الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس والثمانون: في أوابد العرب
مدخل
…
الفصل الخامس والثمانون: في أوابد العرب
وهي أمور كانت العرب عليها في الجاهلية، بعضها يجري مجرى الديانات، وبعضها يجري مجرى الاصطلاحات والعادات، وبعضها يجري مجرى الخرافات، وقد كانت قد هيمنت وسيطرت على عقليتهم، ولا سيما تلك الأمور التي كانت تتصل بحياتهم، كالكهانة والحداسة والرقية والتنجيس والتنجيم، وغير ذلك مما له علاقة بحياة الإنسان حتى قيل إنهم كانوا "بين متكهن وحداس وراق ومنجس ومتنجم"1.
1 إرشاد الساري "8/ 400"، صحيح مسلم "7/ 35 وما بعدها"، عمدة القاري "21/ 275"، اللسان "7/ 244"، الروض الأنف "1/ 136"، مروج الذهب "2/ 82"، "محمد محيي الدين عبد الحميد".
"الكهانة""Divination"، ويقال لمن يقوم بذلك الكاهن. أما الذي يزعم أن في إمكانه التحكم في الأرواح وتوجيهها الوجهة التي يريدها، فيقال له "ساحر" ويقال لعمله "السحر". وتقابل كلمة "السحر" في العربية كلمتا "Magic" و"Sorcery" في الإنكليزية.
والكهانة في اللغة العربية تعاطي الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ومعرفة المغيبات والأسرار، وتقابل بهذا التعريف في العربية كلمة "Soothsayer" في الانكليزية. وتقابل كلمة "كاهن" لفظة "كوهين""kohen في العبرانية و"كهنا" "kahna" في لغة بني إرم، وكلها من الأصل السامي القديم1.
ومن مرادفات الكاهن: "الطاغوت". وبهذا التفسير فسر العلماء قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} 2. قالوا: الطاغوت: الكاهن. وهم كهان تنزل عليهم شياطين يلقون على ألسنتهم وقلوبهم. والطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها، كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد وهم كهان تنزل عليهم الشياطين3. وذكر بعض علماء التفسير أن الطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه. وقد وردت اللفظة في موضع آخر من القرآن الكريم بعد لفظة "الجبت"، إذ جاء في التنزيل:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 4. وقد ذكروا أن الجبت السحر والساحر، بلسان الحبشة والطاغوت الكاهن5. وأن الجبت والطاغوت صنمان، أو أن الجبت الأصنام والطاغوت تراجمه الأصنام، والذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، أو أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له، كائنا ما كان ذلك الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظمة بالعبادة من دون الله، فقد كانت جبوتا وطواغيت،
1 إرشاد الساري "8/ 398"، اللسان "13/ 362 وما بعدها"، "كهن"، مفتاح السعادة، لطاش كبرى زاده "1/ 293 وما بعدها".
Noldeke، Neue Beltrage Semltlschen Sprachwissenschaft، S. 36.
2 البقرة، الرقم الآية 256.
3 تفسير الطبير "3/ 13 وما بعدها".
4 النساء، الآية 51.
5 تفسير الطبري "5/ 84".
وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كانا مقبولا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله، وكذلك حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف لأنهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين1.
وذكر علماء التفسير في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدا} 2، أي "الطاغوت" الكاهن الذي كان يحكم بين الناس، ويتحاكمون إليه. وأنها نزلت في حق يهودي اختصم مع مسلم، فكان المسلم أو المنافق يريد الاحتكام إلى الكاهن، وكان اليهودي يدعو إلى النبي أو المسلمين، لأنهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، أو إلى كاهن بالمدينة، أو إلى كعب بن الأشرف، فنزل الوحي بتوبيخ ذلك المسلم أو المنافق3.
والتكهن عن المستقبل والتحدث عن الماضي، موضوع له فروع عديدة. وقد عد علما من العلوم عند كثير من الأمم، وألفوا فيه. وتبؤ الأصنام هو نوع من هذا الأنواع. ويدخل في التكهن التنبؤ بواسطة وسيط: مكالمة صنم، أو "تابع أي "رئي"، وقراءة كبد الشاة وقراءة أعضائها كما كان عند البابليين وعند المصريين. والتكهن بحركات الطيور، وتفسير الأحلام. وتفسير بعض الظواهر الطبيعية وما شابه ذلك ذلك وكل هذه كانت معروفة عند الجاهليين.
وليس من الضروري أن يكون التكهن بتكليم الصنم حتما وفي المعبد بالضرورة، فقد كان من الكهان من يقيم في بيته ويتكهن مع ذلك للناس، ينطق بما يوحى إليه وبما يشعر به. وقاصدوه يرون أن فيه قوة خارقة وقابلية لتلقي الوحي من تلك القوة التي يتصورونها على هيأة شخص غير منظرو يلقي إلى الكاهن الوحي، فينطلق بما يناسب المقام وبما يكون جوابا على الأسئلة التي توجه إليه. ويطلقون على ذلك الشخص الخفي اسم "تابع" أو "صاحب" أو "مولى" و"ولي" و"رئي"، لأنه يكون تابعا وصاحبا للكاهن، يتبعه ويصاحبه ويلقي إليه
1 تفسير الطبري "5/ 83 وما بعدها".
2 سورة النساء، الآية 60.
3 تفسير الطبري "5/ 96 وما بعدها".
"الرئي". يكشف له الحجب ويأتيه بالأسرار. فهو "حاز" و"حزاء" و"حازية" و"الراتي" في العهد القديم1.
