الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني والثمانون: أثر النصرانية في الجاهليين
وإذا كنا قد حرمنا من الموارد الأصلية التي يجب أن نستعين بها في معرفة أثر النصرانية عند نصارى الجاهلية والجاهليين، فإن في الشعر المنسوب إلى بعض نصارى الجاهلية مثل عدي بن زيد العبادي وإلى بعض الشعراء ممن كان لهم اتصال بالنصارى مثل الأعشى، فائدة في تكوين صورة يتوقف صفاؤها ووضوحها وقربها أو بعدها من الواقع والحق على مقدار قرب ذلك الشاعر من الصدق والصواب والواقع والافتعال.
وعدي بن زيد هو أشهر من وصل إلينا خبره من شعراء النصارى الجاهليين. هو من العباديين، أي من نصارى الحيرة، ولذلك عرف بالعبادي. كان من أسرة اكتسبت نفوذا واسعا ونالت حظًّا كبيرًا عند الفرس وعند ملوك الحيرة، فكان لها أثر خطيرًا في سياسة عرب العراق في ذلك الزمن. ولما كانت السياسة ارتفاعا وهبوطا، سعادة وشقاء، لاقى عدي منها الاثنين: ارتفع حتى بلغ أعلى المنازل، ثم انخفض حتى تلقاه قابض الأرواح وهو في سجنه فقضى عليه بعد أن ترك أثرًا خطيرًا في سياسة الحيرة وفي تقرير مصير الملك فيها. وعدي، على ما يذكر أهل الأخبار، من أهل اليمامة في الأصل: هاجر أحدا أجداده من اليمامة إلى الحيرة بسبب دم أهرقه هناك، فخاف على نفسه من الثأر، ولم يجد محلا أصلح له وآمن مقاما من الحيرة، لوجود "أوس بن قلام" أحد رؤساء بني الحارث بن كعب فيها، وهو من أصحاب الجاه والنفوذ، وبينه وبين أوس
نسب من النساء، وهو من نسب يضمن له الحماية والعيش بسلام، فجاء إلى الحيرة وأقام بها حيث أكرمه أوس وقربه إلى آل لخم، واكتسب منزلة عالية عند ملوك الحيرة، انتقلت من بعده إلى أبنائه الذين كونوا لهم صلات وثيقة مع آل لخم ومع ملوك الفرس، بما كان لهم من علم وذكاء وحسن سياسة، ويذكر الإخباريون أن جد عدي قد تعلم الكتابة في الحيرة، فصار من أكتب الناس فيها، وأنه لذلك انتخب كاتبا لملك الحيرة، واتصل بحكم وظيفته المهمة هذه بدهاقين الفرس، وأنه لما توفي أوصى بابنه زيد والد عدي إلى واحد منهم يعرف بـ "فروخ ماهان" فأخذه هذا إلى بيته، ورباه مع ولده. فتعلم عندهم الفارسية، وحذقها وكتب بها وبرز، وكان قد حذق الكتابة بالعربية كذلك، فأوصله الدهقان إلى كسرى، لعلمه هذا باللغتين ولذكائه، فعينه في وظيفة مهمة لم يكن الفرس يعينون لها أحدا من غيرهم هي وظيفة البريد. وقد مكث في هذه الوظيفة زمانا جعلته يكتسب منزلة محترمة عند عرب الحيرة والفرس.
وعني زيد بتربية ولده عديا: أرسله إلى الكتاب ليتعلم به العربية. فلما برع فيها، أرسله إلى كتاب الفارسية حيث تعلم مع أبناء المرازبة فنون القول والكتابة، ثم تعلم الرماية ولعب الفرس حتى صار من المبرزين فيها. وقد قربه علمه وعقله من آل لخم ومن الفرس حتى وصل إلى مناصب عالية جعلت لقوله أهمية كبيرة حتى في تثبيت ملك ملوك الحيرة.
وقد أرسله "هرمز بن أنو شروان" في سفارة مهمة إلى القيصر "طيباريوس" فأداها على خير وجه. وعاد فأقام أمدا بالشام، ووقف على ما كان فيها من علم ومعالم. وقد زادت هذه الأسفار بالطبع في سعة أفقه وفي ثقاقته. ثم عاد إلى الحيرة. فوجد والده قد توفي بعد أن صار المهيمن الحقيقي على البلاد. وزار كسرى ليقدم إليه هدايا قيصر. وارتفع نجمه في البلاطين. وتزوج هندا بنت الملك النعمان. غير أن تقدمه هذا أوجد له خصومة شديدة من منافسيه "بني مرينا" وهم نصارى مثله ومن أهل الجاه والحسب، فأغرى خصمه ومنافسه العنيد "عدي بن مرينا" قلب النعمان عليه. وكان عدي بن زيد صاحب الفضل في حصول النعمان على تاج. وظل "ابن مزينا" يعمل في الخفاء للقضاء على عدي،
حتى تمكن من ذلك، إذ سجنه النعمان، ثم أمر فاغتيل وهو في السجن1.
وذكر أن "كسرى" جعله كاتبا على ما يجتبى من الغور، وكان هو سبب ملك النعمان بن المنذر2.
والذي يهمنا في هذا الموضع من أمر عدي هو مدى وقوف عدي على النصرانية ومبلغ تسربها في نفسه وفي نفوس أهل الحيرة. أما النواحي الأخرى من حياته، فليس لها محل في هذا المكان. وشعر عدي وأضرابه من العباديين هو سندنا الوحيد الذي نستخرج منه رأينا في النصرانية عند عدي وعند إخوانه العباديين.
والشعر المنسوب إلى عدي أقرب إلى نفوسنا وأسهل علينا فهما من الشعر المنسوب إلى بقية الجاهليين، معانيه وألفاظه حضرية متحررة من الأساليب البدوية التي تميل إلى استعمال الجزل من الكلمات، وهو يخالف مذاهب أولئك الشعراء في كثير من الأمرو. ولهذا "كانت الرواة لا تروي شعر أبي دواد ولا عدي بن زيد لمخالفتهما مذاهب الشعراء"3، و"لأن ألفاظه ليست بنجدية"4. وقد ورد في شعره بعض المعربات مما يدل على أثر الفارسية والإرامية فيه5. وكثير من شعره هو في الزهد، وفي التذمر من هذه الدنيا التي لا تدوم حالها على حال، وفي تذكير الأحياء بنهاية الأموات بالرغم مما أقاموه وشيدوه من أبنية ضخمة وقصور شاهقة. وهذا الشعر يتناسب مع ما يذكره أهل الأخبار عن حياة هذا الشاعر وتألق نجمه وبلوغه أعلى المراتب ثم سقوطه فجأة ودخوله السجن واغتياله فيه. وفي شعره قصائد في القيان وفي الخمر تتحدث عن الحياة التي قضاها قائلها، وهي حياة لذيذة ولكنها لا تدوم بالطبع إلى الأبد، ولا بد لها أن تزول ثم تنتهي بما.
1 المشرق، الجزء الأول، كانون الأول 1944، "ص39 وما بعدها"، شعراء النصرانية "436 وما بعدها"، كارلو كانينو، تاريخ الآداب العربية في الجاهلية حتى عصر بني أمية "ص71"، "القاهرة 1954"،
Ency، I، p. 137، Brockelmann، I، S. 29، Rothstein، S. 109، Noldeke، Geschlchte der Perser und Araber zur Zeit der Sassaniden، s. 512، Islamic Culture، IV، p. 31، ff.
2 نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "140".
3 الأغاني "15/ 93"، "مطبعة التقدم"، "ذكر أخبار أبي دؤاد الأيادي ونسبه"، نالينو "74".
4 ابن قتيبة، الشعر "115".
5 نالينو "74".
يوجب الأسف عليها والألم والتوجع من فنأئها ومن ذهاب تلك الأيام.
أما صميم الديانة والآراء النصرانية الخاصة، وهي ضالتنا في هذا الفصل وهدفنا الذي نقصده، فلا نجد منها في شعره الموثوق بصحته شيئًا كثيرًا. ونحن لا نستطيع بالطبع أن نلوم عديا على ذلك، فعدي كما نعلم رجل شعر وسياسة، وليس برجل دين ولا كهانة فيتعمق في شعره بإيراد تواريخ الأنبياء والأوامر والنواهي الإلهية الواردة في التوراة والإنجيل. ولم يذكر أحد من الإخباريين عنه إنه كان كاهنا أو قسيسا فنأمل منه التطرق في شعره إلى موضوعات اللاهوت والكهنوت. فما نجده في شعره عن النصرانية هو من حاصل المناسبات والظروف، وليس من حاصل بحث متعمد قصد به البحث في الدين من أجل الدين.
ولو كان عدي قد تعرض للنصرانية عنده وبين قومه لأفادنا ولا شك كثيرًا. وما زلنا في الواقع فقراء في ناحية علمنا بمبلغ فهم أهل الحيرة وغير أهل الحيرة من نصارى العرب في الجاهلية لأحكام النصرانية وقواعدها، ومقدار رسوخها في نفوس أولئك النصارى ولا سيما الأعراب منهم. ولكن عذره كما قلت بين واضح، وليس لنا أن نلومه. وما جاء به عن النصرانية في شعره على كل حال مفيد، أفادنا ولا شك. فلنكن قنوعين غير طامعين، مكتفين بما أورده عدي عنها في شعره، ولننظر إلى المستقبل، فهو أملنا الوحيد، فلعله يكشف عن مصادر كتابية مطمورة، يبعثها من قبورها المغمورة بالأتربة المتراكمة، وعندئذ تكون أمام المؤرخ ثروة تغنيه، يستطيع أن يظهرها العشاق للمولعين بمعرفة أحوال الماضين.
