68"، محاضرات الراغب "2/ 281"، الخصائص "451"، الفصول والغايات "210".

3 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 371".

4 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 374"، الحيوان "1/ 189". "هارون".

ص: 291

هام على وجهه1.

وقد وجه الإنسان جميع مواهبه منذ أقدم أيامه لتسخير عالم الأرواح، وجعله في خدمته وتحت تصرفه، أو لتحويله بحسب رغباته، وتجنب ضرره وأذاه. قام بذلك رجال الدين خاصة، ورجال الدين بحكم اتصالهم بالآلهة وبالعالم غير المنظور، هم خلفاء الآلهة على وجه الأرض، وألسنة الأرواح الناطقة بين الناس. فكانوا حكاما ورجال دين وسحرة وأطباء وعلماء، كما قام بذلك المنجمون والسحرة والكهان وغيرهم ممن تكهن وتحدث عن الغيب، وأظهر أن في قدرته التأثير على حياة الإنسان ونفعه وضره بالاستعانة بعالم الأرواح وبما عنده من قدرات خارقة في إمكانها اختراق حجب الأسرار والتحكم في العالم الخفي لتحويله إلى صالح إنسان إلى إلى الاضرار به.

وليس الجاهليون بدعا في هذه الأمور، بل كان غيرهم من الشعوب كالعبرانيين والبابليين والأغريق والرومان والمصريين والهنود وكل الشعوب الأخرى تعتقد بذلك. ولها رجال ادعوا العلم.

وقد كان الجاهليون يعلقون الحلي والجلاجل على "اللديغ"، يفعلون ذلك لاعتقادهم إنه يفيق بذلك، فلا تنام، ولو نام، سرى السم في جسمه، فمات. وذهب بعضهم إلى أن تعليق الحلي على اللديغ يبرئه من أمله. أما إذا علق الرصاص عليه، أو حلي به، فإنه يموت2.

وتقوم الجن بأعمالها بشكل غير منظور في الغالب، لأنها أرواح. وهي قد تحذر الإنسان أو ترشده إلى شيء يريده بصوت جمهوري مسموع، يقال له: الهاتف، دون أن يرى الشخص أو الأشخاص صاحب ذلك الصوت. وهي تنبئ عن المستقبل كما تتحدث عن الماضي3. وقد ذكر "الجاحظ" أن "الأعراب وأشباه الأعراب لا يتحاشون عن الإيمان بالهاتف، بلد يتعجبون ممن رد ذلك". ثم قال: "قالو: ولنقل الجن الأخبار علم الناس بوفاة الملوك، والأمور المهمة، كما تسامعوا بموت المنصور بالبصرة وفي اليوم الذي توفي فيه بقرب مكة. وهذا الباب أيضًا كثير"4.

1 المصدر نفسه "ص375"، الحيوان "7/ 24"، الميداني "1/ 202".

2 بلوغ الأرب "2/ 304".

3 الحيوان "6/ 202".

4 الحيوان "6/ 202 وما بعدها".

ص: 292

والجن وإن كانت من الأرواح، أي أنها غير منظورة، إلا أن في استطاعتها أن تتجسم متى شاءت. فتظهر على هيئة جسم من الأجسام. إذ أن للجن قدرة على التشكل بالشكل الذي تريده، تظهر في صورة حيوان أو في صورة إنسان أو غير ذلك. ومن هنا نجد قصص مصاهرة الإنسان للجن، وظهور نسل وأسر من هذا الزواج. وفي استطاعتها أيضًا تغيير الشكل الذي ظهرت به بشكل آخر حيث تشاء1. كما ورد ذلك في قصة الشاعر "تأبط شرا" والكبش الذي حمله، بينما هو جني. ومن هنا تختلف طبيعتها عن طبيعة البشر والحيوان.

وقد تتمثل الجن في صور حيوانات مشعرة، أي ذات شعر كثيف. فالجن عند الشعوب السامية ذات شعر كثيف، لذلك قيل لها "سعريم""Sa،hirim" في العبرانية. وهي تختار الأماكن الموحشة المقفرة في الظلام، مثل رهبان الليل "ليليت" LiIith"، وتذهب مع الحيوانات التي تنفر من الإنسان مثل النعامة2.

وفي الأساطير الجاهلية أن البقر إذا أوردت "فلم ترد، ضربوا الثور ليقتحم الماء، فتقتحم البقر بعده، ويقولون إن الجن تصد البقر عن الماء، وأن الشيطان يركب قرني الثور"3. وقد ذكرت هذه الأسطورة في أشعار جاهلية، يظهر من نقدها ودراستها إنها من آثار العقائد الجاهلية في الجن. وقد اتخذت مثلا لمن ينزل عليه يركب قرني الثور، هو الذي جعلهم يتصورون أن الثور يتقدم البقر في شرب الماء، ذلك لأن الشيطان ركب قرنيه، فلا يخشى الثور إذن من الجن، والشيطان أخبث أنواع الجن وأذكاها. فتخافه الجن، وتفسخ المجال للبقر في ورود الماء. أما ضرب الثور لتوجيهه إلى الماء، فلأجل أن الشيطان ركب قرنيه، فبضربه وبتقدمه الشيطان نحو الماء فتخافه الجن وتفزع منه، وتسمح للبقر بورود الماء، ولهذا ضرب، ليستفيد بذلك غيره4.

1 Robertson Smith، Lectures on the Religion of the Semite، p. 120.

2 Robertson، p. 120، B.C. Thompson، Semitic Magic، London، 19089، p. 57.

3 قال الأعشى:

لكالثور والجني يضرب وجهه

وما ذنبه إن عافت الماء باقر

ولغيره:

إني وقتلى سليكا حين أعقله

كالثور يضرب لما عافت البقر

4 بلوغ الأرب "2/ 303 وما بعدها".

ص: 293

وأهم مواطن الجن في نظر الجاهليين، هي المواضع الموحشة، والأماكن المقفرة التي لا تطرق إلا نادرا والمحلات التي لا تلائم الصحة، والمقابر والأماكن المظلمة والمهجورة. ففي مثل هذه المواطن تنزل الجن، وتفضل الإقامة بها، وسبب ذلك، هو أن الإنسان يخشى هذه المواضع، ويحس بشيء من الخوف والوحشة من الدخول إليها، فقد يتعرض فيها إلى التهلكة، فأوحى هذا الأحساس إليه أنها "مسكونة"، وأن سكانها هم الجن. وأنهم قد يتعرضون له بسوء إن لم يعرف كيف يسلك سلوكان طيبا معها، ولذلك صار يتحاشى ولوج هذه المواضع، لا سيما في الليالي المظلمة، وإذا دخلها مضطرا، تخيل الأشباح والأرواح وهي تلعب به كيف تشاء، وتحوم حوله. ومن هنا ظهر عنده القصص المروي عن مواطن الجن.

وسكنت الجن المواضع المظلمة والفجوات العميقة فيها وباطن الأرض، ولذلك قيل لها: ساكنوا الأرض. كما سكنت المقابر1. والمقابر هي من المواضع الرئيسية المهمة المأهولة بالجن. ولذلك يخشى كثير من الناس ارتيادها ليلا. وهي لا بد أن تكون على هذه الصفة، فهي مواطن الموتى، وأرواح الموتى تطوف على القبور، والموت نفسه شيء مخيف، والجن أنفسها أرواح مخيفة، فهل يوجد موضع أنسب من هذا الوضع لسكن الجن؟

وتزعم الأعراب أن الجن سكنت "وبار". وحمتها من كل من أرادها؛ وهي بلاد من أخصب بلاد العرب، وأكثرها شجرا، وأطيبها ثمرا، وأكثرها حبا وعنبا. فإن دنا إنسان من تلك البلاد، متعمدا أو غالطا، حثوا في وجهه التراب، فإن أبى الرجوع خبلوه، وربما قتلوه. فليس في تلك البلاد إلا الجن، والإبل الحوشية2.

وقد زعم أن "يبرين" من مواطن الجن. وكانت في الأصل مواضع عاد. فلما هلكت، سكنتها قبائل الجن. وقد روى أهل الأخبار قصصًا عنها وعن اتصالها بالإنسان. وزعم بعض منهم أن "النسناس"، هم قوم من الجن3.

1 Reste S 151

2 الحيوان "6/ 215 وما بعدها".

3 تاج العروس "4/ 257"، "نس".

ص: 294

وقد ورد مثل هذه الأقوال عن مواضع أخرى كانت عامرة آهلة، ثم أقفرت، مثل الحجر موضع ديار ثمود1، مما يدل على أن من اعتقادات العرب قبل الإسلام هو أن المواضع التي تصيبها الكوارث تكون بعد هلال أصحابها مواطن للجن. ونجد مثل هذه الأساطير عند العبرانيين وعند غيرهم من الشعوب2.

وأشير في شعر "لبيد" إلى "جن البدي". قيل: "والبدي: البادية، أو موضع بعينه" وقيل واد لبني عامر3. وأشار "النابعة" إلى "جنة البقار". وذكر أن البقار واد، أو رملة، أو جبل، سكنته الجن، فنسبت إليه4. وأشير إلى "جنة عبقر" في شعر "زهير" و"لبيد" و"حاتم"5. وعبقر أرض بالبادية كثيرة الجن، وذكر بعضهم إنها باليمن6، قال لبيد:

ومن فاد من إخوانهم وبنيهم

كهول وشبان كجنة عبقر

وقال بعض العلماء: عبقر قرية الجن فيما زعموا، فكلما رأوا شيئًا فانقا غريبا مما يصعب عمله ويدق أو شيئًا عظيمًا في نفسه نسبوه إليها. ولهذا قالوا: العبقري للسيد الكامل من كل شيء، وللذكي الممتاز7.

والمواضع المذكورة هي المواضع المفضلة المختارة لسكنى الجن. غير أن مواطن الجن غير محدودة ولا معينة، إنها تسكن كل موضع ومكان، حتى بيوت الناس لا تخلو منها، بل حتى البحار والسماء لا تخلو منها كذلك، فدولتها إذن على هذا الوصف أوسع من دولة الإنسان. وعلى من سكنت الجن بيته ألا يمسها بأذى ولا يلحق بها أي سوء، وأن يقوم بترضيتها بالبخور وبما شاكل ذلك مما تحبه الجن، وإلا أساءت إليه، وجعلت بيته مؤذيا شؤما، لا يرى من يسكن فيه أي خير.

1 Reste، S. 150

2 Robertson، p. 120

3 الحيوان "6/ 189"، "هارون".

4 الحيوان "6/ 189"، اللسان "6/ 47"، "12/ 330".

5 الحيوان "6/ 189"، اللسان "6/ 209"، البلدان "6/ 113"، ثمار القلوب "188".

6 تاج العروس "3/ 379"، "عبقر"، اللسان "4/ 53

7 تاج العروس "/ 379"، "عبقر".

ص: 295

وكان الرجل في الجاهلية إذا اطرف دارا ذبح فيها ذبيحة، يتقي بها أذى الجن، لاعتقادهم أن في كل دار جنا يقيمون بها فلترضيتهم وللتقرب إليهم، يذبحون ذبيحة عرفت عندهم بـ "ذبائن الجن"1. ولا تزال عادة الناس ذبح ذبيحة عند الابتداء ببناء دار، وعند الانتقال إليها. وكانوا أيضًا يذبحون ذبيحة عند استخراجهم عينا، أو شرائهم دارا، أو بنياتهم بنيانا، مخافة أن تصيبهم الجن، فأضيفت الذبائح إليهم لذلك. وقد نهى النبي عن ذبائح الجن2.

وكان في اعتقادهم أن الأماكن المذكورة مليئة بالجن، لذلك كانوا يستجيرون برجال من الجن في أسفارهم، إذا نزلوا منازلهم، يقولون: نعوذ بأعز أهل هذا المكان، أو إني أعوذ بكبير هذا الوادي. وإلى ذلك أشير في القرآ الكريم:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 3. روي عن "حجاج بن علاط السلمي"، "إنه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخوف موحش، فقال له الركب: قم خذ لنفسك أمانا ولأصحابك، فجعل يطوف بالركب ويقول:

أعيذ نفسي وأعيذ صحبي

من كل جني بهذا النقب

حتى أأوب سالما وركبي4

فوصل وركبه سالما إلى مكة دون أن يمسه أو أن يمس من كان معه من الركب أحد بسوء5.

وروي أن الرجل منهم كان إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل عمد إلى واد ذي شجر فأناخ راحلته في قرارته وهي القاع المستديرة وعقلها وخط عليها خطا ثم قال: "أعوذ بصاحب هذا الوادي. وربما قال بعظيم هذا الوادي"6. قال أحدهم:

1 اللسان "13/ 213"، "سكن".

2 اللسان "2/ 437"، "ذبح".

3 سورة الجن، رقم 72، الآية 6، تفسير الطبري "29/ 67 وما بعدها".

4 الروض الأنف "1/ 136".

5 الروض الأنف "1/ 136"، الإصابة "1/ 312"، "1622".

6 بلوغ الأرب "2/ 325".

ص: 296

قد بت ضيفا لعظيم الوادي

المانعي من سطوة الأعادي

راحلتي في جاره وزادي

وقالوا إنهم كانوا في الجاهلية إذا نزلوا منزلا يقولون: نعوذ بأعز أهل هذا المكان. يقولون ذلك عند نزولهم واديا في الغالب إذ نجد الرواة يكررون عبارة: "كانوا إذا نزلوا الوادي، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي"، أو "بعزيز هذا الوادي"2. ويظهر أنهم تخوفوا من الوديان خاصة، لما قد يقع فيها من مهالك، فنسبوا ذلك إلى فعل الجن.

وقال آخر يستجير بجن "عالج" ويتوسل إليهم ألا يرهقوه بغوي هائج، إذ يقول:

يا جن أجزاء اللوى من عالج

عاذ بكم ساري الظلام الدالج

لا ترهقوه بغوي هائج

وقال آخر:

أعوذ من شر البلاد البيد

بسيد معظم مجيد

أصبح يأوي بلوى زرود

ذي عزة وكاهل شديد

وقد استعاذ رجل منهم ومعه ولد، فأكله الأسد فقال:

قد استعذنا بعظيم الوادي

من شر ما فيه من الأعادي

فلم يجرنا من هزبر عادي3

وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يرون أن الجن تعزف في المفاوز بالليل. والعزف والعزيف صوت الجن، وهو جرس يسمع بالمفاوز. وهو صوت يسمع بالليل كالطبل. وروي عن "ابن عباس" قوله:"كانت الجن تعزف بالليل كله بين الصفا والمروة"4. وقد اشتهر موضع "العزاف"، وقيل "ابرق

1 بلوغ الأرب "2/ 326".

2 تفسير الطبري "29/ 68 وما بعدها".

3 بلوغ الأرب "2/ 326".

4 تاج العروس "6/ 197"، "عزف".

ص: 297

العزاف" بأنه موضع يسمع به عزيف الجن1.

وقد مون القصص الإسرائيلي أهل الجاهلية بشيء مما كان ينقصهم من أساطير الجن، وتوسع وزاد هذا القصص في الإسلام، حتى تولد منه هذا الذي نجده مدونا عن أخبار الجن في المؤلفات الإسلامية.

وتخبر الجن الإنسان تقع في مواضع بعيدة، وهو لا يعلم عنها شيئًا. فلما "هبط نباش بن زرارة بن وقدان"، زوج "خدييجة بنت خويلد" قبل النبي، واديا يقال له "عز"، انتبه في آخر الليل، فإذا شيخ قائم على صخرة، وهو يقول:

ألا هلك السيال غيث بني فهر

وذو العز والباع القديم وذو الفخر

فقال له نباش:

ألا أيها الناعي أخا الجود والفخر

من المرء تنعاه لها من بني فهر

وبقيا يقولان الأبيات، حتى أخبره الشيخ بوفاة "عبد الله بن جدعان" في وقت حدده وضبطه له. فلما وصل مكة، علم بوفاته على نحو ما أخبره به ذلك الشيخ. وهو جني من الجن، ينظم الشعر، وقد رثى "ابن جدعان"2.

ونجد في شعر الشعراء الجاهليين أمثال "أمية بي أبي الصلت" و"الأعشى" إشارات إلى الجن. وهم من أهل الجاهلية الذين كان لهم اتصال بأهل الكتاب وبكتبهم، وقد زعم أن بعضًا منهم كان قد قرأ تلك الكتب ووقف على العبرانية أو السريانية. ولهذا ورد في شعرهم شيء من قصص أهل الكتاب. وفي جملته ما ذكرته من إشاراتهم إلى الجن. وتراهم يربطون بينها وبين "سليمان". أخذوا ذلك ولا شك من الأساطير العبرانية، التي صيرت الجن في خدمة "سليمان".

نجد الأعشى يقول:

وسخر من جن الملائك تسعة

قياما لديه يعملون محاربا

1 تاج العروس "6/ 197، 287"، "برق".

2 الاشتقاق "88 وما بعدها".

ص: 298

قصد بذلك "سليمان"1. ونجد أن في جملة ما نسب عمله إلى جن سليمان بعض المواضع مثل تدمر وقصر غمدان.

وقال النابغة الذبياني:

إلا سليمان إذ قال الإله له

قم في البرية فاحددها عن الفند

وخيس الجن إني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصفاح والعمد

فمن عصاك فاقبه معاقبة

تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد2

وفي هذا الشعر إن صح أنه من نظم النابغة حقًّا، دلالة على تأثر الشاعر بالأسطورة اليهودية عن "تامار"، وعن جن سليما.

ونسبوا السيوف المأثورة إلى جن وشياطين "سليمان". ونسبوا إليه وإليهم أشياء عديدة أخرى3.

وقد ادعى إناس من الجاهليين إنهم كانوا يرون الغيلان والجن، ويسمعون عزيف الجان، أي صوت الجن. وقد بالغ الأعراب في ذلك، وأغربوا في قصص الجان، لما كانوا يتوهمونه من ظهور الأشباح لهم في تجوالهم بالفيافي المقفرة الخالية، فتصوروه جنا وغولا وسعالى، وبالغوا في ذلك أيضًا، لما وجدوه في أهل الحضر ولا سيما في الإسلام من ميل إلى سماع قصص الجان والسعالى والغول4. وقالوا إنهم ربما نزلوا بجمع كثير، ورأوا خياما، وقبابا، وناسا، ثم إذا بهم يفقدونهم من ساعتهم، وذلك لأنهم من الجن5.

ونسبوا إلى الجن إحداث كثير من الأمور غير الطبيعية، مثل الأمراض والأوبئة والصرع والاستهواء والجنون خاصة. فالجنون هو تلبس الجن بالإنسان ودخولهم جسمه. لذلك ربطوا بين الجن والجنون. ويرى "نولدكه" أن فكرة أن الجنو من عمل الجن، عقيدة قديمة وجدت عند غير العرب كذلك. فقد كان الإيرانيون

1 تاج العروس "9/ 165"، "جن".

وسخر من جن الملائك تسعة

قياما لديه يعملون بلا أجر

اللسان "13/ 97"، "جنن".

2 الحيوان "6/ 223".

3 الحيوان "6/ 178".

4 الحيوان "6/ 172" وما بعدها، 182".

5 الحيوان "6/ 200"، "هارون".

ص: 299

يطلقون على المجنو لفظة "ديوانه""Devana"، أي الذي به "ديو""Dev" من الأصل "ديوه""Daiva"، ومعناها "Demon" أي جان. ومن هذه الفكرة دخلت في العهد الجيد من الكتاب المقدس. ومن الفارسية دخلت "ديوان" Daiwan" في الإرمية بينما دخلت إلى الفارسية كلمة "شدها" Shedha" من أصل "شدهان""Shedhan" الإرمي واستعملت في مقابل "Deo" أي جان و"شيده""Shedh" في الإرمية الجان1.

وهم يزعمون أن الجن إذا عشقت إنسانا صرعته، ويكون ذلك على طريق العشق والهوى، وشهوة النكاح. وأن الشيطان يعشق المرأ’، وأن نصرته إليها من طريق العجب بها أشد عليها من حمى أيام، وأن عين الجان أشد من عين الإنسان2.

والعرب تزعم أن الطاعون من الجن، ويسمون الطاعون رماح الجن. قال الأسدي للحارث الملك الغساني:

لعمرك ما خشيت على أبي

رماح بني مقيدة الحمار

ولكني خشيت على أبي

رماح الجن أو إياك حار3

وللجن حوار مع الإنس وكلام نجده منثورا كما نجده منظوما في شعر ينسب إلى الشعراء الجاهليين. ويروي الإخباريون شعرا ينسبونه إلى "جذع بن سنان" ورد فيه وصف ملاقاته للجن ومحاورته معها ودعوته إياها إلى الطعام وامتاعها عن الأكل، كما رووا شعرا لغيره يصف ملاقاة بين الجن وبين أصحاب هذا الشعر4. وهو قصص لم يبخل على الجن فأعطاها شعرا من هذا الشعر الجاهلي الفصيح! وقد سخر "الخيتعور" أحد "بني الشيصبان" من الجن من الأشعار التي جمعها "المرزباني" "المتوفى سنة 384هـ"، من شعر الشعراء الجن، فما هذا الذي جمعه إلا قطعه من شعرهم، وهل يعرف البشر من النظم كما يعرف الجن.

1 Ency. ReIig، I، p. 670

2 الحيوان "6/ 217 وما بعدها".

3 الحيوان "6/ 219".

4 بلوغ الأرب "2/ 350 وما بعدها".

ص: 300

وإنما للبشر خمسة عشر جنسا من الموزون، قل ما يعدوها القائلون، وإن للجن آلاف الأوزان ما سمع بها الإنس1.

1 رسالة الغفران "291"، "بنت الشاطئ".