وكان من رأي الجاهليين أن هناك وحيا يوحى إلى الكاهن بما يقوله، وقد قالوا لذلك المصدر الذي يوحي إليه:"شيطان الشاعر"، ذلك لأن شيطان الكاهن يسترق السمع ويلقي به إلى الكهنة2. يسترقه من السماء، فيأتي به إلى الكاهن ويلقي ما استرقه إليه، فيلقي الكاهن ما ألقي عليه شيطانه إلى الناس، وبذلك يتنبأ لهم3. "سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ناس عن الكهان، فقال: "ليسوا بشيء"، فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانًا بشيء، فيكون حقًّا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق، يخطفها من الجني فيقرها في أذن وليه، فيخلطون معها مائة كذبة" 4.
وقد وردت كلمة" كاهن" في القرآن الكريم في معرض الرد على قريش الذين اتهموا الرسول بأنه "كاهن". وبأنه يقول القرآن على نمط سجع الكهان. فجاء فيه: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} 5، و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 6. فرد عليهم بقوله: "ما هذا القرآن بقول شاعر؛ لأن محمدًا لا يحسن قيل الشعر، فتقولوا هو شعر، قليلا ما تؤمنون. يقول تصدقون قليلا به أنتم، وذلك خطاب من الله لمشركي قريش. ولا بقول كاهن، قليلا ما تذكرو. يقول ولا هو بقول كاهن، لأن محمدا ليس بكاهن، فقولوا هو
1 Reste، S. 134، Shorter Ency. P. 207
2 تاج العروس "9/ 326 وما بعدها" اللسان "17/ 244"، الطبرسي "5/ 349، 367"، بلوغ الأرب "2/ 269"، مروج الذهب "2/ 172 وما بعدها"، مفتاح السعادة، لطاش كبري زاده "1/ 113 وما بعدها"، إرشاد الساري "8/ 398"، مقدمة ابن خلدون "1/ 101 وما بعدها".
3 صبح الأعشى "1/ 398".
4 إرشاد الساري "8/ 400"، صحيح مسلم "7/ 35 وما بعدها"، عمدة القاري "21/ 275"، اللسان "17/ 244"، الروض الأنف "1/ 136"، نهاية الأرب "3/ 128"، "في أخبار الكهان".
5 سورة الطور، الآية 29، تفسير الطبري "27/ 18".
6 الحاقة، الآية 42.
ممن سجع الكهان"1. فكان للكهان أسلوب خاص في كلامهم عند التبؤ والتكهن هو أسلوب السجع. ولذلك عرف بـ "سجع الكهان". وقد امتاز سجعهم هذا باستعمال الكلام الغامض، والتعابير العامة الغامضة التي يمكن تفسيرها تفاسير متناقضة ومختلفة. وهو أسلوب تقتضيه طبيعة التكهن، لكي لا يلزم الكاهن على ما يقوله من قول ربما لا يقع، أو قد يقع العكس. ففي مثل هذه الحالة، يمكن أن يكون للكاهن مخرج باستعماله هذا النوع من الكلام.
وقد ورد أن رسول نهى عن محاكاة الكهان في سجعهم، فذكر عنه قوله:"أسجع كسجع الجاهلية"2.
ويذكر أهل الأخبار أن "تابع" الكاهن، وهو شيطانه وجنيه، كان يسترق في الجاهلية الأخبار من السماء، فيلقي بها إلى الكاهن المختص به. فيخبر الكاهن من يأتي إليه للكاهنة. بقوا على ذلك إلى ظهور النبوة، فلما نزل الوحي انقطعت الكهانة، إذ وجد الشياطين الذين كانوا يسترقون السمع لهم شهابا رصدا. وقالوا إن قوله تعالى:{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} 3، إنما عنى به هذا الحادث. حادث منع الشياطين من استراق السمع4.
ويذكر أهل الأخبار أيضًا أن "القذف بالنجوم قد كان قديما، وذلك موجود في أشعار القدماء من الجهلية. منهم: عوف بن الجزع، وأوس بن حجر، وبشر بن أبي خازم، وكلهم جاهلي. وقد وصفوا الرمي بالنجوم"5. وأن من عقائد أهل الجاهلية أن في تساقط النجوم والشهب دليل على موت عظيم أو ميلاد مولود عظيم6. وذكر أن الرسول كان جالسا مع قوم من الأنصار إذ رمي بنجم فظهر نوره، فقال لهم: "ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في
1 تفسير الطبري "29/ 42".
2 البيان والتبيين "1/ 287".
3 سورة الجن، رقم 72، الآية 8 وما بعدها.
4 تفسير الطبري "29/ 69 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "2/ 10"، "المنيرية"، نهاية الأرب "3/ 124 وما بعدها"، مفتاح السعادة 1/ 293 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 326 وما بعدها"، كهن" مروج الذهب "2/ 152 وما بعدها".
5 الروض الأنف "1/ 135".
6 الروض الأنف "1/ 136 وما بعدها".
الجاهلية؟ " قالوا: يا رسول الله كنا نقول حين نراه يرمى به مات ملك، ولد مولود1.
وقد جعل "المسعودي" حدة الأذهان مع نقصان الأجسام وتشويه الخلق، من جملة العوامل التي دفعت على التكهن والإخبار عن الغيب. وضرب مثلا على ذلك: شق، وسطيح، وسملقة، وزوبعة، وسديف بن هوماس، وطريفة الكاهنة، وعمران أخي مزيقياء، وحارثة، وجهينة، وكاهنة باهلة وأشباههم من الكهان2.
