الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس والسبعون: الحنفاء
مدخل
…
الفصل الخامس والسبعون: الحنفاء
وقد أشار القرآن الكريم إلى جماعة من العرب لم يتعبد الأصنام، ولم تكن من اليهود ولا النصارى، وإنما اعتقدت بوجود إله واحد عبدته1. وقد ذكر المفسرون وأهل الأخبار أسماء جماعة من هؤلاء، غير أن ما ذكروه عنهم غامض لا يشرح عقائدهم، ولا يوضح رأيهم في الدين، فلم يذكروا عقيدتهم في التوحيد، ولا كيفية تصورهم لخالق الكون.
وقد عرف هؤلاء بالحنفاء وبالأحناف، ونعتوا بأنهم على دين إبراهيم، ولم يكونوا يهودًا ولا نصارى، ولم يشركوا بربهم أحدًا. سفهوا عبادة الأصنام وسفهوا رأي القائلين بها2.
1 "وقالوا: كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا. قل: بل ملة إبراهيم حنيفًا، وما كان من المشركين"، البقرة، رقم2، الآية 125، تفسير الطبرى "1/ 404"، روح المعاني "1/ 352"، تفسير المنار"1/279 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 196"، اللسان "10/ 402 وما بعدها"، النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير "1/ 265" الطبرسي، مجمع البيان "1/ 467""1/ 215 وما بعدها"، "طبعة طهران"، تفسير القرطبي، الجامع "2/ 128"، الطبري، جامع البيان "11/ 177"، للزمخشري "1/ 236"، اللسان "9/ 56""صادر"، تاريخ الخميس، للديار بكري "2/ 177"، الكامل، لابن الأثير "1/ 244"، تفسير القرطبي، الجامع "10/ 198"، "حنيفا"، سورة النحل، رقم 16، الآية 120.
2 النهاية "1/ 299".
وقد أشير إلى "الحنيفية" و"الحنفاء" في كتب الحديث1. وقد بحث عنها شراح هذه الكتب. ومما نسب إليه حديث: "لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة"2. وحديث: "بعثت بالحنيفية السمحة السهلة" 3. وحديث "أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة"4.
ويذكر أهل الأخبار أن الجاهليين جميعًا كانوا قبل عمرو بن لحي الخزاعي على دين إبراهيم. كانوا موحدين يعبدون الله جل جلاله وحده، لا يشركون به ولا ينتقصونه. فلما جاء عمرو بن لحيي، أفسد العرب، ونشر بينهم أضاليل عبادة الأصنام، بما تعلمه من وثني بلاد الشام حين زارهم، وحل بينهم، فكان داعية الوثنية عند العرب والمبشر بها ومضلهم الأول. وهو على رأيهم موزع الأصنام بين القبائل، ومقسمها عليها. فكان من دعوته تلك عبادة الأوثان، إلى أن جاء الإسلام فأعاد العرب إلى سواء السبيل، إلى دين إبراهيم حنيفًا، وما كان إبراهيم من المشركين5.
ولقد فشت دعوة عمرة بن لحي وانتشرت، حتى دخل فيها أكثرهم، والضلال سريع الانتشار، وقل عدد من حافظ على دين إبراهيم والمراعي لأحكام دين التوحيد الحنيف: من اعتقاد بوجود إله واحد أحد، وطواف بالبيت، وحج إليه، وعمرة، ووقوف على عرفة وهدي للبدن، وإهلال بالحج والعمرة، وغير ذلك. فلم يبق منهم إلا عدد محدود في كل عصر إلى زمن البعثة المحمدية6.
ولسنا نملك ويا للأسف شيئًا من الجاهلية يعيننا في الوقوف على عقائد الأحناف ودينهم، فليس في كتابات المسند ولا في الكتابات الجاهلية الأخرى، بل ولا في كتب اليونان واللاتين شيء عن عقيدتهم وعن آرائهم، لذلك اقتصر علمنا بأحوالهم على ما جاء في المؤلفات الإسلامية وحدها، والفضل في حفظ أخبارهم للقرآن
1 راجع ونسنك: المعجم المفهرست لألفاظ الحديث النبوي الشريف، حيث تجد الإشارة إلى تلك الأحاديث.
2 مسند أحمد بن حنبل "4/ 116"، "6/ 33".
3 اللسان "9/ 56 وما بعدها".
4 مجمع البيان، للطبرسي "1/ 215 وما بعدها"، "أحب الدين إليَّ الحنيفية السمحة"، الإصابة "1/ 51"، "رقم 114".
5 اللسان "10/ 403"، بلوغ الأرب "2/ 195".
6 بلوغ الأرب "2/ 196".
الكريم، فلولا إشارته إليهم وذكره لهم، لما اهتم المفسرون وأصحاب الأخبار بجمع ما كان عالقًا في ذهن الناس عنهم. وللحديث وكتب السير والأدب فضل في جمع أخبارهم يجب ألا ينسى كذلك.
وللعلماء الإسلاميين آراء وتفسيرات في أصل لفظة "حنيف" وحنفاء وأحناف وفي معانيها. فهم يقولون أن الأصل "حنف"، وحنف بمعنى مال. وحنف القدمين ميل كل واحدة منهما نحو الأخرى. والحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال. والحنيف هو المائل. ومن هذا المعنى أخذ الحنف. وأما الحنيف، فالذي يميل إلى الحق، وقيل الذي يستقبل البيت الحرام، أو الحاج أو من يختتن، والحنيف من أسلم في أمر الله فلم يلتو في شيئ، والحنيف المستقيم الذي لا يلتو في شيء1.
وقد وردت لفظة "حنيفًا" في عشر مواضع من القرآن الكريم2. ووردت لفظة "حنفاء" في موضعين منه3. وبعض الآيات التي وردت فيها آيات مكية، وبعضها آيات مدنية. وقدنصَّ في بعض منها على إبراهيم، وهو على الحنيفية، ولم ينص في مواضع منها على اسمه. وقد وردت لفظة "حنفاء" في سورتين فقط. هما: سورة الحج وسورة البينة، وهما من السور المدنية.
وذكر بعض أهل الأخبار أن الحنيف عند أهل الجاهلية من اختتن وحج البيت فكل من اختتن وحج البيت هو الحنيف4. وقد رأي الطبري أن ذلك لا يكفي،
1 المفردات، للأصفهاني "ص 133"، اللسان "10/ 44"، "9/ 56 وما بعدها""صادر"، تاج العروس "6/ 77 وما بعدها"، النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير "10/ 265"، تفسير الطبري "1/ 258 وما بعدها"، القاموس المحيط للفيروز آبادي "3/ 130". تفسير الطبري "1/ 563"، "1954"، "3/ 105""دار المعارف"، الملل والنحل، "2/ 52"، الأغاني "3/ 113 وما بعدها""دار الثقافة بيروت 1955م"، روح المعاني للآلوسي "3/ 173 وما بعدها"، تفسير الخازن "1/ 98".
2 البقرة، رقم 2 الآية 135، آل عمران، 3 الآية 67، 95، النساء، الرقم 4، الآية 125، الأنعام 6، الآية 79، 161 يونس، الرقم 10، الآية 105، النحل 16، الآية 120، الروم، الآية 30.
3 الحج الآية 31، البينة، الآية5.
4 اللسان "10/ 402 وما بعدها"، الكشاف "1/ 178، 236، 407"، الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن "1/ 467 وما بعدها"، "3/ 109 وما بعدها"، تفسير الفخر الرازي "13/ 57 وما بعدها"، "14/ 10 وما بعدها"، "17/ 171 وما بعدها"، تفسير الطبري "3/ 104 وما بعدها".
بل لا بد من الاستقامة على ملة إبراهيم وأتباعه عليها1. والذين يذكرون أن الحنيف هو من اختتن وحج البيت، يذكرون أن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت، ولهذا فكل من اختتن وحج البيت، قيل له حنيف. وقد أضاف بعضهم اعتزال الاصنام والاغتسال من الجنابة إلى ما ذكرت، وجعلوا ذلك من أهم العلامات الفارقة التي ميزت الحنفاء عن المشركين2، لأن الحنيفية على حد قولهم لو كانت حج البيت والاختتان لوجب أن يكون الذين كانوا يحجون ويختتنون في الجاهلية من أهل الشرك حنفاء، وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفًا بقوله:{وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3.
وينسب أهل الأخبار إلى الأحناف بالإضافة إلى ما ذكرت، امتناعهم عن أكل ذبائح الأوثان وكل ما أهل إلى غير الله. فقد ذكروا عن كل واحد من الأحناف أنه كان قد امتنع عن أكل الذبائح التي تذبح للأوثان والأصنام، لأنها ذبحت لغير الله. كما نسبوا إليهم تحريم الخمر على أنفسهم، والنظر والتأمل في خلق الله، ونسبوا إليهم أداء شعائر الحج وغير ذلك4.
وقد لخص "الفخر الرازي" و"الطبرسي"، آراء العلماء في "الحنيفية" وأجملاها في تفسيرهما للآية:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . فقالا: "وفي الحنيفية أربعة أقوال: أحدها أنها حج البيت، عن ابن عباس والحسن ومجاهد. وثانيها أنها أتباع الحق، عن مجاهد، وثالثها أنها أتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إمامًا للناس بعده من الحج والختان وغير ذلك من شرائع الإسلام،
1 تفسير الطبري "3/ 105 وما بعدها"، "3/ 306"، "5/ 297"، "7/ 251"، تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "2/ 128".
2 اللسان "9/ 56""صادر"، القاموس "3/ 130"، تاج العروس "6/ 77 وما بعدها"، "حنف".
3 الطبري، جامع البيان "1/ 564 وما بعدها".
4 الأصنام "6""1914م"، القرطبي، الجامع لاحكام القرآن، "4/ 109""1937م""مطبعة دار الكتب المصريةط، ابن خلدون "القسم الأول من المجلد الثاني" "ص 707 وما بعدها" "بيروت 1956م" الخازن، لباب التأويل في معاني التنزيل "1/ 238 وما بعدها، 251"، تفسير الرازي "8/ 150 وما بعدها".
والرابع أنها الأخلاص لله وحده والإقرار بالربوبية والإذعان للعبودية"1.
ترى مما تقدم، وسترى فيما بعد أن أهل الأخبار لم يكونوا على بينة تامة وعلم واضح بأحوال الحنيفية وبآرائها وقواعد أحكامها وأصولها، وأنهم خلطوا في بعض الأحيان فيما بينها وبين الرهبنة، ولا سيما رهبنة النصرانية. فأدخلوا فيها من يجب إخراجهم عنها، لأنهم كانوا نصارى على ما يذكره نفس أهل الأخبار في أثناء تحدثهم عنهم، ومن هؤلاء: قيس بن ساعدة الأيادي وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، فقد نصوا نصًّا صريحًا على أنهم كانوا من العرب المتنصرة، ثم نجدهم مع ذلك يدخلونهم في جملة الأحناف.
وللمستشرقين بحوث في أصلها ومعناها وفي ورودها عند العرب قبل الإسلام. ومنهم من يرى أن اللفظة من أصل إرمي، وقد كانت معروفة عند النصارى، وأخذها الجاهليون منهم، وأطلقت على القائلين بالتوحيد من العرب، على أولئك ظهرت بتأثير اليهودية والنصرانية، غير أن أصحابها لم يكونوا يهودًا ولا نصارى، وإنما كانوا فرقة مستقلة تأثرت بآراء الديانتين2.
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن اللفظة من أصل عبراني، هو:"تحينوت" tchinoth، أو من "حنف" Hnef، ومعناه التحنث في العربية، وذلك لما لهذه اللفظة من صلة بالزهد والزهاد3. وقال "نولدكه" إنها من أصل عربي هو "تحنف"، على وزن تبرر، وهي من الكلمات التي لها معان دينية. ويلاحظ أن السريان يطلقون لفظة "حنفة" Hanfa على الصابئة4. وقد وردت لفظة "حنف" في النصوص العربية الجنوبية، وردت بمعنى "صبأ"، أي مال وتأثر بشيء ما5.
1 مجمع البيان "1/ 215 وما بعدها"، التفسير الكبير، للفخر الرازي "4/ 89 وما بعدها".
2 Ency، II، p. 259.
3 Abraham I. Katsh، Judaism in Islam، New York، 1954، p. 108، f، J.A. Montgomery، Acetic Strains in Early Judaism، in، JBL. Vol. LI، 1932، PP. 183، Tar Andrae، Der ursprung der Islam und des CHristentum، Uppala، 1926، p. 40. Charles Lyall، The Ward Hanif and Muslim، in JRAS، 1903، p. 772، Sprenger، Das Leben، Bd. I، S. 45. ff.
4 Ency.، II، 259، Barhebraeus، Chronic.، P. 176.
5 Rhodokanakis، Stud.، II، S. 40.
أي بالمعنى الذي فهمه علماء اللغة. فاللفظة إذن من الألفاظ المعروفة أيضًا عند العرب الجنوبيين.
عندي أن لفظة "حنيف"، هي في الأصل بمعنى "صابئ" أي خارج عن ملة قوم، تارك لعبادتهم. ويؤيد رأيي هذا ما ذهب إليه علماء اللغة، من أنها من الميل عن الشيء وتركه، ومن ورودها بهذا المعنى في النصوص العربية الجنوبية. وبمعنى "الملحد"، و "المنافق"، و"الكافر" في لغة بني إرم، ومن إطلاق "المسعودي" و "ابن العبري" لهذه اللفظ على "الصابئة". ومن ذهاب "المسعودي" إلى أن اللفظة من الألفاظ السريانية المعربة. وقد اطلقت على "المنشقين" على عبادة قومهم الخارجين عليها، كما أطلق أهل مكة على النبي وعلى أتباعه "الصابئ" و "الصباة"، فصارت علمًا على من تنكر لعبادة قومه، وخرج على الأصنام. ولهذا نجد الإسلام يطلقها في بادئ الأمر على نابذي عبادة الأصنام، وهم الذين دعاهم بأنهم على "دين إبراهيم". ولما كان التنكر للأصنام هو عقيدة الإسلام لذلك صارت مدحًا لمن أطلق الجاهليون عليهم تلك اللفظة لا ذمًا1.
وليست الصورة التي رسمها المفسرون وأهل الأخبار عن عقيدة الحنفاء واضحة، فهي صورة غامضة مطموسة في كثير من النواحي، تخص الناحية الخلقية أكثر مما تخص الناحية الدينية. فليس فيها شيء عن عقيدتهم في الله، وكيفية تصورهم وعبادتهم له، وليس فيها شيء عن كتاب كانوا يتبعونه أو كتب كانوا يسيرون عليها. نعم، إن نفرًا منهم كما ذكر الرواة كانوا قد قرءوا الكتب ووقفوا عليها، ولكن ما تلك الكتب التي قرءوها، وما أسماؤها. وهل هي التوراة والإنجيل؟ ولكن أي توراة وإنجيل؟ التوراة والإنجيل التي كانت بين أيدي الناس أو غيرها؟ فالذي يفهم من كلام الرواة أن الحنفاء كانوا يرون تحريفًا في الكتابين، وأن هناك تباين قليلًا أو كثيرًا بين الأصل الذي أوحاه الله وبين الذي كان بين أيدي الناس، وأنهم لذلك مالوا عن اليهودية والنصرانية إلى دين إبراهيم الحنيف، فقرءوا كتبه وتعبدوا بعبادة إبراهيم. ولكن ما هي كتب إبراهيم وما هي عبادته؟
1 راجع أيضًا: Ency.، II، P. 259
وليس في إمكاننا في الوقت الحاضر وضع حد صريح واضح لمفهوم الأحناف و "الدين الحنيف" عند الجاهليين، لما ذكرته من عدم وجود موارد واضحة صريحة عن الأحناف، ولعدم ورود أي شيء عنهم في نصوص جاهلية، ولأن في الكثير من الذي يذكره المفسرون وأهل الأخبار عنهم غموض وإبهام أو صنعة وتكلف، لذلك فليس أمامنا سوى الانصراف إلى البحث عن جمع كل ما ورد عن الحنيفية في الشعر وفي النثر وتنقيته وغربلته لإستخراج المادة الصافية منه التي تفيدنا في الوقوف. على تلك الحركة الدينية التي. كانت بارزة عند المذكورين قبيل ظهور الإسلام. والوقوف عليها يفيدنا كثيرًا ولا شك في فهم الإسلام الذي أثنى على الحنيفية وأرجعها إلى ديانة إبراهيم، وفي فهم اتجاهات الأحناف ودعوتهم التي وجهوها إلى قومهم في نبذ عبادة الأصنام والأحجار والمعبودات المادية الأخرى، والالتجاء إلى عبادة إله أعلى لا يشبه المادة، هو إله واحد لطيف خبير.
والحنفاء، كما يفهم من روايات أهل الأخبار، كانوا طرازًا من النساك، نسكوا في الحياة الدنيا، وانصرفوا إلى التعبد للإله الواحد الأحد إله إبراهيم وإسماعيل، ساحوا في البلاد على نحو ما يفعله السياح الزهاد بحثًا عن الدين الصحيح دين إبراهيم، فوصل زيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام والبلقان ووقف على اليهودية والنصرانية، فلم ير في الديانتين ما يريد1. ومنهم من أخذ على قومه هدايتهم بحثهم على ترك عبادة الأصنام، لذلك لاقوا منهم غشًّا ونصبًا شديدًا. ومنهم من كان يتأمل في هذا الكون، لذلك تجنب الناس واعتزلهم، والتجأ إلى الكهوف والمغاور البعيدة ابتعادًا عن الناس للتأمل والتفكر، وقد تجنبوا الخمرة والأعمال المنكرة، وقول الفحش، وساروا على مثل الإسلام، وإن عاشوا قبل الإسلام، لأن الإسلام دين إبراهيم.
والذي يفهم من القرآن الكريم، هو أن الحنفاء هم أولئك الذين رفضوا عبادة الأصنام، فلم يكونوا من المشركين، بل كانوا يدينون بالتوحيد الخالص، وهو فوق توحيد اليهود والنصارى، فلم يكونوا يهودًا ولا نصارى، و {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ
1 بلوغ الأرب "2/ 247 وما بعدها"، الطبرسي، مجمع البيان "3/ 110""7/ 252"، "11/ 107""14/ 137".
الْمُشْرِكِينَ} 1، وأن قدوتهم في ذلك إبراهيم. ويلاحظ أن لفظة "مسلم" استعملت في مرادف ومعنى لفظة "الحنيف"، وإن إبراهيم هو أبو وأول المسلمين. وقد وصف الإسلام بأنه دين الله الحنيف، والدين الحنيف، وأن الشريعة الإسلامية، هي الحنيفية السمحة السهلة، وذلك تمييزًا لها عن الرهبانية المتعصبة2.
وقد عد بعض المستشرقين الحنفاء شيعة من شيع النصرانية، وعدوهم نصارى عربًا زهادًا كيفوا النصرانية بعض التكييف؛ وخلطوا فيها بعض تعاليم من غيرها. وقد استدلوا على ذلك بما ورد من تنصر بعضهم، وبما ورد في بعض الأشعار الجاهلية من مواضع يفهم منها على تفسيرهم أن المراد بهم شيعة من شيع النصرانية3. غير أن القرآن الكريم قد نصَّ نصًّا صريحًا على أن الحنفاء لم يكونوا يهودًا ولا نصارى، وأنهم ينتمون في عقيدتهم إلى إبراهيم. ثم إن الإخباريين وإن أدخلوا في الأحناف أناسًا نصوا على أنهم كانوا نصارى، إلا أنهم نصوا في الوقت نفسه نصًا صريحًا على أن البقية الباقية، كانت واقفة، لم تدخل في يهودية ولا نصرانية، إذ وجدت في كل ديانة من الديانتين أمورًا جعلتها تتريث، فلم تدخل في إحداهما، وبقيت مخلصة لسنة إبراهيم، لذلك فلا يمكن اعتبار الأحناف نصارى خلصًا، أو شيعة من الشيع النصرانية.