ص: 301

‌طعام الجن:

وطعام الجن مثل طعام الإنسان، هم يشاركونه أكله في بعض الأحيان. "رووا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنه سأل المفقود الذي استهوته الجن: ما كان طعامهم؟ قال: الفول. قال: فما كان شرابهم؟ قال: الجدف. رووا أن طعامهم الرمة وما لم يذكر اسم الله عليه"1. وقد جاء قوم من الجن إلى نار "شمر بن الحارث الضبي"، فدعاهم إلى الطعام بقوله:

أتوا ناري فقلت منون قالوا

سراة الجن قلت عموا ظلاما

فقلت إلى الطعام فقال منهم

زعيم نحسد الإنس الطعاما2

والحوشي من الإبل هي التي قد ضربت فيها فحول إبل الجن. فالحوشية من نسل إبل الجن3. ويقال إنها منسوبة إلى "الحوش" بلاد الجن من وراء رمل يبرين، لا يمر بها أحد من الناس، وقيل هم من بلاد الجن. وقيل الحوشية إبل الجن، أو منسوبة إلى الحوش وهي فحول جن، تزعم العرب إنها ضربت في نعم "بني مهرة بن حيدان" فنتجت النجائب المهرية من تلك الفحول الوحشية، فنسبت إليها، فهي لا يكاد يدركها التعب4.

1 الحيوان "6/ 210 وما بعدها".

2 الحيوان "6/ 197".

3 الحيوان "6/ 216".

4 الحيوان "4/ 302"، "حاش".

ص: 301

‌الحية:

والحية، من أكثر الحيوانات ورودا في القصص الذي يرويه الإخباريون عن الجن. وقد جعلوها فصيلة مهمة من فصائلها، ونوعا بارزا من أنواعها. قال

ص: 301

بعض العلماء: الجان، حية بيضاء، وقال بعض آخر: الجان حية، أو ضرب من الحيات1. ولما قام "حرب بن أمية" جد معاوية بن أبي سفيان مع "مرداس بن أبي عمرو" باصلاح "القرية"، وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام، فأضرما النار في الغيضة، فلما استطارت وعلا لهيبها سمع من الغيضة أنين وضجيج كبير، ثم ظهرت منها حيات بيض تطير حتى قطعتها وخرجت منها، فما لبث أن مات الرجلان، أماتهما الجن على ما يزعمه رواة هذا الخبر2. ولعلهما ماتا بعضة حية من تلك الحيات التي كانت ساكنة بين تلك الحيات والحشرات، فابتدعت مخيلة القصاصين هذه القصة عن فزع الجن وطيرانها في صورة ثعابين بيض. ويعلل "نولدكه" وفاتهما بفعل الاختناق من الغاز الذي تصاعد من الاحتراق3.

وذكروا أن الحية لا تموت حتف أنفها، وإنما تموت بعرض يعرض لها. وإنها تصبر على الجوع حتى ضرب بها المثل في ذلك. وإنها إذا هرمت صغرت في بدنها. ولم تشته الطعام4. وإنها تنطق وتسمع. وقد أورد أهل الأخبار شعرا في ذلك، ذكروا أنه للنابغة. ومذهب النابغة في الحيات مذهب أمية بن أبي الصلت، وعدي بن زيد وغيرهما من الشعراء5، الذين تأثروا برأي أهل الكتاب فيما جاء عن الحية في العهدين وفي كتب الشروح والتفاسير والقصص الإسرائيلي القديم.

ولم تنفرد مخيلة الجاهليين وحدها باختراع إسطورة أن الحيات هي من الجن، وإنها جنس منها، فإن غير العرب من الساميين مثل العبرانيين كانوا يقولون أيضًا بهذا القول. وكذلك قال بهذه الأسطورة غير الساميين، مما يدل على إنه من الأساطير القديمة جدا التي انتشرت عند البشر، بسبب ما قاسوه في أيام بداوتهم من هذا الحيوان6. ونجد قصة الحية في سفر التكوين. وهي في هذا السفر أشد

1 تاج العروس "9/ 165"، "جن".

2 الحيوان "2/ 143"، "حاشية"Robertson، p. 233

3 Ency. ReIigi، I، p. 670

4 الحيوان "4/ 118 وما بعدها"، "موت الحية".

5 الحيوان "4/ 203 وما بعدها".

6 Ency. ReIigi، I، p. 669

ص: 302

الحيوانات حيلة، فهي التي خدعت حواء خدعتها الشهيرة، وسببت طردها وطرد زوجها آدم من الجنة إلى الأرض1.

ولعقيدتهم هذه في "الحية"، كانوا إذا وجدوا حية ميتة كفنوها ودفنوها، فعلوا ذلك في الإسلام أيضًا. جاء إنه بينما كان "عمر بن عبد العزيز" يمشي في أرض فلاة، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها. وورد إنه كان جمع من أصحاب رسول الله "يمشون فرفع لهم اعصار، ثم جاء إعصار أعظم منه، ثم انقشع، فإذا حية قتيل، فعمد رجل منا إلى ردائه وكفن الحية ببعضه ودفنها. فلما جن الليل إذا امرأتان تتساءلان أيكمن دفن عمرو بن جابر؟ فقلنا ما ندري ما عمرو بن جابر! فقالتا إن كنتم ابتغيم الأجر، فقد وجدتموه. إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين منهم. فقتل عمرو، وهو الحية التي رأيتم"2.

"وفي الحديث: إنه نهى عن قتل الجنان. هي الحيات التي تكون في البيوت، واحدها جان، وهو الدقيق الخفيف"3. والجان الشيطان أيضًا. وورد في الحديث: ذكر الحيات، فقال: من خشي خبثهن وشرهن واربهن، فليس منا. أي من توقى قتلهن خشية شرهن فليس ذلك من سنتنا. وكانت الجاهلية تقول إنها توذي قاتلها أو تصيبه بخبل4.

وذكر العلماء أن "اللاهة" الحية، أو الحية العظيمة. وأن "اللات"، الصنم المعروف أصله "لاهة" كأنه سمي بها. وأن اسم الجلالة منها5. وفي الأساطير الجاهلية ما يفيد تعبد الجاهليين للحية، وفي هذا التفسير ما يؤيد هذا الرأي.

ويقال للحية: "بنت طبق". و"بنات طبق" الحيات، والحية "أم طبق" وبنت طبق. وهي "الدواهي". ومن أساطيرهم أن بنت طبق سلحفاة تبيض تسعا وتسعين بيضة كلها سلاحف، وتبيض بيضة تنقف عن حية6.

والحيات شياطين، وللعرب شجر يطلقون عليه "الصوم"، كريه المنظر

1 السفر الثالث من تكوين، الآية 1 وما بعدها.

2 الروض الأنف "1/ 136".

3 اللسان "13/ 95"، "جنن".

4 تاج العروس "1/ 145"، "أدب".

5 تاج العروس "9/ 410"، "لاه".

6 تاج العروس "6/ 415"، "طبق".

ص: 303

جدا، يقال لثمره "رءوس الشياطين" أي الحيات، وليس له ورق1.

1 تاج العروس "8/ 372"، "صام".

ص: 304

‌الغول:

وقصص الغول هي من أشهر القصص الجاهلي المذكور عن الجن، ومع خطر الغول وشراسته في رأي الجاهليين، ورد في قصصهم تزوج رجال من الإنس منهم. وورد أن الشاعر "تأبط شرا" تعرض بغيلة. فلما امتنعت عليه، جللها بالسيف فقتلها. وهم يروون أن من الممكن قتل الغول بضربة سيف. أما إذا ضربت مرة ثانية، فإنها تعيش ولو من ألف ضربة. وهكذا ترى قصصهم يروي تغلب الإنسان على الغيلة في بعض الأحيان. وأكثر قصص الغول منسوب إلى "تأبط شرا"1. وللقب الذي يحمله هذا الشاعر أو حمل عليه دخل، ولا شك، في ظهور هذا القصص.

ويرى علماء اللغة أن من معاني "الغول" التلون، والظهور بصور مختلفة، والاغتيال. ويرون أن الغول أنثى، وأما ذكرها فيسمى "قطربا"2. ولصفة التلون والظهور بصور مختلفة سموا الغول "حيتمورا"، وهو كل شيء لا يدوم على حالة واحدة، ويضمحل كالسراب3. وذكر في وصف غدرها بالإنسان إنها إذا أرادت أن تضل إنسانا أوقدت له نارًا، فيقصدها، فتدنوا منه، وتتمثل له في صور مختلفة، فتهلكه روعا، وإن خلقتها خلقة إنسان، ورجلاها رجلا حمار4.

وذكروا أن الغول اسم لكل شيء من الجن يعرض للسفار، ويتلون في ضروب الصور والثياب، ذكرا كان أو أنثى. وقد قال "كعب بن زهير" الشاعر الصحابي، الذي مدح الرسول، في وصف تلون الغول:

1 بلوغ الأرب "2/ 341 وما بعدها"، الأغاني "18/ 209 وما بعدها"، الحيوان "6/ 233، 235".

2 بلوغ الأرب "2/ 346 وما بعدها"، الحيوان "6/ 48"، تاج العروس "8/ 51"، "غال".

3 بلوغ الأرب "2/ 347".

4 بلوغ الأرب "2/ 348"، الحيوان "6/ 214".

ص: 304

فما تدوم على حال تكون بها

كما تلون في أثوابها الغول1

وفي تلون الغول يقول "عباس بن مرداس السلمي":

أصابت العام رعلا غول قومهم

وسط البيوت ولون الغول ألوان2

فالغول تتحول في أي صورة شاءت، وتتمثل في صور مختلفة، إلا رجليها، فلا بد من أن تكونا رجلي حمار3.

وذكر أن "الغول""السعلاة"، وهما مترادفان، وذكر أن الغيلان جنس من الجن والشياطين، والعرب تسمي الحية الغول. وقيل أن "أنياب أغوال" الواردة في شعر لامرئ القيس، الحيات، وقيل: الشياطين4.

وإلى الشاعر "عبيد بن أيوب" شاعر "بني العنبر"، يعود قسط كبير من القصص الوارد عن "الغول" و"السعلاة". فقد كان يخبر في شعره إنه يرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي، ويؤاكل الظباء والوحش. وقد أورد أهل الأخبار شيئًا من شعره في هذا الباب5. وذكر بعض علماء اللغة، أن الغول الذكر من الجن، والسعلاة الأنثى. والغول ساحرة الجن، وتقول إن الغول يتراءى في الفلاة للناس فتضلهم عن الطريق6.

وأما "السعالي"، وواحدتها السعلاة، فذكر أنها سحرة الجن، وقيل: إن الغيلان جنس منها، وأن الغيلان هي إناث الشياطين، وأنها -أي السعالي- أخبث الغيلان، وأكثر وجودها في الغياض، وإنها إذا ظفرت بإنسان ترقصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر، وأن الذئب يأكل السعلاة7. وذكر أن "السعلاة اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغول السفار. وهم إذا رأوا المرأة

1 الحيوان "6/ 158 وما بعدها".

2 الحيوان "6/ 161".

3 الحيوان "6/ 220".

4 تاج "8/ 51"، "غال".

5 الحيوان "4/ 482"، "هارون"، "5/ 123، 138، 241"، "6/ 128، 159، 160، 165، 235، 251، 395"،

6 تاج العروس "8/ 51"، "غال".

7 بلوغ الأرب "2/ 346 وما بعدها".

ص: 305

حديدة الطرف والذهن، سريعة الحركة ممشوقة ممحصة، قالوا: سعلاة. وقال الأعشى:

ورجال قتلى بجنبي أريك

ونساء كأنهن السعالى1

وذكر أن في الجن سحرة كسحرة الإنس لهم تلبيس وتخييل، وهم السعالى. وهم أقدر من الغيلان في هذا الباب2.

1 الحيوان "6/ 158 وما بعدها".

2 تاج العروس "7/ 375 وما بعدها"، "سعل".

ص: 306

الشيطان:

والشيطان هو "Satan" في الإنكليزية، و"DiaboIos" في الإغريقية. ويرجع علماء اللغة كلمة "الشيطان" إلى أصل "شطن"، ويقولون إن من معاني هذه الكلمة الخبث، ولما كان الشيطان خبيثا قيل له "شيطان" ومعنى ذلك أن فكرة خبث الشيطان كانت معروفة لصاحبها قبل التسمية1. فلما بحث عن لفظة مناسبة لها، اختاروا هذا الكلمة التي تدل على الخبث. وهو تعليل من تلك التعليلات المعروفة المألوفة التي كان يرجع إليها علماء اللغة كلما أعيادهم الوصول إلى أصول الأشياء.

و"الشيطان""ساطان""سطن" في العبرانية، ومعناه: عدو ومشتك في هذه اللغة2. ومن هذه اللغة جاءت لفظة "Satan" في الإنكليزية.

وذكر "الطبري": "والشيطان في كلام العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب ولك شيء"3، ثم قال: "وإنما سمي المتمرد م كل شيء شيطانا لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله وبعده من الخير. وقد قيل إنه أخذ من قول القائل شطنت داري من دارك، يريد بذلك بعدت. ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان:

نأت بسعاد عنك نوى شطون

فبانت والفؤاد بها رهين

1 اللسان "17/ 104"، "شطن"، الحيوان "1/ 153، 291".

2 غرائب اللغة "212".

3 تفسير الطبري "1/ 37 وما بعدها".

ص: 306

والنوى الوجه الذي نوته وقصدته، والشطون البعيد. فكأن الشيطان على هذا التأويل شطن. ومما يدل على ذلك كذلك، قول أمية بن أبي الصلت:

أيما شاطن عصاه عكاه

ثم يلقى في السجن والأكبال

ولم ترد لفظة "الشيطان" في شعر الشعراء الجاهليين، خلا شعر "أمية بن أبي الصلت" و"عدي بن زيد العبادي". والأول شاعر وقف، على ما يظهر من شعره، على شيء من اليهودية والنصرانية. وأما الثاني، فهو نصراني، لذلك يجوز لنا أن نرجع علمهما بالشيطان إلى ما جاء في اليهودية والنصرانية عنه، ولذلك نستطيع أن نقول أن هذ اللفظة جاءت العرب عن طريق أهل الكتاب.

وذكر علماء اللغة، أن "الأزب" اسم من أسماء الشياطين، وذكروا أن "الأزب" شيطان اسمه أزب العقبة، وقيل هو حية1. وأن من أسماء الشيطان:"الحباب". يقع على الحية أيضًا، لأن الحية يقال لها شيطان، وفي حديث:"الحباب شيطان"2. وذكروا أن من أسماء الشيطان "الطاغوت"3.

ومن الشياطين، شيطان اسمه "زوبعة"، وقيل وقيل هو رئيس للجن. ومنه سمي الإعصار زوبعة، ويقال أم زوبعة وأبو زوبعة، وهو الذي يثير الإعصار، حين يدور على نفسه، ثم يرتفع في السماء ساطعا كأنه عمود4.

وأما ما ورد في القصص عن الشياطين عند الجاهليين، فهو يختلف عما جاء عن الشيطان في الكتب اليهودية والنصرانية، مما يدل على أن منبعه منبع آخر، وأن "ألشيطان" عند الجاهليين، هو غير الشيطان المعروف عند اليهود والنصارى الذي دخل إلى العرب قبيل الإسلام وفي الإسلام.

ومن القصص المذكورة، استمد بعض الجاهليين قصصهم عن ذكاء الشيطان وعن حيله. ومن حيله. ومن هذا القصص ولا شك استعمل الناس مصطلح "تشيطن" و"الشيطنة" بمعنى الذكاء والحيلة، لما رسخ في ذهنهم من ذلك القصص عن ذكاء الشيطان وسعة حيله وتلاعبه بأذكى البشر. وهو في التوراة ذو طبع شرير،

1 تاج العروس "1/ 147". "أزب""1/ 284"، "زبب".

2 اللسان "1/ 295"، "حبب".

3 تفسير الطبري "14/ 71"، "23/ 131 وما بعدها".

4 تاج العروس "5/ 367"، "تزبع".

ص: 307

وزعيم العصاة لأوامر الله، يضل الناس ويسلك بهم سبل الخطيئة، ولذلك تعوذوا منه1.

ومن القصص المذكور استمد أيضًا علماء اللغة ما ذكروه من أن كلمة "الشيطان" تعني الحية2، ففي ذلك القصص ظهور الشيطان على صورة "حية" خدعت أبوينا آدم وحواء في الجنة. وتمثل هذا القصص في الأدبين العبراني والنصراني. وسبب ذلك هو ما علق بذهنهم عن هذه الصورة في الشيطان. والحية هي عند أكثر الشرقيين رمز يشير إلى الثورة والعصيان والشر. وهذه الفكرة هي من أسطورة شرقية قديمة عن سقوط البشيرية في الشر، وتتمثل في سقو آدم وحواء وطردهما لذلك من الجنة، وفي تعاليم زرادشت من أن الشرير ظهر في هيأة حية، وأخذ يعلم الناس الشر3.

وزعم أن "شيطان الحماطة" الحية4. وورد "شيطان حماط". ولعل ذلك بسبب لجوء الحيات إلى الحماط، والحماطة شجرة شبيهة بالتين، وهي أحب الشجر إلى الحيات، إذ تألفها كثيرًا5. وفي هذا المعنى ورد في قول الشاعر:

تلاعب مثنى حضرمي كأنه

تعمج شيطان بذي خروع قفر6

والتعمج التولي. والمراد هنا تلوي شيطان بمكان قفر نبت فيه الخروج. وقصد بالشيطان الحية.

وقد وصف الشيطان بالقبح، فإذا أريد تعنيف شخص وتقبيحه، قيل له:"يا وجه الشيطان" وما هو إلا شيطان، يريدون بذلك القبح، وذلك على سبيل تمثيل قبحه بقبح الشيطان. وقيل: الشيطان حية ذو عرف قبيح الخلقة7.

1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 651".

2 اللسان "17/ 104"، تاج العروس "9/ 253"، "شطن"، "والعرب تسمى كل حية شيطانا"، الحيوان "1/ 30".

3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 400"، Hastings، p. 829

4 الحيوان "6/ 192".

5 تاج العروس "5/ 121"، "حمط".

6 الحيوان "1/ 153"، "6/ 192".

7 الفاخر "ص238"، الحيوان "1/ 300"، تاج العروس "9/ 253"، "شطن".

ص: 308

وقيل إنه كان حية زعم أنها تأتي حول البيت، فلا يطوف أحد. ولما شرعوا ببناء الكعبة في أيام شباب الرسول، جاء طير فالتقط الحية1. ولقبح وجه الشيطان، قالوا للذي به لقوة أو شتر، إذا سب: يا لطيم الشيطان. وقالوا للمتكبر الضخم: ظل الشيطان2. وكانوا إذا أرادوا ضرب مثل بقبح إنسان قالوا: لهو أقبح من الشيطان3. وقالوا لشجرة تكون ببلاد اليمن، لها مظهر كريه "رءوس الشياطين"4. وبهذا المعنى فسرت "رءوس الشياطين"5. "يقول تعالى ذكره كأن طلع هذه الشجرة يعني شجرة الزقوم في قبحه وسماجته رءوس الشياطين في قبحها"، "وذلك أن استعمال الناس قد جرى بينهم في مبالغتهم إذا أراد أحدهم المبالغة في تقبيح الشيء، قال: كأن شيطان، فذلك أحد الأقوال، والثاني أن يكون مثل برأس حية معروفة عند العرب تسمى شيطانا. وهي حية له عرف فيما ذكر، قبيح الوجه والمنظر، وإياه عنى الراجز، بقوله:

عنجرد تحلف حين أحلف

كمثل شيطان الحماط أعرف

ويروي عجيز: "والثالث أن يكون مثل نبت معروف برءوس الشياطين، ذكر إنه قبيح الرأس"6. ويظهر أن العرب في الجاهلية، كانوا يطلقون "رءوس الشياطين" على شجر كريه المنظر جدا، قال علماء اللغة: "والصوم: شجر على شكل شخص الإنسان كريه المنظر جدا، يقال لثمره رءوس الشياطين، يعني الشياطين والحيات، وليس له ورق"7 وقد جمع هذا التفسير بين الشياطين والحيات والقبح. ويمثل الصورة التي رسمها الناس في مخيلتهم للشياطين.

وكانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقى على أفواهها الشعر، وتلقنها إياه

1 الفاخر "ص238".

2 الحيوان "6/ 178".

3 الحيوان "6/ 213"ز

4 الحيوان "6/ 211"، "4/ 39 وما بعدها".

5 الصافات، 37 الآية 63 وما بعدها.

6 تفسير الطبري "23/ 40 وما بعدها".

7 اللسان "12/ 351 وما بعدها"، "صوم".

ص: 309

ابن صياد" شيطان يلقي إليه بما خفي من أخبار الأرض، وذكر أن النجوم تقذف الشياطين، وأن الجاهليين كانوا يرون ذلك، وهو موجود في أشعار القدماء من الجاهلية، منهم عوف بن الجزع، وأوس بن حجر، وبشر بن أبي خازم وكلهم جاهلي، وقد وصفوا الرمي بالنجوم1.

و"إبليس" من هذه الأفكار التي نفذت إلى العرب عن طريق أهل الكتاب، والعلماء على أن الكلمة معربة، وهي كذلك2. فأصلها "ديابولس" "DiaboIos" وهي كلمة يونانية استعملت في مقابل لفظة "شيطان"3. وقد أطلقت لفظة "أباليس" في مقابل "شياطين". وقد ورد أن من أسماء إبليس "قترة"، وأن اللفظة علم للشيطان. ومن المجاز أبو قترة: إبليس. "وفي الحديث نعوذ بالله من الأعميين ومن قترة وما ولد. الأعميين الحريق والسيل، وقترة من أسماء إبليس، وكنيته: أبو قترة. وقترة حية صغيرة، لا ينجو سميمها4، ولعل بين التسميتين صلة.

1 الروض الأنف "1/ 135"، "فصل في الكهانة".

2 المعرب، للجواليقي "23"، تاج العروس "4/ 111"، "إبليس".

3 Ency. Religi، 4، p. 600، Geiger، Was hat Mohammed aus der Judenthume Aufgenomen، Leipzig، 1902، S. 107، Weil، Biblische Legenden der Muselmanner، S. 12، Shorter Ency، p. 146، Grunbaum، Beitrage zur Sem. Sagen، S. 60.

4 اللسان "5/ 73"، "إبليس"، تاج العروس "3/ 480"، "قتر"، "4/ 111"، "البلس".