وقد يلحق التابع من الجن أشخاصا لم يشتهروا بالكهانة وإنما عرفوا بشدة ذكائهم ومعرفتهم بعواقب الأمور، مثل "أحيحة بن الجلاح" وكان من أشراف المدينة، وقد اشتهر عندهم بكثرة صوابه وسرعة إدراكه للعواقب. فعللوا ذلك بوجود تابع له من الجن كان يعلمه المغيبات3.
قال "الجاحظ": "وكانوا يقولون، إذا ألف الجني إنسانا وتعطف عليه، وخبره ببعض الأخبار، ووجد حسه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئي من الجن. وممن يقولون ذلك فيه عمرو بن لحي بن قمعة، والمأمور الحارث، وعتيبة بن الحارث بن شهاب.
فأما الكهان، فمثل حارثة جهينة، وكاهنة باهلة، وغزى سلمة، ومثل شق وسطيح وأشباههم4.
والكهان يرون تابعهم، وقد يتجلى لهم في صورة إنسان. ويظهر على صورة رجل للكواهن كذلك. فقد كان للغيطلة، وهي على ما يزعمه أهل الأخبار كاهنة أبوها مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن شنوق بن مرة، وشنوق أخو مدلج، تابع يفد إليها، ويدخل غرفتها، ويجلس تحتها. كما كان لفاطمة بنت النعمان النجارية، وهي كاهنة كذلك، تابع من الجن "كان إذا جاءها، اقتحم عليها في بيتها. فلما كان في أول البعث، أتاها، فقد على حائط الدار ولم يدخل، فقالت له: لم لا تدخل؟ فقال: قد بعث نبي بتحريم الزنى"5.
1 السيرة الحلبية "1/ 140".
2 مروج "2/ 154".
3 الأغاني "13/ 115""ذكر احيحة بن الجلاح".
4 الحيوان "6/ 203 وما بعدها".
5 الروض الأنف "1/ 137".
فالكاهن إذن، هو الذي يتنبأ بواسطة تابع، ولا يستطيع غير الكاهن رؤية التابع. وتكون الكهانة كلامًا يلقيه الكاهن نفسه، أو تابعه، جوابًا عن أسئلة الكاهن. ولما كان التابع روحًا، كان من الطبيعي تصور صدور ذلك الكلام من روح لا يمكن لمسها ولا رؤيتها، ترى وتسمع وتعقل، وتجيب ما يطلب منها الإجابة عنه.
ويكون الكاهن في أثناء تكهنه في غيبوبة أو في شبه غيبوبة في الغالب، ذلك بأنه متصل في هذه الأثناء بعالم مجهد صعب لا يتحمله كان إنسان، ولاتصال الروح فيه، واتصال الروح بجسم الكاهن شيء جد عسير، يتصبب العرق منه. خاصة إذا كان المتكلم الكاهن نفسه.
ويكون التكهن، في الغالب، في مكان هادئ تكتنفه ظلمة أو عتمة، لأن للهدوء والظلام أثرًا عظيمًا في النفوس، ويسبقه حرق بخور في الأكثر يستمر إلى ما بعد انتهاء التنبؤ، لأن البخور من الروائح الطبية التي تؤثر في الأرواح، فتجلبها إلى المكان بسرعة. ثم إن له تأثيرًا خاصًّا في الأعصاب، وهو بذلك مادة صالحة في الإيحاء لمن يقصد استشارة الكهان.
ويروي الإخباريون أن الناس كانوا إذا قدموا على الكهان امتحنوهم ليتأكدوا من صدق تكهنهم ومقدار علمهم. وذلك بإخفاء شيء اخفاء لا يمكن الاهتداء إليه، أو بوضع لغز، أو ما شابه ذلك، فيبدؤون الكاهن بالسؤال عنه. فإذا أجاب جوابا دل على معرفة وسعة علم، سألوه عن الأمر الذي عندهم والذي من أجله قصدوه. ويكون لهؤلاء الكهان أجر يدفع إليهم. والعرف الغالب أن الكهانة لا تكون ولا تصح إلا بتقديم شيء للكاهن، لأن التابع لا يرضى بالتنبؤ إلا إذا رأى حلاوة التنبؤ.
ومن قبيل الامتحانات التي امتحن بها الكهان، امتحان "عتبة بن ربيعة" إلى بعض كهان اليمن ليتأكد من صدق تكهنه قبل النظر في أمر اختلاف ابنته "هند" مع زوجها "الفاكه بن المغيرة" في فرية رماها "الفاكه" زوجته بها1. وامتحان "عبد المطلب" للكاهن "ربيعة بن حذار الأسدي" حين اختصم مع "بني كلاب وبني رباب"2، وامتحان "الكاهن الخزاعي"3 وغير ذلك.
1 نهاية الأرب "3/ 131"، صبح الأعشى "1/ 398 وما بعدها".
2 نهاية الأرب "3/ 133".
3 نهاية الأرب "3/ 132.
وما يعطاه الكاهن وبجعل له على كهانته، يقال له "الحلوان" و"حلوان الكاهن"، وهو شيء غير معين ولا ثابت، إنما يتفق عليه، والرأي الشائع بين العامة حتى الآن أن الكهانة لا تصدق إذا لم يعط الكاهن أو الساحر "حلوانه"؛ لأن ما يقدم إلى الكاهن لا يخصه ولا يكون له، إنما هو للرئي، والرئي لا يقوم بعمله ولا يحسن أداءه إلا بحلوان، يقبله مهما كان، وعلى الكاهن استشارة "التابع" ومراجعته فيه حتى يقنع، ويوافق على الأجر. ولما كان الإسلام قد منع الكهانة، كان من الطبيعي نهيه عن دفع الحلوان1.