وقد ورد في قصيدة قيل إنه نظمها في معاتبة النعمان على حبسه بيت فيه قسم برب مكة والصليب:
سعى الأعداء لا يألون شرا
…
عليك ورب مكة والصليب1
وهذا البيت يدعو إلى التأمل والتفكير، فرجل نصراني يؤمن بعيسى وبالصليب، لا يمكن أن يقسم برب مكة. فمكة كما نعلم مجمع الأصنام والأوثان وكعبة الوثنية في الجاهلية، فكيف يقسم بربها رجل نصراني يرى الأوثان والوثنية رجسًا من عمل الشيطان وكفرًا. بل لو فرضنا أنه أقسم بمكة وبرب مكة على سبيل مجاراة
1 شيخو، شعراء النصرانية "451".
العرب الوثنيين وتقربا إلى الملك النعمان، فليس لدينا دليل مقنع يفيد أن وثني الحيرة كانوا يؤمنون برب مكة. ولم يذكر أحد من أهل الأخبار أن أصنام أولئك الوثنيين كانت بمكة، وأن أهل الحيرة كانوا يزورون مكة ويحجون إلى "رب البيت" في جملة من كان يحج إليه من العرب. ولم يرد في روايات أهل الأخبار أن الملك "النعمان" كان وثنيا مؤمنا بقدسية مكة وأنه حج إليها حتى نذهب إلى الفرض بأن عديا، إنما أقسم بمكة، مجاراة لهذا الملك، بل الوارد فيها أنه كان على دين النصرانية، وإنه كان مؤمنا بهذا الدين، يزور الأديرة ويحضر الصلوات ورجل على هذا النحو من التدين لا يمكن بالطبع أن يحفل بقسم ببيت من بيوت الأصنام. ثم إن مصطلح "رب مكة"، هو مصطلح إسلامي، أخذ من عقيدة التوحيد في الإسلام، فقيل:"رب البيت" ،"رب هذا البيت"1.
لقد اتخذ الأب "شيخو" هذا البيت دليلا على انتشار النصرانية في مكة وعلى تنصر أحياء منها، وعلى أن النصرانية قديمة فيها، بل يكاد يفهم من قوله أن البيت هو في الأصل كنيسة بنيت بعد المسيح بعهد قليل: بناها النصارى الذين جاءوا إلى هذه المدينة وسكنوها، وأن صور الأنبياء وصورة عيسى وأمه مريم التي ذكر الإخباريون أنها كانت مرسومة على جدار الكعبة والتي أمر الرسول بطمسها ومحو معالمها هي دليل على أثر النصرانية في مكة، ولهذا كان النصارى الجاهليون يحجون إليها ويقدسونها، ولهذا السبب أقسم2 عدي بها، وأقسم الأعشى بها كذلك حيث قال:
حلفت بثوبي راهب الدير والتي
…
بناها قصي والمضاض بن جرهم
وذكر أن من شعر "عدي" هذا البيت:
كلا يمينا الودع لو حدثت
…
فيكم وقابل قبر الماجد الزارا3
وقد اختلف العلماء في مراده بـ"ذات الودع"، فذهب بعض منهم إلى
1 "فليعبدو رب هذا البيت" سورة قريش، الآية 3.
2 "النصرانية "ص118"، وفي الديوان:
فإني وثوبي راهب اللج والتي
…
بناها قصي وحده وابن جرهم
ديوان الأعشى "95".
3 تاج العروس "5/ 534"، "وعد".
أن "ذات الودع" الأوثان، أو وثن بعينه، وقيل سفينة نوح، وكان يحلف بها، وكانت العرب تقسم بها، وتقول: بذات الودع. وقيل الكعبة، لأنه كان يعلق الودع في ستورها1.
ولم يرد في شعر عدي شيء ما يتحدث عن عقيدة التثليث، أي الإيمان بالثالوث. وكل ما ورد فيه هو الإشارة إلى عقيدة بوجود رب واحد هو "الله". وهو رب مستجيب مسبح خلاق2. وهذا الرأي إسلامي كما هو معلوم، وقريب من عقيدة الحنفاء.
ووردت في بيت شعر وجهه إلى النعمان كلمة "أبيل"3، وأبيل اسم للمسيح، ويطلق على حبر النصارى أيضًا، ومعناها الناسك والزاهد. وهي من أصل سرياني، من فعل "ابل" بمعنى ناح وبكى على خطاياه، ولذلك قصد بها الناسك والراهب4. وقد دعا الأعشى ضارب الناقوس: الأبيل5.
ونسب لعدي هذا البيت:
وأهبط الله إبليسا وأوعده
…
نارًا تلهب بالأسعار والشرر6
1 المصدر نفسه
2
فإني قد وكلت اليوم أمري
…
إلى رب قريب مستجيب
أجل أن الله قد فضلكم
…
فوق من أحكا صلبا بازار
واذهبي يا أميم إن يشا اللـ
…
ـه بنفسي من أزم هذا الخناق
أو تكن وجهه فتلك سبيل النـ
…
ـاس لاتمنع الحتوف الرواقي
ليس شيء على المنون بباق
…
غير وجه المسيح الخلاق
شعراء النصرانية "452، 454"، النصرانية "194".
4 تاج العروس "7/ 199"، "ابل"، اللسان "13/ 6"، مرمرجي، معجميات عربية سامية "131 وما بعدها".
5 فإني ورب الساجدين عشية
وما صك ناقوس الصلاة أبيلها النصرانية "208".
6 النصرانية "168".
ولم ترد كلمة "إبليس" في شعر منسوب لشاعر جاهلي آخر، إنما وردت كلمة "شيطان" في شعر منسوب إلى أمية بن أبي الصلت.
ونسب إلى عدي هذا البيت:
ناشدتنا بكتاب الله حرمتنا
…
ولم تكن بكتاب الله تقنع1
ويظهر من دراسة الشعر المنسوب لعدي أنه كان على مذهب القائلين بالقضاء والقدر. فكل كائن خاضع لحكم القدر، يفعل به ما يشاء، ليس في إمكانه رد شيء مقدر كائن عليه. وقد رسخت هذه العقيدة في نفس عدي ولا شك بعد أن زج به في السجن، وأصبح وحيدا لا يدري ما الذي سيصنع به. وهي عقيدة يسلم بها أكثر من يقع في مثل هذه الظروف، لأنها تفرج عن النفس، وتخفف بعض التخفيف عما ينتاب المرء وهو في هذه الحالة من هموم وأحزان. والإيمان بالقدر وبأن الإنسان مسير مجبر، عقيدة لها صلة كبيرة بالظروف الاجتماعية وبالأحوال التي تحيط بالإنسان، وهي ليست من الآراء الدينية الخالصة.
ونسبت لعدي أبيات فيها حكايات من العهد العتيق، مثل هذه الأبيات وهي في مبدأ الخلق:
اسمع حديثا لكي يوما تجاوبه
…
عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا
أن كيف أبدي إله الخلق نعمته
…
فينا وعرفنا آياته الأولا
كانت رياحا وماء ذا عراثيه
…
وظلمة لم يدع فتقا ولا خللا
فأمر الظلمة السوداء فانكشفت
…
وعزل الماء عما كان قد شغلا
وبسط الأرض بسطا ثم قدرها
…
تحت السماء سواء مثل ما فعلا
وجعل الشمس مصرا لا خفاء به
…
بين النهار وبين الليل قد فصلا
قضى لستة أيام خلائقه
…
وكان آخر شيء صور الرجلا2
دعاه آدم صوتا فاستجاب له
…
بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا3
1 شعراء النصرانية "472".
2
قضى لستة أيام خليقته
…
وكان آخرها أن صور الرجلا
الحيوان "4/ 19"، "عبد السلام محمد هارون".
3 البدء والتأريخ "1/ 150 وما بعدها"، النصرانية "254"، وتجد في النص بعض الاختلاف عن النص الذي تجد في كتاب النصرانية، وفي المراجع الأخرى.
وطابع هذا النظم وأسلوبه يفصحان إنه نظم من النوع التعليمي الديني، لا أدري أكان شاعرنا يعترف به وينسب إلى نفسه؟ أما أنا، فلا أرى إنه لشاعر عربي عاش قبل الإسلام.
ونجد في "شعر "عدي" نزعة من نزعات التصوف والتأمل، جاءت إليه من الأوضاع التي أحاطت به، من وشايات، ومن غضب الملك عليه ومن سجن، بعد أن كان السيد المهيمن. حتى صار الدهر عنده حالا بعد حال. لا يدوم صفاؤه لأحد، فلا يركن أحد إليه، ولا يغتر إن وجد نفسه في أعلى عليين، فقد يسقط غدا إلى أسفل سافلين1.
وهناك شاعر آخر اسمه "الملمس بن عبد المسيح" يدل اسم أبيه على أنه كان نصرانيا، غير أن هناك رواية أخرى تذكر أن اسم والده "عبد العزى"2. وعبد العزى من أسماء الوثنيين كما هو معروف. ثم إننا لا نجد في شعره ما يشير إلى آراء وعقائد نصرانية يمكن أن يستنبط منها أن كان نصرانيا. ورجل يحلف في شعره باللات والأنصاب لا يعقل أن يكون نصرانيا3.