ص: 311

وتعينها عليه، وتدعي إن لكل فحل منهم شيطانا يقول الشعر على لسانه، فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود. وبلغ من تحقيقهم وتصديقهم بهذا الشأن أن ذكروا لهم أسماء شياطينهم، فقالوا: إن اسم شيطان الأعشى مسحل، وللأعشى أشعار فيه، يمدحه ويثني عليه، لأنه يعاونه ويساعده في نظم الشعر فيلقيه عليه إلقاء. وقد زعم "حسان بن ثابت" أن شيطانه الذي يلهمه الشعر هو من "بني شيصبان" من فصائل الجن. وقد انتقلت هذه العقيدة في إلهام الشعر للشعراء إلى المسلمين كذلك. وقد دعا "جرير" شيطانه الذي يلقي عليه الشعر "إبليس الأباليس"1.

ويكنى عن‌

‌ الشيطان

بالشيخ النجدي2. وقد أشير إليه مرارا في كتب السير والأخبار. أشير إليه في بنيان الكعبة، حين حكموا رسول الله في أمر الركن من يرفعه، فحضر في زي شيخ نجدي بين الحاضرين، وصاح: يا معشر قريش أرضيتم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم، وحضر اجتماع "دار الندوة". وأيد قرارهم في قتله. وذكر علماء الأخبار، أنه عرف بالشيخ النجدي، لأنه تمثل نجديا، وتذكر أن الفتن تخرج من المشرق، والمشرق نجد بالنسبة لأهل الحجاز3.

و"قرن الشيطان"، ناحية رأسه، ومنه الحديث: تطلع الشمس بين قرني الشيطان، فإذا طلعت قارنها، وإذا ارتفعت فارقها4. وفي الأساطير أن للشيطان قرنين.

وكان الكهان يستعينون بالشياطين في الأخبار عن المغيبات، يذكرون أن الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيخبرونهم عن أنباء الأرض. وكان للكاهن "صاف

1 الثعالبي، ثمار القلوب "69 وما بعدها"، قال الأعشى:

دعوت خليلي مسحلا ودعوا له

جهنام جدعا للهجين المذمم

وقال:

حباني أخي الجني نفسي فداؤه

بأقبح جياش العشيات مرجم

الحيوان "6/ 225 وما بعدها".

2 تاج العروس "2/ 512"، "نجد".

3 الروض الأنف "1/ 291".

4 تاج العروس "9/ 306"، "قرن".

ص: 210

‌شق:

ومن الجن جنس صورة الواحد منهم على نصف صورة الإنسان، واسمه "شق"، وإنه كثيرًا ما يعرض للرجل المسافر إذا كان وحده، فربما هلك فزعا، وربما أهلكه ضربا وقتلا. ورووا في ذلك قصصًا. منه ما زعموه من أن "علقمة بن صفوان بن أمية بن محرث الكناني" جد "مروان بن الحكم"، خرج في الجاهلية، وهو يريد مالا له بمكة، وهو على حمار، وعليه إزار ورداء، ومعه مقرعة، في ليلة اضحيانة، حتى انتهى إلى موضع يقال له "حائط حزمان"، فإذا هو بشق، له يد ورجل، وعين، ومع سيف، وهو يقول:

ص: 311

علقم إني مقتول

وإن لحمي مأكول

أضربهم بالهذلول

ضرب غلام شملول

رحب الذراع بهلول

فقال علقمة:

يا شقها ما لي ولك

اغمد عني منصلك

تقتل من لا يقتلك

فقال شق:

عبيت لك عبيت لك

كما أتبيح مقتلك

فاصبر لما قد حم لك

فضرب كل واحد منهما صاحبه، فخرا ميتين1.

1 الحيوان "6/ 206"، "هارون".

ص: 312

‌والهاتف والرئي

الهاتف والرئي:

ويؤمن الأعراب بالهاتف، ويتعجبون ممن يرد ذلك. وهم يزعمون أنهم يسمعون الهاتف يخبرهم ببعض الخبر، فيكون صحيحا. فمن ذلك حديث "الأعشى بن نباش بن زرارة الأسدي"، أنه سمع هاتفا يقول:

لقد هلك الفياض غيث بني فهر

وذو الباع والمجد الرفيع وذو الفخر

فقال مجيبا له:

ألا أيها الناعي أخا الجود والندى

من المرء ننعاه لنا من بني فهر

فقال:

نعيت ابن جدعان بن عمرو أخا الندى

وذا الحسب القدموس والحسب القهر1

1 الحيوان "6/ 202".

ص: 312

وزعموا أن لنقل الجن الأخبار، علم بوفاة الملوك وأصحاب النباهة والجاه، وأمثال ذلك من الأمور الخطيرة1.

وتردد في الأخبار كملة "هاتف" و"الهاتف"، بمعنى صوت صادر من مصدر غير مرئي، وردت في مواضع عديدة من القصص الجاهلي، ووردت بعدها الجمل التي قالها الهاتف لمن وجه خطابه إليه. وهي تكهن وأخبار، عن أمر وقع وحدث، أو لتحذير من القيام بعمل ما، أو بإرشاد إلى عمل أو جهة أو ما شابه ذلك من الأمور. وقد تستعمل بمعنى "الرئي" الذي يهتف للكاهن، أو الصوت الذي يزعم أنه يخرج من جوف الصنم2.

1 المصدر نفسه "ص203".

2 تاج العروس "6/ 273"، "هتف".

ص: 313

‌الرئي:

وكانوا يقولون، إذا ألف الجني إنسانا وتعطف عليه، وخبره ببعض الأخبار وجد حسه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئي من الجن، يخبره بما وقع ويقع وعن الأسرار. وممن يقولون ذلك فيه: عمرو بن لحي بن قمعة، والمأمور الحارث، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وهم من الرؤساء السادة، وقد كان لكل كاهن وعراف رئي يخبر صاحبه بما يسأل عنه. وذكر إنه قد كان مسيلمة يدعي أن معه رئيا في أول زمانه ولذلك قال الشاعر حين وصفه:

ببيضة قارور وراية شادن

وخلة جني وتوصيل طائر1

1 الحيوان "6/ 205 وما بعدها"، "هارون".

ص: 313

‌الملائكة:

والملائكة هم روحانيون، أي من أرواح في نظر أهل الجاهلية ويدل ورود الملائكة في مواضع عديدة من القرآن الكريم ومن الآيات التي تشير إلى مجادلة المشركين ومحادثتهم للرسول في الملائكة، أن فكرة الملائكة كانت معروفة شائعة

ص: 313

بينهم، وأن بعض العرب كانوا يعبدونها، كما يظهر ذلك من الآية:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 1.

غير أن المفسرين، لم يشيروا إلى أولئك الذين تعبدوا للملائكة، ولم يذكروا أسماءهم، مع أنهم ذكروا اسم من تعبد للجن2. بل يظهر من تفسيرهم للآية المذكورة، أنها وردت على سبيل الاستفهام "كقوله عز وجل لعيسى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . قال النحاس فالمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم، فهو استفهام توبيخ للعابدين"3. ولكنهم أشاروا في مواضع أخرى إلى أن مشركي قريش كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونها، ويقولون أن أمهاتهن بنات سروات الجن، يحسبون أنهم خلقوا مما خلق منه إبليس4.

وقد أشير في القرآن الكريم، إلى أن من الجاهليين من زعم أن الملائكة بنات الله5. وتحدث المفسرون في تفسير ذلك، غير أنهم خلطوا في الغالب بين الملائكة والجن. ولم يأتوا بشيء يذكر عن رأي أهل الجاهلية في الملائكة. وما ذكروه هم عن الملائكة، هو إسلامي، يرجع في سنده إلى أهل الكتاب، ولا سيما القصص الإسرائيلي، ولهذا فهو مما لا يمكن أن يقال عنه إنه يعبر عن رأي الجاهليين. ويظهر أن الجاهليين لم يكونوا يعرفون شيئًا عن الملائكة، لأن الاعتقاد بالملائكة من عقيدة الديانة اليهودية ثم النصرانية، وهم لا يعرفون الكتاب، إلا من كان منهم على دين اليهودية أو النصرانية، أو كان من الحنفاء أو على اتصال بأهل الكتاب، كأمية بن أبي الصلت وأمثاله.

وقد أشير إلى الملائكة، أي "الملائكة" في شعر ينسب إلى "أمية بن أبي الصلت"، هو:

1 سبأ، الآية 40 وما بعدها.

2 راجع تفسير الطبري "22/ 69"، روح المعاني "22/ 139"، القرطبي، الجامع "14/ 309".

3 القرطبي، الجامع "14/ 308 وما بعدها".

4 تفسير الطبري "32/ 67 وما بعدها".

5 الصافات، الآية 149 وما بعدها، الإسراء، الآية 40، الزخرف، الآية 15 وما بعدها، تفسير الطبري "14/ 83".

ص: 314

وكأن برقع، والملائك حوله

سدر تواكله القوائم أجرد1

وورد "ملاك" في شعر رجل من عبد القيس جاهلي يمدح الملوك، قيل هو النعمان. وقيل هو لأبي وجزة يمدح به عبد الله بن الزبير:

فلست لإنسي، ولكن لملأك

تنزل من جو السماء يصوب2

وقد زعم أن الملائكة تصافح الناس وتناجيهم. زعم ذلك حتى في الإسلام. ذكر "ابن دريد" أن "عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف"، وهو من الصحابة، وعرف بـ "أبي نجيد"، "كانت تصافحه الملائكة وتناجيه لداء كانه به، فاكتوى، فذهب عنه ذلك. وذهب ما كان يسمع ويرى"3.

1 اللسان "10/ 496".

2 اللسان "10/ 496".

3 الاشتقاق "2/ 278"، "طبعة أوربة"، "إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى"، الإصابة "3/ 27"، "الرقم "6012".

ص: 315

‌السحر:

والسحر من أهم الوسائل التي لجأ إليها البشر وأقدمها منذ أعتق أيامه في التأثير على الأرواح، وقد جعله جزءًا من الدين، لذلك كان من اختصاص رجال الدين، يقومون به في المعابد قيامهم بالشعائر.

وإذ كان معظم الناس في الزمن الحاضر يفرقون بين الدين والسحر، ويعدون السحر شيئًا بعيدا عن الدين، بل هو ضد الدين، فإن قدماء البشر لم يكونوا ينظرون إليه هذه النظرة، كانوا ينظرون إليه كما قلت على إنه جزء مهم من الدين، بل هو أهم جزء فيه وأعظمه، بل ما زلنا نجد ديانات القبائل البدائية تعد السحر جزءًا من الدين1. وهو كذلك في كل دين بدائي.

وعلم الساحر. هو السحر، والسحر في عرف بعض علماء اللغة الإسلاميين هو

1 R. Campell Thompson Semitic Magic its Origins and Development، London، 1908، p. XVII، Smith، P. 90.

ص: 315

"عمل يقرب فيه إلى الشيطان"1. وقد فسر بعض العلماء كلمة "الجبت" في القرآن الكريم بمعنى السحر، كما ذكر أنها تعني الساحر والكاهن والصنم وكل ما عبد من دون الله. وفسر "الطاغوت" بمعنى الشيطان2.

وقد وردت كلمة "السحر" و"سحر" و"الساحر" و"الساحرون" و"السحرة" و"مسحورا" و"مسحورون" في مواضع عديدة من القرآن الكريم، ويدل ورودها فيه بهذه الكثرة على مبلغ أثر السحر في عقلية الجاهليين وقد اتهم أهل مكة الرسول أنه ساحر، حينما أخبرهم بنزول الوحي عليه. وقالوا إنه يستمد وحيه من الشياطين.

وقد جمع البخاري بين الكهانة والسحر بأن قدم الكهانة على السحر، لأن مرجع الاثنين شيء واحد هو الشياطين3.

وقد حملت تلك المواضع من القرآن الكريم المفسرين على جمع ما علق بأذهان الناس عن السحر. أما كتب الحديث ففيها مادة مفيدة وردت ضمنا عن عقيدة أهل الجاهلية به. كما وردت في أخبار أهل الأخبار إشارات إليه، تجمل جميعها أن الاعتقاد بالسحر بين الجاهليين كان شائعا معروفا، وأن ممارسيه في جزيرة العرب كانوا عربا ويهودا، إنهم كانوا يرون أن أصوله في بابل وعند يهود.

وقد كان أكثر السحرة في الجاهلية من يهود4. يقصدهم الجاهليون من أنحاء بعيدة، لاعتقادهم بسعة علمهم وباختصاصهم فيه. وكان اليهود يسندون علمهم إلى بابل، ولهذا نجد الأحاديث والأخبار العربية ترجع علم السحر إلى بابل واليهود.

والفرق بين الكهانة والسحر أن الكهانة تنبؤ، فسند الكاهن هو كلامه الذي يذكره للناس. أما السحر، فإنه عمل في الأكثر، للتأثير في الأرواح، كي تقوم بأداء ما يطلب منها. ولا يمكن صنع سحر ما لم يقترن بعمل. ويصحب هذا

1 تاج العروس "3/ 258"، "سحر"، اللسان "4/ 348"،"سحر".

2 النساء، الآية 50، "وسمي الساحر والكاهن جبتا"، المفردات "83"، تاج العروس "1/ 535"، شمس العلوم "جـ1، ق2، ص244".

3 عمدة القاري "21/ 421، 445"، الطبرسي، "1-2"، "384".

4 عمدة القاري "21/ 213"، الطبري "2/ 439"، العقد الفريد "6/ 276"، تفسير الرازي "17-18 "ص9"، سنن ابن ماجة "2/ 1173"، روح المعاني "30/ 283".

ص: 316

العمل كلام مفهوم أو غير مفهوم، وإشارات، يدعي الساحر إنه إنما يقوم به وبالإشارات لتسخير الأرواح، وأن ما يفعله مفهوم عند جنوده، وهم الجن والشياطين.

وفن مثل هذا مغر جدا، فمن الناس من لا يريد تسخير القوى الخفية لخيره ولصالحه، وإلحاق الأذى بأعدائه ومبغضيه. ولذلك كان للسحر وللسحرة أثر خطير في التأريخ، بالرغم من مقاومة بعض الأديان له. فما يقوم به السحرة من أعمال وخفة، وما لشخصيات بعض السحرة من تأثير نفسي كبير، تجعل من الصعب على بعض الناس أن تكون للساحر مكانة كبيرة في نفس ذلك الشخص.

وللسحر أغراض عديدة، وقد استخدم في معالجة أمور كثيرة، حتى إدارة الملك والقضاء على الأعداء، للسحر وللسحرة فيها صولات وجولات. ومن الطبيعي أن يكون للحب المكانة البارزة فيه، حتى ليكاد يتخصص بهذا الجانب من حياة الإنسان. ولما كانت العادة أن يتزوج الرجل من جملة نساء صار السحر من أهم الوسائل التي استعانت بها الزوجات للتأثير في قلب الرجل، ولكسب المكانة الأولى عنده، وللتفريق بين الرجل وبين بقية أزواجه. ومصداق ذلك ما ورد في القرآن الكريم عن السحر في هذه الآية:{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 1. فالتفريق بين المرء وزوجه، كان ولا يزال من أهم أعمال السحرة. ونجد في الحديث تقريعا ولوما للسحرة لاستخدامهم السحر في هذا الغرض الفاسد.

والساحر في معالجة الحب على طريقين: إشعال جذوة نار الحب في قلب من يقصد إثارته عنده، أو إطفاء نارها وإخمادها وإماتتها في قلب المسحور. ولكل من الطريقين قواعد وأحكام وأصول يجب تطبيقها بعناية، وإلا بطل فعل السحر.

أما إشعال نيران الحب، فيكون بطرق متعددة يتبعها الساحر، فقد يستعين بالنباتات والأعشاب، يستخرج أدوية منها يقدمها إلى المرأة لتوجر الرجل إياها سرا. وقد يستعين بالجمر يقرأ عليه، ثم يرمي في الممرات التي يمر الرجل،

1 البقرة: الآية 102، عمدة القاري "20/ 278 وما بعدها".

ص: 317

أو الشخص المراد سحره منها. وقد يدفن السحر في موضع كمقبرة أو محل آخر ليؤثر من ذلك الموضع على المسحور. وقد يستعين بالخرز يسحر عليها، فتحبب المرأة إلى زوجها، وتسمى "التولة"1.

وكما يستعمل السحر لاشعال نيران الحب في القلب، كذلك يستعمل لايقاد البغض والكراهية في النفوس. ففي استطاعة الساحر بما عنده من جنود مجندة أن يلقي البغضاء والكراهية والحقد في نفس أي شخص يود إنسانا آخر، فينقلب مبغضا حاقدا كارها لمن كان يحبه ويعشقه. ومجال هذا الباب واسع جدا للنساء خاصة.

وفي استطاعة الساحر مداواة العاشق وإماتة عشقه بوصفه يعطيها إليه تقضي على حبه الجامح قضاء تاما يسمونها "السلوانة" و"السلوان". وما هذه الوصفة إلا مادة ذات سحر عجيب يغتسل بها الإنسان أو يشربها، فتطفئ في الحال أو بعد أمد كل نيران للحب مؤججة في قلب العاشق. والسلوانة هي شيء من تراب قبرن أو خرزة تسحق ويشرب ماؤها، فيورث شاربها سلوة. وتكون الخرزة شفافة، تدفن في الرمل فتسود، ثم تستخرج لسحقها وشربها، وقد يكتفي بصب ماء المطر على تلك الخرزة لسقي العاشق ذلك الماء الذي يسمونه "السلوان"، ليشفي من العشق2. ولا بد أن يكون لاختيار الماء وتراب القبر أو مسحوق الخرزة في معالجة العشق، سبب يمكن تفسيره بأنه لغسل قلب المحب، وإماتة الحب فيه.

ومن أهم الأعمال التي يعالجها السحرة، إخراج الجن من المجانين. فالجنون هو من عمل الجن. تحل الجنة بالإنسان فتأخذ عقله. ومن هنا قيل لهذا المرض "جنة" و"جنون"3. ومن واجب الساحر إخراج الجن من هؤلاء المرضى، وهو عمل يقوم به الساحر حتى اليوم، ويكون ذلك بضرب المريض بالعصا لإخراج

1 بالكسر وبالضم، "وقيل هي معاذة تعلق على الإنسان"، اللسان "13/ 85".

2

يا ليت أن لقلبي من يعلله

أو ساقيا فسقاني عنك سلوانا

وورد:

شربت على سلوانة ماء مزنة

فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو

وجاء:

جعلت لعراف اليمامة حكمه

وعراف نجد أن هما شفياني

فما تركا من رقية يعلمانها

ولا سلوة إلا بها سقياني

اللسان "19/ 118 وما بعدها".

3 تاج العروس "9/ 164 وما بعدها"، "جنن".

ص: 318

‌الفصل الخامس والثمانون: في أوابد العرب

‌مدخل

الفصل الخامس والثمانون: في أوابد العرب

وهي أمور كانت العرب عليها في الجاهلية، بعضها يجري مجرى الديانات، وبعضها يجري مجرى الاصطلاحات والعادات، وبعضها يجري مجرى الخرافات، وقد كانت قد هيمنت وسيطرت على عقليتهم، ولا سيما تلك الأمور التي كانت تتصل بحياتهم، كالكهانة والحداسة والرقية والتنجيس والتنجيم، وغير ذلك مما له علاقة بحياة الإنسان حتى قيل إنهم كانوا "بين متكهن وحداس وراق ومنجس ومتنجم"1.

1 إرشاد الساري "8/ 400"، صحيح مسلم "7/ 35 وما بعدها"، عمدة القاري "21/ 275"، اللسان "7/ 244"، الروض الأنف "1/ 136"، مروج الذهب "2/ 82"، "محمد محيي الدين عبد الحميد".

ص: 331

"الكهانة""Divination"، ويقال لمن يقوم بذلك الكاهن. أما الذي يزعم أن في إمكانه التحكم في الأرواح وتوجيهها الوجهة التي يريدها، فيقال له "ساحر" ويقال لعمله "السحر". وتقابل كلمة "السحر" في العربية كلمتا "Magic" و"Sorcery" في الإنكليزية.

والكهانة في اللغة العربية تعاطي الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ومعرفة المغيبات والأسرار، وتقابل بهذا التعريف في العربية كلمة "Soothsayer" في الانكليزية. وتقابل كلمة "كاهن" لفظة "كوهين""kohen في العبرانية و"كهنا" "kahna" في لغة بني إرم، وكلها من الأصل السامي القديم1.

ومن مرادفات الكاهن: "الطاغوت". وبهذا التفسير فسر العلماء قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} 2. قالوا: الطاغوت: الكاهن. وهم كهان تنزل عليهم شياطين يلقون على ألسنتهم وقلوبهم. والطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها، كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد وهم كهان تنزل عليهم الشياطين3. وذكر بعض علماء التفسير أن الطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه. وقد وردت اللفظة في موضع آخر من القرآن الكريم بعد لفظة "الجبت"، إذ جاء في التنزيل:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 4. وقد ذكروا أن الجبت السحر والساحر، بلسان الحبشة والطاغوت الكاهن5. وأن الجبت والطاغوت صنمان، أو أن الجبت الأصنام والطاغوت تراجمه الأصنام، والذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، أو أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له، كائنا ما كان ذلك الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظمة بالعبادة من دون الله، فقد كانت جبوتا وطواغيت،

1 إرشاد الساري "8/ 398"، اللسان "13/ 362 وما بعدها"، "كهن"، مفتاح السعادة، لطاش كبرى زاده "1/ 293 وما بعدها".

Noldeke، Neue Beltrage Semltlschen Sprachwissenschaft، S. 36.

2 البقرة، الرقم الآية 256.

3 تفسير الطبير "3/ 13 وما بعدها".

4 النساء، الآية 51.

5 تفسير الطبري "5/ 84".

ص: 332

وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كانا مقبولا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله، وكذلك حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف لأنهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين1.

وذكر علماء التفسير في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدا} 2، أي "الطاغوت" الكاهن الذي كان يحكم بين الناس، ويتحاكمون إليه. وأنها نزلت في حق يهودي اختصم مع مسلم، فكان المسلم أو المنافق يريد الاحتكام إلى الكاهن، وكان اليهودي يدعو إلى النبي أو المسلمين، لأنهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، أو إلى كاهن بالمدينة، أو إلى كعب بن الأشرف، فنزل الوحي بتوبيخ ذلك المسلم أو المنافق3.