والكهان إنما صاروا كهانا، أي متنبئين بالغيب، لأن "الكهنة قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة، وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه"2. وهذا هو تعليل إسلامي بالطبع لمصدر تنبؤ الكهان، أما رأي الجاهليين عنه، فلا علم لدينا عنه، لعدم ورود شيء منهم إلينا.
وتقدم الكهانة على القدرة الشخصية وعلى ذكاء الكاهن، لذلك لم تكن كالسدانة مثلا إرثا ينتقل من الإباء إلى الأبناء، بل كان في إمكان كل شخص يرى في نفسه القدرة على التنبؤ بالغيب والتحدث عما سيحدث للسائلين أن يدعي الكهانة وأن يعد نفسه كاهنا يتكلم باسم الأرباب، وينطق بالقوة الخفية التي توحي إليه بالتنبؤات، فيتخذ له مكانا في معبد أو في موضع آخر أو في بيته ليقصده من يريد استشارته في عظائم الأمور مهما اختلفت وتنوعت عن المستقبل وعن الأخبار وعن الأسرار والمغيبات وعن القيام بعمل من الأعمال.
وفي الأقوال المنسوبة إلى الكهان، قسم بالكواكب كالشمس والقمر وبالنجوم وبالليل وبالنهار وبالأشجار وبالرياح والكلمات وبالجبال والأنهار والطيور وبما شابه ذلك أمور طبيعة، الغرض منها التأثير في نفوس السامعين والإغراب في الكلام، ليكون بعيدا عن الأسلوب المألوفة. وقد رو الإخباريون نماذج من هذا الكلام،
1 "أعطيت الكاهن حلوانه، أي كراء كهانته"، الاشتقاق "2/ 314"، "نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن"، إرشاد الساري "8/ 400"، اللسان "18/ 211"، تاج العروس "10/ 96"، اللسان "14/ 194"، "صادر""حلو"، النهاية "3/ 256 وما بعدها"، مفتاح السعادة "1/ 293 وما بعدها".
2 عمدة القاري "21/ 275"، إرشاد الساري "8/ 398 وما بعدها".
من هذا السجع المعروف بـ "سجع الكهان"، نسبوه إلى أصحابه من كهان الجاهلية. وهي نسبة مهما حاولوا إثبات صحتها وصدق روايتها، فانهم عاجزون في رأيي عن إقناعنا بصحة ما يقولون. كيف حفظوا ذلك الكلام وتناقلوه بالحرف الواج بوزنه وبأسلوبه وبنصه وبفصه إلى أن أوصلوه إلى أيدي العلماء والمدونين فثبتوه بالتدوين؟ وكيف لم يخطئوا في ذلك ولم ينسوا منه حرفا، حتى لكأنه كلام مقدس وارد عن وحي سماوي، فلا بد من المحافظة على نصه وروايته على نحو ما ورد وحفظ؟ وإذا كان العلماء قد تساهلوا في رواية متن حديث رسول الله فسمحوا بالتصرف فيه بشرط المحافظة على المعنى محافظة تامة، لصعوبة التمسك برواية النص على نحو ما ورد عن الرسول. فكيف يعقل محافظة تامة، لصعوبة التمسك برواية النص على نحو ما ورد عن الرسول. فكيف يعقل محافظة الرواة على حرفية كلام الكهان على نحو ما نسب إليهم. وكلام الكهان ليس بشيء بالقياس إلى كلام الرسول، ثم إنه أقدم منه، ولم يكن مدونا ولا مكتوبا في كتاب على ما يفهم من روايات الإخباريين.
وقد كان للكهان على ما يتبين من قصص الإخباريين أثر كبير في حياة العرب قبل الإسلام. فقد كان الناس يستشيرونهم في إبرام مهمات الأمور، كإعلان حرب أو كشف عن جزيمة أو بحث عن شيء مفقود وما شاكل ذلك. لقد كانوا يستشيرونهم في الحروب، يتبؤون للناس بقرب حدوث غزو أو نزول كارثة أو خير سيقع قريبا. لقد كان هجوم بني أسد على "حجر" بمشورة الكاهن وبرأيه، وكان تركهم تميما وافتراقهم عنهم في يوم جبلة بتحذير من الكاهن كذلك1. وقد استعان النعمان أو يزيد بن عمرو الغساني بالكاهن "الخمس التغلبي"، لأخباره عمن تجاسر على ناقته فقتلها، كما استعان "عتبة بن ربيعة" في إثبات نسب ابنته "هند" منه2.
وقد اشترك الكهان أنفسهم في الغزوات وفي الحروب. كانوا يشجعون قومهم ويحثونهم على القتال، وكان بعضهم من مشاهير الفرسان، مثل "زهير بن جناب"، و"جذيمة" العبسي، وقلطف الكاهن، والمأمور كاهن مذحج.
1 الأغاني "10/ 36"، مروج الذهب "2/ 173 وما بعدها"، نهاية الأرب، للنويري "3/ 124"، صبح الأعشى "1/ 398"، Reste، S. 1367
2 الأغاني "10/ 27"، "ذكر مقتل خالد بن كلاب"، صبح الأعشى "1/ 338 وما بعدها". Reste، S. 136.