أما الأعشى، فهو شاعر عاش في الجاهلية، وأدرك أيام الرسول. ومدحه بقصيدة جميلة مشهورة، جعلت أبا سفيان يحرض قومه على إرضائه خوفًا من أن يسلم ومن أن ينظم شعرا آخر في مدح الرسول وفي ذم قريش، فجعل له مائة من الإبل جمعها من قومه على أن يرجع ويؤجل أمر إسلامه عاما. فرجع إلى بلدته "منفوحة" باليمامة. وكان قد ولد بها، فمات بها بعد حين وعرف قبره بين الناس أمدا.
وكان الأعشى كما يروي أهل الأخبار جوابا في الآفاق، عرف الحيرة ونادم ملوكها، وزار النجاشي في أرضه، وتجول في أرض النبيط وأرض العجم. وتنقل في أرجاء اليمن وفي حضرموت وعمان وبلاد العراق وبلاد الشام ومتع نظره
1 العمدة "1/ 223".
2 VoIIers، Die Gedichte des MutaIammis، Leibzig، 1903، S. 149.
3
أطردتني حذر الهجاء ولا
…
واللات والأنصاب لا تثل
ديوان المتلمس "171""طبعة "فولرس"، النصرانية "404"
بالآثار القديمة واتخذها عبرة للمعتبرين1. وقد وسعت هذه الأسفار آفاق نظره وعرفته على شعوب متعددة وعلى آراء ومعتقدات متنوعة. ومنها هذه النصرانية التي نبحث فيها.
وقد حمله اختلاطه بالنصارى العرب على الإشارة إلى بعض طقوسهم وأحوال عباداتهم في شعره. وإلى أن يشير إلى قصص معروف بين أهل الكتاب، وارد بينهم، فذكره في شعره. فتراه يتحدث عن حمامة نوح وعن أخبار سليمان وعن جن سليمان وعن المباني القديمة العادية المنسوبة إليه، كما تراه يشير إلى عادة النصارى في الطواف حول الصليب أو تمثال المسيح2. ثم تراه يشير إلى الصليب نصبه الراهب في الهيكل بعد أن زينه بالصور3.
وفي الشعر المنسوب إليه إقرار بإله واحد كريم4، ونهي عن عبادة الأوثان ومن التقرب منها5، وفيه أن الرب يكفي الإنسان ويرعاه ويساعده في حله وفي ترحاله6،
1
وقد طفت للمال آفاقه
…
عمان فحمص فأوري شلم
أتيت النجاشي في أرضه
…
وأرض النبيط وأرض العجم
فنجران فالسرو من حمير
…
فأي مرام له لم أرم
ومن بعد ذاك إلى حضرموت
…
فأوفيت همي وحينا أهم
ألم ترى الحضر إلا أهله
…
بنعمي، وهل خالد من نعم
أقام به سابور الجنود
…
حولين يضرب فيه القدم
فما زاده ربه قوة
…
ومثل مجاورة لم يقم
ديوان الأعشى "طبعة رودولف كاير"، "ص33 وما بعدها".
قد طفت ما بين بانقيا إلى عدن
…
وطال في العجم ترحالي وتسياري
ديوان الأعشى "126".
2 قال في مدحه "قيس بن معديكرب الكندي":
تطوف العفاة بأبوابه
…
كطوف النصارى ببيت الوثن
ديوان الأعشى "19"، اللسان "17/ 334"، "وثن".
3
وما أيبلى على هيكل
…
بناه وصلب فيه وصارا
ديوان الأعشى "40"، النصرانية "204"، بروكلمان، تاريخ الأدب العربي "1/ 147 وما بعدها".
4
ربي كريم لا يكدر نعمة
…
فإذا تنوشد في المهارق أنشدا
النصرانية "162".
5
وذا النصب المنصوب لا تسكنه
…
ولا تعبد الأوثان، والله فاعبدا
النصرانية "159".
6
ولكن ربي كفى غربتي
…
بحمد الآله فقد بلغن
ديوان الأعشى "17".
وأن الإنسان عبده1. وأن الفناء واقع على كل امرئ، وليس أحد في هذه الدنيا بخالد، ولو كان الخلود لأحد لكان لسليمان2. وفيه حديث عن البعث والحساب يوم الدين.
ونجد في شعره معرفة بنوح وبسفينته، أشار إلى نوح في مدحه إياسا حيث خاطبه بقوله:
جزى الإله إياسا خير نعمته
…
كما جزى المرى نوحا بعدما شابا
في فلكه إذ تبداها ليصنعها
…
وظل يجمع ألواحا وأبوابا3
فهل أخذ الأعشى رأيه هذا عن نوح من أهل الجيرة؟ وهل كان في ذلك قاصدا متحدثا مخاطبا رجلا نصرانيا يعرف الحكاية والموضوع؟ أو كان متحدثا عن نوح حديث من يدين به ويعتقد، فهو رأيه ودينه. الواقع أن البت في ذكل أمر لا أراه ممكنا ما لم تتجمع لنا موارد تأريخية كثيرة، ليتمكن المرء من استنتاج رأي واضح في أمثال هذه الموضوعات المعقدة، التي لم تدرس مظانها المدونة، ولم تنتقد حتى الآن.
وقد ذهب "كاسكل""CaskeI" إلى أن "الأعشى" كان نصرانيا. وذهب الأب "شيخو" هذا المذهب أيضًا، وجوز "بروكلمن" تنصره، لكنه ذهب إلى إنه لم يكن متعمقا في النصرانية4. وقد استدل "كاسكل" على نصرانيته من بيتين في ديوانه، ومن بيت آخر ورد في قصيدة أخرى، لا يمكن في الواقع أن يكون دليلا على نصرانية قائلة5.
وذكر إنه كان قدريا، روى روايته "يحيى بن متى" وهو من عباد الحيرة،
1
فأقسم بالذي أنا أعبده
…
لتصطفقن يوما عليك المآتم
ديوان الأعشى "58".
2
ولو كان شيء خالدا ومعمرا
…
لكان سليمان البرئ من الدهر
رآه الهي فاصطفاه عبادة
…
وملكه ما بين ثريا إلى مصر
وسخر من جن الملائكة تسعة
…
قياما لديه يعملون بلا أجر
ديوان الأعشى "243".
3 شعراء النصرانية "389"، النصرانية "261".
4 تأريخ الأدب العربي لبروكلمن "1/ 147 وما بعدها".
5 انظر البيتين 12-13 من القصيدة رقم 43 بديوانه، والبيت 9 من القصيدة 13 بالديوان، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 147"، "الترجمة العربية".
أنه أخذ مذهبه هذا في القدر من العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك. وقد استشهدوا على قوله هذا في القدر بهذا البيت:
استأثر الله بالوفاء وبالعد
…
ل وولى الملامة الرجلا1
وقد راجعت شعر "الأعشى"، فلم أتمكن من استنباط شيء منه يدلني على مقدار علمه بالنصرانية وعلى مدى تعمقه أو تعمق غيره من النصارى بدينهم. فما ذكره مما له علاقة بالنصرانية، هو شيء عام، يأتي بخاطر كل شاعر ذكي جواب في الآفاق، له احتكاك واتصال بالنصارى أو بغيرهم، وهو لا يصلح أن يكون دليلا على عقيدة ودين وفهم لذلك الدين.
وفي شعر "الجعدي" كلام عن سفينة نوح، ذكر أنه قال:
يرفع، بالقار والحديد من الـ
…
ـيجوز، طوالا جذوعها، عما2
والنابغة الجعدي، مخضرم، يقال إنه كان مثل الحنفاء، أنكر الخمر والميسر، وهجر الأزالام والأوثان، وكان ممن فكر في الجاهلية، وأنكر الجمر والسكر، وهجر الأزلام واجتنب الأوثان، وذكر إبراهيم. وقد لقي الرسول، وأسلم وأنشده من شعره. وذكر أنه هو القائل القصيدة التي فيها:
الحمد لله ربي لا شريك له
…
من لم يقلها فنفسه ظلما
على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل إنها لأمية، لكن صححها حماد الراوية3.
ونجد في شعر آخرين من غير من ذكرت ألفاظا وكلمات كانت معروفة عند النصارى وإشارا إلى عباداتهم وعاداتهم، وردت في شعر "النابغة الذبياني" ولبيد، وامرئ القيس، وأوس بن حجر وآخرين غيرهم ممن طافوا في الأرضين وارتحلوا فوقفوا على بعض أحوال النصارى فأشاروا إليها في شعرهم.
1 الأغاني "8/ 79"، نالينو "17".
2 اللسان "12/ 425"، "عمم".
3 الإصابة "3/ 508""رقم 8641"، أمالي المرتضي "1/ 263 وما بعدها"، المرزباني "321".
ونجد في شعر "الأفوه الأودي"، وهو صلاءة بن عمرو، تسجيلا لأبناء نوح. سجلهم مع سجل أسماءهم من ملوك التابعة ممن دانت لهم الأنام، فنجده يقول:
ولما يعصها سام وحام
…
ويافث حيثما حلت ولام1
ولا أدري إذا كان هذا البيت من نظم شاعر جاهلي، وهو الأودي، أو من نظم شخص آخر نظمه على لسانه في الإسلام. ولكني لا أستبعد بالطبع أن يكون خبر أولاد نوح الثلاثة. وهم: سام ويافث وحام، قد عرف عند العرب النصارى وعند من كان على احتكاك واتصال بهم.