وقد كان من الحنفاء نفر من النصارى، أخلصوا لنصرانيتهم وماتوا عليها. فهؤلاء هم نصارى من غير شك، ويجب إخراجهم من طائفة الحنفاء، وإدخالهم فهؤلاء هم نصارى من غير شك، ويجب إخراجهم من طائفة الحنفاء، وإدخالهم في النصارى، مثل "بحيرا" الراهب، وأمثاله ممن سأتحدث عنهم فيما بعد.
ويلاحظ أن جميع من حشرهم أهل الأخبار في الحنيفية، كانوا من القارئين، الكاتبين. وكانوا يشترون الكتب ويراجعونها ويتسقطون أخبار أهل الآراء والمذاهب والديانات. ولبعض منهم –كما يروي أهل الأخبار- علم باللغات الأعجمية مثل السريانية والعبرانية، كما كان لهم علم ووقوف على تيارات الفكر في ذلك الوقت. وقد اضافوا إلى علمهم الذي أخذوه من الكتب، علمًا حصلوا عليه من
1 آل عمران، الآية 67 وما بعدها، البقرة، الآية 35، آل عمران، الآية 95، النساء، الآية 124، الأنعام، الآية 79، 162، يونس 105.
2 ابن سعد "1/ 128"، قال عبد الله بن أنيس:
فقلت له خذها بضربة ماجد
…
حنيف على دين النبي محمد
3 Reste، S. 238، J.A. Montgomry، Ascetic Strains in Eariy Judaism ، JBL، vol، LI. 1932، p. 183، Abraham J. Katsch، Judaism in Islam، p. 108.
أسفارهم إلى الخارج مثل العراق وبلاد الشام ومن اتصالهم بالرهبان وبرجال الكنائس واليهود. فهم بالنسبة لذلك الوقت الطبقة المثقفة من الجاهليين نادت بالإصلاح وبرفع مستوى العقل وبنبذ الأساطير والخرافات وبتحرير العقل من سيطرة العادات والتقاليد فيه، وذلك بالدراسات والتأمل وبقراءة الكتب وبالرجوع إلى دين الفطرة، الذي لا يقر عبادة الشرك ولا عبادة الناس.
لذلك نستطيع أن نقول عن هؤلاء إنهم كانوا أناسًا من النوع الذي نطلق عليهم كلمة "مصلحين" في الوقت الحاضر. من هذا الطراز الذي يريد إصلاح الأوضاع ورفع مستوى العقل. فهم جماعة ضد الأوضاع الإجتماعية السائدة في أيامهم. لأنها في نظرهم أوضاع مؤخرة تمنع الإنسان من التقدم ومن إدراك الواقع. وقد رأت أن العقل لا يقر التقرب إلى أحجار وإلى التبرك بها والذبح لها، لأنها حجارة لا تعي ولا تفهم وليس في إمكانها أن تسمع أو تجيب لذلك نفرت منها. ومنهم من آمن بدين كالنصرانية، ولكنه لم يكن على نصرانية قومه، لأن عقله لا يقر التقرب إلى المادة مثل الصليب والصور والتماثيل، ومنهم من أبعدته مثل هذه العبادة عن النصرانية، فصيرته حائرًا في أمره من الديانات، يعتقد بإله، ولكنه لم يستقر على دين. عائب على قومه من المشركين ما هم عليه من جهل ومن عبادة أحجار ومن كل تقرب إليها.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر ذكروا أنهم كرهوا عبادة الأوثان وسخفوا أحلام المتعبدين لها، إذ وجدوا أن من الحمق التقرب إلى حجر لا يضر ولا ينفع، وهو جماد، فلما سمع بعضهم بالإسلام أسلموا. ولكنهم لم يدخلوهم في عداد الأحناف. وقد رأينا أن من أهل الأخبار من جعل "مسيلمة" يدعو إلى عبادة "الرحمن"
قبل مبعث النبي. وقد ذكروا أن "عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد" السلمي، كان قد رغب عن آلة قومه في الجاهلية، رأي أنها باطلة، وأن الناس في ضلال إذ يعبدون الحجارة، والحجارة لا تضر ولا تنفع، فكان حائرًا، حتى اهتدى إلى الإسلام1.
وليس في أيدينا اليوم مورد يفيد بوجود تكتل وتنظيم لمن أطلق الإخباريون
1 الإصابة "3/ 5 وما بعدها"، رقم "5905"، الاستيعاب "2/ 491 وما بعدها"، حاشية على الإصابة.
عليهم لفظة: "الحنفاء"، تكتل وتنظيم مع مظاهر خارجية وداخلية تميزهم عن غيرهم من أهل الأديان. لذلك، فنحن لا نستطيع أن نقول إن الحنيفية كانت فرقة تتبع دينًا بالمعنى المفهوم من الدين، كدين اليهودية أو النصرانية، لها أحكام وشريعة تستمد أحكامها من كتب منزلة مقدسة ومن وحي نزل من السماء، على نحو ما نفهمه من الأديان السماوية. لذلك، فأنا لا أستطيع إقرار رأي من ذهب إلى أنهم كانوا جماعة دينية منظمة، كرأي المستشرق "شبرنكر"، الذي ذهب إلى هذا المذهب1.
وجل هؤلاء الأحناف، هم من أسر معروفة، وبيوت يظهر أنها كانت مرفهة أو فوق مستوى الوسط بالنسبة إلى تلك الأيام، ولهذا صار في إمكانهم الحصول على ثقافة وعلى شراء الكتب، وقد كانت غالية الثمن إذ ذاك، لنيل العلم منها. كما صار في إمكانهم الطواف في خارج جزيرة العرب لامتصاص المعرفة من البلاد المتقدمة بالنسبة إلى تلك الأوقات، مثل العراق وبلاد الشام. وقد اتصلوا كما يزعم أهل الأخبار فعلًا برجال العلم والدين فيها، وتحادثوا معهم وأخذوا الرأي منهم. ومن يدري فلعلهم قرءوا عليهم الكتب وفي جملتها كتب اليونان، أو ترجمات كتبهم بالسريانية، فحصلوا نتيجة لذلك على علم بمقالات اليونان وبآرائهم في الفلسفة والدين والحياة. وقد تكون بعض الآراء المنسوبة إليهم، والتي ترجع إلى أصل يوناني، قد قالوها من أخذهم لها من تلك الكتب ومن دراستهم على من اتصلوا بهم من العلماء في أثناء وجودهم في العراق وفي بلاد الشام.
ونجد في الأخبار أن الرسول كان يعد الرهبانية مخالفة للحنيفية، إذ ورد أن أبا عامر بن صيفي –المعروف بالراهب لأنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح- قدم المدية ورأى الرسول، وسأله: ما هذا الذي جئت به؟ -فقال الرسول: "جئت بالحنيفية دين إبراهيم"، قال: فأنا عليها، فقال الرسول:"لست عليها، ولكن أدخلت فيها ما ليس منها". وقد سماه الرسول الفاسق.
فذهب مغاضبًا للرسول كما تقول الروايات، متوجهًا إلى قيصر، ليحمله على توجيه جيش إلى المدية للقضاء على الإسلام، غير أنه مات وهو في بلاد الشام2.
1 Sprenger، Das Leben، Bd.، I، S. 4، Ency.، II، S. 259
2 مجمع البيان "9/ 64 وما بعدها"، "3/ 500""طبعة طهران".
وقد خرج "أبو عامر" واسمه "عيد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان بن أمية"1 الراهب أحد "بني ضبيعة" إلى مكة مباعدًا لرسول الله، معه خمسون غلامًا من الأوس، منهم "عثمان بن حنيف". "فكان يعد قريشًا أن لو قد لقي محرمًا لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما كان يوم أحد، كان أول من لقي أهل المدينة أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عينًا يا فاسق، وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية "الراهب" فسماه رسول الله الفاسق، فلما سمع ردهم عليه، قاتلهم ثم راضخهم بالحجارة". ثم رجع مع قريش إلى مكة ثم خرج إلى الروم يوم فتحت مكة فمات بها سنة تسع، ويقال سنة عشر. وأعطى "هرقل" ميراثه لكنانة قائلًا لعلقمة: هما من أهل المدر وأنت من أهل الوبر.
وكان له ولد اسمه "حنظلة" أسلم، واستأذن رسول الله في قتل أبيه، فنهاه عن ذلك. فلما كان يوم أحد شهده، والتقى هو وأبو سفيان، فلما استعلى حنظلة رآه "شداد بن شعوب" فعلاه بالسيف حتى قتله، وقد كاد يقتل أبا سفيان. فقال النبي:"إن صاحبكم تغسله الملائكة"3، فعرف بـ "غسيل الملائكة"4. فكان الابن مع المسلمين في هذا اليوم، وكان الأب مع المشركين.
وروي أنه كان يتزهد في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين بإتخذا مسجد الضرار، وأتى قيصر فاستنجده على النبي5. وروي أنه هو الذي حزب الأحزاب لقتال الرسول: فلما خذل لحق بالروم يطلب النصر منهم، وقال لأناس من الأنصار ابنوا مسجدكم واستعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح،
1 تاريخ الطبري "2/ 512"، "معركة أحد"، المحبر "470"، سيرة ابن هشام "2/ 129"، "حاشية على الروض"، أبو عامر بن صيي بن مالك بن أمية بن ضبيعة بن زيد بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، الأوسي، الإصابة "1/ 360"، "رقم 1863"، مروج الذهب "1/ 88"، "دار الأندلس".
2 الإصابة "1/ 360"، "رقم 1863".
3 الإستيعاب "1/ 279 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".
4 الإصابة "1/ 360"، "رقم 1863"، الاستيعاب "1/ 279 وما بعدها"، حاشية على الإصابة".
5 تفسير النيسابوري "9/ 76"، "حاشية على تفسير الطبري"، روح المعاني "9/ 111".
فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه، وكان قد خرج معه كنانة بن عبد يا ليل الثقفي وعلقمة بن علاثة. فأما علقمة وابن ياليل "ابن بالين"، فرجعا فبايعا النبي وأسلما، وأما "أبو عامر" فتنصر وأقام1.
ويظهر أن "أبا عامر الراهب"، كان قد وضع مع جماعة من الأنصار الحاقدين على الرسول وعلى المهاجرين الذين صاروا يزاحمونهم في أعمالهم، واستحوذوا على التجارة واستغلوا أرض يثرب فقام قوم منهم بزراعتها، خطة لعمل مكيدة يخرجون بها الرسول من المدينة، يساعدهم في ذلك الروم. غير أنها لم تنجح، وهدم المسجد، الذي تواعدوا على أن يكون موضع التآمر وملتقى الحاقدين على الرسول، وقضي على المؤامرة، وبقي "أبو عامر" عند الروم. فلما مات عاد "كنانة بن عبد يا ليل" الثقفي، وكان رئيس ثقيف في زمانه، وكان يقول:"لا يرثني رجل من قريش"، مما يدل على أنه كان من الكارهين لقريش المتحاملين عليها وعلى الإسلام، ففر إلى "نجران" ثم توجه إلى الروم. فلما مات "أبو عامر" عاد فأسلم2. وعاد "علقمة" أيضًا. وهناك روايات أخرى، تذكر أنه ارتد في أيام "عمر"، والتحق بالروم، ثم عاد إلى الإسلام3.
ولاشتهار أبي عامر بالراهب، ولما ورد في بعض الأخبار من أنه كان حنيفًا، ذهب "ولهوزن" إلى أن الأحناف هم من النصارى، وأن حركتهم حركة نصرانية، وأنهم كانوا القنطرة التي توصل بين النصرانية والإسلام4. غير أن ما لدينا من معارف عن الأحناف، لا يكفي لا بداء رأي كهذا الرأي، وللتسليم بمثل هذا القول ينبغي لنا الوقوف على آرائهم وقوفًا دقيقًا ومقارنة ما لدينا بما نعرفه من النصرانية لنتمكن من التوصل إلى رأي علمي في هذا الشأن.
وفي بيت منسوب إلى أمية إشارة إلى الحنيفية، ذكر فيه أن كل دين زور عند الله إلا دين الحنيفية. وقد رأينا أن أهل الأخبار يدخلون أمية في جملة
1 تفسير الطبري "11/ 17 وما بعدها"، تفسير القرطبي "7/ 320"، "8/ 253 وما بعدها".
2 الإصابة "3/ 305"، "رقم 7532".
3 الإصابة "2/ 496"، "5677".
4 Wellhausen، Reste، S. 239. f.
الحنفاء، ويقولون: أنه لبس المسوح تعبدًا، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل وحرم الخمر1. ويلاحظ أن الإخباريين ينسبون إلى عدد من هؤلاء الأحناف لبس الموح، مما يشير إلى أنهم كانوا قد تأثروا بالرهبان المتقشفين وبالزهاد النصارى الناسكين، فأخذوا عنهم هذه الطريقة التي أشير إلهيا في القرآن الكريم وفي الحديث، والتي عدت من البدع الممقوتة في الإسلام.
وقد أورد أهل الأخبار كلامًا ذكروا أن الأحناف قالوه، هو من نوع كلام الكهان المرتب على طريقة السجع، أوردوه بنصه على ما ذكروه. غير أن من الصعب تصور صدور ذلك الكلام المنمق من أناس عاشوا قبل الإسلامن ومحافظة الناس عليه محافظة تامة إلى ما بعد الإسلام. ويظهر على كل حال من دراسة روايات أهل الأخبار عن الكهان والأحناف أن كلام رجال الدين قبل الإسلام كان على هذا النمط من السجع، ومن جمل مكررة معادة عامة. وقد ظل الجسع الطريقة المحببة في الكتابة إلى أيامنا هذه عند بعض الكتاب.
ويفهم من كلام الرواة أن بعض هؤلاء الحنفاء كانوا نصارى مثل ورقة بن نوفل، أي على عكس ما يذكره الرواة أنفسهم من أن هؤلاء كانوا قد تجنبوا اليهودية والنصرانية متبعين ديانة إبراهيم2. والظاهر أن الرواة قد اشتبه عليهم الأمر، فخلطوا في بعض الأحيان بين النصرانية وبين هؤلاء الذين أنكروا عبادة الأصنام واعتقدوا التوحيد.
ولدينا أمثلة أخرى على هذا الوهم. وسنرى من تراجم عدد من الأحناف أن منهم من يحب إدخاله في عداد النصارى. لا الأحناف. وقد نص أهل الأخبار أنفسهم على تنصرهم، غير أنهم أدخلوهم مع ذلك في جملة الأحناف حين تكلموا عنهم. فكأنهم عنوا بالأحناف من كان على حياة الرهبنة والتقشف.
وقد أدخل "المسعودي" بعض الأحناف في جماعة أهل الفترة ممن كان بين المسيح ومحمد، ومن أهل التوحيد، ممن يقر بالبعث. ثم قال:"وقد اختلف الناس فيهم، فمن الناس من رأى أنهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك"3.
1
كل دين يوم القيامة عند اللـ
…
ـه إلا دين الحنيفة زور
الأغاني "4/ 122""طبعة دار الكتب المصرية".
2 بلوغ الأرب "2/ 270".
3 مروج "1/ 78"، "دار الأندلس".
وقد ذكر من بينهم "حنظلة بن صفوان"، و"خالد بن سنان العبسي"، و "رئاب الشني"، و "أسعد أبو كرب الحميري"، و "قس بن ساعدة الإيادي"، و "أمية بن أبي السلط الثقفي"، و "ورقة بن نوفل"، و "عداس" مولى "عتيبة بن ربيعة الثقفي"، وطورقة بن نوفل"، و "عداس" مولى "عتيبة بن ربيعة الثقفي، و "أبو قيس""صرمة بن أبي أنس" الأنصاري، و "أبو عامر الأوسي"، و "عبد الله بن جحش الأسدي"، و "بحيرا الراهب"1. ومن هؤلاء من كان على النصرانية، وقد نص "المسعودي" نفسه على ذلك.
والذين ذكر الرواة أسماءهم من الحنفاء هم أناس عاشوا في الجاهلية المتصلة بالإسلام، ومنهم من أدرك الرسول، ولا عبرة بالطبع لما زعمه الإخباريون من طول عمر أولئك الأشخاص وبلوغ بعضهم مئين عدة من السنين، وادخالهم في المعمرين2، فإن من عادة الإخباريين إطالة عمر هؤلاء وأمثالهم من الرجال البارزين الظاهرين، ليكون ذلك مناسبًا لما يجيء في أخبارهم من الحكم المنسوبة إليهم، وهي فكرة عامة نجدها عند غير العرب أيضًا، ولذلك نجد صورة الحكماء والفلاسفة في الغالب على صورة شيوخ أصحاب لحى طويلة بيض ورأس جلله الشيب أو قضى في الغالب على شعره الزمن والتفكير، فصلع، لأن هذه من علامات الحكمة والتفكير.
وعندي أن الحنفاء جماعة سخرت من عبادة الأصنام، وثارت عليها وعلى المثل الأخلاقية التي كانت سائدة في ذلك الزمن، ودعت إلى إصلاحات واسعة في الحياة وإلى محاربة الأمراض الاجتماعية العددية التي كانت متفشية في ذلك العهد، دعاها إلى ذلك ما رأته في قومها من إغراق في عبادة الأصنام ومن أسفاف في شرب الخمر ولعب الميسر وما شاكل ذلك من أمور مضرة، فرفعت صوتها كما يرفع المصلحون صوتهم في كل زمن ينادون بالإصلاح، وقد أثارت دعوتهم هذه المحافظين وأصحاب الجاه والنفوذ وسدنة الأوثان شأن كل دعوة إصلاحية. ويجوز أن يكون من بين هؤلاء من مال إلى النصرانية، غير أننا لا نستطيع أن نقول أنهم كانوا نصارى أو يهودًا، أنما أستطيع أن أشبه دعوة هؤلاء بدعوة الذين دعوا إلى عبادة الإله رب السماء "ذو سموى" أو عبادة الرحمن في اليمن،
1 مروج "1/ 78 وما بعدها".
2 جعل السجستاني عمر قس بن ساعدة الأيادي، وهو من الحنفاء، ثمانين وثلاث مئة سنة، بلوغ الأرب "2/ 246".
متأثرين بمبادئ التوحيد التي حملتها اليهودية والنصرانية إلى اليمن. ولكنهم لم يكونوا أنفسهم يهودًا أو نصارى، إنما هم أصحاب ديانة من ديانات التوحيد.
ولا يعني قولي هذا أن الحنفاء كانوا على رأي واحد ودين واحد كالذي يفهم مثلًا من قولنا يهودي ونصراني ويهود ونصارى، بمعنى أنهم كانوا طائفة معينة تسير على شريعة ثابتة كالذي ذهب "شبرنكر" إليه1. إنما كان أولئك الأحناف نفرًا من قبائل متفرقة لم تجمع بينهم رابطة، إنما اتفقت فكرتهم في رفض عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الإصلاح. وهذا المعنى واضح في آيات القرآن الكريم التي أشارت إلى الحنفاء.
والرجال الذين قال أهل الأخبار عنهم إنهم كانوا على دين، وكانوا من الأحناف، هم: قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت وأرباب بن رئاب، وسويد بن عامر المصطلقي، وأسعد أبو كرب الحميري، ووكيع بن زهير الإيادي، وعمير بن جندب الجهني، وعدي بن زيد العبادي، وأبو قيس صرمة بن أبي أنس، وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وعامر بن الظرب العدواني، وعبد الطانحة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة، وعلاف بن شهاب التميمي، والملتمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سلمى وخالد بن سنان العبسي، وعبد الله القضاعي، وعبيد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن لؤي بن غالب2.