ولم يكن الكهان من الطبقات الدنيا عند عرب الجاهلية، ولا من سواد الناس. لقد كان منهم من هو من سادة القبيلة ومن الأشراف. ولا بد أن يكونوا من هذه الطبقة، ليكون حكمهم نافذا بين الناس بما لهم من عز ومنزلة وجاه. وقد عد الإخباريون "زهير بن جناب" رئيس كلب في جملة الكهان1. وقد كان للقبائل "كهان" تلتجئ إليهم في الملمات، لتستشيرهم وتعمل برأيهم في الغزو والحرب. يسيرون معها، وقد يقودونها في المعارك.
وقد كان لكل قبيلة كاهن منها أو عدة كهان، تلتجئ القبيلة إليهم لاستشارتهم في كل أمر عظيم يحدث لهم. ولا يشترط أن يكون كاهن القبيلة رجلا، إذ يجوز أن يكون امرأة. وكان كاهن ثقيف "قريش" عند ظهور الإسلام رجل يقال له "خطر"، وكان لجنب كاهنهم كذلك، وكان لقريش حين ظهور الإسلام كاهنة تدعى "سوادء بنت زهرة بن كلاب"، وهكذا كان شأن بقية القبائل. فلما ظهر الإسلام، ودع أولئك الكهان رئيهم وتابعهم، وكهانتهم، إذ نهى الإسلام عنها، وقد كان لبعضهم أثر معهم أثر مهم في إعداد قبائلهم للدخول في الإسلام2.
وقد أشار بعض الكتبة الكلاسيكيين إلى وجود كهان عند العرب، كما إنه ورد في كتابات طور سيناء ما يدل على وجودهم عند القبائل3.
ولم يكن الكاهن، كاهنا، بمعنى المخبر عن المغيبات فقط، بل كان حاكما يحكم بين الناس فيما يقع بينهم من خلاف. فالكاهن حاكم يفصل في الخصومات. وقد كان أكثر حكام العرب كهانا، يقصدهم المتخاصمون من مواضع بعيدة لما عرفوا به من إصالة الرأي، وصحة الحكم.
وقد ذكر أن الكاهن كان لا يلبس المصبغ. أما العراف فإنه لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه4، ويدل ذلك على أنهما كانا يميزان أنفسهما بمميزات وعلامات وأنهما كانا يتجنبان بعض الأمور.
1 الأغاني "8/ 66، "15/ 73"، "21/ 99".
2 الروض الأنف "1/ 137 وما بعدها"، مفتاح السعادة، "1/ 113 وما بعدها"، نهاية الأرب "3/ 124"، صبح الأعشى "1/ 398".
3 Ency. ReIigi، I،p. 667
4 تفسير الطبري "18/ 57"، ثمار القلوب "193"، بلوغ الأرب "3/ 407".
وقد اشتهر في الجاهلية عدة كهان ذكر الإخباريون أسماءهم، منهم: شق، وسطيح، وأوس بن ربيعة، والخمس التغلبي، وعزى سلمة الكاهن، ونفيل ابن عبد العزي، وخنافر بن التوأم الحميري، وسواد بن قارب الدوسي، وعمرو بن الجعيد، وابن الصياد، والأبلق الأزدي، والأجلح الدهري، وعروة بن زيد الأزدي، ورباح "رياح" بن عجلة، وهو معروف بعراف اليمامة، والكاهن الخزاعي، ورباح "رياح" بن عجلة، وهو المعروف بعرافة اليمامة، والكاهن الخزاعي، وهو جد "عمرو بن الحمق"، وكان منزله بعسفان، وإليه احتكم هاشم وأمية1، و"كهال"، أحد الكهنة الجاهليين2.
وأشهر الكهان وأعرفهم: شق وسطيح، وللأخباريين عنهما قصص أخرجهما من عالم الواقع، وجعلهما في جملة الأشخاص الخرافيين. فشق في زعمهم إنسان له يد واحدة وعين واحدة، وجعلوه من المتشيطنة صورته صورة نصف آدمي. وذكروا أنه كان معاصرا لمالك بن نصر اللخمي، وأنه استدعاه واستدعى سطيحا مع لتفسير رؤيا رآها أفزعته، وأنهما أخبراه بوقوع غزو الحبشة لليمن وبظهور سيف بن ذي يزن. وقالوا: إنه من بني جليحة، وأنه عمر ثلاثمائة سنة3. وقالوا أن سطيحا كان كتلة من لحم يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة، وأن وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، وكان في عصر من أشهر الكهان، وأن كسى بعث إليه عبد المسيح بن بقيلة الغساني ليسأله في تأويل رؤيا رآها، فأخبره بظهور أمر رسول الله وبقرب زوال ملك العجم، فأخبر "عبد المسيح" كسرى بذلك4.
وزعم أن سطيحا جسد ملقى لا جوارح له، ولا يقدر على الجلوس، إلا إذا غضب انتفخ فجلس. وكان شق شق إنسان، له يد واحدة، ورجل واحدة، وعين واحدة. وولد سطيح وشق في اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة،
1 تاج العروس "9/ 326"، بلوغ الأرب "2/ 269 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 175 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "2/ 10"، البيان والتبيين "1/ 289"، نهاية الأرب "3/ 132"، الثعالبي، ثمار "105 وما بعدها" Reste، S. 136 f.
2 تاج العروس "8/ 106"، "كهل".