ونجد في بيت شعر ينسب لأفنون التغلبي ذكرا لولد آدم2. وورود آدم في هذا البيت، إن صح إنه من شعر ذلك الشاعر الجاهلي، دليل على وقوف هذا الشاعر على قصة آدم وانحدار البشر من نسله. ولا يستبعد أن يكون أذن قد وقف عليها باختلاطه ببني قومه تغلب، وقد كان قسم كبير منهم قد دخلوا في النصرانية. ولا يستبعد أيضًا أن يكون بعض الوثنيين قد وقفوا أيضًا على قصة الخلق كما وردت في الديانتين من اختلاطهم بأهل الكتاب واتصال بهم.
وقد وردت، في بيت آخر من قصيدة يقال إنه قالها في رثاء نفسه، لفظة "الله" في شكل يفهم منه إنه كان يدين بالتوحيد، وأن الآجال كلها بيد الله3، وأشار في بيت آخر إلى عاد وإرم ولقمان وجدن4.
وأشير في أشعار بعض الجاهليين إلى تعبد النصارى وصلواتهم سجدا وقياما، وهؤلاء الذين أشير إليهم من الرهبان والناسكين الذين كانوا قد اعتكفوا في الصوامع وفي
1 النصرانية "266"، عن الأفوه الأودي راجع الأغاني "11/ 41 وما بعدها"، ابن قتيبة، الشعر "10"، ديوان الأفوه، "القاهرة 1937"، "تحقيق عبد العزيز الميمني".
2
قد كنت أسبق من جاروا على مهل
…
من ولد آدم ما لم يخلعوا رسني
المفضليات "524"، النصرانية "261"، شعراء النصرانية "193".
3
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي
…
إذا هو لم يجعل له الله واقيا
شعراء النصرانية "193".
4
لو أنني كنت من عاد ومن إرم
…
ربيت فيهم ومن لقمان أو جدن
شعراء النصرانية "193".
البيع والأديرة النائية يعبدون الله، ويدعون إلى الرب تقربا وخشية1، ومنهم من ترك السجود أثرًا في جباهم. وقد أطلقوا على صلواتهم هذه اسم "الصلاة". وهي من الألفاظ التي أخذها أولئك النصارى من "بني إرم". وعرفت المواضع التي كانوا يسجدون فيها بالمساجد، والمسجد هو الموضع الذي يتعبد فيه2.
وقد كان الركوع من العادات المعروفة عند الأحناف والنصارى3، و"كانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعا إذا لم يعبد الأوثان، ويقولون: ركع إلى الله"4. وأما إحناء الرءوس، فكان للتعظيم، ولذلك حنوا رءوسهم في الكنائس ولرؤسائهم على سبيل الاحترام والتعظيم5. وقد كانوا يبجلون رءوسهم وسادتهم كثيرًا، ولذلك نزل الوحي بتأنيبهم وتقريعهم، إذ جعلهم هذا الاحترام في مصاف الآلهة والأرباب.
وتلحق بالصلاة التسابيح، أي ذكر الله وتقديس اسمه، وقد كان من عادة الرهبان التسبيح بعد الصلاة، ولا سيما في الضحى والعشي6.
1 قال منظور الأسدي:
كأن مهواه على الكلكل
…
موقع كفي راحب يصلي
في غبش الصبح أو التتلي
الألفاظ، لابن السكيت "412"، النصرانية "177".
وقال البعيث:
على ظهر عادي كأن أرومه
…
رجال يتلون الصلاة قيام
تاج العروس "10/ 53"، اللسان "18/ 111"، وقال الأعشى:
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها
…
وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
ببابل لم تعصر فسالت سلافة
…
تخالط قنديدا ومسكان مختما
وقال المضرس الأسدي:
وسخال ساجية العيون خواذل
…
بجماد لينة كالنصارى السجد
النصرانية "177".
2 اللسان "5/ 187"، "سجد".
3 النصرانية "178".
4 "5/ 363":
5 قال النابغي الذبياني:
سيبلغ عذرا أو نجاحا من امرئ
…
إلى ربه رب البرية راكع
النصرانية "178".
6 قال أمية بن أبي الصلت:
سبحانه ثم سبحانا يعود له
…
وقبلنا سبح الجودي والجسد
وقال الأعشى:
وسبح على حين العشيات والضحى
…
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
"2/ 157"، "سبح"، اللسان "3/ 210"، النصرانية "178".
وقد كان رجال الدين، ولا سيما الرهبان منهم، يقومون بالفروض الدينية فرادى وجماعةن فيرتلون المزامير والأدعية بنغمات وألحان شجية. وقد عرف ترتيل القسيسي "الهينم"، وذلك في حالة النغم بخفوت الصوت1. وإذا طرب القس في صوته خفيا قيل لذلك "الزمزمة"2. أما إذا تغنى، فيقال لذلك الشمعلة. وقد قيل للمتغنين في تلادة الزبور "المتشمعل". وورد:"شمعلة اليهود: قراءتهم، إذا اجتمعوا في فهرهم"3. وأما إذا أطلق صوته بالدعاء فيقال لذلك الجأر4. واللحون من الكلمات التي أطلقت على ترتيل أهل الكتاب لكتبهم المقدسة. فقد كانوا يقرؤون التوراة والإنجيل في المحافل باللحن. وقد أشير إلى ذلك في بعض الأحاديث5. أما إذا ردد الشخص نغمات الإنجيل في حلقه، فكانوا يقولون له الترجيع، ومنه قولهم: رجع الإنجيل6.
و"التصبيغ" من الألفاظ التي كانت تدل على معنى خاص عند النصارى، هو التعميد. وقد عرفه الجاهليون. وذكر علماء اللغة أن الصبغة الدين والملة والشريعة والفطرة والختانة. "اختتن إبراهيم، صلوات الله عليه، فهي الصبغة.
1 "الهيمنة: الصوت. وهو شبه قراءة غير بينة". وأنشد لرؤبة:
لم يسمع الركب بها رجع الكلم
…
إلا وساويس هيانيهم الهنم
وفي حديث إسلام عمر، رضي الله عنه. قال: ما هذه الهينمة؟ قال أبو عبيدة: الهينمة: الكلام الخفي لا يفهم
…
وفي حديث الطفيل بن عمرو: هينم في المقام. أي قرأ فيه قراءة خفية. وقال الليث:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
أي فادع الله"، اللسان "16/ 108"، تاج العروس "9/ 111".
2 "قال الجوهري: الزمزمة كلام المجوس عند أكلهم. وفي حديث عمر، رضي الله عنه، كتب إلى أحد عمال في أمر المجوس: وإنههم عن الزمزمة. قال: هو كلام يقولونه عند أكلهم بصوت خفي. وفي حديث قباث بن أشيم: والذي بعثك بالحق ما تحرك به لساني ولا تزمزمت به شفتاي. الزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم"، اللسان "15/ 165".
3 تاج العروس "7/ 399"، "اشمعل".
4 "جأر يجأر جأرا وجؤرا: رفع صوته مع تضرع واسغاثة
…
وقال ثعلب: هو رفع الصوت إليه بالدعاء. وجأر الرجل إلى الله عز وجل إذا تضرع بالدعاء. وفي الحديث: كأني أنظر إلى موسى له جؤار إلى ربه بالتلبية. ومنه الحديث الآخر: لخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله"، اللسان "5/ 181".
5 النهاية في غريب الحديث "4/ 57"، معجميات "42 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 330"، اللسان "17/ 263".
6 اللسان "9/ 172"، النصرانية "356".
فجرت الصبغة على الختانة. وصبغ الذمي ولده في اليهودية أو النصرانية صبغة قبيح، أدخله فيها"1. و"كانت النصارى تغمس أبناءها في ماء المعمودية ينصرونهم"2. وقد صالح عمر بني تغلب بعدما قطعوا الفرات قاصدين اللحاق بأرض الروم، على ألا يصبغوا صبيا ولا يكرهوه على دينهم، وعلى أن عليهم الصدقة مضعفة3. وعرفوا "المعمودية" بقولهم: "لفظ معمودية معرب معموذيت بالذال المعجمة، ومعناها الطهارة. وهو ماء أصفر للنصارى يقدس بما يتلى عليه من الإنجيل، يغسمون فيه ولهم معتقدين إنه تطير له كالختان لغيرهم"4.
وقد كان نصارى الجاهلية يعمدون أولادهم، يأخذونهم أطفالا إلى الكنائس لتعميدهم على نحو ما يفعل سائر النصارى. وقد قيل له: التغميس والتصبيغ5.
والصوم من الأحكام الدينية المعروفة عند اليهود والنصارى، وقد أشير إليه في شعر لأمية بن أبي الصلت وفي بيت ينسب إلى النمر بن تولب6. وقد عرف أهل الجاهلية أن اليهود كانوا يصومون، وقد أشير إلى صومهم في عاشورا في أثناء الكلام على فرض الصوم على المسلمين بصيامهم شهر رمضان. ولا بد أن يكون للجاهليين علم بصوم النصارى كذلك، وذلك نتيجة لاتصالهم بهم واختلاطهم معهم.