والتكهن عن المستقبل والتحدث عن الماضي، موضوع له فروع عديدة. وقد عد علما من العلوم عند كثير من الأمم، وألفوا فيه. وتبؤ الأصنام هو نوع من هذا الأنواع. ويدخل في التكهن التنبؤ بواسطة وسيط: مكالمة صنم، أو "تابع أي "رئي"، وقراءة كبد الشاة وقراءة أعضائها كما كان عند البابليين وعند المصريين. والتكهن بحركات الطيور، وتفسير الأحلام. وتفسير بعض الظواهر الطبيعية وما شابه ذلك ذلك وكل هذه كانت معروفة عند الجاهليين.

وليس من الضروري أن يكون التكهن بتكليم الصنم حتما وفي المعبد بالضرورة، فقد كان من الكهان من يقيم في بيته ويتكهن مع ذلك للناس، ينطق بما يوحى إليه وبما يشعر به. وقاصدوه يرون أن فيه قوة خارقة وقابلية لتلقي الوحي من تلك القوة التي يتصورونها على هيأة شخص غير منظرو يلقي إلى الكاهن الوحي، فينطلق بما يناسب المقام وبما يكون جوابا على الأسئلة التي توجه إليه. ويطلقون على ذلك الشخص الخفي اسم "تابع" أو "صاحب" أو "مولى" و"ولي" و"رئي"، لأنه يكون تابعا وصاحبا للكاهن، يتبعه ويصاحبه ويلقي إليه

1 تفسير الطبري "5/ 83 وما بعدها".

2 سورة النساء، الآية 60.

3 تفسير الطبري "5/ 96 وما بعدها".

ص: 333

"الرئي". يكشف له الحجب ويأتيه بالأسرار. فهو "حاز" و"حزاء" و"حازية" و"الراتي" في العهد القديم1.

وكان من رأي الجاهليين أن هناك وحيا يوحى إلى الكاهن بما يقوله، وقد قالوا لذلك المصدر الذي يوحي إليه:"شيطان الشاعر"، ذلك لأن شيطان الكاهن يسترق السمع ويلقي به إلى الكهنة2. يسترقه من السماء، فيأتي به إلى الكاهن ويلقي ما استرقه إليه، فيلقي الكاهن ما ألقي عليه شيطانه إلى الناس، وبذلك يتنبأ لهم3. "سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ناس عن الكهان، فقال: "ليسوا بشيء"، فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانًا بشيء، فيكون حقًّا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق، يخطفها من الجني فيقرها في أذن وليه، فيخلطون معها مائة كذبة" 4.

وقد وردت كلمة" كاهن" في القرآن الكريم في معرض الرد على قريش الذين اتهموا الرسول بأنه "كاهن". وبأنه يقول القرآن على نمط سجع الكهان. فجاء فيه: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} 5، و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 6. فرد عليهم بقوله: "ما هذا القرآن بقول شاعر؛ لأن محمدًا لا يحسن قيل الشعر، فتقولوا هو شعر، قليلا ما تؤمنون. يقول تصدقون قليلا به أنتم، وذلك خطاب من الله لمشركي قريش. ولا بقول كاهن، قليلا ما تذكرو. يقول ولا هو بقول كاهن، لأن محمدا ليس بكاهن، فقولوا هو

1 Reste، S. 134، Shorter Ency. P. 207

2 تاج العروس "9/ 326 وما بعدها" اللسان "17/ 244"، الطبرسي "5/ 349، 367"، بلوغ الأرب "2/ 269"، مروج الذهب "2/ 172 وما بعدها"، مفتاح السعادة، لطاش كبري زاده "1/ 113 وما بعدها"، إرشاد الساري "8/ 398"، مقدمة ابن خلدون "1/ 101 وما بعدها".

3 صبح الأعشى "1/ 398".

4 إرشاد الساري "8/ 400"، صحيح مسلم "7/ 35 وما بعدها"، عمدة القاري "21/ 275"، اللسان "17/ 244"، الروض الأنف "1/ 136"، نهاية الأرب "3/ 128"، "في أخبار الكهان".

5 سورة الطور، الآية 29، تفسير الطبري "27/ 18".

6 الحاقة، الآية 42.

ص: 334

ممن سجع الكهان"1. فكان للكهان أسلوب خاص في كلامهم عند التبؤ والتكهن هو أسلوب السجع. ولذلك عرف بـ "سجع الكهان". وقد امتاز سجعهم هذا باستعمال الكلام الغامض، والتعابير العامة الغامضة التي يمكن تفسيرها تفاسير متناقضة ومختلفة. وهو أسلوب تقتضيه طبيعة التكهن، لكي لا يلزم الكاهن على ما يقوله من قول ربما لا يقع، أو قد يقع العكس. ففي مثل هذه الحالة، يمكن أن يكون للكاهن مخرج باستعماله هذا النوع من الكلام.

وقد ورد أن رسول نهى عن محاكاة الكهان في سجعهم، فذكر عنه قوله:"أسجع كسجع الجاهلية"2.

ويذكر أهل الأخبار أن "تابع" الكاهن، وهو شيطانه وجنيه، كان يسترق في الجاهلية الأخبار من السماء، فيلقي بها إلى الكاهن المختص به. فيخبر الكاهن من يأتي إليه للكاهنة. بقوا على ذلك إلى ظهور النبوة، فلما نزل الوحي انقطعت الكهانة، إذ وجد الشياطين الذين كانوا يسترقون السمع لهم شهابا رصدا. وقالوا إن قوله تعالى:{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} 3، إنما عنى به هذا الحادث. حادث منع الشياطين من استراق السمع4.

ويذكر أهل الأخبار أيضًا أن "القذف بالنجوم قد كان قديما، وذلك موجود في أشعار القدماء من الجهلية. منهم: عوف بن الجزع، وأوس بن حجر، وبشر بن أبي خازم، وكلهم جاهلي. وقد وصفوا الرمي بالنجوم"5. وأن من عقائد أهل الجاهلية أن في تساقط النجوم والشهب دليل على موت عظيم أو ميلاد مولود عظيم6. وذكر أن الرسول كان جالسا مع قوم من الأنصار إذ رمي بنجم فظهر نوره، فقال لهم: "ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في

1 تفسير الطبري "29/ 42".

2 البيان والتبيين "1/ 287".

3 سورة الجن، رقم 72، الآية 8 وما بعدها.

4 تفسير الطبري "29/ 69 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "2/ 10"، "المنيرية"، نهاية الأرب "3/ 124 وما بعدها"، مفتاح السعادة 1/ 293 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 326 وما بعدها"، كهن" مروج الذهب "2/ 152 وما بعدها".

5 الروض الأنف "1/ 135".

6 الروض الأنف "1/ 136 وما بعدها".

ص: 335

الجاهلية؟ " قالوا: يا رسول الله كنا نقول حين نراه يرمى به مات ملك، ولد مولود1.

وقد جعل "المسعودي" حدة الأذهان مع نقصان الأجسام وتشويه الخلق، من جملة العوامل التي دفعت على التكهن والإخبار عن الغيب. وضرب مثلا على ذلك: شق، وسطيح، وسملقة، وزوبعة، وسديف بن هوماس، وطريفة الكاهنة، وعمران أخي مزيقياء، وحارثة، وجهينة، وكاهنة باهلة وأشباههم من الكهان2.

وقد يلحق التابع من الجن أشخاصا لم يشتهروا بالكهانة وإنما عرفوا بشدة ذكائهم ومعرفتهم بعواقب الأمور، مثل "أحيحة بن الجلاح" وكان من أشراف المدينة، وقد اشتهر عندهم بكثرة صوابه وسرعة إدراكه للعواقب. فعللوا ذلك بوجود تابع له من الجن كان يعلمه المغيبات3.

قال "الجاحظ": "وكانوا يقولون، إذا ألف الجني إنسانا وتعطف عليه، وخبره ببعض الأخبار، ووجد حسه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئي من الجن. وممن يقولون ذلك فيه عمرو بن لحي بن قمعة، والمأمور الحارث، وعتيبة بن الحارث بن شهاب.

فأما الكهان، فمثل حارثة جهينة، وكاهنة باهلة، وغزى سلمة، ومثل شق وسطيح وأشباههم4.

والكهان يرون تابعهم، وقد يتجلى لهم في صورة إنسان. ويظهر على صورة رجل للكواهن كذلك. فقد كان للغيطلة، وهي على ما يزعمه أهل الأخبار كاهنة أبوها مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن شنوق بن مرة، وشنوق أخو مدلج، تابع يفد إليها، ويدخل غرفتها، ويجلس تحتها. كما كان لفاطمة بنت النعمان النجارية، وهي كاهنة كذلك، تابع من الجن "كان إذا جاءها، اقتحم عليها في بيتها. فلما كان في أول البعث، أتاها، فقد على حائط الدار ولم يدخل، فقالت له: لم لا تدخل؟ فقال: قد بعث نبي بتحريم الزنى"5.

1 السيرة الحلبية "1/ 140".

2 مروج "2/ 154".

3 الأغاني "13/ 115""ذكر احيحة بن الجلاح".

4 الحيوان "6/ 203 وما بعدها".

5 الروض الأنف "1/ 137".

ص: 336

فالكاهن إذن، هو الذي يتنبأ بواسطة تابع، ولا يستطيع غير الكاهن رؤية التابع. وتكون الكهانة كلامًا يلقيه الكاهن نفسه، أو تابعه، جوابًا عن أسئلة الكاهن. ولما كان التابع روحًا، كان من الطبيعي تصور صدور ذلك الكلام من روح لا يمكن لمسها ولا رؤيتها، ترى وتسمع وتعقل، وتجيب ما يطلب منها الإجابة عنه.

ويكون الكاهن في أثناء تكهنه في غيبوبة أو في شبه غيبوبة في الغالب، ذلك بأنه متصل في هذه الأثناء بعالم مجهد صعب لا يتحمله كان إنسان، ولاتصال الروح فيه، واتصال الروح بجسم الكاهن شيء جد عسير، يتصبب العرق منه. خاصة إذا كان المتكلم الكاهن نفسه.

ويكون التكهن، في الغالب، في مكان هادئ تكتنفه ظلمة أو عتمة، لأن للهدوء والظلام أثرًا عظيمًا في النفوس، ويسبقه حرق بخور في الأكثر يستمر إلى ما بعد انتهاء التنبؤ، لأن البخور من الروائح الطبية التي تؤثر في الأرواح، فتجلبها إلى المكان بسرعة. ثم إن له تأثيرًا خاصًّا في الأعصاب، وهو بذلك مادة صالحة في الإيحاء لمن يقصد استشارة الكهان.

ويروي الإخباريون أن الناس كانوا إذا قدموا على الكهان امتحنوهم ليتأكدوا من صدق تكهنهم ومقدار علمهم. وذلك بإخفاء شيء اخفاء لا يمكن الاهتداء إليه، أو بوضع لغز، أو ما شابه ذلك، فيبدؤون الكاهن بالسؤال عنه. فإذا أجاب جوابا دل على معرفة وسعة علم، سألوه عن الأمر الذي عندهم والذي من أجله قصدوه. ويكون لهؤلاء الكهان أجر يدفع إليهم. والعرف الغالب أن الكهانة لا تكون ولا تصح إلا بتقديم شيء للكاهن، لأن التابع لا يرضى بالتنبؤ إلا إذا رأى حلاوة التنبؤ.

ومن قبيل الامتحانات التي امتحن بها الكهان، امتحان "عتبة بن ربيعة" إلى بعض كهان اليمن ليتأكد من صدق تكهنه قبل النظر في أمر اختلاف ابنته "هند" مع زوجها "الفاكه بن المغيرة" في فرية رماها "الفاكه" زوجته بها1. وامتحان "عبد المطلب" للكاهن "ربيعة بن حذار الأسدي" حين اختصم مع "بني كلاب وبني رباب"2، وامتحان "الكاهن الخزاعي"3 وغير ذلك.

1 نهاية الأرب "3/ 131"، صبح الأعشى "1/ 398 وما بعدها".

2 نهاية الأرب "3/ 133".

3 نهاية الأرب "3/ 132.

ص: 337

وما يعطاه الكاهن وبجعل له على كهانته، يقال له "الحلوان" و"حلوان الكاهن"، وهو شيء غير معين ولا ثابت، إنما يتفق عليه، والرأي الشائع بين العامة حتى الآن أن الكهانة لا تصدق إذا لم يعط الكاهن أو الساحر "حلوانه"؛ لأن ما يقدم إلى الكاهن لا يخصه ولا يكون له، إنما هو للرئي، والرئي لا يقوم بعمله ولا يحسن أداءه إلا بحلوان، يقبله مهما كان، وعلى الكاهن استشارة "التابع" ومراجعته فيه حتى يقنع، ويوافق على الأجر. ولما كان الإسلام قد منع الكهانة، كان من الطبيعي نهيه عن دفع الحلوان1.

والكهان إنما صاروا كهانا، أي متنبئين بالغيب، لأن "الكهنة قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة، وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه"2. وهذا هو تعليل إسلامي بالطبع لمصدر تنبؤ الكهان، أما رأي الجاهليين عنه، فلا علم لدينا عنه، لعدم ورود شيء منهم إلينا.

وتقدم الكهانة على القدرة الشخصية وعلى ذكاء الكاهن، لذلك لم تكن كالسدانة مثلا إرثا ينتقل من الإباء إلى الأبناء، بل كان في إمكان كل شخص يرى في نفسه القدرة على التنبؤ بالغيب والتحدث عما سيحدث للسائلين أن يدعي الكهانة وأن يعد نفسه كاهنا يتكلم باسم الأرباب، وينطق بالقوة الخفية التي توحي إليه بالتنبؤات، فيتخذ له مكانا في معبد أو في موضع آخر أو في بيته ليقصده من يريد استشارته في عظائم الأمور مهما اختلفت وتنوعت عن المستقبل وعن الأخبار وعن الأسرار والمغيبات وعن القيام بعمل من الأعمال.

وفي الأقوال المنسوبة إلى الكهان، قسم بالكواكب كالشمس والقمر وبالنجوم وبالليل وبالنهار وبالأشجار وبالرياح والكلمات وبالجبال والأنهار والطيور وبما شابه ذلك أمور طبيعة، الغرض منها التأثير في نفوس السامعين والإغراب في الكلام، ليكون بعيدا عن الأسلوب المألوفة. وقد رو الإخباريون نماذج من هذا الكلام،

1 "أعطيت الكاهن حلوانه، أي كراء كهانته"، الاشتقاق "2/ 314"، "نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن"، إرشاد الساري "8/ 400"، اللسان "18/ 211"، تاج العروس "10/ 96"، اللسان "14/ 194"، "صادر""حلو"، النهاية "3/ 256 وما بعدها"، مفتاح السعادة "1/ 293 وما بعدها".

2 عمدة القاري "21/ 275"، إرشاد الساري "8/ 398 وما بعدها".

ص: 338

من هذا السجع المعروف بـ "سجع الكهان"، نسبوه إلى أصحابه من كهان الجاهلية. وهي نسبة مهما حاولوا إثبات صحتها وصدق روايتها، فانهم عاجزون في رأيي عن إقناعنا بصحة ما يقولون. كيف حفظوا ذلك الكلام وتناقلوه بالحرف الواج بوزنه وبأسلوبه وبنصه وبفصه إلى أن أوصلوه إلى أيدي العلماء والمدونين فثبتوه بالتدوين؟ وكيف لم يخطئوا في ذلك ولم ينسوا منه حرفا، حتى لكأنه كلام مقدس وارد عن وحي سماوي، فلا بد من المحافظة على نصه وروايته على نحو ما ورد وحفظ؟ وإذا كان العلماء قد تساهلوا في رواية متن حديث رسول الله فسمحوا بالتصرف فيه بشرط المحافظة على المعنى محافظة تامة، لصعوبة التمسك برواية النص على نحو ما ورد عن الرسول. فكيف يعقل محافظة تامة، لصعوبة التمسك برواية النص على نحو ما ورد عن الرسول. فكيف يعقل محافظة الرواة على حرفية كلام الكهان على نحو ما نسب إليهم. وكلام الكهان ليس بشيء بالقياس إلى كلام الرسول، ثم إنه أقدم منه، ولم يكن مدونا ولا مكتوبا في كتاب على ما يفهم من روايات الإخباريين.

وقد كان للكهان على ما يتبين من قصص الإخباريين أثر كبير في حياة العرب قبل الإسلام. فقد كان الناس يستشيرونهم في إبرام مهمات الأمور، كإعلان حرب أو كشف عن جزيمة أو بحث عن شيء مفقود وما شاكل ذلك. لقد كانوا يستشيرونهم في الحروب، يتبؤون للناس بقرب حدوث غزو أو نزول كارثة أو خير سيقع قريبا. لقد كان هجوم بني أسد على "حجر" بمشورة الكاهن وبرأيه، وكان تركهم تميما وافتراقهم عنهم في يوم جبلة بتحذير من الكاهن كذلك1. وقد استعان النعمان أو يزيد بن عمرو الغساني بالكاهن "الخمس التغلبي"، لأخباره عمن تجاسر على ناقته فقتلها، كما استعان "عتبة بن ربيعة" في إثبات نسب ابنته "هند" منه2.

وقد اشترك الكهان أنفسهم في الغزوات وفي الحروب. كانوا يشجعون قومهم ويحثونهم على القتال، وكان بعضهم من مشاهير الفرسان، مثل "زهير بن جناب"، و"جذيمة" العبسي، وقلطف الكاهن، والمأمور كاهن مذحج.

1 الأغاني "10/ 36"، مروج الذهب "2/ 173 وما بعدها"، نهاية الأرب، للنويري "3/ 124"، صبح الأعشى "1/ 398"، Reste، S. 1367

2 الأغاني "10/ 27"، "ذكر مقتل خالد بن كلاب"، صبح الأعشى "1/ 338 وما بعدها". Reste، S. 136.

ص: 339

ولم يكن الكهان من الطبقات الدنيا عند عرب الجاهلية، ولا من سواد الناس. لقد كان منهم من هو من سادة القبيلة ومن الأشراف. ولا بد أن يكونوا من هذه الطبقة، ليكون حكمهم نافذا بين الناس بما لهم من عز ومنزلة وجاه. وقد عد الإخباريون "زهير بن جناب" رئيس كلب في جملة الكهان1. وقد كان للقبائل "كهان" تلتجئ إليهم في الملمات، لتستشيرهم وتعمل برأيهم في الغزو والحرب. يسيرون معها، وقد يقودونها في المعارك.

وقد كان لكل قبيلة كاهن منها أو عدة كهان، تلتجئ القبيلة إليهم لاستشارتهم في كل أمر عظيم يحدث لهم. ولا يشترط أن يكون كاهن القبيلة رجلا، إذ يجوز أن يكون امرأة. وكان كاهن ثقيف "قريش" عند ظهور الإسلام رجل يقال له "خطر"، وكان لجنب كاهنهم كذلك، وكان لقريش حين ظهور الإسلام كاهنة تدعى "سوادء بنت زهرة بن كلاب"، وهكذا كان شأن بقية القبائل. فلما ظهر الإسلام، ودع أولئك الكهان رئيهم وتابعهم، وكهانتهم، إذ نهى الإسلام عنها، وقد كان لبعضهم أثر معهم أثر مهم في إعداد قبائلهم للدخول في الإسلام2.

وقد أشار بعض الكتبة الكلاسيكيين إلى وجود كهان عند العرب، كما إنه ورد في كتابات طور سيناء ما يدل على وجودهم عند القبائل3.

ولم يكن الكاهن، كاهنا، بمعنى المخبر عن المغيبات فقط، بل كان حاكما يحكم بين الناس فيما يقع بينهم من خلاف. فالكاهن حاكم يفصل في الخصومات. وقد كان أكثر حكام العرب كهانا، يقصدهم المتخاصمون من مواضع بعيدة لما عرفوا به من إصالة الرأي، وصحة الحكم.

وقد ذكر أن الكاهن كان لا يلبس المصبغ. أما العراف فإنه لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه4، ويدل ذلك على أنهما كانا يميزان أنفسهما بمميزات وعلامات وأنهما كانا يتجنبان بعض الأمور.

1 الأغاني "8/ 66، "15/ 73"، "21/ 99".

2 الروض الأنف "1/ 137 وما بعدها"، مفتاح السعادة، "1/ 113 وما بعدها"، نهاية الأرب "3/ 124"، صبح الأعشى "1/ 398".

3 Ency. ReIigi، I،p. 667

4 تفسير الطبري "18/ 57"، ثمار القلوب "193"، بلوغ الأرب "3/ 407".

ص: 340

وقد اشتهر في الجاهلية عدة كهان ذكر الإخباريون أسماءهم، منهم: شق، وسطيح، وأوس بن ربيعة، والخمس التغلبي، وعزى سلمة الكاهن، ونفيل ابن عبد العزي، وخنافر بن التوأم الحميري، وسواد بن قارب الدوسي، وعمرو بن الجعيد، وابن الصياد، والأبلق الأزدي، والأجلح الدهري، وعروة بن زيد الأزدي، ورباح "رياح" بن عجلة، وهو معروف بعراف اليمامة، والكاهن الخزاعي، ورباح "رياح" بن عجلة، وهو المعروف بعرافة اليمامة، والكاهن الخزاعي، وهو جد "عمرو بن الحمق"، وكان منزله بعسفان، وإليه احتكم هاشم وأمية1، و"كهال"، أحد الكهنة الجاهليين2.

وأشهر الكهان وأعرفهم: شق وسطيح، وللأخباريين عنهما قصص أخرجهما من عالم الواقع، وجعلهما في جملة الأشخاص الخرافيين. فشق في زعمهم إنسان له يد واحدة وعين واحدة، وجعلوه من المتشيطنة صورته صورة نصف آدمي. وذكروا أنه كان معاصرا لمالك بن نصر اللخمي، وأنه استدعاه واستدعى سطيحا مع لتفسير رؤيا رآها أفزعته، وأنهما أخبراه بوقوع غزو الحبشة لليمن وبظهور سيف بن ذي يزن. وقالوا: إنه من بني جليحة، وأنه عمر ثلاثمائة سنة3. وقالوا أن سطيحا كان كتلة من لحم يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة، وأن وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، وكان في عصر من أشهر الكهان، وأن كسى بعث إليه عبد المسيح بن بقيلة الغساني ليسأله في تأويل رؤيا رآها، فأخبره بظهور أمر رسول الله وبقرب زوال ملك العجم، فأخبر "عبد المسيح" كسرى بذلك4.