3 الاشتقاق "303"، المستطرف "2/ 80 وما بعدها"، "ربيعة بن نصر اللخمي"، الأزمنة والأمنكة "2/ 193"، الاشتقاق "286".
4 القزويني: عجائب المخلوقات "1/ 371""طبعة وستنفلد"، الطبري "2/ 99"، نهاية الأرب "3/ 128 وما بعدها"، "في أخبار الكهان" Ency. VoI IV p 370
امرأة "عمرو بن عامر"، وهي بنت الخير الحميرية، ودعت بسطيح قبل أن تموت، فأتيت به، فتفلت في فيه، وأخبرت إنه سيخلفها في علمها وكهانتها. وكان وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، ودعت بشق ففعلت به ما فعلت لسطيح، ثم ماتت وقبرها بالجحفة1.
وقد ذكر "المسعودي"، نسب الكاهن "شق" على هذا النحو:"شق بن مصعب بن شكران بن أترك بن قيس بن عنقر بن أنمار بن ربيعة بن نزار" وذكر نسب "سطيح" على هذه الصورة: "هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان"2. وعاه بـ "سطيح الغساني" في موضع آخر. وأورد سجعا من سجعه، كما أورد أخبارا لشق المعاصر له3.
وقد دعاه "الجاحظ" بـ "سطيح الذئبي"، كما دعاه "ابن إسحاق" بذلك، لأنه ينسب إلى جد اسمه "ذئب"4.
وإذا كانت رواية أهل الأخبار عن وجود الكاهن "سطيح" صحيحة، فيجب أن يكون قد عاش في القرن السادس للميلاد، إذ هم يذكرون أنه كان معاصرا لكسرى أنو شروان، وللنعمان بن المنذر، ويروون أنه أخبر "عبد المسيح بن حسان" الذي جاء إليه ليستفسر منه عن رؤيا رآها كسرى في منامه فأزعجته، فأخبره بمولد الرسول. وذكروا أيضًا أن كسرى كان يستعين في حكمه بالكهان، فيستشرهم، وإنه لديه ثلثمائة وستون كاهنا وسحرة ومنجمين، وكان من بينهم كهنة من العرب، وأشهرهم: السائب5.
وذكر بعض أهل الأخبار "أن خالد بن عبد الله القسري كان من ولد شق هذا. فهو خالد بن عبد الله بن أسد بن كرز. وذكر أن أن كرزا كان دعيا، وإنه كان من اليهود فجنى جناية، فهرب إلى بجيلة، فانتسب فيهم. ويقال كان عبدًا لقيس، وهو ابن عامر ذي الرقعة. وسمي بذي الرقعة، لأنه
1 الروض الأنف "1/ 18 وما بعدها".
2 مروج الذهب "2/ 160"، "دار الأندلس"، سيرة ابن إسحاق "47"، "طبعة أوربة"، عجائب المخلوقات "310"، الحيوان "3/ 210"، "6/ 204، 206 وما بعدها".
3 مروج الذهب "2/ 175 وما بعدها"، الحيوان "3/ 204"، "6/ 204"،
4 الحيوان "3/ 210"، البيان والتبيين "1/ 281"، ابن إسحاق "47"، "كوتنكن".
5 تاريخ الخميس "1/ 322"، نهاية الأرب "3/ 128 وما بعدها".
كان أعور يغطي عينه برقعة ابن عبد شمس بن جون بن شق الكاهن بن صب"1. ويظهر أن أعداء "القسري" قد أوجدوا له هذه القصة للحط منه، كما أوجدوا قصصًا شبيهًا بهذه القصة، حكوها عن ثقيف، نكاية بالحجاج المكروه.
وإلى هؤلاء تجب إضافة "الأفعى الجرهمي"، وكان منزله بنجران، وإليه، احتكم ولد نزار في إرث والدهم2.
ورووا أن الكاهن "الخزاعي" كان من الكهان المعروفين وإليه تحاكم "أمية بن عبد شمس" و"هاشم بن عبد مناف" في أمر مفاخرتهمان فحكم لهاشم على أمية، فخرج إلى الشام وأقام بها عشر سنين. وإنه قال في حكمه كلامًا مسجعًا ختمه بقوله:"ولأمية أواخر"، فكانت أول عداوة بين بني هاشم وبني أمية3. وهكذا جعلوه يتنبأ بظهور ملك بني أمية. وربما كان هذا الملك هو الذي أوحى إلى مفتعل القصة بإبداع موضوع اختيار "أمية" الشام لتكون دارًا له أقام بها مدة نزاعة مع هاشم، فحكم أن الملك عليها كان مكتوبا لبني أمية منذ عهد الجاهلية.
وتشبه هذه القصة، قصة شك "الفاكه بن المغيرة" في سيرة زوجه "هند بنت عتبة بن ربيعة"، وتكلم الناس فيها، وذهاب والدها وزوجها بها إلى كاهن من كهان اليمن، فلما امتحنه عتبة، وتبين له أن الكاهن حاذق لا يخطئ قال له: قد جئناك "في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يأتي إلى كل واحدة منهن ويضرب بيده على كتفها، ويقول لها: انهضي حتى بلغ هندًا. فقال: انهضي غير رسحاء ولا زانية وستلدين ملكًا اسمه معاوية، فنهض إليها الفاكه، فأخذ بيدها، فجذبت يدها من يده، وقالت إليك عني، فوالله لأحرص أن يكون ذلك من غيرك! فتزوجها أبو سفيان، فولدت له أمير المؤمنين معاوية"4. وهي قصة تتحدث عن نفسها، ولا حاجة لي إلى إبداء أي تعليق عليها.