ومن المصطلحات النصرانية "الحواريون"، وقصد بها رسل المسيح. وقد وردت اللفظة في مواضع من القرآن الكريم7. ووردت لفظة "الحواري" في بيت ينسب إلى "ضابئ بن الحارث بن أرطاة البرجمي"8. وقد رجع بعض الباحثين
1 تاج العروس "6/ 19"، "صبغ".
2 المصدر المذكور.
3 "قال الأزهري: وسمعت النصارى غمسهم أولادهم في الماء صبغا، لغمسهم إياهم فيه"، اللسان "10/ 319"، فتوح البلدان "190".
4 تاج العروس "2/ 432"، "عمد".
5 السنن الكبرى "9/ 216"، "ومنه صبغ النصارى أولادهم في ماء لهم. قال الفراء: إنما قيل صبغة لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد المولود جعلوه في ماء لهم كالتطهير. فيقولون هذا تطهير له كالختانة"، اللسان "10/ 320".
6
صدت كما صد عما لا يحل له
…
ساقي نصارى قبيل الصبح صوام
النصرانية "179".
7 آل عمران، الآية 52، المائدة الآية 114 وما بعدها، الصف، الآية 14.
8
وكر كما كر الحواري يبتغي
…
إلى الله زلفى أن يكر فيقتلا
المشرق، المجلد 1929 "ص575 وما بعدها"، النصرانية "189".
أصل هذه اللفظة إلى لغة بني إرم ورجعها اللغويون إلى أصل عربي هو "حور"، وذهب آخرون إلى أنها من أصل حبشي1.
والصليب، من أهم المصطلحات المعروفة عند النصارى، لاعتقادهم بصلب المسيح عليه، حتى صار رمزا للنصرانية. وصاروا يعلقونه على أعناقهم تبركا وتيمنا به، وينصبونه فوق منائر كنائسهم وقبابها، ليكون علامة على متعبد النصارى. وقد أقسموا به. وقد عرف المسلمون تمسك النصارى به، واتخاذهم له شعارا، حتى كان بعضهم يرسمه على جبهته، وكانوا يلثمونه ويتمسحوون به تبركا، ويزينون صدورهم به2.
وذكر علماء اللغة "الشبر" على أنه من المصطلحات الشائعة بين النصارى. وهو على حد تعريفهم له: "شيء يتعاطاه النصارى بعضهم لبعض كالقربان، يتقربون به، أو القربان بعينه". وذكروا أيضًا أن "الشبر" الإنجيل والعطية والخير.
ومن ذلك قول عدي:
لم أخنه والذي أعطى الشبر3
ويظهر من كتب الحديث أن أهل الكتاب كانوا يخالفون المشركين في بعض عاداتهم، كالذي ورد عن عبد الله بن عباس من "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحب موافقة أهل الكتاب
1 المشرق، السنة السابعة "1904 "620"، النصرانية "189"، معجميات "139".
2 قال الأخطل:
لما رأونا والصليب طالعا
…
خلوا لنا راذان والمزارعا
ديوان الأخطل "309". وقال حجار بن أبجر:
هددني عجل وما خلت إنني
…
خلاة لعجل والصليب لها بعل
الأغاني "13/ 47". وقال الأقيشر:
في قتية جعلوا الصليب الههم
…
حاشاي أني مسلم معذور
النصرانية "204".
ونسم إلى عبد المطلب بن هاشم قوله:
لا يغلبن صليبهم
…
ومحالهم، عدوا، محالك
اللسان "11/ 619"، "محل".
3 تاج العروس "3/ 289"، "شبر".
فيما لم يؤمر فيه بشيء. ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه"1. وكالذي ورد من أن أهل الكتاب كانوا يخالفون الجاهليين في كيفية التحية عند ملاقاة أحدهم الآخر، وأن الرسول أقر المصافحة.
وقد أطلقت لفظة "المصاحف" في شعر ينسب إلى امرئ القيس على أسفار النصارى، وهو قوله:"كخط زبرو في مصاحف رهبان"2. والكلمة على رأي بعض علماء الساميات والنصرانيات من أصل حبشي، ومفردها "مصحف"3. وصحف بمعنى كتب. وقد وردت لفظة "صحيفة" في بيت ينسب إلى "لقيط الإيادي"4.
والمجلة من الألفاظ المعروفة بين الجاهليين. وقد اشتهرت في العربية باقترانها باسم "لقمان"، فقيل:"مجلة لقمان"5. وأطلقت عند العبرانيين على أسفار الكتاب المقدس على سبيل التخصيص أحيانًا وعلى باب التعميم في بعض الأحيان6.وقد وردت في شعر للنابغة، هو:
مجلتهم ذات الإله ودينهم
…
قويم فما يرجون غير العواقب7
وقصد بها كتاب النصارى، فقد مدح به الغساسنة، وهم على دين المسيح.
وقصد بالسفر وبالأسفار الكتاب والكتب من التوراة والإنجيل، وكلمة "سفر" بمعنى كتاب8. وكانت النصارى تقرأ كتبها من المصحف9، وتفسر للمستمعين ما جاء من مشكل.
ولفظة "جهنم" من الألفاظ المعروفة عند اليهود والنصارى. وهي تعني
1 عمدة القاري "17/ 71".
2
أتت حجج بعدي عليه فأصبحت
…
كخط زبور في مصاحف رهبان
العقد الثمين "161".
3 النصرانية "181".
4
كتاب في الصحيفة من لقيط
…
إلى من بالجزيرة من إياد
الأغاني "20/ 34"، النصرانية "181".
5 النصرانية "181".
6 معجميات "167 وما بعدها".
7 "محلتهم" في بعض الروايات، ديوان النابغة "8".
8 اللسان "6/ 35"، الاشتقاق "103"، النصرانية "18".
9 النهاية "4/ 136".
الموضع الذي يكون فيه العذاب بعد الحشر، فيخلد فيه أصحاب الآثام والمعصية. واللفظة من أصل عبراني على رأي المستشرقين وعلماء الساميات هو "جحينوم""جهينوم""Gehinnom"، أي "وادي حينوم1""Hinnom". وهو واد يدور حول القدس نحو أربعة كيلو مترات، ويعرف اليوم باسم "وادي الربابي"، وقد كان اليهود الوثنيون يقربون في موضع منه يسمى "توفيث""Topheth"، الصبيان قرابين للإله "ملوخ" MoIech=MoIoch" يقدمونها ذبائح محروقة إكراما له، ثم صار هذا الموضع محلا ترمى فيه أقذار المدينة وجثث الحيوانات، وتحرق هناك لئلا تنتشر منها الأوبئة، وصار الموضع رمزا للجحيم، ومنه أخذت لفظة "جهنه" "Gehenna" التي هي جهنم2، الموضع الذي يعاقب فيه المجرمون بعد الموت. وهو موضع يقع تحت الأرض، واسع جدا، وأكبر حجما من الأرض. يلقى فيه الآثمون جزاء إثمهم في الدنيا ومخالفتهم شريعة الرب فيبقون فيه فيعذبون. وقد اختلف في موضوع أبدية التعذيب وبقاء وجهنم، فمنهم من رأى جهنم خالدة، وأن العذاب أبدي، ومنهم من ذهب إلى أنها ترفع بعد انتهاء التعذيب3.
وقد وردت لفظة جهنم في مواضع متعددة، من شعر أمية بن أبي الصلت، كما ورد فيه وصفها وكيفية التعذيب فيها4. ولمعرفة أصل هذا الشعر: هل هو
1 Ency I P 998 Shorter Ency p 81
2 Hastings p 285
3 متى، الاصحاح الخامس، الآية 29، الاصحاح العاشر، الآية 28،
Hastings p 285
4 "ورد في تأريخ دمشق لابن عساكر "3/ 124": قال عبد الله بن مسلم الدينوري: سئلت هل وجدتم لجهنم ذكرا في الشعر القديم، فقلت: هذا يحتاج إلى تتبع وطلب. وقد أتذكر فلم أذكر إلا شيئًا وجدته في شعر أمية بن أبي الصلت، فإنه قال:
فلا تدنو جهنم من برئ
…
ولا عدن يطالعها أثيم
إذا شبت ثم وارت
…
وأعرض عن قوانسها الجحيم
وروي البيت في المخصص "9/ 6":
جهنم لا تبقى بغيا
…
وعدن لا يطالعها رجيم
وذكر للعديل بن الفرخ "ياقوت "4/ 117" قوله في نار جهنم وجنة الخلد:
أما ترهبان الدار في ابني أبيكما
…
ولا ترجون الله في جنة الخلد
وقد ورد اسم جهنام في شعر الأعشى. قال "التاج 7/ 372":
دعوت خليلي مسحلا ودعوا له
…
جهنام جدعا للهجين المذمم
النصرانية "462 وما بعدها".
من شعر أمية حقًّا، أو من شعر آخرين وضعوه على لسانه، لا بد من دراسته ومقارنته بما جاء في الإسلام عن وصف جهنم وكيفية التعذيب فيها. وهناك رواية تنفي ورود لفظة جهنم في أي شعر جاهلي خلا هذا الشعر المنسوب إلى أمية بن أبي الصلت، ويلاحظ أنه ذكر "عدن" مع جهنم.