وبعض هؤلاء مثل: "قس بن ساعدة الإيادي" و"عثمان بن الحويرث" و "عدي بن زيد العبادي" نصارى، وبعض منهم مثل "أسعد أبو كرب الحميري"، "أبو كرب اسعد الحميري"3 و"عبيد بن الأبرص"، و"زهير بن أبي سلمى"، مشكوك في أمرهم، لا نستطيع أن نذكر شيئًا عن دينهم. ولهذا فأنا أذكرهم هنا بحذر، مجاراة لمن أدخلهم في أهل الدين من الجاهليين. ولا أعني أنهم كانوا على الحنيفية، أي على شريعة التوحيد التي ينص عليها أهل الأخبار.
1 Sprenger، Das Leben، Bd.، I، S. 4.
2 بلوغ الأرب "2/ 244 وما بعدها"، مروج الذهب "1/ 78"، "دار الأندلس".
3 بلوغ الأرب "2/ 244"، مروج "1/ 52 وما بعدها".
وقد اقتصر "محمد بن حبيب" على ذكر بعض من تقدم، حين تكلم عن "أسماء الذين رفضوا عبادة الاصنام"، فذكرهم على هذا النحو: عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب الأسدي. وذكر أن منهم من تنصر ومات على النصرانية، مثل: عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب الأسدي1.
فأما قس بن ساعدة الأيادي، فقد رفعه الإخباريون من مصاف أسوياء البشر، ووضعوه في صف المعمرين الذين عاشوا مئين من السنين قبل سبع مئة سنة، وقيل ست مئة سنة، أو أقل من ذلك بكثير، غير أنه لا يقل عن ثلاث مئة سنة على كل حال2.
وأما مولده، لمجهول. وأما وفاته، فيكاد يحصل الاتفاق على أنه كان قبيل البعثة. وقد ورد في رواية إن الرسول أدركته ورآه يخطب في سوق عكاظ خطبته الشهيرة المعروفة، غير أنه لم يحفظها، وأن أبا بكر، وكان من جملة من حضر السوق وسمع الخطبة، كان قد حفظها، فأعادها على الرسول. وهي الخطبة الشهيرة المتداولة بين الناس والمحفوظة في الكتب. وهناك رواية تذكر أن الرسول كان يحفظها، وقد تلاها على من حضر عنده، وتلا بعضًا منها على وفد عبد العقيس3.
1 المحبر "171 وما بعدها".
2 وخيل: قس بن ساعدة بن حذافة بن زفر، وقيل: حذافة بن زهر بن نزار. وقيل: قسبن ساعدة بن عمرة بن عدي بن مالك بن ايدعان بن النمر الخ
…
وقيل: هو ابن ساعدة بن عمرو بن شمر بن عدي بن مالك، وهكذا. بلوغ الأرب "2/ 246"، البيان والتبيين "1/ 50""طبعة السندوبي"، "1926"، شعراء النصرانية "2/ 211"، "قس بن ساعدة الأيادي بن عمرو بن عدي بن مالك بن ابدطان "ايدعان" بن النمر بن وائلة بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أفصى، المحبر "ص 136"، الأغاني "14/ 40"، البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 230" الميداني، مجمع الأمثال "1/ 117".
3 وفي نصها بعض الاختلاف، راجع:
الإصابة "5/ 285"، "وقدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل منهم: هل تعرف قس بن ساعدة؟ فقال رسول الله: "ليس هو منكم. هذا رجل من إياد، تحنف في الجاهلية، فوافى عكاظ والناس مجتمعون، فيكلمهم بكلامه الذي حفظ عنه"، طبقات ابن سعد: الجزء الأول: القسم الثاني "ص 55"، "وفد بكر بن وائل"، محاضر الأبرار "ص 48 وما بعدها"، البداية والنهاية "2/ 230".
ومما يلفت النظر في الروايات الواردة عن حفظ الرسول لخطبة "قس"، هو إشاراتها إلى أن النبي كان يحفظ نص الخطبة، ولم يكن يحفظ الشعر الملحق بها. مع أن حفظ الشعر أيسر من حفظ النثر. ولعل الرواة رووا ذلك لإظهار أن الرسول كان لا يقول الشعر، وإنما كان يسمعه. ولكننا نجدهم من ناحية أخرى يروون أنه كان يتلو من الشعر المناسب ما شاء أن يتلو، وأنه كان يستشهد به في كلامه، وأنه كان يحفظ شيئًا من شعر الماضين والحاضرين. ولن يضير النبوة من حفظ الشعر شيئًا.
والنص المحفوظ لخطبة "قس" نص مختلف لم يتفق الرواة عليه. مما يدل على أنه لم يكن مدونًا، وإنما روي بروايات مختلفة، ثم دونت فيما بعد.
وأوصل بعض الإخباريين قسًا إلى القيصر، فزعموا أنه ذهب إليه واتصل به، وأن القيصر أكرمه وعظمه. وأنه سأله عن العلم قائلًا له: ما أفضل العلم؟ قال: معرفة الرجل بنفسه. قال: فما أفضل العقل؟ قال: وقوف المرء عند علمه. قال: فما أفضل الأدب؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المروءة؟ قال: قلة رغبة المرء في اختلاف وعده. قال: فما أفضل المال؟ قال: ما قضي به الحق1. وهو كلام ينبئك أسلوبه وطبيعته عن أصله وفصله، وله أصل يرجع إلى الفلاسفة اليونان. ونسبوا له قبرًا جعلوه في موضع "روحين" على مقربة من حلب في لحف جبل ينذر له2.
ونجد حديث قيصر المزعوم مع "قس"، في رواية أخرى على شكل آخر. وقد أهملت هذه الرواية اسم قيصر. فلم تشر إليه، واكتفت بلفظة "قيل"، فقالت:"قيل لقس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة؟ قال: معرفة الرجل بنفسه. قيل له: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه! قيل له: فما أفضل المروءة؟ قال استبقاء الرجل ماء وجهه"3.
وقس هو مخترع أوجد للعرب أشياء عديدة على زعم أهل الأخبار. أحدث لهم أمورًا كثيرة. فهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ
1 شعراء النصرانية "2/ 211"، الأمالي، للقالي "3/ 37""دار الكتب"، العقد الفريد "2/ 254 وما بعدها، 290 وما بعدها".
2 شعراء النصرانية "2/ 216"، الأغاني "14/ 40 وما بعدها".
3 العقد الفريد "2/ 290 وما بعدها".
عند خطبته على سيف أو عصا وأول من علا على شرف وخطب عليه، وأول من قال:"أما بعد"، وأول من كتب "إلى فلان بن فلان"1. وأول من قال:"البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فكل ما عرفه العرب من هذه الأمور، هو من صنعة قس وعمله. ثم أنه كان أحد حكماء العرب، وكان أسقف نجران، وخطيب العرب كافة2. وذكروا أن له ولقومه فضيلة ليست لأحد من العرب، لأن الرسول روى كلامه وموقفه على جمله الأورق بعكاظ وموعظته، وعجب من حسن كلامه، وأظهر تصويبه3، وأنه قال فيه: "يحشر أمة وحده" 4.
وجاء في رواية في تفسير قول الرسول: "يحشر أمة وحده"، أو "يرحم الله قسًا، إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة واحدة"، أن وفدًا من إياد قدم على النبي: فسألهم عن قس، فقالوا: هلك. فقال: "رحمه الله، كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق "أحمر" وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أوجدني أحفظه". فقال رجل من القوم، أنا أحفظه يا رسول الله. سمعته يقول: أيها الناس اسمعوا وعوا
…
إلى آخر الخطبة، وما جاء بعدها من شعر، فقال رسول الله عندئذ قوله المذكور فيه5.
ويختلف هذا الخبر بعض الاختلاف مع خبر آخر أشرت إليه قبل قليل، فقد وردت في ذلك الخبر أن رسول الله كان يحفظ تلك الخطبة، غير أنه لم يكن يحفظ الأبيات الملحقة بها، وكان "أبو بكر" يحفظها، فأعادها على مسامعه6. كما يختلف عن رواية أخرى، جاء فيها أن الوفد الذي قدم على الرسول كان وفد "عبد القيس"، وأن الذي قرأ الشعر عليه هو أحد بني عبد القيس7.
1 المؤتلف والمختلف، للمرزباني "338"، بلوغ الأرب "2/ 246"، الأغاني "14/ 40 وما بعدها" مروج الذهب "1/ 82"، "2/ 102"، "دار الأندلس"، البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".
2 اللسان "8/ 58"، شعراء النصرانية "2/ 211".
3 بلوغ الأرب "2/ 246".
4 الأغاني "14/ 40".
5 الأغاني "14/ 40 وما بعدها"، المعارف "61"، البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".
6 البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها"، مجمع الأمثال، للميداني "1/ 117".
7 البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".
ويذكر بعض أهل الأخبار، أن "الجارود"، وكان في ضمن رجال وفد "عبد القيس"، قال للرسول حين سأل عن "قس":"فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وإني من بينهم لعالم بخبره، وأقف على أمره. كان قس يا رسول الله سيطًا من أسياط العمر عمر ستمائة سنة، تقفر منها خمسة أعمار في البراري والقفار". ثم أخذ في وصفه وفي ذكر عقائده، وفي لقياه لـ "سمعان" رأس الحواريين. وخلص بعد ذلك إلى ذكر نص خطبته بسوق عكاظ، ومطلعها:"شرق وغرب"، حتى انتهى منها، ثم ألحق بها شعرًا1. وهي خطبة تختلف تمامًا عن الخطبة المعروفة التي تنسب إليه، وإن كانت على نمطها من حيث الأسلوب والأفكار، وفيها مصطلحات إسلامية ترد في القرآن الكريم. ولا أستبعد أن تكون من وضع شخص آخر غير الجارود. وضعها في العصور العباسية، للحث على الزهد.
والجارود من سادات عبد القيس، وكان نصرانيًّا، قدم على النبي سنة عشر في وفد عبد القيس الأخير، وسر الرسول بإسلامه، وكان حسن الإسلام صلبًا على دينه، وقتل بأرض فارس في خلافة عمر، وقيل بقي إلى خلافة عثمان2.
ولو صح ما ذكروه من أنه كان أسقفًا على نجران، لوجب إخراجه إذن من الحنيفية وإدخاله في عداد النصارى. ولكن ليس مؤكدًا أنه كان أسقفًا على ذلك الموضع، ويرى الأب "لامانس" احتمال كونه نصرانيًّا، لأن ما نسب إليه يبعث على هذا الظن3. وقد أدخل الأب "لويس شيخو" قسًا في جملة النصارى الجاهليين، وأورد أكثر ما نسب إليه في ترجمته4. غير أن كثيرًا من هذا المنسوب إليه منسوب إلى غيره. وقد أشار إلى من نسب إليهم من العلماء.
وذهب "شبرنكر" إلى أن قسًا كان من "الركوسية"، وهم فرقة عرفهم أهل اللغة بأنهم بين النصارى والصابئين، شملت جماعة من الحائرين في أمر دينهم، ولذلك عمدوا إلى السياحة والترهب والانزواء5. وقد حسبهم العرب نصارى، فأدخلوهم فيهم في أثناء كلامهم على هؤلاء6.
1 البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".
2 الإصابة "1/ 217 وما بعدها"، "رقم 1042".
3 Ency.، II، P، 1161، Sprenger، Leben، I، S. 45.
4 شعراء النصرانية "2/ 211 وما بعدها".
5 تاج العروس "4/ 163".
6 Sprenger، Leben، I، S. 43.
ويرى "لامانس" أنه لو كان قيس شخصية تاريخية حقًّا، فإن زمانه لا يمكن أن يكون في أيام الرسول أو في أيام مقاربة من أيامه. إذ لا يعقل عنده أن يتكون هذا القصص الذي صير قسًا شخصية من الشخصيات الخرافية، لو كان من المعاصرين أو المقاربين له. ثم إن ايادًا لم تكن في أيام الرسول كتلة واحدة، حتى ينسب قس إليها. فلا بد اذن أن تكون أيام هذا الرجل بعيدة بعض البعض عن أيام الرسول1.
غير أن حجج "لامانس" المذكورة لا يمكن أن تكون سندًا يؤيد ادعاءه في ان قسًا كان شخصية خرافية، أو أنه كان رجلًا حقًّا، ولكنه كان بعيد العهد عن الرسول. فقد روى الإخباريون قصصًا كثيرًا عن سلمان الفارسي وعن غير سلمان من الصحابة، لا يقل نسيجًا عن نسيج قصص قس، فهل يتخذ هذا القصص حجة لإنكار شخصية سلمان وغيره ممن وزد هذا القصص عنهم؟ وهل يجوز أن نقول إن سلمان إن كان شخصًا حقًّا فوجب أن تكون أيامه بعيدة عن أيام الرسول.
ولدى الرواة أبيات ينسبونها إلى بعض الشعراء الجاهليين، هم: الاعشى، والحطيأة، ولبيد، ذكر فيها اسم قس. وقد أشيد فيها بفصاحته وببلاغته وحكمته، حتى جعل لبيد لقمان دون قس في الحكم2.
وورد اسم "قس" في هذا الشعر وفي أمثاله إن صح أنه من شعر الجاهليين حقًّا، وورود اسمه في الحديث وفي الأخبار، هو تعبير عن رأي أهل الجاهلية في خطيب مفوه عد في نظرهم المثل الأعلى في الخطابة وممثل البلاغة عندهم فهو كشيوخ الخطباء عند اللاتين.
1 Ency.، II، P. 1161.
2 قال لبيد:
وأخلف قسا ليتني ولعلني
…
وأعيا على لقمان حكم التدبر
الإصابة "5/ 285""قس"، قال الأعشى:
وأحلم من قس وأجرى من الذي
…
بذى الغيل من خفان أصبح حاردا
وفي رواية أخرى:
وأحلم من قيس وأجرء مقدمًا
…
لذى الدرع من ليث إذا راح حاردا
ديون الأعشى "ص 49""تحقيق R. Geyer". المؤتلف والمختلف "ص 338"، وقال الحطياة:
وأقول من قس وأمضى إذا مضى
…
من الرمح إذ مس النفوس نكالها
المؤتلف والمختلف "ص 338".
وجميع هذا القصص المروي عن قس، هو من النوع الذي يحتاج إلى تمحيص. وقد نسبوا إليه شعرًا، زعموا أنه قاله وهو يبكي بين قبرين بني بينهما مسجدًا، هما قبرا أخويه، على حين أن أكثر الرواة يقولون إن هذا الشعر لغيره، وأن قصة القبرين لا تخص قسًا، بل تخص أناسًا آخرين، وقد كانا في إيران وأصحابهما قبرا فيهما في الإسلام. ورواة هذا الخبر، هم رواة خطبة قس الشهيرة، وهم محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح بن عباس وجماعة آخرون أشار "ابن حجر" إلى بعضهم في كتابه:"الإصابة في تمييز الصحابة"، وقد ضعف ابن حجر هذه الطرق، فقال:"وقد أفرد بعض الرواة طريق حديث قس، وفيه شعره وخطبته، وهو في الطوالات للطبراني وغيرها. وطرقه كلها ضعيفة"1. ثم عرج بعد ذلك إلى ذكر بعض الطرق التي وردت فيها خطبة قس.
وأما "زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر"، فهو من قريش من بني عدي، لم تعجبه عبادة قومه، فانتقدها وسخفها وهزي منها ووقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان، ونهى عن قتل الموؤودة، وامتنع من الذبح للأنساب ومن أكل الميتة والدم وما ذبح للأصنام. فكان في آرائه هذه مثل نفر آخر من قريش منهم: ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش، لاموا قومهم على عبادتهم الأصنام، واتخاذ الأنصاب وعبادة ما لا يضر ولا ينفع2. وهم طائفة من المفكرين، رأى بعضهم بلاد الشام، واتصل ببعض المبشرين النصارى، ووقف على التطورات الفكرية في الخارج، ولعله كان يقرأ ويكتب، وله اطلاع على مؤلفات في الفلسفة والدين.
وترجع إحدى الروايات سبب خروج "زيد" على عبادة قومه، أنه حضر يومًا وحضر معه في ذلك اليوم "ورقة بن نوفل"، و "عبد الله بن جحش" و "عثمان بن الحويرث"، عيدًا من أعياد قريش، عند صنم من أصنامهم،
1 الأغاني "14/ 40 وما بعدها"، الإصابة "5/ 286".
2 ابن هشام "1/ 244 وما بعدها"، ارشاد اساري "6/ 190"، أسد الغابة "2/ 236"، طبقات الشعراء "ص 66""طبعة ليدن"، البداية والنهاية "2/ 237"، ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني "ص 707"، المسعودي، مروج "1/ 70""محمد محيي الدين عبد الحميدي" الأغاني "3/ 113"، البخاري "5/ 50" المعارف "27".
كانوا يعظمونه، ويعكفون عنده، أو يديرون به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا، وكانوا ينحرون له، فلما خلد بعضهم إلى بعض وتصادقوا، قالوا ليكتم بعضكم على بعض، واتفقوا على ذلك، ثم قال قائلهم: تعلمون والله ما قولكم على شيئ، لقد أخطئوا دين إبراهيم وخالفوه. ما وثن يعبد؟ لا يضر ولا ينفع فابتغوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء. فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب"1.
وقد زار زيد الشام والبلقاء، وعاش على خمس سنين قبل البعث، فهو من أولئك الرهط الثائرين على قومهم، والذين أدركوا أيام الرسول. وقد نسبوا إليه شعرًا في تسفيه عبادة قومه، وفي فراقة دينهم وما لقيه منهم. وكان قد أوذي لمقالته هذه في دين قومه، حتى أكره على ترك مكة والنزول بـ "حراء"، وكان "الخطاب بن نفيل" عمه، وقد وكل به شبابًا من شباب قريش وسفهاء من سفائهم كلفهم ألا يسمحوا له بدخول البلدة وبمنعه من الإتصال بأهلها، مخافة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراق ما هم عليه. واضطر زيد إلى المعيشة في هذا المحل، معتزلًا قومه، إلا فترات، كان يهرب خلالها سرًا، ليذهب إلى موطنه ومسكنه، فكانوا إذا أحسوا بوجوده هناك، آلموه وآذوه2.
وورد في رواية، يرجع رواتها سندها إلى "هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل"، أي إلى حفيد "زيد"، تذكر أن "زيد" خرج مع "ورقة بن نوفل" يلتمسان الدين، حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فسأله عن الدين، فلم يقتنع بالنصرانية، أما "ورقة"، فاقتنع بها وتنصر3. وتذكر رواية أخرى أن "زيد بن عمرو" خرج إلى الشام ومعه:"ورقة بن نوفل"، و"عثمان بن الحويرث"، و "عبيد الله بن جحش"4. ويذكر الرواة أن زيدًا كان
1 البداية "2/ 238"، ابن هشام، سيرة "1/ 242".
2 ابن هشام "1/ 240 وما بعدها""البابي"، بلوغ الأرب "2/ 251 وما بعدها"، ابن سعد، الطبقات "1/ 162""طبعة دار صادر"، مروج الذهب "1/ 70""القاهرة 1958م"، البداية "2/ 238".
3 البداية "2/ 238".
4 البداية "2/ 243".
نديمًا لورقة بن نوفل، فمات ورقة، وخرج زيد إلى الشام، فقتله لخم وجذام1.