وكان "صاف بن صياد" يتكهن ويدعي النبوة. وخبأ له النبي خبيئًا فعلمه.
1 الروض الأنف "1/ 19".
2 مجمع الأمثال "1/ 17 وما بعدها".
3 المستطرف "2/ 81"، نهاية الأرب "3/ 123 وما بعدها".
4 المستطرف "2/ 82"، نهاية الأرب "3/ 131 وما بعدها"، "الباب الثالث من القسم الثاني من الفن الثاني. في أخبار الكهنة".
وكان يدعي أن شيطانه كان يأتيه بما خفي من أخبار الأرض1. ويذكر أن الرسول سأله: كيف يأتيك هذا الأمر؟ قال: يأتيني صادقًا وكاذبًا2. وأن رسول الله ذهب إليه ليرى أمره وكان "ابن صياد" في نخل، فكلمه رسول الله. وذكر أنه انطلق مرة مع "عمر بن الخطاب" في رهط قبل ابن صياد، فوجده عند "أطم بني مغالة"3.
وكان في بني لهب كاهن لهم يقال له خطر بن مالك، وكان في أيام الرسول. وكان إذ ذاك شيخًا كبيرًا4. وكان "أبو برزة" الأسلمي من الكهان المعروفين في المدينة أيام الرسول، وقد تحاكم إليه بنو قريظة وبنو النضير في أمر الديات التي كانت بينهما5.
وذكر أن "خطر بن مالك" كان من أعلم كهان "بني لهب"، وأنهم كانوا يأتونه في الملمات، أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة، وقد تنبأ لقومه بانقطاع الكهانة وظهور الرسول بمكة حين سألوه عن سبب تساقط النجوم في السماء6.
وكان في دوس كاهن اسمه سواد بن قارب الدوسي أو السدوسي. وقد وفد مع وفد من قومه على الرسول وأسلم معه أمامه. وكان له رئي يأتي إليه7. وذكر أهل الأخبار أنه كان حاذقا في الكهانة، مصيبا بها، "خرج خمسة نفر من طيء من جور الحمى، منهم: برج بن مسهر، أحد المعمرين وأنيف بن حارثة، ولأم عبد الله بن سعد والد حاتم، وعارف الشاعر، ومرة بن عبد رضا، يريدون سواد بن قارب، ليمتحنوا علمه، فقالوا: ليخبئ كل منا خبيا ولا يخبر أصحابه، فإن أصاب عرفنا علمه، وإن أخطأ ارتحلنا عنه. ثم وصلوا إليه فأهدوا إليه إبلا وطرفا، فضرب عليهم قبة ونحر لهم، فلما مضت ثلاثة أيام دعاهم، فتكلم برج، وكان أسنهم فذكر القصة بجميع ما خبأوه ثم بمعرفته بأعيانهم وأنسابهم فقال فيه عارف الشاعر:
1 الروض الأنف "1/ 137"ز
2 مقدمة ابن خلدون "1/ 95 وما بعدها".
3 زاد المسلم "2/ 104 وما بعدها".
4 الروض الأنف "1/ 138 وما بعدها".
5 تفسير الطبري "5/ 97 وما بعدها".
6 السيرة الحلبية "1/ 139".
7 الروض الأنف "1/ 139 وما بعدها"، نزهة الجليس "1/ 277".
الله أعلم لا يجاري
…
إلى القالات في حصني سواد
كأن خبيئنا لما انتخبنا
…
بعينه يصرح أو ينادي1
ومن الكهان المعروفين "الحصين بن نضلة" وقد عرف بـ "الكاهن"، وقيل: إنه سيد أهل تهامة في أيامه2. و"عمر بن الحمق"، وقد أسلم وصحب النبي، وشهد المشاهد مع علي3.
وكان "ربيعة بن حذار الأسدي" من الكهان المعروفين، وإليه تحاكم "بنو كلاب" و"بنو رباب" لما خاصموا "عبد المطلب" في مال قريب من الطائف فحكم لـ "عبد المطلب"4.
وذكر "المسعودي" اسم كاهنين، دعاهما بـ"سملقة" و"زوبعة"5. وقد أشار "الجاحظ" إليهما في معرض كلامه على الخرافات6.
وأشار "الجاحظ" إلى كاهن ظهر في "بني جهينة"، عرف بـ "حارثة جهينة"7، وإلى "عزى سملة". وقد قال الجاحظ" عن "عزى"، أنه كان من أكهن العرب وأشجعهم. ودعاه بـ "سلمة بن أبي حية"8.
وكان "خنافر بن التوأم الحميري" كاهنا، وكان قد أوتي بسطة في الجسم، وسعة في المال، وكان عاتيا، فلما وفدت وفود اليمن على النبي، وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر، فحالف "جودان ابن يحيى الفرضمي"، وكان سيدا منيعا، ونزل بواد من أودية الشحر، ثم جاءه "شصار" رئيه، فنصحه بالعودة إلى اليمن، والدخول في الإسلام. فأسلم على يد معاذ بن جبل بصنعاء، فترك الكهانة وتعلم سورا من القرآن9.
1 الإصابة "2/ 59"، "رقم 3582".
2 الاشتقاق "ص279".
3 الاشتقاق "279"، الإصابة "2/ 526"، "رقم 5820".
4 نهاية الأرب "3/ 133".
5 مروج الذهب "2/ 160، 176".