وزعم أن سطيحا جسد ملقى لا جوارح له، ولا يقدر على الجلوس، إلا إذا غضب انتفخ فجلس. وكان شق شق إنسان، له يد واحدة، ورجل واحدة، وعين واحدة. وولد سطيح وشق في اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة،

1 تاج العروس "9/ 326"، بلوغ الأرب "2/ 269 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 175 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "2/ 10"، البيان والتبيين "1/ 289"، نهاية الأرب "3/ 132"، الثعالبي، ثمار "105 وما بعدها" Reste، S. 136 f.

2 تاج العروس "8/ 106"، "كهل".

3 الاشتقاق "303"، المستطرف "2/ 80 وما بعدها"، "ربيعة بن نصر اللخمي"، الأزمنة والأمنكة "2/ 193"، الاشتقاق "286".

4 القزويني: عجائب المخلوقات "1/ 371""طبعة وستنفلد"، الطبري "2/ 99"، نهاية الأرب "3/ 128 وما بعدها"، "في أخبار الكهان" Ency. VoI IV p 370

ص: 341

امرأة "عمرو بن عامر"، وهي بنت الخير الحميرية، ودعت بسطيح قبل أن تموت، فأتيت به، فتفلت في فيه، وأخبرت إنه سيخلفها في علمها وكهانتها. وكان وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، ودعت بشق ففعلت به ما فعلت لسطيح، ثم ماتت وقبرها بالجحفة1.

وقد ذكر "المسعودي"، نسب الكاهن "شق" على هذا النحو:"شق بن مصعب بن شكران بن أترك بن قيس بن عنقر بن أنمار بن ربيعة بن نزار" وذكر نسب "سطيح" على هذه الصورة: "هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان"2. وعاه بـ "سطيح الغساني" في موضع آخر. وأورد سجعا من سجعه، كما أورد أخبارا لشق المعاصر له3.

وقد دعاه "الجاحظ" بـ "سطيح الذئبي"، كما دعاه "ابن إسحاق" بذلك، لأنه ينسب إلى جد اسمه "ذئب"4.

وإذا كانت رواية أهل الأخبار عن وجود الكاهن "سطيح" صحيحة، فيجب أن يكون قد عاش في القرن السادس للميلاد، إذ هم يذكرون أنه كان معاصرا لكسرى أنو شروان، وللنعمان بن المنذر، ويروون أنه أخبر "عبد المسيح بن حسان" الذي جاء إليه ليستفسر منه عن رؤيا رآها كسرى في منامه فأزعجته، فأخبره بمولد الرسول. وذكروا أيضًا أن كسرى كان يستعين في حكمه بالكهان، فيستشرهم، وإنه لديه ثلثمائة وستون كاهنا وسحرة ومنجمين، وكان من بينهم كهنة من العرب، وأشهرهم: السائب5.

وذكر بعض أهل الأخبار "أن خالد بن عبد الله القسري كان من ولد شق هذا. فهو خالد بن عبد الله بن أسد بن كرز. وذكر أن أن كرزا كان دعيا، وإنه كان من اليهود فجنى جناية، فهرب إلى بجيلة، فانتسب فيهم. ويقال كان عبدًا لقيس، وهو ابن عامر ذي الرقعة. وسمي بذي الرقعة، لأنه

1 الروض الأنف "1/ 18 وما بعدها".

2 مروج الذهب "2/ 160"، "دار الأندلس"، سيرة ابن إسحاق "47"، "طبعة أوربة"، عجائب المخلوقات "310"، الحيوان "3/ 210"، "6/ 204، 206 وما بعدها".

3 مروج الذهب "2/ 175 وما بعدها"، الحيوان "3/ 204"، "6/ 204"،

4 الحيوان "3/ 210"، البيان والتبيين "1/ 281"، ابن إسحاق "47"، "كوتنكن".

5 تاريخ الخميس "1/ 322"، نهاية الأرب "3/ 128 وما بعدها".

ص: 342

كان أعور يغطي عينه برقعة ابن عبد شمس بن جون بن شق الكاهن بن صب"1. ويظهر أن أعداء "القسري" قد أوجدوا له هذه القصة للحط منه، كما أوجدوا قصصًا شبيهًا بهذه القصة، حكوها عن ثقيف، نكاية بالحجاج المكروه.

وإلى هؤلاء تجب إضافة "الأفعى الجرهمي"، وكان منزله بنجران، وإليه، احتكم ولد نزار في إرث والدهم2.

ورووا أن الكاهن "الخزاعي" كان من الكهان المعروفين وإليه تحاكم "أمية بن عبد شمس" و"هاشم بن عبد مناف" في أمر مفاخرتهمان فحكم لهاشم على أمية، فخرج إلى الشام وأقام بها عشر سنين. وإنه قال في حكمه كلامًا مسجعًا ختمه بقوله:"ولأمية أواخر"، فكانت أول عداوة بين بني هاشم وبني أمية3. وهكذا جعلوه يتنبأ بظهور ملك بني أمية. وربما كان هذا الملك هو الذي أوحى إلى مفتعل القصة بإبداع موضوع اختيار "أمية" الشام لتكون دارًا له أقام بها مدة نزاعة مع هاشم، فحكم أن الملك عليها كان مكتوبا لبني أمية منذ عهد الجاهلية.

وتشبه هذه القصة، قصة شك "الفاكه بن المغيرة" في سيرة زوجه "هند بنت عتبة بن ربيعة"، وتكلم الناس فيها، وذهاب والدها وزوجها بها إلى كاهن من كهان اليمن، فلما امتحنه عتبة، وتبين له أن الكاهن حاذق لا يخطئ قال له: قد جئناك "في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يأتي إلى كل واحدة منهن ويضرب بيده على كتفها، ويقول لها: انهضي حتى بلغ هندًا. فقال: انهضي غير رسحاء ولا زانية وستلدين ملكًا اسمه معاوية، فنهض إليها الفاكه، فأخذ بيدها، فجذبت يدها من يده، وقالت إليك عني، فوالله لأحرص أن يكون ذلك من غيرك! فتزوجها أبو سفيان، فولدت له أمير المؤمنين معاوية"4. وهي قصة تتحدث عن نفسها، ولا حاجة لي إلى إبداء أي تعليق عليها.

وكان "صاف بن صياد" يتكهن ويدعي النبوة. وخبأ له النبي خبيئًا فعلمه.

1 الروض الأنف "1/ 19".

2 مجمع الأمثال "1/ 17 وما بعدها".

3 المستطرف "2/ 81"، نهاية الأرب "3/ 123 وما بعدها".

4 المستطرف "2/ 82"، نهاية الأرب "3/ 131 وما بعدها"، "الباب الثالث من القسم الثاني من الفن الثاني. في أخبار الكهنة".

ص: 343

وكان يدعي أن شيطانه كان يأتيه بما خفي من أخبار الأرض1. ويذكر أن الرسول سأله: كيف يأتيك هذا الأمر؟ قال: يأتيني صادقًا وكاذبًا2. وأن رسول الله ذهب إليه ليرى أمره وكان "ابن صياد" في نخل، فكلمه رسول الله. وذكر أنه انطلق مرة مع "عمر بن الخطاب" في رهط قبل ابن صياد، فوجده عند "أطم بني مغالة"3.

وكان في بني لهب كاهن لهم يقال له خطر بن مالك، وكان في أيام الرسول. وكان إذ ذاك شيخًا كبيرًا4. وكان "أبو برزة" الأسلمي من الكهان المعروفين في المدينة أيام الرسول، وقد تحاكم إليه بنو قريظة وبنو النضير في أمر الديات التي كانت بينهما5.

وذكر أن "خطر بن مالك" كان من أعلم كهان "بني لهب"، وأنهم كانوا يأتونه في الملمات، أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة، وقد تنبأ لقومه بانقطاع الكهانة وظهور الرسول بمكة حين سألوه عن سبب تساقط النجوم في السماء6.

وكان في دوس كاهن اسمه سواد بن قارب الدوسي أو السدوسي. وقد وفد مع وفد من قومه على الرسول وأسلم معه أمامه. وكان له رئي يأتي إليه7. وذكر أهل الأخبار أنه كان حاذقا في الكهانة، مصيبا بها، "خرج خمسة نفر من طيء من جور الحمى، منهم: برج بن مسهر، أحد المعمرين وأنيف بن حارثة، ولأم عبد الله بن سعد والد حاتم، وعارف الشاعر، ومرة بن عبد رضا، يريدون سواد بن قارب، ليمتحنوا علمه، فقالوا: ليخبئ كل منا خبيا ولا يخبر أصحابه، فإن أصاب عرفنا علمه، وإن أخطأ ارتحلنا عنه. ثم وصلوا إليه فأهدوا إليه إبلا وطرفا، فضرب عليهم قبة ونحر لهم، فلما مضت ثلاثة أيام دعاهم، فتكلم برج، وكان أسنهم فذكر القصة بجميع ما خبأوه ثم بمعرفته بأعيانهم وأنسابهم فقال فيه عارف الشاعر:

1 الروض الأنف "1/ 137"ز

2 مقدمة ابن خلدون "1/ 95 وما بعدها".

3 زاد المسلم "2/ 104 وما بعدها".

4 الروض الأنف "1/ 138 وما بعدها".

5 تفسير الطبري "5/ 97 وما بعدها".

6 السيرة الحلبية "1/ 139".

7 الروض الأنف "1/ 139 وما بعدها"، نزهة الجليس "1/ 277".

ص: 344

الله أعلم لا يجاري

إلى القالات في حصني سواد

كأن خبيئنا لما انتخبنا

بعينه يصرح أو ينادي1

ومن الكهان المعروفين "الحصين بن نضلة" وقد عرف بـ "الكاهن"، وقيل: إنه سيد أهل تهامة في أيامه2. و"عمر بن الحمق"، وقد أسلم وصحب النبي، وشهد المشاهد مع علي3.

وكان "ربيعة بن حذار الأسدي" من الكهان المعروفين، وإليه تحاكم "بنو كلاب" و"بنو رباب" لما خاصموا "عبد المطلب" في مال قريب من الطائف فحكم لـ "عبد المطلب"4.

وذكر "المسعودي" اسم كاهنين، دعاهما بـ"سملقة" و"زوبعة"5. وقد أشار "الجاحظ" إليهما في معرض كلامه على الخرافات6.

وأشار "الجاحظ" إلى كاهن ظهر في "بني جهينة"، عرف بـ "حارثة جهينة"7، وإلى "عزى سملة". وقد قال الجاحظ" عن "عزى"، أنه كان من أكهن العرب وأشجعهم. ودعاه بـ "سلمة بن أبي حية"8.

وكان "خنافر بن التوأم الحميري" كاهنا، وكان قد أوتي بسطة في الجسم، وسعة في المال، وكان عاتيا، فلما وفدت وفود اليمن على النبي، وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر، فحالف "جودان ابن يحيى الفرضمي"، وكان سيدا منيعا، ونزل بواد من أودية الشحر، ثم جاءه "شصار" رئيه، فنصحه بالعودة إلى اليمن، والدخول في الإسلام. فأسلم على يد معاذ بن جبل بصنعاء، فترك الكهانة وتعلم سورا من القرآن9.

1 الإصابة "2/ 59"، "رقم 3582".

2 الاشتقاق "ص279".

3 الاشتقاق "279"، الإصابة "2/ 526"، "رقم 5820".

4 نهاية الأرب "3/ 133".

5 مروج الذهب "2/ 160، 176".

6 الحيوان "1/ 309".

7 الحيوان "6/ 204"، مروج الذهب "1/ 337"، ثمار القلوب "81".

8 الحيوان "6/ 204"، البيان والتبيين "1/ 195"، رسائل الجاحظ "130".

9 الامالي، للقالي "1/ 134 وما بعدها"، الإصابة "1/ 456"، "رقم "2342"، تاج العروس "3/ 192"، "حنافر".

ص: 345

الإسلام ومن الكهان "المأمور"، وهو "الحارث بن معاوية" الكاهن. وكانت مذحج في أمره تتقدم وتتأخر1. و"قلطف"، وهو من طيء2.

وكان "زهير بن جناب الكلبي"، و"جذيمة" العبسي، كهانا3. وزهير من الفرسان، فكان من فرسان كلب، وكان شاعرا4.

ويعد "الافكل" من الكهان الفرسان، وله فرس اسمه هبود5.

ولم تحرم النساء الكاهانة، فكان لهن فيها حصة ونصيب. وقد حفظ الإخباريون أسماء عدد من الكهانات اشتهرت كهانتهن في الجاهلية، منهن طريفة الكاهنة، وزبراء وسلمى الهمدانية، وعفيراء الحميرية، وفاطمة بنت مر الخثعمية، وسجاح، وغيرهن. وقد نسبوا إلى طريفة إخبارها عمرو بن عامر أحد ملوك اليمن بزوال ملكه وبخراب سد مأرب، وذكروا إنها سارت مع القبائل حين خافت سيل العرم6. ونسبوا إلى بقية الكاهنات أمثال هذا القصص عن أمور ستقع قالوا إنها وقعت كما تنبأن به.

وذكر "المسعودي"، أن "طريفة" كانت كاهنة لعمرو بن عامر. وقد نعتها بـ "طريفة الخير". وقد تنبأت له بقرب تهدم السد، وظهور سيل العرم. كما تنبأ بذلك أخ للملك اسمه "عمران"، وكان عقيما كاهنا، فوقع ما تنبآ به7.

وكان من شهيرات الكاهنات أيضًا "الغيطلة"، وهي "أم الغياطل"، وهي من "بني مرة بن عبد مناة بن كنانة"8. وقيل:"الغيطلة بنت مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن شنوق مرة. وشنوق أخو مدلج". وقد عرف ولدها بالغياطل، وهم من بني سهم بن عمرو بن هصيص9.

1 الاشتقاق "2/ 238".

2 الاشتقاق "2/ 237".

3 المشرق، السنة 1938م، "الجزء الاول"، "ص7".

4 معجم الشعراء "130"، الشعر والشعراء "223".

5 المشرق، السنة "1938م، "الجزء الأول ""ص9".

6 بلوغ الأرب "2/ 283 وما بعدها"، الأغاني "13/ 105""ذكر خبر مضاض بن عمرو"، الطبري "2/ 244"، مروج الذهب "2/ 175". Reste، S. 137.

7 مروج الذهب "2/ 167 وما بعدها".

8 الروض الأنف "1/ 138 وما بعدها".

9 الروض الأنف "1/ 137 وما بعدها".

ص: 346

ويقال أيضًا أن "سعدي بنت كريز بن ربيعة" كانت قد تكهنت، وهي خالة عثمان بن عفان1.

وكان لفاطمة بنت النعمان النجارية تابع من الجن، وكان إذا جاءها اقتحم عليها في بيتها، وقد أدركت مبعث الرسول2.

وكانت سوداء بنت زهرة بن كلاب، كاهنة قريش. ويذكر أعطاها لحافر قبور ليحفر لها قبرا في الحجون، فيدفنها حية فيه. أي يئدها، لأنها ولدت زرقاء شيماء، وكانوا يئدون من البنات من كان على هذه الصفة، غير أن حافر القبر عاد بها إلى والدها، لأنه لم يشأ دفنها في خبر يرويه أهل الأخبار3.

وكان في "خثعم" كاهنة عرفت بفاطمة4.

ولاستشارة الناس هؤلاء الكهان في الأمور وطلبهم منهم الفصل صارت كلمة "حكم" مرادفة لكلمة "كاهن" في بعض الأحايين. وقد روى الإخباريون أمثلة عديدة من حكم هؤلاء الكهان بين الناس وطريقة فصلهم في الأمور، فهم في هذه الحالة حكام يفصلون في القضايا التي يتفق الجانبان المتخاصمان فيها على إحالتها عليهم. ولم تكن لنفوذ أحكامهم مناطق وحدود. لقد كان حدود أحكامهم المدى الذي وصلت شهرة الكاهن إليه، لذلك كان الناس يقصدون الكاهن من مناطق بعيدة في بعض الأحيان لشهرته الواسعة التي يتمتع بها بين الناس. وتتوقف هذه الشهرة بالطبع على مبلغ ذكاء ذلك الكاهن وقدرته في فهم طبيعة المتخاصمين أو السائلين، ليتمكن من إصدار حكم معقول مقبول. وتكون أحكامهم قطعية، على الطرفين اطاعتها المتخاصمين قبل سماعه الشكوى عهدا بوجوب الامتثال لحكمه وعدم رده مهما كان نوع الحكم.

1 نهاية الأرب "3/ 126"، "3/ 130"، "طبعة وزراة الثقافة والإرشاد القومي في الجمهورية العربية المتحدة".

2 الروض الأنف "1/ 137".

3 الروض الأنف "1/ 141".

4 أنساب الأشراف "1/ 79".

ص: 347

‌العراف:

ويطلق بعض علماء اللغة على الكاهن "العراف" فهو عندهم مرادف للكاهن. غير أن من العلماء من يفرق بين الكلمتين، ويرى بينهما فرقا، فالكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار، والعراف هو الذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما، أو الذي يزعم إنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله1. ومنهم من يذهب إلى أن العراف من اختص بالإنباء عن الأحوال المستقبلة. أما الكاهن فهو الذي اختص بالإخبار عن الأحوال الماضية2. وقد فرق بين الكاهن والعراف في حديث: "من أتى عرافا أو كاهنا

" 3. وأطلق بعضهم العراف على من يدعي الغيب مطلقا وفي ضمنهم المنجم والحازي4.

وذكر أن "العراف" الكاهن أو الطبيب أو المنجم أو الحازي الذي يدعي علم الغيب5. فللكمة معان عديدة، ولا تختص بمعنى واحد. وقد ذهب "المسعودي" إلى أن العراف دون الكاهن6. ونجد هذه النظرة عند غيره أيضًا.

وخلاصة ما يفهم عن الكهانة والعرافة في روايات الإخباريين أن الكهانة هي التبؤ بواسطة تابع. وأن العرافة تكون بالملاحظات وبالاستنتاجات وبمراقبة الأشياء لاستنتاج أمور منها، يخبربها السائلون على سبيل التنبؤ. وهي على ما يظهر من تلك الروايات، دون الكهانة في المنزلة، ولم يكن للعرافين اتصال ببيوت العبادة والأصنام7، ولم يكن لهم "رئي" أي "تابع"، وإنما كانوايستنبطون ما يقولونه بذكائهم وعلى القياس. فيأخذون بالمشابهة وبالارتباط بين الحوادث، ويحكمون بما سيحدث بموجب ذلك8.

وقد عد العبرانيون العرافة من الحيل الشيطانية كالسحر والتفاؤل، لأنها من

1 النهاية "4/ 43".

2 تاج العروس "6/ 193".

3 النهاية "3/ 98".

4 تاج العروس "6/ 193".

5 تاج العروس "6/ 193".

6 مروج "2/ 154".

7 "وأما العراف، وهو دون الكاهن"، الحيوان "6/ 204".

8 مفتاح السعادة "1131 وما بعدها".

ص: 348

رجس المشركي. وتشمل عندهم التنجيم والقرعة والزجر وما شاكل ذلك1. وقد نهي عنها في الإسلام.

وقد اعتمد العراف على الخط. فكان يخط خطوطا، ثم ينظر إليها، ليستنبط شيئًا منها، يتنبأ به للناس. ومن مشاهيرهم "حليس الخطاط الأسدي". وقد ذكر أنهم كانوا يخطون خطوطا، ثم ينظر العراف ويقول:"ابنا عيانن اسرعا البيان، ثم يخبر بما يرى"2.

وتعتمد العرافة -كما تعتمد الكهانة- على الذكاء والتفرس في الأمور والتجارب. وقد خصصها أكثر الناس في الإسلام بالتوصل إلى معرفة الأشياء المفقودة. والعراف بما عنده من الملكات والمواهب المذكورة، يقضي ويتنبأ للناس فيما يراه، ومن أشهر العرافين في الجاهلية: عراف اليمامة، وهو "رباح بن كحلة""رباح بن عجلة" رياح بن كحلة" المذكور في الشعر، وعراف نجد وهو الأبلق الأسدي3. والأجلح الزهري، وعروة بن زيد الأسدي4.

وفي عراف اليمامة ورد قول الشاعر:

فقلت لعراف اليمامة داوني

فإنك إن داويتني لطبيب

والأبلق الأسدي، هو عراف نجد، وفيه يقول عروة بن حزام:

جعلت لعراف اليمامة حكمه

وعراف نجد إن هما شفياني5

وقد كان أهل الجاهلية يعرضون صبيانهم على "العرافين" لإخبارهم عن

1 قاموس الكتاب المقدس "3/ 93".

2

فأنتم عضاريط الخميس إذا غزوا

غناؤكم تلك الأخاطيط في الترب

الحيوان "1/ 63".

3 بلوغ الأرب "3/ 306 وما بعدها"، قال عمرو بن حزام العذري:

وقلت عراف اليمامة داوني

فإنك إن أبرأتني لطبيب

فما بي من سقم ولا طيف جنة

ولكن عمي الحميري كذوب

تاج العروس "6/ 193"، "فقلت"، الحيوان "6/ 205"، مروج الذهب "2/ 154"، ثمار القلوب "81".

4 الحيوان "6/ 204"، "الازذي"، مروج "2/ 154"، "دار الأندلس".

5 مروج الذهب "2/ 154"، "العرافة وبعض العرافين"، رسائل الجاحظ "130"، مقدمة ابن خلدون "94 وما بعدها"، الحيوان "6/ 204"، "1/ 63".

ص: 349

مستقبلهم. وكانت الأسواق مثل سوق عكاظ موئلا لهم. فكان العراف فيها يربه الناس صبيانهم، ويقول عنهم ما يجول بخاطره، وذلك بالتفرس في وجه الصبي، ومفارنة ذلك بما حصل عليه من تجارب في هذا الباب1.