ويذكر أهل الأخبار أن حرصه على الحنيفية وتمسكه الشديد بها، حمله على السفر إلى بلاد شاسعة بحثًا عنها وعن مبادئها الصحيحة، مبادئ إبراهيم الأصيلة الخالية من كل درن وشائبة. فذهب إلى الموصل والجزيرة، ثم طاف في بلاد الشام حتى انتهى إلى راهب بـ "ميفعة"2 "ببيعة"3 من أرض البلقاء أو "أيلة"، فسأله عما قدم من أجله، فأرشده إلى أن ما يبتغيه ويراه لا يجده في النصرانية، فغادره وتركه، وعاد يريد مكة موطنه. فلما توسط بلاد لخم أو جذام، عدوا عليه وقتلوه. وقالوا أيضًا أنه التقى في أثناء أسفاره هذه بأحبار اليهود وبعلماء من النصارى، ولكنه لم يجسد عندهم ما يطمئن نفسه، وما يرى فيه التوحيد الخالص، ومبادئ إبراهيم، لذلك لم يدخل في ديانة ما من تلك الديانتين، حتى قتل4.
وتذكر رواية من الروايات، أن "زيد بن عمرو بن نفيل" مات بالسم في بلاد الشام، سمة بعض ملوك غسان5. وتجعل رواية أخرى مقتله بمكان يقال له "ميفعة" من أرض البلقاء بالشام، وتذكر. أن قتلته هم من بني لخم6. وتذكر رواية أن "ورقة بن نوفل"، لما سمع بخبر وفاته بكاه في شعر له7.
وهناك روايات أخرى تفيد رجوع زيد إلى قومه بعد عودته من الشام، ووفاته وفاة طبيعية لا قتلًا بيد إنسان. "توفي وقريش تبني الكعبة قبل أن ينزل الوحي على رسول الله بخمس سنين"، ودفن بأصل حراء8.
1 المحبر "175".
2 ابن هشام "1/ 249".
3 "ببيعة"، البداية "2/ 238".
4 ابن هشام "1/ 249 وما بعدها"، طبقات ابن سعد: الجزء الثالث: القسم الأول "ص 276 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 251 وما بعدها"، "فلما توسط أرض جذام عدوا عليه فقتلوه" المحبر "ص 172"، سير أعلام النبلاء، للذهبي "1/ 90 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 707 وما بعدها"، المسعودي، مروج "1/ 70"، إرشاد الساري "6/ 172 وما بعدها".
5 المسعودي، مروج "2/ 56".
6 البداية "2/ 241".
7 ابن هشام "1/ 249 وما بعدها".
8 طبقات ابن سعد: الجزء الثالث: القسم الأول "ص 277"، البداية "2/ 241".
وفي رواية تظهر عليها سيماء الصنعة، أن الذي أرشد "زيد بن عمرو" إلى الحنيفية، حبر التقى به في بلاد الشام، وعالم نصراني، وذلك أنه كان قد سألهما عن دين صحيح قويم، فأرشداه إلى الحنيفية دين إبراهيم. فدخل فيها وصار يرفع يديه إلى الله ويقول: اللهم إني أشهدك إني على دين إبراهيم1. ونجد في هذه الرواية أسئلة وجهها "زيد" إلى الحبر في البحث عن الله وعن دينه الحق، وأجوبة الحبر عليها. كما نجد أسئلة أخرى ذكر أنه وجهها إلى العالم النصراني، ونجد أجوبة ذلك العالم عليها. وكيف أنهما دلاه على الحنيفية2.
وذكر "ابن حبيب" أن زيدًا "أول من عاب على قريش ما هم عليه من عبادة الأوثان"3. وقال عنه "ابن دريد"، وكان قد "ترك دين العرب في الجاهلية وقلاه"4. وقصد بـ "دين العرب" الوثنية ولا شك. وزعم أنه "كان يحيى الموؤودة. يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته مهلًا: لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها"5. وقيل أنه كان يقول: "اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب إليك سجدت إليه. ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته"6. وأنه كان "يقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم. وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله تعالى! إنكارًا لذلك وإعظامًا له"7. أو "يا معشر قريش: أيرسل الله قطر السماء، وينبت بقل الأرض، ويخلق السائمة فترعى فيه، وتذبحونها لغيره! والله ما أعلم على ظهر الأرض أحدًا على دين إبراهيم غيري"8. ويستقبل القبلة ثم يقول:
1 الطبري، تفسير "3/ 306"، صحيح البخاري "5/ 50"، "مطبعة الأزهر بمصر".
2 الأغاني "3/ 126 وما بعدها""دار الكتاب المصرية"، البداية "2/ 238".
3 المحبر "ص 171".
4 الاشتقاق "ص 103".
5 طبقات ابن سعد، الجزء الثالث: القسم الأول "ص 276 وما بعدها".
6 المحبر "ص 171".
7 أسد الغابة "2/ 236"، طبقات الشعراء "66""طبعة ليدن"، بلوغ الأرب "2/ 248"، البداية والنهاية "2/ 237"، إرشاد الساري "6/ 171 وما بعدها".
8 الأغاني "3/ 119 وما بعدها".
أنفي لرب البيت عان راغم
…
مهما يجشمني فإني جاشم
عذت بما عاذ به إبراهيم
…
مستقبل القبلة وهو قائم1
وروي أن أسماء بنت أبي بكر "قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندًا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري. ثم يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به. ولكني لا أعلم. ثم يسجد على راحته"2. ثم يصلي إلى الكعبة ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم3.
وذكر "ابن دريد" أن "زيد بن عمرو بن نفيل"، أدرك أيام الرسول، ثم قال:"وكان النبي عليه الصلاة والسلام قبل الوحي قد حبب إليه الانفراد، فكان يخلو في شعاب مكة، قال: فرأيت زيد بن عمرو بن نفيل في بعض المشاعب، وكان قد تفرد أيضًا، فجلست إليه وقربت إليه طعامًا فيه لحم، فقال لي يابن أخي إني لا آكل من هذه الذبائح"4.
وذكر "ابن دريد"، أن زيد بن عمرو قال شعرًا في تجنبه الأصنام، هو:
فلا عزى أدين ولا ابنتيها
…
ولا صنمي بني عمرو أزور
أربًا واحدًا أم ألف رب
…
أدين إذا تقسمت الأمور5
ويفهم من هذا الشعر أن "عزى"، إلهة، أي انثى، وأن لها ابنتين اثنتين. ولم يشر "ابن دريد" إلى اسميهما.
وقد صيغت الرواية المتقدمة التي تشير إلى التقاء الرسول بزيد في شكل آخر. صيغت بهذه الصورة: "أتى زيد بن عمرو بن نفيل على رسول الله صلى الله
1 كتاب نسب قريش، للزبيري "ص 364".
2 البداية "2/ 237"، الذهبي، تاريخ الإسلام "1/ 54". البغدادي، خزانة "3/ 99".
3 المصدر نفسه.
4 الاشتقاق "84"، إرشاد الساري "6/ 171 وما بعدها".
5 الاشتقاق "84"، وورد:
أربًا واحدا أم ألف رب
…
أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعًا
…
كذلك يعقل الجلد الصبور
فلا عزى أدين ولا ابنتيها
…
ولا صنمي بني عمرو أزور
عليه وسلم، ومعه زيد بن حارثة، وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعواه لطعامهما، فقال زيد بن عمرو: يابن أخي: أنا لا آكل مما ذبح على النصب"1.
وورد خبر التقاء "زيد" مع رسول الله في رواية أخرى. يرجع رواتها سندها إلى "زيد بن حارثة". يذكرون أنه قال: خرجت مع رسول الله في يوم حار من أيام مكة، وهو مردفي، فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل، فحيا كل منا صاحبه. فقال النبي:"يا زيد مالي أرى قومك قد شنقوك؟ " فأجابه زيد، بأنه لا يهتم بذلك، وأنه خرج يبتغي دين الله، حتى قدم على أحبار خيبر، فوجدهم يعبدون الله ويشركون به. ثم سأل أحد الأحبار، وهو شيخ منهم عن الدين الذي يبتغيه، فقال له: ما نعلم أحد يعبد الله به إلا شيخًا بالحيرة، فخرج إليه. فلما كلمه قال له: إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك قد بعث نبي، قد طلع نجمه. فعاد إلى مكة2. ولو صح هذا الخبر لوجب أن يكون زيد قد أدرك مبعث الرسول. ولكن أهل الأخبار مجمعون على أنه توفي قبل المبعث. وأن الرسول نفسه قال عنه:"يبعث يوم القيامة أمة واحدة". وعلى الخبر سيماء الصنعة والتزويق.
ومروي عنه أن قومه كانوا إذا دعوه إلى وليمة، كان يأبى أن يأكل منها قائلًا:"إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه"3. وهكذا كان يقاطع أكل لحوم الحيوانات التي تذبح للأصنام. ويشاركه في الامتناع عن أكل لحوم هذه الذبائح الأحناف الآخرون، فقد روي أن ورقة بن نوفل كان لا يأكل من لحوم هذه الذبائح أيضًا للسبب المذكور4.
ويذكر أهل الأخبار أن "زيد بن عمرو بن نفيل" كان إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال: لبيك حقًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا، البر أرجو لا الحال، وهل مهجر لمن قال. ثم يقول:
عذت بما عاذ به إبراهيم
…
مستقبل الكعبة وهو قائم5
1 البداية "2/ 238، 240".
2 أسد الغابة "2/ 231".
3 البخاري "5/ 50".
4 الأغاني "3/ 119".
5 الأغاني "3/ 117".
أو "لبيك حقًّا، تعبدًا ورقًّا، عذت بما عاد به إبراهيم"1.
وذكر أنه كان يأمر بالتوحيد وبعبادة إله واحد. ومن ذلك قوله:
لا تعبدن إلها غير خالقكم
…
وإن دعيتم فقولوا دونه حدد2
وزعم إنه كان يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة، فصلى وسجد سجدتين، ثم يقول: هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل لا أعبد حجرًا ولا أصلي له ولا آكل ما ذبح له، ولا أستقسم بالأزلام، إنما أصلي لهذا البيت حتى أموت. وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي، فيقول: لبيك لا شرك لك، ولا ند لك، ثم يدفع من عرفة ماشيًّا، وهو يقول: لبيك متعبدًا مرقوقًا3.
ويروي أهل الأخبار أقوالا أخرى لزيد، كما رووا له أشعارًا زعموا أنه قالها، وهي في هذه الأمور التي ينسبونها إلى الأحناف من ذكر لديانة إبراهيم وللتوحيد ومن ذم إلى الأصنام ومن إصلاح لحال مجتمع ذلك اليوم4. كما رووا له أبياتا من شعر زعموا أنه نظمه يعاتب فيه زوجته "صفية بنت الحضرمي"، لأنها كانت تمانع في خروجه عن مكة وفي سفره إلى الخارج التماسا لهذا الدين5.
وتفيد رواية من روايات أهل الأخبار بأن "زيد بن عمرو بن نفيل"، كان في جملة من اشترك في "حرب الفجار"، تقول إنه كان على رأس "بني عدي" وذلك في يوم شمطه6.
وروي أن رسول الله سئل عن "زيد بن عمرو"، فقال:"يبعث أمة وحده يوم القيامة" 7، بل روي أنه ترحم عليه، وأنه قال:"رأيته في الجنة يسحب ذيولا"8.
1 الأغاني "2/ 238".
2 تاج العروس "2/ 331"، "حدد".
3 البداية "2/ 239".
4 الأغاني "3/ 117".
5 ابن هشام، سيرة "1/ 247".
6 البلاذري، أنساب "1/ 102".
7 البخاري "5/ 50"، المعارف "27"، البغدادي، خزانة "3/ 100".
8 ابن سعد، طبقات "3/ 273.
وينسب أهل الأخبار لزيد شعرا، هو من هذا الشعر الذي ينسبوه إلى الأحناف، ذي الطابع الديني، من بحث عن توحيد، وحث على عبادة إله واحد، وإقرار بحساب وكتاب. وأمثال ذلك1. وقد نسب بعض منه إلى "أمية بن أبي الصلت"، ونسب بعض منه إلى شعراء آخرين. كما أن الرواة يروون هذا الشعر بقراءات مختلفة.
ومن ولد زيد رجل كان له سبق وقدم في الإسلام، هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. كان من السابقين الأولين ومن المهاجرين، شهد المشاهد والأحداث المهمة، إلا بدرًا، فإنه لم يكن حاضرًا بالمدينة إذا ذاك. وهو أحد العشرة المبشرة. ذكر أنه أسلم قبل دخول رسول الله دار الأرقم، ولا بد أن يكون لرأي والده في دين قومه وما أبداه من ثورة صريحة جامحة على عقائدهم أثر في نشوء هذا الابن وفي إقدامه مع السابقين على الدخول في الإسلام، بعد أن كان والده قد سبق إسلامه برحيله إلى الآخرة بسنين. وأمه "فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خويلد بن خالد بن اليعمر" من خزاعة، ولسعيد أخت اسمها عاتكة بنت زيد2.
وذكر "ابن هشام" أن زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، اتفقوا في الرأي والعقيدة، وتعاهدوا على نبذ عبادة قومهم، وما كانوا عليه من ضلال، وتصادقوا، وكونوا عصبة خرجت على عبادة قريش، فلم يشتركوا معهم في أعيادهم، ولم يشاركوا في عبادتهم، وظلوا حتى ماتوا عن عبادة قومهم صابئين3.
أما عبيد الله بن جحش بن رئاب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، فقد بقي مرتابا في دين قومه، بعيدا عنهم وعن عبادتهم، حتى إذا ظهر الإسلام دخل فيه، ثم هاجر مع من هاجر إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مسلمة كذلك. فلما صار في الحبشة، فارق الإسلام
1 البداية "2/ 241 وما بعدها".
2 كتاب نسب قريش "365"، الاستيعاب "4/ 365"، الإصابة "2/ 44"، "رقم 3261".
3 ابن هشام "1/ 242""طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، المحبر "171، 175،237"، الروض الأنف "1/ 145".
وتنصر، وهلك هناك1.
وأما عثمان بن الحويرث، فقد بقي مغاضبًا قومه في دينهم، ثم رأى الذهاب إلى الروم، فذهب إليهم، وتقرب إلى قيصر، وحسنت منزلته عنده، وتنصر ومنحه لقب "بطريق"، وأراد تنصيبه ملكًا على مكة، ولكن قومه أبوا عليه ذلك، فلم يتم له مراده، ومات بالشام مسمومًا، سمه عمرو بن جفنة الغساني2.
وذكر "الزبيري"، أن والدة "عثمان بن الحويرث"، هي "تماضر بنت عمير بن أهيب بن حذاقة بن جمح"3. وأنه خرج إلى "قيصر فسأله أن يملكه على قريش، وقال: أحملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل، وكتب له عإدًا وختمه بالذهب، فهابت قريش قيصر، وهموا أن يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة، فصاح، والناس في الطواف: إن قريشًا لقاح، لا تملك ولا تملك، فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، فمات عند ابن جفنة، فاتهمت بنو أسد بن جفنة بقتله"4. وكان ابن جفنة حبس أبا ذئب عنده، وأبا أحيحة بسبب عثمان بن الحويرث5. ويقصدون بابن جفنة: عمرو بن جفنة الغساني6.
وتذكر إحدى الروايات، إن وفاة "عثمان بن الحويرث" كانت بالشام، وقد مات عند قيصر، وكانت وفاته قبل المبعث بثلاثين سنة، أو نحوها. وقد رثاه "زيد بن عمرو بن نفيل"7، وورقة بن نوفل8.
ويعد "عثمان بن الحويرث" من أشراف "بني أسد" من قريش9. وقد كان مع "خويلد بن أسد" على رأس "بني أسد" في "حرب الفجار"10.
1 ابن هشام "1/ 243"، المحبر 76، 88، 172، 173"، البداية "2/ 243".
L KrehI Das Leben Muhammad
2 ابن هشام "1/ 243"، الاشتقاق "ص59"، المحبر "165، 170، 171، 175، 307" الروض الأنف "1/ 146".
3، 4 كتاب نسب قريش "209 وما بعدها"، وذكر صاحب "المحبر" أن أمه من الحبشيات "307".
5 الحبشيات "307"،
6 جمهرة ابن حزم "190".
7 البداية "2/ 243".ط
8 كتاب نسب قريش "210".
9 المحبر "165".
10 المحبر "170".
وكان ينادمه "شيبة بن ربيعة بن عبد شمس". وقد تنصرا جميعًا، وقتل شيبة يوم بدر كافرًا1.
وأما "أمية بن أبي الصلت"، فهو أحسن الحنفاء حظًّا في بقاء الذكر، بقي كثير من شعره، وربما وضع كثير منه على لسانه، وحفظ قسط لا بأس به من أخباره. وسبب ذلك بقاؤه إلى ما بعد البعث، واتصاله بتاريخ النبوة والإسلام اتصالا مباشرًا وملاءمة شعره بوجه عام لروح الإسلام، لم يكن مسلمًا ولم يرض أن يدخل في الإسلام، لأنه كان يأمل أن تكون النبوة فيه، وأن ينزل الوحي عليه، فيكون نبي العرب والعالم أجمعين، فلما رأى النبوة في الرسول، حسده، وأثار المشركين عليه، ورثى قتلاهم في معركة بدر، وحرض قريشًا عليه، حتى مات على حسده وعناده سنة تسع للهجرة بالطائف قبل أن يسلم قومه الثقفيون. ولم يمت مسلمًا، ولم يمت على دين الوثنيين من قومه: بل مات كافرًا بالديانتين2.
وقد جاء في بعض الروايات، إن وفاة "أمية"، كانت في السنة الثانية من الهجرة3. وورد في روايات أخرى أنه توفي سنة تسع للهجرة، كافرًا قبل أن يسلم الثقفيون4.
ورثاؤه قتلى معركة بدر، محفوظ في قصيدة حائية. مطلعها:
ألا بكيت على الكرا
…
م بني الكرام أولى الممادح
كبكا الحمام على فرو
…
ع الأيك في الغصن الصوادح
1 المحبر "175".
2 الأغاني "4/ 120 وما بعدها"، "طبعة دار الكتب المصرية"، ابن هشام "1/ 11، 48،61، 63، 68"، "2/ 16،321، 401،406"، "3/ 65""طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، شرح السيرة النبوية، لأبي ذر بن محمد بن مسعود الخشني "1/ 23،24"،"تحقيق بولس بروفله" نسب قريش "98"، جمهرة الأنساب "257"، ابن قتيبة، الشعراء "429"، شعراء النصرانية "2/ 219 وما بعدها"، الأغاني "16/ 69"،الحيوان للجاحظ "2/ 320"، خزانة الأدب "1/ 119"، الشعر والشعراء "176"، النووي، تهذيب الأسماء "1/ 126"، Ency IV p 997"
3 تاريخ الخميس "1/ 412"، الأغاني "4/ 124، 129"، الشعر والشعراء "1/ 369".
4 الإصابة "1/ 134"، "رقم 552".
وهي قصيدة يتوجع فيا أمية لسقوط قتلى المشركين، ودفنهم بالقليب، وفيهم "عتبة" و"شيبة" ابنا "ربيعة بن عبد شمس"، وهما ابنا خالة أمية، وقد ذكر بعض الرواة أن الذي حمله على قول هذا الشعر، هو أنه لما وصل إلى القليب موضع مدفن قتلى قريش بدر، وكان ذاهبا إلى المدينة يريد الدخول في الإسلام، قال له بعض من كان معه من غلاط الأكباد من المشركين: هل تدري ما في هذا القليب؟ قال: لا. قيل: فيه شيبة وربيعة وفلان وفلان. فجدع أنف ناقته، وشق ثوبه، وبكى، وعاد إلى الطائف1.