ولم أجد في أشعار الجاهليين ذكرا للإنجيل، إلا في الشعر المنسوب إلى "عدي بن زيد العبادي"1. وربما في شعر عدد قليل آخر من الجاهليين، لم أقف عليه. غير أن عدم ورود اللفظة كثيرًا في هذا الشعر، لا يدل على عدم معرفة الجاهليين لها، ودليلنا على ذلك ورودها ف مواضع من القرآن الكريم. وورودها فيه دليل على وقوف الجاهليين عليها واستعمالهم إياها، وأصلها من اليونانية، وقد وقف العرب عليها من السريانية أو من الحبشية2. وقد ذكرت فيما سبق أن نفرا من أهل الكتاب كانوا قد أقاموا بمكة وكانوا يقرأون التوراة والإنجيل بألسنتهم، فلا يستبعد إذن وقوف بعض الجاهليين، ولا سيما المثقفين منهم وأصحاب التجارات الذين كانوا يقصدون الحيرة وبلاد الشام ونجران للتجارة وكان لهم اتصال وثيق بنصارى هذه الأرضين على الإنجيل وعلى الكتب الأخرى التي كان يستعملها رجال الكنيسة لإفهام الناس أمورالدين.
ويظهر من بعض روايات الإخباريين أن بعض أهل الجاهلية كانوا قد اطلعوا على التوراة والإنجيل، وأنهم وقفوا على ترجمات عربية للكتابين. أو أن هذا الفريق كان قد عرب بنفسه الكتابين كلا أو بعضًا، ووقف على ما كان عند أهل الكتاب من كتب في الدين. فذكروا مثلا أن "ورقة بن نوفل""كان يكتب الكتاب العبراني، ويكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب": وقالوا: "وكان امرؤ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب"3. وذكروا مثل ذلك عن "أمية بن أبي الصلت"، فقالوا إنه كان قد قرأ الكتب المقدسة4، وقالوا مثل ذلك عن عدد من الأحناف.
1
وأوتينا الملك والإنجيل نقرؤه
…
نشفي بحكمته أحلامنا عللا
الحيوان "4/ 64"، النصرانية "185".
2 اللسان "13/ 171"،النصرانية "185" Shorter Ency p 168
3 راجع ما كتبته عنه في فصل الأحناف Spenger Leben I S128
4 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "176".
وإذا كانت هذه الروايات صحيحة، فإنها تدل على أن الجاهليين كانوا قد وقفوا على ترجمة العهدين. ويرى بعض المستشرقين احتمال ترجمة العرب للكتاب المقدس قبل الإسلام وعند ظهوره، ترجمة من اليونانية على الأرجح. وقد استندوا في ذلك إلى خبر ذكره "ابن العبري""Barkebraeus" يفيد أن البطريق "المنوفيزيتي" المدعو "يوحنا""Monophysite Patriarch Johannes" كان قد ترجم الكتاب المقدس إلى أمير عربي اسمه "عمرو بن سعد"، وذلك بين سنتي "631"،"640" للميلاد، وإلى أخبار تفيد أن بعض رجال الدين في العراق كانوا قد ترجموه إلى العربية وذلك قبيل الإسلام وعند ظهوره1.
ولا يستبعد وجود ترجمات للكتاب المقدس في الحيرة، لما عرف عنها من تقدم في الثقافة وفي التعليم، ولوجود النصارى المتعلمين فيها بكثرة. وقد وجد المسلمون فيها حينما دخلوها عددا من الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة وتدوين الأناجيل، وقد برز نفر منهم، وظهروا في علوم اللاهوت، وتولوا مناصب عالية في سلك الكهنوت في مواضع أخرى من العراق، فلا غرابة إذا ما قام هؤلاء بتفسير الأناجيل وشرحها للناس للوقوف عليها. وقد لا يستبعد تدوينهم لتفاسيرها أو لترجمتها، لتكون في متناول الأيدي، ولا سيما بالنسبة إلى طلاب العلم المبتدئين. وقد لا يستبعد أيضًا توزيع بعض هذه الترجمات والتفاسير إلى مواضع أخرى لقراءتها على الوثنيين وعلى النصارى للتبشير2.
ونجد في كتب الإخباريين وفي كتب قصص الأنبياء وفي الفصول المدونة عن الماضين قصصًا وأمثلة وكلاما يرجع أصله إلى بعض أسفاره التوراة أو إلى الأناجيل، غير أننا لا نستطيع أن نؤكد أن هذا المدون قد نقل عن الجاهليين، وأن أهل الجاهلية كانوا يعرفونه، وإنه ليس مما قصه أهل الكتاب أو مسلمة أهل الكتاب مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه على المسلمين، فدخل بينهم. ثم إن القصص أكثره من "التلمود"، "المشنا" والكتب غير القانونية، روي بشكل فيه بعد في بعض الأحيان عن هذا المدون المعروف، وهو يفيدنا من هذه الناحية كثيرًا في الحكم على مدى معرفة العرب بعلم أهل الكتاب.
1 Sprenger I S 131
2 Ency II p 504
وللأسماء أهمية كبيرة في تعيين مبلغ أثر اليهودية والنصرانية في الجاهليين. وإذا كانت أسماء الوثنيين قد ساعدت "ولهوزن" في الكشف عن أسماء أصنام وأوثان لم ترد في كتاب الأصنام لابن الكلبي ولا في كتب الإخباريين الأخرى، وساعدت في الكشف عن مدى تغلغل الوثنية في نفوس أهل الجاهلية، فإن للأسماء اليهودية أو الأسماء النصرانية التي تسمى بها أهل الجاهلية والتي وصل خبرها إلينا أهمية كبيرة في الافصاح عن مدى تأثر الجاهليين بالديانتين. وليس من اللازم أن تكون هذه الأسماء أسماء أناس كانوا على دين يهود، أو على دين النصرانية، فالأسماء وإن كان لها ارتباط في الغالب بأديان حامليها غير أنها لا تكون دائمًا دليلا على دين أصحابها، فللبيئة ولبعض العادات والاعتقادات دخل في اختيار الأسماء. وعلى ذلك فإن ما سنذكره من أسماء لا نذكرها على أن أصحابها كانوا يهودا أو نصارى حتما، وإنما نذكرها على سبيل الإشارة إلى أن بعض الجاهليين كانوا يحملون أسماء هي في الغالب من أسماء اليهود والنصارى.
وفي طليعة هذه الأسماء التي يجب أن نذكرها، الأسماء الواردة في التوراة والإنجيل، فهي أسماء عبرانية ونصرانية معروفة، وبها تسمى. كثير من اليهود والنصارى. ودخولها بين الجاهليين العرب دليل على وجود بعض تلك المسميات بينهم، وتسمى أهل الجاهلية بتلك الأسماء.
ومن جملة تلك الأسماء: آدم وقد دعي به آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. قتل في الجاهلية، وهو الذي وضع النبي دمه يوم فتح مكة. وقد جاء "ابن دريد" بتفسير لهذه التسمية فذكر أنها من الأدمة أو بمعنى الطويل القامة ذي العنق الناصع، ولم يشر إلى وجود علاقة لها باسم آدم أبي البشر1. غير أني لا أستبعد احتمال أخذها من التسميات التي كانت بين اليهود أو النصارى عند الجاهليين. غير أننا لا نعرف من أمثال هذه التسميات غير عدد قليل محدود بحيث لا يمكن أن نتخذها قاعدة لبناء حكم عليها في ورود هذه التسمية عند الجاهليين.
وأكثر من هذه التسمية شيوعا اسم "إبراهيم"، ومن جملة من تسمى بها: إبراهيم جد عدي بن زيد بن حمان بن زيد بن أيوب من بني امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم. فولد أيوب إبراهيم وسلم وثعلبة وزيد. منهم عدي بن زيد
1 الاشتقاق "44"،النصرانية "228".
ابن حمان بن زيد بن أيوب بن مجروف الشاعر. ومنهم مقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيوب، الذي نسب إليه قصر مقاتل. وقال ابن الكلبي: لا أعرف في الجاهلية من العرب أيوب وإبراهيم غير هذين، وإنما سميا بهذين الإسمين للنصرانية1.
وممن سمي بإبراهيم: الحارث بن كتيف النبهاني، وهو شاعر قديمن وإبراهيم الأشهلي، وإبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي القرشي، وابو رافع إبراهيم القبطي، وهو من موالي الرسول، وإبراهيم بن عباد الأوسي، وإبراهيم بن قيس بن حجر بن معديكرب الكندي، وإبراهيم النجار وهو الذي صنع المنبر لرسول الله. وأكثر هؤلاء هم من الذين عاصروا الرسول وكانوا من صحابته2. ويجب ألا ننسى أن الرسول سمى ابنه توفي صغيرا في حياته إبراهيم3.
وعرف من الصحابة رجل اسمه "إسحاق الغنوي"4، وعرف ثلاثة صحابيين باسم "إسماعيل"5. وأما "أيوب"، فقد عرف به "أيوب بن مجروف" جد عدي بن زيد العبادي، وأيوب بن مكرز، كما تكنى به أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري من الصحابة، وهو الذي نزل عليه الرسول يوم مقدمه إلى يثرب مهاجرا من مكة6.