وفي اللغة العربية كلمة قديمة أخرى لها صلة بموضوعنا هذا، هي "القيافة". ويقصد به التنبؤ والإخبار عن شيء بتتبع الأثر والشبه2. وتدخل في ذلك قيافة آثار الأقدام والأخفاف والحوافر للاستدلال مها على أصحابها، وتعيين النسب في حالة الشك فيه. وما زالت القيافة معروفة عند العرب حتى الآن. وقد اشتهرت بها "بنو مدلج" خاصة، حتى قيل للقائف "مدلجي" بسبب هذا الاختصاص3، وبنو لهب4، وأحياء مضر5.

ويرى "المسعودي" أن القيافة من الأمور التي برع بها العرب واختصوا بها، وصار لهم مران وخبرة بها، وذكر أن ممن عرف واشتهر بها "محرز المدلجي"، وقد تعجب الرسول من قيافته وصدقه6.

وذكر أهل الأخبار أن "الحازر"، هو من يحزر الأشياء، وأن "الحزارة" في معنى القيافة.

وأما "الفراسة"، فتكون بالاستدلال بهيأة الإنسان وأشكاله وأقواله على صفاته وطبائعه. وقد ذهب بعض المستشرقين بهيأة الإنسان وأشكاله وأقواله على صفاته وطبائعه. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أنها من الكلمات المعربة التي أخذت من "بني إرم"، وإنها أحدث عهدا من لفظة "القيافة" التي هي من الكلمات العربية الجاهلية7. وقد توسع في معناها وألف فيها الكتب في الإسلام وتبحر فيها بعض أئمة الفقهاء مثل الشافعي8.

وأما "العيافة" فهي التنبؤ بملاحظة حركات الطيور والحيوانات ودراسة أصواتها،

1 السيرة الحلبية "1/ 114".

2 اللسان "11/ 201 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 144".

3 المستطرف "2/ 82"، Ency.، II، p. 1048، Muh. Stud، I، S. 184.

4 بلوغ الأرب "3/ 262".

5 مروج "2/ 149".

6 مروج الذهب "2/ 150".

7 Ency.، II، p. 108.

8 النهاية "3/ 207 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 263 وما بعدها"، نهاية الأرب "3/ 149".

ص: 350

وقراءة بعض أحشائها، ولذلك قيل في العبرانية للعائف "الشاق"، لشقه الحيوانات والطيور لدراسة أحشائها واستخراج الخبر مما يراه على تلك الأحشاء من ألياف يرى أن في أوضاعها معاني يذكرها للسائل على شكل نبوءة1. وكانت معروفة خاصة عند الكلدانيين.

وقد اشتهرت "بنو أسد" بالعيافة، فقصدها الناس للأخذ منها، حتى الجن سمعت بعيافتها، وعجبت منها، فجاءت إليها تمتحنها في هذا العلم2.

واشتهرت "بنو لهب" بالعيافة كذلك، ولهب حي من الأرد. ومن هؤلاء "العائف اللهبي"، "لهب بن أحجن بن كعب"، وهو الذي تكهن بموت عمر بن الخطاب قبل وقوعه بعام3.

والزجر العيافة، وهو يزجر الطير يعافها. وأصله أن يرمي الطير بحصاة ويصيح، فإن ولاه في طيرانه ميامنه تفاءل به أو مياسره تطير. وهو ضرب من التكهن. وإنما سمي الكاهن زاجرا، لأنه إذا رأى ما يظن إنه يتشاءم به زجر بالنهي عن المضي في تلك الحاجة برفع صوت وشدة4.

وتطلق لفظة "الحازي" على من يحزر الأشياء ويقدرها بظنه، فهي من الكلمات المستعملة في الكهانة، ويطلق على من يشتغل بالنجوم اسم "حزاء"، لأنه ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره5. وأطلقت أيضًا على من يزجر الطير، ولا سيما الغراب6.

1 تاج العروس "1/ 207"، قاموس الكتاب المقدس "2/ 129".

2 "وبنو أسد يذكرون بالعيافة ويوصفون بها، قيل عنهم أن قوما من الجن تذكروا عيافتهم، فأتوهم، فقالوا: ضلت لنا ناقة، فلو أرسلتم معنا من يعيف. فقالوا: لغليم منهم: انطلق معهم، فاستردفه أحدهم، ثم ساروا، فلقيهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام وبكى، فقالوا: مالك؟ فقال: كسرت جناحا ورفعت جناحا، وحلفت بالله صراحا، ما أنت بانسي ولا تبغي لقاحا"، تاج العروس "6/ 307"، اللسان "11/ 167 وما بعدها".

3 الروض الأنف "1/ 118 وما بعدها". قال عبد الرحمن الخزاعي:

تيممت لهبا أبتغي العلم عندهم

وقدرد علم العائفين إلى لهب

تاج العروس "1/ 475"، "لهب".

4 تاج العروس "3/ 234"، "لهب".

5 الروض الأنف "1/ 118 وما بعدها".

6 النهاية "1/ 257".

ص: 351

وقد أشير في كتب أهل الأخبار إلى "حازي" عرف واشتهر بين الجاهليين بـ "حازي جهينة"1.

1 البيان والتبيين "1/ 289".

ص: 352

‌الراقي:

ويقال لمن يعمل الرقية ويرقي: "الراقي". والرقية العوذة التي يرقي بها صاحب الآفة كالحمى والصرع. قال عروة:

فما تركا من عوذة يعرفانها

ولا رقية إلا بها رقياني1

ويقال لأجرة الراقي: "البسلة" و"بسلة الراقي". و"البسل" الحلال، والبسل أيضًا الحرام، فهو من الأضداد. وبسل الدعاء بمعنى آمين، أي الاستجابة. وكان الرجل إذا دعا على صاحبه، يقول: قطع الله مطاك. فيقول الآخر: بسلا بسلا، أي آمين آمين2.

1 تاج العروس "10/ 154"، "رقى".

2 تاج العروس "7/ 227"، "بسل"، الروض الأنف "1/ 75".

ص: 352

‌الاستقسام بالأزلام:

ومن طرق التنبؤ الاستقسام بالأزلام ويقابل ذلك ما يقال له "كسيم""كسم""Gasam" في العبرانية. وهي طريقة معروفة عند البابليين كذلك4. وعند غيرهم من الشعوب. وقد أشير في التوراة إلى أن "نبو ختنصر""بختنصر""نبخد نصر" Nebuchadnezzar" أجال السهام حين عزم على فتح "أورشليم "القدس". "فإن ملك بابل قد وقف عند أم الطريق في رأس الطريقين ليباشر عرافة. فأجال السهام وسأل الترافيم ونظر في الكبد"1. وقد خرج السهم الذي كتب عليه "أورشليم"، فعمل به وهاجم القدس وفتحها2.

1 حزقيال، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 21.

2 Hastings، p. 567.

ص: 352

وتعني لفظة "كوسيم "Gosem" و"Gesem" "Kosem" العرافة في العبرانية1. من أصل "كسم" "قيسم" وهو التكهن. وهو أصل "سامي". وإليه تعود كلمة "الاستقسام"، لا إلى "قسم" بمعنى تقسيم الشيء وتجزئته. وهو المعنى الذي ذهب إليه أكثر علماء اللغة. وقريب من معنى "قيسم" "كيسم" ما ذكره علماء اللغة من أن القسم هو الحظ والنصيب. فإن للحظ والنصيب علاقة وثيقة بالتكهن، لما فيه من معرفة المستقبل والوقوف عليه.

وقد عرف أهل الأخبار "الأزلام": إنها السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. وعرفوا "الزلم"، إنه السهم، وإنه القدح المزلم2. وعرفوا القدح: إنه السهم قبل أن ينصل ويراش. وأن القدح: قدح السهم، وجمعه قداح، وصانعه قداح3. وقد فسر بعض العلماء الأزلام بأحجار بيض تشبه أحجار الشطرنج، كما جعل بعض آخر تلك السهام في مقابل "الكعاب" التي يستعلمها الروم والفرس في الاستخارة4. وذكر بعض آخر أن "الأزلام: سهام كانت لأهل الجاهلية مكتوب على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، فإذا أراد الرجل سفرا أو أمرا، ضرب تلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه أمرني ربي مضى لحاجته، وإن خرج الذهي عليه نهاني ربي لم يمض في أمره"5. وذكر أن الأزلام التي كانوا يستقسمون بها غير قداح الميسر، وإنها قداح الأمر والنهي لا قداح الميسر6. وذكر أن أهل الجاهلية، كانوا إذا أرادا أن يخرجوا في سفر، جعلوا قداحا للجلوس والخروج، فإن وقع الخروج خرجوا، وإن وقع الجلوس جلسوا7.

وطريقة الضرب بالقداح، أن الرجل منهم إذا اراد أن يخرج مسافرا، كتب في قدح هذا يأمرني بالمكث، وهذا يأمرني بالخروج، وجعل معهما أزلاما مسحة،

1 العدد، الإصحاح الثالث والعشرون، الآية 23، صموئيل الأول، الإصحاح السادس، الآية2، أشعياء، الإصحاح الرابع والأربعون، الآية 25.

2 اللسان "12/ 270".

3 اللسان "2/ 556""قدح"، تاج العروس "2/ 202"، "قدح".

4 تفسير الطبري "12/ 478 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 59 وما بعدها".

5 اللسان "12/ 478 وما بعدها"، "قسم"، "صادر".

6 اللسان "12/ 479"، "قسم"، تاج العروس "6/ 417"، "قسم".

7 تفسير الطبري "6/ 42 وما بعدها".

ص: 353

أي لم يكتب فيها شيئًا، وثم استقسم بها حين يريد الخروج، فإن خرج الذي يأمر بالمكث، مكث، وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج، وإن خرج الآخر أي المسح، أجالها ثانية يخرج أحد القدحين1. وهكذا يفعلون في سائر أمور الاستقسام.

وقد جمع المفسرون ما تمكنوا من جمعه عما علق في أذهان الناس من الأزلام، لورود الإشارة إليها ف موضعين من سورة "المائدة"2. وأورد علماء الحديث والأخبار ما وصل إلى علمهم أيضًا من "الاستقسام" بالأزلام". ويظهر مما ذكروه أن أهل الجاهلية كانوا يقيمون في أيامهم وزنا كبيرًا للاستقسام بالأزلام لاعتقادهم أن يحكي إرادة الأرباب ويتحدث عن مشيئتها. لذلك كانوا لا يفعلون فعلا ولا يعملون عملا إلا بعد أخذ رأيها بالاستقسام. فإن جاء أمر فعلوا، وإن جاء نهي امتنعوا.

وجاء في سورة المائدة: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ} 3، وذلك مع أمور نهى عنها الإسلام. منها تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أخل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي، وما ذبح على النصب. وجاء ذكر الأزلام في موضع آخر من ذكر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، حيث جعلت رجسا من عمل الشيطان، لذلك، على المسلم اجتنابها والابتعاد عنا4. فالاستقسام بالأزلام من الأمور التي نزل الأمر بالنهي عنها في الإسلام. وقد جاء الأمر بالنهي في شريعة يهود كذلك إذ اعتبرت "رجسا"، ومن أعمال الوثنيين5.

ويكون الاستقسام عند الأصنام في الغالب لاعتقادهم أن النتيجة تمثل إرادة الصنم ومشيئته، غي أن ذلك ليس بشرط، فقد كان أصحاب الأزلام يحملون أزلامهم معهم، ويستقسمون حث يطلب ذلك منه. فهم في ذلك مثل أصحاب

1 تفسير الطبري "6/ 42 وما بعدها".

2 سورة المائدة، الآية 3، 90، تفسير الطبري "6/ 49"، روح المعاني "6/ 59 وما بعدها"، الطبري "2/ 240".

3 الآية4، تفسير البيضاوي "1/ 118"، تفسير الطبرسي "3/ 238 وما بعدها". "3/ 156 وما بعدها".

4 المائدة، الآية 93، تفسير البيضاوي "1/ 132".

5 Hastings، p. 567.

ص: 354

"الفأل" والقارئون للرمل والسحرة في الوقت الحاضر، يتنقلون بين الناس عارضين فنهم عليهم في مقابل حلوان يقدم إليهم. وهذا النوع، من أصحاب الأزلام، هم من الطبقة المرتزقة على شاكلة هذه الجماعة المذكورة في هذه الأيام. وقد كان منهم من يستقسم لنفسه بنفسه، وذلك بأن يستقسم بالأزلام التي عنده في بيته، والتي قد يحملها معه، تمامًا كما يفعل أهل "الاستخارة" في الاستخارة بالمسبحة "السبحة" أو بوسائل الاستخارة الأخرى في الوقت الحاضر.

قال أهل الأخبار: "والأزلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها أمر ونهي وافعل ولا تفعل، قد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة، يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا أتى السادن فقال: اخرج لي زلما، فيخرجه وينظر إليه، فإذا خرج قدح الأمر مضى على ما عزم عليه، وإن خرج قدح النهي قعد عما أراده، وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابه، فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما"1.

و"قالوا": كانوا إذا كانت مداراة أو نكاح أو أمر يريدونه، ولا يدرون ما الأمر فيه ولم يصح لهم أخذوا قداحا لهم فيها: أفعل ولا أفعل لا يفعل، نعم لا خير، شر بطيء سريع، فأما المداراة فإن قداحا لهم فيها بيضا ليس فهم فيها شيء، فكانوا يجيلونها فمن خرج سمهمه فالحق له، وللحضر والسفر سهمان، فيأتون السادن من سدنة الأوثان، فيقول السادن: اللهم أيهما كان خيرًا فأخرجه لفلان، فيرضى بما يخرج له، فإذا شكوا في نسب الرجل أجالوا له القداح وفيها: صريح، وملصق، فإن خرج الصريح ألحقوه بهم، وإن خرج الملصق نفوه، وإن كان صريحا، فهذه قداح الاستقسام"2. "وإن كان بين اثنين اختلاف في حق سمي كل منهما له سهما وأجالوا القداح، فمن خرج سهمه فالحق له"3.

وذكر أن أقداح "هبل" سبعة، وضعت قدامه. فإن أراد أحدهم سفرا أو عملا أو تجارة أو زواجا أو بتا في نسب مشكوك فيه أو دفع دية أو أن

1 اللسان "12/ 270 وما بعدها".

2 نهاية الأرب "3/ 117 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "2/ 6"، الدر المنثور "1/ 319".

3 صبح الأعشى "1/ 402".

ص: 355

يخرجوا ماء، أتوا هبل، ومعهم مائة درهم وبجزور فأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم، وكانت أزلامهم سبعة قداح محفوظة عند سادن الكعبة وخادمها، وهي مستوية في المقدار عليها أعلام وكتابة قد كتب على واحد منها "أمرني ربي" وعلى واحد منها "نهاني ربي" وعلى واحد "منكم" وعلى واحد "من شيء، فإذا أرادوا الوقوف على مستقبل الأمر الذي تصدوا له استقسم لهم صاحب القداح بقدحي الأمر والنهي، فإن نجح قدح الأمر ائتمروا وباشروا فيما تصدوا لخ من حرب أو سفر أو زواج أو ختان أو بناء أو نحو ذلك مما يتفق لهم، وإن خرج قدح النهي أخروا ذلك العمل إلى سنة فإذا انقضت أعادوا الاستقسام مرة أخرى.

ويروى أن السؤال إن كان يخص أقداما أو احجامان استعمل صاحب القداح قدحي "نعم" أو "لا" فإذا ظهر للمجيل قد "نعم" عمل به، ومضى إلى ما قصد، وإن جاء "لا" أي النهي توقفوا سنة. أما إذا كان نزاعا في نسب أحد منهم، استقسم بالأزلام الموسومة بـ "منكم" و"من غيركم" و"ملصق"، فإن ظهر "منكم"، اعتبر المتنازع على نسبه منهم، وإن خرج "من غيركم" اجتنبوه ونفروا منه، وإن ظهر "ملصق"، بقي أمره على ما كان عليه قبل الاستقسام، وأما إذا كان السؤال نزاعا في "العقل": أي دية القتيل، بأن اشتبه عليهم القاتل، واستقسم بهما، فمن خرج عليه العقل تحمل الدية، وإن خرج "الغفل" أجالوا ثانيا حتى يخرج الكتوب عليه1.

ولما أراد "أبو سفيان" الخروج إلى "أحد"، استخار هبلز بأن كتب على سهم نعم، وعلى الآخر لا، وأجالهما عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج بقومه إلى "أحد". وقال يقول: أعل هبل. وقال عمر: الله أعلى وأجل، قال أبو سفيان: أنعمت فعال عنها، أي اترك ذكرها، فقد صدقت في فتواها، وأنعمت، أي أجابت بنعم2.

1 بلوغ الأرب "3/ 66 وما بعدها"، الأصنام: ص28"، النهاية "3/ 268"، تاج العروس "8/ 326"، تفسير الطبري "6/ 42 وما بعدها".

2 اللسان "12/ 589".

ص: 356

ولصاحب الأزلام وخازنها حق يتقاضه من الطالبين في مقابل علمه. فكان سادن "هبل" يتقاضى مئة درهم أجرا عن الاستقسام، كما سبق أن ذكرت فإ، تكرار ذلك زيد أجره على ما يذكره الرواة. وقد كان غير العرب يدفعون حلوانا إلى صاحب الأزلام ليتبأ لهم. فلما انطلق شيوخ مديان "مدين" و"مؤاب" إلى "بلعام" ليستقسم لهم، حملوا حلوانهم معه، فقدموه إليه مقابل ما قام به من عرافة إليهم1.

وقيل للذين يضربون بالقداح "الضرباء"2. والواحد الضريب والضارب. وهو الموكل بالقداح، وقيل الذي يضرب بالقداح. يقال هو ضريب قداح3.

وقد أشير إلى الاستقسام في شعر الشعراء الجاهليين، وقد ذكرت في قصة الشاعر "امرئ القيس" الكندي حينما جاء إلى الصنم "ذي الخلصة"، ليستقسم عنده بشأن الأخذ بثأر أبيه. فلما خرج النهي عنه ثلاث مرات، غضب على صنمه، وكسر الأزلام ورماها في وجهه، كما يقول الرواة قائلا:"لو كان أبوك المقتول لما نهيتي"، وأنشد:

لو كنت يا ذا الخلص الموتورا

لم تنه عن قتل العداة زورا

وأشار الخطيئة إلى ذلك بقوله:

لم يزجر الطير، إن مرت به سنحا

ولا يفيض على قسم بأزلام4

وقال طرفة:

أخذ الأزلام مقتسما

فأتى أغواهما زلمه5

وهناك طرق عدة عرفت عند الشعوب القديمة في التكهن بالسهام، ومنها رمي السهام في الهواء لمراقبة حركاتها وكيفية سقوطها، ومنها رمي حزمة من السهام أمام الصنم، فالسهم الذي يقع قبل بقية الأزلام، يكون هو السهم الذي

1 العدد، الإصحاح الثاني والعشرين "الآية 7 وما بعدها"، Hastings، p. 567

2 الاشتقاق "278".

3 اللسان "1/ 547 وما بعدها".

4 اللسان "12/ 270"، الأصنام "47"، نهاية الأرب "3/ 67".

5 اللسان "2/ 270".

ص: 357

أمر به الصنم في زعمهم، فيعمل بموجب ما كتب عليه1.

ولخص "الألوسي" الأزلام التي كانت عند العرب على ثلاثة أنحاء: أحدها: قداح الميسر العشرة، وثانيها: لكل أحد، وهي ثلاثة على أحدها مكتوب "افعل"، أي أمر، وعلى الثاني "لا تفعل" وعلى الثالث "غفل". فإذا أراد أحدهم الأمر جعلها في خريطة، وهي "الربابة" وأدخل يده فيها وأخرج واحدا، فإن طلع الآمر فعل أو النهاي ترك أو الغفل أعاد. وثالثها: للأحكام وهي لاتي عند الكعبة. وكانوا يتحاكمون عند "هبل" في جوف الكعبة. وكان عند كل كاهن وحاكم للعرب مثل ذلك. وكانت سبعة مكتوب عليها ما سبق2.

و"القرعة" أي "السهمة"، نوع من أنواع التنبؤ بالغيب التابعة للاستقسام بالأزلام. و"السهمة" هي رضاء بحكم "السهم"، أي بحكم وقوع السهام على الأشياء. وهي جواب فصل يمثل إرادة الآلهة للسائل أو للمختصمين في أمر من الأمور. وقد قيل للسهم: الحظ والنصيب3، لأنه يتكلم عن حظ الإنسان ونصيبه.

والتنبؤ بالتفرس في الأشباح التي تظهر على الماء، أو الزيت المصبوب في الأقداح، أو الحركات التي تظهر على سطح السائل بعد رمي شيء فيه، لمعرفة الأسرار والمغيبات والإجرام كالسرقات والقتل، والزنى، ودراسة سطح المرآة: هذه وأمثالها كانت معروفة عد البابليين والعبرانيين، وعند غيرهم من الشعوب. وعقيدتهم أن الأرواح هي التي ترشد إلى إظهار المخفيات، وأن هناك مأمورين من بينهم واجبهم أخبار العراف والعائف والكاهن بما يطلب منهم معرفته ليقوله للسائل4.

ومن ضرب التنبؤ "الطرق"، وهو الضرب بالحصى للكشف عن المستقبل، يقوم بذلك الرجال والنساء. ويقال للقائمين بذلك الطراق والطوارق5. وورد أن الطرق: الضرب بالحصى والخط في التراب، وهما ضربان من التكهن. وقيل أيضًا: الطرق: أن يحط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع، ويقول:

1 Hastings، p. 567.

2 بلوغ الأرب "3/ 67 وما بعدها".

3 تاج العروس "8/ 352"، "سهم".

4 Ency. ReIigi، p. 807.

5 النهاية "3/ 40".

ص: 358

ابني عيان اسرعا البيان، وزعم بعضهم أن الطرق أن يخلط الكاهن القطن بالصوف فيتكهن. وقد نهى عنه في الإسلام. ورد في الحديث: إنه قال: الطرق والعيافة من الجبت1.