وذكر أن أمية نال في بيتين من هذه القصيدة من أصحاب رسول الله، ولذلك أهملهما "ابن هشام" صاحب السيرة2. وذكر أيضًا أن النبي نهى عن روايتهما3. ولكن الرواة رووها وحفظوها ودونوها في الكتب، فكيف تجرؤوا على حفظها وتدوينها لو صح أن النبي نهى عن روايتها على نحو ما يزعمه أهل الأخبار.
وأمية مثل سائر المتألهين الآخرين من طبقة الحنفاء، سافر إلى الشام، واتصل بأهلها، وأوى إلى الأديرة ورجال الدين يسأل منهم عما يهمه من مشكلات دينية وعما كان يجول في خاطره من عبادة قومه وحقيقة العالم، وكان تاجرًا، يذهب مع التجار في قوافلهم إلى تلك الديار التي كانت في أيدي الروم. ثم إنه كان على ما يظهر من الروايات التي وردت في ترجمته وسيرته قارئًا كاتبًا، قرأ الكتب، ووقف عليها، ومنها ومن اتصاله برجال الدين وبأهل الكتاب تكونت عنده فكرته عن الدين، وشكه في عبادة قومه وفيما كانوا عليه من عقائد وعبادات. وقد بدا هذا التأثر في الكلمات والمصطلحات الأعجمية والغربية المستعملة في شعره وفي الأمثلة والقصص المنتزع من الكتابين: للعهد القديم والعهد الجديد ومن موارد
وأمية مثل سائر المتألهين الآخرين من طبقة الحنفاء، سافر إلى الشام، واتصل بأهلها، وأوى إلى الأديرة ورجال الدين يسأل منهم عما يهمه من مشكلات دينية وعما كان يجول في خاطره من عبادة قومه وحقيقة العالم، وكان تاجرا، يذهب مع التجار في قوافلهم إلى تلك الديار التي كانت في أيدي الروم. ثم إنه كان على ما يظهر من الروايات التي وردت في ترجمته وسيرته قارئا كاتبا، قرأ الكتب، ووقف عليها، ومنها ومن اتصاله برجال الدين وبأهل الكتاب تكونت عنده فكرته عن الدين، وشكه في عبادة قومه وفيما كانوا عليه من عقائد وعبادات. وقد بدا هذا التأثر في الكلمات والمصطلحات الأعجمية والغربية المستعملة في شعره وفي الأمثلة والقصص المنتزع من الكتابين: للعهد القديم والعهد الجديد ومن موارد
1 ابن هشام "2/ 401 وما بعدها"، راجع القصيدة في "ص20"، من ديوان أمية، بيروت 1934، بلوغ الأرب "2/ 256"، خزانة الأدب "1/ 119"، الحيوان، للجاحظ "2/ 329"، الشعر والشعراء "176"،البيان والتبيين "1/ 291" المسعودي، مروج "1/ 73" محمد محيي الدين عبد الحميد" "1958م"، الأغاني "119 وما بعدها"، خزانة الأدب "2/ 39 وما بعدها"، الأغاني "4/ 122"، الإصابة "1/ 134"، "رقم 552".
2 ابن هشام "2/ 405".
3 الأغاني "4/ 123""ذكر أمية بن أبي الصلت ونسبه وخبره"، بروكلمان، تاريخ الأدب العربي "1/ 113".
أخرى عديدة من الموارد الشائعة المستعملة عند أهل الكتاب1.
وقد ورد في بعض الأخبار أن أمية سافر مرة مع أبي سفيان والد معاوية في تجارة إلى بلاد الشام، فكان كلما نزل منزلا أخذ فيه سفرا له يقرأه على من معه، كما كان يزور علماء النصارى ويتباحث معهم، وكان يلبس ثوبين أسودين حينما يقابلهم2. ولم تذكر الرواية شيئًا عن السفر أو الأسفار التي كان يقرأ منها أمية ويشرحها لمن معه من التجار. وتذكر رواية أخرى أنه كان قد بلغ مع "أبي سفيان" غزة أو "إيلياء"3.
ولأمية في هذا اليوم ديوان ضم أكثر ما نسب إليه من شعر. كما أن في بطون كتب الأدب والأخبار أشعار أخرى لم يرد لها ذكر في هذا الديوان. ومعظم شعره هو عن الدين والآخرة وعن الجنة والنار، والحساب والكتاب، وقد تضمن إشارات إلى حوادث وقعت في أيامه، أو في أيام قريبة من أيامه مثل قصة الفيل، كما تضمن بعض قصص الأنبياء، ولتعرض شعره إلى هذه النواحي نعت بشاعر الآخرة4.
ومما ذكره الإخباريون ورواة شعر أمية من أمثلة على استعماله للكلم الغريب، أنه استعمل "الساهور" للقمر، وهي كلمة لا تعرفها العرب، وإنه ذكر "السطيط"، أسماء لله تعالى. وأنه أطلق كلمة "التغرور" على الله تعالى في موضع آخر من شعره، وأنه سمى السماء "صاقورة" و"حاقورة" وأنه استعمل أشياء أخرى من هذا القبيل. ولولعه هذا باستعمال الغريب، رفض علماء اللغة الاحتجاج بشعره5.
1 الأغاني "4/ 121 وما بعدها""طبعة دار الكتب المصرية"، "وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب، يأخذها من الكتب المتقدمة، أو بأحاديث أهل الكتاب" الشعر والشعراء "1/ 369".
2 البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 220"، الأغاني "4/ 123 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية".
3 البداية والنهاية "2/ 224".
4 تاريخ الأدب العربي، لبروكلمن "1/ 113""الترجمة العربية"، عيون الأخبار، لابن قتيبة "6/ 374"، الحيوان "7/ 321""عبد السلام محمد هارون"، البيان والتبيين "1/ 291".
5 الأغاني "4/ 121 وما بعدها"، شعراء النصرانية "2/ 219"، ديوان أمية فحول الشعراء "جمع بشير يموت""بيروت 1934م""ص5 وما بعدها".
سيرة ابن هشام "1/ 48".
والساهور، كلمة آرامية الأصل من أصل "سهرو" SahroK بمعنى القمر، أي تمامًا بالمعنى الوارد في شعر أمية1.
وهذا الشعر المنسوب إلى أمية وغريبه خاصة مادة مهمة جدًّا تجب دراستها بعناية، لمعرفة مبلغ صحة ما جاء في أخبار الرواة عن هذه الكلمات وعن أصولها ومواردها الأولى، إن صح إنها من أشعار تلك الأيام حقًّا، إذ ترشدنا أمثال هذه الدراسات إلى معرفة المنابع التي استقى منها هذا الشاعر علمه وإلهامه ومدى تأثره وتأثره أمثاله من الجاهليين بالآراء والتيارات الفكرية التي كانت في مكة وفي خارج جزيرة العرب قبيل الإسلام.
وقد روى الإخباريون قصصًا عن التقاء أمية بالرهبان، وعن توسمهم معالم النبوة فيه، فكانوا يسألونه أسئلة تستخرج من أجوبتها في نظرهم معالم النبوة. فلما كانوا يقفون على الأجوبة، يقولون له: كادت النبوة تكون فيه، لولا بعض النقص في علاماتها عنده، كما رووا قصصًا عن شق طيرين لقلب هذا الشاعر، لتنظيفه، وتهيئة النبوة فيه. ولكنهما عندما وقفا عليه لم يجدا أن النبوة خلقت له2. وقد حاكى أهل الأخبار قي قصصهم هذا ما رواه رجال السير عن علامات النبوة عند الرسول3. كذلك رووا أنه كان يتفرس في لغات الحيوانات، فيعرف ما تقوله وما تريده ويقصه على الناس وإنه كان يسخر الجن، وكانت تطيعه، وأنه تنبأ بموته حينما نعب عليه الغراب4. فجعلوه بأخبارهم هذه في مرتبة تضاهي سليمان في علمه بمنطق الطير وبقية الحيوانات5. وذكر "ابن دريد":"كان بعض العلماء يقول له لولا النبي صلى الله عليه وسلم، لادعت ثقيف أن أمية نبي، لأنه قد درس النصارى وقرأ معهم، ودارس اليهود وكل الكتب قرأ"6.
وتشبه قصة تنظيف الطيرين لقلب أمية، وهي القصة التي أشرت إليها قبل
1 غرائب اللغة العربية "ص189".
2 الأغاني "4/ 123 وما بعدها"، شعراء النصرانية، الجزء الثاني "ص219". ابن سلام، طبقات فحول الشعراء "220 وما بعدها" "دار المعارف
Sprenger، Leben، I، s. 119، M. cl. Huart، Le Livre de La Creation Et de L'histoir، I، pp. 55، 153، 155، 156، 190، 191، 195.
4 البداية والنهاية "2/ 227 وما بعدها".
5 النمل، الآية 15 وما بعدها.
6 الاشتقاق "ص184".
قليل، خبر "حليمة السعدية" مرضعة الرسول لصدر النبي. ورواة قصة شق صدر أمية وتنظيف قلبه هي من أهل الطائف، ويرجعون سند قصتهم إلى أخت أمية المسماة "الفارعة"، "وكانت ذات لب وعقل وجمال، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم بها معجبا"1، وقد وفدت عليه، فلما سألها عن شعر أخيها كما يقول الرواة، قصت عليه قصة الطيرين، كما قصت عليه قصة وفاته" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها"2.
ويشير القصص الوارد عن التقاء "أمية" بالأحبار وبالرهبان وباتصاله بهم، إلى أن أمية كان يرجو أن يكون نبيا، وأنه كان يعتقد بقرب ظهور نبي وتأمله أن يكون هو ذلك النبي المرتجي:
ألا نبي منا فيخبرنا
…
ما بعد غايتنا من رأس مجرانا3
وقد كسف وتألم كثيرًا وأكل الحسد قلبه، حين فلت الأمر منه، إذ سمع بإعلان الرسول رسالته، ودعوة الناس إلى دين الله، الذي كان أمية نفسه يدعو إليه. وقد ورد أنه لما سمع بنبوة الرسول قال:"إنما كنت أرجو أن أكونه"4.
ويروي أهل الأخبار أن أمية كان قد مات وهو معتقد بأن الحنيفية حقٌّ إذ رووا أنه قال في مرض موته، "قد دنا أجلي، وهذه المرضة فيها منيتي وأنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد. وقال: لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر".
وفي جملة ما رووه عنه، أنه عرف مجيء يومه من نعيب غراب، نعب على مقربة منه. فحدث القوم بما سمعه من الغراب، وكان يعرف منطقه، وقال لهم
1 البداية والنهاية "2/ 224 وما بعدها".
2 البداية والنهاية "2/ 224 وما بعدها"، تهذيب ابن عساكر "3/ 127"، مروج "1/ 57 وما بعدها"، الطبرسي، مجمع "7/ 63 وما بعدها"، الطبري، تفسير "9/ 121""طبعة البابي"، تفسير ابن كثير "2/ 264"، شرح الشهاب على البيضاوي "4/ 236".
3 البداية والنهاية "2/ 227" تهذيب ابن عساكر "3/ 127"، تاريخ الخميس، "1/ 412.
4 الأغاني "4/ 123 وما بعدها".
أنه سيموت وذكر علامة ذلك، فكان أن مات على نحو ما قال للقوم1. وذكر أيضًا أنه لما كان على فراش الموت محتضرًا أفاق عدة مرات، وكان يتلو في كل مرة: "لبيكما لبيكما"، ها أنذا لديكما"، ثم يتلو هذا الكلام بكلام آخر فيه توسل وتضرع إلى الإله، إلى أن أفاق للمرة الأخيرة، فقال شعرًا بين فيه أن الموت أمر لا بد منه، وأنه هالك في هذه المرة لا محالة، ثم هلك، دون أن يؤمن بالرسول2.
وهذا القصص الوارد عن أمية، وهو -بالطبع- من القصص المصنوع الموضوع، مثل كثير من أخباره وأخبار غيره، قص على ذوي القلوب الطيبة من الرواة والإخباريين، فأخذوه ونقلوه كما نقلوا ما شاء الله من الإسرائيليات والأساطير، وروي على أنه مما كان يعلمه الأحبار والرهبان والخاصة من أهل الكتاب.
ولا أستبعد أن يكون هذا القصص قد ظهر في أيام الحجاج عصبية وتقربًا إليه، فقد كان الحجاج من ثقيف، وكان أمية من ثقيف كذلك. وقد أنتج الوضاعون في أيامه شيئًا كثيرًا من الأخبار في قبيلة ثقيف، كما أنتجوا شيئًا في ذمها وفي ذم رجالها نكاية به.
وقد يكون في قول "الحجاج" حين سئل عن شعر أمية، شيء من التوجع والتألم أو المبالغة في تقديره حين قال:"ذهب قوم يعرفون شعر أمية، وكذلك اندراس الكلام". وقد يكون كلام الحجاج غير ذلك، لو كان أمية من قبيلة أخرى.
ونحن نستطيع إدخال قول من قال عن "أمية""قيل أنه كان نبيا"3 في جملة هذه الدعاوي التي وضعت في هذا العهد، للرفع من شأن "ثقيف" ومن الرد على المتهجمين عليها الطاعنين حتى في نسبها الذين جعلوا "ثقيفًا" من بقية "ثمود"، وأيدوا قولهم هذا بحديث زعموا أن الرسول قاله: "ثقيف من
1 البداية والنهاية "2/ 227".
2 الأغاني "4/ 125 وما بعدها"، ابن سلام، طبقات فحول "ص220 وما بعدها".
الإصابة "1/ 134"،"رقم 552".
3 تهذيب ابن عساكر "3/ 115".
ثمود"1، وجعلوه من عبد لأبي رغال، وأبو رغال نفسه الذي نسب عبده إليه، أي جد ثقيف، هو في نظر العرب وقريش خاصة سبة2.
ويذكرون عنه أنه بعد أن صبأ عن قومه وتحنف، لبس المسوح على زي المترهبين الزاهدين في هذه الدنيا، ورافق الكتب ونظر فيها، ليستلهم منها العلم والحكمة والرأي الصحيح، ثم حرم الخمر على نفسه مثل بقية المتألهين، وتجنب الأصنام، وصام، والتمس الدين، وذكر إبراهيم وإسماعيل، وأنه كان أول من أشاع بين قريش افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بجملة:"باسمك اللهم، وهي الجملة التي نسخت في الإسلام بجملة: "بسم الله الرحمن الرحيم"3.
ويذكر أهل الأخبار أن أمية أخذ جملة: "باسمك اللهم" من شيخ كان منطويًا على نفسه في برية نائية، وذلك حينما ألح عليه قوم كانوا معه من قريش في عير لهم، كانت قد نفرت، بأن يجد طريقة لطرد حية كانت تظهر بين إبلهم فتنفرها، فذهب إلى ذلك الشيخ واستشاره في طريقة تبعد عنهم أذى تلك الحية، فأشار عليه باستعمال تلك الجملة، فهربت الحية ونفرت منهم، وقد كان سبب ظهور تلك الحية كما يذكر أهل الأخبار، هو أن رجلا من القوم هو:"حرب بن أمية بن عبد شمس" كان قد قتل حية فقررت زميلتها الانتقام من قتلتها، فقتلته الجن انتقامًا منه بثأر تلك الحية. وهربت الجن عند سماعها تلك الجملة. وإليه أشير كما يقول أهل الحجاز الأخبار بقولهم:
وقبر حرب بمكان فقر
…
وليس قرب قبر حرب قبر
فحرب هذا المذكور في هذا البيت، هو حرب بن أمية، وأما الشيخ فكان رجلا من الجن4.
1 الأغاني "4/ 307""دار الكتب".
2 الأغاني "4/ 302""دار الكتب".
3 المسعودي، مروج "1/ 571 وما بعدها"، ديوان، أمية "المقدمة" لبشير يموت "بيروت 1934"، ابن خلدون "1/ 177 وما بعدها"، "بيروت 1961م"، التنبية والإشراف "359"، "مكتبة الخياط".
4 الحيوان للدميري "2/ 195"، الأغاني "4/ 122 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية".
ويذكر أنه لم يكن يرتضي من الأديان غير دين الحنيفية دينا. وأنه قال ذلك في شعر له:
كل دين يوم القيامة عند الله
…
إلا دين الحنيفية زور1
وأنه كان يعظم الله في شعره ويكبره ويحمده، ويرى أنه إله واحد لا شريك له، وأن من يشرك به أحدا فقط ظلم نفسه:
الحمد لله لا شريك له
…
من لم يقلها فنقسه ظلما2
وهناك من يروي أن "النابغة الجعدي"، كان يدعي أن هذا البيت وما بعده هو من نظمه. قال ذلك أمام "الحسن بن علي بي أبي طالب"3.
1ويروى أن النبي كان يسمع شعر أمية، وأن "الشريد بن سويد""الشريد بن عمرو" الثقفي، كان ينشد له شيئًا منه، في أثناء أحد أسفاره، فكان كلما أنشد له شيئًا منه، طلب منه المزيد، حتى إذا ما أنشده مئة بيت، قال النبي له: كاد ليسلم، أو كان ليسلم في شعره. وذكر أن الرسول قال في حديث له عنه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه4. وأنه لما سمع شعره في الدين والحنيفية ومطلعه:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا
…
بالخير صبحنا ربي ومسانا
قال: "إن كاد أمية ليسلم"5.
1 الأغاني "3/ 112"، البغدادي، خزانة الأدب "2/ 39"، شيخو، شعراء النصرانية، الجزء الثاني "912"، ابن هشام، السيرة "1/ 40""2/ 982"، الأغاني "4/ 123""دار الكتب"، الإصابة "1/ 130""طبعة السعادة".
2 المسعودي، مروج "1/ 70".
3 طبقات ابن سلام "106 وما بعدها"، الأغاني "5/ 10".
4 صحيح مسلم "كتاب الشعر"، "7/ 48" "طبعة محمد علي صبيح" طبقات ابن سعد:"5/ 376"، "الشريد بن سويد""الرشيد بن سويد"، بلوغ الأرب "2/ 253 وما بعدا"، المعارف، لابن قتيبة "28"، المزهو "2/ 309"، خزانة الأدب "1/ 227"، ابن سعد "5/ 376"، الشعر والشعراء "1/ 369" الإصابة "1/ 134"، "رقم 552".
5 الأغاني "4/ 132 وما بعدها""دار الثقافة"، شرح الشهاب على البيضاوي "4/ 236"، تفسير ابن كثير "2/ 264"، ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري "1/ 26".
وروي عن "ابن عباس"، إن الرسول لما سمع شعر "أمية":
زحل وثور تحت رجل يمينه
…
والنسر للأخرى وليث مرصدا1
قال: صدق أمية.
وفي رواية أنه: "كان قرأ الكتب القديمة، وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فاتفق أن خرج إلى البحرين، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام هناك ثماني سنين. ثم قدم، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جماعة من أصحابه، فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه سورة يس، حتى إذا فرغ منها، وثب أمية يجر رجليه، فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية؟ فقال: أشهد أنه على الحق. قالوا: فهل نتبعه؟ قال: حتى أنظر في أمره. فخرج إلى الشام، وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم، فلما أخبر بها، ترك الإسلام. وقال: لو كان نبيًّا ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات"2.
وفي هذه الرواية المنسوبة إلى الزهري، عن سماع أمية بن أبي الصلت بنبوة النبي وهو في البحرين، ثم مجيئه إلى مكة والتقائه بالرسول ومحاجته له في ظل الكعبة، ثم انكسافه وتراجعه وذهابه إلى الشام، ثم عودته منها3، تكلف ظاهر، وفي تفاصيلها ما يناقض بعضه بعضًا.