6 الحيوان "1/ 309".
7 الحيوان "6/ 204"، مروج الذهب "1/ 337"، ثمار القلوب "81".
8 الحيوان "6/ 204"، البيان والتبيين "1/ 195"، رسائل الجاحظ "130".
9 الامالي، للقالي "1/ 134 وما بعدها"، الإصابة "1/ 456"، "رقم "2342"، تاج العروس "3/ 192"، "حنافر".
الإسلام ومن الكهان "المأمور"، وهو "الحارث بن معاوية" الكاهن. وكانت مذحج في أمره تتقدم وتتأخر1. و"قلطف"، وهو من طيء2.
وكان "زهير بن جناب الكلبي"، و"جذيمة" العبسي، كهانا3. وزهير من الفرسان، فكان من فرسان كلب، وكان شاعرا4.
ويعد "الافكل" من الكهان الفرسان، وله فرس اسمه هبود5.
ولم تحرم النساء الكاهانة، فكان لهن فيها حصة ونصيب. وقد حفظ الإخباريون أسماء عدد من الكهانات اشتهرت كهانتهن في الجاهلية، منهن طريفة الكاهنة، وزبراء وسلمى الهمدانية، وعفيراء الحميرية، وفاطمة بنت مر الخثعمية، وسجاح، وغيرهن. وقد نسبوا إلى طريفة إخبارها عمرو بن عامر أحد ملوك اليمن بزوال ملكه وبخراب سد مأرب، وذكروا إنها سارت مع القبائل حين خافت سيل العرم6. ونسبوا إلى بقية الكاهنات أمثال هذا القصص عن أمور ستقع قالوا إنها وقعت كما تنبأن به.
وذكر "المسعودي"، أن "طريفة" كانت كاهنة لعمرو بن عامر. وقد نعتها بـ "طريفة الخير". وقد تنبأت له بقرب تهدم السد، وظهور سيل العرم. كما تنبأ بذلك أخ للملك اسمه "عمران"، وكان عقيما كاهنا، فوقع ما تنبآ به7.
وكان من شهيرات الكاهنات أيضًا "الغيطلة"، وهي "أم الغياطل"، وهي من "بني مرة بن عبد مناة بن كنانة"8. وقيل:"الغيطلة بنت مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن شنوق مرة. وشنوق أخو مدلج". وقد عرف ولدها بالغياطل، وهم من بني سهم بن عمرو بن هصيص9.
1 الاشتقاق "2/ 238".
2 الاشتقاق "2/ 237".
3 المشرق، السنة 1938م، "الجزء الاول"، "ص7".
4 معجم الشعراء "130"، الشعر والشعراء "223".
5 المشرق، السنة "1938م، "الجزء الأول ""ص9".
6 بلوغ الأرب "2/ 283 وما بعدها"، الأغاني "13/ 105""ذكر خبر مضاض بن عمرو"، الطبري "2/ 244"، مروج الذهب "2/ 175". Reste، S. 137.
7 مروج الذهب "2/ 167 وما بعدها".
8 الروض الأنف "1/ 138 وما بعدها".
9 الروض الأنف "1/ 137 وما بعدها".
ويقال أيضًا أن "سعدي بنت كريز بن ربيعة" كانت قد تكهنت، وهي خالة عثمان بن عفان1.
وكان لفاطمة بنت النعمان النجارية تابع من الجن، وكان إذا جاءها اقتحم عليها في بيتها، وقد أدركت مبعث الرسول2.
وكانت سوداء بنت زهرة بن كلاب، كاهنة قريش. ويذكر أعطاها لحافر قبور ليحفر لها قبرا في الحجون، فيدفنها حية فيه. أي يئدها، لأنها ولدت زرقاء شيماء، وكانوا يئدون من البنات من كان على هذه الصفة، غير أن حافر القبر عاد بها إلى والدها، لأنه لم يشأ دفنها في خبر يرويه أهل الأخبار3.
وكان في "خثعم" كاهنة عرفت بفاطمة4.
ولاستشارة الناس هؤلاء الكهان في الأمور وطلبهم منهم الفصل صارت كلمة "حكم" مرادفة لكلمة "كاهن" في بعض الأحايين. وقد روى الإخباريون أمثلة عديدة من حكم هؤلاء الكهان بين الناس وطريقة فصلهم في الأمور، فهم في هذه الحالة حكام يفصلون في القضايا التي يتفق الجانبان المتخاصمان فيها على إحالتها عليهم. ولم تكن لنفوذ أحكامهم مناطق وحدود. لقد كان حدود أحكامهم المدى الذي وصلت شهرة الكاهن إليه، لذلك كان الناس يقصدون الكاهن من مناطق بعيدة في بعض الأحيان لشهرته الواسعة التي يتمتع بها بين الناس. وتتوقف هذه الشهرة بالطبع على مبلغ ذكاء ذلك الكاهن وقدرته في فهم طبيعة المتخاصمين أو السائلين، ليتمكن من إصدار حكم معقول مقبول. وتكون أحكامهم قطعية، على الطرفين اطاعتها المتخاصمين قبل سماعه الشكوى عهدا بوجوب الامتثال لحكمه وعدم رده مهما كان نوع الحكم.
1 نهاية الأرب "3/ 126"، "3/ 130"، "طبعة وزراة الثقافة والإرشاد القومي في الجمهورية العربية المتحدة".
2 الروض الأنف "1/ 137".
3 الروض الأنف "1/ 141".
4 أنساب الأشراف "1/ 79".