ويدخل في ضروب التنبؤ "الخط""وهو الذي يخطه الحازي. يأتي صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه حلوانا، فيقول له: اقعد حتى أخط لك، وبين يدي الحازي غلام له معه ميل، ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط فيها خطوطا كثيرة بالعجلة لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها على مهل خطين خطين، وغلامه يقول للتفاؤل: "ابني عيان، أسرعا البيان"، فإن بقي خطان فهما علامة النجح، وإن بقي خط واحد فهو علامة الخيبة

وقيل: الخط هو أن يخط ثلاثة خطوط، ثم يضرب عليهن بشعير أو نوى، ويقول: يكون كذا وكذا. وهو ضرب من الكهانة"2. وكانت العرب تسمي ذلك الخط الذي بقي من خطوط الحازي الأسحم. وكان هذا الخط عندهم مشؤومًا. وقد كان الخط من علوم العرب القديمة3.

وعلم الخط هو علم الرمل. وينسب إلى "ابن عباس" قوله: علم قديم تركه الناس. وخط الزاجر في الأرض، رسم خطا بإصبعه، ثم زجر. وذكر أن "الخطيطة" الرملة التي يخط عليها الزاجر، وأن الأسحم اسم خط من خطوط الزاجر، وهو علامة الخيبة عندهم. وذلك أن يأتي إلى أرض رخوة وله غلام معه ميل، فيخط الأستاذ خطوطًا كثيرة على عجل لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها خطين خطين، فإن بقي من الخطوط خطان، فهما علامة النجح وقضاء الحاجة، ويمحو وغلامه يقول للتفاؤل: ابني عيان أسرعا البيان، وإذا محا الخطوط، فبقي منها خط، فهي علامة الخيبة4.

1 اللسان "10/ 215"، "طرق" تاج العروس "6/ 417"، "طرق".

لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى

ولا زاجرات الطير ما الله صانع

النهاية "3/ 40"، اللسان "17/ 84"، سنن أبي داود "4/ 16".

2 النهاية "1/ 303، 38"، "خطط"، "3/ 40""طرق"، تاج العروس "6/ 417"، اللسان "17/ 85".

3 اللسان "7/ 287 وما بعدها"، "خطط".

4 تاج العروس "5/ 131"، "خطط".

ص: 359

‌الأحلام:

والأحلام "Dreams" و"الرؤيا "Visions" باب من أبواب الكهانة كذلك، فهي تفسير لما سيقع في المستقبل من حوادث. وقد تخصص بذلك أناس تعاطوا تعبير الرؤيا والأحلام. وإذ كان اعتقاد الشعوب القديمة أن الأحلام حقيقة، لا كما نتصورها نحن، كان الاهتمام بها كبيرًا، والاعتناء بها شديدا ولا يزال يخصها كثير من الناس بالعناية.

وقد فسرت بعض الشعوب القديمة الأحلام بأنها الآلهة أو الأرواح تتجلى في الإنسان في أثناء منامه، فتطلعه على أشياء كثيرة تتعلق بحياته وبمصيره، وتساعده بذلك على حل مشكلات عديدة عويصة لديه، أو تهديه إلى أمور لم يكن يعرف عنها شيئًا، أو تحذهره بقرب حلول كارثة أو خطر به أو بغيره، أو بحصول خير له أو لغيره. وقد ترجع به إلى أيام ماضية وحوادث قديمة سالفة كان قد نسيها وذهبت من ذاكرته. ونجد في المؤلفات اليونانية واللاتينية والسريانية وفي الكتابات الهيروغليفية والمسمارية أشياء عديدة من القصص المتعلق بالأحلام. وفيها أن كثيرًا من الملك والخاصة كانوا يقيمون وزنا نجح كثير منهم كما خسر كثير منهم أيضًا بسبب تأثير الأحلامفيهم، حتى إن بعضهم اتخذ له مفسرا للأحلام أو جملة مفسرين، ليكونوا في خدمته حتى إذا ما رأى حلما فسروه له.

ولما كانت بعض الأحلام مزعجة، رجع الكهان المتخصصون بالأحلام أسبابها إلى فعل الأرواح الشريرة. أما الأحلام المريحة الطيبة، فقد جعلوها من إلهام الآلهة في الإنسان. ولأهمية الاعتقاد بالأحلام، وضعت قواعد وتعاليم للأشخاص الذين يريدون معرفة مستقبلهم بالرؤيا والأحلام. وقد نصح في بعضها باجتناب الأكل الثقيل، وبشرب بعض الأشربة المعينة وبالنوم في المعابد، للحصول على الرؤيا الصادقة، وبشرب بعض الأشربة المعينة وبالنوم في المعابد. للحصول على الرؤيا الصادقة، والابتعاد عن أضغاث الأحلام. وضع تلك القواعد أناس تخصصوا بهذا الفن، يلجأ إليهم من يرى حلما ليجد تفسيره عندهم. فلكل شيء في الرؤيا والحلم معنى خاص، لا يمكن أن يعرفه إلا ذووو الخبرة والعلم1.

وقد عثر على كتابة لحيانية في موضع "الخريبة"، تبين منها وجود صنم في معبد هذا الموضع تخصص بتفسير الأحلام2.

1 مقدمة ابن خلدون "1/ 103".

2 Jaussen – Sabignac، Mission، II، p. 417، Euting 825، Arabien. S. 98.

ص: 360

وفي كتب التفسير والسير والأخبار والأدب أمثلة عديدة من الرؤيا، تشير إلى أن الاعتقاد بالأحلام كان معروفا عند الجاهليين، وأن أثره كان عميقًا في حياتهم. وقد يكون لأهل الكتاب أثر عليهم في كيفية تفسير الأحلام وتوجيه تعبير الرؤيا، غير أن الاعتقاد بالأحلام هو اعتقاد عام، وكان يقوم به متخصصون بتفسير الأحلام. وقد عرف في الإسلام واشتهر به "ابن سيرين"1.

وقد عرف بعض العلماء الإسلاميين الحلم بأنه عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء المزعجة، وخصصوا الرؤيا بما يراه الإنسان في منامه من الخير والشيء الحسن2. وهم بذلك على طريقة القدماء في جعل الأحلام نوعين: أحلام من فعل الشيطان والأرواح الخبيثة، وأحلام من إلهام الآلهة في الإنسان، وهي التي تنكشف من رؤية أشياء جميلة وعن أشياء يرغب صاحب الحلم في الحصول عليها وتحقيقها.

ويرجع العلماء الرؤيا إلى النفس، تطلع الرؤيا إلى النفس، تطلع على الواقعات فتتذكرها، وتوحي بها إلى صاحبها. وهم يعتقدون بها. وجعلوها جزءًا من النبوة3.

1 "كتاب التعبير"، عمدة القاري "24/ 126"، الفهرست "439"، "الكتب المؤلفة في تعبير الرؤيا".

2 النهاية "1/ 289 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 255"، "حلم".

3 مقدمة ابن خلدون "1/ 102 وما بعدها".

ص: 361

‌الفصل السادس والثمانون: الطيرة

‌مدخل

الفصل السادس والثمانون: الطيرة

وقد كان للطيرة شأن كبير في حياة الجاهليين. وهي معروفة عند جميع الشعوب، ويقال لها في العبرانية: طير "Tayyar"، فهي من نفس الأصل الذي أخذ العرب منه التسمية1. ويقال لها في الإنكليزية "Augury"، ويرى بعض الباحثين أن الطيرة انتقلت إلى العبرانيين من العرب2. وهناك نوع آخر من التطير يقال له "Haruspicy" في الإنكليزية، ويقصد به الطيرة من الحيوانات الميتة، أو مراقبة الحيوان في أثناء لمعرفة المستقبل من حركاته وهو يرتجف رجفة الموت3.

ويقول علماء الأخبار، إن الطيرة من زجر الطيور ومراقبة حركاتها، فإن تيامنت دل تيامنها على فأل، وإن تياسرت دل على شؤم4. فهي إذن تشمل التيمن والتشاؤم، إلا أنها خصصت بالتشاؤم فيما بعد. فصارت تعني هذا المعنى عند الاستعمال. قال "الجاحظ": "وأصل التطير إنما كان من الطير ومن جهة الطير، إذا مر بارحا أو سانحا، أو رآه يتفلى وينتف، حتى صاروا

1 Ency. ReIigi.، 4، p. 807.

2 Ency. ReIigi.، 4، p. 778، Hastings، p. 568.

3 Ency. ReIigI.، p. 778.

4 اللسان "4/ 512 وما بعدها"، مفردات، للأصفهاني "312" صبح الأعشى "1/ 399".

ص: 362

إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم، أو الأعضب أو الأبتر، زجروا عن ذلك وتطيروا، كما تطيروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال. فكان زجر الطير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطير، ثم استعملوا ذلك في كل شيء"1.

قال أحدهم:

عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى

وصوت إنسان فكدت أطير

كأن الذي يرى ما يكره أو يسمع يطير

وقد عد العلماء الطيرة والزجر في معنى واحد، لأن أصلهما إنهم كانوا إذا أرادوا فعل أمر أو تركه زجروا الطير حتى يطير، ثم يحكمون من حركاته على ما سيحدث ويقع. فالزجر والطيرة من ثم شيء واحد2. وقد قيل لمن يزجر الطير "زاجر":"لأنه إذا رأى ما يظن إنه يتشاءم به زجر بالنهي عن المضي في تلك الحاجة برفع صوت وشدة"3.

والطيور هي مادة التطير، وذلك بمراقبة حركاتها وسكناتها. وهو ما يقال له في العبرانية:"نيحوش""نحوش""Nihush" من أصل "نيحيش""نحش". وتقابل لفظة "نحش" كلمة "حنش" في العبرانية وتعني "الثعبان". وقد ذهب بعض علماء التوراة أن لكلمة "نحش"، صلة بالثعبان، ذلك لأن الثعبان كان بعض علماء التوراة أن لكلمة "نحش"، صلة بالثعبان، ذلك لأن الثعبان كان من الآلهة القديمة، بينما يرى بعض آخر عدم وجود صلة ما للثعبان بهذا الموضوع، لأن العبرانيين لم يتعبدوا البتة للثعابين، فلا صلة للثعبان به4.

ويدخل في باب الزجر، زجر الطير والوحش. ويذكر بعض العلماء أن الأصل في الطيرة، هو زجر الطير، ثم صار في الوحش، وقد يجوز أن يغلب أحد الشيئين على الآخر فيذكر دونه ويرادان جميعًا5.

وقد يراد بالطيرة "التشاؤم" الذي هو خلاف التيامن، غير أن "التشاؤم"

1 الحيوان "1/ 438"، "هارون"، العمدة "2/ 259 وما بعدها".

2 صبح الأعشى "1/ 399".

3 تاج العروس "3/ 364"، اللسان "5/ 407"، "طير".

4 Ency. ReIigI.، 4، p. 807، Hastings، p. 568.

5 العمدة "2/ 260".

ص: 363

هو في الواقع أوسع مجالا وأكثر ساحة من الطيرة، لأن التشاؤم طيرة وزيادة، وأعني بالزيادة تشاؤم المتشائمين من أمور أخرى كثيرة مثل التشاؤم من ذوي العاهات أو القبح من البشر، والتشاؤم من سماع الكلام السيء أو الأخبار السيئة عند الصباح أو من رؤية ميت أو سماع نياحة أو مشاهدة مخلوق مشوه أو سماع اسم موضع يدعو للتشاؤم أو اسم شخص فيه معنى التشاؤم وأمثال ذلك، فتكون كل هذه الأمور مدعاة للتشاؤم عند المتشائمين. "حتى صاروا إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم، أو الأعضب أو الأبتر، زجروا عند ذلك وتطيروا عندها كما تطيروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال"1.

ويقول علماء اللغة: الشؤم: خلاف اليمن. ورجل مشؤوم على قومه2. وأصل ذلك هو أن العرب تتفاءل بالجهة اليمنى، وتتشاؤم من الجهة اليسرى، ولذلك كانت إذا أرادت أن تعمل عملا عمدت إلى "الزجر" وهو رمي الطير بحصاة، ثم يصيح الرامي، ليفزعها ويزجرها، وعندئذ يراقب حركة طيرانها، فإن تيامنت أي جرت يمنة تفاءل به، وإن تشاءمت أي تياسرت، تشاءم به. فالتيمن هو بالتيامن والتشاؤم هو بالتياسر. ولذلك قيل للكاهن "زاجر" أيضًا، "لأنه إذا رأى ما يظن أنه يتشاءوم به زجر بالنهي عن المضي في تلك الحاجة برفع صوت وشدة"3. ولاعتماد الزاجر على الطيور في الغالب في هذا النوع من التكهن قيل له:"الطيرة". قال علماء اللغة: "وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة، لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزرجها والتطير ببارحها ونعيب غرابها وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها، فسموا الشؤم طيرا وطائرا وطيرة لتشاؤمهم بها"4.

ولا بد أن يكون للتطير صلة بعقيدة استحالة الأرواح طيورا بعد مفارقتها الأجساد، فقد كان من المتعارف عليه عند كثير من الشعوب القديمة أن بعض فصائل الطيور هي أرواح الموتى بعد مفارقتها الأجساد، وإنها لذلك تعي وتفهم، وأن في استطاعة بعض الناس فهم منطقها وتكليمها، ومن هنا ظهرت فكرة

1 الحيوان، للجاحظ "1/ 438""تحقيق محمد عبد السلام هارون".

2 اللسان "12/ 314".

3 تاج العروس "3/ 364"، اللسان "5/ 407"، "12/ 314""شأم".

4 تاج العروس "3/ 364"، "طير".

ص: 364

"منطق الطير". وقد كان "سليمان" يحادث الطير1. فإذا كانت الطير على هذه الصفة، ففي حركاتها وسكناتها منطق لمن لا يحسن منطقها، يشير إلى ما يجب على الإنسان أن يفعله أو يتركه من أعمال.

وقد كان للتطير والتفاؤل شأن كبير في حياة الجاهليين. كما كان لهما مثله في حياة شعوب أخرى عديدة: ومن بينهم اليونان والرومان والفرس. والتطير هو نظير التشاؤم في المعنى كما قلت. أما نظير الطيرة وقعت لبعض القبائل عند إقدامها على الحرب، فخسرت لتطيرها، ويحدث من التطير النحس، وأما من التفاؤل فيكون السعد.

وفي الأخبار: "كانت العرب إذا خرج أحدهم من بيته غاديا في بعض الحاجة، نظر: هل يرى طائرا يطير، فيزجر سنوحه أو بروحه، فإذا لم ير ذلك، عمد إلى الطير الواقع على الشجر، فحركه ليطير، ثم نظر إلى أي جهة يأخذ، فزجره. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أقروا الطير على مكناتها: لا تطيروها ولا تزجروها"2. وذكر "إنهم كانوا في الجاهلية إذا خرج أحدهم لحاجة، فإن رأي الطير طار عن يمينه تيمن به واستمر، وإن طار عن يساره تشاءم به ورجع، وربما كانوا يهيجون الطير، ليطير فيعيدون ذلك"3.

وقد أبطل الرسل الطيرة. "وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يتفاءل ولا يتطير. وأصل الفأل الكلمة الحسنة يسمعها عليل، فيتأول منها ما يدل على برئه، كأن سمع مناديا نادى رجلا اسمه سالم، وهو عليل، فأوهمه سلامته من علته، وكذلك المضل يسمع رجلا يقول يا محمد يا واجد، فيجد ضالته. والطيرة مضادة للفأل. وكانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد. فأثبت النبي الفأل واستحسنه وأبطل الطيرة ونهى نها"4.

وروي أن أهل الجاهلية كانوا يقولون: "إن الطيرة في المرأة والدار والدابة"5

1 Ency. ReIigi،. 4، p. 808.

2 جامع الأصول "8/ 458".

3 إرشاد الساري "8/ 396".

4 تاج العروس "3/ 364 وما بعدها".

5 أمالي المرتضى "2/ 2020".

ص: 365

و"الكدس" التطير، و"الكدسة" عطسة البهائم، وقد تستعمل للإنسان: ومنه الحديث: إذا بصق أحدكم في الصلاة، فليبصق عن يساره أو تحت رجله، فإن غلبته كدسة أو سعلة ففي ثوبه. والكادس ما يتطير به من الفال والعطاس وغيرهما. ومنه قيل للظبي وغيره إذا نزل الجبل وغيره كادس1.

ومن الألفاظ المستعملة في الى "الزجر""سنح" و"برح". وللفظة "برح" معان عديدة، وهي من الكلمات السامية الواردة والباقية في عدد من لهجاتها. بين يديك من جهة يسارك إلى يمينك، والعرب تتيمن به، لأنه أمنك للرمي والصيد. والبارح ما مر من يمينك إلى يسارك والعرب تتطير به، لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف"2.

وقد ذكر بعض اللغويين عكس المعنى، كا ذكر أن أهل نجد كانوا يتشاءومون بالبوارح ويتيمنون بالسانح. أما غيرهم من العرب، فقد كانت تتيمن بالبارح، وأن بعضًا منهم لم يكن له رأي في شيء من هذا3.وذكر أن أهل "العالية" يتشاءمون بالسانح ويتيمنون بالبارح4.

قال ذو الرمة وهو من نجد:

خليلي لا لاقيما ما حييتما

من الطير إلا السانحات وأسوأ

وقال النابغة، وهو نجدي أيضًا، يتشءوم بالبارح:

زعم لا لاقيما البوارح أن رحلتنا غدا

وبذاك تنعاب الغراب الأسود

وقد عبر "كثير" عن رأي أهل الحجاز بقوله:

أقول إذا ما الطير مرت مخيفة

سوانحها تجري ولا استثيرها5

وذكر أن هذيلا كانت تتشاؤم بالسنيح. أما غيرها، فكانت تتشاءم بالبارح6.

1 تاج العروس "4/ 230"، "كدس".

2 النهاية "1/ 85" المعاني الكبير "3/ 1187".

3 الأغاني "9/ 157""أخبار النابغة ونسبه"، Reste، S. 202.

4 العمدة "2/ 263".

5 البرقوقي "ص19 وما بعدها".

6 المعاني "3/ 1186".

ص: 366

ويقال للمتطيرين من الرجال "الخثارم"1.

وذكر أن "بني لهب"، "هم أعيف العرب وأزجرهم للطير"2. وهم بطن من العرب يعرفون بالعيافة. ولأهل الأخبار قصص عن عيافتهم وعن زجرهم للطير3.

ومن الطيور التي تطير منها أهل الجاهلية: الغراب وطيور الليل، وهي البومة، والصدى، والهامة، والضوع، والوطواط، والخفاش، وغراب الليل4.

وقاعدتهم في الطيرة، إنهم يشتقون من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون من ذلك قول سوار بن المضرب:

تغنى الطائران ببين ليلى

على غصنين من غرب وبان

فكان البان أن بانت سليمى

وفي الغرب اغتراب غير دان

فاشتق الاغتراب من الغرب، والبينونة من البان.

وقال عنترة:

ظعن الذين فراقهم أتوقع

وجرى بينهم الغراب الأبقع

حرق الجناح كأن لحيي رأسه

جلمان بالأخبار هش مولع

فزجرته ألا يفرخ بيضه

أبدا ويصبح خائفا يتفجع

إن الذين نعبت لي بفراقهم

هم أسهروا ليلى التمام فأوجعوا

فقال: وجرى بينهم الغراب، لأنه غريب، ولأنه غراب البين، ولأنه أبقع. ثم قال: حرق الجناح تطيرا أيضًا من ذلك. ثم جعل لحيي رأسه جلمين، والجلم يقطع. وجعله بالأخبار هشا مولعا، وجعل نعيبه وشحيجه كالخبر المفهوم5.

وأشأم الطيور عند الجاهليين، "الغراب": "ليس في الأرض شيء يتشاءم

1 المعاني "3/ 1187".

2 الاشتقاق "ص288"، صبح الأعشى "1/ 339 وما بعدها".

3 صبح الأعشى "1/ 399 وما بعدها".

4 الحيوان "2/ 298"، "هارون".

5 الحيوان "3/ 442 وما بعدها"، "هارون".

ص: 367

به إلا والغراب أشأم منه"1، ولذلك قالوا إذا تعب: خيرًا خيرًا، وذلك من باب التفاؤل بالأضداد2. "والعامة تتطير من الغراب، إذا صاح صيحة واحدة، فإذا ثنى، تفاءلت به"، "وإذا صاح الغراب مرتين، فهو شر، وإذا صاح ثلاث مرات، فهو خير"3. وورد "غراب البين" و"الغراب الأبقع" و"الغراب الأسود"4. ويراد بذلك التشاؤم بفراق الأحبة، ويقال للغراب الأسود "حاتم"، والحتمة السواد، وهو مشؤوم، لأنه يحتم بالفراق5. "والعرب تتشاءم من الغراب، ولذا اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب"6. "فالغراب أكثر من جميع ما يتطير به في باب الشؤم، ألا تراهم كلما ذكروا ما يتطيرون منه شيئًا كروا الغراب معه؟ وقد يذكرون الغراب ولا يذكرون غيره، ثم إذا ذكروا كل واحد من هذا الباب لم يمكنهم أن يتطيروا منه إلا من وجه واحد، والغراب كثير المعاني في هذا الباب، فهو المقدم في الشؤم"7. وروي أن "ابن عباس" كان إذا صاح الغراب، قال: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك. قال الجاحظ: "وليس في الأرض بارخ ولا نطيح، ولا قعيد، ولا أعضب ولا شيء مما يتشاءمون به إلا والغراب عندهم أنكد منه، يرون أن صياحه أكثر أخبارا، وأن الزجر أعم قال عنترة:

1 تاج العروس "1/ 407"، "عزب"، قال رؤبة:

فأزجر من الطير الغراب الغاربا

اللسان "2/ 438"، الحيوان للجاحظ "2/ 316".

2 الحيوان للجاحظ "3/ 457، 458"، طبعة عبد السلام محمد هارون".

3 الحيوان، للجاحظ "3/ 457 وما بعدها"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 255"

4 قال عنترة:

ظعن الذين فراقهم أتوقع

وجرى بينهم الغراب الأبقع

خرق الجناح كأن لجى رأسه

جلمان بالأخبار هش مولع

اللسان "16/ 210"، القاموس "4/ 204"، "غراب البين"، الحيوان للجاحظ "3/ 431"، البيان والتبيين "1/ 83""لجنة"، قال النابغة:

زعم البوارح أن رحلتنا غدا

وبذاك خبرنا الغراب الأسود

الحيوان للجاحظ "3/ 442".