واسم "داود" من الأسماء التي وردت في جملة أسماء ملوك بني سليح، فذكر منهم "داود اللثق"7. وأظن أن لفظة "دؤاد" التي كني بها الشاعر الجاهلي أبو دؤاد الإيادي هي من داود8، وإن ذهب المفسرون فيها مذهبا آخر فقالوا أنها من الدود والدوادة والدودة وأمثال ذلك9. وعرف شاعر آخر باسم
1 تاج العروس "1/ 151"، "أوب"، النصرانية "229".
2 أسد الغابة "1/ 40 وما بعدها"، الإصابة "1/ 25 وما بعدها"، النصرانية "329".
3 ابن هشام "1/ 206".
4 أسد الغابة "1/ 68"، الإصابة "1/ 47"، "رقم 49"، النصرانية "229".
5 أسدالغابة "1/ 79"، الإصابة "1/ 55 وما بعدها"، النصرانية "230".
6 ابن هشام "2/ 66، 125، 144، 150، 305"، "3/ 347، 392"، الاشتقاق "266".
7 الاشتقاق "319"، النصرانية "532".
8 النصرانية "232".
9 الاشتقاق "104".
داود بن حمل الهمداني1، ومن الأنصار رجل اسمه داود بن بلال2 وصحابي اسمه داود بن سلمة الأنصاري3.
وقد عرف داود في الشعر بنسجه الدروع حتى ضربت بدروعه عندهم المثل. وهي في نظرهم دروع قوية ممتازة، صنعها من الحديد الذي كان يلين بين يديه4. وقد تكرر ورود ذلك في أشعار جملة شعراء، مما يدل على أنها كانت معروفة بين الجاهليين مشهورة. هذا ولا بد أن يكون لذلك أصل بعيد ظهر من قصص بني إسرائيل عن داود وعن ملكه وحروبه وتغلبه على خصومه. هذا القصص الذي جعل من داود رجلا لا يستطاع عليه بفضل الحديد الذي لان بين يديه، فصار دروعا لا تمضي فيه سيوف المقاتلين.
1 النصرانية "232".
2 أسد الغابة "2/ 129"، الإصابة "1/ 463"، "رقم 2287و228"، الإصابة "4/ 169"، "988".
3 الإصابة "1/ 463".
4 قال طرفة:
وهم ما هم إذا ما لبسوا
…
نسج داود لباس محتضر
النصرانية "272"، شعراء النصرانية "309"، ديوان طرفة "58".
وقال حصين بن الحمام المري:
صفائح بصرى أخلصتها قيونها
…
ومطردا من نسج داود بهما
الحماسة لأبي تمام "189"، النصرانية "273".
وقال حسيل بن سجيع الضبي:
وبيضاء من نسج ابن داود تثرة
…
تخيرتها يوم اللقاء ملابسا
الحماسة لأبي تمام "284"، النصرانية "273".
وللبيد:
ونزعن من داود أحسن صنعه
…
ولقد يكون بقوة ونعيم
صنع الحديد لحفظه أسراده
…
لينال طول العيش غير سروم
ديوان لبيد "83"، "طبعة الخالدي"، النصرانية "273".
وللأعشى:
ومن نسج داود يجدي بها
…
على أثر العيس عيرا فعير
النصرانية "273"، شعراء النصرانية "388".
ولسلامة بن جندل:
مداخلة من نسج داوو شكلها
…
كحب الجنا من أبلم متفرق
وله أيضًا:
من نسج داود وآل محرق
…
غال غرائبهن في الآفاق
النصرانية "273".
ولم يخل شعر الأعشى من اسم داود، فورد في مناسبة التحدث عن حوادث الزمان واعتداء الدهر على الإنسان، وتبدل الأيام، كما في موضع آخر في كلامه على الدروع1. أما عبيد الأبرص، فقد ذكره في أثناء كلامه على طول العمر2.
وعرف "سليمان" في أبيات للنابغة قالها في مدح النعمان ملك الحيرة بتسخيره الجن لبناء تدمر3. وعرف بمثل ذلك وببنائه الأبنية الفخمة وبسعة ملكه في شعر شعراء آخرين4. وإذا كان ما نسب إلى أولئك الشعراء صحيحا، كان رأيهم هذا في سليمان بتأثير ما كان يقصه أهل الكتاب على الجاهليين من قصص وارد في العهد الجديد، في سفر الملوك الثالث وأخبار الأيام الثاني عن ملكه وعجيب أبنيته5.
وقد ورد اسم سليمان علما لجملة رجال عاشوا في الجاهلية وفي أيام الرسول، فهناك حاكم من حكام العرب المعروفين في الجاهلية اسمه "سليمان بن نوفل"6.
1
ومر الليالي كل وقت وساعة
…
يزعزعن ملكا أو يباعدن دانيا
وردن على داود حتى أبدنه
…
وكان يغادي العيش أخضر صافيا
الحماسة، للبحتري "90"، النصرانية "272".
2
وطلبت ذا القرنين حتى فاتني
…
ركضا وكدت أن أرى داؤودا
خزانة الأدب "1/ 323"، النصرانية "272".
3
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه
…
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان، إذا قال الإله له:
…
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
…
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
فمن أطاعك فاخضعه بطاعته
…
كما أطاعك وأدلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة
…
تنهى الظلوم ولا تعقد على أحد
العقد الثمين "7"، شعراء النصرانية "663"، النصرانية "274".
4 قال الأعشى:
فلو كان حيا خالدا ومعمرا
…
لكان سليمان البري من الدهر
براه الهي واصطفاه عبادة
…
وملكه ما بين سرفي إلى مصر
وسخر من جن الملاك شيعة
…
قياما لديه يعملون بلا أجر
البدء والتأريخ "3/ 108"، النصرانية "274"، وله أيضا:
فذاك سليمان الذي سخرت له
…
مع الإنس والجن الرياح المراخيا
الحماسة، للبحتري "86 وما بعدها"، النصرانية "275".
5 النصرانية "273".
6 اليعقوبي "1/ 299"، النصرانية "232".
وهناك جملة من الصحابة عرفوا بسليمان1. ومن هذه اللفظة نشأت الأسماء: سلمان وسلام، وسليم، كما يتبين ذلك من أبيات للأسود بن يعقر2 والخطيئة3 والنابغة4. وعرف بسلمان رجل من نصارى بني عجل اسمه سلمان العجلي.
وهناك طائفة لأسماء نصرانية خالصة تسمى بها نفر من الجاهليين قبل الإسلام، مثل: عبد المسيح، وعبد ياسوع، وعبد يسوع، وعبد يشوع، وايشوع، وأبجر، وقد عرف بأبجر عدد من ملوك الرها، كما عرف بها أبجر بن جابر سيد بين عجل، وأفريم، وبولس وجرحس، وجريج، ورومان، ورومانوس، وسرجس، وسمعان، وشمعون، ونسطاس، وحنين، و"حنيناء"و"يحنة"5. ومن أسماء النساء: مارية، ومريم، وحنة6،ومن بين هذه الأسماء ما كانت خاصة بطبقة الموالي الذين جلبوا من الخارج وبيعوا في أسواق النخاسة، فحافظوا على أسمائهم القديمة التي تشير إلى أصولهم في النصرانية.
ونرى ورود "عبد المسيح" بين أسماء أهل الحيرة بصورة خاصة، ورد علما لأناس معروفين جدا بينهم، وكانوا عليهم زعماء، مثل عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة، وكان في جملة من خرج لملاقاة خالد بن الوليد
1 مثل سليمان بن الحارث، الاشتقاق "2/ 318" وسليمان الليثي بن أكيمة، وسليمان بن أبي حتمة القرشي، وسليمان بن صرد الخزاعي، وسليمان بن عمرو بن حديدة، وسليمان بن مسهر، وسليمان بن هاشم بن عتبة القرشي، أسد الغابة "2/ 350 وما بعدها"، الإصابة "2/ 128 وما بعدها"، النصرانية "232"، تاج العروس "8/ 344".
2
ودعا بمحكمة أمين سكها
…
من نسج داود أبي سلام
تاج العروس "8/ 344".
3
فيه الرماح وفيه كل سابغة
…
جدلاء محكمة من نسج سلام
النصرانية "232".
4
وكل صموت نثلة تبعية
…
ونسج سليم كل قضاء ذائل
ديوان النابغة "99"، النصرانية "233"، "أراد نسج داود، فجعله سليمان ثم غير الاسم، فقال سلام وسليم. ومثل ذلك في أشعارهم كثير. قال ابن بري: وقالوا في سليمان اسم النبي، صلى الله عليه وسلم: سليم وسلام فغيروه ضرورة"، اللسان "15/ 192 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 344".
5 البكري: معجم "4/ 580"، تاج العروس "9/ 186".
6 النصرانية "239"، وقد أورد قائمة بالأسماء النصرانية، وأورد أمثلة لمن تسمى بها قبل الإسلام من الجاهليين، الكبري، معجم "4/ 578"، "دير حنة".
للاتفاق معه على شروط الصلح1. وعادة جعل المرء نفسه عبدا لإله أو لشخص مقدس، كما في هذه التسمية، لم تكن من العادات الخاصة بالنصارى، فقد رأينا أن أكثر الجاهلين كانوا يجعلون أنفسهم عبدا لإله من الآله، ثم يتخذون ذلك تسمية لهم، مثل عبد العزى، وعبد يغوث، وعبد ود، وأمثال ذلك. فلما كانت النصرانية، تبرأ من تنصر من اسم الآلهة الوثنية، وأحلوا محلها اسم المسيح.