وورد في رواية أخرى، أن أمية بن أبي الصلت قدم المدينة فقال للنبي: ما هذا الذي جئت به؟ فقال الرسول: الحنيفية دين إبراهيم. قال: فأنا عليها. فقال عليه الصلاة والسلام لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال: أمات الله تعالى الكاذب منا طريدًا وحيدًا، ثم خرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا للسلاح، ثم أتى قيصر، وطلب منه جندًا، ليخرج النبي
1 الإصابة "1/ 129"، الإصابة "1/ 134"، "رقم 552". "القاهرة 1939م".
2 اروح المعاني "9/ 112 وما بعدها"، تاريخ الخميس، للديار بكري "1/ 412"، مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي "7/ 63 وما بعدها"، "بيروت 1957م".
3 راجع البداية والنهاية "2/ 220".
من المدينة، فمات بالشام طريدا وحيدا، وهي قصة ينسب وقوعها إلى "أبي عامر" الراهب، كما سبق أن تحدثت عن ذلك1.
وتخالف هذه الرواية الروايات المألوفة الواردة إلينا عن وفاة "أمية" بالطائف. وتزعم إحدى الروايات، أن أمية كان قد أخذ ابتيه وهرب بهما إلى أقصى اليمن، وذلك حين بعث النبي. ثم عاد إلى الطائف، فبينما هو يشرب مع إخوان له في قصر بالطائف، إذ سقط غراب على شرفة في القصر فنعق، وأدرك أمية أنه ميت، لأنه عرف منطق الغراب، وحدث القوم بذلك في قصة مفصلة تجدها في الكتب ثم مات2. وقصة الشرب هذه تناقض ما يذكر عنه أهل الأخبار من إنه كان لا يقترب من الخمر، ومن إنه كان قد حرمها على نفسه، شأنه في ذلك شان بقية الأحناف. كذلك يناقض خبر تحريمة الخمر على نفسه، خبر آخر، خلاصته إنه كان يشرب يوما مع عبد الله بن جدعان، فأخذ الشراب برأس "ابن جدعان"، وأصاب عين أمية، فلما كان اليوم الثاني وجلس أيضًا للشرب معه، سأل "عبد الله" أمية عن سبب الألم البادي على عينه، فلما أخبره بأنه كان هو سببه، ترك "ابن جدعان" الخمر استحياء مما فعله وقال شعرا في سبب تركه الخمر. ويقول أهل الأخبار:"ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية، إلا ترك الخمر استحياء مما في من الدنس"3.
وتؤيد قصة ذهاب "أمية" إلى اليمن وسكنه أمدا هناك قصة ينتهي سندها بـ "أبي سفيان"، خلاصتها إنه كان قد ذهب في ركب من قريش إلى اليمن في تجارة، فمر بأمية، وقال له كالمستهزئ به: يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته؟ فأجابه أمية: إما إنه حق فأتبعه، وقال له قولا يتنبأ فيه بمصير أبي سفيان وكيف سيؤتى به إلى الرسول، فيحكم فيه كما يريد4. ففي هذه القصة توكيد بخروج أمية إلى اليمن حين بعث الرسول وبمكوثه زمانا هناك.
وذكر أنه الشخص الذي نزلت في حقه الآية: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ
1 روح المعاني "9/ 111"، تفسير الطبرسي "3/ 500"، "طبعة طهران".
2 الأغاني "4/ 130 وما بعدها"، الإصابة "1/ 129".
3 الأغاني "8/ 332".
4 البداية والنهاية "2/ 224".
آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} 1، وهي آية قيل أيضًا إنها نزلت في "بلعام بن باعور""بلعم بن أبر"، "بلعام بن باعرا"، أو في زوج البسوس،، أو في "النعمان بن صيفي الراهب"2.
وأمية كأكثر الشعراء له شعر في المدح وله تعريض. وأكثر مدحه في "ابن جدعان" من أجود العرب المعروفين المشهورين في الجاهلية3. وهو في المدح أو في الرثاء أو في كل مناسبة أخرى، مستعمل لكلمات ذات صلة بالدين وبالأفكار الدينية ولمصطلحات لا ترد إلا نادرًا في الأشعار المنسوبة إلى الشعراء الجاهليين، مما يدل على غلبة التفكير الديني عليه، وتأثير ما قرأه أو أخذه من غير العرب فيه. سئل الأصمعي عن شعر أمية، فقال:"ذهب أمية في شعره بعامة ذكر الآخرة وذهب عنترة بعامة ذكر الحرب، وذهب عمر بن أبي ربيعة بعامة ذكر الشباب"4.
ووالد "أمية"، هو "عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف الثقفي" أو "ربيعة بن وهب بن علاج بن أبي سلمة" الثقفي على رواية "الزبيري"5. أما أمه فهي "رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف". وقد كان والده شاعرًا. ذكر أنه مدح "سيف بن ذي يزن"6.
ومن الرواة من ينسب القصيدة التي تنسب إلى والد أمية، والتي هي في مدح "سيف بن ذي يزن"، إلى أمية نفسه. وفي القصيدة إشارة إلى ذهاب "سيف بن ذي يزن"، إلى هرقل، فلما لم يجد منه أية مساعدة أو اهتمام، عافه، وذهب إلى كسرى، حيث وجد منه مساعدة، فجاءت إليه بعد سنين
1 الأعراف، الآية 175، الأغاني "4/ 125 وما بعدها""بيروت"، تفسير الطبري "9/ 82 وما بعدها".
2 روح المعاني "9/ 111"، تفسير الطبرسي "3/ 499 وما بعدها".
3 المحبر "ص138"، ديوان أمية بن أبي الصلت: تحقيق "فريدرش شولتس" FrIedrich SchuIthere المطبوع بمدينة "لايبزك" سنة 1911، وكذلك ديوانه المطبوع ببيروت سنة 1934م. جمع بشير يموت التبريزي، شرح ديوان الحماسة "4/ 145"، الأغاني "8/ 328"، تهذيب ابن عساكر "3/ 123"، ابن هشام "3/ 141.
4 الإصابة "1/ 129"، الأغاني "4/ 130 وما بعدها".
5 نسب قريش "98".
6 الأغاني "4/ 120 وما بعدها، الشعر والشعراء "1/ 369"، "بيروت"، تهذيب ابن عساكر "3/ 115"، اليعقوبي "1/ 22" "4/ 120 وما بعدها"، الأزرقي، تاريخ مكة "1/ 93". جمهرة الأنساب "257".
من تعب ومواظبة1.
وينسب إلى أمية شعر، ذكر أنه افتخر فيه بـ نزار" وبـ"معد"، وبقبيلة "إياد"، حيث نعتهم بـ "قومي إياد"2.
ويتلخص ما جاء في شعر هذا الشاعر من عقائد وآراء في الاعتقاد بوجود إله واحد، خلق الكون وسواه وعدله، وأرسى الجبال على الأرض، وأنبت النبات فيها، وهو الذي يحيي ويميت، ثم يبعث الناس بعد الموت ويحاسبهم على أعمالهم، وليجازيهم بما كسبت أيديهم، فريق في الجنة وفريق في النار، يساق المجرمون عراة إلى ذات المقامع والنكال مكبلين بالسلاسل الطويلة وبالأغلال، ثم يلقى بهم في النار يصلونها يوم الدين، يبقون فيها معذبين بها، ليسوا بميتين، لأن في الموت راحة لهم، بل قضى الله أن يمكثوا فيها خالدين أبدًا3.
أما المتقون، فإنهم بدار صدق ناعمون تحت الظلال، لهم ما يشتهون، فيها عسل ولبن وخمر وقمح ورطب وتفاح ورمان وتين وماء بارد عذب سليم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وحور لا يرين الشمس فيها، نواعم في الأرائك قاصرات، على سرر ترى متقابلات، عليهم سندس وجياد ريط وديباج، وحور بأساور من لجين ومن ذهب وعسجد كريم، لا لغو فيها ولا تأثيم، ولا غول ولا فيها مليم، وكأس لا تصدع شارييها، يلذ بحسن رؤيتها النديم، تحتهم نمارق من دمقس، فلا أحد يرى فيهم سئيم.
أما المتقون، فإنهم بدار صدق ناعمون تحت الظلال، لهم ما يشتهون، فيها عسل ولبن وخمر وقمح ورطب وتفاح ورمان وتين وماء بارد عذب سليم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وحور لا يرين الشمس فيها، نواعم في الأرائك قاصرات، على سرر ترى متقابلات، عليهم سندس وجياد ريط وديباج، وحور بأساور من لجين ومن ذهب وعسجد كريم، لا لغو فيها ولا تأثيم، ولا غول ولا فيها مليم، وكأس لا تصدع شارييها، يلذ بحسن رؤيتها النديم، تحتهم نمارق من دمقس، فلا أحد يرى فيهم سئيم.
وللوقوف على آراء "أمية"، وعلى معتقداته الدينية يجب الرجوع بالطبع إلى أشعاره وما نسب إليه من كلام. ففي هذا التراث الذي تغلب عليه النزعة الدينية والحكمية، تتمثل آراء ذلك الشاعر الجاهلي الذي أدرك أوائل المبعث، وهي آراء قريبة جدًّا من الإسلام، وبعضها يكاد يكون قولا إسلاميا في لفظه وفي معناه مسبوكا في شعر. وفي هذا الشعر قصص الرسل والأنبياء: آدم ونوح وقصة
1 كتاب التيجان، لوهب، "307"، الشعراء والشعراء لابن قتيبة "1/ 369"، بروكلمان "1/ 114"، Schuthesi OrIent Studien
2 الأغاني "4/ 120"، "8/ 327 وما بعدها" شعراء النصرانية "2/ 234".
3
وسيق المجرمون وهم عراة
…
إلى ذات المقامع والنكال
ديوان أمية "49".
جهنم تلك لا تبقي بغيًّا
…
وعدن لا يطالعها رجيم
ديوان أمية "53"، "بشير يموت".
طوفانه، والغراب والحمامة1، وقصة ذي القرنين وبلقيس وحكاية الهدهد2، وقصة إبراهيم وتقديم ابنه للذبح، وداود، وفرعون، وموسى، وابن عاد3. وعيسى وأمه مريم وكيفية حملها به، فوصف ذلك بانيا وصفه على نحو ما جاء في القرآن الكريم عن تكون عيسى، مضيفا إلى ذلك زيادات في حديث مريم مع الملائكة وجواب الملائكة لها4. كما أورد في الشعر قصة "لوط أخي سدوم"5. وهي من القصص المذكور في التوراة، وأشياء أخرى عديدة من هذا القبيل6.
وفي أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من آراء ومعتقدات دينية، ووصف ليوم القيامة والجنة والنار، تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلا لما ورد عنها في القرآن الكريم. بل نجد في شعر أمية استخدامًا لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي، فكيف وقع ذلك؟ وكيف حدث هذا التشابه؟ هل حدث ذلك على سبيل الاتفاق أو أن أمية أخذ مادته من القرآن الكريم، أو كان العكس، أي أن القرآن الكريم هو الذي أخذ من شعر أمية فظهرت الأفكار والألفاظ التي استعملها أمية في آيات الله وسوره؟ فكتاب الله إذن هو صدى وترديد لآراء ذلك الشاعر المتأله، أو أن هذا التشابه مرده شيء آخر هو تشابه الدعوتين واتفافهما في العقيدة والرأي، أو اعتماد الاثنين على مورد أقدم، هما الكتابان المقدسان: التوراة والإنجيل، وما لهما من شروح وتفاسير، أو كتب أو موارد عربية قديمة كانت معروفة ثم بادت وبقي أثرها في القرآن الكريم وفي شعر أمية بن أبي الصلت، أو أن كل شيء من هذا الذي نذكره ونفترضه
1 جزى الله الأجل المرء نوحًا
جزاء البر ليس له كذاب
ديوان أمية "18 وما بعدها، 58"، "بشير يموت" الحيوان، للجاحظ "2/ 117"، البدء والتاريخ "1/ 24".
2
قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا
…
ملكا علا في الأرض غير معبد
من قبله بلقيس كانت عمتي
…
حتى تقضى ملكها بالهدهد
ديوان أمية "ص26"، "بشير يموت".
3
حي داود وابن عاد وموسى
…
وقريع بنيانه بالثقال
إنيي زارد الحديد على النا
…
س دروعًا سوابغ الأذيال
ديوان أمية "50 وما بعدها""بشير يموت".
4 وفي دينكم من رب مريم آية
منبئة بالعبد عيسى ابن مريم
ديوان أمية "58"، "بشير يموت".
5
ثم لوط أخو سدوم أتاها
…
إذ أتاها برشدها وهداها
ديوان أمية "69"، "بشير يموت".
6 راجع التوراة، ومادة "Lot" في معجمات التوراة.
افتراضًا لم يقع، وإن ما وقع ونشاهده، سببه أن هذا الشعر وضع على لسان أمية في الإسلام، وأن واضعيه حاكوا في ذلك ما جاء في القرآن الكريم فحدث لهذا السبب هذا التشابه.
أما الاحتمال الأول، وهو فرض أخذ أمية من القرآن، فهو احتمال إن قلنا بجوازه ووقوعه، وجب حصر هذا الجواز في مدة معينة، وفي فترة محدودة تبتدئ بمعث الرسول، وتنتهي في السنة التاسعة من الهجرة، وهي سنة وفاة أمية بن أبي الصلت، أما ما قبل المبعث، فلا يمكن بالطبع أن يكون أمية قد اقتبس من القرآنن لأنه لم يكن منزلا يؤمئذ، وأما ما بعد السنة التاسعة، فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضًا، لأنه لم يكن حيا، فلم يشهد بقية الوحي. ولن يكون هذا الفرض مقبولا معقولا في هذه الحالة، إلا إذا أثبتنا بصورة جازمة أن شعر أمية الموافق لمبادئ الإسلام ولما جاء في القرآن قد نظم في هذه المدة المذكورة، أي بين المبعث والسنة التاسعة من الهجرة، وأن أمية كان يتتبع نزول الوحي، ويجمعه، وإنه كان يملك نسخة مما نزل على الرسول، رجع إليها واقتبس منها، وإلا سقط العرض. فإذا أثبتنا ذلك وثبتنا تاريخ نظم هذا الشعر، أمكنت المقابلة عندئذ بين شعر أمية وما جاء في معناه وفي موضوعه من آيات نزلت بين ابتداء نزول الوحي على الرسول وبين السنة التاسعة، أما الآيات التي نزلت بعد هذه السنة، فلا تكون شاهدا على أخذ أمية منها: لأنه كان قد توفي في السنة التاسعة، فلا يقع هذا الافتراض.
ولكن من استطاعته تثبيت تواريخ شعر أمية وتعيينه، وتعيين أوقات نظمه؟ إن في استطاعتنا تعيين بعضه من مثل الشعر الذي قاله في مدح عبد الله بن جدعان أو معركة بدر. ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بالغالبية منه، وهي غالبية لم يتطرق الرواة إلى ذكر المناسبات التي قيلت فيها. ثم إن بعض هذا الكثير مدسوس عليه، مروي لغيره، وبعضه إسلامي، فيه مصطلحات لم تعرف إلا في الإسلام، فليس من الممكن الحكم على آراء أمية الممثلة في شعره هذا بهذه الطريقة. ثم أحدا من الرواة لم يذكر أن أمية كان ينتحل معاني القرآن الكريم، وينسبها إلى نفسه. ولو كان قد فعل، لما سكت المسلمون عن ذلك، ولكان الرسول أول الفاضحين له.
بقي لدينا افتراض، هو أخذ القرآن الكريم من أمية، وهو افتراض ليس من الممكن تصوره، فعلى إثبات أن شعر أمية في هذا الباب هو أقدم عهدا من القرآن الكريم، وتلك قضية لا يمكن إثباتها أبدا. ثم إن قريشًا ومن لف لفها ممن عارض الرسول لو كانوا يعلمون ذلك ويعرفونه، لما سكتوا عنه، ولقالوا له إنك تأخذ من أمية، كما قالوا له: إنك تتعلم من غلام نصراني كان مقيمًا بمكة، وإليه أشير في القرآن الكريم بقوله:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1. ولقد أشار المفسرون إلى اسم الغلام، كما سأتحدث عن ذلك في الفصل الخاص بالنصرانية عند العرب قبل الإسلام، ولم يشيروا إلى أمية بن أبي الصلت2. ثم إن أمية نفسه لو كان يعلم ذلك أو يظن أن محمدًا إنما أخذ منه، لما سكت عنه وهو خصم له، منافس عنيد، أراد أن تكون النبوة له، وإذا بها عند شخص آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمنون بدعوته. أما هو فلا يتبعه أحد. آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمون بدعوته. أما هو فلا يتبعه أحد. هل يعقل سكوت أمية لو كان قد وجد أي ظن وإن كان بعيدا يفيد أن الرسول قد أخذ فكرة منه، أو من المورد الذي أخذ أمية نفسه منه؟ لو كان شعر بذلك، لنادى به حتما، ولأعلن للناس أنه هو ومحمد أخذا من منبع واحد، وأن محمدا أخذ منه، فليس له من الدعوة شيء، ولكانت قريش وثفيف أول القائلين بهذا القول والمنادين به.
نعم، لقد ورد في الحديث، كما قلت قبل قليل، إن الشريد بن سويد كان قد أنشد الرسول شعر أمية، وإنه كان كلما أنشده شيئًا منه طلب منه المزيد، حتى إذا ما أنشه مئة بيت، قال له الرسول: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، ولكننا هنا بحاجة إلى تثبيت تاريخ هذا الإنشاد، وإثبات صحة الرواية وتدقيق رجال السند، لإثبات أن ما أنشد لم يكن قد نزل في مثله الوحي.
وممن ذهب إلى افتراض أخذ الرسول من أمية من المستشرقين "كليمان هوار" و"بور""Power. زغم "بور" إنه حيث يوجد تشابه بين شعر أمية والقرآن
1 النحل، الآية 103.
2 سيرة ابن هشام "1/ 420".
الكريم، فإن ذلك يدل على أن الرسول أخذ من "أمية"، لأن أمية أقدم من الرسول1. وهذا الافتراض مقبول كما لو أثبتنا أن هذا النظم شعر أصيل صحيح، وإنه نظم قبل نزول مشابهه في القرآن الكريم، وإنه لم يضف إليه في الإسلام، فإن أثبتنا إنه له، جاز لهما مثل هذا الادعاء.
وأما الرأي الثالث -وأعني به رأي من يرجع التشابه بين شعر أمية وما ورد من مثل معانيه في القرآن الكريم إلى أخذ الاثنين من التوراة والإنجيل وتفاسيرهما، وإلى بعض "الصحف" و"المجلات" التي أشير إلى وجودها عند العرب- فهو رأي قديم، وليس بجديد. رأي قيل عن الوحي كله، لا عن القرآن وشعر أمية أو غير أمية، قبل أن يخلق المستشرقون بأكثر من 1300 سنة، فقد زعم "إن النبي يتعلم من غلام نصراني اسمه جبر!! ". وقد أشير إلى هذا الزعم في كتاب الله، وجاء الرد عليه في قوله تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . فلم يخف القرآن الكريم ذلك الطعن والمغمز، ولم يتجاهل المفسرون اسم من قيل إنه كان يعلمه، فذكروا جبرا هذا، وكان غلاما مقيما بمكة، وقال بعضهم بل هو رجل رومي اسمه غير ذلك.
ولو كان الرسول وأمية قد أخذ من منهل واحد، واستقيا من مورد واحد، لما سكتت قريش عن القول به، ولما سكت أمية نفسه وهو الغاضب الحاقد على الرسول عن الجهر به. وكيف يعقل سكوته عن هذا، وهو أمر مهم جدًّا بالنسبة إليه. وسيف يحارب به الإسلام؟ ولما سكت مسيلمة ومن كان على شاكلته من المتنبئين من الإشارة إليه في أثناء حروب الردة، وقد كانت فرصة سانحة لإطهار هذه المقالة. ولما سكت "يوحنا الدمشقي" وأمثاله من التلميح إلى ذلك، وقد لمح بأمور كثيرة في طعنه في الإسلام.