5

إذا ما رأت عبس من الطير جاثما

شديد سواد الزف ظلت تفزع

الاشتقاق "2/ 166"، اللسان "15/ 3"، الحيوان للجاحظ "3/ 436"، "هارون"، بلوغ الأرب "2/ 338 وما بعدها".

6 الحيوان للجاحظ "2/ 316"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 190".

7 الحيوان للجاحظ "2/ 316"، حياة الحيوان "2/ 244".

ص: 368

حرق الجناح كأن لحيي رأسه

جلمان، بالأخبار هش مولع1

وفي الغراب وشؤمة يقول الأعشى:

ما تعيف اليوم في الطير الروح

من غراب البين أو تيس برح2

وقد كنوا عنه بكنى عديدة، دلالة على مقدار اهتمامهم به. فقالوا له: أبو حاتم، وأبو جحادف، وأبو الجراح، وأبو المرقال، وأبو حذر، وأبو زيدان، وأبو زاجر، وأبو الشؤم، وأبو غياث. ووضعوا الأمثلة على لسانه وعنه. وقصوا عنه الحكايات. من ذلك، إنه أراد أن يقلد القطاة في مشيها، فحاكاها، لكنه لم يفلح في المشي مشيها، فلما أراد العود إلى مشيته الأولى، أضل مشيته، إذ نسيها، فنسي المشيتين: فلذلك سموه: أبا المرقال3. وضربوا المثل بالغراب الأعصم، فقالوا: أعز من الغراب الأعصم، للشيء القليل الوجود4. وأوردوا له قصصًا مع الديك ومع حيوانات أخرى. ورموه بالفسق والفجور5.

وفي الشعر الجاهلي وشعر المخضرمين إشارات إلى شؤم الغراب. جاء في شعر "حسان بن ثابت".

وبين في صوت الغراب اغترابهم

عشية أو في غصن بان فطربا

فصوت الغراب، يشير إلى الغربة والاغتراب، لذلك كره6.

وهو من ألأم الطير وأخبثها، وهو من عبيد الطير، وليس من أحرارها، فهو دنئ النفس، إذا صادفته جيفة، نال منها، وهو لا يتعاطى الصيد. فهو حيوان خبث الفعل وخبيث المطعم، لذلك عد العرب أكله عارا يعبر من يقدم

1 الحيوان "2/ 316"، "هارون".

2 العمدة "2/ 260"، تاج العروس "6/ 207"، "عاف"، اللسان "9/ 261"، "عيف".

3 الحيوان، للجاحظ "3/ 129"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 172".

4 حياة الحيوان "2/ 173".

5 الحيوان "3/ 131"، حياة الحيوان "2/ 273 وما بعدها"، "3/ 317"، "هارون"، "فسق الغراب وتأويل رؤياه.

6 البرقوقي "ص19"، بلوغ الأرب "2/ 334 وما بعدها".

ص: 369

عليه. وكانوا يتعايرون بأكل لحمه1. وليس ذلك "لأنه يأكل اللحوم ولأنه سبع"، لو كان ذلك منهم "لكانت الضواري والجوراح أحق بذلك عندهم"2 إنما امتنعوا عن أكله، لأنه يأكل الجيف والقاذورات، ولذلك عدة العبرانيون من الحيوانات النجسة، والحيوانات هي في الغالب الحيوانات التي لا يجوز أكل لحومها، والظاهر أنه كان على هذه النظرة عند أغلب الساميين.

ونعت الغراب بـ "الأعور"، قيل إنه نعت بذلك لحدة نظره3، وقيل إنما سموه "الأعور" تفاؤلا بالسلامة4. ووصف بالحذر، فقيل: أحذ من غراب، وقيل إنه نعت بذلك على التشاؤم به، لأن الأعور عندهم مشؤوم، وقيل لخلاف حاله، لأنهم يقولون: أبصر من غراب، ويقال سمي الغراب أعور، لأنه إذا أراد يغمض عينيه5.

ويذكر أهل الأخبار أن غراب البين نوعان: أحدهما صغار معروفة بالضعف واللؤم. أما الآخر، فإنه ينزل في دور الناس، ويقع على مواضع إقامتهم إذا ارتحلوا عنها وبانوا منها، ولذلك سمي بغراب البين6.

وللعرب عادات بالنسبة إلى الغراب، ترى إنه إذا علق منقار الغراب على إنسان، حفظ من العين. اما إذا علق طحاله على إنسان، هيج الشبق. وأن دمه إذا جفف وحشي به البواسير، أبرأها. وإذا أكل مشويا، نفع القولنج. وإذا غمس الغراب الأسود بريشه في الخل، وطلي به الشعر، سوده وإذا طلي بها إنسان مسحور، بطل عنه السحر. وإذا جفف لسان الغراب "الزاغ"، ثم أكله إنسان عطشان، ذهب عشطه7.

1

ما بالعار ما عيرتمونا

شواء الناهضات مع الخبيص

فما لحم الغراب لنا بزاد

ولا سرطان أنهار البريص

الحيوان، للجاحظ "2/ 314 وما بعدها"، "2/ 313"، "لؤم الغراب وضعفه".

2 الحيوان للجاحظ "2/ 317"، "التعاير بأكل لحم الغراب".

3 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص258".

4 الحيوان، للجاحظ "2/ 314 وما بعدها".

5 تاج العروس "3/ 428"، "عور".

6 الحيوان، للجاحظ "2/ 315" حياة الحيوان، للدميري "2/ 246".

7 حياة الحيوان، للدميري "2/ 245، 255".

ص: 370

ونسب إلى المرقش السودسي، ذكر الغراب في شعره، إذ قيل إنه قال:

ولقد غدوت وكنت لا

أغدو على واق وحاتم

وإذا الأشائم كالأيا

من والأيامن كالأشائم1

ويبين هذان البيتان رأي هذا الشاعر في التيامن والتشاؤم.

وكا العرب إذا أرادوا أن يصفوا أرضا بالخصب والسواد، قالوا: وقعوا في أرض لا يطير غرابها، فهذا يعني أن الأرض كلها خصبة مزروعة سوداء، لا ترى فيها قطعة بيضاء، ولا ترى إلا الزرع والخيرات والثمر. وإذا أرادوا التعبير عن انتقال مرحلة الشباب إلى مرحلة الشيخوخة، وعن التهام الشيب لسواد الرأس: قيل: طار غراب البين2.

وقد يكون في جملة أسباب تشاؤم العرب من الغراب، إنه كان يضر بإبلهم. فهم يذكرون إنه إذا وجد دبرة في ظهر البعير، أو قرحة في عنقه، سقط عليها ونقره وعقره. ولذلك كانوا إذا رأوا دبرة بظهر البعير، غرزو في سنامه إما قوادم ريش أسود، وإما خرقا سودا، لتفزع الغربان فلا تتقرب منه ولا تسقط عليه. وقد يضعون الريش في اسنمتها وتغرز فيها3. والعرب تسمي الغراب لذلك "ابن دأية"، لأنه ينقر دبرة البعير أو قرحة عنقه، حتى يبلغ إلى دايات العنق وما اتصل بها من خرزات الصلب، وفقار الظهر4.

والغراب من الطيور التي ورد ذكرها في التوراة. والعبرانيون مثل العرب اعتقدوا بالطيرة منه، أي بتأثير حركاته وسكناته في إحداث الفأل والشؤم5.

وقد ذكر "الجاحظ" جريدة بأسماء الجهات التي يقف عليها "الغراب" فينعب، وما سيقع من وقفته تلك ومن نعيبه، وما يجب أن يفعله أو يتجنبه

1 المعاني "3/ 1187".

2 تاج العروس "1/ 407".

3 الحيوان، للجاحظ "3/ 416 وما بعدها"، "هارون".

4 الحيوان "3/ 415، 439"، "هارون".

5 الملوك الأول، الاصحاح السابع عشر، الآية 6: التكوين، الاصحاح الثامن، الآية 7، Ency. ReIigI، 4 p. 808.

ص: 371

الإنسان في هذه الحالات. كما ذكر أمورا أخرى تخص التطير أو التفاؤل من أصوات الحيوانات أو من رؤيتها1.

وكان "أمية بن أبي الصلت" ممن يتطير من الغراب، ويذكر أهل الأخبار أنه بينا كان يشرب مع إخوان له في قصر "عيلان" بالطائف، إذ سقط غراب على شرفة القصر، فنعب نعبة، فقال أمية:"بفيك الكثكث"، أي التراب وتشاءم منه، وقد مات فعلا في مكانه بعد نعيبه للمرة الثالثة2.

وفي شعر أمية قوله:

بآية قام ينطق كل شيء

وخان أمانة الديك الغراب

وذلك أن من أحاديث العرب، أن الديك كان نديما للغراب، وأنهما شربا الخمر عند خمار ولم يعطياه شيئًا، وذهب الغراب ليأتيه بالثمن حين شرب، ورهن الديك، فخاس به، فبقي محبوسا، وأن نوحا حين بقي في اللجة أياما بعث الغراب، فوقع على جيفة ولم يرجع، ثم بعث الحمامة لتنظر هل ترى في الأرض موضعا يكون للسفينة مرفأ، واستجعلت على نوح الطوق الذي في عنقها، فرشاها بذلك. وفي جميع ذلك وغيره قال "أمية" ذلك البيت وأبياتا أخرى، تطرق فيها إلى قصص إسرائيلي آخر، أخذ علمه به من أهل الكتاب. "فقد كان داهية من دواهي ثقيف، وثقيف من دهاة العرب، وقد بلغ من اقتداره في نفسه أنه قد كان هم بادعاء النبوة، وهو يعلم كيف الخصال التي يكون الرجل بها نبيا أو متنبيا إذا اجتمعت له، نعم وحتى ترشح لذلك بطلب الروايات، ودرس الكتب، وقد بان عند العرب علامة، ومعروفا بالجولان في البلاد، روابة"3.

ومن رأي العرب أن الغراب لا يشيب، وضربوا به المثل في ذلك، فقالوا:"حتى يشيب الغراب ويبيض القار"، ضربوا به مثلا في الاستمرار على العمل

1 نهاية الأرب "3/ 134 وما بعدها".

2 نهاية الأرب "3/ 139"، حياة الحيوان "2/ 173"، الحيوان "3/ 131".

3 الحيوان "2/ 320".

ص: 372

وعدم الملل من شيء1. ويقولون: ذهب الغراب يتعلم مشي العصفور أو القطاة، فلم يتعلمها، ونسي مشيته. فلذلك صار يحجل ولا يقفز قفزان العصور، أو مشية القطاة2.

والبوم من الطيور التي يتشاءم منها بعض الناس، ولعل ذلك بسبب منظرها الكئيب ولصوتها الحزين وظهورها في الليل، والليل هو رمز الشر. ويدل وصفها بـ "أم الخراب" و"أم الصبيان" على النظرة السيئة التي كان يراها العرب لها3. ويقال إن من أنواعها الصدى والهامة. ولعل اعتقادهم أن الصدى والهامة أو ذكر البوم منها، هي روح الميت المرفرفة على القبر هو الذي حمل أولئك المتشائمين على التشاؤم منها.

والعاطوس، وهي سمكة في البحر أو دابة من الحيوانات التي كان العرب يتشاءمون منها4. وكذلك "الأخيل" وهو "الشقراق"، "يتطيرون منه ويسمونه مقطع الظهور: يقال إذا وقع على بعير، وإن كان سالما يئسوا منه، وإذا لقي المسافر الأخيل تطير وأيقن بالعقر إن لم يكن موت في الظهر"5. وهم يتشاءمون من الثور الأعضب أي المكسور القرن6. ويتشاءمون من "العراقيب"، الشقراق. وتقول العرب: إذا وقع الأخيل على البعير ليكشفن عرقوباه. وقيل: كل طائر يتطير منه الإبل، فهو طير عرقوب لأنه يعرقبها7.

ويتطيرون بالصرد، ومن أسمائه الأخطب، ويقال "الأخيل" كذلك. و"الواق" أيضًا الصرد8. ويتشاءمون من "الأفكل"، وهو الشقران، فإذا عرض لهم كرهوه وفزعوا منه وارتعدوا9.

1 اللسان "11/ 629"، الحيوان "3/ 131"، حياة الحيوان "2/ 177".

2 الحيوان "4/ 325".

3 حياة الحيوان "1/ 1818 وما بعدها".

4 قال طرفة بن العبد:

لعمري لقد مرت عواطيس جمة

ومر قبيل الصبح ظبي مصمع

تاج العروس "4/ 192"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 121، 221"، العمدة "2/ 260"، اللسان "6/ 142".

5 بلوغ الأرب "2/ 37"، البرقوقي "348"، ديوان حسان "ص22""هرشفلد".

6 بلوغ الأرب "2/ 338"، العمدة "2/ 262".

7 تاج العروس "1/ 378"، "عوقب".

8 العمدة "2/ 261".

9 تاج العروس "8/ 65"، "افتكل".

ص: 373

والثعلب والأرنب من الحيوانات التي استعان بها الزاجر، في الزجر1. والواقع أن أهل الزجر قد توسعوا في علمهم حتى شمل كل المخلوقات، فحركات الإبل والخيل وسكناتها كلها ذات معان ومفاهيم يعرفها المشتغلون بالطيرة، وكانوا يستعينون بغيرها من الحيوانات.

وقد ذكر بعض الإخباريين أن العرب تتشاءم من الأفراس بالأشقر2. وذكروا أيضًا أنها تطيرت من: "المراة، والدار، والفرس". وفي الحديث: "إن كان الشؤم، ففي الدار والمرأة والفرس"3. وورد: "إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار". وذكر أن "عائشة"، قالت:"وإنما قال: أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك"، أي أن الرسول إنما قال ذلك حكاية عن أهل الجاهلية فقط4.

وكما يتغلب الإنسان على الأمراض بالأدوية والعلاج، كذلك يمكن التغلب على النحس وشؤم ناصية المرأة وعتبة الدار بالذبائح في بعض الأحيان، ولهذا جرت العادة بذبح ذبيحة أو عدة ذبائح عند زفاف العروس إلى بعلها ووصولها عتبة بيته طردا للأرواح الشريرة وإرضاء لها، كما جرت العادة بذبح الذبائح حين الانتقال إلى دار جديدة، أو حين الشعور بوجود أرواح فيها، ويقال لهذه الذبائح "ذبائح الجان"5.

وقد ابتدع الجاهليون طرقا لإبعاد الطيرة من تفكيرهم، من ذلك إنهم تجاهلوا بقدر إمكانهم، المسميات التي تبعث على التشاؤم بتسميتها بضدها من الكلمات التي لا يتشاءم منها، فسموا اللديغ بالسليم، والبرية بالمفازة، وكنوا الأعمى أبا بصير والأعور ممتعا، والأسود أبا البيضاء، وسموا الغرب بحاتم، وذلك لتشاؤمهم من الغراب6. والتسمية بالأضداد لدفع الطيرة عن الأذاه، ليست عادة جاهلية حسب، إنما هي معروفة في الإسلام كذلك. كما إنها معروفة عند غير العرب من الأمم قديما وحديثا.

1 Reste، S. 202.

2 مجمع الأمثال "2/ 86".

3 "لا عدوى ولا طيرة، إنما الشؤم في ثلاث في القرس والمراة والدار"، جامع الأصول "8/ 396"، عمة القارئ "21/ 289".

4 القسطلاني، إرشاد "5/ 73 وما بعدها".

5 تاج العروس "2/ 138".

6 الحيوان "3/ 439"، "عبد السلام هارون"، بلوغ الأرب "2/ 338 وما بعدها".

ص: 374

‌التثاؤب والعطاس:

ويدخل في الطيرة بعض ما يصدر من الإنسان والحيوان من حركات، مثل التثاؤب والعطاس، والتثاؤب عمل من أعماله الشيطان. وأما العطاس، فقد كان أثره في إيجاد الشؤم شديدا، وهو من العادات الجاهلية المذكورة في الشعر المنسوب إلى الجاهليين. ذكر أن امرأ القيس قال:

وقد اغتدي قبل العطاس بهيكل

شديد منيع الجنب نعم المنطق

وإنه أراد بذلك إنه كان يتنبه للصيد قبل أن ينتبه الناس من نومهم، لئلا يسمع عطاسا فيتشاءم بعطاسه1.

وقيل إن العرب كانت تتطير منه، فإذا عطس العاطس، قالوا: قد ألجمه، كأنها قد تلجمه عن حاجته2.

ويقال الكدسة لعطسة البهائم. وقد تقال لعطسة الإنسان. والكادس ما يتطير به من الفال والعطاس وغيرهما. وقيل الكادس: القعيد من الظباء، وهو الذي يجئ من خلفك، ويتشاءم به، كما يتشاءم بالبارح3.

والعطاس فضلا عن ذلك دواء في نظر أهل الجاهلية، لذلك كانوا يتجنبونه بقدر إمكانهم، ويحاولون جهدهم حبسه وكتمه. فإذا عطس أحدهم وكان وضيعا مغمورا أسمعوه كلاما مرا فيه رد للشؤم على صاحب العطاس، كأن يقولوا له:"وريا وقحابا". والوري هو داء يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب هو السعال، أو:"بك لا بي: أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي". أما إذا كان العاطس معروفا محبوبا شريفا، قالوا له:"عمرا وشبابا". وكلما كانت العطسة شديدة كان التشاؤم منها أشد4. ويقال للدعاء على العاطس "التشميت" و"التسميت"5.

1 العمدة "2/ 260"، إرشاد الساري "9/ 125 وما بعدها".

2 المعاني الكبير "3/ 1185"ز

3 تاج العروس "4/ 230"، "كدس".

4 المعاني الكبير "2/ 1015"، بلوغ الأرب "2/ 332".

5 اللسان "2/ 357"، تاج العروس "1/ 559". "شمت".

ص: 375

وقد نهى الإسلام عن التشاؤم بالعطاس، وعكسه، فجعله محبوبا، بحديث:"إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب"1.

وإذا مات رجل قالوا: عطس الرجل، و"عطست به اللجم"، واللجمة ما تطيرت منه، ويقال للموت: لجم عطوس2.

1 جامع الأصول "7/ 396 وما بعدها".

2 اللسان "6/ 142".

ص: 376

بعض من أنكر الطيرة:

وكان بين الجاهليين أناس أنكروا الطيرة، ولم يحلفوا بها. منهم المرقش من بني سدوس، حيث قال:

إني غدوت وكنت لا

أغدو على واق وحاتم

فإذا الأشائم كالأيا

من والأيامن كالأشائم

فكذاك لا خير ولا

شر على أحد بدائم1

وممن كان ينكر الطيرة ويوصي بذلك، سلامة بن جندل، والحارث بن حلزة. ونجد الشاعر "الخثيم بن عدي" يمدح "مسعود بن بجر الزهري"، بقوله:

وليس بهياب إذا شد رحله

يقول عداني اليوم واق وحاتم

ولكنه يمضي على ذاك مقدما

إذا صد عن تلك الهنات الخثارم

فهو يمدحه، ويقول إن ممدوحه لم يكن من الخثارم، أي المتطبرين، بل كان إذا أراد أن يمضي أمرا، صد عن تلك الهنات، فلا يحفل بواق وحاتم2.

وكان النابغة من المتطيرين، خرج مع "زيان بن سيار" يريدان الغزو، فبينما هما يريدان الرحلة، إذ نظر النابغة وإذا على ثوبه جرادة تجرد ذات ألوان، فتطير وقال: غيري الذي خرج في هذا الوجه! فلما رجع زبان من تلك الغزوة سالما. أنشأ يذكر شأن النابغة، فقال:

1 الحيوان "3/ 436، 449"، "هارون".

2 الحيوان ط3/ 437"، "هارون".

ص: 376

تخبر طيره فيها زياد

لتخبره وما فيها خبير

أقام كأن لقمان بن عاد

أشار له بحكمته مشير

تعلم أنه لا طير إلا

على متطير وهو الثبور

بلى شيء يوافق بعض شيء

أحايينا وباطله كثير1

واسم النابغة زياد2.

وهناك نوع آخر من التنبؤ يقال له في الإنكليزية "Hepatscopy"، ويراد به استخراج الغيب من دراسة كبد الأضاحي التي تقدم إلى الآلهة. وقد اشتهر به الكلدانيون على الأخص، وتوسعوا فيه فشمل أيضًا قراءة الرئة أو بقية الأحشاء. وكان معروفا أيضًا عند العبرانيين واليونان والرومان والمصريين وغيرهم3. وللكبد أهمية خاصة عند العرب، وهو ف نظرهم معدن العداوة ومقر الحقد، لذلك يقال للأعداء: سود الأكباد، لأن الحقد قد أحرق أكبادهم حتى اسودت4.

وقد تشاءموا من بعض الأيام، مثل "الأيام النحسات". وهي كل أربعاء يوافق أربعاء من الشهر، مثل أربع خلون، وأربع وعشرين، وأربع بقين. كما تشاءموا من بعض الشهور، مثل شهر شوال، ولذلك كرهت التزوج فيه5. وورد يوم نحس و"أيام نحسات"، وهي المشؤومات. والعرب تسمي الريح الباردة إذا دبرت نحسا. والنحس: الجهد والضر، وخلاف السعد من النجوم وغيرها6. وقد كان أه لنجد يتيمنون بالسانح، ويتشاءمون بالبارح، ويخالفهم أهل العالية، فيتشاءمون بالسانح، ويتيمنون بالبارح7.

ويدخل في هذه الأيام تشاؤم بعض الجاهليين من يوم معين وتفاؤلهم من يوم آخر. فيكون يوم التشاؤم يوم بؤس، يغضب فيه من يتشاؤم منه على كل من يراه أول مرة أو في ذلك النهار، وقد يلحق به سوءا كالذي روي من قصة

1 الحيوان "3/ 447"، "هارون".

2 الحيوان "5/ 555"، "هارون".

3 Ency. ReIigI.، 4، p. 808 Hastings، p. 568، Diodorus SicI.، II، p. 29.

4 اللسان "4/ 378".

5 مروج الذهب "2/ 108 وما بعدها".

6 اللسان "6/ 227".

7 العمدة "2/ 263".

ص: 377

‌بعض من أنكر الطيرة

ص: 3