وكان اسم والد حنظلة صاحب دير حنظة الذي بأرض بني علقمة بالحيرة "عبد المسيح"، ويذكر الإخباريون أنهم وجدوا على صدر الدير كتابة مكتوبة بالرصاص على ساج محفور:"بني هذا الهيكل المقدس، محبة لولاية الحق والأمانة، حنظلة بن عبد المسيح، يكون مع بقاء الدنيا تقديسه، وكما يذكر أولياؤه بالعصمة، يكون ذكر الخاطئ حنظلة"2.
غير أن هذه الأسماء اليهودية الأصل أو النصرانية قليلة الاستعمال، فلم تكن مستعملة بنطاق واسع. وأكثر من تسمى بها، هم من الموالي والأرقاء، أو من العرب الذين كانوا على أطراف العراق وبلاد الشام، وممن تأثر بالمؤثرات الثقافية الأعجمية، أو ممن كان على يهودية أو نصرانية، فتسمى بأسماء محببة أو مباركة في هاتين الديانتين.
وأهل نجران، هم الذين كانوا يجادلون الرسول في طبيعة المسيح، فلم يكن بمكة أو بيثرب قوم منهم يستطيعون مجادلته في أمور الدين. وقد ذكر بعض المفسرين أن أهل نجران كانوا أعظم قوم من النصارى جادلوا الرسول في عيسى. جاءوا إلى الرسول، فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسى. تزعم إنه عبد الله. فقال: أجل إنه عبد الله. قالوا: فهل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به، ثم خرجوا من عنده غاضبين. وقالوا إن كنت صاقدا، فأرنا عبدا يحيي الموتى ويبرئ الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، فلما عادوا قال رسول الله:"مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون"3.
1 البلاذري، فتوح "252"، المعمرون، للسجستاني "38"، "طبعة كولدتزيهر". المشرق، السنة السابعة عشرة، "1914"، "ص132"، البلدان "2/ 677".
2 البكري، معجم "2/ 572"، "دير حنظلة".
3 تفسير الطبري "3/ 207 وما بعدها.
وقد جادل بعض النصارى رسول الله في أمور الدين، ثم أسلموا. ونظرا لقلة عددهم بيثرب، لم يقاوموه هنا كما قاومه اليهود.
وطبيعي أن يتأثر نصارى الجاهلية بلغة بني إرم، فيستعملوا المصطلحات التي كانت شائعة في الكنيسة، وهي مصطلحات إرمية الأصل في الغالب: فقد كانت لغة بني إرم لغة العلم والدين عند النصارى الشرقيين. بها يقيمون طقوسهم الدينية، ومنها يترجمون الأناجيل إلى أتباعهم النصارى العرب، فدخلت بذلك إلى العربية ألفاظ إرمية ذات معان خاصة. ومنها الألفاظ التي تكلمنا عنها وألفاظ أخرى عديدة لم نتطرق إليها، لعدم وجود صلة لها بهذا الموضوع، وخشية الإطالة والخروج على صلب الموضوع. وهناك مصطلحات يونانية ولاتينية وحبشية، لها صلة بالدين والمجتمع دخلت العربية أيضًا عن طريق النصرانية، ظهر أثرها في نصارى بلاد الشام والعربية الغربية خاصة، بتأثير الاحتكاك المباشر والتبشير.
وقد عني بعض الباحثين بجمع المصطلحات الدينية المعروفة عند أهل الكتاب في الجاهلية والتي أقرها الإسلام على نحو ما كانت تعرف به، أو أعطاها معنى خاصًّا، ومن بينها عدد كبير ورد في القرآن الكريم1. ولما كانت غالبية العرب على الوثنية، وهي ديانة بسيطة قليلة الشعائر بالنبة إلى اليهودية والنصرانية، لذلك كانت هذه المصطلحات شائعة معروفة بين أهل الكتاب من الجاهليين، وقد نقلوها من اللغات الدينية التي كتب بها علماء أهل الكتاب، فهي في الغالب من أصل سرياني أو عبراني أو يوناني أو حبشي.
وقد جمع الأب "شيخو" في كتابه: "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية" الألفاظ الخاصة بأهل الكتاب من الأبيات الواردة في دواوين شعراء الجاهلية وفي كتب الأدب، وهي أبيات منها ما أجمع الرواة وأهل الأخبار على نسبتها إلى أولئك الشعراء، ومنها ما ورد عند بعض الرواة والإخباريين ولم يرد في دواوين أولئك الشعراء، ليجعل من تلك الألفاظ دليلا على أثر النصرانية في الجاهليين، وعلى مدى تغلغلها بينهم. وهو حكم لا يمكن أن يكون سليما، إلا بعد ثبوت صحة نسبة تلك الأبيات إلى الجاهليين.
1 Noldeke، Neue Beitrage zur Semit. Sparad، s. 1. ff، J. Horovitz، Jewish Proper Names and Derivatives in Koran، 145، R. Bell، The Grigin of Islam in Its Christian Environment، London، 1926.
وقد كان للنصرانية أثر مهم في نشر الكتابة العربية، المأخوذة عن الإرمية، بين الجاهليين، الكتابة التي تولد منها قلمنا الذي نكتب به في الوقت الحاضر. وقد وجد المسلمون في فتحهم للعراق مدارس عديدة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، كما أن تجار مكة ويثرب الذين كانوا يقصدون الشام والعراق وجدوا الضرورة تحتم عليهم تعلم هذا الخط، فتعلموه. ولما نزل الوحي كتب كتابه به، فصار قلم المسلمين. كما سأتحدث عن ذلك في موضوع الخط عند الجاهليين.
ولم يترك رجال الدين من النصارى العرب لنا أثر كتابيا بنبئ عن مدى اشتغالهم في علم اللاهوت وفي العلوم الأخرى، غير أن هذا لا يعني أن النصارى العرب لم يخرجوا علماء دين منهم، ولم يعطوا النصرانية رجلا منهم يخدمها ويقف حياته الروحية عليها، ففي قوائم أسماء من حضروا المجامع الدينية التي عقدت للنظر في الأمور الجدلية وفي القضايا التي تخص مبادئ الدين أسماء رجال تنبئ أنهم كانوا عربا، وقد دونت في محاضر تلك المجالس أسماء المواضع التي مثلوها من بلاد العرب، كما أن بين رجال الدين الكبار الذين نبغوا في العراق من كان أصله من الحيرة، وإذ كانت غالبية سكان هذا المدينة من العرب، فلا يستبعد أن يكون من بين هؤلاء العلماء النصارى الحيريين من كل من أصل عربي.
لقد كانت النصرانية عاملا مهما بالطبع في إدخال الآراء الإغريقية والسريانية إلى نصارى العرب، فقد كانت الكنيسة مضطرة إلىدراسة الإغريقية ولغة بني إرم، لما للغتين من قدسية خاصة نشأت من صلتهما بالأناجيل. وقد كان أثر الإرمية أهم في الكنيسة الشرقية من الإغريقية، لكونها لغة الثقافة في الهلال الخصيب في ذلك العهد. ولهذا وجدنا معظم التعابير والمصطلحات الدينية عند نصارى الشرق هي من هذه اللغة، ومنها أخذها النصارى العرب، فصارت عربية. وقد كان السريان قد نقلوا بعض مؤلفات اليونان واللاتين إلى لغتهم، ولا أستبعد نقلهم بعض تلك المؤلفات، ولا سيما الدينية منها، من هذه اللغة إلى اللغة العربية، وذلك قبل الإسلام، أو ترجمتها ترجمة شفوية لطلاب العلم من العرب ممن كانوا لا يفقهون لغة بني إرم، أو لا يلمون بها إلماما صحيحا. وإذ كانت هذه اللغة لغة مقدسة لغة بني إرم، أو لا يلمون بها إلماما صحيحا. وإذ كانت هذه اللغة لغة مقدسة ولغة الكنيسة الرسمية، وكان أكثر رجال الدين من بني إرم، فقد كانت هذه اللغة المقررة في الكنيسة، بها يدرس ويتباحث رجال الدين وإن كانوا عربا، على نحو ما يفعله رجال الدين المسلمين الأعاجم الذين يدرسون العربية بعلومها المختلفة
ليتفقهوا بذلك في الدين، والعربية هي لغة الدين الإسلامي، وكما يفعل رجال الدين الكاثوليك أيضًا في دراستهم اللاتينية وتبحرهم بها لأن الاتينية هي لغة النصرانية عند الكاثوليك.
وكان للنصرانية أثر آخر في نصارى عر الجاهلية، هو أثرها فيهم من ناحية الفن، إذ أدخلت النصرانية بين العرب فنا جديدا في البناء، هو بناء الكنائس والأديرة والمذابح والمحاريب والزخرفة، كما أدخلت النحت والتصوير المتأثرين بالنزعة النصرانية، ولدخول أكثر هذه الأشياء لأول مرة بين الجاهليين، استعملت مسمياتها الأصلية اليونانية أو الآرامية في اللغة العربية، بعد أن صقلت وهذبت، حتى اكتسبت ثوبا يلائم الذوق العربي في النطق. وستكشف الحفريات في المستقبل عن مدى تأثر النصارى العرب الجاهليين بالفن النصراني المقتبس عن الروم أو عن بني إرم والأحباش.