ثم إن هذا التشابه، على ما يتبين من نقده وتمحيصه، ليس من نوع ما يحصل عن أخذ شخصين مستقلين من مورد معين، إنما هو من قبيل ما يحدث من اعتماد أحد الشخصين على الآخر، بدليل ورود أمور في القرآن الكريم،
1 ديوان أمية "ص7"، "المقدمة الألمانية""تحقيق فردرش شولثيس"، بروكلمن "1/ 113". CI Huatrt GA X VoI IV 1904 P1225
لم ترد في التوراة ولا في الإنجيل، ولكنها وردت في شعر أمية، وبدليل ورود أكثر قصص الأنبياء والآراء والمعتقدات في شعر أمية على شكل إسلامي، لا على النحو الوارد عند أهل الكتاب. واستعمال هذا الشعر لجمل وألفاظ وتراكيب إسلامية واردة في القرآن الكريم وفي الحديث لا في الكتب السماوية المذكورة. فلو كان مرد هذا التشابه الأخذ من مورد واحد، لوجب انحصار هذا التشابه في الأمور المشتركة التي ترد في الكتب المقدسة: التوراة والإنجيل والقرآن، وفي شعر أمية فحسب، لا في المسائل التي ترد في شعر أمية وفي القرآن الكريم، ولا ترد في الكتابين المقدسين أو في الكتب الأخرى.
ثم إن المقابلة بين نصين لمعرفة صلة أحدهما بالآخر، وأخذ أحدهما من الآخر، تستوجب التأكد من صحة نسبة الشعر إلى أمية. ففي هذا الشعر مقدار لا يمكن أن يشك في وضعه وصنعه، ومقدار نص العلماء نصا على أنه لغيره، وهم إنما ذكروه في شعر أمية، لأن بعض أهل الأخبار نسبه إليه. ولذلك استدركوا هذا الخبر، بالإشارة إلى اسم قائله الصحيح. فلم يبق من هذا الشعر ما يصلح للمقابلة غير القليل منه، وهو القليل الذي له صلة بعقيدة ودين. وهذا القليل هو، في الغالب أيضًا، تبع لما ورد في القرآن وحده، لا لما ورد في الكتابين المقدسين. ولما كان القرآن محفوظا ثابتا، فلم يرتق إليه الشك. أما شعر أمية، فليس كذلك، وهو غير معروف من حيث تعيين تاريخ النظر. فهذه المقابلة إن جازت، فإنها تكون حجة على القائلين بالرأي المذكور، لا لهم. وقد كان عليهم أن يثبتوا أولا إثباتا قاطعا صحة رأيهم في أصالة هذا الشعر، لا أن يفترضوا مقدما أنه شعر أصيل صحيح، وأن يذهبوا رأسا إلى أنه هو والقرآن الكريم من وقت واحد، بل إنه على حد قول بعضهم أقدم منه، فكتاب الله منتزع منه.
وممن قال باحتمال أخذ القرآن وأمية من مورد مشترك واحد، "فردرش شولثيس" Friedrich SchuIthetz ناشر ديوان أمية. وقد زعم أيضًا احتمال أخذ أمية من بعض آيات الله التي كانت منزلة يومئذ، ونظمها في شعره. استند في زعمه القائل باقتباس الرسول من مورد مشترك إلى ورود بعض كلمات في القرآن الكريم وفي الحديث وفي كتب السير، يفهم منها على زعمه أن الرسول كان قارئًا كاتبًا، ولكنه لم يشترط في هذه المؤلفات كونها الإنجيل والتوراة، بل ذهب إلى أنها
"مجلة" و"صحيفة"، تتضمن أحاديث وتفاسير وقصصًا دينيا قديما1. أما دليله، فافتراض واحتمال، وليس له غير هذين. ولا يقوم علم إلا على دليل ملموس.
أما أنا، فأرى أن مرد هذا التشابه والاتفاق إلى الصنعة والافتعال. لقد كان أمية شاعرا، ما في ذلك شك، لإجماع الرواة على القول به. وقد كان ثائرا على قومه، ناقما عليهم، لتعبدهم للأوثان. وقد كان على شيء من التوحيد والمعرفة باليهودية والنصرانية، ولكني لا أظن أنه كان واقفا على كل التفاصيل المذكورة في القرآن وفي الحديث من العرش والكرسي وعن الله وملائكته وعن القيامة والجنة والنار والحساب والثواب والعقاب ونحو ذلك. إن هذا الذي أذكره شيء إسلامي خالص، لم ترد تفاصيله عند اليهود ولا النصارى، ولا عند الأحناف. فوروده في شعر أمية وبالكلمات والتعابير الإسلامية، هو عمل جماعة فعلته في عهد الإسلام: وضعته على لسانه، كما وضعوا أو وضع غيرهم على ألسنة غيره من الشعراء والخطباء، لاعتقادها أن ذلك مما يفيد الإسلام، ويثبت أن جماعة من الجاهليين كانوا عليه، وأنه لم يكن لذلك غريبا، وأن هؤلاء كانوا يعلمون الغيب، يعلمون بقرب ظهور نبي عربي، وأنهم لذلك بشروا به، وأنهم كانوا يتمنون لو عادوا فولدوا في أيامه، أو لو طال بهم العمر حتى يدركوه فيسلموا، وأمثال ذلك من قصص راج وانتشر، كما راج أمثاله في كل دين من الأديان.
ولا بد وأن يكون هذا الوضع قد صنع في القرن الأول للإسلام، لأن أهل الأخبار القدامى يذكرون بعض هذا الشعر2. وقد يكون قد وضع أكثره في عهد الحجاج تقربا إليه، لأنه من ثقيف، وفي ذلك العهد وضع الوضاع أخبارا كثيرة في الغض من شأن قوم الحجاج، نكاية به فتقدم قوم آخرون إليه بالرفع من شأنها وبإضافة ذلك الشعر إلى أمية وغيره، ليكون ردا على كارهي ومبغضي الحجاج.
وتتبين آية الوضع في شعر أمية في عدم اتساقه وفي اختلاف أسلوبه وروحه.
1 Ency، IV، p. 998، Tar Andrae، Die Entstehung des Islams und des Christentums، upsale، 1926، S. 48.
2 بروكلمان "1/ 113".
فبينما نجد شعره المنسوب إليه في المدح أو في الرثاء أو في الأغراض الأخرى مما ليس لها صلة مباشرة بالدين، في ديباجة جاهلية على نسق الشعر المنسوب إلى شعراء الجاهلية، نجد القسم الديني منه والحكمي في أسلوب يجعله قريبا من شعر الفقهاء والصوفيين المتزمتين، ونساك الصارى، فهو بعيد جدًّا من أسلوب الجاهليين، حتى أسلوب مثل "عدي بن زيد" العبادي والأعضى وبقية من نسب إلى النصرانية من شعراء الجاهلية القريبين من الإسلام1. يضاف إلى ذلك ما ذكره الرواة وأهل الأخبار من نشبة بعض ذلك الشعر إلى غيره من الشعراء.
وقد يقال إن أسلوب "أمية" في نظم الشعر الديني والحكمي، هو أسلوب صحيح لا يمكن إلا أن يكون على هذا الحال، هو أسلوب بعيد عن أسلوب الجاهليين في النظم، لأن الشعر الجاهلي المعروف نظم في أغراض أخرى لا صلة لها بالحكم وبالدين، وما جاء منه إلينا في الحكم وفي الدين هو على أسلوب آخر أيضًا، بدليل أن بعض الشعراء منهم حين نظموا في الحكم، رق شعرهم وبان عن نظمهم المألوف. وبدليل أن نظم "حسان بن ثابت" في الإسلام، هو دون نظمه في الجاهلية من حيث الجزالة والفخامة في النظم، وأن شعر "لبيد" في الإسلام، هو دون ما نظمه في الجاهلية، بسبب تغير الظروف واختلاف الموضوع. وهو اعتذار صحيح، ولكن أسلوب أمية في تعبيره عن الجنة والنار والبعث والحساب، أسلوب آخر، لا يفصح عن عقلية دينية جاهلية، وإنما عن عقلية إسلامية. ومن هنا جاء شكنا في صحة هذا الشعر وفي اصالته، وليس من أسلوب النظم.
ولكن من الذي وضع هذا الشعر، ثم أنكره على نفسه وأسنده إلى أمية؟ ومن الذي رضع شعر أمية بأبيات من وزنه وقافيته، ولكنها أبيات إسلامية؟ ومن كان أول من جمع شعر ذلك الشاعر في ديوان نسبه إليه؟ هذه أسئلة يجب أن توجد لها أجوبة، ولكن أجوبتها كتاب يؤلف في حياة هذا الشاعر وفي شعره وديوانه، عندئذ يكون هناك مجال للتنقيب عن هذه الأمور، روي أن الحجاج قال، وهو على المنبر:"ذهب قوم يعرفون شعر أمية"2. فهل ذهب العالمون
1 Ency IV p 998
2 الأغاني "4/ 123".
به حقًّا قبل أيام الحجاج؟ وهل كان شعره ضخما واسعا؟ أو هوقول من أقوال الحجاج، وهو ثقفي من قوم أمية، أو هو قول وزعم من زعم الرواة. وما أكثر مزاعم الرواة وحملة الأخبار.
وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيدا. فالقصيدة التي مطلعها:
لك الحمد والمن رب العبا
…
د أنت المليك وأنت الحكم
هي قصيدة إسلامية، لا يمكن أبدا أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام إيمانا عميقًا من كل قلبه ولسانه. خذ هذا البيت منها مثلا:
محمدا أرسله بالهدى
…
فعاش غنيا ولم يهتضم
ثم خذ الأبيات التالية له وفيها:
عطاء من الله أعطيته
…
وخص به الله أهل الحرم
وقد علموا أنه خيرهم
…
وفي بيتهم ذي الندى والكرم
يعيبون ما قال لما دعا
…
وقد فرج الله إحدى البهم
به وهو يدعو بصدق الحدي
…
ث إلى الله من قبل زيغ القدم
أطيعوا الرسول عباد الإله
…
تنجون من شر يوم ألم
تنجون من ظلمات العذاب
…
ومن حر نار على من ظلم
دعانا النبي به خاتم
…
فمن لم بجبه أسر الندم
نبي هدى صادق طيب
…
رحيم رءوف بوصل الرحم
به ختم الله من قبله
…
ومن بعده من نبي ختم
يموت كما مات من قد مضى
…
يرد إلى الله باري النسم
مع الأنبياء في جنان الخلود
…
هم أهلها غير حل القسم
وقدس فينا بحب الصلاة
…
جميعًا وعلم خط القلم
كتابا من الله نقرأ به
…
فمن يعتريه فقدما أتم
اقرأ هذه المنظومة، ثم احكم على صاحبها، هل تستطيع أن تقول إنه كان
74
شاعرا مغاضبا للرسول، وإنه مات كافرًا، وإن صاحبها رثى كفار قريش في معركة بدر وأنه قال ما قال في الإسلام وفي الرسول؟ اللهم، لا يمكن أن يقال ذلك أبدا فصاحب هذا النظم رجل مؤمن عميق الإيمان، هو واعظ مبشر، يخاطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام وإلى طاعة الله والرسول. إنه مؤمن قلبا ولسانا، مع أنهم يذكرون أن الرسول قال فيه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، وإنه مات وهو على كفره وعناده وحسده للرسول، ثم إن صاحب المنظومة رجل يتحدث عن وفاة الرسول، مع أن أمية، كان قد توفي في السنة التاسعة من الهجرة، فهل يعقل أن يكون إذن هو صاحبها وناظمها؟
أليست هذه المنظومة وأمثالها إذن دليلا على وجود أيد لصناع الشعر ومنتجيه في شعر أمية. نحمد الله على أن صناعها لم يتقنوا صنعتها، ففضحوا أنفسهم بها، ودلوا على مقاتل النظم.
ثم خذ قصيدة أخرى من القصائد المنسوبة لأمية، وهي في وصف الجنة والنار استهلت بهذا البيت:
جهنم تلك لا تبقي بغيا
…
وعدن لا يطالعها رجيم
ثم استمر في قراءتها، وفي ما جاء فيها من وصف للجنة والنار، ثم أنعم النظر في هذه الأبيات:
فذا عسل وذا لبن وخمر
…
وقمح في منابته صريم
ونخل ساقط الأكتاف عد
…
خلال أصوله رطب قميم
وتفاح ورمان وموز
…
وماء بارد عذب سليم
وفيها لحم ساهرة وبحر
…
وما فاهوا به لهم مقيم
وحور لا يرين الشمس فيها
…
على صور الدمى فيها سهوم
نواعم في الأرائك قاصرات
…
فهن عقائل وهم قروم
على سرر ترى متقابلات
…
ألا، ثَمَّ النضارة والنعيم
عليهم سندس وجياد ريط
…
وديباج يرى فيها قتوم
وحلوا من أساور من لجين
…
ومن ذهب وعسجده كريم
ولا لغو ولا تأثيم فيها
…
ولا غول ولا فيها مليم
وكأس لا تصدع شاربيها
…
يلذ بحسن رؤيتها النديم
تصفق في صحاف من لجين
…
ومن ذهب مباركة رذوم1
ثم احكم بعد ذلك على صاحب هذه الأبيات. لقد حاول ناظمها إدخال بعض الكلمات الجاهلية فيها، لإلباسها ثوبا جاهليا، ولإظهارها بمظهر الشعر الجاهلي الأصيل، ولكنه لم يتمكن من ذلك، بل صيرها في الواقع نظما لوصف الجنة والنار في الإسلام، وما بي حاجة إلى أن أحيلك على الآيات التي أخذ منها صاحب هذا الشعر وصفه من القرآن الكريم.
ومن الغريب أن بعض الإخباريين اتخذ هذا النظم وأمثاله حجة لتبيان عقائد الجاهليين، فذكر مثلا أن العرب في جاهليتها كانت تؤمن بالجزاء، وأن منهم من نظر في الكتب وكان مقرا بالجنة والنار. وحجته في ذلك هذه المنظومة المنسوبة إلى أمية2. وقد نسي أن ما قاله على سبيل التعميم أو التغليب، يناقض ما جاء في القرآن الكريم وما أورده الإخباريون عن الجاهليين.
ثم خذ قصيدته في عيسي بن مريم وحمل أمه به3، وسائر قصائده الأخرى، تجد عليها هذه المسحة الإسلامية بارزة ظاهرة، ولكن هذا لا يمنع مع ذلك من القول بوجود أبيات قد تكون من نظم أمية حقًّا، في هذا المنظوم الديني، غير أن هذا الموجود، هو على كل حال مما لا يتعارض مع عقائد الإسلام. ومن الممكن إدراكه بدراسة ألفاظه وأسلوبه وأفكاره، وبهذه الطريقة نتمكن من استخلاص الأصيل من شعره من الهجين.
ولأمية بن أبي الصلت أخت، اسمها "فارعة"4. قدمت على النبي بعد فتح الطائف، وكانت ذات لب وعفاف وجمال، وكان يعجب بها. وقال لها يوما: هل تحفظين من شعر أخيك شيئًا؟ فأخبرته خبره وقصت في شق جوفه
1 تجد اختلافا في كلمات هذه القصيدة وأبياتها، وكذلك في قصائد هذا الشاعر الأخرى، فارجع في ذلك إلى طبعات ديوانه وإلى كتب الأدب لمعرفة مواضع الاختلاف: كتاب البدء والتاريخ "1/ 202 وما بعدها"، ديوان أمية "طبعة بشير يموت"، "ص53" ديوان أمية "ص51 وما بعدها"، "طبعة فريدرش شولثيس".
2 كتاب البدء والتاريخ "1/ 202"، "طبعة كليمان هوار"، "النص العربي".
3 ديوان أمية "ص58"، "طبعة بشير يموت".
4 اللسان "1/ 792"، "وثب".
وإخراج قلبه ورده مكانه وهو نائم وأنشدته شعره1، على ما يزعمه أهل الأخبار. وذكر أهل الأخبار أسماء أربعة بنين لأمية، هم: القاسم، ووهب، وعمرو "عمر"، وربيعة. فأما" القاسم"، فكان شاعرا، وله مرثية في عثمان بن عفان2. وأسلم "وهب بن أمية" كذلك. وذكر أن رجلا من ثقيف مات في عهد النبي عن غير ولد، فاختصموا في ميراثه، فأعطى النبي ميراثه لوهب3. وأما "ربيعة" فأسلم كذلك، وله شعر4. وقد ذكر أهل الأخبار أن "حقة" بنت وهب بن أمية بن أبي الصلت"، تزوجت "عبد الله بن صفوان"، فولدت له صفوان بن عبد الله بن صفوان5. وذكر أن "ربيعة"، قد ولي بعض الوظائف في الإسلام. وأنه صاحب "ربيعتان"، نهر بقرب الأبلة، وأن من ولده "كلدة بن ربيعة"، وكان شريفًا شاعرًا، وقد ذكر أن بغلا قتل "ربيعة" على باب دار "عبد الله بن عباس"6.
وكل ما يعرف عن سويد بن عامر المصطلقي أنه كان على دين الحنيفية وملة إبراهيم، وأنه قال شعرا، وصلت منه بضعة أبيات في "المنايا" وفي المقدر على الإنسان، وأن المنايا محتومة لا مفر منها، وأن الخير والشر مكتوبان على النواصي، وليس لامرئ يد فيما يصيبه من مقدور. فهي في هذه المشكلة المعضلة التي شغلت بال الإنسان ولا تزال تشغله مشكلة:"الجبر والاختيار"، أو "القدر"، المشكلة التي احتلت منزلة الصدارة في "علم الكلام". والتي صارت من أهم موضوعات الجدل في الإسلام. ويقال إنها أنشدت للرسول، فلما سمعها، قال:"لو أدركته لأسلم"7.
وأما ورقة بن نوفل فهو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يلتحم نسبه بنسب الرسول في جد جده. ذكروا أنه ساح على شاكلة من شك في
1 الإصابة "4/ 363"، "رقم "824".
2 الإصابة "3/ 213"، "رقم 7052".
3 الإصابة "3/ 604"،"رقم 9157.
4 الإصابة "1/ 493"،"رقم 2950".
5 الإصابة "3/ 604"، "رقم 9157".
6 كتاب البغال للجاحظ "2/ 258"، "من رسائل الجاحظ""الأغاني "3/ 179"، الاشتقاق "304 وما بعدها"، "4/ 120"، الشعر والشعراء "1/ 369"، الإصابة "2/ 197" أنساب العرب "269".
7 بلوغ الأرب "2/ 259".
دين قومه، وتتبع اليهود والنصارى، وقرأ الكتب، وعد في جملة المتنصرين في أغلب الروايات، فقد ذكر أنه "تنصر واستحكم في النصرانية، وقرأ الكتب ومات عليها"1. وهذا هو رأي أكثر أهل الأخبار.
ونسب إليه شعر ذكر إنه قاله في رثاء زيد بن عمرو بن نفيل، وفيه إشارة إلى النار وإلى الثواب والعقاب بعد الموت وإلى فكرة التوحيد والإيمان برب ليس رب كمثله وإلى التنديد بالأوثان2.
وله أبيات من الشعر يحث فيها على مساعدة الضعيف ونصر المظلوم، وعلى فعل الخير للناس3.
ولا نعلم عن حياة ورقة في أيام شبابه شيئًا، ولعله كان يعين أهله أو أقربائه في اتجارهم مع بلاد الشام أو اليمن شأن أكثر شبان أسر مكة المعروفة في ذلك الوقت. فتعلم بذلك سلوك الطرق الموصلة إلى العراق أو بلاد الشام، ومن هنا اندفع نحو خارج الجزيرة يلتمس الحكمة والوصول إلى رأي يقنعه في الحياة. ويظهر إنه لم يكن في شبابه من أولئك الشباب الخاملين الذين كانوا يصرفون وقتهم في فراغ دائم، دون عمل ولا تفكير، متوسدين الأرض يقتلون فراغهم في ترهات الكلام، كما إنه لم يكن من أولئك الطائشين النزقين الذين يقضون وقتهم في النزاع والخصومة وشرب الخمر والاعتداء على الناس، والحصول على المال للانفقا على اللهو بأية طريقة كانت، بل كان شابا متأملا مفكراا منكمشا على نفسه، مكنه علمه بالكتابة والقراءة من قراءة الكتب والاطلاع على آراء الماضين والحاضرين، حتى جاء يوم، دفعه اجتهاده الذي وصل إليه على الخروج على تقاليد قومه وانتقاد الأوضاع التي كانوا عليها، مما حمله على ترك مكة طوعا أو قهرا، والتجول للبحث أو فرارا من غضب قومه عليه.
وهو ابن عم خديجة الكبرى زوج الرسول. وقد أشير إليه في خبر "مجيء جبريل إلى النبي في حراء"، وله كلام مع الرسول على ما ورد في بعض الروايات.
1 اليعقوبي "1/ 298""2/ 22""ليدن" البداية لابن كثير "2/ 238".
2 المحبر "171"، ابن هشام "1/ 243،256"، الأغاني "3/ 113 وما بعدها""1/ 73"،الذهبي، تاريخ الإسلام "1/ 68".
3 خزانة الأدب "2/ 39 وما بعدها".
يقال إنه قال للرسول وكان قد ذهب إليه مع زوجته خديجة ليسأله رأيه فيما رآه من الرؤيا: "ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قوم؟ " وأن الرسول قال له: "أمخرجي هم؟ " قال: نعم، إنه لم يجئ رجل قط بما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا"1. وأشير إليه في خبر آخر، حيث ورد أن "خديجة" ذهبت وحدها إلى ابن عمها لتسأله عن الرؤيا التي رآها الرسول وعن هذا "الناموس الأكبر" الذي تجلى له. فلما قصت عليه القصة قال: "لئن كنت صادقة، إن زوجك لنبي، وليلقين من أمته شدة، ولئن أدركته لأومنن به"2.
وذكر في خبر آخر أن الرسول قد رأى "ورقة" في منامه، وكان لابسًا ثيابًا بيضًا. وأن الرسول ذكر ذلك لم سأله عنه، وبين لهم أنه لو كان من أهل النار لما ظهر له في منامه وهو بهذه الملابس. لأن أهل النار لا يلبسون ثيابًا بيضًا3. ويروى أن الرسول قال:"لا تسبوا ورقة بن نوفل، فإني رأيته في ثياب بيض"4. قيل إن شخصًا تساب مع أخ لورقة بن نوفل، فسب ورقة ليحرق قلب أخيه، فبلغ ذلك الرسول، فنهى عن سبه5.
وجاء في خبر أن "ورقة" كان يمر بمكة فيرى بلالا وهو يعذب، يعذبه المشركون برمضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء، ويضربونه يريدون منه أن يشرك بالله، فلا يشرك به. ويأبى إلا أن يقول: أحد أحد، فيرثى ورقة لحاله ويقول: أحد أحد والله يا بلال. والله لئن قتلتموه فأنتم من الخاسرين6. أو "والله لئن قتلتموه، لأتخذن قبره حنانًا"7.
1 الطبري "2/ 299""دار المعارف"، ابن هشام "1/ 254 وما بعدها"، المسعودي مروج "2/ 59"، "1/ 73""محمد محيي الدين عبد الحميد""1958م"، الكامل، لابن الأثير "2/ 31" الذهبي تاريخ الإسلام "1/ 75" القسطلاني، شرح صحيح "1/ 66"، الإصابة "3/ 633".
2 الطبري "2/ 300""دار المعارف"، ابن سعد، الطبقات "1/ 194""بيروت 1957م" شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني "1/ 66 وما بعدها".
3 الأغاني "3/ 113 وما بعدها""بيروت 1955م".
4 كتاب نسب قريش "ص207"، الترمذي "3/ 251" الإصابة "6/ 318 وما بعدها" مجمع الزوائد "9/ 416".
5 الإصابة "3/ 633".
6 الأغاني "3/ 113 وما بعدها".
7 النهاية، لابن الأثير "1/ 226"، الإصابة "6/ 318"، كتاب نسب قريش "208".
ويظهر من الأخبار المتقدمة أن "ورقة بن نوفل"، كان قد أدرك أيام الرسول وعاش إلى يوم نزول الوحي عليه. بل يظهر من خبر رؤيته لبلال وهو في حالة تعذيبه، إنه عاش مدة بعد نزول الوحي. غير أن الأخبار المذكورة لا تنص على إسلامه، ولم نجد أحدا قد نص على ذلك. أما خبر رؤيا الرسول له في منامه، فإنه يدل على عدم إسلمه، وعلى إنه كان قد توفي قبل نزول الوحي على الرسول. وهو الرأي الراجح. وهذا ما حمل أحد المؤرخين على القول: وقد اختلف فيه، فمنهم من زعم إنه مات نصرانيا ولم يدرك ظهور النبي. ومنهم من رأى إنه مات مسلمًا وإنه مدح النبي1. وقد ورد في بعض الأخبار إن الرسول قال لما توفي ورقة:"لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير، لنه آمن بي وصدقني"2. وورد مثل ذلك من أحاديث زعم أن الرسول قالها في حق ورقة، وهي كلها تشير إلى وفاة ورقة قبل المبعث، وعلى دينه، إذ لم يدرك الإسلام.
وورد في بعض الروايات أنه "كان يكتب الكتاب العربي، فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب"3. وورد في رواية أخرى أنه "كان يكتب الكتاب العبراني، فكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب"4. والخبران هما خبر واحد، كما يظهر من وحدة النص، غير إن اسم اللغة التي زعم أنه كان يكتب بها قد حرف، فقرأه بعضهم العربي، وقرأه بعض آخر العبراني. ولما كان الإنجيل باليونانية وبلغة بني إرم، فقد أخطأ الرواة بجعل لغة الإنجيل هي العبرانية، وهم يتوهمون كثيرًا فيخلطون بين العبرانية والسريانية. والغالب أنهم كانوا يريدون بالعبرانية لغة بني إرم التي كانت لغة العلم والأدب والدين في العراق وفي بلاد الشام، بل وبين مثقفي اليهود ورجال دينهم في ذلك الوقت.
وذكر أهل الأخبار أنه لم يعقب5. ولم يذكروا سبب ذلك، هل كان قد
1 المسعودي، مروج "2/ 59".
2 القسطلاني، شرح صحيح "1/ 65"، الذهبي، تاريخ الإسلام "1/ 68".
الذهبي، سير النبلاء "80"، خزانة الأدب "2/ 41".
3 النصرانية "1/ 119".
4 الأغاني "3/ 113"، الاشتقاق "164".
5 كتاب نسب قريش "ص207".
تزوج، ولكنه كان عقيمًا، فلم يعقب؟ أو أنه عاش أعزب ولم يتزوج طول حياته؟
وكان "أبو قيس صرمة بن أبي أنس""صرمة بن أنس" وهو من بني النجار، قد ترهب ولبس المسوح، وهجر الأوثان، ودخل بيتًا واتخذه مسجدًا لا تدخله طامث ولا جنب، وقال: أعبد رب إبراهيم، فلما قدم النبي المدينة أسلم وهو شيخ كبير، وحسن إسلامه. وفيه نزلت الآية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 1. ورووا له شعرا2. وزعم أنه اغتسل من الجنابة، وهم بالنصرانية، ثم أمسك عنها. وذكر أن "ابن عباس" كان يختلف إليه يأخذ عنه الشعر3.
وأما "وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي"، فهو من إياد، زعم "ابن الكلبي" إنه ولي البيت بعد جرهم، فبنى صرحًا بأسفل مكة، وجعل فيه أمة يقال لها "حزورة"، وبها سميت "حزورة مكة"، وجعل في الصرح سلمًا، فكان يرقاه ويزعم أنه يناجي الله. وكان ينطق بكثير من الخبر، ويزعم الناس أنه صديق من الصديقين، وقالوا كان كاهنًا4. وذكروا له كلمات مسجعة، ليس فيها ما يشرح لنا معتقده الديني وضوحًا تامًّا5.
والصرح كما يقول علماء اللغة، بيت يبنى منفردًا ضخمًا طويلا في السماء
1 البقرة، الآية 187، مروج، "1/ 52 وما بعدها"، تفسير الطبري "2/ 97""بولاق".
2 بلوغ الأرب "2/ 266".
3 بلوغ الأرب "2/ 266"، أسد الغابة "3/ 18"، الإصابة "2/ 176"، "رقم 4061"، الاستيعاب "2/ 149"، "حاشية على الإصابة".
4 المحبر "136"، بلوغ الأرب "2/ 260".
5 "وقال الإيادي صاحب الصرح، الذي اتخذ سلمًا لمناجاة الرب، وهو القائل: مرصعة وفاطمة، القطيعة والفجيعة، وصلة الرحم وحسن الكلم، زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابًا، وبالشر عقابًا، وإن من في الأرض عبيد لمن في السماء، هلكت جرهم وربلت إياد، وكذلك الصلاح والفساد. من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه كل شاة معلقة برجلها.
واياه عنى الشاعر بقول:
ونحن إياد عبيد الإله
…
ورهط مناجيه في السلم
ونحن ولاة حجاب العتيق
…
زمان الرعاف على جرهم
البيان والتبيين "2/ 109" الأمثال للميداني "2/ 81".
وكل بناء عال مرتفع1. والحزورة الرابية الصغيرة والتل الصغير2. ويظهر إنه كان بنى صرحه فوق تل في محل منفرد، ليختلي هناك على طريقة الرهبان والنساك.
وكان ما عرفه أهل الأخبار عن "عمير بن جندب" الجهني، إنه كان من جهينة، وإنه كان موحدا لم يشرك بربه أحدا، وإنه مات قبيل الإسلام3.
وكان عامر بن الظرب العدواني من الحكماء، نسبت إليه أقوال في الحكم والدين. منها "إني ما رأيت شيئًا خلق نفسه، ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا، ولا جائيا إلا ذاهبا، ولو كان يميت الناس الداء، لأحياهم الدواء". ثم قال: "إني أرى أمورا شتى وحتى. قيل له: وما حتى؟ قال: حتى يرجع الميت حيا، ويعود اللاشيء شيئًا، ولذلك خلقت السماوات والأرض، فتولوا عنه ذاهبين"4.
وقد نسبوا إليه جملة أحكام، منها حكمه في "الخنثى"، وقد ذكروا أن حكمه هذا قد أقره الإسلام. وقالوا إن العرب كانت إذا أشكل عليها أمر في قضاء، أو حارت في أمر معضل ترى وجوب الحكم فيه برأي صائب وعقل وتدبير، ذهبت إليه، فإذا حكم كان حكمه الحكم الفصل، فلا راد له5.
ونسبت إلى كل من عبد الطانجة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة وعلاف بن شهاب التميمي أبيات، فيها إقرار بوجود إله واحد خالق لهذا الكون، وبوجود الحساب والثواب والعقاب6.
وأما "المتلمس بن أمية" الكناني، فذكروا إنه كان قد اتخذ من فناء الكعبة موضعا يخطب فيه، ويعظ قومه عظات دينية، فكان في جملة ما قاله لهم:
1 تاج العروس "2/ 178 وما بعدها"، "صرح".
2 تاج العروس "3/ 138"، "حرز".
3 بلوغ الأرب "2/ 261 وما بعدها".
4 المحبر "135، 181، 236،236، 239" بلوغ الأرب "2/ 275 وما بععدها"ز
5 الروض الأنف "1/ 86"، ابن هشام "1/ 134"، "محمد محيي الدين عبد الحميد" المعمرون "44 وما بعدها"، عيون الأخبار "1/ 266" البيان والتبيين "1/ 264، 365، 401"، "2/ 72، 199"، ط3/ 38، 39، 299، 369".
6 الأغاني "3/ 113"، "طبعة بيروت" مروج "2/ 60".
"إنكم قد تفردتم بآلهة شتى، وإني لأعلم ما الله راض به. وإن الله تعالى رب هذه الآله، وإنه ليحب أن يعبد وحده". فنفرت كلماته هذه وأمثالها القوم منه وتجنبته، وقالوا عنه إنه على دين بني تميم1.
وفي أبيات منسوبة إلى زهير بن أبي سلمة الشاعر المعروف إقرار بوجود إله عالم بكل ما في النفوس، هو "الله"، لا تخفى عليه خافية، فلا يجوز كتمان شيء عنه، وبوجود يوم حساب يحاسب فيه الناس على ما قاموا به من أعمال، وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فلا مخلص له2.
ونسب الإيمان بالله واليوم الآخر إلى أشخاص آخرين، منهم: عبد الله القضاعي والشاعر عبيد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن لؤي بن غالب، والأول منهم هو ابن تغلب بن وبرة بن قضاعة، كان من الحكماء الخطباء، يتبع الحنيفية، وينهج على نهجها مثل الحنفاء3.
وأما الثاني، وهو عبيد بن الأبرص، فشاعر جاهلي شهير له في قتله قصة، هي من ذيول قصة "الغريين" للمنذر بن ماء السماء. نجد في الشعر المنسوب إليه اسم "الله" يتردد في كثير من المواضع، ونراه من المتشائمين المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوبن ونراه افي القصيدة البائية يتوكل على الله، ويدعو الناس إلى الاعتماد عليه فيقول:
من يسأل الناس يحرموه
…
وسائل الله لا يخيب
بالله يدرك كل خير
…
والقول في بعضه تلغيب
والله ليس له شريك
…
علام ما أخفت القلوب4
1 بلوغ الأرب "2/ 277".
2
فلا تكتمن الله ما في صدوركم
…
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيودع في كتاب فيدخر
…
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، للإمام ثعلب "ص12"، "طبعة الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "القسم الرابع ص518"، بلوغ الأرب "2/ 277 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "2/ 280".
4 البيان والتبيين "1/ 226"، شعراء النصرانية "القسم الرابع ص607 وما بعدها"، أسماء المغتالين "211"، "نوادر المخطوطات".
ونراه يقول في المنايا:
فأبلغ بني وأعمامهم
…
بأن المنايا هي الوارده
لها مدة فنفوس العباد
…
إليها وإن كرهت قاصده
فلا تجزعوا الحمام دنا
…
فللموت ما تلد الوالده1
وفي كثير من مواضع شعره يذكر المنايا ويتذكر الموت، ثم هو يتجلد ويتصبر في ملاقاة الشدائد والأهوال، وينصح الناس بالسير على هذا المنوال. والذي يقرأ شعره، يشعر أنه أمام رجل حضري رقيق عاطفي المزاج، ذي نفس ميالة إلى التقشف والتصوف، مؤمن بالعدل، كاره للظلم، فهل كان عبيد على هذه الشاكلة؟ وهل هذا الشعر وخاصة ما جاء منه في البائية هو نظم من منظومه؟ أو هو من نظم من عاش بعده في الإسلام؟
وأما "كعب بن لؤي بن غالب". فهو من أجداد النبي. وقد كان على الحنيفية، وإليه كانت تجتمع قريش في كل جمعة، فكان يعظهم ويوجههم ويرشدهم يأمرهم بالطاعة والتفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتقلب الأحوال والاعتبار بما جرى على الأولين والآخرين، ويحثهم على صلة الأرحام وإفشاء السلام وحفظ العهد ومراعاة حق القربة والتصدق على الفقراء والأيتمام2.
هذه خلاصة موجزة لسير من حشرهم أهل الأخبار في زمرة الحنفاء، تريك آراء الجماعة تكاد تكون واحدة: كفر بالأصنام وبالشرك كله، وإعراض عن عادات قومهم، وثورة على عقائدهم، وترقب لحدوث تطور وإصلاح يقضي على الجهالة، وقد مهدوا له بدعوتهم تلك التي أشاعوها بين بني قومهم فجلبت عليهم السخط والغضب الشديد، مما حمل أكثرهم، وهم في الغالب من مكة وأطرافها، على الفرار من بلدتهم إلى أطرافها المنعزلة الآمنة وغيرها من الأماكن الخالية، ليكونوا في أمان من إيذاء قومهم لهم، وفي وسط يفكرون فيه في خلق السماوات والأرض تفكيرا هادئا، فلا يزعجهم مزعج، ولا ينغص حياتهم هناك مختص.
1 شعراء النصرانية "القسم الرابع ص604 وما بعدها".
2 ابن سعد، الطبقات "الجزء الأول، القسم الأول ص39"، بلوغ الأرب "2/ 282".
لقد جعل أهل الأخبار معظم من تحدثنا عنهم إن لم نقل كلهم من القارئين الكاتبين، ونسبوا إلى بعضهم قراءة الكتب والصحف والزبور ومجلة لقمان. يريدون بذلك الكتب المقدسة. ويفهم من كلامهم في بعض الأحيان أن منهم من كان يحسن فهم العبرانية أو لغة بني إرم. ولكن الإخباريين عفا الله عنهم لم يتبسطوا لنا في الحديث عن ماهية تلك الصحف وعن محتويات مجلة لقمان وعن الكتب المنزلة، ولم يأتوا بنماذج مفصلة طويلة أو قطع ترشد إلى المظان، التي نقلت منها. فأضاعوا علينا، بإهمالهم الإشارة إلى هذه الأمور، أشياء كثيرة كهمة، بنا حاجة ماسة إلى معرفتها، للوقوف على الحالة الدينية في جزيرة العرب قبيل الإسلام وإبان ظهوره.
ويؤكد أهل الأخبار أن بعض أولئك الحنفاء كانوا يسيرون على سنة إبراهيم وشريعته، وأن بعضًا آخر منهم كان يلتمس كلماته ويسأل عنها، وأنهم في سبيل ذلك تحملوا المشاق والأسفار والصعاب. وقد جعلوا وجهة أكثرهم أعالي الحجاز وبلاد الشأم وأعالي العراق. أي المواضع التي كانت غالبية أهلها على النصرانية يومئذ، وجعلوا أكثر كلامهم وسؤالهم مع الرهبان. وقد أضافوا إليهم الأحبار أحيانًا، وذكروا أن الرهبان والأحبار أشاروا عليهم بوجوب البحث والتأمل، فليس عندهم ما يأملونه ويرجونه من دين إبراهيم وإسماعيل، ولذلك لم يدخلوا في يهودية ولا نصرانية، بل ظلوا ينتظرون الوعد الحق، ومنهم من مات وهو على هذه العقيدة. مات معتقدا بدين إبراهيم حنيفا، غير مشرك بربه أحدا.
أما كيف كانت شريعة إبراهيم، وعلى أي نهج سار الحنفاء، وهل كان لهم كتاب أو كتب أو نحو ذلك؟ فأسئلة لم يجب عنها أهل الأخبار إجابة صريحة واضحة. لذلك صرنا في جهل بأمر تلك الشريعة: شريعة إبراهيم، شريعة التوحيد الحق.
ويذكر أهل الأخبار أنه كان الأتباع إبراهيم من العرب علامات وعادات ميزوا أنفسهم بها عن غيرهم، منها: الختان، وحلق العانة، وقص الشارب. وهي علامات جعلها بعض المفسرين من "كلمات إبراهيم" التي ذكرت في القرآن الكريم، في الآية:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} 1. ذهب القائلون
1 البقرة، الآية 124.